تفسير سورة يونس

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة.
وقال ابن عباس ﴿ الر ﴾ أي أنا الله أرى، وكذلك قال الضحاك وغيره، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم ﴾ أي هذه آيات القرآن المحكم المبين، وقال الحسن : التوراة والزبور، وقال قتادة :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ﴾ قال : الكتب التي كانت قبل القرآن، وهذا القول لا أعرف وجهه ومعناه، وقوله :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ﴾ يقول تعالى منكراً على من تعجب من الكفار، ومن إرسال المرسلين ن البشر، كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم :﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ ؟ [ التغابن : ٦ ] وقال هود وصالح لقومهما :﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ ﴾ ؟ [ الأعراف : ٦٣ ] وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ ؟! [ ص : ٥ ] وقال ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمداً ﷺ رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم، فقالو : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ﴾ الآية، وقوله :﴿ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ اختلفوا فيه، فقال ابن عباس : سبقت لهم السعادة في الذكر، وقال العوفي عنه :﴿ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ يقول : أجراً حسناً بما قدموا، وقال مجاهد : الأعمال الصالحة، صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، قال : ومحمد ﷺ يشفع لهم؛ وقال قتادة : سلف صدق عند ربهم؛ واختار ابن جرير قول مجاهد : إنها الأعمال الصالحة التي قدموها، كما يقال : له قدم في الإسلام، كقول حسان :
لنا القدز العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العاديِّ طَمَّتْ على البحر
وقوله تعالى :﴿ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي مع أنا بعثنا إليهم رسولاً منهم رجلاً من جنسهم بشيراً ونذيراً، ﴿ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي ظاهر، وهم الكاذبون في ذلك.
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، قيل : كهذه الأيام، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون، كما سيأتي بيانه، ثم استوى على العرش، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها، وهو ياقوتة حمراء، وقوله :﴿ يُدَبِّرُ الأمر ﴾ أي يدبر الخلائق ﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ [ سبأ : ٣ ] ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، في الجبال والبحار والعمران والقفار ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ] الآية، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]. وقوله :﴿ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾، كقوله تعالى :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى ﴾ [ النجم : ٢٦ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢٣ ]، وقوله :﴿ ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلهاً غيره، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق، كقوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الإسراء : ٨٧ ].
يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحداً حتى يعيده كما بدأه، ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده، ﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، ﴿ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط ﴾ أي بالعدل والجزاء الأوفى، ﴿ والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾، أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم، ﴿ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ [ ص : ٥٧ ].
يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نوراً، هذا فن وهذا فن آخر؛ ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدّر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيراً، ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر، كقوله تعالى :﴿ والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم ﴾ [ يس : ٣٩ ]. وقوله تعالى :﴿ والشمس والقمر حُسْبَاناً ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ]، ﴿ وَقَدَّرَهُ ﴾ أي القمر، ﴿ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام، ﴿ مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق ﴾ أي لم يخلقه عبثاً بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة، كقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ]، وقوله :﴿ يُفَصِّلُ الآيات ﴾ أي نبين الحجج والأدلة، ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار ﴾ أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئاً كقوله تعالى :﴿ يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، وقال :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ [ يس : ٤٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض ﴾ أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى، كما قال :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ] الآية، وقوله :﴿ قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ]، وقال :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب ﴾ [ آل عمران : ١٩٠ ] أي العقول، وقال هاهنا ﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾، أي عقاب الله وسخطه وعذابه.
يقول تعالى مخبراً عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئاً. ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليهم نفوسهم ﴿ إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا ﴾ الآية، قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها، وهم غافلون عن آيات الله الكونية، فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها بأن مأواهم يوم معادهم النار جزاء ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات، بأنه سيهديهم بإيمانهم، أي بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة، ويحتمل أن تكون للاستعانة، كما قال مجاهد في قوله :﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ قال : يكون لهم نوراص يمشون به، وقال ابن جريج : في الآية يمثل له عمله في صورة حسنة إذا قام من قبره يبشره بكل خير، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أن عملك، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله تعالى :﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلزم صاحبه حتى يقذفه في النار.
