الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى...

برنامج لمسات بيانية وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) الطمس إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد(1). وطمس العين تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة(2) فلا يبين لها شق ولا جفن(3). جاء في (لسان العرب): "طمس الله عليه يطمس وطمسه وطُمس النجم والقمر والبصر ذهب ضوءه. وقال الزجاج: المطموس الأعمى الذي لا يبين حرف جفن عينيه فلا يرى شفر عينيه... ويكون الطموس بمنزلة المسخ للشيء وكذلك قوله عز وجل ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾. ...ربنا أطمس على أموالهم أي غيرها"(4). ومعنى الآية أن الله لو يشاء لأذهب أعينهم وأزالها حتى لا يبقى لها شق ولا جفن. وهذا عمى ومسخ. فإن الأعمى من لا يبصر وقد تبدو عينه كأنها سليمة حتى لا يظن الناظر إليه أنه أعمى. أما المطموس فإنه عمى البصر وذهاب العين فلا يبين لها أثر. ولم يقل (ولو نشاء لأعميناهم) وذلك ليشمل العمى وزيادة وهو ذهاب العين وإزالتها. وهذا هو المناسب لقوله بعد ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ فهذا مسخ عام وذاك مسخ جزئي. إن الفعل ﴿طمس﴾ يتعدى بنفسه وبعلى فيقال طمسه وطمس عليه وقد ورد التعبيران في القرآن الكريم فعداه ههنا بعلى فقال (لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ وعداه في سورة القمر بنفسه فقال في قوم لوط (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ) (37) وهما عند أهل اللغة بمعنى واحد. والذي يبدو لي أنهما ليسا بمعنى واحد فطمسه يختلف عن طمس عليه وإن كانا جميعاً يفيدان ذهاب العين. فإن ﴿على﴾ تفيد الاستعلاء. فمعنى (طمسه) أزاله ومحا أثره. ومعنى (طمس عليه) غطاه بما يطمسه فلا يبقى له أثر ولا يبين منه شيء ولا يخرج منه شيء ونظيره في العربية ﴿ختمه﴾ و (ختم عليه). جاء في (لسان العرب): "ختمه يختمه خَتْماً وختاماً... طبعه فهو مختوم... قال أبو إسحاق ختم وطبع في اللغة واحد... وهو التغطية على الشيء والاستيثاق من أن لا يدخله شيء"(5). وجاء في (القاموس المحيط): "ختمه يختمه ختماً وختاماً طبعه. وعلى قلبه جعله لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء(6). فالختم على الشيء أشد من ختمه وذلك لتغطيته بما يمنع الدخول إليه والخروج منه وكذلك طمسه وطمس عليه. وقال ههنا ﴿لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ للدلالة على شدة المسخ والطمس هو المناسب للمسخ العام الذي ورد بعده. وقد تقول: ولم قال في القمر ﴿فطمسنا أعينهم﴾ من دون ﴿على﴾؟ والجواب أن ما ذكره في يس أشد ذلك أنه قال ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ في حين لم يزد على قوله ﴿فطمسنا أعينهم﴾ في سورة القمر – كما ذكرت -. ثم إنه مناسب لورود ﴿على﴾ في الختم قبل هذه الآية وهو قوله ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ(65)﴾ هذا علاوة على أن السياق في يس فيما يفعله ربنا من العقوبات الشديدة الخارجة عن المألوف فقد قال قبلها ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. وقال ههنا ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾. وقال بعدها ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾. فناسب ذكر ﴿على﴾ من كل وجه والله أعلم. وقوله (اسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) يحتمل ثلاثة معان: أحدها: استبقوا إلى الصراط أي تسابقوا للوصول إليه. والمعنى الثاني: بادروا إليه مثل قوله تعالى ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ - البقرة (148) أي بادروا إليها. والمعنى الآخر أي جاوزوه وتركوه فلم يهتدوا إليه. جاء في (لسان العرب): "واستبقا الباب يعني تسابقا إليه... فاستبقوا الخيرات أي بادروا إليها. وقوله ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾ أي جاوزوه وتركوا حتى ضلوا... واستبقا الباب معناه ابتدرا الباب يجتهد كل واحد منها أن يسبق صاحبه"(7). وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة فإنه لو طمس على أعينهم لتسابقوا وابتدروا للوصول إلى الصراط ولكنهم لن يهتدوا إليه. جاء في (الكشاف): "﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾ لا يخلو أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل والأصل فاستبقوا إلى الصراط أو يضمن معنى ابتدروا أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه أو ينتصب على الظرف. والمعنى أنه لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيراً كما كانوا يستبقون إليه ساعين في تصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا وتعايا عليهم أن يبصروا أو يعلموا جهة السلوك فضلاَ عن غيره... أو لو شاء لأعمارهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقاً" (8). فجاء بالفعل (استبق) ليشمل هذه المعاني كلها ولو جاء بالفعل (تسابق) أو (بادر) أو ﴿ضل﴾ لتعين معنى واحد ولم يحتمل هذه المعاني. ثم إن هذا هو المناسب لقوله ﴿لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ فإن شدة الطمس جعلتهم لا يهتدون إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه. ثم قال ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ قيل: ومعنى أنّى يبصرون كيف يبصرون. و ﴿أنى﴾ تحتمل معنى آخر وهو: من أين. لقد قال ﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾ ولم يقل ﴿ولو شئنا﴾ للدلالة على أن عدم الطمس لاستمرار عدم المشيئة ذلك أن ﴿نَشَاءُ﴾ فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال وقد يفيد الاستمرار أما ﴿شئنا﴾ ففعل ماض وهو يفيد المضي. جاء في (روح المعاني): ﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾ وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه"(9). فأنظر كيف قال (طَمَسْنَا) بدل (أعمينا) وهو يشمل العمى وزيادة. وقال ﴿عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ وهو يشمل الطمس وزيادة وهي التغطية والاستيثاق. وقال ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ وهو يشمل المسابقة وزيادة، والمبادرة وزيادة، والضلال وزيادة إنه هو يجمع هذه المعاني كلها. وقال ﴿الصِّرَاطَ﴾ ولم يقل (إلى الصراط) ليشمل معنى ﴿إلى﴾ والتعدية مباشرة ولو قال (فاستبقوا إلى الصراط) لم يحتمل معنى الضلال. وقال ﴿فأني﴾ وهو يشمل معنى ﴿كيف﴾ وزيادة. والحمد لله رب العالمين

ﵟ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ ﵞ سورة يس - 66


Icon