الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ...

برنامج لمسات بيانية سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بعد أن ذكر الدنيا وعاقبتها دعا إلى ما هو خير وأبقى فقال﴿ سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ . وقدم المغفرة على الجنة لأنها تسبقها وهي سبب دخولها. منه ولم يستعمل فعلاً آخر فلم يقل مثلاً: ما حلت من مصيبة أو ما وقعت أو نحو ذلك. وذلك - والله أعلم - أن أصل ﴿أصاب﴾ من الإصابة ضد الخطأ فأنت تقول: أصاب فلان الهدف. أي لم يخطئه، وأصاب فلان في كلامه أي لم يخطئ فكأنه سبحانه يريد أن يبين لنا أن المصائب هي مقدّرة وقد أصابت مكانها المقدر لها ولم تخطئه. والمصيبة في الأرض نحو الآفات والجدب والكوارث وغيرها. وفي الأنفس نحو الأدواء والأمراض والموت ونحوها. وذكر المصيبة في الأرض والأنفس وقدم الأرض على الأنفس لأنها موجودة قبل وجود الإنسان. وقد وقعت فيها المصائب قبل أن يخلق الإنسان. وقال ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ بـ ﴿من﴾ الاستغراقية للدلالة على أنه قدرها كلها على وجه الاستغراق فلا تندّ عن ذلك مصيبة مهما عظمت أو هانت. وقال ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ فأطلق الفعل ولم يقيده بمفعول معين فلم يقل مثلاً (ما أصابكم من مصيبة) لأن الكلام مطلق وليس خاصاً المخاطبين بخلاف ما جاء مثلاً في سورة الشورى في قوله ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ - الشورى (30) فقال ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ فعدى الفعل إلى ضمير المخاطبين وذلك لأن الكلام يتعلق بهم ولذلك قال: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ . ومثل ما جاء في سورة الحديد من الإطلاق قوله تعالى في سورة التغابن ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ ﴾ - التغابن (11) فإنه أطلق الفعل لأنه أراد الإطلاق والعموم ولم يقيده بمصاب معين. (وقال قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ ) ولم يقل (من قبل أن تقع) ليدل بذلك على علمه وقدرته وعلى أنه هو الذي أوجدها. ولو قال (من قبل أن تقع) لدل على علم بها ولم يدل على أنه هو الذي أوجدها. وقد دل قوله (وقال قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ) على التوحيد أيضاً ونفى الشرك ذلك لأن كل ما يحدث من مصيبة في الأرض أو في الأنفس إنما برأها هو وليس غيره فدل ذلك على عدم الشريك. ولو قال (من قبل أن تقع) لم يدل على ذلك صراحة. وقوله ﴿فِي كِتَابِ﴾ يدل على القضاء والقدر وأن كل شيء مدون قبل وقوعه وأن الأمور لا تجري اعتباطاً دون علم مسبق مما يدل على بالغ حكمته سبحانه. وضمير النصب في ﴿نَبْرَأَهَا ۚ﴾ يحتمل أنه يعود على المصيبة أو على الأنفس أو على الأرض أو على جميع ذلك (1). وهو الأولى أي إن ما يقع من مصيبة في الأرض أو في الأنفس إنما هو مدون في كتاب قبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس وقبل وقوع المصيبة. وجمع ضمير الفاعل في الفعل ﴿نبرأها﴾ للتعظيم ثم عقب على ذلك بالإفراد فقال ﴿إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ليدل على أنه واحد لا شريك له. وهو ما جرى عليه التعبير في القرآن كما أشرت أكثر من مرة فإنه لم يأت بضمير التعظيم مرة إلا سبقه أو أتبعه بالإفراد. ﴿إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ قدم الجار والمجرور ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ على خبر إن ﴿يَسِيرٌ﴾ للدلالة على الحصر أي أن ذلك على الله وحده يسير لا على غيره، أما غيره فلن يستطيع ذلك. ولو قال (إن ذلك يسير على الله) لدل على أنه يسير على الله وليس فيه حصر اليسر عليه. فقولك (هو هين علي) يعني أنه هين عليك ولا يعني أنه ليس هيناً على غيرك بخلاف ما لو قلت ﴿هو على هين﴾ فإنه حصر الهون عليك لا على غيرك.

ﵟ سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﵞ سورة الحديد - 21


Icon