الوقفات التدبرية

بنامج لمسات بيانية (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ...

بنامج لمسات بيانية ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ قد يكون المقصود بقوله ﴿لينذر﴾ القرآن أو الرسول فكلاهما منذر. قال تعالى ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يس (10) والمقصود به الرسول. وقال ﴿لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ﴾ الأحقاف (12). والمنذر ههنا الكتاب. فالرسول منذر والقرآن منذر. وقوله فمن كان حياه ذكرت فيه أقوال: منها أن المقصود به من كان حي القلب حي البصيرة فينتفع بالإنذار. وقيل إن المقصود به من كان عاقلاً متأملاً لأن الغافل كالميت. وقيل إن المقصود به من كان مؤمناً لأن الإيمان حياة فمن كان مؤمناً كان حياً قال تعالى ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ ﴾ الأنعام )۱۲۲ وقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ ﴾ الأنفال (24). وقيل إن المقصود من كان قلبه صحيحاً يقبل الحق ويأبى الباطل. وقيل إن المقصود به كل حي على وجه الأرض كقوله تعالى ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ۚ ﴾ الأنعام (19). وقيل إن المقصود به من كان حياً في علم الله أي علم الله أنه سيؤمن بهذا الإنذار(1). وكل هذه الأقوال محتملة وأن كل هؤلاء معنيون بالإنذار. قال تعالى: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾الكهف (4). وهذا إنذار للكافرين. وقال﴿ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ﴾الأحقاف (12). وقال ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾الفرقان (1). وقال ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ ﴾ فاطر (18) وهذا إنذار للمؤمنين. فالإنذار عام لكل الخلق مؤمنهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم إلا أن الذي يترجح في ظني هنا والله أعلم أن المقصود بقوله ﴿من كان حياً﴾ ما قصده في أول السورة بقوله ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ وذلك لأنه قال بعد ذلك ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ فجعل من كان حياً بإزاء الكافرين. وأن كان كل من ذكرته الأقوال محتملاً مطلوباً له الإنذار.  ومعنى ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أي تجب عليهم كلمة العذاب (2). ومعنى ﴿حق القول﴾ في القرآن وجب العذاب كما ذكرناه في أول السورة. وذلك أن الله سبحانه قال في الأزل وقال في كتبه المنزلة على رسله أنه من كفر به أدخله النار وعذبه بعد إلزامهم بالحجة. والحجة هي ما أنزل الله على لسان رسله وبلغوهم به فيحق القول بعد الإنذار وإلزامهم الحجة. قال تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ الإسراء (15). قال تعالي ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ الإنسان (4). وقال ﴿وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ الشورى (26) وقال ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ آل عمران (131). جاء في (التفسير الكبير): ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى ﴿ وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وقوله تعالى ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ وذلك لأن الله تعالى قال ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب (3). وفي مقابلة الكافرين للحي في قوله ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ إشارة إلى أن الكفار أموات وهو ما ذكره ربنا في أكثر من موطن، قال تعالى ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ ﴾ الأنعام (122). جاء في (أنوار التنزيل) "وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة" (4). إن هاتين الآيتين ارتبطتا بأول السورة ارتباطاً لطيفاً من نواح عدة. 1- فقد قال تعالى في أول السورة (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقوله ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يعني أنه ليس بشاعر وهو يناسب قوله﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ وقوله ﴿عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يقوي ذاك فإن الشعراء كما قال رب العزة في كل واد يهيمون فهذا مما يعضد هذا المعنى. ٢- وقوله ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ يعني أن القرآن ليس بشعر وهو يناسب قوله ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ 3- أن قوله ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ وقوله ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ﴾ يناسب قوله ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ 4- وأن قوله ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يناسب قوله (ويحق وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ). 5- لقد وصف الله القرآن في أول السورة بأنه حكيم فقال ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾، ووصفه هنا بأنه مبين فقال ﴿وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ ذلك أنه قال في أول السورة أنه على صراط مستقيم ومعرفة الصراط المستقيم من غيره تحتاج إلى حكمة والسير على الصراط المستقيم يحتاج إلى حكمة فوصفه بأنه حكيم. وههنا أراد أن يبين أن القرآن ليس بشعر وهذا أمر لا يحتاج إلى حكمة وإنما يحتاج إلى تبيين فقال ﴿وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ فكان كل وصف في مكانه أنسب. 6- سمى الله تعالى ما أنزله على رسوله قرآناً وذكراً ههنا فقال ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾. وقال في أول السورة ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴾وقال بعد ذلك ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ فسماه في الموطنين قرأناً وذكراً. وقد يكون من المناسب أن نذكر أنه قدم القرآن في أول السورة وأخر الذكر فقال (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ثم قال في الآية الحادية عشرة ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ .وههنا قدم الذكر وأخر القرآن فقال ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ ولعل من دواعي ذلك أنه في أول السورة بدأ بالكلام على القرآن ثم أخر الكلام على ما يشبه الطمس والمسخ وهو قوله ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا(8)﴾ فقدم القرآن لذلك. وههنا بدأ بالطمس والمسخ وأخر الكلام على القرآن فقال ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ(66)وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ(67)﴾ ثم قال بعد ذلك ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ فأخر ذكر القرآن لذلك والله أعلم. وهو من الموافقات اللطيفة. وهذا من لطيف الارتباط والتناسب.

ﵟ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﵞ سورة يس - 70


Icon