الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية آية (5) : * في قوله تبارك وتعالى (أَلا إِنَّهُمْ...

برنامج لمسات بيانية آية (5) : * في قوله تبارك وتعالى (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)) ما معنى قوله تبارك وتعالى ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾؟ قيل إن بعض المنافقين أو الكفار كان إذا مرّ بالرسول ثنى صدره وظهره وغطى وجهه حتى لا يرى الرسول كُرهاً وإعراضاً ولا يريد أن يسمع ما يقوله عليه الصلاة والسلام، فذكر ربنا أنه حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون. أفادت تعبير الرؤية والمراقبة ثم العلم. الرؤية والمراقبة من الله سبحانه وتعالى أنه يراهم ويراقبهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون. إذن ربنا سبحانه وتعالى يراهم ويراقبهم ويعلم ما في أنفسهم ليس بمجرد الرؤية والعلم حين يستغشون ثيابهم يعني ليس فيما بعد تأمل وتفكير، لا، وإنما حين يعلم ثم ليس هذا فقط حتى لا يظن أنه فقط في هذا الوقت قال ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ * ماذا في هذه الـ ﴿ما﴾ في ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾؟ هذه فيها احتمالان أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية يعني إسرارهم وإعلانهم وتحتمل أن تكون إسماً موصولاً يعني الذي يسرونه والذي يعلنونه. * الآية تحتمل المعنيين ليس له قرينة سياقية لتحديد معنى معين في السياق؟ نعم، لو جاء بالعائد لو قال يسرونه كان تخصص المعنى بإسم الموصول ﴿الذي﴾ لكن هو وسع المسألة حذف العائد فاتسع المعنى فهو يعلم الإسرار والإعلان ويعلم الذي يسرونه ويعلنونه هذا يسمى توسع في المعنى، ذكر أمران المصدر والذات. هذا الحذف شمل معنيين. والمقصود كل شيء يعلم إسرارهم وإعلانهم مداره وكيفيته، المصدر ويعلم الذي يسرّونه ويعلنونه. * في تعبير شبيه بهذا يقول تعالى (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) النمل) وهنا ربنا تبارك وتعالى يقول ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ما الفرق بين الإسرار والإخفاء وقال أيضاً في آية أخرى (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) البقرة) ؟ الآية في سورة النمل (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)) كأن الإخفاء أكثر خفاء من الإسرار، أخفى من السر. الإسرار قد يكون في النفس (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ (77) يوسف) هذا في النفس وقد يكون الإسرار إلى غيرك (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا (3) التحريم) (تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ (1) الممتحنة) (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) طه) * ألا نستشف منها معنى السِر أو السريّة؟ هو السر، تفضي إليه دون غيره فهو كتمان من ناحية وإفضاء من ناحية، قد تسره في نفسك لا تظهره لأحد (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ (77) يوسف) هذا إسرار. لكن هناك إسرار مع الإفضاء إلى معين، إسرار عن آخرين وإفضاء إلى من أفضيت (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا (3) التحريم) لم يذكر للبعض الآخر. هذا الإسرار. الإخفاء قد يكون أخفى قال تعالى (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) طه) إذن هنالك ما هو أخفى من السر، وقد كان هناك سؤال في السابق كيف يكون أخفى من السر؟ قلنا الذي لم يصل بعد إلى علم الإنسان وإلى سرّه. * قبل أن يتبادر إلى نفسه من الداخل؟ نعم. الإخفاء تقول أخفيت البضاعة تحت الأرض تضعها في صندوق تقول أخفيتها في صندوق تحت الأرض. قال تعالى (تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ (1) الممتحنة) ما قال ما أسررتم . * مع أنه قال في بداية الآية ﴿تسرون﴾ وكأنهم يخفون ويسرون في نفس الوقت! ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾ قال بما أخفيتم ما قال بما أسررتم. الإنسان قد يسر إلى شخص لكن له هدف يخفيه من هذا الإسرار. أنت تسرّه بحديث لكن تخفي في نفسك غرض، هذا إخفاء. ربنا قال الدافع أنا أعرفه لو قال بما أسررتم لقال أسررتم بالمودة وكان ما حصل وما ذكره، الذي خرج إليه السر يعلم السر لكن لا يعلم الدافع. هذا أخفى ، الله يعلم السر الذي قيل والدافع الذي خلف هذا السر، لماذا قال؟ ما الغرض من ذلك؟ لأنه لو قال وأنا أعلم بما أسررتم مثل تسرون بالمودة هو نفسه، ما أسررتم يعني ما ذكروه فيما بينهم لكنه قال بما أخفيتم. إذن هنالك إسرار وهنالك ما هو أخفى. ولذلك السؤال الذي سألته في آية النمل (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)) قال خبء يعني ما هو خافي هو المستور الشيء الذي خُبِأ ، فقال ﴿ما تخفون﴾ لأنه مناسب للخبء، لأنه لم يطّلع عليه أحد والخبء الذي في الأرض والسموات مخبأ ربنا يخرجه هذا خافي، هذا أخفى. ولذلك سيدنا إبراهيم قال (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) إبراهيم) ﴿ما نخفي﴾ ثم قال ﴿وما يخفى على الله من شيء﴾. * ﴿ما﴾ هنا بمعنى الذي إسم موصول؟ وما يخفى نفي يعني لا يخفى؟ نعم. أما الآية الأخرى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) النمل) . * ما الفرق بين هذه الصيغ وما تقدّم؟ الكِنّ هو الذي تحفظ فيه الأشياء، مثل صندوق. الذي تحفظ فيه هو كِنّ (أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ (235) البقرة) (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) الواقعة) يعني لا يزال محفوظاً في مكان معين. لؤلؤ مكنون يعني لا يزال في الصدفة محفوظ ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) النمل) الصدر صار في الصندوق الذي يحفظ هذه الأشياء مخفي في صندوق أيضاً. وقوله (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ (5) فصلت) في صناديق مقفلة. * هل هنالك تدرج دلالي من حيث استخدام القرآن الكريم للإسرار والإخفاء والكِنّ؟ ذكرنا مثلاً ربنا ذكر ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾ هذه مرتبة أخرى، ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ مرتبة أخرى، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ يعني محفوظة في صندوق، قطعاً هي مراتب. * (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)) ما المقصود بذات الصدور؟ فيها أمران إما الأسرار المستكنة في الصدر لم تخرج بعد ، وإما القلوب التي في الصدور، هذه كلها ذات الصدور. * ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ هل لأنها موضع الإسرار؟ باعتبار القلب وعاء والأسرار التي هي موجودة في الصدور. * هل ﴿ذات﴾ جمع؟ هي مفرد، ذوات جمع. * كيف ذات والقلب مذكر؟! ويكون مقصود بذات الصدور القلب؟ القلوب، ذات الصدور جمع. * ذات تعني صاحبة؟ ذات الصدور يعني صاحبة الصدور؟ إما أن تكون الأسرار أو القلوب؟ نعم، الأسرار أو القلوب التي في الصدور. كلاهما مقصود، يعني عليم بهما . * ما دلالة استخدام صيغة ﴿عليم﴾ تحديداً؟ مع أنه في غير ما موضع في القرآن يستخدم عالم وعلام فلماذا هنا عليم؟ أولاً جاء بالإسم للدلالة على ثبات علمه لم يقل يعلم. في أكثر من مناسبة فرقنا بين عليم وعالم وعلام. ذكرنا أن ﴿عالم﴾ ربنا اختصها في القرآن بعلم الغيب أو علم الغيب والشهادة فقط (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (9) الرعد) وعلاّم في الغيوب (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) سبأ) وعليم يستعملها مطلقة إما أن يجعلها ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ . * أيها أقوى من الثانية خارج القرآن لغة؟ هل اللغة تفرِّق أم كلهم بدرجات واحدة متقاربة؟ صيغ المبالغة في دلالاتها اختلاف مع أنها كلها للمبالغة ونحن عندنا الصفة المشبهة لها دلالة صيغة فعلان لها دلالة التجدد والامتلاء مثل عطشان، وصيغة فعيل لها دلالة الثبوت واحد يقول هو طولان تقول هو طويل. طولان حدث جديد يدل على التجدد والامتلاء مثل صيغة فعلان لكن لا يستمر، عطشان ليست حالة ثابتة ليست مثل طويل أو قصير, جوعان مثل طويل أو قصير؟ لا. صيغة أفعل عيوب ظاهرة مثل أعمى وأعرج، صيغة فعل لها دلالة أخرى ولكها يسمونها صفة مشبهة لكن لها دلالات. اختلاف المباني يدل على اختلاف المعاني. لذلك صيغ المبالغة هي كل إسم مبالِغ لكن هنالك فرق بين صيغة فعال وصيغة مفعال مثل معطاء، هذه مبالغة، مهدار، كلها مبالغة لكن الدلالة تختلف. مثل فعول مثل صبور، صبور غير صبّار. * إذا أخذنا مثلاً فعال فعيل فعول مفعال هي من صيغ المبالغة كلها وهناك فروق دلالية بينها؟ نعم. في القرآن ألم يستعمل غفار وغفور؟ وفعال وفعول للمبالغة؟ كلها تندرج تحت صيغ المبالغة لكن فعّال في الأصل كما يقول أهل اللغة منقولة من الحِرفة مثل نجّار، حدّاد، هذه أصلها للحِرف. صيغة فعال هي للحِرَف مثل صبّاغ، قصّاب. فلما يقول إنسان كذّاب أي حِرفته الكذب، صناعة وصاحب الحرفة يداوم عليها، حرفة يعيش منها، صبّار يعني حرفته الصبر، ماذا تقتضي؟ هذه تقتضي التجديد والاستمرار لأن صاحب الحرفة مستمر على صنعته، مداوم لها، هذه فعّال ولذلك ربنا قال (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) نوح) لأن الغفار بمقابل الكفّار (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) نوح) كلما أحدث كفراً أحدث الله مغفرة. قال (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) القلم) يمشي هكذا، ليست مثل (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الهمزة) هذه غير دلالة، تلك حرفة يمشي ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾. صيغة فعول على وجه السرعة وضربنا مثلاً في غفار وغفور. غفور في الأصل هي للمادة، مادة الشيء، السَحور ما يؤكل في السحر، الوَضوء الماء الذي يتوضأ به، في الأدوية، العَيون ما يوضع في العين دواء العين، الأَنوف ما يوضع في الأنف، السَفوف ما يُسف عن طريق الفم، الوَقود الحطب الذي توقد فيه النار، الوُقود هو الحدث، الاشتعال، الوَقود هو الحطب (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (24) البقرة) هذه صيغة فعول هي للمبالغة. عندما يقول رجل صبور كأنه مادة للصبر يُستهلك في الصبر كما يُستهلك الوَضوء في الوضوء، كما يُستهلك الوقود في الحطب. ربنا غفور أي كله مغفرة، فرق بين غفّار يجدد المغفرة وبين ربنا كله مغفرة ولذلك في أرجى آية (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر) .إسمها مبالغة ولكن لكل واحدة دلالة. مفعال غير دلالة. * إذن ربنا إختار عليم هنا لدلالته ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ولم يقل علام أو عالم؟ قلنا أن علام تأتي مع الغيوب. عليم تأتي إما مطلقة ﴿عليم حكيم﴾ أو بكل شيء ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أو متعلق بمجموع (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) الجمعة) ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ مجموع ليس بمفرد، لا تأتي كلمة عليم مع مفرد مطلقاً.

ﵟ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﵞ سورة هود - 5


Icon