تفسير سورة يونس

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة يونس من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ ﴾ هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات فيها نزلت بالمدينة وهي: فإِن كنت في شك إلى آخرهن، قاله ابن عباس. وسبب نزولها أن أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب. فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل:﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾[التوبة: ١٢٤، ١٢٧]، وذكر تكذيب المنافقين، ثم قال:﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾[التوبة: ١٢٨]، وهو محمد صلى الله عليه وسلم اتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل والنبي الذي أرسل وانّ ديدن الظالمين واحد منافقيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإِلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدماً على ذكر الرسول في آخر السورة جاء في أول هذه السورة كذلك، فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول. والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها لبعد المشار إليه. وقال مجاهد وقتادة: أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإِنجيل والزبور، فتكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب. وقال الزجاج: إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها. والهمزة في: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ ﴾ للاستفهام على سبيل الإِنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإِنذار والتبشير أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإِنذار على أيدي من اصطفاه منهم. واسم كان انا أوحينا. وعجباً: الخبر، وللناس قيل: هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدم كان حالاً. وقيل: يتعلق بقوله: عجباً وليس مصدراً بل هو بمعنى معجب. والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول. وقيل: هو تبيين أي أعني للناس. وقيل: يتعلق بكان وإن كانت ناقصة وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإِنها ان تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها. وقرأ عبد الله عجب فقيل: عجب اسم كان، وإن أوحينا هو الخبر، فيكون نظير قوله: يكون مزاجها عسل وماء   وهذا محمول على الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية وقيل: كان تامة، وعجب فاعل بها، والمعنى أحدث للناس عجب لأن أوحينا وهذا التوجيه حسن. و ﴿ أَنْ أَنذِرِ ﴾ إنْ تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة، وأصله انه أنذر الناس على معنى ان الشأن قولنا أنذر الناس، قالهما الزمخشري ويجوز أن تكون ان المصدرية الثنائية الوضع المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر، فوصلت هنا بالأمر وينسبك منها معه مصدر تقديره بإِنذار الناس، وهذا الوجه أولى من التفسيرية لأن الكوفيين لا يثبتون لأن أن تكون تفسيرية، ومن المصدرية المخففة من الثقيلة المقدر حذف اسمها وإضمار خبرها وهو القول، فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ولأن التأصيل خير من دعوى الحذف بالتخفيف. و ﴿ قَدَمَ صِدْقٍ ﴾ قال ابن عباس وغيره: هي الأعمال الصالحة من العبادات.﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد.﴿ إِنَّ هَـٰذَا ﴾ هذا إشارة إلى الإِيحاء بالإِنذار والتبشير.﴿ لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ﴾ لشىء يعلل به وهو شىء لا حقيقة له، كما قال: ونسحر بالطعام وبالشراب   أي نعلل بهما.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية، تقدم تفسيرها في الأعراف.﴿ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ أي المتصف بالإِيجاد والتدبير والكبرياء، وهو ربكم الناظر في مصالحكم فهو المستحق للعبادة إذ لا يصلح للعبادة إلا هو تعالى فلا تشركوا به بعض خلقه.﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له تعالى.﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ الآية، ذكر ما يقتضي التذكر وهو كون مرجع الجميع إليه، وأكد هذا الاخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه، ثم استأنف الاخبار، وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق. وإعادته وان مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم وانتصب وعد الله حقاً على أنهما مصدر أن مؤكد أن لمضمون الجملة والتقدير وَعَدَ الله وعْداً فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله تعالى:﴿ صِبْغَةَ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ١٣٨].
والتقدير في حقاً حق ذلك حقاً. وقيل: انتصب حقاً بوعد على تقدير في أيْ وعد الله في حق. وقال علي بن سليمان: التقرير وقت حق وأنشد: أحقاً عباد الله ان لست والجا   ولا خارجاً إلا على رتيب﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً ﴾ الآية، لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذه الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياء أي ذات ضياء أو مضيئة أو نفس الضياء مبالغة، وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صيّر فيكون ضياء مفعولاً ثانياً، ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فتكون حالاً.﴿ وَٱلْقَمَرَ نُوراً ﴾ أي ذا نور أو منوراً أو نفس النور مبالغة، إذ هما مصدران ولما كانت الشمس أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم من النور. والظاهر عود الضمير على القمر أي مسيره منازل أو قدره ذا منازل. وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعي في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. والمنازل: هي البروج. وكانت العرب تنسب إليها الانواء وهي ثمانية وعشرون منزلة: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانان، والاكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، والرشا وهو الحوت. واللام متعلقة بقوله: وقدره منازل.﴿ إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ اختلافهما تعاقبهما وكون أحدهما يخلف الآخر.﴿ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ من الاجرام النيرة التي فيها، والملائكة المقيمن بها، وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى والأرض في الجوامد والمعادن والنبات والحيوان، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ﴾ الظاهر أن الرجاء هو التأميل والطمع أي لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا، أو معنى لا يخافون. والظاهر أن قوله: والذين هم هو قسم من الكفار غير قسم الأول وذلك لتكرير الموصول فيدل على المغايرة ويكون معطوفاً على اسم ان ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالعبث والجزاء، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية. ويحتمل أن يكون من عطف الصفات فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون هم الذين لا يرجون لقاء الله. والظاهر ان واطمأنوا بها عطف على الصلة. ويحتمل أن تكون واو الحال أي وقد اطمأنوا بها. والآيات قيل: آيات القرآن أو العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، أي يزيدهم في هداهم بسبب إيمانهم السابق، ويثيبهم إلى طريق الجنة بسبب إيمانهم السابق، والظاهر أن يكون تجري مستأنفاً فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخرة، ويجريان الأنهار وذلك في الآخرة كما تضمنت الآية في الكفار شيئين أحدهما اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه. والثاني مقرهم ومأواهم فصار تقسيماً للفريقين في المعنى لما هداهم ونعمهم بالجنة نزهوا الله تعالى وقدسوه بقولهم: سبحانك اللهم. واللهم تقدم الكلام عليه.﴿ تَحِيَّتُهُمْ ﴾ أي تحية بعضهم لبعض أو تحية الملائكة لهم كما قال:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾[الرعد: ٢٣] وإن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف، والجملة بعدها خبر انّ وأن وصلتها خبر قوله: وآخر دعواهم. وزعم صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة؛ والحمد لله خبر وآخر دعواهم وهو مخالف لنصوص النحويين.﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ﴾ الآية، قال مجاهد: نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا، فأخبر تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم وانتصب استعجالهم على أنه مصدر تشبيهي تقديره استعجالاً مثل استعجالهم. وقال الزمخشري: أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم انتهى مدلول عجل غير مدلول استعجل، لأن عجل يدل على الوقوع، واستعجل يدل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله تعالى، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين أن يكون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير فشبه التعجيل بالاستعجال لأن طلبتهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شىء، والثاني أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير لأنهم كانوا يستعجلونه بالشر ووقوعه على سبيل التهكم كما كانوا يستعجلونه بالخير. وقرىء: لقضي مبنياً للمفعول أجلهم بالرفع، ولقضي مبنياً للفاعل وفيه ضمير يعود على الله تعالى وأجله نصب على المفعول، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره فنحن نذر، قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره ولكن نمهلهم فنذر.﴿ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ ﴾ الآية. مناسبتها لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من لا يرجو لقاءه يعمه في طغيانه بين شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم. والظاهر أنه لا يراد بالإِنسان هنا شخص معين وأنه لا يراد به الكافر بل المراد الإِنسان من حيث هو سواء كان كافراً أم عاصياً بغير الكفر ولجنبه حال، أي مضطجعاً. ولذلك عطف عليه الحالان وذو الحال الضمير في دعانا والعامل فيه دعانا أي دعانا متلبساً بأحد هذه الأحوال واحتملت هذه الأحوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد واحتملت أن تكون لأشخاص إذ الإِنسان جنس. والمعنى أن الذي أصابه الضر لا يزال داعياً ملتجئاً راغباً إلى الله تعالى في جميع حالاته كلها وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض وهي أعظم في الدعاء وآكد، ثم بما يليها وهي حالة القعود وهي حالة العجز عن القيام ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم. والجملة من قوله: كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه في موضع الحال، أي إلى كشف ضر مسّه. والكاف في ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ في موضع نصب، أي مثل ذلك. والإِشارة بذلك إلى تزيين الإِعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك.﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ﴾ الآية، هذا إخبار لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب لهم بإِهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار والوعيد لهم وضرب الأمثال فكما فعل بهؤلاء يفعل بكم ولفظة لما مشعرة بالعلية وهي حرف تعليق في الماضي، وجاءتهم ظاهرة أنه معطوف على ظلموا أي لما حصل هذان الأمران مجيء الرسل بالبينات وظلمهم أهكلوا. والظاهر أن الضمير في أو ما كانوا، عائد على القرون وأنه معطوف على قوله ظلموا، والكاف في ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ في موضع نصب أي مثل ذلك الجزاء وهو الإِهلاك نجزي القوم المجرمين، فهذا وعيد شديد لمن أجرم يدخل فيه أهل مكة وغيرهم. والخطاب في: ﴿ جَعَلْنَاكُمْ ﴾ لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة.﴿ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى لننظر ليتبين في الوجود ما علمناه أزلاً فالنظر مجاز عن هذا.
﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ الآية، قال ابن عباس وابن الكلبي: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة، قالوا: يا محمد أئت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك والتبديل يكون في الذات بأن تجعل ذات بدل ذات أخرى، ويكون في الصفة وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب أية الرحمة ولما كان الإِتيان بقرآن غير هذا غير مقدور للإِنسان لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإِنسان وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم فقيل له: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي.﴿ قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ ﴾ الآية، هذه مبالغة في التبرئة مما لو طلبوا منه، أي أن تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو لمشيئة الله تعالى وإحداثه أمر عجيباً خارجاً عن العادات وهو أن يخرج رجل أمّي لم يتعلم ولم يسمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح ويعلو كل منثور ومنظور مشحوناً بعلوم من الأصول والفروع، واخبار ما كان وما يكون ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطّلعون على أحواله ولا يخفى عليكم شىء من أسراره، ولا سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به. ومفعول شاء محذوف، أي قل لو شاء الله أن لا أتلوه. وجاء جواب لو على الفصيح من عدم إثبات اللام لكونه منفياً بما. ويقال: دريت به وأدريت زيداً به. والمعنى ولا أعلمكم به على لساني، ونبه على أن ذلك وحي من الله بإِقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً، لم تجربوني في كذب ولا تعاطيت شيئاً من هذا ولا عانيت اشتغالاً فكيف أتهم باختلاقه. والظاهر عود الضمير في من قبله على القرآن.﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ الضمير عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاوراتهم. و ﴿ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ هو الاصنام جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. قيل: ان عبدوها لم تنفعهم وإن تركوها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون العزى ومناة واساف ونائلة وُهبَل. وفي قوله: من دون الله، دلالة على أنهم يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله. قال ابن عباس: يعنون في الآخرة، أي النفع والضر.﴿ أَتُنَبِّئُونَ ﴾ استفهام على سبيل التهكم بما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام واعلام بأن الذين أنبئوا به باطل غير منطو تحت الصحة فكأنهم يخبرونه بشىء لا يتعلق به علمه.﴿ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ تقدم الكلام عليها في البقرة. و " الكلمة " هنا هو القضاء والتقدير لبني آدم بالآجال المؤقتة.﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ ﴾ الآية هذه من اقتراحهم وكانوا لا يعتقدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة من الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات. وجعلوا نزولها كلا نزول فكأنه لم ينزل عليه شىء قط، حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية من ربه واحدة، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغيّ به.﴿ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ ﴾ أي هو سبحانه المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو.﴿ فَٱنْتَظِرُوۤاْ ﴾ نزول ما اقترحتموه.﴿ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ ﴾ بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات وجحدكم من جاء بها.
﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ ﴾ الآية، سبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدب قحطوا سبع سنين فأتاه أبو سفيان فقال: ادع لنا بالخصب فإِن أخصبنا صدقناك فسأل الله تعالى لهم فسقوا ولم يؤمنوا. والرحمة هنا الغيث بعد القحط والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يداوم استعظامها مكر، وبلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي ينسى المكر أثر كشف الضر لا يمهل ذلك وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإِذا الشرطية أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل:﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالاسراعية أنه تعالى قبل أن تدبروا مكائدكم قضى بعقابكم وهو موقعة بكم واستدرجكم بإمهاله.﴿ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ﴾ مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أن الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى وإذا أذاقهم الرحمة عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله تعالى والمكر في آياته، وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً أوضح ذلك الأمر الكلي بمثال جليّ كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي، ينقطع فيه رجاء الإِنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى. وقرىء: ينشركم من النشر والبث ويسيركم من التسيير.﴿ وَجَرَيْنَ ﴾ النون عائدة على الفلك ويراد به الجمع إذ الفلك يكون مفرداً كقوله:﴿ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾[الشعراء: ١١٩، يس: ٤١]، ويكون جمعاً كهذا ولهذا عاد الضمير عليه جمعاً. والباء في " بهم " للتعدية وفي " بريح " للسبب. وفي قوله: بهم، التفات إذ هو خروج من خطاب في قوله: كنتم، إلى غيبة في قوله: بهم وفرحوا وما بعد ذلك من ضمير الغيبة. قال الزمخشري: فائدة الإِلتفات في قوله: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها وتستدعي منهم الإِنكار والتقبيح. " انتهى ". والذي يظهر والله أعلم أن حكمة الإِلتفات هنا هي أن قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمه للمخاطبين والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار. والخطاب شامل فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالهُ آل الأمر في آخرها إلى أن المتلبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي. وقوله: ﴿ جَآءَتْهَا ﴾ جواب إذا. و ﴿ عَاصِفٌ ﴾ صفة لريح على معنى النسب، أي ذات عصف إذ لو كانت جارية على الفعل لكانت بالتاء كقوله تعالى:﴿ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً ﴾[الأنبياء: ٨١].
