الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَأَنذِرۡ بِهِ...

برنامج لمسات بيانية قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ﴾ (51). وقال في سورة الأنعام أيضًا: ﴿وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِۦٓ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ﴾ (70). وقال في سورة السجدة: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ٣ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (3، 4). سؤال: لماذا قال تعالى في آيتي الأنعام: ﴿لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ﴾ فنفى بـ ﴿ليس﴾. وقال في آية السجدة: ﴿مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ﴾ فنفى بـ﴿ما﴾، وجاء معها بـ﴿من﴾؟ الجواب: إن النفي في آية السجدة أقوى منه في آيتي الأنعام ذلك أن آيتي الأنعام من الجمل الفعلية، فهي مبدوءة بـ﴿ليس﴾ و﴿ليس﴾ فعل. وأما آية السجدة فهي جملة اسمية منفية بـ ﴿ما﴾، ومعلوم أن الجمل الاسمية أقوى من الفعلية، و﴿ما﴾ أقوى من ﴿ليس﴾. هذا علاوة على المجيء مع ذلك بـ﴿من﴾ الاستغراقية التي تُفيد نفي الجنس وتُفيد التوكيد مع ذلك، فهي تُفيد نفي الولي والشفيع على سبيل الاستغراق. وأما سبب ذلك - والله أعلم – فإن الكلام في آيتي الأنعام على أصناف خاصة من الناس. فإن الإنذار في الآية الأولى للذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم على هذه الحالة، وهناك غيرهم كثير من غير هذا الصنف، فإن هناك من لا يؤمن أصلًا باليوم الآخر، ولا يخاف الحشر، وهناك أصناف آخرون غير هؤلاء. وأما الآية الثانية فإن التذكير فيها لنفي مخافة أن تؤخذ بجريرتها وتُسلم بذنبها وتفضح به، وذكر من حالة هذا الصنف بقوله: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبۡسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْۖ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُون﴾ (70). وأما آية السجدة فالخطاب لعموم من يصح خطابه من الثقلين لا يخص صنفًا دون صنف ولا واحدًا دون آخر، وإنما هو خطاب عام يعم الجميع فقد قال: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ﴾ فلم يذكر صفة معينة ولا صنفًا خاصًّا. فلما عمّ ذلك الجميع احتاج إلى التوكيد ولا شك، فإنه جار في العادة أن يكون للشخص وليٌّ واحد، أو أن يكون لمجموعة من الناس ولي واحد، أما ألّا يكون للخلق جميعًا إلا ولي واحد وليس لأحد منهم ولي غيره فهذا يحتاج إلى التوكيد فأكده بالجملة الاسمية و﴿من﴾ الاستغراقية. هذا أمر. والأمر الآخر أنه لم يذكر في آيتي الأنعام شيئًا من صفات الله وإنما ذكر اسمه العلم في آية فقال: ﴿لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ﴾، وأعاد الضمير على الرب في الآية الأخرى، فقال: ﴿لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ﴾ وأما في آية السجدة فذكر له صفات عظيمة، فقال: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ﴾ وقال: ﴿يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (5) وقال: ﴿ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ٦ ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِين﴾ (6، 7). ويستمر في ذكر صفاته العظيمة وقدرته التي لا تُحد. فناسب ذلك أن يؤكد أنه ليس للخلق من دونه ولي ولا من دون رضاه شفيع، وإنما هو الولي الأوحد للخلق أجمعين. قد تقول: ولكنه ذكر من صفات المعصية والضلال في آيتي الأنعام ما لم يذكره في آية السجدة، أفلا يقتضي ذلك توكيد نفي الولي والشفيع فيهما؟ والجواب: أن ليس الأمر كما توهمت بل لقد ذكر في سياق آية السجدة من المعصية والكفر ما لم يذكر في آيتي الأنعام. فقد قال في آية الأنعام (51): ﴿وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ﴾ فلم يذكر لهم معصية وإنما قال عنهم إنهم يخافون أن يحشروا إلى ربهم في هذا الحال، ومعنى ذلك أنهم مقرّون بالحشر معترفون به يخافون ربهم ويخافون أن يحشروا، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، وهذا ليس معصية ولا ذنبّا. وأما آية الأنعام الأخرى فإنه قال فيها: ﴿وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا﴾ أي: اتركهم، وذكّر به: أي بالقرآن مخافة أن تؤخذ نفس بجريرتها وتجزى بكسبها، ولم يذكر لها ذنبًا، وأما الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا فأمر بتركهم. وأما آية السجدة فإنها في سياق من ينسب إلى رسول الله الكذب وافتراء القرآن وفيمن ينكر الحشر والمعاد، فقال: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ فنسبوا إليه صلى الله عليه وسلم افتراء القرآن أي كذبه على الله، وقال عنهم: ﴿وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۢۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُون﴾ فهم كذبوا الرسول وأنكروا الحشر والمعاد، ولا شك أن هذا أكبر مما ذُكر في آيتي الأنعام، فاقتضى السياق توكيد نفي الولي والشفيع من دون الله وطاعته ورضاه من هذه الجهة أيضًا، فاقتضى توكيد ذلك في آية السجدة من كل وجه، والله أعلم.

ﵟ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﵞ سورة الأنعام - 51


Icon