وقوله تعالى :﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ أي هذا حال أهل الجنة، قال ابن جريج : أخبرت أنه إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا : سبحانك اللهم، وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه، فيسلم عليهم فيردون عليه، فذلك قوله :﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله :﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾، وقال مقاتل : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم :﴿ سُبْحَانَكَ اللهم ﴾ قال : فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى، قال : فيأكل منهن كلهن، وهذه الآية فيها شبه من قوله :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٤٤ ]، وقوله :﴿ إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾ [ الواقعة : ٢٦ ]، وقوله :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [ يس : ٥٨ ]، وقوله :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ] الآية، وقوله :﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبداً، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنزيله، حيث يقول تعالى :﴿ الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب ﴾ [ الكهف : ١ ] ﴿ الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١ ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في الأولى والآخرة في جميع الأحوال، ولهذا جاء في الحديث :« إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس »، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم، فتكرر وتعاد وتزداد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده، أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أولادهم بالشر، في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهاذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفاً ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأولادهم بالخير والبركة، ولهذا قال :﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ الآية : أي لو استجاب لهم كل به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كماء جاء في الحديث الذي رواه جابر قال : قال رسول الله ﷺ :« لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم »، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير ﴾ [ الإسراء : ١١ ] الآية، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات، استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم، وأرسل إليهم رسولاً لينظر طاعتهم له، واتباعهم رسوله، وفي صحيح مسلم :« إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء ».
يخبر تعالى عن تعنت من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه، أنهم إذا قرأ عليهم الرسول ﷺ كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له : ائت بقرآن غير هذا، أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر، قال الله تعالى لنبيّه ﷺ :﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي ﴾ أي ليس هذا إليّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلّغ عن الله، ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾، ثم قال محتجاً عليهم في صحة ما جاءهم به؛ ﴿ قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ ﴾ أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عزّ وجلّ، لا تنتقدون عليَّ شيئاً تغمصوني به، ولهذا قال :﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل؟ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم ( أبا سفيان ) قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق ( والفضل ما شهدت به الأعداء ) فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ليكذب على الله. وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولاً تعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.
يقول تعالى : لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراماً ﴿ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾، وتقوّل على الله، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً أو كاذباً فلا بدّ أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد ﷺ وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وبين حندس الظلماء، قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال : فكان أول ما سمعته يقول :« يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا الليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » و « لما وقد ضمام بن ثعلبة على رسول الله ﷺ في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله ﷺ فيما قاله : من رفع هذه السماء؟ قال :» الله «، ومن نصب هذه الجبال؟ قال :» الله «، قال : ومن سطح هذه الأرض؟ قال :» الله «، قال : فبالذي رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال :» اللهم نعم «، ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول الله ﷺ، فقال له : صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص »، فقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه، قال حسان بن ثابت :
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
وذكروا أن ( عمرو بن العاص ) وفد على مسيلمة، وكان صديقاً له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو، ماذا أنزل على صاحبكم، يعني رسول الله ﷺ، في هذه المدة؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة، فقال : وما هي؟ فقال :﴿ والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ ﴾ [ العصر : ١-٢ ] إلى آخر السورة، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال : وأنا قد أنزل عليَّ مثله، فقال : وما هو؟ فقال :( ويا وبر، يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر )، كيف ترى يا عمرو، فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد ﷺ وصدقه، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى؟ ولهذا قال تعالى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون ﴾، وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، وقامت عليه الحجج، لا أحد أظلم منه كما في الحديث :« أعتى الناس على الله رجل قتل نبياً أو قتله نبي ».
ينكر تعالى على المشركين الذي عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئاً، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبداً، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ قال ابن جرير : معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال :﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام، قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيّناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ [ الأنفال : ٤٢ ]، وقوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ﴾ الآية، أي لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، وأنه أجّل الخلق إلى أجل معدود، لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين.
أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون : لولا أنزل على محمد آية من ربه، يعنون : كما أعطى الله ثمود الناقة، أو أن يحول لهم الصفا ذهباً، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهاراً، أو نحو ذلك، مما الله عليه قادر، ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله، كما قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٠ ]، وكقوله :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] الآية، يقول تعالى : إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة، ولهذا لما خير رسول الله ﷺ بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا، وبين أنظارهم، اختار إنظارهم، كما حمل عنهم غير مرة رسول الله ﷺ، ولهذا قال تعالى إرشاداً لنبيّه ﷺ إلى الجواب عما سألوا :﴿ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ ﴾ أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور، ﴿ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ﴾ أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم، ولو علم منهم أنهم سألوا ذلك استرشاداً وتثبيتاً لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عناداً وتعنتاً فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد لما فيهم من المكابرة كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء ﴾ [ الحجر : ١٤ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأنعام : ٧ ] فمثل هؤلاء لا فائدة من جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم، ولهذا قال :﴿ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ﴾.