والمعنى من كل مكان من أمكنة الموج والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين. ومعنى: ﴿ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ أي للهلاك كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك.﴿ دَعَوُاْ ٱللَّهَ ﴾ جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: فما كان حالهم في تلك الشدة؟ قيل: دعوا الله.﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف في موضع الحال تقديره مقسمين.﴿ مِنْ هَـٰذِهِ ﴾ أي من هذه الشدة.﴿ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ ﴾ الآية، وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها، دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبلها من الفعل الذي بعد لما وانها تفيد الترتيب والتعليق في المعنى، وانها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره: انها ظرف. وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإٍذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم بل بنفس ما وقع الانجاد وقع البغي. قال ابن عباس: يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. والخطاب " بيا أيها الناس " قال الجمهور: لأهل مكة والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله بغوا، ويحتمل كما قالوا العموم، فيندرج أولئك فيهم وهذا ذم للبغي في أوجز لفظ، ومعنى على أنفسكم وبال البغي ولا يجني ثمرته إلا أنتم. وقرىء: متاع بالنصب على الظرف، أي وقت متاع الحياة الدنيا. وقرىء: متاع بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو متاع، وأجاز النحاس وتبعه الزمخشري أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله: بغيكم كما تعلق في قوله: فبغي عليهم ويكون الخبر متاع إذا رفعته. ومعنى: ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ أي على أمثالكم، والذين جنسكم جنسهم يعني بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا.﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما قال: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا بذكر من سعى فيها على سرعة زوالها وانقضائها وأنها بحال ما تغر وتسر تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء. والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول ومن السماء اما أن يراد به من السحاب واما أن يراد من جهة السماء. والظاهر أن النبات اختلط بالماء ومعنى الاختلاط تشبثه به وتلفقه إياه وقبوله له لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال: اختلط بصاحبه. ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره بين أن المراد أحد القسمين بمن فقال:﴿ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ ﴾ كالحبوب والثمار والبقول والأنعام كالحشيش وسائر ما يرعى، ومما يأكل حال النبات. والعامل فيه محذوف تقديره كائناً مما يأكل. وما موصولة صلته يأكل. والضمير محذوف تقديره يأكله الناس. وحتى: غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصح الغاية، فأما أن يقدر قبلها محذوف، أي فما زال ينمو حتى إذا او يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.. وقوله: ﴿ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ ﴾ جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة في كل لون فاكتست وتزينت بأنواع الحلي فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وألوان مختلفة. واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظ الزخرف وهو الذهب لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي بنباتها وما أودع فيها من الحبوب والثمار والأزهار.﴿ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ ﴾ أي على التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات. فالضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف، أي على ما أودعها من الغلات وما ينتفع به. وجواب إذا قوله: ﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا ﴾ كالريح والصر والسموم، وغير ذلك من الآفات كالفأر والجراد. وقيل: اتاها أمرنا بإِهلاكها. وابهم في قوله: ﴿ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ﴾ وقد علم تعالى متى يأتيها أمره. أو تكون أو للتنويع، لأن بعض الأرض يأتيها أمره ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن وقوعه. والحصيد فعيل بمعنى مفعول أي المحصود وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيد العلاقة بينهما من الطرح على الأرض.﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ ﴾ مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ولم تقم بالأرض للحبة خضرة نضرة تسر أهلها.﴿ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل.﴿ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ ﴾ لما ذكر تعالى مثل الحياة الدنيا وما تؤول إليه من الفناء والاضمحلال وما تضمنته من الآفات والعاهات، ذكر أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن وهي الجنة، وأهلها سالمون من كل مكروه. ولما كان الدعاء عاماً لم يتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال:﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ هدايته.
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾ أي أحسنوا في كل ما تعبدوا به، أي أتوا بالمأمور كما ينبغي واجتنبوا المنهي عنه والحسنى هي الجنة. وزيادة هي النظر إلى الله تعالى في الجنة، ولا يلحقها خزي. والخزي يتغير به الوجه ويسود فكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها، ولظهور أثر السرور والحزن فيه.﴿ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ والذين مبتدأ. و ﴿ جَزَآءُ ﴾ مبتدأ ثان، وخبره:﴿ بِمِثْلِهَا ﴾ وقيل: الباء زائدة. والضمير العائد على المبتدأ محذوف تقديره جزاء سيئة منهم بمثلها. وقيل: خبر والذين قوله:﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ والجملتان قبله اعتراض بين المبتدأ وخبره.﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ هذه مبالغة في سواد الوجوه وقد جاء مصرحاً به في قوله:﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾[آل عمران: ١٠٦].
وأغشيت: كسيت، ومنه الغشاء. وكون وجوههم مسودة هو حقيقة لا مجاز فتكون ألوانهم مسودة. وقرىء: قطعاً بسكون الطاء، ومظلماً صفة له: وقرىء: بفتح الطاء فيكون مظلماً حالاً من الليل. وقال الزمخشري: فإِن قلت: إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو اما أن يكون اغشيت من قِبَل أنّ من الليل صفة لقوله: قطعاً فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإِفضائه إلى الصفة، وأما أن يكون معنى الفعل في من الليل. " انتهى ". أما الوجه الأول فهو بعيد لأن الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل هو مستقر الواصل إليه بمن وأغشيت عامل في قوله: قطعاً، الموصوف بقوله: من الليل، فاختلفا. فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي قطعاً مستقرة أو كائنة من الليل في حال إظلامه. قال ابن عطية: وإذا كان نعتاً يعني مظلماً نعتاً لقطعاً فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا وتقدير الجملة قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ ﴾[الأنعام: ٩٢، ١٥٥].
" انتهى ". لا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فتكون جملة بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير قطعاً كائناً من الليل مظلماً.﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ﴾ الآية، الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم من الفريقين وانتصب يوم على فعل محذوف، أي ذكرهم أو خوّفهم. ونحوُه وجميعاً: حال. والشركاء: هم من عُبد من دون الله كائناً من كان. ومكانكم: عده النحويون في أسماء الأفعال وقدر باثبتوا كما قال: وقولي كلما جشأت وجاشت   مكانك تحمدي أو تستريحيأي اثبتي. ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي وتحملت ضميراً فأكد. وعطف عليه في قوله: أنتم وشركاؤكم. قال الزمخشري: وأنتم أكد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله: الزموا وشركاؤكم عطف عليه. " انتهى ". يعني عطفاً على الضمير المستكن، وتقديره الزموا. وان مكانكم قام مقامه فتحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانكم الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا، ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً وإذا كان متعدياً مثال ذلك بنا عليك زيداً، لما ناب مناب الزم تعدى، وإليك لما ناب مناب تنح لم يتعد، ولكون مكانك لا يتعدى قدّره النحويون اثبتوا، واثبتوا لا يتعدى. قال ابن عطية: أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه، فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف لفك الكلام. الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ولتقدير إضمار لا ضرورة تدعو إليه. ولقوله: فزيلنا بينهم إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤهم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق، ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه، تقول: كل رجل وضيعته، بالرفع ولا يجوز فيه النصب. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه، وهذا ليس بجيد إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول، فيلزم تأخيره عنه وهو غير جائز لا تقول: أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم. والأصح أنه لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيد ينافي الحذف، وليس من كلامهم: أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تريد أضرب أنت زيداً، إنما كلام العرب زيداً، تريد اضرب زيداً فزيّلنا يقال: زلت الشىء عن مكانه أزيله، معيّن الكلمة ياء. وزعم ابن قتيبة وتبعه أبو البقاء ان قوله: زيّلنا من مادة زال يزول فتكون عين الكلمة واو، وزيلنا وزنه عندهما فيعل اجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء. والصحيح أنه من ذوات الياء وان وزنه فعّل ولذلك قالوا في مصدره تزييلاً على وزن تفعيل، وقالوا في الاشتقاق منه زايلنا بالياء. ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم: إياكم كنا نعبد. وإياكم: مفعول بتعبدون، وحسن تقديمه كون تعبدون فصلاً ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى، وانتصب شهيداً على التمييز لقبوله صحة من، وانْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين انْ النافية وبين ان التي للإِثبات. وتقدم الكلام على مثل ذلك في قوله:﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾[البقرة: ١٤٣].
﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ ﴾ هنالك ظرف مكان، أي في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش. تبلوا، أي تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، مقبول أو مردود. وقرىء: تبلو. وقرىء: تتلو.﴿ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي إلى جزائه.﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي ذهب وبطل.﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ من الكذب.
