تفسير سورة يونس

تفسير المنار
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة يونس
السورة العاشرة في المصحف وآياتها ١٠٩ عند الجمهور وعند الشامي ١١٠
هي مكية، نزلت بعد سورة الإسراء ( بني إسرائيل )، وقبل سورة هود. وما رواه ابن مردويه من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس من كونها مدنية غلط مخالف للروايات الكثيرة عنه وعن غيره ؛ بل للإجماع الذي يؤيده موضوع السورة من أولها إلى آخرها، فهو يدور على إثبات أصول التوحيد، وهدم الشرك، وإثبات الرسالة، والبعث الجزاء، ودفع الشبهات عنها، وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين الأصلية التي هي موضوع السور المكية، وعثمان بن عطاء ضعيف متروك لا يحتج بروايته فيما يحتمل الصواب، فكيف ينظر إليها في مثل هذه المسألة، ولكن الرواة لم يتركوا متردما.
وقال السيوطي في الاتقان : استثني منها ﴿ فإن كنت في شك ﴾ اٍلآيتين ٩٤ و ٩٥ وقوله :﴿ ومنهم من يؤمن به ﴾ [ يونس : ٤٠ ] الآية. قيل : نزلت في اليهود، وقيل : من أولها إلى رأس أربعين مكي، والباقي مدني. حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء اه.
وأقول : إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية، وهو مما لم نثبت به رواية. وكون المراد بالذين يقرؤون الكتاب في الآية ٩٤ اليهود لا يقتضي أن تكون نزلت في المدينة. وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن المراد بالشرطية فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" لا أشك ولا أسأل "، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري كما سيأتي في تفسيرها.
وثانيهما : أن هذا المعنى نزل في سور مكية أخرى كقوله تعالى :﴿ فاسألوا بني إسرائيل إذ جاءهم ﴾ [ الإسراء : ١٠١ ]، وقوله في سورتي النحل والأنبياء :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ [ النحل : ٤٣ ]، ووجه مناسبتها لما قبلها أن تلك ختمت بذكر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه افتتحت بها، وأن جل تلك في بيان أحوال المنافقين، ومنه ما كانوا يقولونه، وما كانوا يفعلونه عند نزول القرآن كالآيات ١٢٤١٢٧، وهذه في أحوال الكفار، ومنها ما كانوا يقولونه في القرآن كالآيات ١٥ و ١٦ و ١٧ و ٣٧ و ٤٠.
واعلم أن التناسب الذي يوجد بين السور ليس سببا في هذا الترتيب الذي بينها، فرب سورتين بينهما أقوى التناسب في موضوع الآيات ومسائلها يفصل بينهما تارة، ويجمع أخرى، فمِن الأول الفصل بين سورتي الهمزة واللهب وموضوعهما واحد، والفصل بين السورالمبدوءة بالتسبيح بسورة المنافقين. ويقابلها من الوجه الثاني الوصل بين سور الطواسين وسور آل حاميم، وبين سورتي المرسلات والنبأ وسورتي التكوير والانفطار، وربما يقال : إن التناسب بين أكثر السور المكية أقوى منه بينها و بين السور المدنية، ومن حكمة الفصل بين القوية التناسب في المعاني كالمكية -التي موضوع أكثرها العقائد، والأصول العامة، والزواجر الصادعة- والمدنية -التي موضوع أكثرها الأحكام العملية- أنه أدنى إلى تنشيط تالي القرآن بالترتيب، وأنأى به عن الملل، وأدعى له إلى التدبر، فهذه الحكمة تشبه حكمة تفريق مقاصد القرآن في السورة الواحدة من عقائد وقواعد، وأحكام عملية، وحكم أدبية، وترغيب وترهيب، وبشارات ونذر، وأمثال وقصص، والعمدة في كل ذلك التوقيف والاتباع.
وها أنذا أشرع في تفسير السورة ملتزما فيها القصد والاختصار في كل ما سبق له بيان مفصل في تفسير السور السابقة، ولاسيما السورتين المكيتين من السور الطول : الأنعام والأعراف، وإنما أبسط القول فيما لم أبسطه فيه تمام البسط من قبل، وأهمه في هذه السورة مسألة الوحي.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ١ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ٢ ﴾
﴿ الر ﴾ تقرأ هذه الحروف الثلاث بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا : ألف، لام، را. والحرف الأخير غير مهموز. وفائدة النطق بها وبأمثالها هكذا تنبيه الذين تتلى عليهم السورة لما بعدها ؛ لأجل العناية بفهمه، حتى لا يفوتهم من سماعه شيء. وهي أقوى في هذا التنبيه من حرف الهاء الموضوع له في اسم الإشارة، ومن كلمة " ألا " الافتتاحية، وقد فصلنا هذه المسألة في أول تفسير سورة الأعراف ١.
﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ أي تلك الآيات البعيدة الشأو، الرفيعة الشأن، التي تألفت منها هذه السورة، أو القرآن كله. هي آيات الكتاب الموصوف بالحكمة في معانيه، والإحكام في مبانيه، الحقيق بهداية متدبره وواعيه.
١ زعم بعض ملاحدة مصر أن هذه الأحرف كانت تكتب في بعض مصاحف الصحابة رمزا لأصحابها فأدخلت في القرآن عند كتابة المصاحف الرسمية ظنا أنها من السور. وفي هذا الزعم أكبر جرأة على الافتراء والافتجار ورد النقل المتواتر بدون أدنى شبهة غير وسوسة الشيطان، وعداوة الرحمن (المؤلف)..
﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ﴾ الاستفهام للتعجيب، من عجب الكفار واستنكار إنكارهم للوحي إلى رجل من جنسهم. والوحي الإعلام الخفي الخاص لامرئ بما يخفى على غيره، أي أكان إيحاؤنا إلى رجل من الناس أمرا نكرا اتخذوه أعجوبة بينهم يتفكهون باستغرابها ؟ كأن مشاركتهم له في البشرية يمنع اختصاص الله إياه بما شاء من العلم. والمراد بالناس كفار مكة ومن تبعهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنهم بالناس لأن هذه الشبهة على الرسالة قد سبقتهم إليها أقوام الأنبياء قبله، كما تقدم في قصة نوح وهود من سورة الأعراف ﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ﴾ [ الأعراف : ٦٢، ٦٨ ]، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقد دحضنا هذه الشبهة في آخر تفسير سورة الأنعام.
﴿ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ﴾ " أن " هذه مفسِّرَة لما قبلها، والإنذار الإعلام بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين المقترن بالتخويف من عاقبة الكفر والمعاصي، أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس.
﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ التبشير مقابل الإنذار، أي الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء على الإيمان والعمل الصالح. والمعنى وبشر الذين آمنوا منهم خاصة بأن لهم قدم صدق عند ربهم يجزيهم به في الآخرة. والصدق في أصل اللغة ضد الكذب، ثم أطلق على الإيمان وصدق النية والوفاء وسائر مواقف الفضائل، ومنه في التنزيل : مقعد صدق، ومدخل صدق، ومخرج صدق، وقدم صدق. والقدم ههنا السابقة والتقدم. قال البيضاوي : سابقة ومنزلة رفيعة، سميت قدما لأن السبق بها، كما سميت النعمة يدا ؛ لأنها تعطى باليد، وإضافتها إلى الصدق لتحققها، والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية.
﴿ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ﴾ قرأ ابن كثير والكوفيون " لساحر " يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، والباقون " لسحر " ويعنون به القرآن، وكل من القولين قد قالوا، وكل من القولين يشير إلى إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم. فإن قولهم : إن القرآن سحر جاء به ساحر يتضمن اعترافهم بأنهما فوق المعهود والمعلوم للبشر في عالم الأسباب المقدورة لهم. وتأكيد قولهم بالجملة الاسمية و( إن ) واللام وبوصف السحر أو الساحر بالمبين الظاهر يفيد الحصر، كقول الوليد ﴿ إن هذا إلا سحر مؤثر ﴾ [ المدثر : ٢٤ ] يعنى القرآن. وسموه سحرا لأنه خارق للعادة بقوة تأثيره في القلوب، وجذبه للنفوس إلى الإيمان، وحملها على احتقار الحياة ولذاتها في سبيل الله، حتى إنه يفرق بين المرء و أخيه، وأمه وأبيه، وزوجه وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، وتمنعه وتحميه. وإنما السحر ما كان بأسباب خفية خاصة ببعض الناس يتعلمها بعضهم من بعض، وهي إما حيل وشعوذة، وإما خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير، وإما تأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة، وكلها من الأمور المشتركة بين الكثيرين من العارفين بها، وقد استبان لعامة العرب ثم لغيرهم من شعوب العجم أن القرآن ليس بسحر يؤثر بالتعليم والصناعة، بل هو مجموعة علوم عالية في العقائد والآداب والتشريع ولاجتماع مرقية للعقول، مزكية للأنفس، مصلحة للناس، وأنه معجز للبشر في أسلوبه ونظمه ومعانيه وهدايته وتشريعه وإخباره بالغيب، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم مبلغ له، ولم يكن ليقدر على شيء منه، وقد عجز عنه غيره، فثبت أنه نبي الله ورسوله، وأن ما جاء به وحي منه تعالى.
وقد بينا حقيقة الوحي لغة وشرعا، وإثباته لنبينا صلى الله عليه وسلم في مواضع : منها ما في بحث دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو في ( ج ١ تفسير )، ومنها تفسير ﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ﴾ [ النساء : ١٦٣ ] الآية، وهو في ( ج ٦ تفسير )، ومنها رد شبهات الكفار عليه في سورة الأنعام ( ج ٧ تفسير )، ومنها في خلاصتها ( ج ٨ )، ومنها تحقيق القول في مسألة الكلام الإلهي بمناسبة تكليم الله لموسى عليه السلام ( ج ٩ )، وبقي علينا بسط القول في نبوة محمد مع مثبتي الوحي ونفاته، وشبهة النفاة لعالم الغيب عليها، وتصويرهم للوحي إليه بغير صورته، فنعقد له الفصل التالي :

فصل في إقامة الحجج


على مثبتي الوحي ونفاته في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
الكلام في الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم مع مثبتي الوحي.
أما الفريق الأول فهم أهل الكتاب، وأن من اطلع على كتبهم المقدسة المعبر عنها بكتب العهدين العتيق والجديد وعلى القرآن وكتب السنة والسيرة المحمدية علم علما عقليا وجدانيا أنه لا يستطيع أحد أن يؤمن إيمانا علميا بأن تلك الكتب وحي من الله، وأن الذين كتبوها أنبياء معصومون فيما كتبوه، ثم لا يؤمن بأن القرآن وحي من الله وأن محمدا نبي معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، كما لا يستطيع فقيه أن ينكر فقه أبي حنيفة والشافعي، ولا نحوي أي يجحد نحو سيبويه وابن جني، ولا شاعر أن ينفي شاعرية الرضي والبحتري، بل كما لا يستطيع بصير أن يكابر حسه فيفضل نور القمر والكوكب على ضوء الشمس، أو نور السراج على نور النهار، ولله در البوصيري حيث قال :
الله أكبر إن دين محمد ***وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده***طلع الصباح فاطفىء القنديلا
وقد صرح بهذا المعنى علماء الإفرنج الذين نشؤوا في النصرانية وأحاطوا بها علما وخبرا، ثم عرفوا الإسلام معرفة صحيحة ولو غير تامة. وهاك شهادة حديثة لعالم مستشرق منهم.
كتب الأستاذ أدوار مونتيه المستشرق مدرس اللغات الشرقية في مدرسة جنيف الجامعة في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن ما ترجمته بالعربية :
" كان محمد نبيا صادقا كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين، كما كانتا متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتحدث فيه كما كانت تحدث ذلك الإلهام النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشري المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من بابها " اه.
فهذا العالم الأوروبي المستقل الفكر يقول : إن كل ما كان به أنبياء بني إسرائيل أنبياء كان ثابتا لمحمد، ونحن نقول إن جميع خصائص النبوة التي كانت فيه هي أكمل شكلا وموضوعا، وأصح رواية، وأبعد عن الشبهات كما سنوضحه، وأما ما فسر به هذه الخصائص، فهو التعليل الذي يعلل به الماديون الوحي المطلق، وسنتكلم عليه في القسم الثاني من هذا الفصل.
وقد لخص هذا العالم خبر نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم من كتب إسلامية مذعنا لصحة روايتها، وفصلها بعده العالم المستشرق الفرنسي إميل درمنغام١ في كتابه ( حياة محمد ) مذعنا لصحة الرواية ولموضوعها، مفصلا لتأثير نبوته في إصلاح البشر، متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى، آسفا للشقاق بنيهم.
وإننا ننقل هنا تعريف الوحي والنبوة والآيات ( العجائب ) عن أحد علماء الإفرنج الجامعين بين العلوم العصرية والدينية والتواريخ، وهو الدكتور جورج بوست الشهير، مؤلف كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) بالعربية، ليبني عليها الباحث المستقل العقل حُكْمَه في نبوة أنبياء بني إسرائيل ووحيهم، ونبوة محمد رسول الله وخاتم النبيين والوحي الذي أنزل عليه.
تعريف الوحي عندهم.
جاء في تفسير " وحي " من قاموس الكتاب المقدس ما نصه - مع حذف رموز الشواهد- :" تستعمل هذه اللفظة للدلالة على نبوة خاصة بمدينة أو شعب، وجاء في ( حز ١٢ : ١ ) :" هذا الوحي هو الرئيس ". أي إنه آية للشعب. وعلى العموم يراد بالوحي الإلهام. وعلى ذلك يقال :" إن كل الكتاب هو موحى به من الله "، والوحي -بهذا المعنى- هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين وذلك على أنواع :
١ إفادتهم بحقائق روحية أو حوادث مستقبلة لم يكن يمكنهم التوصل إليها إلا به.
٢ إرشادهم إلى تأليف حوادث معروفة أو حقائق مقررة والتفوه بها شفاها أو تدوينها كتابة بحيث يعصمون من الخطأ. فيقال :" تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس "، وهنا لا يفقد المتكلم أو الكتاب شيئا من شخصيته، وإنما يؤثر فيه الروح الإلهي بحيث يستعمل ما عنده من القوى والصفات وفق إرشاده تعالى. ولهذا نرى في كل مؤلف من الكتاب الكرام ما امتاز به من المواهب الطبيعية نمط التأليف وما شابه ذلك وفي شرح هذا التعليم دقة. وقد اختلف العلماء فيما أوردوه من شرحه، غير أن جميع المسيحيين يتفقون على أن الله قد أوحى لأولئك الكتاب ليدونوا إرادته ويفيدوا الإنسان ما يجب عليه من الإيمان والعمل لكي ينال الخلاص الأبدي " اه.
تعريف النبوة والأنبياء عندهم.
وجاء في تفسير " نبي أنبياء نبوة " منه ما نصه :
" النبوة لفظة تفيد معنى الإخبار عن الله وعن الأمور الدينية، ولاسيما عما سيحدث فيما بعد. وسمي هارون نبيا لأنه كان المخبر والمتكلم عن موسى نظرا لفصاحته. أما أنبياء العهد القديم فكانوا ينادون بالشريعة الموسوية، وينبئون بمجيء المسيح. ولما قلت رغبة الكهنة، وقل اهتمامهم بالتعليم والعلم في أيام صموئيل، أقام مدرسة في الرامة وأطلق على تلامذتها اسم بني الأنبياء، فاشتهر من ثم صموئيل بإحياء الشريعة، وقرن اسمه باسم موسى وهارون في مواضع كثيرة من الكتاب، وتأسست أيضا مدارس أخرى للأنبياء في بيت إيل وأريحا والجلجال وأماكن أخرى. وكان رئيس المدرسة النبوية يدعى أبا أو سيدا، وكان يعلم في هذه المدارس تفسير التوراة والموسيقى والشعر، ولذلك كان الأنبياء شعراء، وأغلبهم كانوا يرنمون، ويلعبون على آلات الطرب. وكانت الغاية من هذه المدارس أن يرشح الطلبة فيها لتعليم الشعب. أما معيشة الأنبياء وبني الأنبياء فكانت ساذجة للغاية، وكثير منهم كانوا متنسكين أو طوافين يضافون عند الأتقياء ".
" ويظهر أن كثيرين من الذين تعلموا في تلك المدارس لم يعطوا قوة على الإنباء بما سيأتي، إنما اختص بهذه الخصوصية أناس منهم كان الله يقيمهم وقتا دون آخر حسب مشيئته، ويعدهم بتربية فوق العادة لواجباتهم الخطيرة. على أن بعض الأنبياء الملهمين كان يختصهم الله بوحيه ولم يتعلموا من قبل، ولا دخلوا تلك المدارس كعاموس مثلا ؛ فإنه كان راعيا وجاني جميز. أما النبوة فكانت على أنواع مختلفة كالأحلام والرؤى والتبليغ. وأحيانا كثيرة كان الأنبياء يرون الأمور المستقبلة بدون تمييز أزمنتها، فكانت تقترن في رؤاهم الحوادث القريبة العهد مع البعيدة، كاقتران نجاة اليهود من الأشوريين بخلاص العالم بواسطة المسيح، وكانتصار إسكندر ذي القرنين بإتيان المسيح، وكاقتران انسكاب الروح القدس يوم الخميس بيوم الحشر. ومن هذا القبيل اقتران خراب أورشليم بحوادث يوم الدينونة ".
" وقد أرسل الله الأنبياء الملهمين ليعلنوا مشيئته، وليصلحوا الشؤون الدينية، وعلى الأخص ليخبروا بالمسيح الآتي لتخليص العالم. وكانوا القوة العظيمة الفعالة في تعليم الشعب، وتنبيههم، وإرشادهم إلى سبيل الحق. وكان لهم دخل عظيم في الأمور السياسية " اه بنصه.
ما يُرد على نبوتهم من تعريفها.
أما تفسيره الإله
١ يكتب هذا الاسم في مجلة السياسة (درمنجام) بالجيم المصرية، حيث ينشر فيها كتابه (حياة محمد)، مترجما بالعربية، وإنما اخترنا كتابته بالغين، لكتاب جاءنا من المؤلف بالعربية كتب فيه إمضاء (إميل دورمنغام)، ونشرناه في الجزء الأول من مجلد المنار الثلاثين (المؤلف)..
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣ ﴾
افتتح السورة بذكر آيات الكتاب، الناطق بالحكمة وفصل الخطاب، وأنكر على الناس عجبهم أن يوحي ربهم إلى رجل منهم أن يعلمهم به ما لا يعلمون من الدين الذي فيه سعادتهم، منذرا من كفر بالعقاب، ومبشرا من آمن بالثواب، وحكى عن الكافرين وصفهم لهذا الكتاب الحكيم وللرسول الذي جاء به بالسحر، إذ كان منهما من خوارق العادات، وقد وجد في البشر مشعوذون ودجالون يأتون بعض الخوارق التي لا يعرف الجماهير أسبابها، فرأوا أن هذا الكتاب المعجز للبشر بأسلوبه وبلاغته، وبعلمه وحكمته، وبتأثيره في العقول والقلوب، يصح أن يكون أو يوصف بأنه من هذا السحر المعهود وجوده، المجهول سببه، وأن الرجل الذي جاء به -ولم يعرف عنه قبله شيء من بلاغة القول، ولا من حكمة التشريع والعلم- يصح أن يعد منتحلا للسحر، ولكن السحر لم يكن في يوم من الأيام حقائق علمية ولا هداية نافعة كما تقدم، والسحرة لم يكونوا إلا أناسا من المكتسبين بإطلاع الناس على غرائبهم المجهولة لهم، فأين هذا وذاك من القرآن ومن جاء به، من حقائق ساطعة وهو لا يسأل عليها أجرا، ولا يبتغي بها لنفسه نفعا، هي باقية بنفسها وبآثارها النافعة، والسحر باطل لا بقاء له ؟
فالمتعين عند العقل أن يكون ما فيها من العلو على كلام البشر، والإعجاز الذي قامت به الحجة بالتحدي، وحيا من رب العالمين، ونعمة منه عليهم بهداية الدين، الذي هو لجملتهم، كالعقل لأفرادهم، ووجب على كل من يؤمن بهذا الرب العليم الحكيم، البر الرحيم، أن يؤمن بأن هذا من حكمة ربوبيته ورحمته بالعالمين، وإلا كانت صفاته ناقصة بحرمان هذا الإنسان، من هذا النوع الأعلى من العرفان، والبينات من الهدى والفرقان، ولذلك قفى حكاية عجبهم وما عللوه به من التذكير بالحجة التي تنقضه من أساسه، فقال عز وجل :
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾ هذه الآية دليل على تفنيدهم في عجبهم من وحي القرآن، وبيان للربوبية التي يقتضي كمالها ثبوته وبطلان الشرك، والخطاب فيها للناس الذين عجبوا أن يوحى إلى رجل منهم ما فيه هدايتهم بأسلوب الالتفات المنبه للذهن، يقول لهم : إن ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم وهذه الأرض التي تعيشون عليها في ستة أزمنة تم في كل يوم منها طور من أطوارها، فإن اليوم في اللغة هو الوقت الذي يحده حدث يحدث فيه، وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلقها، أي أوجدها كلها بمقادير قدرها، فإن الخلق في اللغة التقدير، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز التدبير لهذا الملك الكبير، استواء يليق بعظمته وجلاله، وتنزيهه وكماله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، وحكمته من الأحكام، فالاستواء على العرش بعد خلقهما، وهو مخلوق له من قبلهما، شأن من شؤونه فيها، لا نعلم كنهه ولا صفته من تدبير هذا الملك، وكل يوم هو في شأن، لا يدرك كنه شؤونه إنس ولا جان.
والتدبير في أصل اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومباديها، وأدبارها وعواقبها، بحيث تكون المبادي مؤدية إلى ما يريد من غايتها، كما أن تدبر الأمر أو القول هو التفكر في دبره وهو ما وراءه منه وينتهي إليه. ووجه دلالة هذه الجملة على ما ذكر أن الرب الخالق المدبر لجميع أمور الخلق لا يستنكر من تربيته لعباده وتدبيره لأمورهم أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه ما يهديهم به لما فيه كمالهم وسعادتهم من عبادته وشكره وصلاح أنفسهم، بل يجب على العاقل العالم بهذا التدبير والتقدير - الذي تشهد به آياته تعالى في السماوات والأرض- أن يؤمن بأن هذا الوحي منه عز وجل، إذ هو من كمال تقديره وتدبيره، ولا يقدر عليه غيره. وقد ذكرنا في تفسير آية الأعراف التي بمعنى هذه الآية ( ٥٤ ) الاختلاف بين علماء الكلام المبتدع وأئمة السلف وأتباعهم من علماء الأثر في مسألة الاستواء على العرش وأشباهها آيات علو الخالق تعالى فوق خلقه وسائر صفاته، وحققنا أن مذهب السلف هو الحق الجامع بين النقل والعقل.
ثم قال :﴿ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ وهذه الجملة حجة ثانية على منكري الوحي، في ضمن حقيقة ناقضة لعقيدة الشرك، ذلك أن مشركي العرب وغيرهم ومقلدهم من أهل الكتاب كانوا يعتقدون أن معبوداتهم من أولياء الله تعالى وعباده المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند الله تعالى بما يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع في الدنيا، والذين يؤمنون بالآخرة من الفريقين يثبتون لهم الشفاعة في الآخرة بالأولى، ويسمون الأصنام التي وضعت لذكرى أولئك الأولياء شفعاء أيضا بالتبع، وسيأتي في الآية ( ١٨ ) من هذه السورة حكاية ما يقولونه في هذه الشفاعة. ويقال في بيان وجه الحجة عليهم فيها : إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم عنده بما يقربكم إليه زلفى ويدفع عنكم الضر ويجلب لكم النفع- وهو قول منكم على الله تعالى بغير علم- فما لكم تنكرون وتعجبون أن يوحي تعالى إلى من يشاء، ويصطفي من هؤلاء العباد من يعلمكم من العلم الموصل إلى كل ما تطلبونه من هؤلاء الشفعاء باستحقاق بدون عمل منكم ولا استحقاق لما تطلبون منهم ؟
وأما الحقيقة الناقضة لعقيدة الشرك في الشفاعة فهي أنه لا يمكن أن يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، كما قال :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وليس لأحد حق في الإخبار عنه تعالى بمن يشفع عنده ومن يقبل شفاعته إلا بإعلام منه، وذلك لا يكون إلا بوحي منه. وقد ثبت في وحي هذا القرآن أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة ﴿ يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلاً ﴾ [ طه : ١٠٩ ]، وأن هؤلاء المأذون لهم بالشفاعة لا يشفعون إلا لمن أذن الله تعالى راضيا عنه بإيمانه وعمله الصالح كما قال :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] مصداقا لقوله :﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ [ الزمر : ٤٤ ].
﴿ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾ احتجاج بما يؤمنون به من وحدانية الربوبية، على شركهم في وحدانية الألوهية، أي ذلك الموصوف بالخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، والتصرف في أمر الشفاعة يأذن بها لمن شاء فيما شاء، هو الله ربكم، ومتولي أمور العالم ومنها أموركم، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، ولا معه أحدا، لا لأجل الشفاعة ولا لأجل مطلب آخر من مطالبكم، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا. وإنما يملك ذلك ربكم وحده، وقد هداكم إلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه وأقدركم عليها، وكل ما يطلب من المنافع والمضار فإنما يطلب من أسبابه التي سخرها تعالى وبينها لكم، وما عجز عنه العبد أو جهله من ذلك فالواجب عليه أن يدعو الله تعالى وحده فيه، وهذا هو الركن الأول للدين الإلهي.
﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي أتجهلون هذا الحق المبين، فلا تتذكرون أن الذي خلق السماوات والأرض وحده، واستوى على عرش الملك يدبر الأمر وحده، ولا يمكن أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، هو ربكم الذي يجب أن تعبدوه وألا تعبدوا غيره ؟ وهو مقتضى الفطرة، وما إنكاره إلا ضرب من الغفلة علاجها التذكير.
هذا الاستفهام التعجيبي من غفلة المشركين منكري الوحي عن هذه الحقيقة- وهي أنه لا يستحق العبادة من الخلق أحد إلا ربهم وخالقهم ومدبر أمورهم - يوجه بالأولى إلى المؤمنين بالقرآن من القبوريين وعباد الصالحين، كيف لا يتذكرون هذه الآيات وأمثالها كلما شعروا بالحاجة إلى ما عجزوا عنه بكسبهم من دفع ضر أو جلب نفع ؟ إذ نراهم يوجهون وجوههم إلى قبور المشهورين من الصالحين في بلادهم، ويشدون الرحال إلى ما بعد منها عنهم، ويتقربون إليها بالنذور، ويطوفون بها كما يطوف الحجاج ببيت الله عزّ وجلّ، داعين متضرعين مستغيثين خاشعين، وهذا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها، ولا ترى مثله من أحد ممن يصلي منهم في صلاة الجماعة ولا صلاته منفردا في بيته، على أن أكثرهم لا يصلون ولا يعتقدون أن الصلاة تنفعهم كهذه القبور، ذلك بأن أكثرهم يجهلون هذه الآيات وأمثالها من القرآن، وإنما يتلقون عقائد دينهم بالعمل والقول من آبائهم وأمهاتهم ومعاشريهم، وهم قبوريون لا يعرفون ملجأ ولا ملتحدا عند الشدائد والشعور بالحاجة إلى السلطان الرباني الغيبي إلا هذه القبور، وأقلهم يتلقون بعض كتب العقائد الكلامية الجافة ممن ألفوا عبادة القبور قبل أن يقرءوها، وأكثرهم يتأولون لأنفسهم وللعلوم تلك العبادة ويسمونها بغير اسمها كالتوسل والاستشفاع، وحجتهم عليها نفس حجة المشركين وأهل الكتاب، لا فرق إلا في بعض الألفاظ وأسماء الأشخاص.
﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٤ ﴾
هذه الآية بيان للركن الثاني من أركان الدين وهو البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال يقول تعالى :﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾، أي إلى ربكم دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه، لا يتخلف منكم أحد.
﴿ وعْدَ اللّهِ حَقّاً ﴾ أي وعد الله هذا وعدا حقا لا يخلف.
﴿ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ هذا بيان لتعلق الوعد المؤكد مرتين بدليله، أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشأه عند التكوين، ثم يعيده في نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه، فالتعبير بفعل المستقبل ( يبدأ ) لتصوير الشأن، وهو يشمل الماضي والمستقبل، ولفظ الخلق عام يراد به الخاص أولا وبالذات، بدليل ما قبله وما بعده من السياق، وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية -ما يرى منها بالأبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى- كلها قد وجدت بعد أن لم تكن، وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها، كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، وعلى أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بسا، حتى تكون هباء منبثا، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما.
فأما بدؤه فقد حصل بالفعل، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادرا على الإعادة بالطريق الأولى، كما قال في سورة الروم ﴿ وهُو الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُو أَهْونُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث أن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء، وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه، ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان، فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره، فالبدء والإعادة في كل جسد دائمان ما دام حيا، وقد فصلنا مسألة البعث بالبيان العلمي في تفسير سورة الأنعام ( ج ٨ ).
﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ﴾ هذا تعليل للإعادة، أي يعيده لأجل جزائهم، والقسط العدل، وقال الراغب : النصيب من العدل، أي ليجزيهم بعدله، وهو عبارة عن إعطاء كل عامل حقه من الثواب الذي جعله الله لعلمه، بمعنى أنه لا يظلم منه شيئا كما قال في سورة الأنبياء :﴿ ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ]، ولا يمنع ذلك أن يزيدهم ويضاعف لهم كما وعد في آيات أخرى منها قوله :﴿ فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾ [ النساء : ١٧٢ ]، وقوله في هذه السورة ﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : ٢٦ ]، فالحسنى هي الجزاء بالقسط المضاد للجور والظلم، والزيادة فضل منه عزّ وجلّ. وسيأتي فيها أيضا قوله :﴿ وقضي بينهم بالقسط ﴾ [ يونس : ٤٧ و ٥٤ ] وقيل : إن المراد يجزيهم بما كانوا عليه من القيام بالقسط، وهو الحق، وللعدل في الأمور كلها الذي هو مقتضى الإيمان في قوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ] وقوله :﴿ قل أمر ربي بالقسط ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ]، على أن القسط في الآيتين عام شامل لأمور الدين كلها، وقيل : بل المراد منه الإيمان، أو التوحيد المقابل لظلم الشرك في قوله تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، والمتبادر الموافق لسائر الآيات الصريحة هو الأول ولا يصح إرادة الثاني إلا بالتبع للأول، أو الجمع بين المعنيين على القول بأن كل ما يحتمله اللفظ من المعاني المشتركة فيه أو حقيقته ومجازه بمقتضى اللغة - من غير مانع من الشرع - يكون مرادا منه.
