الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي...

برنامج لمسات بيانية ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ والمعنى أن الذي يعمّر لابد أن ينتكس في خلقه إلى أسفل فبعد أن كان يرتقي في قواه العقلية والبدنية سيأخذ بالانتكاس إلى أسفل فيبدأ بالضعف والوهن في الجسم والعقل حتى يُردّ إلى أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئاً. إن ارتباط هذه الآية بما قبلها واضح فإن فيها دليلاً على قدرته تعالى أن يفعل ما ذكره من الطمس على الأعين والمسخ على المكانة فلا يستطيعون حراكاً. جاء في (الكشاف): " ﴿نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل ذلك أنا خلقناه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم ثم جعلناه يتزايد ويتنقل من حال إلى حال ويترقى من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه فإذا انتهى نكسه في الخلق فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عز وجل (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوة إلى الضعف ومن رجاجة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعدما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء وأراد... أفل يعقلون"(1). وقوله ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ "أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعه لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما"(2). وقد قال (تعمره وننكسه) بالفعل المضارع ولم يقل (ومن عمرناه نكسناه) للدلالة على الاستمرار وأن هذا قانون الحياة ولو قال (ومن عمرناه نكسناه) لم يدل على الاستمرار بل دل ذلك على حالة ماضية. وقد أسند التعمير والتنكيس إلى ذاته سبحانه للدلالة على أن هذا من فعله وقدرته في البدء والختام وأنه قادر أن يطمس على الأعين وأن يمسخ على المكانة. ولو قال (ومن يعُمرَّ ينكَّس) بالبناء للمجهول لم يدل على أن ذلك من فعله سبحانه ولم يرتبط ذلك الارتباط بما قبله ولا يكون فيه دليل على ما تقدم لأنه لم يسنده ذلك إلى نفسه. وقال أَفَلَا يَعْقِلُونَ فجاء بالفاء الدالة على السبب أي أفلا يكون ذلك سبباً لأن يعقلوا ويتفكروا. وفيه تقريع لمن لا يعقل ويتفكر. وقال ﴿يَعْقِلُونَ﴾ ولم يقل ﴿يعلمون﴾ لأن العقل كاف لمعرفة ذلك والاستدلال به وإن لم يكن صاحبه ذا علم. فهو من الأمور الظاهرة التي لا تحتاج إلى غير عقل. وقد تقول: لقد قال في موطن سابق من السورة ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴾وقال ههنا ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ فما الفرق؟ والجواب أن الآية السابقة تتكلم على أمور ماضية فإنه خطاب من رب العزة يوم القيامة عما فعله بنو آدم في الدنيا فقد قال ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ(60)﴾. فناسب أن يقول ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ ولا يناسب أن يقول ﴿أفلا تعقلون﴾. أما هنا فالكلام على أمر مشاهد حاضر يرونه في حياتهم يعيشونه أو يعيشون معه فناسب قوله ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ ولا يناسب غيره. فلا يصح أن يوضع أحدهما مكان الآخر.

ﵟ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﵞ سورة يس - 68


Icon