الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا...

برنامج لمسات بيانية (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ أي صيرناها سهلة منقادة لا تستعصي عليهم يقودها الصبي وينيخها ولا تأبى عليه في شيء من الأشياء. ولو كانت نافرة وآبية لم ينتفع بها مالكها تمام الانتفاع. جاء في (روح المعاني): "﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى"(1). وجاء في (التفسير الكبير): "وقوله ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ زيادة إنعام فإن المملوك إذا كان آبياً متمرداً لا ينفع. فلو كان الإنسان يملك الأنعام وهي نادّة صادّة لما تم الإنعام الذي في الركوب وإن كان يحصل الأكل كما في الحيوانات الوحشية بل ما كان يكمل نعمة الأكل أيضاً إلا بالتعب الذي في الاصطياد. ولعل ذلك لا يتهيأ إلا للبعض وفي البعض(2). وبهذا ذكر ما بع تمام النعمة في الأنعام فإنه ذكر خلقها لهم وتمليكها إياهم وتذليلها لهم. وهذا تمام النعمة فيها ذلك أن من الأشياء ما تكون الفائدة منها في الخلق للانتفاع بها وإن لم تكن مملوكة كخلق الشمس والقمر والنجوم والأنهار والجبال وغيرها. ومنها ما تكون الفائدة منها في الخلق والتمليك كالجنات وعيون الماء والأراضي وكثير مما يملك. ومنها ما لا تتم النعمة فيها إلا في الخلق والتمليك والتذليل وذلك كالأنعام فإن تمام النعمة لا يحصل إلا بها جميعاً. فلو كانت مخلوقة غير مملوكة لما انتفعنا بها ذلك الانتفاع، ولو كانت مخلوقة مملوكة غير مذللة لم يتم الانتفاع بها أيضاً. ولا يتم الانتفاع بها إلا بالتذليل فذكر ما به تمام النعمة فيها. ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ الرَّكوب فّعول بمعنى مفعول أي مركوب. وفّعول بمعنى مفعول على قسمين: اسم وصفة. فالاسم نحو رسول بمعنى مرسل والنقوع لما ينقع والبخور لما يتبخر به. والوصف نحو قولهم ناقة ذلول أي مذللة وناقة أمون وهي الناقة التي يؤمن فتورها وعثورها(3). وركوب وردت في الآية اسماً وهو ما يركب من الإبل أو من كل دابة جاء في (لسان العرب): "الركوب والركوبة من الإبل التي تركب وقيل الرَّكوب كل دابة تركب"(4). وقوله ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ…﴾ بيان لمنفعة التذليل والفاء للتفريع فهي فرعت أحكام التذليل إلى ما يركب وإلى ما يؤكل مع بيان المنافع الأخرى. جاء في (التفسير الكبير): "قوله تعالى (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) بيان لمنفعة التذليل إذ لولا التذليل لما وجدت إحدى المنفعتين وكانت الأخرى قليلة الوجود"(5). وجاء في (روح المعاني): "﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب"(6). ومعنى قوله ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ أي بعضها يركب و ﴿من﴾ للتبعيض كما قال تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ - غافر (79). فالأنعام لا تركب كلها. فالبقر والغنم لا تركب وإنما تركب الإبل في حين قال ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ - النحل (8) فقال في الأنعام ﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا﴾ وقال في الخيل والبغال والحمير ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ لأنها كلها تركب. (وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) أي يأكلون منها كما تقول (هو يأكل من الطعام) أو يأكل من الخبز على معنى الابتداء أو على معنى التبعيض. والتبعيض ليس واقعاً على جنس من الأنعام بل على أجزاء منها أي اللحوم والشحوم. فإن أجزاء منها لا تؤكل كالجلود والصوف والشعر وغيرها مما لا يؤكل. جاء في (روح المعاني): "﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك فـــ ﴿من﴾ تبعيضية... وجوز أن تكون ﴿من﴾ ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازاً أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلاً وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر"(7). وتقديم ﴿من﴾ للحصر الإضافي(8) أي أن الأنعام بالنسبة إلى ما يؤكل من ذوات اللحوم هي المعتمدة ولا يقاس غيرها بها من الطيور والسمك ولا يدخل في هذا الحصر ما يؤكل من غير اللحم كالحبوب والثمار وغيرها. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: تقدم الظرف في قوله ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ مؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتمد به وكالجاري مجرى التفكه"(9). وجاء في (روح المعاني): "(وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) أي وبعض منها يأكلون لحمه. والتبعيض باعتبار الأجزاء"(10). وقد غير الأسلوب في الأكل إلى الفعلية فقال (وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) مع أنه قال قبلها ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ بالاسمية ذلك لأن الفعل يدل على التجدد والاستمرار أي ومنها يأكلون عادة كما قال تعالى ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ﴾ - السجدة (27) وقال (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) - يونس (24) فعبر عن ذلك بالفعل للدلالة على التجدد والاستمرار وأن هذا هو شأنهم. وليس كذلك الركوب. فإن الركوب خاص بقسم من الإبل مما يصلح منها للركوب أما الأكل فعام فهو يكون من جميع الأنعام ما يصلح منها للركوب وغيره. ثم إن الأكل أعم من الركوب فكل الناس يأكلون وليس كلهم يركبون، فالأكل حاجة يومية متكررة بخلاف الركوب. فاقتضى ذلك المغايرة بين الركوب والأكل. جاء في (روح المعاني)، "وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف المركوب"(11). وقدم الركوب على الأكل والمنافع الأخرى ههنا لأنه ذكر التذليل فقال ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ وأهم مظاهر التذليل الركوب. ألا ترى أنها لم يذكر التذليل في النحل أخر ذكر حمل الأثقال بعد ذكر المنافع والأكل. وقد تقول: إنه لم يذكر التذليل أيضاً في غافر ومع ذلك قدم الركوب على الأكل فقال تعالى (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (79، 80). فلم ذاك؟ فنقول: لما قال ﴿وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾قدم الركوب وذلك لأن الكلام إنما هو على الحمل عليها وعلى الفلك. ولذلك لم يذكر الأكل في سورة الزخرف لأن السياق في النقل والركوب حصراً. قال تعالى (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (13، 14). وهو واضح. وقد تقول: ولم ذكر الركوب في يس، وذكر حمل الأثقال في النحل ولم يذكر الركوب، فقال في يس ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ وقال في النحل ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ ؟ فنقول: إن كل تعبير أنسب في مكانه. ذلك أنه في يس ذكر الركوب في غير هذا الموطن فقال: (وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) . فذكر حمل الذرية وركوبهم هم. وذكر حمل الأثقال في النحل فقال ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ (14). والابتغاء من فضله هو في حمل البضائع في الفلك للتجارة وغيرها. وقال ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ (25) فهم في يوم القيامة كالأنعام يحملون أثقالهم وأثقال غيرهم. فكان كل تعبير مناسباً للسياق الذي وردت فيه الآية ومناسباً لجو السورة. ألا ترى أنه قال في النحل ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ فذكر الجمال لما ذكر الزينة بعد ذلك بقوله ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾(8). وذكر استخراج الحلية من البحر للبس فقال ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ (14) والحلية إنما تلبس للزينة. ثم ألا ترى أنه ذكر الدفء فقال ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ لما ذكر السرابيل وهي الملابس التي تقي الحر والبرد وذكر الأكنان وهي ما يحتمي به الإنسان فقال. ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ﴾ (81). فناسب كل تعبير الموضع الذي ورد فيه

ﵟ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﵞ سورة يس - 72


Icon