﴿ والَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ الحميم الماء الحارّ أو الشديد الحرارة الذي يستحم به، والعرق، يقال استحم الفرس إذا عرق، والحمام الذي هو مكان الاستحمام من الأول أو من الثاني. والجملة بيان لجزاء الكافرين في مقابلة جزاء المؤمنين الصالحين على منهج القرآن في الجمع بينهما.
والمعنى أن الكافرين لهم من الجزاء شراب من ماء حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم -وهذا من عطف العام على الخاص- ونكتة هذا الخاص أن العرب الذين خوطبوا به أولا، ونزل بلغتهم -ولاسيما عرب الحجاز - يشعرون بما لا يشعر غيرهم من الوعيد بشرب الماء الحميم والحرمان من الماء البارد، وإنما كان لهم هذا الجزاء بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرة إلى الموت، كدعاء غير الله تعالى، والنذر لغيره، وذبح القرابين لغيره، وسائر الأعمال السيئة التي يزينها لهم الكفر ويصد عنها الإيمان، فقوله :﴿ والذين كفروا ﴾ مقابل لقوله :﴿ الذين آمنوا ﴾، وقوله :﴿ بما كانوا يكفرون ﴾ مقابل لقوله :﴿ وعملوا الصالحات ﴾ ؛ لأن الذي يتجدد من الكفر أعماله لا عقيدته، على أن العمل بمقتضى العقيدة هو أثرها، يزيدها قوة ورسوخا واستمرارا، وسيعاد ذكر جزاء الفريقين بعد آيتين بتفصيل آخر لعملهما.
ولعل نكتة اختلاف النظم أو الأسلوب في جزاء الفريقين وتعليل الرجوع إليه تعالى هنا هي إفادة أن المقصود بالذات من الرجوع إلى الله تعالى هو جزاء المؤمنين الصالحين ؛ لأنه هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشري للذين زكوا أنفسهم في الدنيا بما يكون لهم في الجنة من غلبة سلطان الأرواح على الأجساد، وجعلها تابعة لها في الجمع بين خصائص المادة والروح الذي هو حقيقة الإنسانية، فيلقى الإنسان الكامل هنالك من النعيم المادي الخالي من الشوائب والتنغيص الذي عهده في الدنيا، ومن النعيم الروحاني المعبر عنه برضوان الله الأكبر- كما تقدم في آية سورة التوبة ( ٧٢ )- ما يتحقق به فضل الإنسانية الجامعة على الروحانية الخالصة، وما أعده تعالى لصاحبهما مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحد، كما قال تعالى في سورة ألم السجدة ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ [ السجدة : ١٧ ]، وما فسرت به في الحديث القدسي :" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ١ رواه البخاري، وأعلاه مقام رؤية الله عزّ وجلّ - كما شرحناه في تفسير آية سورة الأعراف ( ٨ : ١٤٣ )- وأدناه ما سيأتي قريبا في الآية العاشرة.
وأما جزاء الكافرين المفسدين الظالمين لأنفسهم وللناس على تدسيتهم وتدنيسهم لأنفسهم بالكفر والخطايا وهي لها كأعراض الأمراض التي سببها مخالفة سنة الله في حفظ الأبدان وصحتها فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، ولكنها مقتضى العدل في المظالم والحقوق، ومقتضى اطراد السنن الحكيمة في ارتباط الأسباب بالمسببات، والعلل بالمعلولات، فهو جزاء كما صرح به في آيات أخرى، ولكنه ليس المقصود بالذات من الرجوع إلى الله عزّ وجلّ.
وقد سألني رجل من أذكياء الإنكليز : هل يليق بعظمة الله أن يعذب هذا الإنسان الضعيف على ذنوبه التي هي مقتضى ضعفه ؟ قلت : إن الشرك بالله والكفر بنعمه واقتراف الخطايا المخالفة لشرائعه وللوجدان الفطري في الإنسان تدنس نفس فاعلها وتفسدها بما يجعلها غير أهل للنعيم الروحاني الخاص بالأنفس الزكية، فيكون العقاب في الآخرة أثرا طبيعيا لهذا الفساد، كما يكون المرض أثرا طبيعيا لمخالفة قوانين الصحة ووصايا الطبيب. فقال : إذا كان سبب العذاب من الداخل لا من الخارج فهو معقول.
١ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣٥، وبدء الخلق باب ٨، وتفسير سورة ٣٢، باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ٣١٢، والجنة حديث ٢ ـ ٥، والترمذي في الجنة باب ١٥، وتفسير سورة ٣٢، باب ٢، وسورة ٥٦، باب ١، وابن ماجه في الزهد باب ٣٩، و الدارمي في الرقاق باب ٩٨، ١٠٥، وأحمد في المسند ٢/٣١٣، ٣٧٠، ٤٠٧، ٤١٦، ٤٣٨، ٤٦٢، ٤٦٦، ٤٩٥، ٥٠٦، ٥/٣٣٤..
﴿ هُو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء والْقَمَرَ نُوراً وقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ٦ ﴾
في هاتين الآيتين المنزلتين إرشاد إلى أنواع كثيرة من آيات الله الكونية الدالة على قدرته على البعث والجزاء، وكونه من مقتضى حكمته، واطراد النظام التام في جميع خلقه، وهذه الآيات تفصيل لما أجمل في الآية الثالثة في خلق السماوات والأرض، واستواء الخالق على عرشه يدبر الأمر، ويقيم النظام في الخلق، التي سيقت للاستدلال على التوحيد وحقيقة الوحي.
﴿ هُو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء والْقَمَرَ نُوراً ﴾ الضياء اسم مصدر من أضاء يضيء وجمع ضوء، كسياط وسوط وحياض وحوض، وقرأ ابن كثير ( ضئاء ) على القلب، بتقديم لام الكلمة على عينها. قال في القاموس وشرحه :( الضوء ) هو ( النور ويضم )، وهما مترادفان عند أئمة اللغة، وقيل : الضوء أقوى من النور. قاله الزمخشري. ولذا شبه الله هداه بالنور دون الضوء، وإلا لما ضل أحد. وتبعه الطيبي، واستدل بقوله تعالى : جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وأنكره صاحب الفلك الدائر، وسوى بينهما ابن السكيت، وحقق في الكشف أن الضوء فرع النور، وهو الشعاع المنتشر، وجزم القاضي زكريا بترادفهما لغة بحسب الوضع، وأن الضوء أبلغ بحسب الاستعمال، وقيل الضوء بما في الذات كالشمس والنار، والنور لما بالعرض والاكتساب من الغير، هذا حاصل ما قاله شيخنا رحمه الله تعالى. وجمعه أضواء ( كالضواء والضياء بكسرهما )، لكن في نسخة لسان العرب ضبط الأول بالفتح والثاني بالكسر، وفي التهذيب عن الليث : الضوء والضياء ما أضاء لك، ونقل شيخنا عن المحكم أن الضياء يكون جمعا أيضا، قلت هو قول الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى ﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه ﴾ [ البقرة : ٢٠ ] اه.
وأقول : يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله تعالى :﴿ وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٦ } وقوله :﴿ وجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً و قَمَراً مُّنِيراً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ]، والسراج ما كان نوره من ذاته. واستبعد بعض المفسرين قول الزجاج : إن الضياء في الآية جمع ضوء ؛ لأن المناسب لكون القمر نورا أن يكون الضوء مفردا مثله، وجهل هذا المستبعد وأمثاله ما يعلمه الله تعالى من أن شعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي يراها الإنسان في قوس السحاب، فهو سبعة أضواء لا ضوء واحد، فهذا التعبير من مفردات القرآن الكثيرة التي كشف لنا ترقي العلوم الطبيعية الفلكية من المعنى فيها ما كان الناس أو العرب يجهلونه في عصر التنزيل، كتعبيره عن كل نوع من النبات بأنه موزون، وتقدم بيانه في مباحث الوحي.
﴿ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ﴾ التقدير جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو الذوات أو الصفات، قال تعالى :﴿ والله يقدر الليل والنهار ﴾ [ المزمل : ٢٠ ]، وقال في القرى التي كانت بين سبأ والشام ﴿ وقدرنا فيها السير ﴾ [ سبأ : ١٨ ]، وقال في المقادير العامة ﴿ وخلق كل شيء فقدره تقديرا ﴾ [ الفرقان : ٢ ] والمنازل أماكن النزول جمع منزل، والضمير للقمر، كما قال في سورة يس ﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ﴾ [ يس : ٣٩ ]، أي قدر له أو قدر سيره في فلكه في منازل، ينزل في كل ليلة في واحد منها لا يخطئه ولا يتخطاه، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة تسميها العرب بأسماء نجومها المحاذية لها وهي : الشرَطان. البُطين. الثُّريَّاء، الدّبران. الهقعة. الهنعة. الذّراع. النثّرة. الطّرف. الجبهة. الزّبرة. الصّرفة. العوّاء. السَّماك الأعزل. الغفر. الزّباني. الإكليل. القلب. الشّولة، النّعائم. البلدة. سعد الذّابح. سعد بلع. سعد السُّعود. سعد الأخبية. فرغ الدّلو المقدم. فرغ الدّلو المؤخر. ( ويسمَّيان الفرغ الأول والفرغ الثاني ). الرّشاء. ويراجع مسميات هذه الأسماء في معاجم اللغة وكتب الفلك من شاء. فهذه المنازل هي التي يرى فيها القمر بالأبصار، ويبقى من الشهر ليلة- إن كان ٢٩- وليلتان- إن كان ٣٠ يوما- يحتجب فيهما فلا يرى.
﴿ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ ﴾ أي لأجل أن تعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم الدينية والمالية والمدنية، فلولا هذا النظام المشاهد لتعذر على الأميين من أهل البدو والحضر العلم بذلك، لأن حساب السنين والشهور الشمسية فن لا يعلم إلا بالدراسة، ولذلك جعل الشرع الإسلامي العام للبدو والحضر شهر الصيام وأشهر الحج وعدة الطلاق ومدة الإيلاء وغير ذلك بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة، فلا يتوقف على علم فني لا يكاد يوجد إلا في بلاد الحضارة. ولعبادتي الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع الفصول، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة. وهذا لا يمنع أهل العلم من الانتفاع بالحساب الشمسي وله فوائد أخرى، وقد أرشدهم إليه في سورة الرحمن ﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾ [ الرحمن : ٥ ]، وفي سورة الإسراء ﴿ وجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] وفي هذه الآيات ترغيب في علم الهيئة والجغرافية الفلكية وقد برع فيهما أجدادنا بإرشادها.
ثم قال :﴿ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لنظامها، فتبث الحرارة والحياة في جميع الأحياء فيهم، وجعل لكل ضوء منها من الخواص ما ليس للآخر، ويبصر الناس فيها جميع المبصرات فيقومون بأمور معايشهم وسائر شؤونهم، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة في سراهم وغيرهم، وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور، ما خلق ذلك إلا متلبسا ومقترنا بالحق، الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق، ونظام معايشهم ومنافعهم، فليس فيه عبث ولا خلل ؛ بل ظهر للبشر في هذا العصر من أسرار الضوء وحكمه ما صار به علما واسعا تحار العقول في نظمه وحكمه، من أصغر ذراته إلى أعظم مجامع نيراته، فكيف يعقل من هذا الخالق الحكيم أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، ويعلمه البيان، ويعطيه ما لم يعط غيره في عالمه ؛ من الاستعداد لإظهار ما لا يحصى من حكمه، وخواص خلقه، وسننه في عباده، ويجعل مدار سعادته وشقائه على ما أعطاه من علم وإرادة، ثم يتركه بعد ذلك سدى، يموت ويفنى، ثم لا يبعث ولا يعود، ليجزى المرتقون منه في معارج الكمال من المعارف الإلهية والفضائل النفسية والأعمال الصالحة بإيمانهم وصفاتهم وأعمالهم، وليجزى المشركون الخرافيون والظالمون المجرمون، بكفرهم وجرائمهم ومفاسدهم، وإننا نرى كثيرا منهم أنعم في الدنيا معيشة من الصالحين المصلحين ؟ ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [ القلم : ٣٥، ٣٦ ] ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم نجعل المتقين كالفجار ﴾ [ ص : ٢٨ ].
﴿ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ استئناف لبيان المنتفعين بهذه الحجج، أي نبين الدلائل من حكم خلقنا، على ما أوحيناه إلى رسولنا من أصول العقائد وأحكام الشرائع، مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون وجوه دلالة الدلائل، والفرق بين الحق والباطل، باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات، فيجزمون بأن من خلق هذين النيرين وما فيهما من النظام بالحق، لا يمكن أن يكون خلقه لهذا الإنسان العجيب عبثا، ولا أن يتركه سدى، وفي الآية تنويه بفضل العلم وكون الإسلام دينا علميا لا تقليديا، ولذلك قفى على هذه الآيات السماوية في الشمس والقمر بآية مذكرة بسائر الآيات السماوية والأرضية فقال :﴿ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ٦ ﴾
﴿ هُو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء والْقَمَرَ نُوراً وقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ٦ ﴾
في هاتين الآيتين المنزلتين إرشاد إلى أنواع كثيرة من آيات الله الكونية الدالة على قدرته على البعث والجزاء، وكونه من مقتضى حكمته، واطراد النظام التام في جميع خلقه، وهذه الآيات تفصيل لما أجمل في الآية الثالثة في خلق السماوات والأرض، واستواء الخالق على عرشه يدبر الأمر، ويقيم النظام في الخلق، التي سيقت للاستدلال على التوحيد وحقيقة الوحي.
﴿ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ﴾ في حدوثهما وتعاقبهما في طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس والنظام الدقيق لهما بحركتيها اليومية والسنوية، وطبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل ديني ودنيوي ﴿ ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ﴾ من أنواع الجماد والنبات والحيوان ﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾، أي أنواعا من الدلائل والبينات على سننه في النظام، وحكمه في الإبداع والإتقان، وفي تشريع العقائد والأحكام، لقوم يتقون عواقب مخالفة سننه في التكوين، وسننه في التشريع، فالأفراد الذين يخالفون سنن الصحة البدنية يمرضون، والشعوب التي تخالف سنن الاجتماع والعمران تخرب بلادها، وتضعف دولها، ويغير الله تعالى ما بها بتغييرها ما في أنفسها، كذلك الأفراد الذين يخالفون هدايته الشرعية في تزكية الأنفس فيدنسونها بالشرك والخرافات، ويفسدونها بالفواحش والمنكرات، يجزون على ذلك كله في الآخرة، ويجزى بعضهم على بعضها في الدنيا ( كما بينا ذلك في مواضع أخرى ).
﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ورَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّواْ بِهَا والَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُوْلَـئِكَ مَأْواهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٩ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٠ ﴾
هذه الآيات بيان لحال منكري البعث والغافلين، وحال المؤمنين الصالحين في الدنيا، وجزائهما في الآخرة، فيه تفصيل لما سبق في الآية الرابعة.
قال :﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾ قال الفيومي في المصباح : رجوته أرجوه رجوا على فعول أملته أو أردته، قال تعالى :﴿ لا يرجون نكاحا ﴾ [ النور : ٦٠ ] أي لا يريدونه والاسم الرجاء بالمد، ورجيته أرجيه من باب رمى لغة، ويستعمل بمعنى الخوف، لأن الراجي يخاف أنه لا يدرك ما يترجاه اه. وقال الراغب : الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، وقوله تعالى :﴿ ما لكم لا ترجون لله وقارا ﴾ [ نوح : ١٣ ] قيل ما لكم لا تخافون ؟ ومثل الزمخشري في الأساس لحقيقة الرجاء بالمغفرة من الله، والرشد في الولد. والإحسان من أهل الإحسان، ثم قال : ومن المجاز استعمال الرجاء في معنى الخوف والاكتراث، يقال : لقيت هولا ما رجوته وما ارتجيته. ومثل له بشعر. والتحقيق أن الرجاء الأمل والتوقع بما فيه خير ونفع، وأن الخوف توقع ما فيه شر وضر، فهما متقابلان كما قال تعالى :﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ]، وما في هذه الآية والآيتين ١١ و ١٥ من هذه السورة والآية ٢١ من سورة الفرقان من رجاء لقاء الله منفيا يحتمل الرجاء والخوف جميعا ؛ لأن لقاء الله تعالى في يوم الحساب مظنة الخوف لقوم والرجاء لآخرين، ولذلك قال في الكافرين ﴿ إنهم كانوا لا يرجون حسابا ﴾ [ النبأ : ٢٧ ] وفسر بعض المحققين الرجاء هنا بمجرد التوقع الذي يشمل ما يسر وما يسوء. واللقاء الاستقبال والمواجهة.
والمعنى : إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب، وما يتلوه من الجزاء على الأعمال، لإنكارهم البعث، ويلزمه أنهم لا يؤملون لقاءه الخاص بالمتقين في دار الكرامة، وخصه بعضهم بلقاء الرؤية ﴿ ورَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا ﴾ بدلا من الآخرة فصار كل همهم من الحياة محصورا فيها، وكل عملهم لها، كما قال في المتثاقلين عن النفير للجهاد ﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾ [ التوبة : ٣٨ ] الآية ﴿ واطْمَأَنُّواْ بِهَا ﴾ بسكون نفوسهم وارتياح قلوبهم بشهواتها ولذاتها وزينتها ليأسهم من غيرها.
﴿ والَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ فلا يتدبرون المنزلة منها على رسولنا وما فيها من المواعظ والعبر، والمعارف والحكم، ولا يتفكرون في الكونية وما تدل عليه من حكمته وسنته في خلقه، وما يقتضيه كل منهما من الجهاد وصالح الأعمال، فكانوا بهذه الغفلة كالفريق الأول الذي لا يرجو لقاءنا، في أن كلا منهما تشغله دنياه عن آخرته، فلا يستعد لحسابنا له، وما يتلوه من نعيم مقيم أو عذاب أليم.
﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ورَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّواْ بِهَا والَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُوْلَـئِكَ مَأْواهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٩ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٠ ﴾
هذه الآيات بيان لحال منكري البعث والغافلين، وحال المؤمنين الصالحين في الدنيا، وجزائهما في الآخرة، فيه تفصيل لما سبق في الآية الرابعة.
﴿ أُوْلَئِكَ مَأْواهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ الإشارة بأولئك إلى الفريقين، أي مأواهم في الآخرة دار العذاب ( النار ) بما كانوا يكسبون مدة حياتهم الدنيا من الخطايا والذنوب المدنسة لأنفسهم بخرافات الوثنية، وأعمال الشهوات الحيوانية، وظلمات المظالم الوحشية، واستمرارهم عليها الذي دنس أنفسهم وأحاط بها، فلم يعد لنور الحق والخير مكان فيها. والمأوى في أصل اللغة الملجأ الذي يأوي إليه المتعب أو الخائف أو المحتاج من مكان آمن أو إنسان نافع، كما ترى في استعمال أفعاله في جميع الآيات كقوله تعالى :﴿ ألم يجدك يتيما فآوى ﴾ [ الضحى : ٦ ] ﴿ إذ أوى الفتية إلى الكهف ﴾ [ الكهف : ١٠ ] ﴿ والذين آووا ونصروا ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] ﴿ آوى إليه أخاه ﴾ [ يوسف : ٦٩ ] ﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾ [ هود : ٨٠ ] الخ إلا لفظ المأوى فإنه أطلق على الجنة في ثلاث آيات، وعلى النار في بضع عشرة آية منها آية يونس هذه، وفي تسمية دار العذاب مأوى معنى دقيق في البلاغة دخيل في أعماقها، فائض من جميع أرجائها، يشعرك بأن أولئك المطمئنين بالشهوات والغافلين عن الآيات ليس لهم مصير يلجؤن إليه بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب، فويل لمن كانت هذه الدار له كالملجأ والموئل، إذ لا مأوى له يلجأ إليه بعدها.
هذا بيان لجزاء الفريق الأول من المكلفين بقسميه، والقارئ والسامع له تستشرف نفسه لجزاء الفريق الآخر والعلم بسببه، وقد بينه بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾
﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ورَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّواْ بِهَا والَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُوْلَـئِكَ مَأْواهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٩ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٠ ﴾
هذه الآيات بيان لحال منكري البعث والغافلين، وحال المؤمنين الصالحين في الدنيا، وجزائهما في الآخرة، فيه تفصيل لما سبق في الآية الرابعة.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ أي يهديهم بسبب إيمانهم به صراطه المستقيم في كل عمل من أعمالهم التي تزكي أنفسهم وتهذب أخلاقهم. وصفهم أولا بالإيمان والعمل الصالح- الذي هو لازم الإيمان ومغذيه ومكمله بصيغة الماضي- لبيان صنفهم وفريقهم المقابل للفريق الذي ذكر قبلهم، وأخبر بهداية إيمانهم لهم بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار والتجدد، كما أخبر عن كسب الكفار بهذه الصيغة، وجعل الإيمان وحده سبب هذه الهداية ؛ لأنه هو الباعث النفسي لها، والمعنى أنه يهديهم الصراط المستقيم الذي ينتهي بهم إلى دار الجزاء التي قال في بيان حالهم فيها :
﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ أي تجري من تحت مقاعدهم من غرفات تلك الجنات ومن تحت أشجارها، وتقدم لفظ " جنات النعيم " في سورة المائدة ( ٥ : ٦٨ ) ولفظ ﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾ في سورة الأعراف ( ٧ : ٤٢ ) وأما ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ يعني الجنة فقد تقدم مكررا في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والتوبة، والآية صريحة في معنى الآيات الكثيرة الناطقة بأن دخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح معا، لأن الإيمان الصحيح بدون الإسلام -وهو العمل- لا يوجد إلا في حال من يموت عقب إيمانه قبل أن يتمكن من العمل، ودخول مثل هذا الجنة لا يعارض هذه النصوص العامة للأحوال العادية الغالبة.
﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ورَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّواْ بِهَا والَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُوْلَـئِكَ مَأْواهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٩ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٠ ﴾
هذه الآيات بيان لحال منكري البعث والغافلين، وحال المؤمنين الصالحين في الدنيا، وجزائهما في الآخرة، فيه تفصيل لما سبق في الآية الرابعة.
﴿ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ في هذه الآية بيان لكلمات ثلاث تمثل حياة أهل الجنة الروحانية في عامة أحوالهم من مبادئ دعاء ربهم وتنزيهه، وما يدعونه- أي يطلبونه- من فضله وكرامتهم ومن تحيته تعالى وتحية ملائكته لهم، ومن تحيتهم فيما بينهم عند تزاورهم أو تلاقيهم، ومن حمدهم له في خواتيم أقوالهم وأفعالهم، وهي خير الكلم وأخصره وأعذبه.
الدعوى في اللغة الدعاء بمعانيه، والدعاوة في الشيء والادعاء للشيء، فالدعاء للناس هو النداء والطلب المعتاد بينهم في دائرة الأسباب المسخرة لهم، والدعاء التعبدي لله نداؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده الصادر عن الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه، ولاسيما دفع الضر وجلب النفع مما يعجز عنه العبد من طريق الأسباب، للإيمان بأنه سبحانه هو المسخر لها والهادي إليها والقادر على تصريفها، وعلى المن بها من غير طريقها، والدعوى للشيء تشمل في اللغة تمنيه وقوله وطلبه من مالكه، وادعاء ملكيته، وهذه المعاني كلها للفظ الدعوى تصح إرادتها من أهل الجنة -إلا الأخير منها- وقول بعض المفسرين وغيرهم : إن من معاني الدعاء العبادة لا يصح على إطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية، فإن الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا، وإنما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية، وأعظم أركان التكليفية منها- كما ورد في الحديث- فكل دعاء شرعي عبادة، وما كل عبادة شرعية دعاء. والتسبيح تنزيه الله تعالى وتقديسه، وكلمة ( اللهم ) نداء له عزّ وجلّ أصله يا الله.
والمعنى أنهم يبدؤون كل دعاء وثناء يناجون به الله عزّ وجلّ -وهو النعيم الروحاني- وكل طلب لكرامة أو لذة من لذات الجنة -وهو النعيم الجسماني- بهذه الكلمة : سبحانك اللهم، أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، قيل : أو بما تدل عليه، وإن كان بلفظ آخر، وأن تحيتهم فيها كلمة ( سلام ) الدالة على السلامة من النقص والآثام، وهي تحية المؤمنين في الدنيا، وهذه التحية تكون منه عزّ وجلّ لهم كما قال في سورة الأحزاب ﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ [ الأحزاب : ٤٤ ]، وفي سورة يس ﴿ سلام قولا من رب رحيم ﴾ [ يس : ٥٨ ]، وتكون من الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال في سورة الزمر :﴿ وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]، ومثله في سورة النحل ﴿ الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٣٢ ]، وفي كل وقت يدخلون فيه عليهم كما قال في سورة الرعد ﴿ والمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار ﴾ [ الرعد : ِ ٢٣ ٢٤ ]، وتكون منهم بعضهم لبعض وهو المتبادر من قوله تعالى في سورة مريم ﴿ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ﴾ [ مريم : ٦٢ ]، وفي سورة الواقعة ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ولَا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ٢٦ ]، فإن اللغو والتأثيم من شأن كلام البشر، فلما نفى وقوعهما منهم في الجنة واستدرك على نفيه باستثناء كلمة " سلام " استثناء منقطعا ترجح أن يكون المراد به سلام بعضهم على بعض أو عاما يشمله. والجملة في آيتنا ﴿ وتحيتهم فيها سلام ﴾ تشمل الأنواع كلها، وإنه لإيجاز بليغ غفل عنه من نعرف من المفسرين لغفلتهم عن هذه الأنواع.
وأما قوله :﴿ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فمعناه أن الحمد له جلّ ثناؤه هو آخر كل حال من أحوال أهل الجنة من دعاء يناجون به الله تعالى، ومطلب يطلبونه من إحسانه وإكرامه، كما أنه أول ثنائهم عليه عند دخولها، كما قال في آخر سورة الزمر بعد آية السلام عليهم من الملائكة ﴿ وقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وعْدَهُ وأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ]، وآخر كلام الملائكة أيضا، وهو قوله بعده ﴿ وتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٥‏ ].
فعلى كل قارئ لهذه الآية الجامعة وقد فسرناها له هنا بما في معناها من الآيات في السور الأخرى أن يمثل لنفسه حالة أهل الجنة في هذه الكلمات الثلاث المبينة لنعيمهم الروحاني بلقاء الله عزّ وجلّ ومناجاته في جميع أطوارهم، ولما يكون بينهم وبين ملائكته وبين بعضهم مع بعض، ومنه يعلمون أن معظم نعيم الجنة روحاني، فعليهم أن يستعدوا لها بتزكية أنفسهم، وترقية أرواحهم، وأن يعلموا أنهم لن يكونوا أهلا لها بالاتكال على التوسلات بأشخاص الأولياء والتمني لشفاعتهم ﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ولاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ ولِيّاً ولاَ نَصِيراً* ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُو مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾ [ النساء : ١٢٣ ١٢٤ ] ﴿ ومَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُو فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٢ ].
ومن التفسير المأثور ما أخرجه ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا عن أهل الجنة " إذا قالوا : سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة " وروي مثله عن بعض التابعين، فالكلمة علامة بين أهل الجنة وخدمهم في إحضار الطعام وغيره، فإذا أكلوا حمدوا الله تعالى. وهذا مما يدخل في عموم ما تقدم سواء أصحت الرواية أم لا ؟
﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢ ﴾
هاتان الآيتان في بيان شأن من شؤون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم فيه بالحاجة إلى الله تعالى، واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها، وهو تعريض بالمشركين وحجة على ما يأتون من شرك، وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله، ولذلك عطفه عليه.
﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب أو المقدر له أو الموعود به، والاستعجال به طلب التعجيل، والعجل من غرائز الإنسان القابلة للتأديب والتثقيف كي لا تطغى به فتورده الموارد. قال تعالى :﴿ ويَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ﴾ [ الإسراء : ١١ ]، وقال تعالى :﴿ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٣٧ ]، فأما استعجاله بالخير والحسنة فلشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، وأما استعجاله بالضر والسيئة فلا يكون لذاته ؛ بل لسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، وقلما يكون مقصودا بنفسه إلا للنجاة مما هو شر منه، كما يفعل اليائسون من الحياة، أو النجاة من ذل وخزي أو ألم لا يطاق إذ يتقحمون المهالك أو يبخعون أنفسهم انتحارا.
قال تعالى :﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ ﴾ الذي يستعجلونه به، كاستعجال مشركي مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب- الذي أنذرهم نزوله بهم إجمالا- بما قصه عليهم في هذه السورة وغيرها من سنة الله تعالى في أقوام الرسل المعاندين، وهو عذاب الاستئصال، وفيما دونه من عذاب الدنيا، كخزيهم والتنكيل بهم ونصره عليهم، أو قيام الساعة، وعذاب الآخرة. وقد حكى الله تعالى كل ذلك عنهم كقوله :﴿ ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ ﴾ [ الرعد : ٦ ] الآية، ﴿ ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ولَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ ولَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ] وتقدم قوله :﴿ وإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُو الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] وقال في الساعة ﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ويَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾ [ الشورى : ١٨ ] وفي العذاب ﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٤ ] وكل هذه الضروب من الاستعجال كانوا يقصدون بها تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في التكذيب واستهزاء بالوعيد وقوله :
﴿ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْر ﴾ معناه كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه لذاته بدعاء الله تعالى، أو بمحاولة الأسباب التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه.
