الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية قال تعالى في سورة هود في قوم صالح: ﴿وَأَخَذَ...

برنامج لمسات بيانية قال تعالى في سورة هود في قوم صالح: ﴿وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ﴾ (67). وقال في السورة نفسها في مدين قوم شعيب: ﴿وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ﴾ (95). سؤال: لماذا قال في قوم صالح: ﴿وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ﴾ (بتذكير الفعل ﴿أخذ﴾، وقال في قوم شعيب: ﴿وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ﴾ (بالتأنيث مع أن الفاعل واحد، والفصل بين الفعل والفاعل واحد؟ الجواب: من المعلوم أنه يجوز في نحو هذا تذكير الفعل وتأنيثه لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث، وأما اختيار التذكير والتأنيث في كل موضع فله أكثر من سبب منها: 1- أنه قيل: إنه أخبر عن قوم شعيب بثلاثة أنواع من العذاب كلها مؤنثة الألفاظ، وهي: الرجفة، والصيحة، والظلة، فناسب ذلك التأنيث في أهل مدين، جاء في ((درة التنزيل)): ((هل لتخصيص قصة شعيب بـ ﴿أخذت﴾ فائدة ليست لها في قصة صالح عليه السلام؟ الجواب عن هذا الموضع أن يقال: إن الله أخبر عن العذاب الذي أهلك به قوم شعيب عليه السلام بثلاثة ألفاظ منها: ﴿الرجفة﴾ في سورة الأعراف في قوله: ﴿وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَئِنِ ٱتَّبَعۡتُمۡ شُعَيۡبًا إِنَّكُمۡ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ٩٠ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ٩١ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَاۚ﴾ (90 :92) وذكر ذلك قبله في مكان آخر. ومنها ﴿الصيحة﴾ في سورة هود في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ٩٤ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُود﴾ (94، 95) ومنها ﴿الظلة﴾ في سورة الشعٱلظُّلَّةِۚ﴾ (189) فلما اجتمعت ثلاثة أشياء مؤنثة الألفاظ في العبارة عن العذاب الذي أُهلكوا به غلب التأنيث في هذا المكان على المكان الذي لم تتوال فيه هذه المؤنثات، فلذلك جاء في قصة شعيب: ﴿وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ﴾ (1). وهذا الكلام فيه نظر. والصواب: أن مدين ذكر عنهم سبحانه أنهم أخذتهم الصيحة، وأنهم أخذتهم الرجفة، وأما عذاب يوم الظلة، فإنه لم يُصب مدين، وإنما أصاب أصحاب الأيكة، قال تعالى فيهم: ﴿فَأَخَذَهُمۡ عَذَابُ يَوۡمِ ٱلظُّلَّةِۚ﴾ (الشعراء: 189). وكلاهما أُرسل إليهما شعيب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن ﴿الرجفة﴾ أخذت قوم صالح أيضًا، قال تعالى فيهم: ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ﴾، فهذا التعليل فيه نظر. 2- إنه عبر عن عذاب قوم صالح بالخزي فقال: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ﴾ (هود: 66). والخزي مذكر فناسب التذكير في قوم صالح. قد تقول: إنه قال في قصة مدين: ﴿فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ﴾ (93)، والعذاب مذكر. فنقول: إنه ذكر العذاب أيضًا في قصة ثمود، فقال: ﴿فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ﴾، وذكر الخزي علاوة على ذلك فناسب التذكير في قوم صالح. 3- إن التعقيب على قوم صالح وعقابهم أشد مما ذكره في قوم شعيب، فقد قال في قوم صالح: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ راء في قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمۡ عَذَابُ يَوۡمِ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ٦٦ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ٦٧ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ﴾ (66: 68). وقال في قوم شعيب: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ٩٤ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُود﴾ (94: 95). ومن النظر إلى النصين يتبين لنا ما يأتي: أ- أنه قال في قوم صالح: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا﴾ وقال في مدين: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا﴾ والفاء تفيد التعقيب ذلك أنه قال على لسان نبيّها صالح: ﴿فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ﴾ فناسب التوعد بالعذاب القريب ذكر الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، ثم إن نبيهم توعدهم بعد عقر الناقة بالعذاب بعد ثلاثة أيام، فلما انقضت الأيام الثلاثة حلّ بهم العذاب، فناسب ذلك أيضًا ذكر الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، وليس الأمر كذلك في مدين فناسب فيها ذكر الواو. ب- إنه ذكر الخزي في عقوبة قوم صالح، فقال: ﴿وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ﴾ ولم يذكر ذلك في قوم شعيب. ج- وذكر قوة الله وعزته تعقيبًا على هلاك قوم صالح فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيز﴾، ولم يذكر مثل ذلك في قوم شعيب. د- وقال في قوم صالح: ﴿أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ﴾، ولم يقل مثل ذلك في قوم شعيب. فاتضح أن التعقيب على قوم صالح كان أشد فجاء في عقوبتهم بلفظ التذكير فقال: ﴿وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ﴾ لأن المذكر أقوى من المؤنث. وقد ذكرنا في تذكير وتأنيث لفظ الملائكة أنه إذا كان ثمة أمر أشد من آخر كأن يكونا موقفي عذاب أحدهما أشد من الآخر جيء بما هو أشد بالتذكير للدلالة على قوة الأمر وشدته، فناسب التذكير قوم صالح والتأنيث قوم شعيب. 4- وعلاوة على ذلك فإن قصة قوم شعيب في هذه السورة أطول من قصة قوم صالح، فإن قصة قوم صالح ثماني آيات من الآية الحادية والستين إلى الآية الثامنة والستين. وإن قصة مدين اثتنا عشرة آية من الآية الرابعة والثمانين إلى الآية الخامسة والتسعين، وإن كلمة ﴿أخذت﴾ أطول من ﴿أخذ﴾ فناسب الكلمة الطويلة طول القصة من جهة أخرى. 5- وردت كلمة ﴿العذاب﴾ في قوم صالح في القرآن الكريم أكثر مما وردت في مدين، فإنها وردت في قوم صالح سبع مرات وهي: قوله تعالى: ﴿فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيم﴾ (الأعراف: 73). وقوله: ﴿فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ﴾ (هود: 64) وقوله: ﴿فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابُ يَوۡمٍ عَظِيمٖ﴾ (الشعراء: 156). وقوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ﴾ (الشعراء: 158). وقوله: ﴿فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡهُونِ﴾ (فصلت: 18). وقوله: ﴿فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ (القمر: 30). وقوله في عاد وثمود وفرعون: ﴿فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ﴾ (الفجر: 13). ووردت في أهل مدين مرة واحدة، وذلك قوله تعالى: ﴿سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ﴾ (هود: 93). وإن من معاني ﴿الصيحة﴾ في اللغة ﴿العذاب﴾، فذكّر الصيحة في قوم صالح إشارة إلى معنى العذاب ومناسبة لذكره الذي تكرر فيهم، ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى قوم شعيب اهل مدين فجاء بالفعل على لفظ الصيحة وهو التأنيث. 6- وأما قوله تعالى تعقيبًا على قوم شعيب: ﴿أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ﴾ فذلك لأن طبيعة العذاب واحدة في القومين فكلاهما أهلك بالصيحة فشبّه هلاك مدين بهلاك ثمود، والله أعلم.

ﵟ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﵞ سورة هود - 67


Icon