الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي...

برنامج لمسات بيانية ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ٧﴾ [المجادلة: 7] * * * مناسبة هذه الآية للآية قبلها مناسبة ظاهرة ، فإنه لما ذكر سبحانه في الآية السابقة أن الله يبعث الكافرين جميعًا فينبئهم بما عملوا دل ذلك على علمه سبحانه ؛ فإن الله أحصى ما عملوه ونسوه. ثم إنه لما ذكر فيها شهادته على كل شيء فقال:﴿وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾ ناسب ذلك أن يذكر في هذه الآية علمه بما في السموات وما في الأرض وما يتناجى به الناس ويعلم ما عملوه ، وليس العلم بذلك فقط ، وإنما هو معهم أينما كانوا ، وإنه ينبئهم بما عملوه يوم القيامة، كما ذكر في الآية قبلها أنه ينبئهم بما عملوا ، ثم ذكر أن الله بكل شيء عليم. فذكر في الآية السابقة شهادته على كل شيء، وذكر في هذه الآية علمه بكل شيء. فهو سبحانه يعلم ويشهد كل شيء، ولئلا يظن أنه يعلم عن طريق الإخبار ذكر سبحانه أنه على كل شيء شهيد ، فهو يشهد كل شيء وعليم بكل شيء ، فاستوفى صفات الكمال في العلم. فقوله سبحانه: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ﴾ يدخل في قوله سبحانه:﴿وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيد﴾ فذكر في هذه الآية معيته وعلمه سبحانه. ثم إن المعية قد تكون أقرب من المشاهدة والشهود، وهو الحضور ، فقد تشاهد الشيء وأنت بعيد عنه ، وقد تشهد الجماعة ولست معهم ، فذكر أنه معهم. فذكر علمه ما في السموات وما في الأرض. وذكر معيته لخلقه. وذكر علمه بكل شيء. ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾. ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ أي: ألم تعلم ، وفيها معنى التعجيب. وهنا عجيب من سعة هذا العلم وإحاطته بكل شيء، فإنه سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض ، ويعلم كل شيء . جاء في (روح المعاني): ((قوله تعالى ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾ استشهاد على شمول شهادته تعالى، أي: ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما فيهما من الموجودات ، سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما)). ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ﴾. قوله:﴿مَا يَكُونُ﴾ يدل على الاستمرار في كل ما يكون من ذلك ، وليس ذلك في وقت معين أو حالة معينة أو مكان معين. وجاء بـ ﴿مِن﴾ فقال:﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ﴾ للدلالة على الاستغراق ، فلا تكون نجوى من أي عدد كان إلا والله معهم ((أو على أن المعنى: ما يكون شيء من النجوى)). وقيل في تخصيص العددين بالثلاثة والخمسة أكثر من وجه: (( (أحدها) أن قومًا من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة ... فالآية تعريض بالواقع على هذا)). ((أو لأن الله وتر يحب الوتر، والثلاثة أول الأوتار، أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين ، وثالث يتوسط بينهما)). جاء في (تفسير الرازي) في هذه الآية: ((إن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة ، حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والاثبات ، والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل تلك المشورة ويتم ذلك الغرض. وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكمًا مقبول القول ؛ فلهذا السبب لا بد وأن تكون أرباب المشاورة عددهم فردًا. فذكر سبحانه الفردين الأولين، واكتفى بذكرهما تنبيهًا على الباقي)). ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾. فذكر النجوى أولًا ، ثم ذكر العمل بعد فقال أولًا:﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ﴾ وقال بعد:﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ﴾ فذكر النجوى والعمل، فلا يغيب عنه العمل، كما لا تغيب عنه النجوى. لقد قال في هذه الآية:﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾. فجاء بـ ﴿ثُمَّ﴾. وقال في الآية السابقة:﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ﴾. فجاء بالفاء فقال: ﴿فينبئهم﴾. ذلك أن هذه الآية فيمن هم في الدنيا فقال: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ﴾. فجاء بـ ﴿ثُمَّ﴾ الدالة على التراخي. أما الآية السابقة فهي في الآخرة، فقد قال:﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم﴾. فجاء بالفاء الدالة على التعقيب، وذلك لأنهم في يوم القيامة عند البعث. فناسب كل تعبير موضعه. ﴿إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيم﴾. أكد علمه بكل شيء ، وهذا التأكيد مناسب لما ذكر علمه بما في السموات وما في الأرض وما يكون من النجوى والعمل، ومناسب لما ذكره في الآية السابقة من شهادته على كل شيء. قد تقول: لقد أكد ربنا سبحانه في هذه الآية علمه بكل شيء فقال:﴿إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيم﴾ فأكده بـ ﴿إِنَّ﴾. وقد يقول:﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ فلا يؤكد: وذلك نحو ما جاء في آية الدَّين من سورة البقرة، فقد قال سبحانه في الآية:﴿يَوَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ٢٨٢﴾ [البقرة: 282] ونحو قوله سبحانه في آية النور:﴿ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ٣٥﴾ [النور: 35] وغير ذلك من الآيات. فما الفرق؟ فنقول: إن السياق في كل ما ورد من نحو ذلك ليس في العلم الشامل، فإن آية الدين إنما هي في كتابة الدين والإشهاد في المبايعات ، وليس السياق في سعة علم الله وإحاطته بكل شيء ، فلم يؤكد. وكذلك في آية النور وهي قوله تعالى:﴿۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾. إلى قوله:﴿وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ٣٥﴾ والسياق ظاهر أنه ليس في إحاطة علم الله بكل شيء وعلمه بكل شيء. قد تقول: ولكنه قال في آية أخرى: ﴿أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قَدۡ يَعۡلَمُ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ وَيَوۡمَ يُرۡجَعُونَ إِلَيۡهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ٦٤﴾ [النور: 64] فقال:﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ﴾ مع أن السياق شبيه بآية المجادلة. فنقول: إن السياق مختلف. فقد ذكر في آية النور هذه أنه له ما في السموات والأرض ، فذكر أن له ما فيهما ، ولم يذكر علم ما فيهما. بخلاف ما جاء في آية المجادلة ، فقد قال فيها:﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾. فأكد علمه ما فيهما. وقال في آية النور:﴿قَدۡ يَعۡلَمُ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ﴾ والخطاب لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن السياق فيهم ، فقد قال سبحانه:﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَ‍ٔۡذِنُوهُۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَ‍ٔۡذِنُونَكَ ﴾ [النور: 62]. ثم قال:﴿لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ٦٣﴾ ثم قال:﴿أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قَدۡ يَعۡلَمُ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ ٦٤﴾ [النور: 64] فالمذكورون في آية النور جزء من المذكورين في آية المجادلة ، وهم جميع الناس. فناسب التوكيد في آية المجادلة. وهكذا كل ما ورد في نحو ذلك مما هو غير مؤكد؛ فإنه ليس في العلم الشامل المحيط. فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه ، والله أعلم. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 104: 111)

ﵟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﵞ سورة المجادلة - 7


Icon