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط، ونحو ذلك ﴿ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا ﴾ قال مجاهد استهزاء وتكذيب، ﴿ قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ أي أشد استدراجاً وإمهالاً حتى يظن الظان من المجرمين أنهليس بمعذب، وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على النقير والقطمير، ثم أخبر تعالى أنه ﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر ﴾ أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته، ﴿ حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا ﴾ أي بسرعة سيرهم رافلين، فبينما هم كذلك إذ ﴿ جَآءَتْهَا ﴾ أي تلك السفن ﴿ رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ أي شديدة، ﴿ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ أي اغتلم البحر عليهم، ﴿ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ أي هلكوا، ﴿ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي لا يدعون معه صنماً ولا وثناً يفردونه بالدعاء والابتهال، كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، ﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه ﴾ أي هذه الحال ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ أي لا نشرك بك أحداً ولنفردنك بالعبادة كما أفردناك بالدعاء هاهنا، قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ ﴾ أي من تلك الورطة، ﴿ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ﴾ أي كأن لم يكن من ذلك شيء، ﴿ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ ﴾ [ يونس : ١٢ ]، ثم قال تعالى :﴿ ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم، ولا تضرون به أحداً غيركم، كما جاء في الحديث :« ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم »، وقوله :﴿ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ﴾ أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة، ﴿ ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي مصيركم ومآلكم، ﴿ فَنُنَبِّئُكُمْ ﴾ أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ضرب تبارك وتعالى مثلاً لزرهة الحياة الدنيا وزينتها، وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض، مما يأكل الناس من زروع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام، ﴿ حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا ﴾ أي زينتها الفانية؛ ﴿ وازينت ﴾ أي حسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَآ ﴾ الذين زرعوها وغرسوها ﴿ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ ﴾ أي على جذاذها وحصادها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها، ولهذا قال تعالى :﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً ﴾ أي يابساً بعد الخضرة والنضارة، ﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس ﴾ أي كأنها ما كانت حيناً قبل ذلك، وقال قتادة :﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ ﴾ كأن لم تنعم، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، قال تعالى إخباراً عن المهلكين :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ [ هود : ٩٤-٩٥ ]، ثم قال تعالى :﴿ كذلك نُفَصِّلُ الآيات ﴾ أي نبين الحجج والأدلة ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها سريعاً، مع اغترارهم بها وتلفتها عنهم، وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض من غير ما آية من كتابه العزيز فقال :﴿ واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ﴾ [ الكهف : ٤٥ ]، وكذا في سورة ( الزمر ) و ( الحديد ) يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا، وقوله :﴿ والله يدعوا إلى دَارِ السلام ﴾ لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها، رغَّب في الجنة ودعا إليها وسمّاها دار السلام، أي من الآفات والنقائص والنكبات فقال :﴿ والله يدعوا إلى دَارِ السلام وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه قال : خرج علينا رسول الله ﷺ يوماً فقال :« إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلاً، فقال : إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه؛ فالله الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها ».
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، ﴿ الحسنى ﴾ في الدار الآخرة ﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ] ؟ وقوله :﴿ وَزِيَادَةٌ ﴾ هي تضعيف ثواب الأعمال ويشمل ما يعطيهم الله في الجنة من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه، النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته، وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم الجمهور من السلف والخلف، روى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾، وقال :« إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى منادٍ : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون : وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ - قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم » وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله ﷺ :« إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي : يا أهل الجنة - بصوت يسمع أولهم وآخرهم - إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزّ وجلّ » وسئل رسول الله ﷺ عن قول الله عزّ وجلّ. ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ قال :« الحسنى : الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عزّ وجلّ »، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ﴾ أي قتام وسواد في عرصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة، ﴿ وَلاَ ذِلَّةٌ ﴾ أي هوان وصغار، بل هو كما قال تعالى في حقهم :﴿ فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾ [ الإنسان : ١١ ] أي نضرة في وجوههم وسروراً في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين.
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك، ﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ﴾ أي تعتريهم وتعلوهم ذلم من معاصيهم وخوفهم منها : كما قال :﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل ﴾ [ الشورى : ٤٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ] الآية، وقوله :﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ أي مانع ولا واقٍ يقيهم العذاب، كقوله تعالى :﴿ يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر * كَلاَّ لاَ وَزَرَ ﴾ [ القيامة : ١٠-١١ ]، وقوله :﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴾ [ عبس : ٣٨-٤٠ ] الآية.