﴿ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ قرأ ابن عامر ويعقوب الجملة بالبناء للفاعل، أي لقضى الله إليهم أجلهم، وقرأها الجمهور بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل، وقضاء الأجل إليهم انتهاؤه إليهم بإهلاكهم قبل وقته الطبيعي، كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم. ولكن الله تعالى أرحم بهم من أنفسهم، وقد بعث رسوله محمدا خاتم النبيين رحمة للعالمين، بالهداية الدائمة إلى يوم الدين، وقضى بأن يؤمن به قومه من العرب، ويحملوا دينه إلى جميع أمم العجم، وأن يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا بما يكون تأديبا لسائرهم، بما بينه بقوله :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٤ ] الآية، ويؤخر سائر الكافرين منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة، فهو لا يقضي إليهم أجلهم بإهلاكهم واستئصالهم، لأن هذا العذاب إذا نزل يكون عاما ؛ بل يذرهم وما هم فيه إلى نهاية أجالهم وذلك قوله :
﴿ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ الطغيان مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان، هذا هو الأصل، وطغيان السيل والبحر والدم مستعار منه. والعمه ( كالتعب ) التردد والتحير في الأمر أو في الشر. والمعنى فنترك الذين لا يرجون لقاءنا- ممن تقدم ذكرهم- فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب يترددون فيه متحيرين، لا يهتدون سبيلا للخروج منه، لا نعجل لهم العذاب في الدنيا باستئصالهم، حتى يأتي أمر الله تعالى في جماعتهم بنصر رسوله عليهم، وفي أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض، ومأواهم النار وبئس المصير، إلا من تاب وآمن منهم، أي هذه سنتنا فيهم لا نعجل شيئا قبل أوانه المقدر له بمقتضى علمنا وحكمتنا.
وفي الآية وجه عام غير خاص بالكافرين تقديره : ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بذنوبهم المقتضية له -من ظلم وفساد في الأرض وفسوق- لأهلكهم، كما قال في آية أخرى ﴿ ولَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بما كسبوا مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ النحل : ٦١ ] الآية، ويدخل في المعنى هنا دعاؤهم على أنفسهم عند اليأس، ودعاء بعضهم على بعض عند الغضب، لو يعجله الله لهم لأهلكهم أيضا، وما دعاء الكافرين بربهم- أو بنعمه عليهم- فيما يخالف شرعه وسننه في خلقه إلا من ضلال ) أي ضياع لا يستجيبه الله لهم، لحمله ورحمته بهم.
﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢ ﴾
هاتان الآيتان في بيان شأن من شؤون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم فيه بالحاجة إلى الله تعالى، واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها، وهو تعريض بالمشركين وحجة على ما يأتون من شرك، وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله، ولذلك عطفه عليه.
﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ﴾ هذا بيان لغريزة الإنسان العامة، وشأنه فيما يمسه من الضر، يعلم منه أن استعجال أولئك الناس بالشر تعجيزا لنبيهم ومبالغة في تكذيبه إنما هو من طغيانهم الذي خرجوا فيه عن مقتضى طبيعتهم، فهو يقول : إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر بشدة ألمه أو خطره- من إشراف على غرق وغيره من أنواع التهلكة، أو شدة مسغبة، أو إعضال داء- دعانا ملحا في كشفه عنه في كل حال يكون عليه : دعانا مضطجعا لجنبه، أو قاعدا في كسر بيته، أو قائما على قدميه حائرا في أمره، فهو لا ينسى حاجته إلى رحمة ربه، ما دام يشعر بمس الضر ولذعه له، ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه، قدّم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان فيها أشد عجزا وأقوى شعورا بالحاجة إلى ربه، فالتي تليها، فالتي تليها، وثم حالة رابعة هي سعيه لدفع الضر من طريق الأسباب فلم تذكر ؛ لأن الإنسان غير المؤمن قلما يتذكر ما أودع في فطرته من الإيمان بربه - ذي السلطان الغيبي الذي هو فوق جميع الأسباب- ويشعر بحاجته إلى اللجوء إليه، ودعائه والاستغاثة به إلا عند عجزه عن الأسباب المسخرة له، والمشركون بالله تعالى أقل الناس تذكرا لذلك ؛ لأنهم عند عجزهم عن الأسباب العامة المعلومة يلجؤون إلى مظنة الأسباب الموهومة، وهي المخلوقات المعبودة التي يعتقدون أن لها سلطانا غيبيا فوق الأسباب من جنس سلطان الرب الخالق عز وجل، إما لذاتها وإما بما لها من المكانة عند الله، والمثل مضروب هنا لهؤلاء.
﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ﴾ كان الظاهر أن يقال :" فإذا كشفنا عنه ضره "، إذ هو المناسب للشرط في أول الآية، وهو في جنس الإنسان ومقتضى طبعه لا في فرد من أفراده، ونكتة هذا التعبير أن يتصور القارئ والسامع للآية كشف الضر بعد الدعاء واقعا مشاهدا من شخص معين، ويرى ما يفعل بعده لأنه أبلغ في العبرة، أي فلما كشفنا عند ضره - الذي دعانا له في حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه وبغيره من الأسباب- مرّ ومضى في شؤونه على ما كان من طريقته في الغفلة عن ربه والكفر به، كأن الحال لم تتغير عليه، فلم يدعنا إلى ضر مسه، ولم نكشف عنه ضره.
﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ كهذا النحو من معرفة الله والإخلاص في دعائه وحده في الشدة، ونسيانه والكفر به بعد كشفها، زين للمسرفين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك، حتى بلغ من عنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه بالعذاب، والإسراف رديف الطغيان وأخوه، وسيأتي مثل هذه الآية بعد عشر آيات ببيان أبلغ. وقد أسند التزيين هنا إلى المفعول ؛ لأنه المقصود بالعبرة دون فاعله. وسبق مثله في آل عمران والأنعام والتوبة، وقد أسند إلى الشيطان في سورة الأنعام والأنفال، وأسند إلى الله تعالى في الأنعام أيضا بقوله :﴿ زينا لكل أمة عملهم ﴾ [ الأنعام : ١٠٨ ] وبينا في تفسير هذه نكتة اختلاف الإسناد في كل موضع ( راجع ج ٨ تفسير الطبعة الثانية ).
﴿ ولَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ومَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ١٣ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ١٤ ﴾
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين شأنه في الناس وشأنهم معه بمقتضى الطبع البشري، وطغيان الشرك والكفر، ليعتبر به مشركو مكة وغيرهم ممن يعقله، إذ هو من العلم الصحيح المستمد من طبع الإنسان وسيرته، وقفى عليه في هاتين الآيتين بمصداقه من سيرة الأمم الماضية وسنته تعالى فيهم.
فقال عاطفا له على ما قبله ﴿ ولَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾ الخطاب لأمة الدعوة المحمدية، وجه أولا –وبالذات- إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل وطنه مكة، إذ أنزلت السورة فيها، فهو التفات يفيد مزيد التنبيه وتوجيه أذهان المخاطبين لموضوعه، والقرون الأمم -وهو جمع قرن بالفتح - ومعناه القوم المقترنون في زمن واحد، وقد ذكر إهلاك القرون في آيات عديدة من السور المكية، وبدأ هذه بتأكيد القسم المدلول عليه باللام ( ولقد )، وصرح بأن سبب هلاكهم وقوع الظلم منهم كما قال في سورة الكهف ﴿ وتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ﴾ [ الكهف : ٦٠ ]، و " لما " ظرف يدل على وقوع فعل لوقوع غيره مما هو سبب له، والمراد بالقرى الأمم والقرون كما تقدم مرارا، وقال في سورة هود ﴿ وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ] وقد بعث الله الرسل في أهل الحضارة دون الهمج.
وإهلاك الله الأمم بالظلم نوعان :
( أحدهما ) هو مقتضى سنته في نظام الاجتماع البشري، وهي أن الظلم سبب لفساد العمران وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية منها على الضعيفة استيلاء موقتا - إن كان إفساد الظلم لها عارضا لم يجهز على استعدادها للحياة واستعادتها للاستقلال- كما تقدم في تفسير ﴿ فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ﴾ [ البقرة : ٢٤٣ ] من سورة البقرة، أو دائما - إن كانت غير صالحة للحياة حتى تنقرض أو تدغم في الغالبة - كما قال في سورة الأنبياء ﴿ وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١١ ] الآيات، وهذا النوع أثر طبيعي للظلم بحسب سنن الله في البشر، وهو قسمان : ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف في الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق، وظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة في جملتها، وهذه السنة دائمة في الأمم، ولها حدود ومواقيت تختلف باختلاف أحوالها وأحوال أعدائها هي آجالها المشار في الآية ( ٤٩ ) الآتية وأمثالها.
ثانيهما : عذاب الاستئصال للأقوام التي بعث الله تعالى فيها رسلا لهدايتها بالإيمان والعمل الصالح وأعظم أركانه العدل، فعاندوا الرسل فأنذرهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيء الآيات، وهو ما بينه تعالى بقوله :﴿ وجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ الدالة على صدقهم فيما جاءوهم به.
﴿ ومَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ أي ما كان شأنهم ولا متقاضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم مرنوا على الكفر واطمأنوا به، وصارت لذاتهم ومصالحهم القومية من الجاه والرياسة والسياسة مقترنة بأعمالهم الإجرامية من ظلم وفسق وفجور.
﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ تذييل لإنذار مشركي مكة ؛ لأنهم كانوا مجرمين، وتقديره كالذي مر قبله في المسرفين، وراجع تفسير ﴿ وكذلك نجزي المجرمين ﴾ [ الأعراف : ٣٩ ]، وتفسير ﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٨٣ ] من سورة الأعراف.
﴿ ولَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ومَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ١٣ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ١٤ ﴾
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين شأنه في الناس وشأنهم معه بمقتضى الطبع البشري، وطغيان الشرك والكفر، ليعتبر به مشركو مكة وغيرهم ممن يعقله، إذ هو من العلم الصحيح المستمد من طبع الإنسان وسيرته، وقفى عليه في هاتين الآيتين بمصداقه من سيرة الأمم الماضية وسنته تعالى فيهم.
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بعدهم ﴾ الخطاب معطوف على الذي قبله، أي ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعد أولئك الأقوام كلهم، بما آتيناكم في هذا الدين من أسباب الملك والحكم، وقدرناه لكم باتباعه، إذ كان الرسول الذي به جاءهم هو خاتم النبيين، فلا يوجد بعد أمته أمة أخرى لنبي آخر، والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي يكون خلفه فيه، ولقد كان لتلك الأمم دول وحكم في الأرض، كملك النصارى واليهود والمجوس والوثنيين من قبلهم كالفراعنة والهنود، فالله يبشر قوم محمد وأمة محمد بأنها ستخلفهم في الأرض إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه، كما صرح بذلك في قوله :﴿ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ النور : ٥٥ ] الآية.
وقد علل هذا الاستخلاف عند الإخبار الأول به هنا بقوله ﴿ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾، أي لنرى ونشاهد أي عمل تعملون في خلافتكم، فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم، فإن هذه الخلافة إنما جعلها لكم لإقامة الحق والعدل في الأرض، وتطهيرها من رجس الشرك والفسق، لا بمجرد التمتع بلذة الملك، كما قال في أول آيات الإذن لهم بالقتال ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ [ الحج : ٤١ ] فأعلمهم سبحانه بأن أمر بقاء خلافتهم منوط بأعمالهم، وإنه تعالى يكون ناظرا إلى هذه الأعمال لا يغفل عنهم فيها، حتى لا يغتروا بما سينالونه، ويظنوا أنه باق لهم لذاتهم أو لنسبتهم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتفلتونه من سنته في الظالمين- وقد بينها لهم آنفا - وقال في سورة الأعراف ﴿ أَولَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [ الأعراف : ١٠٠ ] الآية، وقد قص علينا فيها ما حذر به قوم موسى عند ما وعدهم على لسانه بإرث الأرض التي وعد بها آباءهم في إثر ما شكوا إليه من إيذاء قوم فرعون لهم قبل مجيئه وبعده، وذلك قوله تعالى حكاية عنه ﴿ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ].
وليراجع القارئ تفسير آية الأعراف في الجزء التاسع، وتفسير قوله تعالى في استخلاف الأمم العام من آخر سورة الأنعام ﴿ وهُو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ] الآية ( ج ٨ )، وقد صدق الله وعده ووعيده للمسلمين –كغيرهم- بما تبين به إعجاز كتابه وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكونه ربى أمته بما علمه ربه من هداية الدين وطبائع العمران وسنن الاجتماع التي لم يكن يعلمها هو ولا قومه الأميون، بل لم تصر علما مدونا إلا من بعد نزول القرآن بعدة قرون، لغفلة علماء المسلمين عما فيه من أصولها وقواعدها الصريحة كهذه الآيات. وقد كان أول من دونها المؤرخ الفقيه عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه مؤملا أن يعنى بها من بعده من العلماء، فيأتوا بتوسيع ما بدأ به من مباحثها، ولكن العلم والحكم في دولة الإسلام كان داخلا في طور الانحطاط والاضمحلال، ثم ارتقى الإفرنج فيهما فترجموا تلك المقدمة بلغاتهم العلمية كلها، وأخذوا منها عدة علوم في سنن العمران، ونحن نأخذها اليوم عنهم غافلين عن هداية القرآن، لأن علماء السوء المقلدين حجبونا عن هدايته ؛ بل حرموها على المسلمين استغناء عنه بكتب مذاهبهم، فأخذهم الله بذنوبهم، ولن يكشف عنهم انتقامه حتى يعودوا إلى هدايته التي استخلف بها سلفهم في الأرض، ولئن عادوا إليها بإقامة سنن القرآن ليتمن لهم وعده بخلافة الأرض إلى آخر الزمان، فبقدر إقامة هذه السنن يكون الملك والسلطان. فمن ذا الذي يقيمها ؟
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ١٦ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ١٧ ﴾
بدئت السورة بالكتاب الحكيم ( القرآن )، وإنكار المشركين للوحي بشبهتهم المعروفة، وسيقت بعدها الآيات في إقامة الحجج عليهم من خلق العالم علويه وسفليه، ومن طبيعة الإنسان وتاريخه، متضمنة لإثبات أهم أركان الدين وهو الوحي والتوحيد والبعث، وجاءت هذه الآيات الثلاث بعد ذلك في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول فيه، وحجته البالغة عليهم في كونه وحيا من الله تعالى.
﴿ وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ في الآية التفات عن خطاب هؤلاء الموعوظين إلى الغيبة عنهم، وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلوب الالتفات في القرآن كثير جدا، وفائدته العامة تلوين الكلام بما يجدد الانتباه له والتأمل فيه، وفي كل التفات فائدة خاصة، لو أردنا بيان ما نفهمه منها لطال بنا بحث البلاغة الكلامية، بما يشغل القراء عن الهداية المقصودة بالذات من تفسيرنا، ويظهر في هذه الآية أن نكتة حكاية هذا الاقتراح السخيف بأسلوب الإخبار عن قوم غائبين إفادة أمرين :
أحدهما : إظهار الإعراض عنهم، كأنهم غير حاضرين ؛ لأنهم لا يستحقون الخطاب به من الله تعالى.
ثانيهما : تلقينه صلى الله عليه وسلم الجواب عنه بما ترى من العبارة البليغة التأثير، والمعنى : وإذ تتلى على أولئك القوم آياتنا المنزلة حالة كونها بارزة في أعلى معارض البيان، وأظهر مقدمات الوحي والبرهان.
﴿ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾ وهم من تقدم ذكرهم قريبا واضعا إياه موضع الضمير للإشعار بعلة القول أي قالوا لمن يتلوها عليهم- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- ﴿ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ﴾، الأظهر في سبب قولهم هذا أنه صلى الله عليه وسلم بلّغهم أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليه لينذرهم به، وتحداهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا، وكانوا في ريب من كونه وحيا من الله لبشر مثلهم كما تقدم في أول السورة، وفي ريب من كونه من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة ولا في شيء من العلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصائحهم من بلغاء الشعراء ومصاقع الخطباء، فأرادوا أن يمتحنوه بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره، في جملة ما بلغهم من سوره في أسلوبها ونظمها ودعوتها، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه، كتحقير آلهتهم وتكفير آبائهم، حتى إذ فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه منقوضة من أساسها، وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان بقوة نفسية فيه كانت خفية عنهم، كأسباب السحر، لا بوحي الله إليه، وهو ما يزعمه بعض الإفرنج ومقلدتهم في عصرنا، وقد فندناه في تفسير الآية الأولى من هذه السورة.
﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي ﴾ أي قل لهم أيها الرسول : إنه ليس من شأني ولا مما تبيحه لي رسالتي أن أبدله من تلقاء نفسي، أي بمحض رأيي ومقتضى اجتهادي، وكلمة تِلقاء -بكسر التاء - مصدر من اللقاء، كتبيان من البيان، وكسر التاء فيهما سماعي، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال.
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ أي ما اتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلي والاهتداء به، فإن بدل الله تعالى منه شيئا بنسخه بلّغته عنه، وما عليّ إلا البلاغ المحض، وأقول : إذا كان الله لم يعط رسوله الحق في تبديل القرآن، فما حكمه تعالى فيمن يبدلونه بأعمالهم المنافية لصدق وعده لأهله -وهم يدعون أنهم أهله- كالذين قال فيهم ﴿ يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾ [ الفتح : ١٥ ]، أو بترك أحكامه لمذاهبهم كالذين قال فيهم ﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ [ البقرة : ١٨١ ] ؟
﴿ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ هذا تعليل لمضمون ما قبله، الذي هو بيان لنفي الشأن الذي قبله، أي إني أخاف إن عصيت ربي -أي عصيان كان- عذاب يوم عظيم الشأن- وهو يوم القيامة- فكيف إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم ؟ وقوله :( إن عصيت ) من باب الفرض، إذ الشرطية المبدوءة بأن يعبر بها عما شأنه ألا يقع. وهذا جواب عن الشق الثاني من اقتراحهم.
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ١٦ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ١٧ ﴾
بدئت السورة بالكتاب الحكيم ( القرآن )، وإنكار المشركين للوحي بشبهتهم المعروفة، وسيقت بعدها الآيات في إقامة الحجج عليهم من خلق العالم علويه وسفليه، ومن طبيعة الإنسان وتاريخه، متضمنة لإثبات أهم أركان الدين وهو الوحي والتوحيد والبعث، وجاءت هذه الآيات الثلاث بعد ذلك في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول فيه، وحجته البالغة عليهم في كونه وحيا من الله تعالى.
ثم لقنه الجواب عن الشق الأول مفصولا لأهميته بقوله :﴿ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ﴾ أي لو شاء الله تعالى أن لا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه بأمره تنفيذا لمشيئته.
﴿ ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ ﴾ أي ولو شاء أن لا يدريكم ويعلمكم به بإرسالي إليكم لما أرسلني ولما أدراكم به، ولكنه شاء أن يمن عليكم بهذا العلم الأعلى لتدروه، فتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف الأرض، وقد علم أن هذا إنما يكون به، لا بقرآن آخر كما قال ﴿ لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ]، وقال :﴿ ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ] [ راجع تفسير هذه وما بعدها في ج ٨ تفسير ]، فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاجون إليه من الهداية وأسباب السعادة، وأمرني بتبليغه إليكم، ولم يكن لي علم بشيء من ذلك قبله.
﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ ﴾ أي فقد مكثت فيما بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله، وهو أربعون سنة لم أتل عليكم فيه سورة من مثله، ولا آية تشبه آياته، لا في العلم والعرفان، ولا في البلاغة ورعة البيان.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ فيها كتابا، ولم يلقن من أحد علما، ولم يتقلد دينا، ولم يعرف تشريعا، ولم يمارس أساليب البيان، في أفانين الكلام، من شعر ونثر، ولا خطابة وفخر، ولا علم وحكم، لا يمكنه أن يأتي من تلقاء نفسه بمثل هذا القرآن المعجز لكم، بل هو يعجز جميع الخلق، حتى الدارسين لكتب الأديان والحكمة والتاريخ أن يأتوا بمثله ؟ فكيف تقترحون عليّ أن آتي بقرآن غيره ؟ وسيتحداهم في الآية ٣٨ بسورة مثله.
ومما يمتاز به الوحي المحمدي على ما كان قبله أن أكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا قبل نبوتهم على شيء من العلم الكسبي- كما بيناه في مباحث الوحي القريبة- وفاتنا فيها التذكير بما أوتي بعضهم من العلم -والحكم الوهبي قبلها أيضا- قال تعالى في موسى ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً ﴾ [ القصص : ١٤ ]، وبلوغ الأشد يكون في استكمال الثلاثين، وذكر بعد هذا خروجه إلى مدين، ونزل الوحي عليه في أثناء عودته منها. وكان موسى على علم بشرائع المصريين ومعارفهم أيضا، وقال تعالى في يوسف ﴿ ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً ﴾ [ يوسف : ٢٢ ]، ولم يقل : واستوى، فالظاهر أنه قبل النبوة أيضا، وكان العلم الذي امتاز به يوسف تأويل الأحاديث والرؤى، أي الأخبار بمآلها، وقال في يحيي ﴿ وآتيناه الحكم صبيا ﴾ [ مريم : ١٢ ]، ولم ينقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة علم ولا حكم في الأمور اللهم إلا حكمه في تنازع زعماء قريش عند بنائهم الكعبة : أيهم يضع الحجر الأسود في مكانه من الركن، وكادوا يقتتلون، فطلع عليهم، فقالوا : هذا الأمين نحكمه ونرضى بحكمه : أي لأنه أمين صادق لا يحابي. فحكم بوضعه في ثوب يأخذ سيد كل قبيلة ناحية منه، ثم ارتقى هو إلى موضعه من الركن فرفعوه إليه فوضعه فيه. والخبر من مراسيل السير لم يرد مرفوعا، وأخرجه البيهقي عن ابن شهاب الزهري، وقد عبر عنه بكلمة غلام، وفي السيرة الحلبية أن سنه صلى الله عليه وسلم كانت عند بناء الكعبة خمسا وثلاثين سنة.
هذه حجة عقلية ناهضة، على بطلان شبهتهم الداحضة، التي بنوا عليها مطالبة محمد صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن، وقد ظهر لعلماء هذا العصر ما أيد دلالتها العلمية، فإنهم -بما حذقوا علم النفس وأخلاق البشر وطباعهم، وما عرفوا من درجات استعدادهم العلمي والعقلي باستقراء تاريخهم- قد حققوا أن استعداد الإنسان العقلي للعلوم، واستعداده النفسي للنهوض بالأعمال القومية أو العالمية، يظهر كل من الاستعدادين فيه من أوائل نشأته، ويكون في منتهى القوة والظهور بالفعل عند استكمال نموه في العقدين الثاني والثالث من عمره، فإذا بلغ الخامسة والثلاثين ولم يظهر نبوغه في علم من العلوم التي سبق اشتغاله بها، ولا النهوض بعمل من الأعمال العامة التي كان استشرق لها، فإن من المحال أن يظهر منه شيء من هذا أو ذاك من بعدها جديدا آنفا ويكون فيه نابغا ناجحا.
وقد قدمنا في مباحث إثبات ( الوحي المحمدي ) أن هذا القرآن مشتمل على تمحيص الحقائق في جميع العلوم والمعارف الدينية والتشريعية التي يتوقف عليها صلاح جميع البشر، وأن الرسول الذي أنزله الله عليه قام بتنفيذ هذا الإصلاح بما غير وجه الأرض، وقلب أحوال أكثر أممها فحولها إلى خير منها، وأن ذلك كله كان بعد أربعين سنة قضاها في الأمية. فهذا العلم الجديد الذي أيد حجة القرآن العقلية في هذا العصر له في علوم القرآن نظائر أشرنا إلى بعضها آنفا، وبينا كثيرا منها في تفسيرنا هذا، وهو مما يمتاز به على جميع التفاسير بفضل الله تعالى، وإن كان أكثر المسلمين غافلين عنه تبعا لغفلتهم عن القرآن نفسه، وعدم شعورهم بالحاجة إلى هدايته، بصد دعاة التقليد المعممين إياهم عنه، ومن الغريب أن ترى أساطين المفسرين لم يفهموا من الآية أن فيها جوابا عن الشق الأول من اقتراح المشركين وهو الإتيان بقرآن آخر، وقد هدانا الله تعالى إليه مع برهانه بفضله، وكم ترك الأول للآخر ! !
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ١٦ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ١٧ ﴾
بدئت السورة بالكتاب الحكيم ( القرآن )، وإنكار المشركين للوحي بشبهتهم المعروفة، وسيقت بعدها الآيات في إقامة الحجج عليهم من خلق العالم علويه وسفليه، ومن طبيعة الإنسان وتاريخه، متضمنة لإثبات أهم أركان الدين وهو الوحي والتوحيد والبعث، وجاءت هذه الآيات الثلاث بعد ذلك في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول فيه، وحجته البالغة عليهم في كونه وحيا من الله تعالى.
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾ هذه تتمة الرد على اقتراح المشركين، فإنه رد عليهم أولا ببيان حقيقة الأمر الواقع، وهو أن تبديل القرآن ليس من شأن الرسول في نفسه، ولا مما أذن الله له به، بل يعاقبه عليه أشد العقاب في الآخرة إن فرض وقوعه منه لأنه كلامه الخاص به وثانيا بإقامة الحجة العقلية على أنه كلام الله، وأنه ليس في استطاعته صلى الله عليه وسلم الإتيان بمثله، ثم عزز هاتين الحجتين بثالثة أدبية وهي أن شر أنواع الظلم والإجرام في البشر شيئان : أحدهما افتراء الكذب على الله، وهو ما اقترحوه عليه بجحودهم، وثانيهما التكذيب بآيات الله، وهو ما اجترحوه بإجرامهم، وقد بين بصيغة الاستفهام الإنكاري، أي لا أحد يظلم عند الله وأجدر بغضبه وعقابه من هذين الفريقين من الظالمين، وأنا أنعى عليكم الثاني منهما، فكيف أرضى لنفسي بالأول وهو شر منه ؟ وأي فائدة لي من هذا الإجرام العظيم وأنا أريد الإصلاح وأدعو إليه وأحتمل المشاق في سبيله، وأعلم ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي لا يفوزون بمطلوبهم الذي يتوسلون إليه بالكذب والزور.
وقد تقدم مثل هذا الاستفهام في ثلاث آيات من سورة الأنعام [ ٢١ و٣٩ و١٤٤ ] وفي آية من سورة الأعراف [ الآية : ٣٧ ] فراجع تفسيرهن في ج ٨ تفسير.
﴿ ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاواتِ ولاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨ ﴾
هذه الآية في دحض شبهتهم على عبادة غير الله تعالى، وهي الشفاعة، وتقدم في الآية الثالثة بطلانها، وإقامة الحجة على وجوب عبادة الرب الخالق المدبر وحده، وصرح هنا بإسناد هذا الشرك إليهم، وباحتجاجهم عليه بالشفاعة، ثم لقن رسوله الحجة على بطلان هذا الاحتجاج، فقال :
﴿ ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ الكلام معطوف على ما قبله من بيان شركهم وسخافتهم فيه، ومكابرتهم في جحود الحق الذي دعاهم إليه الوحي، أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها من دون الله، أي غير الله، والمعنى أنهم يعبدونها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته وحده، لا أنهم يعبدونها وحدها، فما معنى كونهم مشركين إلا أنهم يبعدونه ويعبدون غيره. ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ]، وفي وصفها بأنها لا تضرهم ولا تنفعهم إيذان بسبب عبادتها وضلالهم فيه، وتذكير بأنه هو القادر على نفع من يعبده، وضر من يكفره ويشرك بعبادته غيره في الدنيا والآخرة.
وأصل غريزة العبادة الفطرية في البشر في سذاجتهم - التي لا تلقين فيها لحق ولا باطل - هي الشعور الباطن بأن في الوجوه قوة غيبية وسلطانا علويا على التصرف في الخلق بالنفع لمن شاء، وإيقاع الضر على من شاء، وكشفه بعد وقوعه عمن شاء، غير مقيد في ذلك بسبب من الأسباب المسخرة للناس، فمن اطلع على تواريخ البشر في كل طور من أطوار حياتهم البدوية والحضرية يظهر له أن هذا هو أصل التدين الغريزي فيهم، وأما صور التعبد وتسمية المعبودات فمنها ما هو من اجتهادهم، ومنها ما هو من تلقين دعاة الدين فيهم من الأنبياء وغيرهم، فكل ما عبد من دون الله بالرأي والاجتهاد فإنما عبده من عبده لشبهة فهم منها قدرته على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب، وقد بينا ذلك في مواضع أخرى، أولها تفسير العبادة من سورة الفاتحة، وأوسطها وأبسطها تفسير قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه آزر من سورة الأنعام، ومن آخرها في تفسير هذه السورة ما جاء في بيان الركن الأول من أركان الدين، وفي الكلام على الخوارق من بحث الوحي الاستطرادي.
فليس المراد من كون هذه المعبودات لا تضرهم ولا تنفعهم هو بيان عجزها عن النفع والضر ؛ لأنها إما جمادات مصنوعة - كالأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب، والأصنام المتخذة من المعادن وكذا الحجارة- أو غير مصنوعة –كاللات، وهي صخرة كانت بالطائف يلت عليها السويق ثم عظمت حتى عبدت- وإما أشجار - كالعزى معبودة قريش، والشجرة التي قطعها الشيخ محمد عبد الوهاب في نجد، وشجرة المنضورة التي يقصدها النساء في مصر لأجل الحبل- فإن أكثر الأوثان والأصنام قد وضعت ذكرى لبعض الصالحين من البشر - كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه في أصنام قوم نوح- ثم انتقلت عبادتهم إلى العرب، وكانوا يعتقدون أن فيها أرواحا من الجن - كما روي في حديث قطع شجرة العزى، أو شجراتها الثلاث- إذ ظهرت عند قطعها لخالد بن الوليد امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها، كانوا يزعمون أنها جنية، فأرادت أن تواثبه وتخيفه فقتلها، فهي كالقبور التي تشرف وتجصص، ويوضع عليها الستور، وتبنى عليها القباب لمثل السبب الذي وضعوا له تماثيل الأوثان، وعبدة هذه القبور يعتقدون أن المدفونين فيها أحياء يقضون حاجات من يدعونهم ويستغيثونهم، وعلماء الخرافات يقولون لهم : إن عملهم هذا شرعي.