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم ﴾ الآية، لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبّخهم ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة، فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه فمن السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات. فمن لابتداء الغاية هُيّءَ الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معاً لم يقتصر على جهة واحدة توسعة منه وإحساناً، ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين السمع والبصر الذي هو سبب مدارك الأشياء، والبصر الذي يرى ملكوت السماوات والأرض. ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما كما يشاء من إبقاء وحفظ وذهاب.﴿ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾ تقدم تفسيره.﴿ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ﴾ شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله تعالى أمر لا يمكنهم إنكاره ولا المباهتة فيه.﴿ فَذَلِكُمُ ﴾ إشارة إلى من اختص بهذه الأوصاف السابقة.﴿ فَمَاذَا ﴾ استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلاّ وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل: ما بعد الحق إلا الضلال. وماذا: مبتدأ ركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهام. كأنه قيل: أي شىء والخبر بعد الحق.﴿ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴾ أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف يشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شىء من تلك الأوصاف.﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ ﴾ الكاف: للتشبيه في موضع نصب. الإِشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من تصرفون، أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإِقرار به في قوله: فسيقولون الله. حق العذاب عليهم، أي جازاهم مثل أفعالهم.﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ﴾ لما استفهم عن أشياء من صفات الله واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله تعالى، استفهم عن شىء هو سبب العبادة وهو إبداء الخلق وهم يسلمون ذلك لقوله:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ﴾[لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] ليقولن الله، ثم إعادة الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطف على ما يسلمونه ليعلم أنهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وأن ذلك لوضوحه وقيام برهانه قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء. وجاء الشرع بوجوبه فوجب اعتقاده، ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يجيب فقال:﴿ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بجزأيها فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام، وذلك تأكيد وتثبت ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزأيها في قوله: فسيقولون الله ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح جزأيها. ومعنى تؤفكون: تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ ﴾ الآية، لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإِبداء والإِعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية، بيّن عجزهم عن هذا النوع من صفات الإِله وهو الهداية للحق وإلى منهاج الصواب، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع فقال تعالى حكاية عن الكليم قال:﴿ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴾[طه: ٥٠]، فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع وهما حالان للجسد والروح. وقرىء: لا يهدي مخففاً مضارع هدى ويهدّي بفتح الهاء وتشديد الدال، وأصله يهتدي نقلت حركة التاء إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال. وقرىء: يهدي بكسر الهاء وتشديد الدال. وقرىء: بكسر الياء اتباعاً. بحركة الهاء وتشديد الدال يهدّي.﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ استفهام ومعناه التعجيب والإِنكار أي: أيّ شىء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم.﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ استفهام آخر، أي كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء، وهاتان جملتان: أنكر في الأولى وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي، وأنكر في الثانية حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً ﴾ الظاهر أن أكثرهم على بابه لأن منهم من تبصر في الأصنام فرفضها كما قال بعضهم: أَرَبٌ يبول الثعلبانُ برأسه   لقد هان من بالت عليه الثعالبَوالمعنى ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظناً ليسوا متبصرين ولا مستندين فيه إلى برهان إنما ذلك شىء تلقوه من آبائهم. والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئاً، أي من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع.
﴿ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن ﴾ الآية، لما تقدم قولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وكان من قولهم انه افتراه قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ ﴾، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجز مفترى. والإِشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه، وكونه جامعاً للأوصاف التي يستحيل لوجودها فيه أن يكون مفترى. والظاهر أنّ انْ يفترى هو خبر كان، أي افتراء أي ذا افتراء أو مفترى، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما الكذب والتصديق المتضمن الصدق، والذي بين يديه الكتب الإِلهية المقدمة. وانتصب تصديق على أنه خبر كان مضمرة وهو على حذف مضاف، أي ذا تصديق.﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ ام: منقطة تتقدر ببل، والهمزة تقديره بل أيقولون افتراه، والاستفهام على سبيل الإِنكار. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في البقرة.﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ﴾ أي بل كذبوا بها القرآن العظيم المنبّىء بالغيوب الذي لم تتقدم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. والكاف في موضع نصب، أي مثل ذلك التكذيب.﴿ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ ﴾ كيف: في موضع نصب خبر لكان، وأنظر معلقة، والجملة الاستفهامية مع ما بعدها في موضع نصب. قال ابن عطية: ولكيف تصرفات تحل محل المصدر الذي هو كيفية ويحتمل هذا الموضع أن يكون منها ومن تصرفاتها كقولهم: كن كيف شئت. " انتهى ". ليس كيف تحل محل المصدر ولا لفظ كيفية هو مصدر إنما ذلك نسبة إلى كيف وقوله: ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها كن كيف شئت لا يحتمل أن يكون منها لأنه لم يثبت لها هذا المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادّعاء مصدر كيفية وأمّا: كنْ كيف شئت لها هذا المعنى الذي فكيف ليست بمعنى كيفية وإنما هي شرطية، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوف التقدير كيف شئت، فكن كما تقول: قم متى شئت، فمتى: اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم، والجواب محذوف تقديره متى شئت فقم.﴿ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ الآية، الظاهر أنه اخبار بأن من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة، ومنهم من لا يؤمن به فيوافي على الكفر.﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله:﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ ﴾[الشعراء: ٢١٦].
ومعنى: ﴿ لِّي عَمَلِي ﴾ أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم. ومعنى عملي أي الصالح المشتمل على الإِيمان والطاعة.﴿ وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾ المشتمل على الشرك والعصيان. والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة وفي ضمنها الوعيد.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت الآيتان في النضر بن الحارث وغيره من المستهزئين، وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى قسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن. والضمير في يستمعون عائد على من، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله تعالى:﴿ وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ﴾[الأنبياء: ٨٢].
والمعنى من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع. ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله:﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ﴾ أي هم وان استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قول ولا قبول، ولا سيما وقد انضاف إلى الصّمم انتفاء العقل فحر بمن عدم السمع والعقل إلا أن يكون له إدراك لشىء البتة، بخلاف أن لو كان الأصم عاقلاً فإِنه بعقله يهتدي إلى أشياء. وأعاد في قوله: ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ الضمير مفرداً مذكراً على لفظ من وهو الأكثر في لسان العرب. قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ مَنْ وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر، المعنى: وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ، لأن الكلام يُلبسُ حينئذٍ. " انتهى ". ليس كما قال بل يجوز أن يراعي المعنى أولاً فيعيد الضمير على حسب ما يريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم يراعى اللفظ فيعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمعنى وأنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ من كان أعمى فإِنه يهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة وهذه مبالغة عظيمة في عدم قبول ما يلقى إلى هؤلاء إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة. وفي قوله: أفأنت تسلية له صلى الله عليه وسلم وألاّ يكترث بعدم قبولهم فإِن الهداية إنما هي لله تعالى. ولما ذكر هؤلاء الأشقياء ذكر أنه تعالى لا يظلمهم شيئاً إذ قد أزاح عللهم ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيرهم من عقابه ولكنهم ظلموا أنفسهم بالتكذيب والكفر. واحتمل هذا النفي للظلم أن يكون في الدنيا أي لا يظلمهم شيئاً من مصالحهم، واحتمل أن يكون في الآخرة وان ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم، كما قدر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل.﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ الآية، كان لم يلبثوا جملة تشبيهية في موضع نصب من الضمير المنصوب في نحشرهم التقدير مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة ويتعارفون حال ثانية، ويجوز أن يكون استئناف اخبار. وأجاز ابن عطية في كان لم يلبثوا صفة لمصدر محذوف تقديره حشراً كان لم يلبثوا، وان تكون الجملة التشبيهية في موضع صفة لقوله: يوم. " انتهى ". أما قوله: انه نعت لمصدر محذوف، فيحتاج إلى رابط فقدّره كان لم يلبثوا قبله، ومثل هذا الربط لا يجوز حذفه وأما قوله: ان الجملة في موضع الصفة ليوم نحشرهم فلا يجوز لأن الجملة التشبيهية هي نكرة ويوم نحشرهم معرفة، إذ التقدير ويوم حشرهم ولا توصف المعرفة بالنكرة.﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ أخبر عنهم بخبرين أحدهما خسرانهم معللاً بالتكذيب بلقاء الله، والثاني إخباره تعالى بانتفاء هدايتهم.﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ اما هي ان الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت ان وحدها لم يجز. " انتهى ". يعني أن دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد ان وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه فإِن سيبويه أجاز أن تقول ان تقومنّ أقم بغير زيادة ما بعد ان. ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى، أي أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب. قال الزمخشري: فإِلينا مرجعهم جواب نتوفينّك، وجواب نرينّك محذوف كأنه قيل: واما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك أو نتوفينك قبل أن نريكَه فنحن نريك في الآخرة. جعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف لأن قوله: فإِلينا مرجعهم صالح أن يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه، وأيضاً فقول الزمخشري فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح بها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله: فذاك الخبر الذي حذف المتحصل به فائدة الإِسناد، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم، فثم هنا لترتيب الاخبار لا لترتيب القصص في أنفسها.﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾ الآية، لما بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه بين حال الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم تسلية له عليه السلام وتطميناً لقلبه.﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ ﴾ الآية، الضمير في " ويقولون " عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الحشر استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد أو على سبيل الاستخفاف، ولذلك قالوا ان كنتم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شىء منه.﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ﴾ الآية، لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة أمره تعالى أن يقول لهم ليس ذلك إليّ بل إلى الله تعالى، وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فكيف أملكه لغيري وكيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله.﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ انفرد تعالى بعلمه. وتقدم الكلام على كل أمة أجل في الاعراف.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ ﴾ الآية، تقدم الكلام عليها في الانعام، وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وان المفعول الثاني اكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها مع ما قبلها مبتدأ وخبر. تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع، المعنى أخبرني عن زيد ما صنع. وقبل دخول أرأيت كان الكلام زيد ما صنع وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف والمسألة من باب الاعمال تنازع أرأيت وإن أتاكم على قوله: عذابه، فاعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين، وهو الذي ورد به السماع أكثر من اعمال الأول فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر لأن إضماره مختص بالشعر أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك والمعنى قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شىء تستعجلون منه فليس شىء من العذاب يستعجله عاقل إذ العذاب كله مر المذاق موجب لنفار الطبع منه، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم والتنبيه لهم ان العذاب لا ينبغي أن يستعجل. ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب، أي أيّ شىء شديد تستعجلون منه أي ما أشد وأهول ما تستعجلون من العذاب. وتقدم الكلام في قوله: بياتاً، في الاعراف مدلولاً وإعراباً وانتصابه وما بعده على الظرف، والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون اما بنوم واما باشتغال بالمعاش والكسب وهو نظير قوله: بغتة، لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيّىءَ لحلوله ويجوز في ماذا أن تكون ما مبتدأ وذا خبره، وهو بمعنى الذي. ويستعجل صلته وحذف الضمير العائد على الموصول التقرير، أي شيء الذي يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولاً كانه قيل: أي شىء يستعجله من العذاب المجرمون. قال الزمخشري: فإِن قلت: يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق بأرأيتم، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف وهو يندموا على الاستعجال ويعرفوا الخطأ فيه. " انتهى ". وما قدره الزمخشري غير سائغ لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول: أنت ظالم إن فعلت التقدير إن فعلت فأنت ظالم، وكذلك وانّا إن شاء الله لمهتدون التقدير إن شاء الله نَهتدِ، فالذي يسوغ ان يقدر إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ماذا يستعجل جواباً للشرط كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني، ثم تتعلق الجملة بأرأيتم وان يكون اثم إذا ما وقع آمنتم به من بعد جواب الشرط وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً، والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإِيمان." انتهى ". اما تجويزه أن يكون ماذا جواباً للشرط فلا يصح لأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء، تقول: ان زارنا زيد فأي رجل هو وإن زارنا فلان فأي يدله بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة. والمثال الذي ذكره وهو ان أتيتك ماذا تطعمني هو من قبله لا من كلام العرب. وأما قوله: تتعلق الجملة بأرأيتم إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبروني. وأخبرني يطلب متعلقاً مفعولاً ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني، وأما تجويزه ان يكون إثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً، فلا يصح أيضاً لما ذكرناه من أن جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاء الجواب، وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها فالجملة الاستفهامية معطوفة وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط، وأيضاً أفأرأيتم بمعنى أخبرني يحتاج إلى مفعول ولا تقع جملة الشرط موقعه. والظاهر عود الضمير في منه على العذاب وبه يحصل الربط بجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل. وقيل: يعود على الله تعالى، والمجرمون هم المخاطبون في قوله: أرأيتم إن أتاكم. ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإِجرام لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ويهلك نزعاً من مجيئه وإن أبطأ فكيف يستعجله. وثم: حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو. والفاء في أفلم يسيروا وفي أو لم يسيروا وتقدم الكلام على ذلك. قال الطبري في قوله: اثم بضم الثاء أن معناه أهنالك. قال: وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف. " انتهى ". وما قاله من أن ثم ليست للعطف دعوى، وأما قوله: ان المعنى أهنالك فالذي ينبغي أن يكون ذلك تفسير معنى لا ان ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك، وفاعل وقع ضمير يعود على العذاب، وقرىء الآن على الاستفهام بالمد. وقرىء: بهمزة الاستفهام بغير مدّ وهو اضمار القول، أي قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذاب: الآن آمنتم به. فالناصب لقوله: الآن هو آمنتم وهو محذوف.﴿ وَقَدْ كُنتُم ﴾ جملة حالية لأن استعجالهم بالعذاب تكذيب لوقوعه.﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أي يقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام. والظلم: ظلم الكفر. ثم قيل: هذا من عطف الجمل وهو استئناف أخبار عما يقال لهم يوم القيامة.﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ أي يستخبرونك، وأصلها ان تتعدى الى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر تقول: استنبأت زيداً عن عمر وأي طلبت منه أن يخبرني عن عمرو، فاستفعل هنا للطلب والمفعول الأول كاف للخطاب والمفعول الثاني الجملة من قوله: أحق، هو على سبيل التعليق. وحق يجوز أن يكون خبراً مقدماً وهو مبتدأ ويجوز أن يكون مبتدأ وهو الخبر. قال ابن عطية: وقيل هي بمعنى يستعلمونك قال فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الكاف والابتداء والخبر سدا مسد المفعولين. " انتهى ". ليس كما ذكر لأن استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة لا يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً، فيكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أن تتعدى إلى ثلاثة لأن استعلم لا يتعدى إلى ثلاثة كما ذكرنا، والضمير في هو عائد على العذاب.﴿ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ ﴾ أمره تعالى أن يقول لهم مجيباً إيْ وربي وإيْ هي من حروف الجواب بمعنى نعم، ولا تستعمل إلا مع القسم.﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ قال الزمخشري: وسمعتم يقولون في التصديق، إي ويصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده. " انتهى ". لا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجة في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة.﴿ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي فائتين.﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ﴾ الآية، ذكرت بعض أحوال الظالمين في الآخرة، وظلمت صفة لنفس. والظلم هنا الشرك والكفر. وافتدي يأتي مطاوعاً لفدى فلا يتعدى، تقول: فديته فافتدي وبمعنى فدى فيتعدى. وهنا يحتمل الوجهين وما في الأرض، أي ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع وأسروا من الأضداد، فأتي بمعنى أظهروا وبمعنى أخفوا.﴿ أَلاۤ إِنَّ للَّهِ ﴾ الآية قيل: تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة انه فرض ان النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لا فتدت به وهي لا شىء لها البتة، لأن جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك الله تعالى.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ ﴾ الآية، الخطاب بيا أيها الناس عام، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو القرآن، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن.﴿ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ فضل الله الإِسلام والرحمة: القرآن، قاله ابن عباس. وقيل غير ذلك. والظاهر أن قوله: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا جملتان وحذف ما يتعلق به الباء، والتقدير قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد. قال الزمخشري: والتكرير للتأكيد وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف إحدى الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة بمعنى الشرط كأنه قيل: ان فرحوا لشىء فليخصوهما بالفرح فإِنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، ويجوز أن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا. " انتهى ". أما إضمار فليعتنوا فلا دليل عليه واما تعليقه بقوله: قد جاءتكم، فينبغي ان يقدر ذلك محذوفاً بعد قل ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل.﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر تعالى قل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ ﴾.
وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى الوحي. وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني، وتقدم انها تتعدى لمفعولين فالأول هنا ما من قوله: ما أنزل، وهي موصولة وصلتها انزل، والضمير محذوف تقديره انزله ومن رزق تبيين لما انبهم من لفظ ما، وفجعلتم معطوف على انزل، والمفعول الثاني محذوف تقديره آلله اذن لكم وهي جملة استفهام دل على حذفها قوله: بعد أمر الله تعالى له، قيل آلله أذن لكم. وأم الظاهر أنها متصلة والمعنى أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم فانتم تفعلون ذلك بإِذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه، فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين وهم لا يمكنهم ادّعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم.﴿ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ ﴾ الآية، ما: استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى أي شىء ظن المفترين يوم القيامة أبهم الأمر على سبيل التهديد والإِيعاد يوم يكون الجزاء بالإِحسان والإِساءة. ويوم: منصوب بظن ومفعول الظن، قيل: تقديره ما ظنهم ان الله فاعل بهم أينجيهم أم يعذبهم.﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ومحاولة الرسول لهم، ذكر فضله تعالى على الناس وان أثرهم لا يشكره على فضله، وذكر اطلاعه تعالى على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم وتلاوة القرآن عليهم وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن. والخطاب في قوله: وما تكون في شأن، وما تتلوا للرسول وهو عام لجميع شؤونه صلى الله عليه وسلم.﴿ وَمَا تَتْلُواْ ﴾ مندرج تحت عموم شأن واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن، وما: في الجملتين نافية، والضمير في " منه " عائد على شأن. و ﴿ مِن قُرْآنٍ ﴾ تفسير للضمير من العموم لأن القرآن هو أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم. والخطاب في قوله: ﴿ وَلاَ تَعْمَلُونَ ﴾ عام. وكذا: ﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾ وَوَليَ إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد لأنه قد تقدم إلا فعل، والجملة بعد إلاّ حال وشهوداً رُقَبَاء نحصي عليكم، وإذ: معمولة لقوله شهوداً. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وينسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً وكان المعنى وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي. ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله:﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ ﴾ تشريفاً له وتعظيماً ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض التي هي محل المخاطبين على السماء بخلاف ما في سورة سبأ، وان كان الأكثر تقديمها على الأرض. وقرىء: يعزب بكسر الزاي وكذا في سبأ. والمثقال اسم لا صفة، ومعناه هنا وزن ذرة. والذر: صغار النمل، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثلاً لأقل الأشياء وأحقرها إذْ هي أحقر ما يشاهد. ثم قال: ﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ ﴾ أي من مثقال ذرة ولما ذكر أنه لا يعزب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهده ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ثم أتى بقوله: ولا أكبر، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء. ومعلوم أن من علم أَدَق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقاً بأكبر الأشياء وأظهرها. وقرىء: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما أو وجه على أنه عطف على موضع ذرة، أو على مثقال على اللفظ. وقرىء: برفع الراء فيهما. ووجّه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب. وقال الزمخشري: تابعاً لاختيار الزجاج والوجه النصب على نفي الجنس والرفع على الابتداء يكون كلاماً مبتدأ، وفي العطف على محل مثقال ذرة أو لفظة فتحاً في موضع الجر اشكال لأن قوله: لا يعزب عنه شىء إلا في كتاب مشكل. " انتهى ". وإنما أشكل عنده لأن التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب وهذا كلام لا يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره لكن هو في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الاشكال.
﴿ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وعن سعيد بن جبير" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سئل عن أولياء الله فقال: هم الذين يذكرون الله برؤيتهم "، يعني السمْت والهيئة. وهذه الآية يدل ظاهرها على أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله هذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وإنما نبّهنا هذا التنبيه حذراً من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له، وبشراهم في الآخرة تلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحف بإِِيمانهم، وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات.﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي لا تغيير لأقواله ولا خلف في مواعيده كقوله تعالى:﴿ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾[ق: ٢٩].
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ اما أن يكون قولهم أريد به بعض افراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون من إطلاق العام وإرادة الخاص، وإما أن يكون مما حذفت منه الصفحة المخصصة، ان قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك. ثم استأنف بقوله: ﴿ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ أي لا عزة لهم ولا منفعة فهم لا يقدرون لك على شىء ولا يؤذونك، ان الغلبة والقهر لله تعالى وهو القادر على الانتقام منهم فلا يعازّه شىء ولا يغالبه.﴿ أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكر أن العزة له تعالى وهو القهر والغلبة، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات له تعالى. ومن الأصل فيها ان تكون للعقلاء وهي هنا شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا يعقل. والظاهر أن ما: نافية. وشركاء: مفعول يتبع، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره آلهة أو شركاء، أي أن الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة إذ الشركة في الألوهية مستحيلة وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء، وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع وشركاء منصوب بيدعون، أي وأيّ شىء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل: من يدعو شريكاً لله لا يتبع شيئاً، ومعنى يخرصون أي يحزرون ويقدرون.﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ ﴾ هذا تنبيه منه تعالى على عظم قدرته وشمول نعمته لعباده فهو المستحق بأن يفرد بالعبادة.﴿ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ أي مما تقاسون من الحركة والتردد في طلب المعاش وغيره بالنهار، وأضاف الابصار إلى النهار مجازاً لأن الابصار يقع فيه كما قال: وتمت وما ليل المطى بنائم، أي يبصرون فيه مطالب معايشهم وقال: قطرب، يقال: أظلم الليل صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر." انتهى ". وذكر علة خلق الليل وهي لتسكنوا فيه وحذفها من النهار، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل، وكل من المحذوف يدل على مقابلة والتقدير جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة. ومعنى يسمعون سماع معتبر.﴿ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً ﴾ الآية، الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله تعالى الولد ممن قال الملائكة بنات الله وغير ذلك، وسبحانه تنزيهه عن اتخاذ الولد وتعجيب ممن يقول ذلك.﴿ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾ علة لنفي الولد لأن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شىء فالولد منتف عنه وكل ما في السماوات والأرض ملكه تعالى فهو غني عن اتخاذ الولد. وان: نافية، والسلطان الحجة أي ما عندكم من حجة بهذا القول.
﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ﴾ لما ذكر الدلائل على وحدانيته وذكر ما جرى بين الرسول عليه السلام وبين الكفار، ذكر قصصاً من قصص الأنبياء وما جرى لهم مع قومهم من الخلاف، وذلك تسلية له عليه السلام وليتأسى بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام. والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم وكبر معناه عظم مقامي أي طول مقامي فيكم أو قيامي للوعظ. قال ابن عطية: ولم يقرأ هنا بضم الميم. " انتهى ". وليس كما قال بل قرأ بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء. والمقام: الإِقامة بالمكان. والمقام: مكان القيام. وجواب الشرط.﴿ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ فلا أبالي منكم. وقرىء: فاجمعوا من أجمع الرجل الشىء عزم عليه ونواه. قال الشاعر: أجمعوا أمرهم بليل فلما   أصبحوا أصبحت لهم ضوضاءوقرىء: فأجمعوا أمر من جمع وشركاؤكم معطوف على أمركم، وهو على حذف مضاف تقديره وأمر شركائكم. ومعنى اقضوا إلى أنفذوا قضاءكم نحوي، ومفعول اقضوا محذوف، أي اقضوا إلى ذلك الأمر وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم.﴿ وَلاَ تُنظِرُونَ ﴾ أي لا تؤخرون، والنظرة: التأخير.﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي فإِن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم لم أسألكم عليه أجراً، إنما يثيبني عليه الله تعالى.﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ أي فنموا على تكذيبه، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان. وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه، أو بنجيناه وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من. و ﴿ خَلاَئِفَ ﴾ يخلفون الفارقين المهلكين ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب، وإلى ما صار إليه حالهم، وفي هذا الاخبار توعد الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالكم كحالهم في التعذيب.﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً ﴾ أي من بعد نوح.﴿ إِلَىٰ قَوْمِهِمْ ﴾ يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإبراهيم وشعيباً. والبينات: المعجزات والبراهين الواضحة المثبتة لما جاؤا به. وجاء النفي مصحوباً بلام الجحود، ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون ما مصدرية. والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى ان لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل، أي من قبل سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل قوله كذلك نطبع. " انتهى ". الظاهر ان ما موصولة ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: بما كذبوا به ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور فيحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. والضمير في كذبوا عائد على ما عاد عليه ضمير كانوا، وهم قوم الرسل، والمعنى أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق فتساوت حالاتهم قبل البعثة وبعدها كان لم يبعث إليهم أحد، ومن قبل متعلق بكذبوا أي من قبل بعثة الرسل.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ ﴾ الآية لا يخص قوله: وملائه بالاشراف بل هي عامة لقوم فرعون شريفهم ومشروفهم.﴿ فَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ تعاظموا عن قبولها. والحق: هو العصا واليد.﴿ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ ﴾ استفهام إنكار ومعمول القول محذوف تقديره هذا سحر ثم أنكر عليهم أيضاً باستفهام ثان وهو قوله: أسحر هذا، أي أسحر هذا الذي جئت به من معجز العصا واليد، ثم أخبر عليه السلام بقوله:﴿ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ * قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا ﴾ خطاب لموسى وحده لأنه هو الذي ظهرت على يديه المعجزات وهي العصا واليد.﴿ لِتَلْفِتَنَا ﴾ لتصرفنا وتلوينا.﴿ عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ من عبادة غير الله واتخاذ آلهة دونه والكبرياء مصدر، ولما ادعوا أن ما جاء به موسى عليه السلام هو سحر أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ليظهر لسائر الناس أن ما جاء به موسى هو من باب السحر. والمخاطب بقوله: ائتوني، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه. وقرىء: بكل سحار على المبالغة. وقرىء: بكل ساحر على الافراد. وفي قوله: ألقوا ما أنتم ملقون، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم وفي إبهام ما أنتم ملقون تخسيس له وتقليل وإعلام أنه لا شىء يلتفت إليه. وقرىء: السحر بغير أداة استفهام فما مبتدأة موصولة بمعنى الذي وصلتها جئتم به، وخبر المبتدأ السحر بالاستفهام، فما استفهامية مبتدأة تقديره أي شىء، وجئتم به الخبر، والسحر بدل من ما. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويكون استفهاماً ثانياً تقديره أهو السحر. قال ابن عطية: والتعريف هنا في السحر ارتب لأنه قد تقدم منكراً في قوله: إن هذا لسحر، فجاء هنا بلام العهد كما يقال: إن أول الرسالة سلام عليك، وفي آخرها السلام عليك. " انتهى ". أخذ هذا من الفراء قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع له في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكره له. " انتهى ". وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأن شرط هذا أن يكون المعرف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ولا يكون غيره كما قال تعالى:﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ ﴾[المزمل: ١٥-١٦].
وتقول: زارني رجل فأكرمت الرجل ولما كان إياها جاز أن تأتي بالضمير بدله فتقول: فأكرمته. والسحر هنا ليس هو السحر الذي في قولهم: ان هذا السحر، أي ان الذي أخبر ذا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به فقد اختلف المدْلولان إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عما جاؤا به، ولذلك لا يجوز أن يؤتى هنا بالضمير بدل السحر فيكون عائداً على قولهم لسحر وسيبطله بمحقه بحيث يذهب ويظهر بطلانه بإِظهار المعجزة على الشَعْوَذة.
﴿ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ ﴾ الآية، الظاهر في الفاء من حيث أن مدلولها التعقيب ان هذا الإِيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإِلقاء. والظاهر أن الضمير في " قومه " عائد على موسى وأنه لا يعود على فرعون، لأن موسى عليه السلام هو المحدث عنه في هذه الآية وهو أقرب مذكور، ولأنه لو كان عائداً على فرعون لم يظهر لفظ فرعون وكان التركيب على خوف منه ومن ملامهم أن يفتنهم، وهذا الإِيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم كان أولاً دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون واجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون.﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً ﴾ الظاهر أنهم سألوا الله أن لا يفتنوا عن دينهم وأن يخلصوا من الكفار فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم، وأخروا سلامة أنفسهم إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الابدان.﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ ﴾ الآية، أنْ يجوز أن تكون تفسيرية بمعنى " أي "، وأن تكون مصدرية.﴿ وتبوءاً ﴾ فعل أمر، أي اتخذا مباءة وهو المكان الذي يرجع الإِنسان إليه. والظاهر اتخاذ البيوت بمصر، وهي مصر المعروفة وهي من البحر إلى أسوان والاسكندرية منها.﴿ وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ أي قبل القبلة، ثم سبق الخطاب عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيماً له وللمبشر به.﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً ﴾ الآية، الزينة: عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. وفي تكرار " ربنا " توعد للدعاء والاستعانة. واللام في " ليضلوا " الظاهر أنها لام كي على معنى آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإِيتاء لكي يضلوا. ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، كقوله:﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾[القصص: ٨].
وكما قال الشاعر: وللمنايا تربى كل مرضعة   وللخراب يجد الناس عمراناً﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ ﴾ قال ابن عباس: صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً واثلاثاً وإنصافاً، ولم يبق لهم معدن إلاّ طمس الله عليه، فلم ينتفع به أحد بعد.﴿ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾ قال ابن عباس: طبع عليها وامنعها من الإِيمان.﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ منصوب على أنه جواب اشدد. والأمر وجوابه ينعقد منهما شرط وجزاء. وتقدير ذلك هنا ان تشدد لا يؤمنوا.﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ﴾ الآية، قال محمد بن كعب: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يُؤمّن فنسبت الدعوة إليهما. ويمكن أن يكونا دعوا معاً ثم أمرا بالاستقامة. والمعنى الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله وإلزام حجته. والذين لا يعلمون فرعون وقومه، قاله ابن عباس.
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ ﴾ تقدم الكلام على الباء من قوله: ببني إسرائيل، وكم كان الذين جاوزوا مع موسى عليه السلام في الاعراف.﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ ﴾ واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر. روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر ووجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه: إنما انفرق بأمري. وكان فرعون على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل على فرس انثى وتدنوا فدخل بها البحر وولج فرس فرعون وراءه وجنب الجيوش خلفه، فلما رأى ان الانفراق قد ثبت واستمر له وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم. ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات: اما على سبيل التلعثم، إذ ذاك مقام تحار فيه القلوب. أو حرصاً على القبول، ولم يقبل الله تعالى منه إذ فاته وقت القبول، وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف والتوبة بعد المعاينة لا تنفع، ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾[غافر: ٨٥].