يقول تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ﴾ أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر، كقوله :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، ﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ الآية، أي الزموا أنتم وهم مكاناً معيناً، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كقوله تعالى :﴿ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون ﴾ [ يس : ٥٩ ]، وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ [ الروم : ١٤ ]. وفي الآية الأخرى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [ الروم : ٤٣ ] أي يصيرون صدعين؛ وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، ﴿ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ أي أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم، كقوله :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ﴾ [ مريم : ٨٢ ] الآية، وقوله :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً ﴾ [ الأحقاف : ٦ ] الآية، ﴿ فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ الآية، أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك، وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره وقد تركوا عبادة الحي القيوم القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، وقد أرسل رسله آمراً بعبادته وحده لا شريك له ناهياً عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقال :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ ؟ [ الإسراء : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ ﴾ أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾ [ الطلاق : ٩ ]، وقال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك ﴾ [ الإسراء : ١٣-١٤ ]، وقوله :﴿ وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق ﴾ أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي ذهب عن المشركين، ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية إلاهيته، فقال تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض ﴾ أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقاً بقدرته ومشيئته، فيخرج منها ﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ﴾ [ عبس : ٢٧-٣١ ] إله مع الله؟ فسيقولون :﴿ أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ [ الملك : ٢١ ] ؟ وقوله :﴿ أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار ﴾ أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة. والقوة الباصرة ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها، كقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار ﴾ [ الملك : ٢٣ ] الآية. وقال :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٤٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة، وقوله :﴿ وَمَن يُدَبِّرُ الأمر ﴾ أي من بيده ملكوت كل شيء، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فالملك كله العلوي والسفلي فقيرون إليه خاضعون لديه، ﴿ فَسَيَقُولُونَ الله ﴾ أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به، ﴿ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ ؟ أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟ وقوله :﴿ فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق ﴾ الآية، أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال ﴾ ؟ أي : فكل معبود سواه باطل لا إله إلاّ هو واحد، لا شريك له ﴿ فأنى تُصْرَفُونَ ﴾ أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه؟ وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء وقوله :﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا ﴾ أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده، فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله :﴿ قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين ﴾ [ الزمر : ٧١ ].
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد، ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ أي من بدأ خلق هذه السماوات والأرض، ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرّق أجرام السماوات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقاً جديداً ﴿ قُلِ الله ﴾ هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له، ﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل، ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾ ؟ أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يهدي الحيارى والضُلاَّل، ويقلّب القلوب من الغيّ إلى الرشد الله رب العالمين، ﴿ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى ﴾ أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه، كما قال تعالى إخباراً عن إبراهيم أنه قال :﴿ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٤٢ ].
وقوله تعالى :﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ أي فما بالكم يذهب بعقولكم، كيف سويتم بين الله وبين خلقه، وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جلّ جلاله بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة؟ ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلاً ولا برهاناً، وإنما هو ظنٌ منهم أي توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئاً، ﴿ إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله، الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله ﴾ أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر، ﴿ ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المتقدمة ومهيمناً عليه، ومبيناً لما وقه فيها من التحريف والتأويل والتبديل، وقوله :﴿ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين ﴾ أي وبيان الأحكام يباناً شافياً كافياً لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في الحديث :« فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم » أي خبر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه. وقوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذباً إن هذا من عند محمد، فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله، أي من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد، فليعارضوه بنظير ما جاء، وليستعينوا بمن شاءوا، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى :﴿ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، وكذا في سورة البقرة، وهي مدنية تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبداً فقال :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار ﴾ [ البقرة : ٢٤ ] الآية. هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام، وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأشدهم له انقياداً.
1122
ولهذا جاء في « الصحيح » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً » وقوله :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يقول : بل كذب هؤلاء بالقرآن، ولم يفهموه ولا عرفوه ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلاً وسفهاً، ﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي من الأمم السالفة، ﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين ﴾ أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم، وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ الآية، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين ﴾ أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه؟ ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس.