نعم ليس المراد هنا من نفي ضرها ونفعها أنها جمادات لا عمل لها فقط كما قيل- وإن كانت الحجة على عبادة هذه الأصنام أظهر من الحجة على عبادة الثعابين والبقر والقرود، ولا يزال لها بقية في الهند، وعلى عبادة البشر التي هي أساس النصرانية الآرية التي وضعها الإمبراطور قسطنطين، ومن اتبع سنن النصارى والهنود من جهلة المسلمين- وإنما المراد المقصود بالذات بيان بطلان الشرك بالألوهية- وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود- وبطلان الشرك بالربوبية - وهو قسمان ادعاء وساطتهم في الخلق والتدبير، واحتجاجهم عليه بشفاعتهم عند الله - وهو كذب في التشريع الذي هو حق الرب وحده، ولا يعلم إلا بوحيه. بيان الأول أن كل ما عبد ومن عبد من دون الله - حتى الجن والملائكة- لا يملكون لعابديهم النفع والضر بالقدرة الذاتية الغيبية التي هي فوق الأسباب التي منحها الخالق للمخلوقات على اختلاف أنواعها، لا بذواتهم وكراماتهم ولا بتأثير خاص لهم عند الخالق يحملونه به على نفع من شاءوا، أو ضر من شاؤوا، أو كشف الضر عنه، كما يعتقد عباد الأنبياء والأولياء من البشر إلى هذا اليوم، ولهذا أمر الله تعالى رسوله أن يحتج على النصارى في عبادتهم للمسيح عليه السلام بقوله :﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولاَ نَفْعاً واللّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [ المائدة : ٧٦ ]، وهذه حجة على عبدة القبور وعلى أصحاب العمائم الذي يتأولون لهم عبادتهم بما يظنون أنه يبعدهم عن عباد الأصنام، بقولهم : إن هؤلاء الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام، ولكن الله تعالى يقول للنصارى : إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له على ما آتاه من المعجزات، وإن هؤلاء الدجالين من الشيوخ يؤمنون بأن المسيح أفضل من البدوي والحسين والسيدة زينب وغيرهم ممن يزعمون أنهم يملكون الضر والنفع لمن يطلبه منهم، وحياته لا تزال في اعتقادهم حياة عنصرية وحياتهم برزخية، ومعجزاته قطعية وكراماتهم غير قطعية.
كذلك أمر الله تعالى رسوله خاتم النبيين وأفضلهم أن يخبر الناس بنفي ملكه لضر الناس ونفعهم وهو حي كما يأتي في الآية ( ٤٩ ) من هذه السورة، وسبق مثلها في سورة الأعراف ( ١٨٨ ).
﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ أي ويقولون في سبب عبادتهم لهم- مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم ؛ لإيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى- : هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فنحن نعبدهم بتعظيم هياكلهم وتطييبها بالعطر والطواف بها، وبتقديم النذور لهم، والإهلال عند ذبح القرابين بأسمائهم، وبدعائهم والاستغاثة بهم، لأنهم شفعاؤنا عند الله، يقربوننا إليه زلفى، فيدفع بجاههم عنا البلاء، ويعطينا ما نطلب من النعماء، هذا ما يقوله منكرو البعث منهم، وهم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآخرة، على أنهم إذا فرضوا وجودها زعم مجرموهم أنهم يكونون فيها كما كانوا في الدنيا كما حكى الله تعالى عنهم بقوله :﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وأَوْلَاداً ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] وقوله في الإنسان الكافر ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ومَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ولَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ]، وروي عن عكرمة أن النضر بن الحارث من كبار مجرميهم قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وكذلك كل من يؤمن بالآخرة -ممن يعبدون غير الله- يعتقدون أن معبوديهم يشفعون لهم فيها كما يشفعون لهم في الدنيا، فإن أساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلبونه من الله لا بد أن يكون بواسطة المقربين عنده ؛ لأنهم لا يمكنهم القرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم ؛ لأنها مدنسة بالمعاصي، بخلاف دين التوحيد فإنه يوجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته.
﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ﴾، أي قل لهم أيها الرسول مُنكِرا عليهم جهالتهم وافتراءهم على ربهم : أتخبرون الله تعالى وتعلمونه بشيء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء في السماوات من ملائكته ولا في الأرض من خواص خلقه ؟ فإنه لو كان فيهما شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم، فإنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يخفى عليه من لهم من المكانة عنده أن جعلهم وسطاء بينه وبين خلقه في قضاء حاجاتهم من نفع وضر، وفي تقريبهم إليه زلفى، كالوسطاء عند ملوك البشر الجاهلين بأمور رعيتهم، والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم بدون وساطة الوزراء والحجاب والقواد ؟
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنزيها له وتعالى علوا كبرا عما يشركون به من الشفعاء والوسطاء، وما يفترونه عليه بجعلهم هذا دينا يتقرب به إليه، فهذا تذييل للجواب مبين لما في هذا الشرك من إهانة مقام الربوبية والألوهية، وتشبيه رب العالمين بعبيده من الملوك الجاهلين العاجزين.
وقرأ حمزة والكسائي ( تشركون ) بتاء الخطاب، على أنه تتمة للجواب، وحكمة القراءتين تنزيهه تعالى عن شرك الجميع، من غائب محكي عنه، وحاضر مخاطب.
وفي هذا الجواب من أصول الدين أن شؤون الرب وسائر ما في عالم الغيب توقيفي لا يعلم إلا بخبر الوحي، ومنه اتخاذ الوسطاء عند الله مما ذكر وأنه عين الشرك، ولكن من علماء الأزهر من يثبتون هذه الوساطة بالرأي، ويحرفون ما ينقضها من الآيات المحكمات والأحاديث المتفق عليه كأنها هي الأصل، حتى إنهم يبيحون دعاء الموتى واستغاثتهم عند قبورهم، ويحتجون على ذلك بأنهم أحياء فيها، وبأن الإفرنج أثبتوا وجود الأرواح وعلاقتها بالناس، ولكن الذين قالوا بهذا من علمائهم -وهو أقلهم- لم يقولوا إنها تنفعهم وتضرهم، أو تشفع عند الله لهم، ولو قالوا هذا لما كان لنا أن نتخذ قولهم حجة نعارض بها نصوص ديننا أو نتأولها لتوافقها، ولمشيخة الأزهر الرسمية مجلة تنشر باسمها هذه البدع والخرافات في جميع بلاد المسلمين، وتطعن على المعتصمين بالسنة وسيرة السلف الصالحين، وعلى المعتصمين بالقرآن أيضا -وهو حبل الله المتين- لزعمهم أن الواجب عليهم هو أخذ الدين له كله عن كتب مقلدة الفقهاء والمتكلمين، حتى المتأخرين منهم دون الأئمة المجتهدين.
﴿ ومَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٩ ﴾
تقدم في هذا السياق -من أول السورة إلى هنا- أن أهل مكة لم يكن دأبهم في تكذيبهم للوحي المحمدي إلا كدأب من قبلهم من الأقوام الذين كذبوا رسلهم. ولم يكونوا في استعجال نبيهم العذاب إلا كالذين استعجلوا رسلهم العذاب أيضا، وتقدم فيه بيان بعض طباع البشر- ولاسيما الكفار- في الرعونة والعجلة، وفي الضراعة إلى الله والإخلاص له عند الشدة، ونسيانه عند الرخاء، وفي الإشراك بالله بدعوى أن لهم شفعاء عند الله يدفعون عنهم الضر، ويجلبون لهم النفع بوجاهتهم عنده، ثم جاءت هذه الآية في بيان ما كان عليه الناس من الوحدة، وما صاروا عليه من الاختلاف والفرقة، فالتناسب بينها وبين ما قبلها في غاية القوة.
﴿ ومَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ﴾ قيل إن المراد بالناس هنا العرب، فإنهم كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحيّ الذي ابتدع لهم عبادة غير الله، وصنع لهم الأصنام كما ثبت في صحيح البخاري فاختلفوا بأن أشرك بعضهم، وثبت على الحنيفة آخرون.
وقيل - وهو المختار- أن المراد الجنس البشري في جملته، فإنهم كانوا أمة واحدة على الفطرة، إذ كانوا يعيشون عيشة السذاجة والواحدة كأسرة واحدة، حتى كثروا وتفرقوا فصاروا عشائر فقبائل فشعوبا تختلف حاجتها وتتعارض منافعها، فتتعادى وتتقابل في التنازع فيها، فبعث الله فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم، وإزالة الاختلاف بكتاب الله ووحيه، ثم اختلفوا في الكتاب نفسه أيضا بغيا بينهم، واتباعا لأهوائهم، وتقدم تفصيل هذا في تفسير [ البقرة : ٢١٣ ]، وأقوال المفسرين في المسألة، والترجيح بنيها.
﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي ولولا كلمة حق فاصلة سبقت من ربك في جعل جزاء الناس العام في الآخرة لجعله لهم في الدنيا بإهلاك المبطلين الباغين منهم، فالمراد من الكلمة قوله تعالى في هذه السورة :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [ يونس : ٩٣ ]، ومثله في سور أخرى، والآية تتضمن الوعيد على اختلاف الناس المفضي إلى الشقاق والعدوان، ولاسيما الاختلاف في كتاب الله الذي أنزله لإزالة الشقاق بحكمه، وإدالة الوحدة والوفاق منه، وتقدم بيانه وحكمته في تفسير آية البقرة ( ٢١٣ ) وفي غيرها، وسنعود إلى بيان حكمته وحكمة خلق الإنسان مستعدا للاختلاف في تفسير آية سورة هود ﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ﴾ [ هود : ١١٧ ] الخ.
﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ٢٠ ﴾
الكلام في منكري الوحي من المشركين المنكرين للبعث، حكى عنهم عجبهم من الوحي إلى بشر مثلهم، ورد عليهم بأنواع الحجج المتقدمة المتضمنة لبطلان شركهم وإنكارهم للبعث، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن الدال- بأسلوبه ونظمه وعلومه وهدايته -على أنه وحي من كلام الله عز وجل أو تبديله، ورد عليهم بما علمت. ثم حكى عنهم في هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال ربه عليه آية كونية غير هذا القرآن، وما فيه من الآيات العلمية والعقلية على النبوة والرسالة، مع الرد عليها. والجملة معطوفة على جملة ما قبلها من حكايات أقوال المشركين وأعمالهم في جحود الرسالة، ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد والإيمان بالبعث، لا على آخر ما حكاه عنهم في قوله :﴿ ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا ﴾ [ يونس : ١٨ ] خاصة لقربه، وكون كل منهما بلفظ المضارع، فإن المحكي هنا غير مشارك للمحكي قبله في خاصة موضوعه أو ما يناسبه، ولا على ما حكاه عنهم من طلب الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله خاصة إن كانا في موضوع واحد، لبعده، وللاختلاف بينهما في حكاية ذاك بالماضي وهو ﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ وحكاية هذا بالمضارع الخ.
وقال الزمخشري في الكشاف في ترجيحه : إن المضارع هنا بمعنى الماضي هناك، وإنما آثر المضارع على الماضي ليدل على استمرار هذه المقالة، وأنها من دأبهم وعادتهم، مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة اه، وقد أخطأ في الترجيح وباعد، وإن سدد في التعليل وقارب، والتحقيق أن المعنى الجامع بين الجمل المتعاطفة في هذا السياق حكاية أنواع جحودهم في جملتها، وأن التعبير بالمضارع في هذه وما قبلها وفيما سيأتي من قوله :﴿ أم يقولون افتراه ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وقوله :﴿ ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس : ٤٨ ] إنما هو لما يتكرر من أقوالهم في الجحود، فإن اقتراح نزول آية كونية عليه قد تكرر منهم، وذكر في سور منها ما نزل قبل هذه السورة ( يونس )، ومنها ما نزل بعدها، كما سنوضحه بشواهده، فمعنى الآية هكذا :
﴿ ويَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ أي قد قالوا ولا يزالون يقولون : هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية كونية -كآيات الأنبياء- يحدثنا عنهم، حكى سبحانه عنهم هذا الاقتراح هنا مجملا، وأجاب عنه جوابا مجملا ؛ لأن كلا منهما قد سبق مفصلا في سور أخرى، وقد جهل هذا كفار الإفرنج وتلاميذهم من ملاحدة مصر، فقالوا في مثله : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يفر من مناظرة المشركين.
﴿ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ ﴾ والآيات من عالم الغيب عند الله تعالى وبيده وحده ؛ لأنها خوارق فوق قدرة البشر، وإنما أنا بشر والغيب لله لا يعلمه غيره، فإن كان قدر إنزال آية علي فهو يعلم وقتها وينزلها فيه، وأنا لا أعلم إلا ما أوحاه إلي.
﴿ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾ ‏ لما يفعله بي وبكم، كما قال تعالى بعد حكاية رميه صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن ﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأحقاف : ٩ ]، ويفسر ما ينتظره وينتظرونه منه قوله في أواخر هذه السورة ﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٢ ]، وفيه إنذار لهم بالعذاب وهو قسمان : عذاب الاستئصال لمن أوتوا ما اقترحوا على رسلهم من الآيات، فأصروا على الجحود والعناد، وعذاب من لم يؤتوا ذلك، وهو خذلانهم ونصر الرسل عليهم في الدنيا وما وراءه من عذاب الآخرة.
حكى الله تعالى عنهم اقتراح آية أو آيات مبهمة في بعض السور، واقتراح آيات معينة في سور أخرى، منها ما نزل بعد هذه السورة وهي الحجر ( ٦ ٨ )، فالأنعام ( ٨ و ٩ و ٣٩ و ٤١ و ١٠٩ و ١١١ )، فالأنبياء ( ٥ )، فالعنكبوت ( ٥ )، فالرعد ( ٨ و ٢٨ )، وفيها أجوبة : فأما الأنعام ففيها تفصيل لكون الآيات لا تزيدهم إلا عنادا وإصرارا على الجحود، فتحق عليهم كلمة عذاب الاستئصال، وتنافي مراد الله تعالى من بعثة خاتم النبيين، وتقدم تفسيرها في الجزأين ٧ و ٨ من تفسيرنا هذا فيراجع، ثم أجمل ذلك في سورة الأنبياء فقال :﴿ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٦ ]، ثم أجاب عنها في سورة العنكبوت بقوله :﴿ أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٥١ ].
لكنه كان قد فصل مقترحاتهم مع الرد عليها في السور التي قبل ذلك كله، كقوله تعالى :﴿ وقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ [ الفرقان : ٧، ٨ ]، ثم حكى عنهم في سورة بني إسرائيل ( ١٧ ) أنهم طالبوه صلى الله عليه وسلم بواحدة من بضع آيات، وعلقوا إيمانهم على إجابة طلبهم، فقال بعد بيان عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وما صرفه فيه للناس من جميع ضروب الأمثال :﴿ وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] الخ الآيات الأربع، ثم لقن رسوله صلى الله عليه وسلم الرد عليهم بقوله :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٣، ٩٤ ]، أي سبح ربك في جوابهم، تسبيح التعجب من قولهم، وذكِّرهم بأنك بشر مثلهم، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بالآيات الخارقة لسنن الكون، وأن آفتهم هي آفة من كان قبلهم من الأقوام الذين لم يعقلوا ما جاء به الرسل من الهدى، وأنه متى تبين وجب على العاقل اتباعه لذاته، فاحتقروا الرسل الذين جاءوهم به لأنهم بشر مثلهم، واقترحوا أن تجيئهم به الملائكة، وأنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون كالبشر يمكنهم التلقي عنهم لنزل عليهم ملكا، ثم بين لهم أنه إذا نزل الملك فهو لا ينزل إلا بالعذاب، إلا أن يجعل بشرا، وإذا لاحتجوا عليهم بأنه مثلهم، كما قال في سورة الحجر حكاية لخطابهم للذي نزل عليه الذكر ﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ ومَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾ [ الحجر : ٧، ٨ ]، وقال في الأنعام :﴿ وقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ولَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨، ٩ ].
ولقنه في هذه السورة ( بني إسرائيل ) حجة أخرى في حكمة عدم نزول الآيات الكونية عليه أو سببه، وهي قوله :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَولُونَ ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ]، أي وما صرفنا عن إرسال الآيات اللاتي اقترحتها قريش إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع والعادة، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك، واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما مضت به سنتنا. وقد قضينا أن لا نستأصلهم ؛ لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية، وأنه هو رحمته العامة الشاملة، ولأن فيهم من يؤمن أو يولد لهم من يؤمن. ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فنذكره مع عبارة البيضاوي الوجيزة في تفسيره وهو ﴿ وآتينا ثمود الناقة ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] لسؤالهم، " مبصرة " بينة ذات إبصار أو بصائر أو جاعلتهم ذوي بصائر، " فظلموا بها " أي فكفروا وظلموا أنفسهم بسبب عقرها، " وما نرسل بالآيات " أي المقترحة، " إلا تخويفا " من نزول العذاب المستأصل فإن لم يخافوا نزل " اه.
وفي سورة القصص -وقد نزلت بعد الفرقان قبل بني إسرائيل- تفصيل لقصة موسى في مولده ونشأته، وفراره من فرعون إلى مدين، وبعثته في طور سيناء الخ، وقد صرح في آخرها أنها تدل على رسالته صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يكن يعلم من أمرها شيئا، فهي من علم الغيب، كما تراه في الآيات ( ٤٤ و٤٥ ) منها، وقد تقدم نصها ( في مباحث الوحي ج ١١ تفسير )، ثم قال :﴿ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ونَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَولَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٧ ٤٨ ] الخ.
فجملة ما ورد في اقتراح الآيات الكونية من مجمل ومفصل يفسر بعضه بعضا، وهو مقرر لما علم بالقطع من دين الإسلام أن الله تعالى جعل حجته على رسالة خاتم النبيين هذا القرآن - المشتمل على كثير من الآيات العقلية والعملية والإصلاحية وإخبار الغيب وإعجاز الأسلوب والنظم والتأثير في الهداية الخ- ما فصلناه في الفصل الاستطرادي الذي عقدناه لإثبات الوحي في أول تفسير السورة ( ج ١١ )، وقد آتى الله رسوله خاتم النبيين آيات أخرى علمية وكونية، ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته، ولا أمره بالتحدي بها، وإنما كانت تكون لضرورات اشتدت حاجة الأمة إليها كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم وتقدم بيانه.
ويؤيد هذه القاعدة المأخوذة من هذه الآيات كلها ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا :" ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ١، وقد يعارضه آية انشقاق القمر مع ما ورد في أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية على نبوته فانشق القمر، فكان فرقتين٢، ولكن في الأحاديث الواردة في انشقاقه عللا في متنها وأسانيدها وإشكالات علمية وعقلية وتاريخية فصلناها في المجلد الثلاثين من المنار، وبينا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم في القرآن، وكون الآيات المقترحة تقتضي إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال، هو الحق الذي لا ينهض لمعارضته شيء، وسنعود إليها في تفسير سورة القمر إن أحيانا الله تعالى، ووفقنا لإتمام التفسير بفضله.
١ أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١، وفضائل القرآن باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩..
٢ لفظ حديث انشقاق القمر: "انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شقتين"، أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٧، ومناقب الأنصار باب ٣٦، وتفسير سورة ٥٤، باب ١، ومسلم في المنافقين حديث ٤٣، ٤٧، ٤٨، وأحمد في المسند ١/٣٧٧، ٤١٣، ٤٤٧، ٣/٢٧٥، ٢٧٨، ٤/٨٢..
لما كان الجواب عن اقتراحهم الآية الكونية للدلالة على النبوة يتضمن بمعونة ما يفصله من الآيات أن أولئك المشركين المعاندين لا يقتنعون بالآيات، وأنهم إذا رأوها بأعينهم يكابرون حسهم ولا يؤمنون، ضرب الله تعالى مثلا له في آياته الكونية الدالة على وحدانيته في أفعاله وحكمه فيها، وما لهؤلاء المشركين المعاندين من المكر فيها، وكونها لا تزيدهم إلا ضلالا.
﴿ وإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ ﴾ هذه الشرطية منتظمة مع أختيها في الآيتين ١٢ و ١٥ في نسق واحد، والذوق في أصل اللغة إدراك الطعم بالفم، والمدرك له عصب خاص في اللسان، واستعمل مجازا في إدراك غيره من الملائمات كالرحمة والنعمة، والمؤلمات كالعذاب والنقمة، والضراء الحالة من الضر المقابل للنفع، ويقابلها السراء من السرور، أي وإذا كشفنا ضراء مسّ الناس ألمها، برحمة منا أذقناهم لذاتها على أتمها، لأن الشعور بها عقب زوال ضدها يكون أتم وأكمل.
﴿ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ﴾ إذا هذه تسمى الفجائية، والجملة جواب للشرط. أي ما كان منهم إلا أنهم بادروا إلى المكر، وأسرعوا بالفجائية به في مقام الشكر، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض، وأنبت الزرع، ودر به الضرع، بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل، قالوا : مطرنا بالأنواء، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزتهم أسبابها، عللوها بالمصادفات، وإذا كان سببها دعاء نبيهم أنكروا إكرام الله له وتأييده بها، كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم رفع عنهم بدعائه فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا، ومكرا وكنودا.
أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى :﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ الدخان : ١٠ ١١ ]، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : يا رسول الله استق لمضر، فإنها قد هلكت فقال :" مضر ؟ " متعجبا، وفي رواية فجاءه أبو سفيان فقال : يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول الذي تقدم فيه قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر ربك الذين كفروا ﴾ ١ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية، وقد بينا في تفسيرها وتفسير ( ٩٨ ) وآية ( ٥٤ ) معنى المكر في اللغة، وكونه حسنا وسيئا، ومعنى إسناده إلى الله تعالى، وخلاصته أن المكر عبارة عن التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه، وأن مكره تعالى وهو تدبيره الذي يخفى على الناس إنما يكون بإقامة سننه، وإتمام حكمه في نظام العالم، وكله حق وعدل حسن، ولكن ما يسوء الناس منه يسمونه شرا وسوءا، وإن كان جزاء عدلا، ويراجع تحقيقه في الجزأين ٣ و٩ من التفسير.
﴿ قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يسرعون في المكر كما دلت عليه المفاجأة : إن الله تعالى أسرع مكرا منكم، إذ سبق في تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم في الدنيا قبل الآخرة، وهو عالم به لا يخفى عليه شيء منه، وأكد هذا بقوله :﴿ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ يعني الحفظة من الملائكة الذين وكلهم الله تعالى بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها في الآخرة. وكتابة المكر عبارة عن كتابة متعلقة من الأعمال اللاتي كان هو الباعث عليها، ويجوز أن تكتب نيتها وهي المعنى المصدري للمكر.
والجملة تتمة الجواب الذي لقنه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بناء على أنه يبلغه عنه عز وجل بلفظه الموحي إليه لا بمعناه، ولذلك يدخل في التبليغ لفظ " قل " وهو خطاب الله له صلى الله عليه وسلم مقوله الخاص بهم، كقوله :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ [ الكافرون : ١ ]، وأمثاله الكثيرة في القرآن، بل أقول له : إنه صلى الله عليه وسلم بلغهم الآية برمتها : ما حكاه تعالى عنهم، وما أمره أن يجيبهم به، وقد يكون ذلك في ضمن السورة كلها لا وحده، ومثل هذا يقال في أمثاله.
فعلم بهذا أنه ليس المراد أن يقول صلى الله عليه وسلم لهم كلمة :" أسرع مكرا " من قبل نفسه فيستشكل الالتفات فيها عن الغيبة إلى التكلم في " إن رسلنا "، بل هو جار على سنة القرآن فيه، وهو أبلغ في تصوير تسخير الله تعالى للملائكة في كتابة الأعمال من التعبير بضمير الغيبة " إن رسله يكتبون " الخ ؛ لأن في ضمير الجمع من تصوير العظمة في هذا التدبير العظيم، والنظام الدقيق، ما يشعر به كل من له ذوق في هذه اللغة سيدة اللغات، التي اعترف علماء اللغات من الإفرنج بأنها تفوق جميع لغاتهم، في التعبير عن صفات الله تعالى وكماله وعظمته، ومثل هذا الالتفات فيها قوله تعالى :﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ].
وقرأ نافع ويعقوب ( يمكرون ) بالمثناة التحتية، وفائدته الإعلام بأن ذلك شامل للغائبين كالحاضرين.
وقد فصلنا القول في كتابة الملائكة الحفظة لأعمال الناس، وحكمتها في تفسير ﴿ وهُو الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ويُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ﴾ [ الأنعام : ٦١ ] من سورة الأنعام، وشرحنا قبلها مسألة كتابة مقادير الخلق كلها في تفسير الآية ﴿ وعند مفاتح الغيب ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] منها، فيراجع الموضوع كله في جزء التفسير السابع من شاء، ومن اكتفى بالإجمال فحسبه الإيمان بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا الله تعالى معرفة صفتها، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما في إحصائها، لأجل مراقبتنا له فيها، لنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن اسم التفضيل ( أسرع ) فيها على أصله من الفعل الثلاثي : سرع كضخم وحسن سرعا وسرعة، فهو سرع وسريع وسراع، والمستعمل بكثرة الرباعي أسرع، وفي اللسان أن سيبويه فرق بينهما فقال : أسرع طلب ذلك من نفسه وتكلفه كأنه أسرع المشي أي عجله، وأما سرع فكأنها غريزة، وأن ابن جني استعمل أسرع متعديا اه، وجوز بعض النجاة كون اسم التفضيل من مثل أسرع مطلقا، أو إذا لم تكن همزته للتعدية.
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٤، باب ٢، ومسلم في المنافقين حديث ٤٠، وأحمد في المسند١/٣٨١..
لما كان الجواب عن اقتراحهم الآية الكونية للدلالة على النبوة يتضمن بمعونة ما يفصله من الآيات أن أولئك المشركين المعاندين لا يقتنعون بالآيات، وأنهم إذا رأوها بأعينهم يكابرون حسهم ولا يؤمنون، ضرب الله تعالى مثلا له في آياته الكونية الدالة على وحدانيته في أفعاله وحكمه فيها، وما لهؤلاء المشركين المعاندين من المكر فيها، وكونها لا تزيدهم إلا ضلالا.
ثم ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء الناس- هو من أبلغ أمثال القرآن- فقال :﴿ هُو الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ ﴾ السير المضي والانتقال من مكان إلى آخر، والتسيير جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره، أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو مركبة أو سفينة، أي إن الله تعالى هو الذي يسيركم أيها الناس في البر والبحر بما وهبكم من القدرة على السير، وما سخر لكم من الإبل والدواب والفلك التي تجري في البحر ( وزادنا في هذا العصر القطارات والسيارات البخارية والطيارات التي تسير في الجواء ).
﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ ﴾ أي حتى إذا كنتم في إحدى حوادث سيركم البحري راكبين في الفلك التي سخرها لكم، والفلك بالضم اسم للسفينة المفردة ولجمعها وهو السفن والسفائن ( مفرده وجمعه واحد )، والمراد به هنا الجمع إذ قال :﴿ وجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ أي وجرت هذه الفلك بمن فيها بسبب ريح طيبة، أي رخاء مواتية لهم في جهة سيرهم، والطيب من كل شيء ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال : رزق طيب، ونفس طيبة، وبلدة طيبة، وشجرة طيبة.
وفي قوله :﴿ بهم ﴾ التفات عن الخطاب إلى الغيبة، فائدته -كما قال الزمخشري- المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح لها، أي لما وصفهم به بعد ذلك من كفر النعمة.
﴿ وفَرِحُواْ بِهَا ﴾ لما يكون لهم في هذه الحالة من الراحة والانتعاش والأمن من دوار البحر، والتمتع بمنظرها العليل.
﴿ جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ أي جاءت الفلك أو الريح الطيبة، أي لاقتها ريح شديدة قوية. يقال : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، أي تعصف الأشياء وتكسرها فتكون كعصف النبات وهو الحطام المتكسرة منه.
﴿ وجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ أي واضطرب البحر وتموج سطحه كله، فتلقاهم موجه من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح، فهي أنواع : منها ما يهب من ناحية واحدة كالرياح الأربع، ومنها النكباء، وهي المنحرفة التي تقع بين ريحين مختلفتين، ومنها المتناوحة التي تهب من جميع النواحي، ومنها الإعصار وهي التي تدور فتكون عمودية فيرتفع بها ما تدور عليه من التراب والحصى من الأرض، والماء من سطح البحر بما عليه وما فيه من سمك وغيره، ثم يلقي في مكان آخر.
﴿ وظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ أي اعتقدوا اعتقادا راجحا أنهم هلكوا بإحاطة الموج من كل جانب، كما يحيط العدو المحارب بعدوه إذ يطوقه بما يقطع عليه سبل النجاة، ذلك بأن فعل العاصف يهبط بهم في لجج البحر تارة، كأنهم سقطوا في هاوية سحيقة، ولا يلبث أن يثب بهم إلى أعلى غوارب الموج، كأنهم في قنة جبل شاهق أصابه رجفة زلزلة شديدة.
﴿ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ هذا جواب لما تضمنه قوله تعالى :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك ﴾ الخ، أي حتى إذا ما نزل بهم كل ذلك من نذر العذاب، وتقطعت بهم دون النجاة جميع الأسباب، دعوا الله في كشفه عنهم مخلصين له الدين، لا يتوجهون معه إلى ولي ولا شفيع، ولا ند ولا شريك، ممن كانوا يتوسلون بهم إليه في حال الرخاء عازمين على طاعته قائلين :
﴿ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ أي نقسم لك يا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة أو العاصفة لنكونن من جماعة المؤمنين الشاكرين لنعمائك لا نكفر منها شيئا، ولا نشرك بك أحدا، ولا ندعو من دونك وليا ولا شفيعا، ولا نتوجه في تفريج كروبنا وقضاء حاجنا إلى وثن ولا صنم، ولا إلى ولي ولا نبي ولا ملك، وفي هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم، ولكن من لا يحصى عددهم من مسلمي هذا الزمان –بزعمهم- لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلالي والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم - ولاسيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقاتهم ونذورها - من يغريهم بشركهم، ويتأوله لهم، بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره.