وتقدم الخلاف في قوله تعالى:﴿ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾[يونس: ٥١].
في هذه السورة. والمعنى أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك. قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق.﴿ فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾ أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. وببدنك: بدرعك، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له، قاله ابن عباس. والبدن: بدن الإِنسان. والبدن: الدرع القصيرة قال: ترى الأبدان فيها مسبغات   على الابطال والكلب الحصينايعني: الدروع. وقيل: نلقيك ببدنك عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح، وذلك أبلغ في إهانته.﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ الظاهر ان بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى عليه السلام ونجوا من الغرق. وسياق الآيات ليشهد لهم. وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا، كقوله:﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً ﴾[العنكبوت: ٥٨].
أو على المصدر. ومعنى صدق، أي فضل وكرامة، ولما ذكر أنه بوأهم مبوأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي المآكل المستلذات، أو الحلال.﴿ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ ﴾ أي كانوا على ملة واحدة. وطريقة موسى عليه السلام في أول حاله.﴿ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ ﴾ أي علم التوراة فاختلفوا، وهذا ذم لهم، أي أن سبب الاتفاق هو الظلم فصار عندهم سبب الاختلاف فتشعبوا شعباً بعدما قرأوا التوراة.﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ﴾ الظاهر أنّ انْ شرطية تقتضي تعليق شىء على شىء ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً، كقوله تعالى:﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ ﴾[الزخرف: ٨١].
ويستحيل أن يكون له ولد. فكذلك هذا يستحيل أن يكون عليه السلام في شك. وهذه الآية من ذلك. وقيل: ان نافية. وقيل: الخطاب لغير الرسول عليه السلام. وقيل: معنى في شك: في ضيق. ولا يراد به حقيقة الشك وهو تساوي الجائزين. وروي عنه عليه السلام أنه قال: لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق. فتكون منصوب بإِضمار انْ بعد الفاء وهو جواب النهي قبله.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ لما ذكر تعالى عباداً قضى عليهم بالشقاوة فلا يتغير، والكلمة التي حقت عليهم هي اللعنة والغضب.﴿ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ ﴾ هو في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمانهم.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ﴾ الآية، لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ، وكثيراً ما جاءت في القرآن للتحضيض فهي بمعنى هلا. والتحضيض: ان يريد الإِنسان فعل الشىء الذي يحض عليه وإذا كانت للتوبيخ، فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشىء، وهنا وبّخهم على ترك الإِيمان النافع. والمعنى: فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم، فيكون الإِيمان نافعاً لهم في هذه الحال. و ﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ استثناء منقطع إذ لم يندرج قوم يونس في قوله: قرية، وإلى الانقطاع فيه ذهب سيبويه والفراء والأخفش. وقيل: هو استثناء متصل لأن التحضيض إنما يكون على شىء لم يقع فيضمن معنى النفي. وصار المعنى لم تكن قرية يعني أهلها آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس. وهم أهل نينوى من بلاد الموصل كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم يونس عليه السلام فأقاموا على تكذيبه سبع سنين وتوعدهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام، وقيل: بعد أربعين يوماً.﴿ إِلَىٰ حِينٍ ﴾ أي إلى وقت انقضاء آجالهم.﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾ قيل: انزلت في أبي طالب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسف لموته على ملة عبد المطلب وكان حريصاً على إيمانه، وكان أحرص الناس على هداية من في الأرض.﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ ﴾ تقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل لكن من غير ذلك الاسم، فللَّه ان يكره الناس على الإِيمان لو شاء، وليس ذلك لغيره. وقرىء: ﴿ ونجعل ﴾ بنون المتكلم. ويجعل بياء الغيبة.﴿ قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته وفي العالم العلوي في حركات الافلاك ومقاديرها وأوضاعها. والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان، وخصوصاً حال الإِنسان. وكثيراً ما ذكر الله في كتابه الحض على التفكر في مخلوقاته تعالى وقال: ماذا في السماوات والأرض، تنبيهاً على القاعدة الكلية. والعاقل يتنبّه لتفاصيلها وأقسامها، ثم لما أمر الله تعالى بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات. والنذر: جمع نذير، أما مصدر فمعناه الإِنذارات، وأما بمعنى منذر، فمعناه المنذرون والرسل. وما: الظاهر أنها للنفي ويجوز أن تكون استفهاماً، أي وأيّ شىء تغني الآيات وهي الدلائل وهو استفهام على جهة التقرير. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما في قوله: وما تغني مفعوله لقوله: انظروا، معطوفة على قوله: ماذا، أي تأملوا قدر غنى الآيات والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك كفعل قوم يونس فإِنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة، وينجي من المهلكات فالآية على هذا تحريض على الإِيمان. ويجوز اللفظ على هذا التأويل إنما هو قوله: لا يؤمنون. " انتهى ". هذا احتمال فيه ضعف. وفي قوله: مفعولة معطوفة على ماذا تجوز، يعني أن الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السماوات في موضع المفعول، لا ان ماذا وحده منصوب بانظروا، فتكون " ماذا " موصولة. و " انظروا " بصريةٍ، لما تقدم. وفي الآية توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين.﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا ﴾ لما تقدم قوله: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم وكان ذلك مشعراً بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحاً بهلاكهم في غير ما آية، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال: ثم ننجي رسلنا، والمعنى ان الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين. والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره مثل ذلك الإِنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ننجي من آمن بك يا محمد، ويكون " حقاً " على تقدير حق ذلك حقاً.
﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ الآية، خطاب لأهل مكة يقول: إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبيّنه لكم فبدأ أولاً بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهاً لآرائهم، وأثبت ثانياً من الذي نعبده وهو الله الذي يتوفاكم. وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي دلالة على البدء وهو الخلق وعلى الإِعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم، وكثيراً ما صرح بهذه الأطوار الثلاثة. وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت، وإرهاب النفوس به، وصيرورتهم إلى الله تعالى بعده، فهو الجدير بأن يخاف ويتقى ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها.﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ لما ذكر أنه يعبد الله وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له المفرد له بالعبادة فانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر.﴿ وَأَنْ أَقِمْ ﴾ يحتمل أن تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعي فيها المعنى لأن معنى قوله: ان أكون، كنْ من المؤمنين، فتكون ان مصدرية صلتها الأمر. والوجه هنا المنحَى والمقصد أي استقم للدين ولا تحد عنه. وحنيفاً حال من الضمير في أقم أو من المفعول.﴿ فَإِن فَعَلْتَ ﴾ كني بالفعل عن الدعاء مجازاً، أي فإِن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك. وجواب الشرط فإِنك، وخبرها وتوسطت إذَنْ بين اسم ان والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكن روعي في ذلك الفاصلة.﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ ﴾ الآية، أتي في الضر بلفظ المس. وفي الخير بلفظ الإِرادة. وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية، لأن مقابل الضر النفع، ومقابل الخير الشر، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر. وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع. ولفظة المس أوجز من لفظة الإِرادة. وأنص على الإِصابة وأنسب لقوله: ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾.
ولفظ الإِرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير وإن كان المس والإرادة معناهما الإِصابة. وجاء جواب وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب. وجاء جواب ﴿ وَإِن يُرِدْكَ ﴾ بنفي عام لأن ما أراده لا يردّه رادٌّ لا هو ولا غيره.﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ الآية، الحق: القرآن والرسول ودين الإِسلام. والمعنى: فإِنما ثواب هدايته حاصل له ووبال ضلاله عليه والهداية والضلال واقعان بإِرادة الله تعالى. روي أنه" لما نزلت: واصبر، جمع صلى الله عليه وسلم الأنصار قال: إنكم ستجدون بعدي اثرة فاصبروا حتى تلقوني ".
Icon