1123
يقول تعالى لنبيّه محمد ﷺ : وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم ﴿ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾، كقوله تعالى عن إبراهيم الخليل واتباعه لقومه المشركين :﴿ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ الممتحنة : ٤ ]، وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم النافع في القلوب والأبدان، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم، فإنك كما لا تقدر على إسماع الأصم، فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله، ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من الخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار، ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ] الآية، ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئاً، وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى، وفتح به أعيناً عمياء وآذاناً صماء، وقلوباً غلفاً، وأضل به عن الإيمان آخرين؛ فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، لعلمه وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة، وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ الآية. كقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ]، وكقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ]، وقال تعالى :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾ [ طه : ١٠٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [ الروم : ٥٥ ]، وهذا كله دليل على استقصاء الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله :﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين ﴾ [ المؤمنون : ١١٢-١١٣ ]، وقوله :﴿ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض، كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه، ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ [ المعارج : ١٠ ]، وقوله :﴿ قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.
يقول تعالى مخاطباً لرسوله ﷺ :﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ ﴾ أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾، أي مصيرهم ومنقلبهم، والله يشهد على أفعالهم بعدك، وقوله :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ ﴾ قال مجاهد : يعني يوم القيامة ﴿ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ الآية، كقوله تعالى :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] الآية، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتاب أعمالها من خير وشر شاهد عليها وحفظتهم من الملائكة شهود أيضاً، وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة، يفصل بينهم ويقضى لهم، كما جاء في « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق »، فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
يقول تعالى مخبراً في كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب، وسؤالهم عن وقته قبل التعيين، مما لا فائدة لهم فيه، كقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق ﴾ [ الشورى : ١٨ ] أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عيناً، ولهذا أرشد تعالى رسوله ﷺ إلى جوابهم فقال :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ الآية، أي لا أقول إلا ما علمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به، إلا أن يطلعني الله عليه، فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم يطلعني على وقتها، ولكن ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم ﴿ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾، كقوله :﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾ [ المنافقون : ١١ ] الآية، ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة، فقال :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً ﴾ ؟ أي ليلاً أو نهاراً، ﴿ مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا :﴿ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ﴾ [ السجدة : ١٢ ] الآية، ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٥ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد ﴾ أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتاً وتقريعاً كقوله :﴿ اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٦ ].
يقول تعالى : ويستخبرونك ﴿ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ أي المعاد بعد صيرورة الأجسام تراباً ﴿ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي ليس صيرورتكم تراباً بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ]، وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد من سورة سبأ، ﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [ الآية : ٣ ]، وفي التغابن :﴿ زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ [ الآية : ٧ ]، ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهباً، ﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ أي بالحق ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأن وعده حق كائن لا محالة، وأنه يحيى ويميت وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار.
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم :﴿ ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي زاجر عن الفواحش، ﴿ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور ﴾ أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، ﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ]، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به، ﴿ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة.
قال ابن عباس ومجاهد : نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل، كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] الآيات، وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال :﴿ وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة ﴾ أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة؟ وقوله :﴿ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ﴾ قال ابن جرير : في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد ﴿ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ﴾ فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم، ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم، ويضيفون على أنفسهم فيجعلون بعضاً حلالاً وبعضاً حراماً.
يخبر تعالى نبيه ﷺ أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة، وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها من السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين، كقوله :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة، ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ] الآية، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى :﴿ الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين ﴾ [ الشعراء : ٢١٨-٢١٩ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ أي إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال ﷺ لما سأله جبريل عن الإحسان :« أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
يخبر تعالى أن أولياءه ﴿ الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ كما فسرهم بهم، فكل من كان تقياً، كان الله ولياً ف ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما وراءهم في الدنيا، وقال عبد الله بن مسعود : أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله، وقال رسول الله ﷺ :« إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء »، قيل : من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم؟ قال :« هم قوم تحابوا في الله في من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ :﴿ ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، وقال الإمام أحمد، عن أبي الدرداء، عن النبي ﷺ في قوله :﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾، قال :« الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له » وقال الإمام أحمد، « عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى :﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا ﴾ فقال :» لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي - أو قال أحد قبلك - تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له « » عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله : الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به، فقال رسول الله ﷺ :« تلك عاجل بشرى المؤمن » وعن عبد الله بن عمرو « عن رسول الله ﷺ أنه قال :﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا ﴾ الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة » وقال ابن جرير، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ :« لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » - قال - في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وهي في الآخرة الجنة « وقال ابن جرير، عن أم كريز الكعبية : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» ذهبت النبوة وبقيت المبشرات « ؛ وقيل : المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]، وفي حديث البراء رضي الله عنه :» أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا : اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان، فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء « وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ]، وقال تعالى :﴿ يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ [ الحديد : ١٢ ]، وقوله :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ﴾ أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة، ﴿ ذلك هُوَ الفوز العظيم ﴾.