وقد سمعت من كثير من الناس في مصر وسورية حكاية يتناقلونها -ربما تكررت في القطرين لتشابه أهلهما، وأكثر مسلمي هذا العصر في خرافتهم- وملخصها أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق فصاروا يستغيثون معتقديهم بعضهم بقول : يا سيد يا بدوي، وبعضهم يصيح : يا رفاعي وآخر يهتف : يا عبد القادر يا جيلاني... الخ وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعا، فقال : يا رب أغرق أغرق، ما بقي أحد يعرفك.
وفي هذا المعنى قال السيد حسن صديق الهندي في الكلام على الآية من تفسيره فتح الرحمن :
" وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا، وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها، فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون- كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع- فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ؟ وأين وصل بها أهلها ؟ وإلى أين رمى بهم الشيطان ؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمح في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون ".
وقال السيد محمود الآلوسي العراقي في تفسيرها من روح المعاني ما نصه :
" أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد، وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوز في طبائع العالم. وروي ذلك عن ابن عباس، ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما، قال : فجاء فأسلم. وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى يوحدونه قال : ما هذا ؟ فقالو : ا هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى، قال : فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه، فارجعوا بنا فرجع وأسلم.
وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه، بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا ؛ لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين، وأيا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه، بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لي : أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا، وأي الداعيين أقوم قيلا، وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف اه.
أقول : يعني الشهاب الآلوسي -رحمه الله - : إن فشو هذا الشرك في الناس عامتهم، وشيوخ البدع من علمائهم، والمنافقين من حكامهم، جعل نهي العارفين عنه، وأمرهم بالتوحيد المحض من الأمور المتعذرة، التي يخشى على المجاهر بها الحتوف والهلكة. ونحن ما أمكننا هذه المجاهرة في مصر إلا بما رسخ فيها من الحرية المطلقة بتفرنج الحكومة. ولما جهرتُ بها أول مرة في درس عام بالمسجد الحسيني سنة ١٣١٦ هاج عليّ الناس هيجة شؤمى، وحاول بعضهم أن يقتلني جهرا، فما يقول شيخ الأزهر ومحررو مجلة المشيخة ( نور الإسلام ) في السيد الآلوسي وفي السيد حسن صديق ؟ لا يبعد أن تطعن هذه المجلة في دينهما وعقيدتهما كما طعنت على دين الإمام الشوكاني في جزئها الذي صدر أثناء كتابتنا لتفسير هذه الآية.
اهتداء بارج إنكليزي بهذه الآية وأمثالها
ساق الله تعالى نسخة من ترجمة القرآن العظيم باللغة الإنكليزية إلى بارج من ربابين البواخر الكبرى- التي تمخر البحار بين إنكلترة والهند - فرأى فيها ترجمة هذه الآية، فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر واصطخابه، وما تفعله الرياح الموسمية العاتية بالبواخر والبوارج العظيمة في المحيط الهندي في فصل الصيف، فطفق يتأمل سائر الآيات في وصف البحر، والسفائن الكبرى فيه التي وجدت في هذا العصر ولم يكن لها نظير في عصر النبي صلى الله عليه وسل، م كقوله تعالى :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان ولَهُ الْجَوارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [ الرحمن : ١٩ ٢٤ ] ورأى أن المترجم الإنكليزي ينقل عن أشهر تفاسير القرآن لبعض علماء التفسير - التي ألفت بعد افتتاح العرب للمالك، واستيلائهم على البحار- أنهم لم يكونوا يعرفون ما عرفه الإنكليز وغيرهم من بعدهم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من البحار الحلوة كما يخرج من البحار المالحة، فتأولوا قوله تعالى :﴿ يخرج منها اللؤلؤ والمرجان ﴾ بأنه يخرج من مجتمعهما الصادق بأحدهما ؛ لأنه بزعمهم يخرج من البحر الملح فقط، غافلين عن قوله تعالى :﴿ ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ فاطر : ١٢ ]، ونبه نظره تشبيه الجواري المنشآت بالأعلام في هذه الآية في قوله تعالى :﴿ ومِنْ آيَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ﴾ [ الشورى : ٣٢ ٣٣ ] والعلم الجبل، وأصلها أعلام الطريق العالية التي تعرف بها المسالك.
أطال الفكر هذا الربان الإنكليزي في هذه الآيات فتعمد أن يعرف بعض المسلمين في بعض ثغور الهند، فسألهم : أتعلمون أن نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم سافر في البحار ؟ قالوا : لا، إنه لم يرو عنه أنه سافر في البحر قط، فاعتقد أن ما في القرآن مما ذكر لم يكن إلا بوحي من الله تعالى لهذا النبي العظيم، وأعظم منه ما فيه من آيات التوحيد والتشريع والتهذيب، التي هي أكمل وأقرب إلى العقل والفكرة من كل ما في التوراة والإنجيل، فأسلم عن علم وبصيرة، وظل زمنا طويلا يتعبد بما يفهمه من ترجمة القرآن، حتى أتيح له ترك عمله في البحار، فأقام في مصر وتعلم العربية وعاشر فضلاء المصريين، وهو مستر عبد الله براون رحمه الله تعالى، وأنا قد أدركته وعرفته، ولا يزال في مصر من
لما كان الجواب عن اقتراحهم الآية الكونية للدلالة على النبوة يتضمن بمعونة ما يفصله من الآيات أن أولئك المشركين المعاندين لا يقتنعون بالآيات، وأنهم إذا رأوها بأعينهم يكابرون حسهم ولا يؤمنون، ضرب الله تعالى مثلا له في آياته الكونية الدالة على وحدانيته في أفعاله وحكمه فيها، وما لهؤلاء المشركين المعاندين من المكر فيها، وكونها لا تزيدهم إلا ضلالا.
قال تعالى في وصف أولئك القوم ﴿ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ أي إذا هم يفاجئون الناس في الأرض التي يهبطون إليها بالبغي عليهم- وهو الظلم والعدوان والإفساد - يمعنون في ذلك ويصرون عليه، وأصل البغي طلب ما زاد على القصد والاعتدال إلى الإفراط المفضي إلى الفساد والاختلال، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد، ومنه قولهم : بغت السماء، إذا تجاوزت في المطر الحد المحتاج إليه للزرع والشجر وإمداد الينابيع، وبغت المرأة إذا تجاوزت في بعضها الحق الخاص بالزوج إلى الفجور، والأصل فيه أن يكون كما وصفه ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ فتكون الصفة كاشفة للواقع، للتذكير بقبحه وسوء حال أهله، وقد يكون البغي- وهو تجاوز حد الاعتدال- بحق إذا كان عقابا على مثله، أو ما هو شر منه، كما يقع في الحروب وقتال البغاة من اضطرار أهل الحق والمعتدى عليهم، إلى تجاوز الحدود في أثناء الدفاع عن أنفسهم، وقد قال تعالى :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هو ينتصرون ﴾ إلى قوله ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ الشورى : ٣٧ ]، وقال في بيان أصول الجرائم ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ وَالإِثْمَ و الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] الخ.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ﴾ هذا التفات عن حكاية المثل إلى مخاطبة البغاة أينما كانوا، وفي أي زمان وجدوا، مبدوءا بالنداء الذي يصيح به الواعظ المنذر بالبعيد في مكانه، أو الغافل الذي يشبه الغائب في حاجته إلى من ويصيح به لينبهه، يقول : يا أيها الضالون عن رشدهم، الغافلون عن أنفسهم، حسبكم بغيا على المستضعفين منكم، وغرورا بكبريائكم وقوتكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة عليكم، أو لأن من تبغون عليهم من قومكم أو من أبناء جنسكم، كقوله :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] المراد به لا يقتل بعضكم بعضا، والشر داعية الشر.
﴿ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي حال كون بغيكم أو تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الفانية الزائلة، فهو ينقضي وعقابيله باقية، وأقلها توبيخ الوجدان.
وقرأ الجمهور " متاعُ " بالرفع على أنه خبر لما قبله وفيه وجهان، أو على تقدير هو متاع الحياة الدنيا.
﴿ ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي ثم إنكم بعد هذا التمتع القليل ترجعون إلينا وحدنا ﴿ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ دائما من الظلم والبغي والتمتع بالباطل مصرين فنجازيكم به.
دلت الآية على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة، فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله الرجوع إلى الله وإنباؤه إياهم بما كانوا يعملونه، إذ المراد به لازمه وهو الجزاء به، وقد تكرر مثله في التنزيل. وأما في الدنيا فهو قوله تعالى :﴿ إنما بغيكم على أنفسكم ﴾ [ يونس : ٢٣ ]، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :" ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " ١ رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وأخرج ابن عدي وابن النجار من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا :" احذروا البغي، فإنه ليس من عقوبة هي أحضر من عقوبة البغي " ! !والترمذي و ابن ماجه عن عائشة :" أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم " ٢، وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس موقوفا :" لو بغى جبل على جبل لدك الباغي "، ورواه ابن مردويه مرفوعا وموقوفا، والموقوف أصح كما قال ابن أبي حاتم، وفي الجامع الصغير عن أبي هريرة بزيادة " لدك الباغي منهما " أخرجه ابن لال بسند ضعيف.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر والنكث والبغي "، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ﴾ ﴿ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ﴾ [ فاطر : ٤٣ ] ﴿ ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ﴾ [ الفتح : ١٠ ] والمراد نكث العهود مع الله أو مع الناس.
وأخرج الحاكم –وصححه- والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تبغ، ولا تكن باغيا، فإن الله يقول :﴿ إنما بغيكم على أنفسكم ﴾ " وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن الزهري.
وأقول : إنه يجب علينا أن نرجع في تحقيق الحق في هذا الموضوع إلى سنن الله تعالى في العمران، وطبائع الاجتماع البشري التي تثبتها وقائع التاريخ، فهي التي تفسر لنا أن البغي وهو من أخص ضروب الظلم للناس يرجع على فاعله، ذلك أنه سبب من أقوى أسباب العداوة والبغضاء بين الأفراد، وإيقاد نيران الفتن والثورات في الأقوام، فالفرد الذي يبغي على مثله يخلق له بغيه عدوا أو أعداء ممن يبغي عليهم، وممن يكرهون البغي وأهله، فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة- وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجزهم- فكيف إذا قدروا وفعلوا وهو الغالب ؟ وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب فأهون عاقبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تفضي إلى اغتيال أشخاصهم، أو إلى ثل عروشهم والقضاء على حكمهم، إما بثورة من الشعب تستبدل بها عرشا بعرش، أو نوعا من الحكم بنوع آخر، وإما بإغارة دولة قوية على الدولة التي يضعفها البغي تسلبها استقلالها، وتستولي على بلادها، ولا تنس ما تكرر عليك في هذا التفسير من أن ذنوب الأفراد من بغي وظلم وغيرهما لا يطرد العقاب عليها في الدنيا بخلاف ذنوب الأمم والدول، فإن عقابها أثر طبيعي لظلمها وفسادها. وإنما يوفى كل أحد جزاءه في الآخرة.
فإن قيل : إن الأرض كلها تستغيث ربها من بغي دول أوروبا وظلمها، فما لنا لا نرى بغيها يعود وباله عليها ؟ وما لنا لا نرى وعيده تعالى للظالمين نازلا بها، ومديلا للشعوب الشرقية المظلومة ومن شعوبها المؤيدة لها ؟
قلنا : إن هذا السؤال ما جاء إلا من الغفلة عن الأمر الواقع، والجهل بسنن الله في العمران، فإن في بلاد هذه الدول من المصائب والنوائب والجوائح والفقر ما هو أشد مما في بعض بلاد الشرق، وإنها قد قتلت من رجالها في الحرب الأخيرة العامة أضعاف من قتلتهم بغيا وعدوانا من أهل الشرق منذ اعتدت عليهم إلى اليوم، وإنها قد خربت من عمرانها أكثر مما خربت في الشرق، وأنها قد خسرت من أموالها في أربع سنين أضعاف ما ربحت من الشرق في مائة سنة، وإن ما بين شعوبها بعضها لبعض من الأحقاد والأضغان، وتربص الدوائر للوثبان، والفتك بالأرواح وتدمير العمران، لأشد مما في قلوب شعوب الشرق لظالميهم ومستذليهم منهم، فهذا بعض انتقام العدل الإلهي المشاهد.
فأما الجوائح السماوية فلا يعتبرون بها، لأنهم يسندونها إلى أسبابها ما صح منها وما لم يصح ؟ فمكرهم في آياته أشد من مكر من قبلهم، وأما المصائب الكسبية فيتوخون تخفيفها، وتلافي شرورها بالمفاوضات والمؤتمرات، وهيهات هيهات.
وأما ما نتمناه من الإدالة لشعوبنا منهم فلا تزال غير أهل له لما هي عليه من الجهل وفساد الأخلاق، والتقاطع والتخاذل، وترك كل ما هداها الله إليه في كتابه من أسباب السيادة والاستخلاف في الأرض كما نبهنا إليه آنفا، وشرحناه في تفسيرنا هذا لآيات كتابه مرارا، ومن المكابرة للحس أن ننكر أن أكثر ما في بلادنا من عمران فهو من عملهم، وإن كان جله لمصلحتهم، وإن من يستخدمون من ملوكنا وأمرائنا وحكامنا هم شر علينا منهم، بل لم يسودونا ويغلبونا في قطر من أقطارنا إلا بمساعدة سادتنا وكبرائنا إياهم علينا ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [ الأنفال : ٥٣ ]، فراجع تفسيره في جزء التفسير العاشر تعلم أننا إذا غيرنا ما بأنفسنا الآن- بما كان عليه سلفنا من إيمان وأخلاق تتبعها الأعمال، وأولها الجهاد بالنفس، والمال- فإن كل ما سلب منا يرجع إلينا، ونزاد عليه السيادة على غيرنا، ولو اتبعوا هم كتابنا كله لأصلحوا الأرض كلها.
ضرب الله هذا المثل هنا للكافرين بنعمه من الباغين في الأرض والظالمين للناس، فذكر من إخلاصهم في دعائه عند الشدة أنهم يقسمون له لئن أنجاهم منها ليكونن من المؤمنين بربوبيته، فقال :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وضربه في أواخر سورة لقمان لجميع أصناف الناس فقال :﴿ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ﴾ [ لقمان : ٣١، ٣٢ ] الختار الكفور هنا ضد مقابل للصبار الشكور فيما قبله، والختر الغدر الذي يحمل عليه ضعف الإرادة.
والعبرة في هذه الآيات كلها أنه تعالى أخبر عن المشركين به، وعن الكافرين بنعمه، وعن الختارين الفاقدين لفضليتي الصبر والشكر، أنهم كلهم يدعونه في شدة الضيق ومساورة خطر البحر لهم مخلصين له الدين، لا يتوجهون إلى غيره ممن اتخذوهم شركاء لله تعالى بعبادتهم لهم وتوسلهم بهم واتخاذهم وسطاء عنده، وأنهم إنما يقترفون هذا الشرك وما ينسبه من البغي والظلم وكفر النعمة بعدم إسنادها إلى المنعم الحقيقي في أوقات التمتع بها والسلامة من منغصاتها، وأن الذين يثبتون على توحيده وشكره هم المقتصدون، أي المعتدلون في عقائدهم وأخلاقهم، فلا تقنطهم الشدة، ولا تبطرهم النعمة.
ولكن يوجد في زماننا من هم أشد شركا وكفرا بالنعم والمنعم، وهم قوم يدعون غيره من دونه في أشد أوقات الضيق والخطر، ويدَّعون مع ذلك أنهم مسلمون موحدون ؛ لأنهم ينطقون بكلمة التوحيد الموروثة بألسنتهم وهم لا يعقلون معناها، والله تعالى يقول ﴿ فاعلم أنه لا إله إلا الله ﴾ [ محمد : ١٩ ]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
١ أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٣، والترمذي في القيامة باب ٥٧، وابن ماجه في الزهد باب ٢٣، وأحمد في المسند ٥/٣٦، ٣٨..
٢ أخرجه الترمذي في القيامة باب ٥٧، وابن ماجه في الزهد باب ٢٣..
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ٢٤ ﴾
لما كان سبب ما ذكر من البغي في الأرض وإفساد العمران هو الإفراط في حب التمتع بما في الدنيا من الزينة واللذات ضرب لها مثلا بليغا يصرف العاقل عن الغرور بها، ويهديه إلى القصد والاعتدال فيها، واجتناب التوسل إليها بالبغي والظلم، وحب العلو والفساد في الأرض، وهو عبارة عن تشبيه زينتها ونعيمها في افتتان الناس بهما، وسرعة زوالهما بعد تمكنهم من الاستمتاع بها، بحال الأرض يسوق الله إليها المطر فتنبت أنواع النبات الذي يسر الناظرين ببهجته، فلا يلبث أن تنزل به جائحة تحسه وتستأصله قبيل بدو صلاحه والانتفاع به، قال عزّ وجلّ :
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ أي لا شبه لها في صورتها ومآلها إلا ماء المطر في جملة حالها الآتية.
﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ﴾ أي فأنبت الأرض أزواجا شتى من النبات تشابكت بسببه، واختلط بعضها ببعض في تجاورها وتقاربها، على كثرتها واختلاف أنواعها.
﴿ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ ﴾ بيان لأزواج النبات وكونها شتى كافية للناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم، وكل مرامي آمالهم.
﴿ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنَتْ ﴾ أي حتى كانت الأرض بها في خضرة زروعها السندسية، وألوان أزهارها الربيعية، كالعروس إذا أخذت حليها من الذهب والجواهر، وحللها من الحرير الملون بالألوان المختلفة ذات البهجة، فتحلت وازينت بها استعداد للقاء الزوج، ولا تغفل عن حسن الاستعارة في أخذ الأرض زينتها- حتى كان استكمال جمالها، كأنه فعل عاقل حريص على منتهى الإبداع والإتقان فيها ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴾ [ النمل : ٨٨ ].
﴿ وظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾ متمكنون من التمتع بثمراتها، وادخار غلاتها.
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ﴾ أي نزل بها في هذا الحال أمرنا المقدر لإهلاكها بجائحة سماوية ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم غافلون.
﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً ﴾ أي كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها، فالحصيد يشبه به الهالك من الأحياء كما قال في أهل القرية الظالمة المهلكة ﴿ فجعلناهم حصيدا خامدين ﴾ [ الأنبياء : ١٥ ]، ويشبه هذا الهلاك في نزوله في وقت لا يتوقعه فيه أهله قوله :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ﴾ [ الأعراف : ٩٧، ٩٨ ].
﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾ أي هلكت فجأة فلم يبق من زروعها شيء، حتى كأنها لم تنبت ولم تمكث قائمة نضرة بالأمس، يقال : غني في المكان إذا أقام به طويلا كأنه استغنى به عن غيره، قال تعالى في الأقوام الهالكين في أرضهم ﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ [ الأعراف : ٩٢ ]، والأمس الوقت الماضي، وقال الزمخشري في الكشاف : والأمس مثل في الوقت القريب، كأنه قيل : كأن لم تغن آنفا اه، وأما " أمس " غير معرف فهو اسم لليوم الذي قبل يومك.
﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي كهذا المثل في جلائه وتمثيله لحقيقة حال الحياة الدنيا وغرور الناس فيها وسرعة زوالها، عند تعلق الآمال بنوالها، نفصل الآيات في حقائق التوحيد وأصول التشريع وأمثال الوعظ والتهذيب، وكل ما فيه صلاح الناس في عقائدهم وأنفسهم وأخلاقهم ومعاشهم واستعدادهم لمعادهم، لقوم يستعملون عقولهم وأفكارهم فيها، ويزنون أعمالهم بموازينها، فيتبينون ربحها وخسرانها.
والعبرة لمسلمي عصرنا في هذه الآيات البينات المنزلة وأمثالها التي اهتدى بها الشعب العربي، فخرج من شركه وخرافاته وأميته وبداوته إلى نور التوحيد والعلم والحكمة والحضارة، ثم اهتدى بدعوته إليها الملايين من شعوب العجم، فشاركته في هذه السعادة والنعم، إنه لم يبق لهم حظ منها إلا ترتيلها بالنغمات في بعض المواسم والمآتم، ولا يخطر لهم ببال أنه يجب عليهم التفكر فيها للاهتداء بها، ولو تفكروا لاهتدوا، وإذا لعلموا أن كل ما يشكو منه البشر من الشقاء بالأمراض الاجتماعية والروحية، والرذائل النفسية، والعداوات القومية، والحروب الدولية، فإنما سببه التنافس في متاع هذه الحياة الدنيا، وأن من تفكر في هذا -وكان على بصيرة منه- فهو جدير بأن يلتزم القصد والاعتدال في حياته الدنيوية المادية، ويصرف جل ماله وهمته في إعلاء كلمة الله وعزاه أهل ملته، وقوة دولته، والاستعداد لآخرته، فيكون من أهل سعادة الدارين.
وما صرف الناس عن هذا الاهتداء بكتاب الله- وهو أعلى وأكمل ما أنزله الله- إلا علماء السوء المقلدون الجامدون، وزعمهم الباطل أنه لم يبق في البشر أحد أهلا للاهتداء به وببيان الرسول صلى الله عليه وسلم له، لأن هذا يتوقف على ما يسمونه الاجتهاد، ويزعمون أنه أصبح ضربا من المحال، وقد أنشأت مشيخة الأزهر في هذا العهد -وهي أكبر المعاهد الدينية الإسلامية- مجلة رسمية شهرية باسم ( نور الإسلام ) تصرح بهذه الجهالة، وتطعن على الدعاة إلى هذه الهداية، وإلى ترك البدع، واتباع السنن، وإنها لدركة من عداوة الله ورسوله لم يبلغوا قعرها إلا بخذلان من الله.
﴿ واللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٢٥‏ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزِيَادَةٌ ولاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٦ والَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٧ ﴾
لما بين عزّ وجلّ غرور المشركين الجاهلين بمتاع الحياة الدنيا قفى عليه ببيان ما يدعو إليه من سعادة الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها، فقال :﴿ واللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ﴾ الجملة عطف على محذوف يدل عليه السياق وقرينة المقابلة، أي ذاك الإيثار لمتاع الدنيا والإسراف والبغي فيه هو ما يدعو إليه الشيطان، فيسوق متبعيه إلى النار- دار الخزي والنكال- والله يدعو عباده إلى دار السلام وهي الجنة.
وفي المراد بالسلام الذي أضيفت إليه الدار وجوه يصح أن تراد كلها :
أولها : أنه السلامة من جميع الشوائب والمصائب والمعايب، والنقائص والأكدار، والعداوة والخصام.
الثاني : أنه تحية الله وملائكته لأهلها، وتحية بعضهم لبعض الدالة على تحابهم وتوادهم، وقد تقدم شرحه قريبا.
ثالثها : إن السلام من أسمائه عزّ وجلّ، وأضيفت دار النعيم إليه تعظيما لشأنها، وهو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل، ويدل على كمال التنزيه والسلامة من كل ما لا يليق برب العالمين الرحمن الرحيم.
وفي بعض الأحاديث إضافة هذه الدار إلى ضمير الذات ( داري ).
﴿ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ عطف على ما قبله، أي يدعو كل أحد إلى دخول دار السلام، ويهدي من يشاء إلى الطريق الموصل إليها من غير تعويق ؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، وهو الإسلام عقائده وفضائله وعباداته وأحكامه، والهداية في الأصل الدلالة بلطف، وتكون بالتشريع وهو بيانه، وهي عامة، وبالتوفيق للسير عليه والاستقامة الموصلة إلى الغاية، وهي خاصة بالمستعدين لذلك، كما فصلناه في تفسير سورة الفاتحة، وهي المرادة هنا، ولذلك قيدها بالمشيئة.
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزِيَادَةٌ ﴾ هذا بيان لصفة الذين هداهم إلى صراط الإسلام، فوصلوا بالسير عليه إلى غايته، وهي دار السلام، أي للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا المثوبة الحسنى، أي التي تزيد في الحسن على إحسانهم، وهي مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر، كما قال في سورة النجم ﴿ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا الحسنى ﴾ [ النجم : ٣١ ]. ولهم زيادة على هذه الحسنى، هي فوق ما يستحقونه على أعمالهم بعد مضاعفتها التي هي من جزائها مهما تكن حسنة كما قال :﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾ [ النساء : ١٧٢ ]، وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة. وقد فصلنا القول فيه في تفسير سورة الأعراف ( ج ٩ ) بما يقربه من العقل والعلم العصري، ويدحض شبهات المعتزلة المنكرين له بزعمهم أنه محال عقلا، وما هذا المحال إلا نظريات عقولهم التي تقيس عالم الغيب على عالم الشهادة، وقد ظهر في هذا العصر من علوم المادة ما لم يكن يقبله عقل من العقول المقيدة بتلك النظريات المتولدة من الفلسفة اليونانية والكلام الجهمي، فكيف يكون عالم الغيب الإلهي مقيدا بها :
وثم وراء العقل علم يدق عن***مدارك غايات العقول السليمه
﴿ ولاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولاَ ذِلَّةٌ ﴾ رهق الرجل الشيء ( كتعب ) أدركه، ورهقه الشيء كالدين والذل غشيه، وغلب عليه حتى غطاه وحجبه ﴿ ولا ترهقني من أمري عسرا ﴾ [ الكهف : ٧٣ ] لا تكلفني ما يعسر عليّ، والقتر الدخان الساطع من الشواء والحطب، وكل غبرة فيها سواد. أي لا يغشي وجوههم في الآخرة شيء مما يغشي وجوه الكفرة الفجرة من الكسوف والظلمة والذلة، كما يأتي قريبا في المقابلة بين الفريقين.
﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أولئك الموصفون بما ذكر أصحاب الجنة دار السلام والإكرام، خالدون مقيمون فيها لا يبرحونها.
﴿ والَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾ جزاء وفاقا، لا يزادون على ما يستحقون بسيئاتهم من العذاب شيئا.
﴿ وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي تغشاهم الفضيحة، وكسوف الخزي، بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور.
﴿ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ ما لهم من أحد ولا من شيء يعصمهم ويمنعهم من عذاب الله، كالذين اتخذوهم في الدنيا من الشركاء، وزعموهم من الأولياء والشفعاء، وانتحلوهم من الوسائل والوسطاء، لأنه اليوم الذي تنقطع فيه الأسباب التي مضت بها سنن الله تعالى في الدنيا، فأنى تفيد فيه المزاعم الشركية الوهمية ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ] أو ما لهم من عند الله ومن فضله من عاصم يحفظهم من عذابه كعفوه ومغفرته، فإنه لا يغفر أن يشرك به، كالشفعاء الذين يشفعون بإذنه لمن ارتضى من عباده إظهارا لكرامتهم، لأن هذه الشفاعة الخاصة لا نصيب فيها لمنتحلي الشفاعة الشركية الذي كانوا يزعمون في الدنيا أن لشفعائهم تأثيرا في مشيئة الله وأفعاله حتى يحملوه على فعل ما لم يكن يفعله لولا شفاعتهم، فيجعلون ذاته وصفاته وأفعاله معلولة تابعة لما يطلبونه منه، وأما شفاعة الإيمان الصحيحة فهي تابعة لمشيئته ولمرضاته ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ].
﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِما ﴾ أي كأنما قدّ لوجوههم قطع من أديم الليل حالة كونه حالكا مظلما، ليس فيه بصيص من نور القمر طالع، ولا نجم ثاقب، فأغشيتها قطعة بعد قطعة، فصارت ظلمات فوق بعض، وإنه لتشبيه عظيم في بلاغة المبالغة في خذلانهم وفضيحتهم التي تكسف نور الفطرة، والظاهر أن سواد وجوههم حقيق ومجازي.
﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي أولئك الموصفون بما ذكرهم أصحاب النار خالدون فيها لا يبرحونها ؛ لأنه ليس لهم مأوى سواها- كما تقدم في آية أخرى- وقد يدخلها بعض عصاة المؤمنين، فيعاقبون على ما اجترحوا من السيئات، ثم يخرجون منها.
هذا الوصف لأهل الجنة وأهل النار له نظير في آخر سورة الأعمى ﴿ وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة ﴾ [ عبس : ٣٨ ٤٢ ]، وفي سورة القيامة ﴿ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ القيامة : ٢٢ ٢٥ ]، وهذه المقابلة في سورة القيامة ترجح أن الزيادة على الحسنى في آية يونس هي مرتبة النظر إلى الرب، فنسأله تعالى أن يجعلنا وأولادنا وأهل بيتنا وإخواننا الصادقين من أهلها.
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ٢٨ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ورُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٣٠ ﴾
هذا لون آخر من ألوان البيان لعقيدة البعث والجزاء، وقد بينا حكمة هذا التكرار المختلف الأساليب والألوان وأمثاله في الكلام على أسلوب القرآن وإعجازه.
﴿ ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ أي واذكر أيها الرسول لفريقي الناس الذين ضربنا لهم ما سبق من الأمثال، وبينا ما يعملون من الأعمال، يوم نحشرهم جميعا في موقف الحساب لا يتخلف منهم أحد، أو الظرف متعلق بقوله تعلى في الآية التالية ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ﴾، وفي بعض الآيات ﴿ ويوم يحشرهم وما يعبدون ﴾ [ الفرقان : ١٧ ].
﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ ﴾ أي ثم نقول للمشركين منهم بعد وقوف طويل لا يخاطب فيه أحد بشيء كما تدل عليه بعض الآيات : الزموا مكانكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم.
﴿ أَنتُمْ وشُرَكَآؤُكُمْ ﴾ أي الزموه أنتم وشركاؤكم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله لنفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم لهم، وما يقول كل منكم فيها.
