الوقفات التدبرية

فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ...

فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) نزه الله سبحانه من بيده الملك – وهو يعني ذاته العلية – عن كل نقص ليعلم خلقه أن هذا الخالق المقتدر والذي بيده ملكوت كل شيء هو منزه من كل نقص. فقد يكون المالك المقتدر ظالماً غشوماً وقد تكون فيه صفات نقص فنزه الله نفسه عن كل ذلك بقوله ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾. والملكوت مبالغة في الملك(1) وهو يكون بمعنى الملك مع العز والسلطان وليس مجرد الملك ففيه مبالغة ما ليس في الملك. جاء في (لسان العرب): "وملك لله وملكوته سلطانه وعظمته. ولفلان ملكوت العراق أي عزه وسلطانه وملكه... الملك والعز"(2). وجاء في (فتح القدير): "والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت. كأنه قال فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية"(3). وجاء بالفاء في قوله ﴿فَسُبْحَانَ﴾ للدلالة على السبب فإنه بعدما ذكر ما أولاه من النعم على خلقه وعظيم خلقه في السماوات والأرض وقدرته التي لا تحد استدعى ذلك تنزيه الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء. وقال ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ليدل على أنه المالك المتصرف في ملكه كما يشاء ولئلا يظن ظان أنه خلق الخلق وتركهم كل يتصرف وحبله على غاربه ليس الله عليه قدرة ولا حكم ولا مشيئة فقال ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾أي "هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بموجب مشيئته وقضايا حكمته"(4). وقدم ﴿بِيَدِهِ﴾ وهو الخبر على المبتدأ ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ لإفادة القصر فإن ملكوت كل شيء بيده هو حصراً ليس لآخر فيه نصيب ولا بيده شيء فإن كل يد غير يده صفر. ثم قال ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ليدل على أن ما ذكره من المتصرف في الملكوت ليس مقصوراً في الدنيا وإنما بيده الملكوت في الآخرة كما في الدنيا وأنه إليه المرجع والمصير. وقال ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فقدم الجار والمجرور على الفعل للدلالة على أن الرجوع إليه حصراً لا إلى غيره. جاء في (روح المعاني): "﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ تنزيه له عز وجل مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه. والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان. أو سببية كأن ما قيل سبب لتنزيهه سبحانه. والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام. وفي تعليق ﴿سُبْحَانَ﴾ بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى مالكاً لذلك كله قادراً على كل شيء مقتض للتسبيح. وفسر الملكوت بعالّم الأمر والغيب.... ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لا إلا غيره تعالى هذا وعد للمقربين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين"(5). لقد قرر في هذه الآية التوحيد والحشر. فقوله ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يدل على أنه واحد لا شريك له. وقوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إثبات للحشر. لقد ذكر في هذه السورة أركان الإيمان كلها. فذكر الإيمان بالله وتوحيده وهو ما بدأت به السورة من قوله ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ وما انتهت به من قوله ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وذكر الإيمان بالرسل وأنه لا يتم الإيمان بهم حتى يؤمن برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وذلك قوله ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقوله (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وقوله ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ وذكر الإيمان بسيد كتبه وهو القرآن فأقسم به وذكر أنه تنزيله فقال (وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ... تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) وذكر الإيمان بالملائكة إشارة وتصريحاً فإنه لما قال ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾دل على أن ثمة من أبلغه الرسالة. ولما قال ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ دل على أن هناك من تنزّل به. والتصريح هو قوله ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾ وذكر الإيمان باليوم الآخر وجزاء الخلق في ذلك اليوم وهو ما تكرر ذكره في السورة. وذكر القدر بقوله ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾وقوله ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾ فاستوفت السورة أركان الإيمان التي وردت في الحديث (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والقدر خيره وشره. جاء في (التفسير الكبير): "ويمكن أن يقال أن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة بأقوى البراهين. فابتداؤها بيان الرسالة بقوله ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ودليلها ما قدمه عليها بقوله ﴿وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ﴾ وما أخره عناه بقوله ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ وانتهاؤها بيان الوحدانية والحشر بقوله ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ إشارة إلى التوحيد. وقوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إشارة على الحشر. وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائله وثوابه"(6). 1- لقد ارتبط قوله تعالى (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ بما ورد في أول السورة في المعاندين وهو قوله لقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.) وكان الكلام على الأشخاص أنفسهم والمجتمع نفسه. 2- وأرتبط ذكر الحياة بعد الموت في قوله تعالى في أواخر السورة ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ(79)﴾ بقوله في أول السورة ﴿إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا (12)﴾ 3- وارتبط ذكر النسيان والغفلة في قوله تعالى في أواخر السورة ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾بقوله ﴿ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ فكلاهما غافل فالأول غفل عن خلقه هو كما هم غافلون عن الإنذار. فجمع الغفلتين العظيمتين: الغفلة عن النفس والغفلة عن الرسالة. 4- ابتدأ السورة بذكر الرسالة الخاتمة وذكر خاتم الرسل فقال (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وختمها بختام الدنيا وانتهائها فقال ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لقد بدأت السورة بالإرسال وانتهت بالرجوع إلى المرسل فقال في الأول ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقال في الختام ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فجلّ الله سبحانه قائل هذا الكلام ونقول كما قال ربنا ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

ﵟ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﵞ سورة يس - 83


Icon