يقول تعالى لرسوله ﷺ ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ ﴾ قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن ﴿ العزة للَّهِ جَمِيعاً ﴾ أي جميعاً له ولرسوله وللمؤمنين، ﴿ هُوَ السميع العليم ﴾ أي السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم، ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً، لا ضراً ولا نفعاً ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذكل ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم، ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه، أي يستريحون فيه من نصبهم وكلالهم وحركاتهم، ﴿ والنهار مُبْصِراً ﴾ أي مضيئاً لمعاشهم وسعهيم وأسفارهم ومصالحهم، ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها.
يقول تعالى منكراً على من ادعى أن له ﴿ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني ﴾ أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه ﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾، أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له عبد له ﴿ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ ﴾ أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان ﴿ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؟ إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد، كقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٢ ]، ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولداً، بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلاً ﴿ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، كما قال تعالى هاهنا :﴿ مَتَاعٌ فِي الدنيا ﴾ أي يوم القيامة، ﴿ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد ﴾ أي الموجع المؤلم ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوه من الإفك والزور.
يقول تعالى لنبيّه صلوات الله وسلامه عليه :﴿ واتل عَلَيْهِمْ ﴾ أي أخبرهم واقصص عليهم، أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك، ﴿ نَبَأَ نُوحٍ ﴾ أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك، ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي عظم عليكم ﴿ مَّقَامِي ﴾ أي فيكم بين أظهركم، ﴿ وَتَذْكِيرِي ﴾ إياكم ﴿ بِآيَاتِ الله ﴾ أي بحججه وبراهينه، ﴿ فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ ﴾ أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم ولا لا، ﴿ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ﴾ أي فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن، ﴿ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾ أي ولا تجعلوا أمركم عليكم متلبساً، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إليَّ ولا تنظرون، أي ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي مهما قدرتم فافعلوا، فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ [ هود : ٥٥-٥٦ ] الآية. وقوله :﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي كذبتم وأدبرتم عن الطاعة ﴿ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ ﴾ أي لم أطلب منكم على نصيحتي إياكم شيئاً، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين ﴾ أي وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله تعالىّ، والإسلام هو دين الأنبياء جميعاً من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم، وقوله تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ ﴾ أي على دينه ﴿ فِي الفلك ﴾ وهي السفينة ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ ﴾ أي في الأرض، ﴿ وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين ﴾ أي فانظر يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين.
يقول تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن ﴾ بعد نوح ﴿ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بالبينات ﴾ أي بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاؤوهم به، ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾، أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كقوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] الآية، وقوله :﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين ﴾ أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء، فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم؛ والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام، فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام، فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وقال الله تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ] الآية، وفي هذه إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيّد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟
يقول تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا ﴾ من بعد تلك الرسل ﴿ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ أي قومه ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ أي حججنا وبراهيننا، ﴿ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ أي استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له وكانوا قوماً مجرمين، ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، كأنهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان، كما قال تعالى :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ] الآية، ﴿ قَالَ ﴾ لهم ﴿ موسى ﴾ منكراً عليهم ﴿ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون * قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ﴾ أي تثنينا ﴿ عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ أي الدين الذي كانوا عليه، ﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا ﴾ أي لك ولهارون ﴿ الكبريآء ﴾ أي العظمة والرياسة ﴿ فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾. وكثيراً ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز، لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر : أن ربّي على فراشه بمنزلة الولد ثم ترعرع وعقد الله له سبباً أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، ولم تزل الآيات تقوم على يدي موسى شيئاً بعد شيء، ومرة بعد مرة، مما يبهر العقول، ويدهش الألباب ﴿ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ﴾ [ الزخرف : ٤٨ ] وصمم فرعون وملأه قبحهم الله على. التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة، حتى أحلّ الله بهم بأسه الذي لا يرد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين، ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الأنعام : ٤٥ ].
ذكر تعالى قصة السحرة مع موسى عليه السلام، وما أراده فرعون من معارضة الحق المبين، ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ ﴾، وإنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل ﴿ قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى ﴾ [ طه : ٦٥ ]، فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى ﴾ [ طه : ٦٧-٦٨ ]، فعند ذلك قال موسى لما ألقوا :﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين * وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المجرمون ﴾.