﴿ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ أي فرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله، وميزنا بعضهم من بعض كما يميز بين الخصوم عند الحساب، والتنزيل من زاله يزاله كناله يناله بمعنى نحاه، ( وهو يائي )، وزايلته فارقته، وتزيلوا تميزوا بافتراق بعضهم من بعض، ومنه قوله في أهل مكة واختلاط مؤمنيهم بكفارهم قبل الفتح :﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ [ الفتح : ٢٥ ]. أو المراد من التنزيل والتفريق تقطيع ما كان بنيهم في الدنيا من الصلات، وما للمشركين في الشركاء من الآمال، وكل من المعنيين صحيح، والعبادة الشركية أنواع، والمعبودات والمعبودون أنواع، يصح في بعضهم ما لا يصح في الآخر، ولذلك تكرر معنى حشر الفريقين وحسابهم في سور أخرى، بعضها في عبادة الملائكة وعبادة الجن، وبعضها في عبادة الشر، وما اتخذ لهم من التماثيل والصور، ومثلها القبور المعظمة، وسنشير إلى شواهده.
﴿ وقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ أي ما كنتم تخصوننا بالعبادة وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم، وتتخذون أسماءنا وتماثيلنا هياكل ومواسم لمنافعكم ومصالحكم، وليس هذا شأن العبودية الصادقة للمعبود الحق الذي يطاع ويعبد ؛ لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق، وبيده تدبير الأمر، ومصادر النفع والضر، والمراد أنهم يتبرؤون منهم كما صرح به في آيات أخرى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة: هذه الآيات في موقف المشركين مع الشركاء، والمرؤوسين مع الرؤساء، والمتكبرين مع الضعفاء، والمضلين مع الضالين، والغاوين مع المغوين، قد تكرر بيانها في سور أخرى مجملا مبهما، وفي بعضها مفصلا ومبينا، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين، ومنها ما يسأل فيه المعبودين، من غير تعيين، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين، وفي كل منها يتبرأ المضلون من الضالين، فتراجع فيها سورة الفرقان [ ١٧ ـ١٩ ] وسورة الأنعام [ ٢٢ ـ ٢٤ ] وسورة سبأ [ ٤٠ ـ ٤٢ ] وسورة القصص [ ٦٢ـ ٦٤ ]، ومنها ما يتناقش فيها الفريقان، فراجع سورة إبراهيم [ ٢١، ٢٢ ] وسورة الصافات [ ٢٢، ٢٣ ]، فبمراجعة هذه الآيات كلها وما في معناها كآيات سورة البقرة ( ٢ : ١٦٦ و١٦٧ ) ومع تفسيرنا لهاتين ( ج ٢ ) يتبين لك ما يفسر به بعضها بعضا، وقد بينا حكمة هذا التكرار في موضعه الذي دللنا عليه آنفا.
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ٢٨ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ورُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٣٠ ﴾
هذا لون آخر من ألوان البيان لعقيدة البعث والجزاء، وقد بينا حكمة هذا التكرار المختلف الأساليب والألوان وأمثاله في الكلام على أسلوب القرآن وإعجازه.
﴿ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ ﴾ أي فكفى الله شهيدا وحكما بيننا وبينكم، فهو العليم بحالنا وحالكم.
﴿ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ أي إننا كنا في غفلة عن عبادتكم، لا ننظر إليها ولا نفكر فيها، وقيل : إن المراد بالغفلة عنها عدم الرضا بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة: هذه الآيات في موقف المشركين مع الشركاء، والمرؤوسين مع الرؤساء، والمتكبرين مع الضعفاء، والمضلين مع الضالين، والغاوين مع المغوين، قد تكرر بيانها في سور أخرى مجملا مبهما، وفي بعضها مفصلا ومبينا، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين، ومنها ما يسأل فيه المعبودين، من غير تعيين، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين، وفي كل منها يتبرأ المضلون من الضالين، فتراجع فيها سورة الفرقان [ ١٧ ـ١٩ ] وسورة الأنعام [ ٢٢ ـ ٢٤ ] وسورة سبأ [ ٤٠ ـ ٤٢ ] وسورة القصص [ ٦٢ـ ٦٤ ]، ومنها ما يتناقش فيها الفريقان، فراجع سورة إبراهيم [ ٢١، ٢٢ ] وسورة الصافات [ ٢٢، ٢٣ ]، فبمراجعة هذه الآيات كلها وما في معناها كآيات سورة البقرة ( ٢ : ١٦٦ و١٦٧ ) ومع تفسيرنا لهاتين ( ج ٢ ) يتبين لك ما يفسر به بعضها بعضا، وقد بينا حكمة هذا التكرار في موضعه الذي دللنا عليه آنفا.
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ٢٨ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ورُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٣٠ ﴾
هذا لون آخر من ألوان البيان لعقيدة البعث والجزاء، وقد بينا حكمة هذا التكرار المختلف الأساليب والألوان وأمثاله في الكلام على أسلوب القرآن وإعجازه.
﴿ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ﴾ أي في ذلك المكان -وهو موقف الحساب- أو في ذلك الوقت أو اليوم تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة، ومؤمنة وجاحدة، وشاكرة وكافرة، ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل، وما كان لكسبها في صفاتها من أثر، من خير وشر، ونفع وضر، بما ترى من الجزاء عليه، وكونه ثمرة طبيعية له، لا شأن فيه لولي ولا شفيع، ولا معبود ولا شريك. وهنالك مواقف وأوقات أخرى لا سؤال فيها ولا جدال، تغني فيها دلالة الحال عن المقال، ولكل مقام مقال.
﴿ ورُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ ﴾ أي أرجعوا إلى الله الذي هو مولاهم الحق دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء، والأنداد والشركاء- على اختلاف الأسماء- كما ثبت في الآيات الكثيرة كقوله :﴿ إلى الله مرجعكم ﴾ ﴿ إلى ربكم مرجعكم ﴾ ﴿ إلى ربهم مرجعهم ﴾ ﴿ وإلى ربهم مرجعهم ﴾ ﴿ وإلى الله المصير ﴾ ﴿ وإليه المصير ﴾.
﴿ وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي وضاع وذهب عنهم ما كانوا يفترونه عليه من الشفعاء والأولياء، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ولا ينقذهم ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة: هذه الآيات في موقف المشركين مع الشركاء، والمرؤوسين مع الرؤساء، والمتكبرين مع الضعفاء، والمضلين مع الضالين، والغاوين مع المغوين، قد تكرر بيانها في سور أخرى مجملا مبهما، وفي بعضها مفصلا ومبينا، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين، ومنها ما يسأل فيه المعبودين، من غير تعيين، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين، وفي كل منها يتبرأ المضلون من الضالين، فتراجع فيها سورة الفرقان [ ١٧ ـ١٩ ] وسورة الأنعام [ ٢٢ ـ ٢٤ ] وسورة سبأ [ ٤٠ ـ ٤٢ ] وسورة القصص [ ٦٢ـ ٦٤ ]، ومنها ما يتناقش فيها الفريقان، فراجع سورة إبراهيم [ ٢١، ٢٢ ] وسورة الصافات [ ٢٢، ٢٣ ]، فبمراجعة هذه الآيات كلها وما في معناها كآيات سورة البقرة ( ٢ : ١٦٦ و١٦٧ ) ومع تفسيرنا لهاتين ( ج ٢ ) يتبين لك ما يفسر به بعضها بعضا، وقد بينا حكمة هذا التكرار في موضعه الذي دللنا عليه آنفا.
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ومَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ٣١ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٣٢ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٣ ﴾
هذا نوع آخر من أسلوب إقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث، وهو أسلوب السؤال والجواب، ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن.
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين من أهل مكة : من يرزقكم من السماء بما ينزله من المطر، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات نجمه وشجره مما تأكلون وتأكل أنعامكم ؟
﴿ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ﴾ بل قل لهم أيضا : من يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواس السمع والأبصار التي لولاها لم تكونوا تعلمون من أمر العالم شيئا، بل تكون الأنعام والحشرات وكذا الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها، من يملك خلق الحواس وهبتها للناس، وحفظها من الآفات ؟ وخص هاتين الحاستين بالذكر ؛ لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال البشرية، وتحصيل العلوم الأولية، يشعر بذلك المسئولون بمجرد إلقاء السؤال، وكلما ازدادوا فيه تفكرا ازدادوا علما وإعجابا وإكبارا لإنعام الله تعالى بهما، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره عليهما، ولاسيما إدراك الكلام بحاسة السمع، وما يرسمه صوت المتكلم في الهواء من معلوماته التي يدلي بها إلى غيره، فتتكيف بها كل ذرة من ذراته ( أي الهواء )، فتقرع به طبلة كل أذن من آذان السامعين وإن كثروا، فينقلها العصب المتصل بها إلى مركز إدراك الكلام من دماغه، فيدرك معناها المدلول عليه بها بأقوى مما يدركه من قرأها مخطوطة في كتاب، لما لجرس الصوت من التأثير الخاص، فمن ذا الذي خلق هذه الآلات ؟ ومن ذا الذي ألهمها إيداع هذه المعاني في الأصوات ؟ ومن ذا الذي وضع هذا النظام في الهواء ؟
ثم إذا ازداد علما بإدراك البصر للمبصرات، وما لها من المقادير والألوان والصفات، وما للعين الباصرة من الشكل المحدب، وما لها من الطبقات والرطوبات، الموافقة لسنن الله في النور تدرك به المرئيات، مما هو مبسوط في الأسفار وموجز في المختصرات، ازداد يقينا بأن ذلك من آيات الله الدالة على علمه وحكمته في الكائنات، وإن غفل عنها المشغولون عن عظمة الصانع بعظمة المصنوعات، وقد وحد السمع ؛ لأن إدراكه لجنس واحد هو الأصوات، وجمع البصر لتعدد أجناس المبصرات.
﴿ ومَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ أي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث وتتجدد وفيما لا تعرفون ؟ فما كانوا يعرفون أن النبات يخرج من الأرض الميتة بعد إحياء الله إياها بماء المطر النازل عليها من السماء أو النابع منها بعد أن سلكه الله تعالى فيها كما قال :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوانُهُ ﴾ [ الزمر : ٢١ ] الآية. بل كانت الحياة المعروفة عندهم قسمين : حياة النبات وآيتها النمو، وحياة الحيوان وآيتها النمو والإحساس والحركة بالإرادة، وكانوا يعدون وصف الأرض بالحياة مجازا، ولم يكونوا يصفون أصول الأحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيه، ولذلك فسر بعض المفسرين إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة، والطائر من البيضة، وعكسهما وما يشابههما، وهو تفسير صحيح عند أهل اللغة غير صحيح عند علماء الحياة النباتية والحيوانية.
وتحصل به الدلالة المقصودة من الآية على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته عند المخاطبين، وليس المراد به وضع قواعد فنية للحياة وأنواعها وتحديد وظائفها، على أنه يمكن تفسيرها بما يتفق وقاعد الفنون وتجارب العلوم التي تزداد عصرا بعد عصر، فإذا كان أهلها يثبتون أن في أصول النبات من بزر ونوى وبيض ومني حياة، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة، فإن الأرض عندهم كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس، ثم صارت ماء، ثم نبتت اليابسة في الماء، ثم تكون من الماء النبات والحيوان في أطوار سبق الكلام فيها، ويثبتون أيضا أن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار يتولد منه دم، ومن هذا الدم يكون البيض والمني المشتملان على مادة الحياة، ويثبتون أيضا أن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن وينفضه، ويتجدد مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر وخرج منه، والمراد من الآية إثبات قدرة الخالق وتدبيره ونعمه على عباده، وهو عام لا يتوقف على الفن ومحدثات العلم بل تزيده كمالا للمؤمن المعتبر، وقد تكون حجابا لغيره تحجبه عن ربه، فالقاعدة عند علماء الحياة أن الحي لا يخرج إلا من الحي، فتعين أن تكون الحياة الأولى من خلق الله الحي بذاته المحيي لغيره.
وورد في التفسير المأثور تفسير الحياة والموت في مثل هذه الآية بالمعنويين منهما كخروج المؤمن من سلالة الكافر، والعالم من الجاهل، والبر من الفاجر، وعكسها، وقد قدمناه في تفسير آية آل عمران [ الآية : ٢٧ ] الوارد فيها لأنها المناسب لسياقها. وهناك رواه ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن البصري وسعيد بن منصور ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو الشيخ في العظمة عن سلمان رضي الله عنه وكذا ابن مردويه عنه وعن ابن مسعود رضي الله عنه، فراجعه في تفسيرها من الدر المنثور، وسياق هذه الآيات هنا يناسب ما فسرناها به من الحياة والموت في العالم كله، ويؤيده قوله تعالى :
﴿ ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾ في الخليقة كلها بما أودعه في كل منها من السنن وقدره من النظام، وتقدم تفسير التدبير عند ذكره في أول هذه السورة.
﴿ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ﴾ أي فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمس أن فاعل ذلك كله هو الله رب كل شيء ومليكه، إذ لا جواب غيره، وهم لا يجهلونه، فالاستفهام عنه لحملهم على الإقرار به، ليترتب عليه قوله ﴿ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي فقل لهم أيها الرسول : أتعلمون هذا، وتقرون به، فلا تتقون سخط الله وعقابه لكم بشرككم به، وعبادتكم لغيره، ممن لا يملك لكم من تلك الأمور شيئا، وهو المالك لها كلها ؟
﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ﴾ هذه فذلكة ما تقدم، أي فذلكم الذي يفعل ما ذكر الله ربكم، أي المربي لكم بنعمه والمدبر لأموركم، الحق الثابت بذاته، لأنه هو الحي القيوم الحي بذاته، المحيي لغيره، القائم بنفسه، المقيم لغيره، وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه، المستحق للعبادة دون سواه ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ﴾ الاستفهام إنكاري، وفي الجملة إدماج بما يسمونه الاحتباك، أي فماذا بعد الحق إلا الباطل ؟ وماذا بعد الهدى إلا الضلال ؟ والواسطة بين الطرفين المتضادين المتناقضين ممنوعة كالعقائد، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق، فالقول بربوبية ما سواه باطل، وهو الإله الذي يعبد بحق، وعبادته وحده هي الهدى، فما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال، فكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال.
﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ أي فكيف تُصرفون وتتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، بعد العلم والإقرار بما كان به الله هو الرب الحق، وإنما الإله الحق، الذي يعبد بالحق، هو الرب الحق، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فتتخذون مع الله آلهة أخرى ولا تتحقق الألوهية إلا بتحقق الربوبية ؟
فالآية تقرر أن التوحيد لا يصح مع الفصل بين الربوبية والألوهية كما كانوا يفعلون، وقد جهل هذا بعض علماء الأزهر في هذا الزمان، الذين أخذوا عقيدتهم من بعض الكتب الكلامية المبتدعة وجهلوا عقائد القرآن، فلم يفرقوا بين مفهومي الرب والإله في اللغة العربية، وما كان عليه أهلها في الجاهلية، على أن الإسلام إنما وحد بينهما في الماصدق الشرعي، لا في المفهوم اللغوي، واحتج بهذا على المشركين هنا وفي آيات كثيرة كما صرح به الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره من قبله ومن بعده.
وفي الآية من قواعد العقائد الدينية وأصول التشريع والعلم أن الحق والباطل فيهما ضدان لا يجتمعان، وأن الهدى والضلال ضدان لا يجتمعان، ولهذا الأصل فروع كثيرة في الدين والعلم العقلي، وفيها من حسنات الإيجاز في التعبير ما يسميه علماء البديع بالاحتباك، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين ما يدل عليه مقابله في الآخر، وهو ظاهر في الآية أتم الظهور، وإن غفل عند الجمهور.
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ ﴾ أي مثل ذلك الذي حقت به كلمة ربك أيها الرسول في وحدة الربوبية والألوهية، وكون الحق ليس بعده لتاركه إلا الباطل، والهدى ليس وراءه للناكب عنه إلا الضلال، حقت كلمة ربك أي سنته أو وعيده على الذين فسقوا، أي خرجوا من حظيرة الحق، وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق. ففي كلمة الرب وجهان، لكل منهما أصل في القرآن :
أحدهما أنها كلمة التكوين، وهي سنته في الفاسقين الخارجين من نور الفطرة واستقلال العقل الذين لا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل والتفرقة بين الهدى والضلال لرسوخهم في الكفر، واطمئنانهم به بالتقليد والعمل، فقوله ﴿ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ على هذا بيان للكلمة أو بدل منها، اقتضت سنته في غرائز البشر وأخلاقهم أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن آياتهم بينة، وحججهم قوية ظاهرة، وليس معناه أنه تعالى يمنعهم من الإيمان منعا قهريا مستأنفا بمحض قدرته، بل معناه أنهم يمتنعون منه باختيارهم ترجيحا للكفر عليه. ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في هذه السورة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [ يونس : ٩٦، ٩٧ ].
والوجه الثاني أنها كلمة خطاب التكليف بوعيد الفاسقين الكافرين بعذاب الآخرة، كقوله في سورة ألم السجدة ﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] وقوله في سورة غافر ﴿ وكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [ غافر : ٦ ]، ويكون قوله ﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾ على هذا تعليلا لما قبله بحذف حرف الجر ؛ أي لأنهم، أو بأنهم لا يؤمنون.
وكل من الوجهين حق ظاهر والأول أظهر هنا.
وقرأ نافع وابن عامر ( كلمة ) في آيتي يونس وآية غافر بالجمع ( كلمات )، ولأجل ذلك رسمت في المصحف الإمام بالتاء المبسوطة ( كلمت )، ووجه قراءة الجمع أن هذا المعنى بوجهيه قد تعدد وتكرر في آيات الكتاب.
﴿ قل هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٣٤ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٣٥ ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ٣٦ ﴾
﴿ قل هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ لم يعطف هذا الأمر ولا ما بعده على ما قبله من تلقين النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاج على المشركين ؛ لأن حكم البلاغة فيه الفصل كأمثاله مما يسرد سردا من جنس واحد من المفردات والجمل. أي قل لهم أيها الرسول : هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله، أو من دون الله، من له هذا الشأن في الكون -وهو بدء الخالق في طور ثم إعادته في طور آخر- سواء كان من الأصنام المنصوبة، أو من الأرواح التي تزعمون أنها حالة فيها، أو من الكواكب السماوية أو غيرها من الأحياء كالجن والملائكة ؟ ولما كان هذا السؤال مما لا يجيبون عنه -كما أجابوا عن أسئلة الخطاب الأول لإنكارهم البعث والمعاد، لا لاعتقادهم أن شركاءهم تفعل ذلك- لقن الله رسوله الجواب :
﴿ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ فأدمج إثبات البعث في توحيد الربوبية ؛ لأنه يقتضيه ويستلزمه، فإن الرب القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى، على أن الذي ينكرونه هو إعادته تعالى للأحياء الحيوانية دون ما دونها من الأحياء النباتية، فهم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض عندما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء وموته بجفافها في فصل الصيف والخريف ثم إعادته بمثل ما بدأه به مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل هذا البدء والإعادة، لأنهم يشاهدون كلا منهما، فهم أسرى الحس والعيان، ثم ينكرون قدرته على إعادة خلق الناس، لأنهم لم يشاهدوا أحدا منهم حيا بعد موته، وقد فقدوا العلم ببرهان القياس، وإننا لا نزال نرى أمثالا لهم في جاهليتهم ممن تعلموا المنطق وطرق الاستدلال، وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون من سلطان الأرواح في عالم الأجسام، وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم بأنفسهم، وينبههم للتفكير في أمرهم بقوله :﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي فكيف تصرفون عن ذلك، وهو من دواعي الفطرة وخاصة العقل في التفكير، للعلم بالحقائق والبحث عن المصير ؟
﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾ ؟ هذا سؤال عن شأن آخر من شؤون الربوبية، المقتضية لاستحقاق الألوهية، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية، وهو الهداية التي تتم بها حكمة الخلق/ كما يدل عليه ذكرها عقبه في آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ الذي خلقني فهو يهدين ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] ﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ] ﴿ الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ﴾ [ الطارق : ٢، ٣ ] وهي أنواع هداية الفطرة والغريزة، وهداية الحواس، وهداية العقل، وهداية التفكر والاستدلال بكل ذلك، وهداية الدين، وهو للنوع البشري في جملته كالعقل لأفراده، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبيله ومنع الصوارف عنه. ولما كان لا يمكنهم أن يدّعوا أن أحدا من أولئك الذي أشركوهم في عبادة الله تعالى بادعاء التقريب إليه والشفاعة عنده يهدي إلى الحق من ناحية الخلق والتكوين، ولا من ناحية التشريع، لقن الله رسوله الجواب بقوله :
﴿ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾ فعل الهدى يتعدى بنفسه كقوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة : ٦ ] ﴿ ويهديك صراطا مستقيما ﴾ [ الفتح : ٢ ] ﴿ لنهدينهم سبلنا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ]، ويتعدى بإلى كقوله :﴿ وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الأنعام : ٨٧ ] ﴿ ويهدي إلى صراط مستقيم ﴾ [ يونس : ٢٥ ] ﴿ يهدي إلى الرشد ﴾ [ الجن : ٢ ] ﴿ واهدنا إلى سواء الصراط ﴾ [ ص : ٢٢ ]، وباللام كقوله :﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ [ الإسراء : ٩ ] ﴿ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ [ الحجرات : ١٧ ]، فتعديته بنفسه تفيد اتصال الهداية بمتعلقها مباشرة، وتعديته باللام تفيد التقوية أو العلة والسببية، وبإلى للغاية التي تنتهي إليها الهداية، فهي تشمل مقدماتها وأسبابها، من حيث كونها موصلة إلى المنتهى المقصود للهادي السائق إليها، وقد يكون قصده مجهولا لمطيعه كقوله تعالى في الشيطان ﴿ كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ﴾ [ الحج : ٤ ]، وكل من هذه الثلاث مستعمل في التنزيل في موضعه اللائق به، يعلم ذلك من له ذوق سليم في هذه اللغة الدقيقة العالية، وقد جمع في هذه الآية بين التعدية بالحرفين وبين ترك التعدية- وهو حذف المتعلق الدال على العموم- وكل منها وقع في موقعه الذي تقتضيه البلاغة، فهاكه، فلم نر أحدا بينه.
أما الأول فقد عداه بإلى في حيز الاستفهام الإنكاري للإيذان بأنه لا أحد من هؤلاء الشركاء المتخذين بالباطل يدل الناس على الطريق الذي ينتهي سالكه إلى الحق من علم وعمل وهو التشريع، فهو ينفي المقدمات ونتائجها، والأسباب ومسبباتها، ولو عداه بنفسه لما أفاد إلا إنكار هداية الإيصال إلى الحق بالفعل، دون هداية التشريع الموصلة إليه، ولو عداه باللام لكان بمعنى تعديته بنفسه إن كانت اللام للتقوية، أو لإنكار هداية يقصد بها الحق إن كانت للتعليل، والأول أعم وأبلغ كما هو الظاهر.
وأما الثاني -وهو تعديته باللام - فهو يستلزم الأول، وإذا جرينا على جواز استعمال اللام بمعنييها -على مذهبنا الذي اتبعنا فيه الإمامين الشافعي وابن جرير- يكون معناه قل : الله يهدي لما هو الحق ؛ لأجل أن يكون المهتدون به على الحق.
وأما الثالث -أي حذف المتعلق- فهو في الشق الثاني من قوله :﴿ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى ﴾. قرأ ( يهدي ) يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال، وأصله يهتدي كما سيأتي في بحث لغة الكلمة، وقرأها حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمي، ومعنى القراءتين مع ما قبلهما نصا واقتضاء : أفمن يهدي إلى الحق ويهدي له ويهديه- وهو الله تعالى- أحق أن يتبع فيما يشرعه أم من لا يهدي غيره، ولا هو يهتدي بنفسه، ممن عبد من دونه إلا أن يهديه غيره -أي الله تعالى- إذ لا هادي غيره ؟ وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال، لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى ابن مريم، وعزيرا، والملائكة عليهم السلام، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه، كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم ﴿ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ]، وقال النحاس : الاستثناء منقطع كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع، فمعنى ( إلا أن يهدى ) لكنه يحتاج أن يهدى ا ه. فيالله العجب من هذه البلاغة التي يظهر للمدققين في تعبير القرآن من بدائعها في كل عصر ما فات أساطين بلغاء المفسرين فيما قبله.
﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ هذا تعجيب من حالهم في جعلهم من هذه حالهم من العجز المطلق شركاء مع القادر على كل شيء، وأورده باستفهامين تقريعيين متوالين، والمعنى : أي شيء أصابكم وماذا حل بكم حتى اتخذتم شركاء هذه حالهم وصفتهم فجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا هادي لكم ولا لأحد منهم سواه ؟ كيف تحكمون بجواز عبادتهم، وبما زعمتم من وساطتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه ؟
ومن القراءات اللفظية التي لا يختلف بها المعنى قراءة يهدّي المشددة الدال بفتح الياء والهاء بنقل حركة التاء في أصلها ( يهتدي ) إلى الهاء وإدغامها فيها، وقراءتها بكسرهما معا، فالهاء لالتقاء الساكنين والياء لمناسبتها لها، وقراءتها بفتح الياء وكسر الهاء لمناسبة الدال وهي قراءة حفص التي عليها أهل بلادنا.
﴿ ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً ﴾ هذا بيان لحال المشركين الاعتقادية، في إثر إقامة أنواع الحجج على توحيد الربوبية والإلهية، بأسلوب الأسئلة والأجوبة المفيدة للعلم، الهادية إلى الحق، ومنها أنه ليس في شركائهم من هدي إلى الحق المطلوب في العقائد الدال على ارتقاء العقل وعلو النفس، وهو أن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير ربهم، ولا في إنكارهم للبعث، وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، إلا ضربا من ضروب الظن قد يكون ضعيفا- كما يشير إليه تنكيره-، وذلك كاستبعاد غير المألوف، وقياس الغائب والمجهول على الحاضر والمعروف، وتقليد الآباء ثقة بهم، وتعظيما لشأنهم، أن يكونوا على باطل في اعتقادهم، وضلال في أعمالهم، وأما غير الأكثر فكانوا يعلمون أن ما جاءهم به الرسول هو الحق والهدى، وأن أصنامهم وغيرها مما عبدوا لا تنفع ولا تشفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسوله عنادا واستكبارا في الأرض، وضنا برياستهم وزعامتهم أن يهبطوا منها إلى اتباع من دونهم ثروة وقوة ومكانة في قومهم، ويجوز أن يكون التعبير بالأكثر جاء على سنة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب بالحق والعدل، فإنه تارة يحكم على أكثرهم، وتارة يستثني من الاستغراق والإطلاق القليل منهم، كما تقدم نظائره من قبل، فيكون الحكم على الأكثر للإشارة إلى أنه يقل فيهم ذو العلم، فإن قيل : وما حكم الله في الظن ؟ فالجواب :
﴿ إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ﴾ من الإغناء ولو قليلا، أي لا يجعل صاحبه غنيا بعلم اليقين في الحق، فيكون -أي الظن- بدلا من اليقين في شيء مما يطلب فيه اليقين كالدين، فإن الحق هو الأمر الثابت المتحقق الذي لا ريب في ثبوته وتحققه، والمظنون -وإن كان راجحا عند صاحبه -عرضة للشك، يتزلزل ويزول إذا عصفت به أي عاصفة من الشبهات، والإغناء يتعدى بعن كقوله :﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ [ الأعراف : ٤٨ ] ﴿ ما أغنى عني ماليه ﴾ [ الحاقة : ٢٨ ] ﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم ﴾ [ هود : ١٠١ ] وقد عدى هنا بمن، وفي مثله من سورة النجم، وفي قوله في ظل دخان النار ﴿ لا ظليل ولا يغني من اللهب ﴾ [ المرسلات : ٣١ ] وقوله في الضريع من طعام أهلها ﴿ لا يسمن ولا يغني من جوع ﴾ [ الغاشية : ٧ ] فعدى بمن لإفادة القلة أو لتضمنه معنى البدل، أي إن ظل دخان النار لا وارف يمنع الحر، ولا يغني من اللهب بأن يقلله أو يزيله، ويكون بدلا منه، وإن الضريع -الذي هو طعام أهل النار- لا يسمن البدن بالتغذية الكافية، ولا يقلل الجوع أو يزيله، فيكون بدلا من الطعام الرديء التغذية.
واستدل العلماء بهذه الآية هنا وفي سورة النجم على أن العلم اليقيني واجب في الاعتقاديات، وأن إيمان المقلد غير صحيح، ويدخل في الاعتقاديات الإيمان بوجوب أركان الإسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية والإيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك، وقد بينا من قبل أن اليقين المشروط في صحة الإيمان شرعا هو اليقين اللغوي- وهو الاعتقاد الصحيح الذي لا شك معه لا المصطلح عليه عند نظار الفلسفة والمنطق المؤلف من علمين أحدهما : أن الشيء كذا، والثاني : أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا. وأما قولهم : إن الأحكام العملية يكفي فيها الدليل الظني ففيه أن الدليل الظني لا يثبت به الإيمان بالمظنون، بل التصديق بالمظنون لا يسمى إيمانا. وإنما يعمل في الاجتهاديات خروجا من الحيرة والترجيح بهوى النفس.
﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ هذه قضية ثانية مستأنفة خاصة بالعمل، شأنها أن يسأل عنها بعد القضية التي قبلها في الاعتقاد، فهو يقول : إن الله عليم بما كانوا يفعلون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها بحسبه، فالجزاء على مخالفة الاعتقاد القطعي بصدق الرسول من تكذيب وجحود أشد أنواع الجزاء، ويليه التكذيب باتباع الظن كالتقليد، ومن تلك الأفعال الصد عن الإيمان وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنواعه، ومنها سائر الشرور والمعاصي الشخصية والاجتماعية كالقتل والفاحشة والسكر والربا الخ.
