الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا...

برنامج لمسات بيانية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قيل جاء أحد عتاة مكة – قيل هو أبيّ بن خلف وقيل العاص بن وائل – إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي يده عظم رميم وهو يفتّه ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال (صلى الله عليه وسلم) نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار. ونزلت هذه الآيات من آخر يس ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إلى أخرهن. وفي رواية أنه قال له بعدما فتّ العظم البالي: أيحيي الله هذا بعدما أرى؟ فأجابه رسول الله بما ذكرنا(1). ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ المقصود هو التعجيب من حال الإنسان بعدما خلقه الله من نطفة فإذا هو مخاصم لربه معاند له. فكان جزاء نعمته عليه أن كان خاصماً لربه مظهراً خصومته له. وقيل المقصود بيان قدرة الخالق وذلك أن ربه خلقه من نطفة فإذا هو ناطق مخاصم ذو حجة ولدد مبين عما في نفسه. جاء في (الكشاف): "قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحاً لا ترى أعجب منه وأبلغ وأدلّ على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود المنعم وعقوق الأيادي وتوغله في الخسة وتغلغله في القحة حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه وهو النطفة المذرة... ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار... وقيل معنى قوله تعالى ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ فإذا هو بعدما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه فصيح"(2). وجاء في (روح المعاني): "وقوله تعالى ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل ﴿مُبِينٌ﴾ ظاهر متجاهر في ذلك.... وقيل: معنى قوله تعالى ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ فإذا هو بعدما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح"(3). وجاء في (البحر المحيط): "فإذا هو خصيم مبين الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام أي فإذا هو بعدما كان نطفة رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه"(4). والمعنيان مرادان مقصودان. فالإنسان بعدما خلقه ربه من نطفة من ماء مهين وسواه رجلاً إذا هو مخاصم له يتخذ من دونه آلهة. أولاً ينظر الإنسان إلى قدرة خالقه بأن جعل من النطفة إنساناً عاقلاً ناطقاً مخاصماً مبيناً عن حجته؟ إن الآية تبدأ بالهمزة الدالة على الإنكار والتعجيب فهي تنكر عليه فعله وموقفه من ربه وتعجّب من حاله وذلك أن يقابل الإحسان بالإساءة والنعمة بالجحود فهو إنكار وتعجيب. ثم جاء بالواو التي قيل إنها عطف على كلام مقدر وقيل أيضاً أن المقصود به الاستدلال بالمشاهد وكثرة الوقوع كما سبق أن ذكرنا. وقيل هي عطف على قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ ثم ذكر ﴿الْإِنْسَانُ﴾ فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾ مع أنه جاء بضمير الغائبين قبلها فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ﴾ وذلك أن الاستدلال في هذه الآية يخص كل إنسان وهو حجة على كل فرد فكان الأول أن ينظر في نفسه ويتأمل فيها وفي خلقها وينظر في أصله وماذا هو الآن. أما قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ فهو كلام على مجموعة من الناس. فهذه الآية أعم واشمل. جاء في (التفسير الكبير): "قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة. أولم يروا خلق الأنعام لهم. وعلى هذا فقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾ كلام أعم من قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم. فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم. فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ولكن لا يغفل هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون. فقال إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يعيب عن نفسه فما باله؟ أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة"(5). وجاء في (روح المعاني): "الهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ الخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيداً للنكير السابق وتميداً لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم. ويشير كلام بعض الآجلّة إلى أن العطف علة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا ﴾ السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق الإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقاداً متذللاً فطغى وتكبّر وخاصم. وإيراد ﴿الْإِنْسَانُ﴾ مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان"(6). وقال ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ بإسناد الخلق إلى ضمير المعظم نفسه ليبين الفاعل وقدرته وإنعامه وتفضله. وقال ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ ليذكّر الإنسان بأصله ويذكّره بقدرة الخلاق العليم وكيف تعهد هذه النطفة وجعل منها إنساناً عاقلاً فيتطامن لخالقه. ثم قال ﴿فَإِذَا﴾ فجاء بالفاء الدالة على التعقيب أي فإذا هو في عقب ذلك مباشرة خصم لربه. والفاء تفيد السبب أيضاً فكأن إحسان خالقه إليه كان سبباً في كفره وخصومته له. وهذا أعجب شيء وأبعد شيء عن مألوف المعاملات والعادات إذ المفروض أن يكون الإحسان سبباً إلى الشكر والاعتراف بالفضل والجميل. أما الإنسان فكان الإحسان إليه سبباً لخصومة المنعم عليه وكفره به. فجمع بالفاء بين معنيي التعقيب والسبب. وجاء بـــ ﴿إِذَا﴾ الدالة على المفاجأة للدلالة على أن موقفه هذا مفاجئ وهو غير متوقع أن هذا مع من أحسن إليه. ومن جهة أخرى تدل الآية على بالغ قدرة الله فإنه من المفاجآت العجيبة أن تصبح هذه النطفة إنساناً عاقلاً خاصماً ناطقاً بالحجة مدافعاً عن نفسه مبيناً عما في ضميره. فهي مفاجأة من كل وجه. و(الخصيم) هو المبالغ في الخصومة. واختار (الخصيم) لأن الخصيم من يخاصم غيره ويبالغ في ذلك فدلّ بذلك على النطق والعقل والقيام بالحجة. و﴿المبين﴾ هو المفصح عما في نفسه المظهر لخصومته وما يريد إظهاره. فذكر أضعف شيء في طور خلق الإنسان وهي النطفة وأبلغ شيء فيه وهو الخصيم. وجاء بالجملة اسمية للدلالة على الثبوت أي ثبوت هذا الأمر في الإنسان. جاء في (التفسير الكبير): "﴿خَصِيمٌ﴾ أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثلما يبينه وهو يتكلم مع غيره. والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثلما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه. وقوله ﴿مُبِينٌ﴾ إشارة إلى قوة عقله. واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه... فقوله تعالى ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إشارة إلى أدنى ما كان عليه، وقوله ﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ إشارة إلى أعلى ما حصل عليه"(7). وجاء في (روح المعاني): "وقوله تعالى ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل. ﴿مُبِينٌ﴾ ظاهر متجاهر في ذلك. عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل: أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة. وإيراد الجملة الاسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها. وفي الحواشي الخفاجية إن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقوّ التعجيب. والمراد بالإنسان الجنس، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقاً... وقيل معنى فوله تعالى ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ فإذا هو بعدما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذ معطوف على ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه"(8). إن هذه الآية مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الآيات أحسن ارتباطاً وأبلغه. فهي مرتبطة بقوله تعالى ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ وهذه خصومة ظاهرة لخالقهم. ومرتبطة بقوله تعالى ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وذلك أنه إذا كان الله خلق الإنسان من نطفة وأنشأه حتى سواه رجلاً فلاشك أنه يعلم كل ما يسر وما يعلن. وهي مرتبطة بقوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) فإن الذي خلقه من نطفة أقدر على إعادته في الآخرة لأن الإعادة أيسر من الابتداء

ﵟ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﵞ سورة يس - 77


Icon