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات، والحجج القاطعات، والبراهين الساطعات، إلا قليل من قوم فرعون من الذرية، وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر، لأن فرعون لعنه الله كان جباراً عنيداً مسرفاً في التمرد والعتو، وكانت له سطوة ومهابة يخاف رعيته منه خوفاً شديداً. قال ابن عباس : الذرية التي آمنت لموسى من غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير « منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه »، وعنه :﴿ فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ﴾ يقول : من بني إسرائيل، وقال مجاهد في قوله :﴿ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ﴾ هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم، واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل، لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين، وفي هذا نظر، لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب، وأنهم من بني إسرائيل، والمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبه المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه، ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، ﴿ قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ] وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم مسى وهم بنو إسرائيل ﴿ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾ أي وأشراف قومهم أن يفتنهم، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن الإيمان، ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى.
يقول تعالى مخبراً عن موسى أنه قال لبني إسرائيل :﴿ ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ أي فإن الله كافٍ من توكل عليه، ﴿ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ]، ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : ٣ ]، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل، كقوله تعالى ﴿ على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾، وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا :﴿ على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾ أي لا تظفرهم وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك، هكذا روي عن أبي الضحى، وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا، وعن مجاهد : لا تسلطهم علينا فيفتنونا، وقوله :﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ ﴾ أي خلصنا برحمة منك وإحسان ﴿ مِنَ القوم الكافرين ﴾ أي الذين كفروا الحق ستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك.
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوآ، أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتاً، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى :﴿ واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ فقال ابن عباس : امروا أن يتخذوها مساجد، وقال الثوري، عن إبراهيم : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في يبوتهم، وأمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى :﴿ يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ]، وفي الحديث :« كان رسول الله إذا حز به أمر صلى »، ولهذا قال تعالى في هذه الآية :﴿ واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصلاة وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾، أي بالثواب والنصر القريب، وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل عليه السلام : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة.
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلماً وعلواً وتكبراً وعتواً، قال موسى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً ﴾ أي من أثاث الدنيا ومتاعها، ﴿ وَأَمْوَالاً ﴾ أي جزيلة كثيرة ﴿ فِي ﴾ هذه ﴿ الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ﴾ أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك، وليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذه لحبك إياهم واعتنائك بهم ﴿ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ ﴾، قال ابن عباس : أي أهلكها، وقال الضحاك : اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت، وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة، وقوله :﴿ واشدد على قُلُوبِهِمْ ﴾ قال ابن عباس : أي اطبع عليها ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح عليه السلام فقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]، ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمَّن عليها أخوه هارون فقال تعالى :﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ﴾، قال أبو العالية وعكرمة : دعا موسى وأمن هارون، أي قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون، ﴿ فاستقيما ﴾ أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري، قال ابن عباس : فاستقيما : فامضيا لأمري وهي الاستقامة، قال ابن جريج : يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وقيل : أربعين يوماً.
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وهم فيما قبل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، اشتد حنق فرعون عليهم، فأرسل إلى المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم فلحقوهم وقت شروق الشمس، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [ الشعراء : ٦١ ]، أي كيف المخلص مما نحن فيه؟ فقال :﴿ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٦٢ ]، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه، انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف، فلما رأى ذلك هاله، وأحجم وهاب وهمَّ بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحداً إلا ألحقه بهم، فلما استوثقوا فيه وتكاملوا، وهمَّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك :﴿ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين ﴾، فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٥ ]، ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال :﴿ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾ أي هذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ ﴿ وَكُنتَ مِنَ المفسدين ﴾ أي في الأرض، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ ﴾ [ القصص : ٤١ ]، وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله، ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله ﷺ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« لما قال فرعون آمنت أن هلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل - قال : قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخالفة أن تناله الرحمة ».
وقوله تعالى :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾، قال ابن عباس وغيره من السلف : إنَّ بعض بني إسرائيل شكّوا في موت فرعون، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ ﴾ أي نرفعك على نشز من الأرض ﴿ بِبَدَنِكَ ﴾، قال مجاهد : بجسدك، وقال الحسن : بجسم لا روح فيه، وقوله :﴿ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ أي لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء. ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها، وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما قال ابن عباس :« قدم النبي ﷺ المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال :» ما هذا اليوم الذي تصومونه «؟ فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي ﷺ لأصحابه :» وأنتم أحق بموسى منهم فصوموه «.