والعبرة للمؤمن بالقرآن في هذه الآية والتي قبلها -وهما من آياته المحكمات في أصول الإيمان والإسلام- أن يكون غرضه من حياته تزكية نفسه، وتكميلها باتباع الحق في كل اعتقاد، والهدى -وهو الصلاح- في كل عمل، وبناؤهما على أساس العلم، دون الظن وما دونه من الخرص والوهم، فالعلم المفيد للحق والمبين للهدى في الدين هو ما كان قطعي الرواية والدلالة من الكتاب والسنة الذي قامت به الجماعة الأولى، وهو الشرع العام الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه، فهو مناط وحدتهم، ورابطة جامعتهم، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به في الاعتقاد، وهو متروك للاجتهاد في الأعمال، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية، واجتهاد أولي الأمر في القضاء والإدارة والسياسة، مع تقييدهم فيه بالشورى في استبانة العدل والمساواة والمصالح العامة، كما فصلناه من قبل في مواضعه.
وقد غفل عن هذه القواعد بعض أئمة الفقه فحكم بتحريم بعض العادات المباحة في الأصل كلعب الشطرنج، وكذا المستحبة كملاعبة الرجل لزوجه، وسماع الغناء، بشبهة أنها من الباطل أو من الضلال، ولا يثبت تحريم شيء من ذلك بدليل ظني فضلا عن قطعي، وفاقا للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي المخالف فيه للرواية عن إمامه، وأما المقلدون من المنتمين في الفقه إلى كل مذهب، فقد حرموا على الناس ما لا يحصى بالرأي والأقيسة الوهمية، التي هي دون الأدلة الظنية، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الشبهات الاحتياط كما صرح به في حديث " الحلال بين والحرام بين " ١ المتفق عليه، واستفتاء ( الوجدان ) لحديث " استفت نفسك " رواه البخاري في التاريخ.
وإنما الباطل من الأعمال ما يثبت بطلانه بدليل شرعي قطعي، كما أن الحق فيها ما ثبتت حقيته بدليل قطعي، وبينهما واسطة -هي ما لا دليل فيه -ربخلاف الاعتقاد فإنه ليس فيه واسطة بين الحق والباطل، ومن الأشياء العملية ما الأصل فيه الإباحة وهو النافع، ومنه ما سكت الشارع عن فرضه وعن تحريمه وعن قواعد حدوده كما قال صلى الله عليه وسلم :" وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " كما في حديث أبي ثعلبة في الأربعين النووية، وقد حققنا هذا البحث في تفسير ﴿ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ [ المائدة : ١٠٥ ] من جزء التفسير السادس.
والذي أريد أن أذكر به كل مسلم هنا أنه لا يوجد الآن في الأرض دين متبع، ولا قانون دولي منفذ، ولا نظام حزبي ولا جماعي ملتزم، يفرض على الناس الحق والهدى فرضا دينيا، والاعتماد في استبانتهما على العلم الصحيح، وحصر الاجتهاد والترجيح فيما سواهما، والاعتماد فيه على الوجدان في الشخصيات، والشورى في المصالح العامة، ولن يصلح حال البشر الفردي ولا الاجتماعي والدولي إلا بهذه الأصول التي فرضها الإسلام، وجعلها دينا يدان الله به ليس لأحد تجاوزه، وقد عجزت علوم البشر على اتساعها، وعقولهم على ارتقائها، عن الاستغناء بغيرها، فهم كلما ازدادوا علما يزدادون باطلا وضلالا وبغيا، خلافا لدعاة حضارتهم الكاذبين.
قال شيخ فلاسفة الأخلاق وعلم الاجتماع في هذا القرن - وهو هربرت سبنسر الإنكليزي- لحكيم الإسلام شيخنا الأستاذ الإمام : إن فكرة الحق قد زالت من عقول أمم أوربة البتة، فلا يعرفون حقا إلا للقوة، وإن الأفكار المادية قد أفسدت أخلاقهم، وإنه لا يرى من سبيل إلى علاجهم، وإنه لا يزال بعضهم يختبط ببعض ولعله ذكر الحرب ليتبين أيهم الأقوى ليسود العالم.
وقد وقع ما توقعه هذا الحكيم في سنة ١٩٠٣ م بالحرب الكبرى مدة أربع سنين ( من ٩١٤ و ٩١٨ )، فازدادت الأمم والدول شقاء وفسادا وطغيانا وإباحة، حتى جزم كثير من عقلائهم بأنه لا علاج لهذا الفساد في البشر إلا الهداية الروحية الدينية، وسيعقدون لذلك مؤتمرا عاما في الولايات المتحدة الأمريكانية، ولن يجدوا العلاج المطلوب إلا في هذه الأصول من القرآن، وما فصلناها به في مباحث ( الوحي المحمدي ) من هذا التفسير، ثم جمعناه في كتاب مستقل مع زيادة في تفصيله، فعسى أن يسبقهم المسلمون إلى العمل به ونشره.
١ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٩، والبيوع باب ٢، ومسلم في المساقاة حديث ١٠٧، ١٠٨، وأبو داود في البيوع باب ٣، والترمذي في البيوع باب ١، والنسائي في البيوع باب ٢، والقضاة باب ١١، وابن ماجه في الفتن باب ١٤، والدارمي في البيوع باب ١، وأحمد في المسند ٤/٢٦٧، ٢٦٩ ـ ٢٧١، ٢٧٥..
﴿ ومَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ ولَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٣٧ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ٣٩ ﴾
بعد ما تقدم من إقامة البرهان على أن القرآن من عند الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان عاجزا كغيره عن الإتيان بمثله في هدايته، وفي علمه ولغته، وما تلاه من إقامة الحجج على بطلان شركهم، وما بعده من بيان حالهم في اتباع أكثرهم لأدنى الظن وأضعفه في عقائدهم وتكذيبهم، عاد إلى تفنيد رأيهم الأفين في الطعن على القرآن بمقتضى الظن الضعيف من الأكثرين، والجحود المنادي من الأقلين، كالزعماء المستكبرين، فقال :
﴿ ومَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ ﴾ النفي هنا للشأن الذي هو أبلغ وأكد من نفي الشيء مباشرة كما تقدم مرارا، وإن غفل عن ذلك من أعربه إعرابا آخر لقصر نظره على ظاهر اللفظ، دون ما يقتضيه المقام من المبالغة في الرد، أي وما كان هذا القرآن في علو شأنه، المجلي له في أسلوبه ونظمه، وعلومه العالية، وحكمته السامية، وتشريعه العادل، وآدابه المثلى، وتمحيصه للحقائق الإلهية والاجتماعية، وإنبائه بالغيوب الماضية والآتية، وجعل المقصد من إصلاحه ما بينه آنفا من اتباع الحق والهدى، واجتناب الضلال باتباع الهوى، والاعتماد فيهما على العلم الصحيح، ما كان وما صح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه ويسنده إليه، إذ لا يقدر غيره عز وجل عليه، فإن فرض أن بشرا يستطيع الإتيان بمثله فلن يكون إلا بشرا أرقى وأكمل من جميع الحكماء والأنبياء وكذا الملائكة ومثله لن يفتري على الله، بل قال أشد الكفار عنادا وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أبو جهل لعنه الله : إن محمدا لم يكذب على بشر قط أفيكذب على الله ؟
﴿ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي ولكن كان تصديق الذي سبقه من الوحي لرسل الله تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم بدعوته إلى أصول دين الله الإسلام التي دعوا إليها من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، بعد أن نسي بعض ذلك بقايا أتباعهم وضلوا عن بعض، وشوهوه بالتقاليد المبتدعة مما لم يكن يعلمه محمد الأمي صلى الله عليه وسلم، أو تصديق ذلك بكونه جاء وفاقا لما دعا به إبراهيم لأهل حرم الله، ولما بشر به موسى وعيسى والنبيون كما بيناه بالتفصيل في تفسير قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] من جزء التفسير التاسع، ويجوز الجمع بين المعنيين.
﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾ الإلهي أي جنسه، وهو ما شرعه الله تعالى ليكتب ويهتدي به جميع البشر من العقائد والشرائع والعبر والمواعظ وشؤون الاجتماع وسنن الله في خلقه.
﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ هو لا ريب فيه، أو حال كونه لا ريب فيه، أي ليس فيه مثار للشك ولا موضع للريب، لأنه الحق والهدى.
﴿ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ من وحيه لا يقدر عليه غيره ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ [ النساء : ٨٢ ].
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ انتقال من بيان كونه أجل وأعلى من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله، إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين أن محمدا صلى الله عليه وسلم افتراه، والاستفهام فيه للإنكار والتعجب، أو التمهيد به إلى الرد عليه بتحدي التعجيز وهو ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ في أسلوبه ونظمه وتأثيره وهدايته وعلمه مفتراة في موضوعها، لا تلتزمون أن تكون حقا في أخبارها.
﴿ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ ﴾ واطلبوا للمظاهرة لكم والإعانة على ذلك من استطعتم دعاءهم من دون الله، فإن جميع الخلق يعجزون عن ذلك مثلكم، فهذا كقوله تعالى :﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] وهذه الآية في سورة الإسراء وقد نزلت قبل يونس.
﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في زعمكم أني افتريته. والجمهور على أن لفظ سورة هنا يصدق بالقصيرة كالطويلة وبينا وجهه في تفسير آية التحدي من سورة البقرة ( ٢٣ : ٢ )، وهو المتبادر من تنكير السورة إلا أن يقال : إن التنكير للتعظيم، أو لنوع من السور يدل عليه دليل، كالسور التي فيها قصص الأنبياء وأخبار وعيد الدنيا والآخرة ؛ لأن الافتراء تتعلق تهمته بالأخبار، لا بالإنشاء من أمر ونهي، كما أشرت إليه في تفسير سورة البقرة.
ورجع بعضهم أن المراد السورة الطويلة، أي مثل هذه السورة نفسها ( يونس ) في اشتمالها على أصول الدين والوعد والوعيد، كما يطلق لفظ الكتاب أو كتاب أحيانا ويراد به السورة الواحدة التي يذكر فيها، كقول من قال في أول سورة الأعراف ﴿ المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ [ الأعراف : ١، ٢ ] أي هذه السورة كتاب الخ، ومن تنكير لفظ سورة المراد بها النوع دون الوحدة قوله تعالى :﴿ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ﴾ [ محمد : ٢٠ ]، أي يفرض فيها القتال، بدليل قوله بعده ﴿ فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ﴾ الآية. وسنعود إلى هذا البحث في تفسير التحدي بعشر سور مثله مفتريات من سورة هود إن شاء الله تعالى.
ومن المعلوم بالبداهة، أنه ما كان لعاقل مثله صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن عالما موقنا بأنه لا يستطيع الإنس والجن الإتيان بمثل هذا القرآن في جملته، ولا بسورة مثله، لا أفراد العلماء والبلغاء منهم ولا جماعاتهم ولا جملتهم، إن فرض إمكان اجتماعهم ومظاهرة بعضهم لبعض. فلو كان هو الذي أنشأه وألفه لمصلحة الناس برأيه -كما ارتأى بعض المعجبين بعقله وذكائه وعلو أفكاره من الفلاسفة المتقدمين، وعلماء الماديين المتأخرين- لكان عقله وذكاؤه وعلو فكره مانعات له من هذا الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة ( الإنس ) والخفية ( الجن ) عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به، فإن كل عاقل متوسط الذكاء والفكر يعلم أن كل ما أمكنه من الأمر فهو يمكن غيره، بل لا يأمن أن يوجد من هو أقدر عليه منه، فهذه آية بينة للعقل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موقنا بأنه من عند الله تعالى، وأنه هو كغيره لا يقدر على الإتيان بسورة مثله، وهي إحدى حجج الذين قالوا إنه لا يعقل أن يكون كاذبا مفتريا له، فإن قيل : إنه يمكن أن يعتقد عجز نفسه وغيره في حال كونه وحيا من نفسه، معتقدا أنه من ربه قلنا :
أولا : إن دعوى الوحي النفسي باطلة بأدلة كثيرة كما تقدم.
وثانيا : أن عجز غيره ممن كانوا أفصح منه دليل على عجزه بطريق الأولى.
ثم إن أكثر المتكلمين ومن على مذاهبهم من المفسرين يعتمدون في إقامة الحجة على نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم على تحديه للعرب بالقرآن أن يأتوا بمثله إجمالا، أو بحديث مثله، فبعشر سور مثله مفتريات، فبسورة مثله، فسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم- أي في أميته-، وبما ظهر من عجز العرب وغيرهم عن ذلك، إذ لو قدر أحد على الإتيان بسورة مثله -أو قريب منه- لفعلوا، لتوفر الدواعي من أعدائه على تكذيب دعواه، ولاسيما بعد استفحال قوته، واضطرارهم إلى بذل أموالهم وأنفسهم في مكافحته، وبهذا يعلم الفرق الواضح بين تحديه صلى الله عليه وسلم بالقرآن وتحدي بعض الدجالين المغرورين ببعض ما هذوا به من نثر ونظم وسموه وحيا، كالباب والبهاء والقادياني، فإنه كان سخرية للعلماء والبلغاء، وقد أخفى البهائيون كتابه ( الأقدس ) عن الناس.
ثم إن أكثرهم على أن تحدي العرب إنما كان بما امتاز به من الفصاحة والبلاغة اللغوية، وقد صنفوا في بيان إعجاز القرآن بها كتبا مستقلة، ولم يوفوه حقه من ناحيتها ولاسيما نظمه العجيب بله النواحي المعنوية، وقالوا : إن وجه الدلالة في ذلك على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة، وأنه من عند الله، هو أنه يتضمن تصديقه تعالى له، كأنه قال :( صدق عبدي فيما يبلغه عني )، ولذلك رجحوا أن هذه الدلالة وضعية كدلالة الكلام الإلهي، وقيل إنها عقلية، وتقدم بسط ذلك في تفسير آية البقرة.
وهذا الذي قالوه في إعجازه بالبلاغة قد اعترض عليه بعض الناس حتى المتقدمين الذين كانوا أقرب إلى فهمه وامتيازه بها من أهل عصرنا. قال الفريقان : إن لكل بليغ من فصحاء كل أمة أسلوبا يمتاز به، وأنتم أيها المسلمون تقولون إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أفصح قريش وهم أفصح العرب، فلا غرو أن يمتاز فيهم بهذا الأسلوب والنظم القرآني كما امتاز بعض شعراء الجاهلية والإسلام بأسلوب خاص، وكما امتاز شكسبير في شعراء الإنكليز، وفيكتور هيغو في شعراء الفرنسيين، فعجْز العرب عن الإتيان بمثل القرآن في بلاغته لا يدل على أنه من الله عز وجل.
ونقول : إن هذا الاعتراض يذوب فيزول إذا عرض على الأشعة التي اقتبسناها من ضياء شمس القرآن في إعجازيه المعنوي واللفظي في أول تفسير هذه السورة، ثم في تفسير الآيتين ( ١٥ و١٦ ) منها. وأما قولهم في إحدى مقدماته إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أفصح قريش وأبلغهم في لغته، فقد بينا بالنقل الثابت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل نزول القرآن عليه يذكر في فحول فصحائهم ولا في وسطهم، بل لم يكن يعد منهم، وإنما صار كلامه ممتازا بالفصاحة والبلاغة بما استفاده من وحي القرآن كما استفاد من دونه منه، على أنه ظل ككلام غيره من البشر في البعد عن مشابهة نظم القرآن وأسلوبه وتأثيره، وهذا التفاوت لا نظير له في كلام بلغاء البشر.
فإن قيل : إن ما يظهر في السور الطويلة من روعة البلاغة وبراعة النظم لا يظهر في السور القصيرة، قلنا : لكن الناس عجزوا عن معارضة السور القصار كغيرها، ولخفاء وجه الإعجاز فيها على بعضهم قال من قال منهم : إن عجزهم كان بصرف الله تعالى لقدرهم عن المعارضة، وقال بعضهم : إن التحدي إنما كان بسورة طويلة كما نقلناه آنفا عن الرازي ووجهناه بأظهر مما وجهه به، وهو أن تكون مما أرادوه من تهمة افترائه وبيانه أنه إذا كان التحدي بسورة مثله مفتراة خاصا بالسور التي فيها قصص الرسل مع أقوامهم بالتفصيل فهذه كلها من السور الطويلة كالأعراف ويونس وهود والحجر وطه والمؤمنين والطواسين والعنكبوت، وإن كان يعم السور المشتملة على نذر أولئك الأقوام المكذبين لرسلهم من غير تفصيل لدعوتهم لهم فيدخل في عمومه بعض سور المفصل أيضا كالذاريات والنجم والقمر والحاقة والفجر، ولا يدخل فيه على كل من التقديرين شيء من السور القصيرة ؛ لأنه ليس فيها شيء من ذلك.
والتحدي في هذه السورة وسورة هود وسورة الطور مبني على تهمة الافتراء والتكذيب كما ترى إيضاحه في آية ﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ﴾ [ يونس : ٣٩ ] التي تلي هذا.
ومن تأمل ما في هذه السور من المفصل من التعبير عن المعنى الواحد بالعبارات العديدة مع تعدد أساليبها، واختلاف نظمها، وأنواع فواصلها، وألوان بيانها، وقوارع نذرها، وصوداع وعيدها، وقابليتها للترتيل بالنغمات المؤثرة اللائقة بكل منها، فأجدر به إن كان قد أوتي حظا من بيان هذه اللغة والشعور الذوقي ببلاغتها أن يقتنع بأن إعجازها اللغوي كإعجاز قصص السور الطويلة أو أظهر، بصرف النظر عن كون موضوعها حقا موحى به من الله تعالى أم لا ؟ وأن يتبعه سر تأثيرها العجيب في أولئك المكذبين من بلغاء قريش وغيرهم الذي عبر عنه الوليد بن المغيرة المخزومي- وهو في الذروة العليا منهم - بعبارته المشهورة ومنها قوله :( وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته ) وغير ذلك مما بيناه في مباحث الوحي، وأن يعلم صدق الإمام عبد القاهر في قوله :" أسال عليهم الوادي عجزا، وأخذ عليهم منافذ القول أخذا " علما ذوقيا وجدانيا.
وأما من لا يعرف من بلاغة هذه اللغة إلا القواعد الفنية وأمثلتها الجزئية المدونة في مثل مختصر السعد التفتازاني ومطوله من كتب المعاني والبيان، فأجدر به أن يطبقها على كل كلام، وناهيك به إذا عد منها ما ذكره المتنطعون من المتأخرين فيما يسمونه المحسنات البديعية، وشروط الفصاحة وعيوبها، وقد سمعت أن بعضهم مج ذوقه بعض فواصل سورة القمر، فكان بعض المستشرقين أصح منه فهما وذوقا إذ قال : إنها من أبلغ سور القرآن أو أبلغها بلا استثناء.
فإن قيل : إن التحدي في السور الثلاث ( يونس وهود والطور ) جاء ردا على تهمة الافتراء والتقول كما قلتم، فيظهر فيه أن يختص بالسور التي تظهر فيها تهمة الافتراء كما قررتم، ولكن التحدي في آية سورة البقرة ليس كذلك، قلنا : لكنه جواب للمرتابين فيه- وهم المكذبون- فهو تأكيد لما قبله، لأنه نزل بعده، وهي مدنية وهن مكيات، فإن منعنا هذا وقلنا إن التنكير فيها يصدق بأصغر سورة وهي الكوثر، وسلمنا أنه لا يظهر فيها إعجاز النظم والأسلوب قلنا : إنها معجزة بما فيها من الإيجاز، وخبر الغيب في أولها وآخرها، كما شرحناه في تفسير الآية من الجزء الأول. وفي الجلالين ما يؤيد هذا، فقد قال في آية البقرة : هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب اه. وقال في آية يونس : هي مثله في الفصاحة والبلاغة على وجه الافتراء اه. وإعجاز السور الصغيرة المعنوي بالهدي والنور وإصلاح القلوب لا يكابر فيه إلا الجهول المحجوب.
﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ﴾ هذا إضراب عن بعض ما يتضمنه قولهم ( افتراء ) وما يستلزمه- ككونهم يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يكذب، أو أن القرآن في جملته افتراء منه، وقد ثبت أنهم كانوا يعلمون تحريه الصدق في كل ما يقوله، وانتقال إلى بيان موضوع تكذيبهم بظنهم أنه محال في نفسه، وهو ما أنذرهم من عذاب الله لهم في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا له ويتبعوه، وقد وصفهم بعدم إحاطتهم بعلمه، أي لم يعلموه من جميع وجوهه ونواحيه، وبأنه لما يأتهم تأويله، أي مصداقه إلى ذلك الوقت، مع توقع إتيانه، وبتشبيه تكذيبهم إياه بتكذيب الذين من قبلهم بمثله، فبين ما كذبوا به بهذه الصفات الثلاث.
فالوصف الأول : لما كذبوا به أنه ما لم يحيطوا بعلمه، فيكون تكذيبهم صحيحا وإنما ظنوا ظنا، والظن لا يغني من الحق شيئا،
والوصف الثاني : قوله :﴿ ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ أي ولم يأتهم إلى الآن ما يؤول إليه ويكون مصداقا له بالفعل، وإتيانه متوقع بل آت لابد منه، وقد خبط المفسرون الفنيون في معنى هذا التأويل منذ القرون الوسطى، لأنهم لم يفهموا القرآن بلغته الحرة الفصحى، بل بلغة اصطلاحاتهم الفنية ولاسيما أصول الفقه والكلام. فقال بعضهم : إنهم كذبوا بما لم يفهموا معناه، وقال بعضهم : إنهم كذبوا بما لم يظهر لهم وجه الإعجاز فيه، ولو صح هذا أو ذاك لكانوا معذورين بالتكذيب طبعا، وسبب مثل هذا الغلط جعلهم التأويل تارة بمعناه عند بعض المفسرين وهو رديف التفسير، وتارة بمعناه عند المتكلمين والأصوليين، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله في اللغة بشرط موافقته للشرع، لتخرج تأويلات الباطنية وغلاة الصوفية.
وقد جمع الرازي كعادته كل ما رآه محتملا من هذا التكذيب في خمسة وجوه :
١ تكذيب قصص القرآن، وذكر لها ثلاث صور.
٢ حروف التهجي في أوائل بعض السور ؛ إذ لم يفهموا منها شيئا، وزعم أن الله أجاب عنها آية آل عمران في المحكمات والمتشبهات.
٣ ظهور القرآن منجما شيئا فشيئا.
٤ أخبار الحشر والنشر.
٥ العبادات. قالوا : إن الله مستغن عن عبادتنا.
وكل هذه الوجوه باطلة لا يحتمل إرادة شيء منها إلا الرابع، وفسر عدم إتيانهم تأويلها بجهلهم حقيقتها وحكمها، وهو باطل، وناهيك بحملها على الحروف المفردة في أول السور -وهي ليست بكلام فيكذب أو يصدق- ثم قال :" قال أهل التحقيق : قوله :﴿ ولما يأتهم تأويله ﴾ يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة ؛ لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق. أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل، فيصير نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء " اه.
وهذا القول الذي عزاه إلى أهل التحقيق باطل بعيد عن الحق، وحكم على كتاب الله بما عابه من اتباع الظن، وما أهل التحقيق في عرفه إلا نظار علم الكلام المبتدع، وهو ظلمات بعضها على بعض، ما ولد البدع المضلة إلا الاشتغال به، وهذا التأويل الذي قال فيه ما قال لا يصح في اللغة، ولا أصل له في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في المأثور عن أصحابه رضي الله عنه، ولا عن أئمة سلف الأمة، كما ستراه قريبا.
وأما التأويل في لغة القرآن فله معنى واحد - لا معنى له سواه- وهو عاقبة الشيء ومآله الذي يؤول إليه، من بيان مصداقه المراد منه بالفعل، كما قلنا آنفا، وبيناه بالتفصيل في تفسير آية المحكمات والمتشابهات من سورة آل عمران التي أطال الرازي في الكلام عليها، فأخطأ محجة الصواب، وحرم الحكمة وفصل الخطاب، فكان أجدر بالخطأ هنا وقد التزم الاختصار، وأوضح الأدلة على ذلك بعد ما علمت من حمله التأويل على المعنى الاصطلاحي غفلته عن نفي إتيانه بحرف لما الدال على توقعه، إذ معناه أن تأويله لم يأتهم إلى الآن، وإتيانه متوقع بعده، وغفلته عن تشبيه تكذيبهم بتكذيب من قبلهم في الجملة الآتية، والمتبادر منه أنه وعيد الله إياهم على تكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة، ونصره عليهم، وهو ما فسر الآية به إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري قال :
" يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك، ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم.
﴿ ولما يأتهم تأويله ﴾ يقول : ولما يأتهم بعد بيان ما يؤول ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن.
﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم ﴾ يقول تعالى ذكره : كما كذب هؤلاء المشركون يا محمد بوعيد الله، كذلك كذب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم " اه.
وكذلك قال البغوي في تفسير التأويل ؛ لأنه محدث فقيه غير متكلم، وتبعهما الجلال هنا وفي آية الأعراف الآتي ذكرها.
الوصف الثالث : التشبيه الذي ذكرناه في الإجمال وهو قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ شبه تكذيب مشركي مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم بتكذيب من قبلهم من مشركي الأمم لرسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به، كما ترى في قصصهم المفسرة في السور العديدة ولاسيما سورة الشعراء المبدوءة فيها بقوله :﴿ كذبت قوم نوح المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ ] ﴿ كذبت عاد المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] ﴿ كذبت ثمود المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ]، ثم ذكر لفظ التكذيب في وعيدهم كقول هود لقومه :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ إلى قوله :﴿ فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية ﴾ [ الشعراء : ١٣٩ ] الخ، وقول صالح لقومه بعدهم إذ أتتهم آية الناقة :﴿ ولَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ* فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ [ الشعراء : ١٥٦ ١٥٨ ] الخ، فهذا تأويله المراد من قوله هنا.
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ أي فانظر أيها الرسول أو العاقل المعتبر كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم، وهو تأويل وعيدهم لهم، لتعلم مصير الظالمين من بعدهم، وهذه العاقبة مبنية بالإجمال في قوله :﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ومِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ ومِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ] وسيأتي ما يؤيد ما قررناه كله قريبا في الآيات ( ٤٦ و٥٥ ).
وقد أنذر الله قوم محمد صلى الله عليه وسلم ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة وفي سور كثيرة كما أنذرهم عذاب الآخرة، وكذبه المعاندون المقلدون في كل منهما ظانين أنه لا يقع، لا غير فاهمين لمعناه أو لإعجازه، ولكن قضت حكمته تعالى حفظ قومه من تكذيب أكثرهم، وما يقتضيه من أخذ عذاب الاستئصال لهم، وراجع إلى قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] الخ تعلم علم اليقين أن ما قررناه هو حق اليقين الذي لا تقبل غيره لغة القرآن، وأنه هو الذي يتفق مع سائر الآيات، وأن ما قرره الرازي هو الباطل والضلال المبين، الذي تدحضه الآية وما في معناها مما ذكرنا بعضه وأشرنا إلى بعض، فعسى أن يكون قد استجاب الله دعاء شيخنا رحمه الله فينا إذ قال :
ويخرج وحي الله للناس عاريا***من الرأي والتأويل يهدي ويلهم
استطراد في المتكلمين وتفسير إمامهم الرازي
اعلم أن الفخر الرازي كان إمام نظار المتكلمين والأصوليين في عصره، وأن علماء النظر اعترفوا له بهذه الإمامة من بعده، ولكنه كان من أقلهم حظا من علم السنة وآثار الصحابة والتابعين، وأئمة السلف من المفسرين والمحدثين، بل وصفه الحافظ الذهبي -إمام علم الرجال في عصره- بالجهل بالحديث، فلم يجد التاج السبكي ما يدافع به عنه -لأنه من أئمة الأشعرية الشافعية- إلا الاعتراف بأنه لم يشغل بهذا العلم، وليس من أهله، فلا معنى للطعن عليه بجهله ولا بذكره في رجاله المجرحين ولا العدول، أما علمه بالكلام فقد قال بعض العارفين في وصف كتابه ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين ) ما ينبئك بحقيقته عند المحققين، وهو :
محصل في أصول الدين حاصله***من بعد تحصيله علم بلا دين
رأس الغواية في العقل السقيم فما*** فيه فأكثره وحي الشياطين
ولشيخ الإسلام ابن تيمية مصنف مستقل في نقض ( كتابه أساس التقديس ) فيه، ولولا أن تصدى لإحياء شبهاته في هذا العهد اثنان من مكثري النشر في الصحف للمباحث الدينية : أحدهما شيخ أزهري، وثانيهما كاتب مدني، لما أبدينا وأعدنا في تفنيد بدعه الكلامية المخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي يجهلانها ؛ لأن بضاعة الأول نظريات متكلمي القرون الوسطى على قلة من يفهمها منهم اليوم، وبضاعة الثاني نظريات بعض الإفرنج، ولما رأيا نظرية الرازي في التأويل تؤيد فهمها الباطل أراد الثاني ترويجها في سوق العامة بتسميته إمام المفسرين، وما كان إلا إمام المتكلمين.
وأما تفسيره فقد اشتهر قول بعض العلماء فيه :" إن فيه كل شيء إلا التفسير " كما في كتاب الإتقان. والحق أن هذه مبالغة في الإنكار على ما هو الغرض الذي امتاز به تفسيره، وهو نقل آراء الفلاسفة والمتكلمين، وحجج المعتزلة والأشاعرة.
فلينظر القارئ المستقل الفهم كيف فعل تقليد المسلمين لهؤلاء المتكلمين في دينهم : ينقل لهم متكلم مفسر عن متكلم مجهول -زعم أنه من أهل التحقيق- أن هذه الآية من القرآن التي لم يعرف لغتها ولا معناها الناقل ولا المنقول عنه " تدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات ( التي ابتدعوها ) وقع في الكفر والبدعة "، وعلل ذلك بما هو باطل من وجوه، نكتفي منها بما لا يخفى على عامي ذكي ولا بليد، وهو أن المؤمن بالنصوص إذا رأى فيها ما هو متعارض فإنه إما أن يبحث عن وجوه الترجيح بين المتعارضات بمقتضى القواعد التي وضعها علماء الأصول في ( كتاب التعارض والترجيح )، إذا رأى أنه أهل لذلك وفي حاجة إليه، وإما أن يترك هذا البحث إلى أهله معتقدا أنهم أعرف به، ولا يكون هذا التعارض الصوري سببا لشكه في القرآن، أو أنه ليس بحق مما يكون به مبتدعا أو كافرا، ولو صح قول هذا القائل لوجب تحريم قراءة كتاب الله وكتب السنة على كل من لم يأخذ بقاعدتهم هذه، ويتعلم علم الكلام وعلم أصول الفقه قبل تلاوته لأجلها وإن كان عالما بهدي السلف وأقوال أئمته، وهذا تقييد لكتاب الله تعالى، وصد عنه بتأويلاتهم المبتدعة بعد عصر النور الأول لهذه الأمة، ويلزم به أن يحكموا على أكثر من يقرءونه بالكفر والبدعة، والحق أن هذه التأويلات التي فتنوا بها هي المثار الأكبر للشكوك والبدع التي هي بريد الكفر، وأن كتاب الله كله هدى ونور، وأصح بيان له سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخير المهتدين بها سلف الأمة وحفاظ السنة.