يخبر تعالى عما أنعم به على نبي إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية، وقوله :﴿ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ قيل : هو بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده، استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما قال تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ]، وقال في الآية الأخرى :﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ]، وقال :﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [ الدخان : ٢٥ ] الآيات، ولكن استمروا مع موسى عليه السلام طالبين إلى بلاد بيت المقدس، وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالباً بيت المقدس، وكان فيه قوم من العمالقة، فنكل بنو إسرائيل عن قتالهم، فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه هارون، ثم موسى عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع ( يوشع بن نون ) ففتح الله عليهم بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حيناً من الدهر، ثم انتزعها الصحابة رضي الله عنهم من يد النصارى، وكان فتح بيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقوله :﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ أي الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعاً وشرعاً، وقوله :﴿ فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم ﴾ أي ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي ولم يكن لهم أن يختلفوا، وقد ورد في الحديث :« أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل من هم يا رسول الله؟ قال :» ما أنا عليه وأصحابي «، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ﴾ أي يفصل بينهم ﴿ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
قال قتادة : بلغنا أن رسول الله ﷺ قال :« لا أشك ولا أسأل »، وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم ﷺ موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] الآية، ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ أي لا يؤمنون إيماناً ينفعهم، بل حين لا ينفع إيمانها، ولهذا دعا موسى على فرعون وملئه قال :﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٨٨ ].
يقول تعالى : فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم، كقوله تعالى :﴿ ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ يس : ٣٠ ]، وقوله :﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [ الذاريات : ٥٢ ]. وفي الحديث الصحيح :« عرض عليَّ الأنبياء فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي يمر معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد » ثم ذكر كثرة أتباع موسى عليه السلام، ثم ذكر كثرة أمته صلوات الله وسلامه عليه كثرةً سدَّت الخافقين، والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلاقوم يونس، وهم ( أهل نينوى ) وما كان إيمانهم إلا تخوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعندما جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له، واستكانوا، وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألو الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم؛ فعندما رحمهم الله، وكشف عنهم العذاب وأخروا : كما قال تعالى :﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾. وقال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم، وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب.
يقول تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ ﴾ [ هود : ١١٨ ] يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ هود : ١١٨ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً ﴾ [ الرعد : ٣١ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس ﴾ [ يونس : ٩٩ ]، أي تلزمهم وتلجئهم، ﴿ حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ يونس : ٩٩ ] أي ليس ذلك عليك ولا إليك ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]، ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [ الغاشية : ٢٢ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد، الهادي من يشاء المضل لمن يشاء، لعلمه وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس ﴾ وهو الخبال والضلال ﴿ عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي حج الله وأدلته، وهو العادل في كل ذلك في هداية من هدى وإضلال من ضل.
يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه، وما خلق الله في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب، وما في البحر من العجائب والأمواج، وهو مع هذا مسخّر مذلل للسالكين، بتسخير القدير لا إله إلا هو رب العالمين، وقوله :﴿ وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي : وأي شيء تغني الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها، عن قوم لا يؤمنون، كقوله :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ] الآية، وقوله :﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، أي فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم، ﴿ قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ ﴾، أي ونهلك المكذبين بالرسل، ﴿ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين ﴾ حقاً أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة، كقوله :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ]، وكما جاء في « الصحيحين » :« إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي ».
يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ] من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إليَّ، فأنا لا أبعد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم، ثم إليه مرجعكم، فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقاً فأنا لا أعبدها، فادعوها فلتضرني فإنها لا تضر ولا تنفع، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وأمرت أن أكون من المؤمنين، وقوله :﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ [ يونس : ١٠٥ ] أي أخلص العبادة لله وحده حنيفاً أي منحرفاً عن الشرك، ولهذا قال :﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾ [ يونس : ١٠٥ ]، وهو معطوف على قوله :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ [ يونس : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ ﴾ الآية، فيه بيان لأن الخير والشر النفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده، روى الحافظ ابن عساكر، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال :« اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم » وقوله :﴿ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾ أي لمن تاب إليه ولو من أي ذنب كان حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه.
يقول تعالى آمراًلرسوله ﷺ أن يخبر الناس، أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفعه على نفسه، ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه، ﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾، أي وما أنا موكل بكل حتى تكونوا مؤمنين، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى، وقوله :﴿ واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر ﴾ أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك، واصبر على مخالفة من خالفك من الناس ﴿ حتى يَحْكُمَ الله ﴾ أي يفتح بينك وبينهم، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾ أي خير الفاتحين بعدله وحكمته.
Icon