وجملة القول : إن مذهب السلف الصالح وجوب الإيمان بك
﴿ ومِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠ وإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ٤١ ﴾
لما بين الله تعالى في الآيات السابقة حال مشركي قريش في اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن وبتكذيبهم بوعيده لهم، بين في هاتين الآيتين أقسام هؤلاء القوم في تكذيبهم ومستقبل أمرهم، أو حالهم ومستقبلهم في الإيمان، وفي عمل المكذبين بمقتضى تكذيبهم، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته إلى أن يأتي أمر الله فيهم.
فقال :﴿ ومِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ يقول تعالى لرسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم : إن قومك لن يكونوا كأولئك الظالمين من قبلهم، الذي كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم، فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال ؛ بل سيكون قومك قسمين : قسم سيؤمن بهذا القرآن، وقسم لا يؤمن به أبدا.
﴿ ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ في الأرض بالشرك والظلم والبغي لفساد فطرتهم وفقدهم الاستعداد للإيمان، وهم الذين يعذبهم في الدنيا فيخزيهم وينصرك عليهم، ويجزيهم في الآخرة بفسادهم. وقيل : إن الآية في بيان حالهم عند نزول هذه السورة، وهي أن بعضهم يؤمن به في الباطن، وإنما يكذبه في الظاهر عنادا واستكبارا، ومنهم من لا يؤمن به جهلا وتقليدا، ومن هذا الفريق من فقد الاستعداد للإيمان -وهم الأقلون- وسيأتي وصف حالهم في الآيات ٤٢ و٤٤ قريبا، وله وجه. وأما الذي ليس له وجه صحيح فهو قول من فسروا التأويل بالمعنى الاصطلاحي الذي بينا فساده : أن هذا بيان لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع ؛ أي سيكون منهم حينئذ مؤمن وكافر، لما بيناه من أنه غير مراد، ولا معنى لإتيانه، وأنه متى جاء تأويله المراد -وهو وقوع العذاب- يكون الإيمان به اضطراريا عاما، وهو المنصوص في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ]، وتأويله بعذاب الاستئصال أو بقيام الساعة سواء في أنه لا ينفعهم معه الإيمان، إذ لا يقبل منهم ؛ بل يقال لهم حينئذ ﴿ آلآن وقد كنتم به تستعجلون ﴾ كما يأتي في الآية ( ٥١ )، وانظر تفصيله في آخر سورة المؤمن ( ٤٠ و٨٢ و٨٥ ) وسنبين في تفسير الآية ( ٤٦ ) عدم وقوع عذاب الاستئصال على هذه الأمة. وفي الآية تسلية له صلى الله عليه وسلم يؤكدها ما بعدها وهو :﴿ وإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾
﴿ ومِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠ وإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ٤١ ﴾
لما بين الله تعالى في الآيات السابقة حال مشركي قريش في اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن وبتكذيبهم بوعيده لهم، بين في هاتين الآيتين أقسام هؤلاء القوم في تكذيبهم ومستقبل أمرهم، أو حالهم ومستقبلهم في الإيمان، وفي عمل المكذبين بمقتضى تكذيبهم، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته إلى أن يأتي أمر الله فيهم.
﴿ وإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾ أي وإن أصروا على تكذيبهم فقل لهم : لي عملي بمقتضى رسالتي- وهو البلاغ المبين، والإنذار والتبشير، وما يستلزمه من العبادة والإصلاح- وما أنا عليكم بمسيطر ولا بجبار، ولكم عملكم، بمقتضى تكذيبكم وشرككم- وهو الظلم والفساد، الذي تجزون به يوم الحساب- ويقال لكم هَلْ ﴿ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ كما يأتي في الآية ( ٥٢ ) من هذا السياق، وهذا كقوله تعالى :﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُو أَهْدَى سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٨٤ ] ﴿ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فلا يؤاخذ الله أحدا منا بعمل الآخر. وهذا كقوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ ﴾ [ هود : ٣٥ ] وقوله :﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٦ ].
﴿ ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ٤٢‏ ومِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ولَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ٤٣ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ولَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ ﴾
لما أنبأ الله رسوله بأن من قومه من لا يؤمن بهذا القرآن حالا ولا استقبالا ؛ إذ لا ينفعهم البيان مهما يكن ناصعا، ولا يقنعهم البرهان وإن كان قاطعا ؛ وإن الذي عليه في المصرين على تكذيبه منهم بعد ما جاءهم به من الآيات، التي دمغتهم بالحجج البينات، أن يتبرأ منهم، وينتظر أمر الله فيهم، كان من شأن هذا النبأ أن يثير عجبه لغرابته في نفسه، وأن يسوءه لما يشير إليه من انتقام الله منهم، بين له مثل الذين فقدوا الاستعداد للإيمان، وعلمه ما لم يكن يعلمه من سنة الله تعالى فيهم، وكون مصيبتهم من أنفسهم، فلا حول له ولا قوة على هدايتهم.
فقال :
﴿ ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ أي يصيخون بأسماعهم مصغين إليك إذا قرأت القرآن، أو بينت ما فيه من أصول الإيمان والأحكام، ولكنهم لا يسمعون إذ يستمعون، إذ لا يتدبرون القول، ولا يعقلون ما يراد به، ولا يفقهون ما يرمى إليه، لأن الاستماع إليك مقصود عندهم لذاته لا لما يراد به، وهي بلاغته في غرابة نظمه، وجرس الصوت بترتيله، كمن يستمع إلى طائر يغرد على فننه، ليستمتع بصوته لا ليفهم منه، كما قال :﴿ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٢، ٣ ] أو كالبهائم يصيح بها الراعي فترفع رؤوسها لاستماع صوته الذي راعها فصرفها عن رعيها، كما قال :﴿ ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء ونِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] أو كما قال :﴿ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ]، والقاعدة الطبعية الشرعية أن الأمور بمقاصدها. ونحن نرى كثيرا من الناس يقصدون قراء القرآن في ليالي رمضان أو في المآتم ليستمعوا إلى فلان القارئ الحسن الصوت لغرض التلذذ بترتيله وتوقيع صوته أو بلاغته، ولا أحد منهم ينتفع بشيء من مواعظ القرآن ونذره، وحكمه وعبره، ولا عقائده وأحكامه، ومنهم المسلمون وغير المسلمين، بل سمعت بأذني من غير المسلمين من يستمع القرآن ويعجب من شدة تأثيره وتغلغله في أعماق القلب وهو لا يؤمن به، ولهذا قال تعالى :
﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ هذا الاستفهام للإنكار، يعني أن السماع النافع للمستمع هو ما عقل به ما يسمعه وفقهه وعمل بمقتضاه، فمن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع، و أنت أيها الرسول لم تؤت القدرة على إسماع الصم- أي فاقدي حاسة السمع حقيقة- فكذلك لا تستطيع الإسماع النافع الصم مجازا -وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون، ولا يفقهون معناه، فيهتدوا به- والبلاغة في ظاهر تعبير الآية وصفهم بفقد السمع والعقل معا، وهو مجاز قطعا ؛ لأن من فقد الحس والعقل حقيقة لا يكون مكلفا. وإذ كان المراد بالعقل المنفي هنا عقل الكلام وفقهه فهو يقتضي ثبوت السماع ونفي الصمم الحقيقيين.
﴿ ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ٤٢‏ ومِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ولَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ٤٣ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ولَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ ﴾
لما أنبأ الله رسوله بأن من قومه من لا يؤمن بهذا القرآن حالا ولا استقبالا ؛ إذ لا ينفعهم البيان مهما يكن ناصعا، ولا يقنعهم البرهان وإن كان قاطعا ؛ وإن الذي عليه في المصرين على تكذيبه منهم بعد ما جاءهم به من الآيات، التي دمغتهم بالحجج البينات، أن يتبرأ منهم، وينتظر أمر الله فيهم، كان من شأن هذا النبأ أن يثير عجبه لغرابته في نفسه، وأن يسوءه لما يشير إليه من انتقام الله منهم، بين له مثل الذين فقدوا الاستعداد للإيمان، وعلمه ما لم يكن يعلمه من سنة الله تعالى فيهم، وكون مصيبتهم من أنفسهم، فلا حول له ولا قوة على هدايتهم.
﴿ ومِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ أي يوجه أشعة بصره إليك عند ما تقرأ القرآن، ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان، وهيبة الخشوع للديان، وكمال الخلق والخلق، وأمارات الهدى والحق، وآيات التزام الصدق، التي عبر عنها أحد أولي البصيرة بقوله عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم : والله ما هذا بوجه كذاب، وقال فيه آخر :
لو لم تكن فيه آيات مبينة***كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقال حكيم إفرنجي : كان محمد يقرأ القرآن في حالة وَلَه وتأثر وتأثير، فيجذب به إلى الإيمان أضعاف من جذبتهم آيات موسى وعيسى ( عليهم السلام ).
ومن فقد البصيرة العقلية والقلبية فيما يراه ببصره- فجمع بين وجود النظر الحسي بالعينين وعدم النظر المعنوي بالفعل- فهو محروم من هداية البصر -وهي البصيرة التي يمتاز بها الإنسان عن بصر الحيوان- فكأنه أعمى العينين ﴿ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ولَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ أي أنك أيها الرسول لست بقادر على هداية العمي بدلائل البصر الحسية، فكذلك لا تقدر على هدايتهم بدلائله العقلية، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها ؟ وقد أسند فعل الاستماع إلى الجمع لكثرة تفاوت المستمعين واختلاف أحوالهم فيه، وأسند فعل النظر إلى المفرد لأنه جنس واحد، ولكنه أفرد السمع وجمع الأبصار في بضع آيات منها ٣١ من هذه السورة لما ذكرناه في تفسيرها.
والمراد من الآيتين أن هداية الدين كهداية الحس، لا تكون إلا للمستعد لها بهداية العقل، وأن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجه النفس وصحة القصد، وهذا الصنف من الكفار قد انصرفت أنفسهم عن استعمال عقولهم في الدلائل البصرية والسمعية لإدراك مطلب من المطالب مما وراء شهواتهم وتقاليدهم، وليس المراد أنهم فقدوا نعمة العقل الغريزي ولا نعمة الحواس ؛ بل استعمالهما النافع كما قال في سورة الأعراف :﴿ ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ والإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ َيُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] فراجع تفسيرها للاعتبار والاتعاظ، وقد بين ذلك بيانا مستأنفا بما يبطل القول بالجبر فقال. ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ﴾
﴿ ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ٤٢‏ ومِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ولَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ٤٣ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ولَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ ﴾
لما أنبأ الله رسوله بأن من قومه من لا يؤمن بهذا القرآن حالا ولا استقبالا ؛ إذ لا ينفعهم البيان مهما يكن ناصعا، ولا يقنعهم البرهان وإن كان قاطعا ؛ وإن الذي عليه في المصرين على تكذيبه منهم بعد ما جاءهم به من الآيات، التي دمغتهم بالحجج البينات، أن يتبرأ منهم، وينتظر أمر الله فيهم، كان من شأن هذا النبأ أن يثير عجبه لغرابته في نفسه، وأن يسوءه لما يشير إليه من انتقام الله منهم، بين له مثل الذين فقدوا الاستعداد للإيمان، وعلمه ما لم يكن يعلمه من سنة الله تعالى فيهم، وكون مصيبتهم من أنفسهم، فلا حول له ولا قوة على هدايتهم.
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ﴾ أي الله تعالى لم يكن من شأنه ولا من سنته في خلق الناس أن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم ومنافعهم من الأعمال الاختيارية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهي الحواس والعقل وسائر القوى، فالظلم هنا بمعناه اللغوي الأصلي، وهو نقص ما تقتضي الخلقة الكاملة وجوده، كقوله تعالى :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ [ الكهف : ٣٣ ] ﴿ ولَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ أي يظلمونها وحدها لأن عقاب ظلمهم واقع عليهم دون غيرهم، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين، وهو عدم استعمالها فيما منحهم إياها لأجله من اتباع الحق في الاعتقاد، والهدى في الأعمال، وهو الصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدارين، المنجي من عذابهما.
وقرأ حمزة والكسائي ( ولكن ) بتخفيف النون، ( الناس ) بالرفع.
وقد وضع الإسلام الظاهر موضع الضمير إذ قال :" ولكن الناس "، ولم يقل :" ولكنهم " للإشارة إلى أن هذا الظلم خاص بهم دون سائر أنواع الحيوان، فإنها لا تعدو في استعمال مشاعرها وقواها ما خلقت لأجله من حفظ حياتها الشخصية والنوعية، وأما الناس فقد يستعملونها فيما يضرهم في حياتهم الحيوانية الدنيوية، وفي حياتهم الروحية الأخروية، كما قال :﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هو أضل سبيلا ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ]، وقدم المفعول ( أنفسهم ) على عامله لإفادة قصر هذا الظلم على أنفسهم دون غيرهم، أو دون ربهم الذي كفروا بنعمه، كما قال تعالى في بني إسرائيل من سورة البقرة [ الآية : ٥٤ ] وسورة الأعراف ﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ].
هذا هو المتبادر في هذا المقام من نفي ظلم الناس عن الله تعالى وقصره على أنفسهم، ويحتمل أن يراد به أنه تعالى لا يظلمهم بعقابه لهم شيئا بأن يعاقبهم على غير ذنب، أو يزيد على قدر الذنب، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بذنوبهم دون غيرهم، على قاعدة ﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] الآية، فراجع تفسيرها مع ما هنا، وحاسب نفسك، وذكر غيرك، ولا تجعلوا هذه الحكم البليغة حكاية للتسلية بهجو الكفار، فإنما هي حقائق هادية للموعظة والاستبصار.
﴿ ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ ومَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ٤٥ ﴾
هذه الآية للتذكير بمقدار ظلم المشركين لأنفسهم، وخسارتهم لها في الآخرة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالقرآن ووعيده لهم، وغرورهم بدنياهم الحقيرة، مصداقا للآية التي قبلها، قال :
﴿ ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ أي واذكر أيها الرسول لهم أو أنذرهم يوم يحشرهم الله. وهذه قراءة حمزة عن عاصم، وقرأها الباقون ( نحشرهم ) بالنون، أي نجمعهم ببعثهم بعد موتهم ونسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء.
﴿ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة قليلة من النهار ريثما يعرف فيها بعضهم بعضا كأولي القربى والجيران ثم زالت، فإن الساعة يضرب بها المثل في قلة المدة. فالتشبيه بيان لحالهم في تذكرهم للدنيا، يعني إن هذه الحياة الدنيا التي غرتهم بمتاعها بالحقير الزائل قصيرة ستزول بعذابهم أو موتهم، وسيقدرون يوم القيامة قصيرها بساعة من النهار لا تسع أكثر من التعارف القليل، كما قال في آخر سورة الأحقاف ﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ﴾ [ الأحقاف ]، وفي سورة الروم ﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ﴾ [ الروم : ٥٥ ]، وفي معناها قوله تعالى في آخر النازعات عن الساعة ﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ﴾ [ النازعات : ٧٩ ]، وفي آيات أخرى أن أهل الموقف يختلفون في هذا التقدير، أي بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك اليوم، فإنه تعالى قال بعد آية سورة الروم ﴿ وقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ولَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [ الروم : ٥٦ ] وفي سورة المؤمنون ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٢ ١١٤ ]، وفي سورة طه يختلفون بين اليوم والعشر. وقيل : إن المعنى أنهم يتعارفون بينهم يوم يحشرون كأنهم لم يتفارقوا لقصر مدة الفراق. وثم أقوال أخرى في التشبيه يبطلها ما أوردنا من الآيات في شواهده.
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ ﴾ أي خسروا السعادة الأبدية ؛ إذ لم يستعدوا له بالإيمان وعمل الصالحات المزكية للنفس، المرقية للروح، بما تكون أهلا لكرامته ومثوبته، ورضوانه الأكبر في جناته، فآثروا عليها حياة الدنيا القصيرة الحقيرة، المنغصة بالأكدار، السريعة الزوال، التي يقدرونها يوم الحشر بساعة من نهار. والجملة بيان مستأنف منه تعالى لخسران الذين كذبوا بلقاء الله من أهل مكة وغيرهم، ولذلك ذكرهم بصفتهم المقتضية له- وهي التكذيب- وعطف عليه ﴿ ومَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ [ البقرة : ١٦ ] فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الفاني على النفيس الخالد الباقي. أو هي معطوفة على جملة " قد خسر "، أي خسروا تجارتهم وأنفسهم، وما كانوا مهتدين إلى أسباب النجاة والربح من الأعمال الصالحة هي ثمرات الإيمان، كما قال ﴿ فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾ [ البقرة : ١٦ ]، وقد تقدم ذكر الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآيات ٧، ١١، ١٥ من هذه السورة، وتقدم ذكر خسرانهم في سورة الأنعام [ الآية : ٣١ ].
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ﴾ هذه جملة شرطية، زيدت ( ما ) في حرف الشرط ( إن ) ونون التوكيد في فعله فكان توكيده مزدوجا.
والمراد بالآية تأكيد وقوع ما وعد الله هؤلاء المشركين من العقاب في الدنيا والآخرة بشرطه فيهما لا يتخلف منهما شيء في جملتهما، سواء أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بعض القسم الأول منه وشاهده، أم توفاه قبل إراءته إياه. فإبهام الله تعالى إياه للحكمة المقتضية له في أوائل البعثة من جهة قربه أو بعده، ورؤيته صلى الله عليه وسلم له وعدم رؤيته، لا يفيدهم شيئا، وسنبين هذه الحكمة في إبهامه.
فالمعنى وإن نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم من العقاب في الدنيا فذاك، وفيه إشارة إلى أنه سيريه بعضه لا كله.
﴿ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ ﴾ بقبضك إلينا قبل إراءتك إياه.
﴿ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ وعلينا حسابهم، حيث يكون القسم الثاني منه وهو عقاب الآخرة، ويجوز أن يجعل هذا جواب الشرط بقسميه، والمعنى فإلينا وحدنا يرجع أمرهم في الحالين.
﴿ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ بعدك أو مطلقا فيجزيهم به على علم وشهادة حق.
والمراد أنه لا فائدة لهم مما حكاه تعالى عنهم في تربصهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، واستراحتهم من دعوته، ونذره بموته، كما تراه في سورة الطور وآخر سورة طه، فالعذاب واقع ما له من دافع.
وقد ورد بمعنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [ غافر : ٧٧ ] ويليها آية بمعنى الآية التي تلي هذه ذكر فيها الرسل وكون آياتهم بإذن الله لا من كسبهم، والقضاء على أقوامهم بالهلاك بعدها، ومنها قوله بعد آية في إرسال الرسل وكون آياتهم إنما هي بإذن الله ولكل أجل كتاب :﴿ وإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، وما بعدها في معنى السياق الذي هنا. وقوله :﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤١ ] وقبلها ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ومَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الزخرف : ٤٠ ] وهو بمعنى ما قبل هذه أيضا.
وقد أبهم أمر عذاب الدنيا في كل هذه الآيات وآيات أخرى، فلم يصرح بأنه سيقع بهم ما وقع بالأمم التي كذبت الرسل من قبلهم- وهو عذاب الاستئصال- لكنه أشار إليه في قوله :﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٩٣ ]، أي كما هي سنتك في رسلك الأولين، وقد أجاب الله دعاءه فقال :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ].
وحكمة هذا الإبهام التخويف من جميع أنواع الوعيد، مع علمه تعالى أن عذاب الاستئصال لن يقع على قومه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن شرطه أن يجيئهم ما اقترحوا من آية كونية ويصروا بعد التكذيب ولن يقع، ولكن في آية يونس هذه إشارة إلى أن الله تعالى سيري رسوله بعد نزولها بعض الذي يعدهم لا كله، وقد أنجز له ذلك فأراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه عليهم، ونصره عليهم أعظم النصر في أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم وصناديدهم- وهي غزوة بدر- وفي غيرها إلى فتح عاصمتهم الكبرى أم القرى، وإكمال الدين ودخول الناس فيه أفواجا، وقد تقدم بيان ذلك كله في مواضعه.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾ أي أنه تعالى جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا بعثه فيها في وقت الحاجة إليه يبين لهم أصول دينه الثلاث : الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح المناسب لحال زمنهم.
﴿ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ ﴾ وقامت الحجة عليهم ﴿ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ﴾ أي قضى الله بينه وبينهم بالعدل.
﴿ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ في قضائه تعالى، كما تقدم، وسيأتي تأكيده قريبا.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوعْدُ ﴾ أي ويقول كفار قريش للنبي ومن اتبعه من المؤمنين : متى يقع هذا الوعد الذي تعدوننا به.
﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في قولكم : إن الله تعالى سينتقم لكم منا وينصركم علينا، أي في مثل قوله :﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُو شَرٌّ مَّكَانًا وأَضْعَفُ جُندًا ﴾ وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا * وأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﴾ [ الجن : ٢٤ ٢٦ ] الخ.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
وههنا لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب بقوله :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً ﴾ أي إني بشر رسول لا أملك لنفسي فضلا عن غيرها شيئا من التصرف في الضر فأدفعه عنها، ولا النفع فأجلبه لها، من غير طريق الأسباب التي يقدر غيري عليها، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين، ولا هبة النصر للمؤمنين.
﴿ إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ﴾ أي لكن ما شاء الله من ذلك كان متى شاء، لا شأن لي فيه ؛ لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة التي وظيفتها التبليغ لا التكوين. هكذا قال جمهور المفسرين : إن الاستثناء هنا منقطع، وله أمثال تقدم بعضها، كقوله تعالى -وهو من أظهرها الصريح في هذا المقام- ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ولَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ].
والاختلاف بين الآيتين في تقديم ذكر الضر على النفع وتأخيره لاختلاف المقام، فقد قدم الضر في آية يونس لأنها جواب للمشركين عن ميعاد العذاب الذي أنذروا به، وهو من الضر، وقدم النفع في آية الأعراف لأن المقام بيان الحقيقة في نفسها، وهو أن الرسول لا يملك لنفسه شيئا من التصرف في الكون بغير الأسباب العامة فضلا عن ملكه لغيره، والمناسب في هذا تقديم النفع لأنه هو المقصود بالذات من تصرف الإنسان وسعيه لنفسه. وقيل : إن الاستثناء متصل، وحينئذ يكون المنفي المستثنى منه عالما لما يملكه الإنسان بالأسباب العادية، فيكون المعنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه بما أعطاني من الكسب الاختياري مع تيسير أسبابه لي، وأما الآيات الخارقة للعادة فهي لله وحده، ولا مما يملكه رسله.
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال بقوله :﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ لبقائها وهلاكها علِمه الله وقدره لها، لا يعلمه ولا يقدر عليه غيره.
﴿ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ أي فلا يملك رسولهم -من دونه تعالى- أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت، ولا أن يطلب ذلك منه تعالى، وهو معنى ما تدل عليه السين والتاء في الأصل، وقد حققنا معنى هذا النص في آية سورة الأعراف بلفظه فاستغرق أربع ورقات من جزء التفسير الثامن فليراجعه من شاء، إلا أنه قال هنالك ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] الخ، وقال هنا ﴿ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ﴾ الخ والفرق بينهما أن ما هنا أبلغ في نفي تأخير الوعيد ؛ لأنه تفنيد لاستعجالهم به، وذلك أنه جعل الجملة الشرطية وصفا للأجل مرتبطا به مباشرة لا يتخلف عنه، وما هنالك إخبار بآجال الأمم مبتدأ، وما بعده تفريع عليه، فهو لا يدل على لزومه له بلا مهملة كالذي هنا. وقد تكرر هذا السؤال من المشركين مع جوابه في سور أخرى، وأشبهه بما هنا سياق سورة النمل وأجيب فيها بقوله :﴿ قل عسى أن يكون رديف لكم بعض الذي تستعجلون ﴾ [ النمل : ٧٢ ] وهو من ردفه إذا لحقه وتبعه، وعدى باللام لتأكيده أو تضمينه معنى يناسبه.
وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين -حتى الميتين منهم- على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم، مما لم يجعله الله تعالى من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله، كالذين يسمونهم الأقطاب الأربعة، وأن بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر يكتب هذا حتى في مجلة الأزهر الرسمية ( نور الإسلام )، فيفتي بجواز دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم في كل ما يعجزون عنه من جلب نفع ودفع ضر، وألف بعضهم كتابا في إثبات ذلك، وكون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم، ويخرجون من قبورهم فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم. قال في فتح البيان بعد نقله القول الأول في الاستثناء عن أئمة المفسرين وترجيحه ما نصه :
وفي هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ؟ ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في الآية من موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم، وخاتم الرسل، يأمره الله بأن يقول لعباده ﴿ لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ﴾ [ يونس : ٤٩ ] فكيف يملكه لغيره ؟ وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه، فضلا عن أن يملكه لغيره ؟
" فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول ﴿ قل هو الله أحد ﴾.
" وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله و مقربين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه، ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر. ولقد توسل الشيطان -أخزاه الله- بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة ﴿ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ] إنا لله وإليه راجعون " اه.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً ﴾ أي قل لهم أيها الرسول أخبروني عن حالكم وما يمكنكم فعله إن أتاكم عذابه الذي تستعجلون به في وقت مبيتكم في الليل، أو وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم أو أمور معاشكم بالنهار، وهو لا يعدوهما ( كما تقدم في الآيات ٤، ٩٧، ٩٨ من سورة الأعراف ٧ ).
﴿ مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي شيء أو أي نوع يستعجل منه المجرمون المكذبون الآن ؟ أعذاب الدنيا أم قيام الساعة ؟ أيا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة، وقيل : إن المعنى ماذا يستعجل منه المجرمون منكم إن أتاكم ؟ أي إن جملة الاستفهام جواب للشرط فيما قبلها، وفيه بحث للنحاة الذين أوجبوا اقتران مثل هذا الجواب بالفاء، وخالفهم غيرهم لا نعرض له، وقد تقدم في سورة الأنعام ﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ﴾ [ الأنعام : ٤٧ ] ؟ وتقدم في تفسيرها وتفسير ما قبلها أن الاستفهام في ( أرأيتم ) و ( أرأيتكم ) مستعمل في اللغة بمعنى أخبروني عن حالكم وما يكون من عملكم إن أتاكم ذلك ؟
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ ﴾ قرأ الجمهور ( ثم ) بالضم، وهو حرف عطف يدل على الترتيب والتأخر والتراخي، وقرئ بالفتح، وهو اسم إشارة بمعنى هنالك. قال ابن جرير الطبري : ومعنى قوله ( أثم ) في هذا الموضع أهنالك ؟ وليس " ثم " ههنا التي تأتي بمعنى العطف اه. ولم يضبطها بفتح الثاء، فظاهر قوله أن المضمومة تأتي ظرفا أيضا، وهذا لم يرو عن أحد من العرب، بل قال ابن هشام في المغني وقد نقله عنه : وهذا وهم اشتبه عليه، ثم المضمومة الثاء بالمفتوحتها اه.
وأما على قراءة الجمهور فهذا استفهام آخر معطوف على فعل مقدر بعد الهمزة علم مما قبله من إنكار استعجال مجرميهم بالعذاب، كما يقدر مثله بعد حرف الاستفهام الداخل في مثل قوله :﴿ أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ﴾ [ الأعراف : ٦٣ ] ؟ وقوله :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ] ؟ وتقدير الكلام : أيستعجل بالعذاب مجرموكم الذين هم أحق بالخوف منه بدلا من الإيمان الذي يدفعه عنهم وعنكم، ثم إذا وقع بالفعل آمنتم به إذ لا ينفع الإيمان، لأنه صار ضروريا بالمشاهدة والعيان لا تصديقا للرسول عليه السلام، وقيل لكم حينئذ من قبل الله تعالى تقريعا وتوبيخا ﴿ ءآلآنَ ﴾ آمنتم به اضطرارا ﴿ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ تكذيبا به واستكبارا ؟ وقرأ نافع ( آلان ) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، والجملة حالية. والاستعجال يتضمن المالغة في التكذيب المقابل للإيمان، وسيأتي في هذه السورة إيمان فرعون عند إدراك الغرق إياه وأنه يقال له :﴿ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾ [ يونس : ٩١ ].
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ قيل : هذه معطوفة على قيل المقدرة قبل ( آلآن وقد كنتم به تستعجلون ). أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد، وما يترتب عليه من الفساد والضلال البعيد ﴿ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ ﴾ الخلد كالخلود مصدر خلد الشيء إذا بقي على حالة واحدة لا يتغير، وخلد الشخص في المكان إذا طال مكثه فيه، لا يرحل ولا هو بصدد التحول عنه. وظاهر إضافة العذاب إلى الخلد أن المراد به البقاء على حالة واحدة مؤلمة، ويحتمل إرادة العذاب الخالد الدائم، وهو الموافق للآيات الكثيرة المطلقة في الأكثر والمقيدة بمشيئة الله تعالى في سورة الأنعام [ الآية : ١٢٨ ]، وقد تقدم تفسيرها، وفي سورة هود سيأتي.
﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبونه باختياركم من الكفر والظلم والفساد في الأرض، والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه، وليس فيه شيء من الظلم، لأنه أثر لازم لتدسية النفس وإفسادها بالظلم، حتى لم تعد أهلا لجوار الرب عز وجل وليس عذابا أنفا من خارجها، وتقدم بيانه في تفسير قوله تعالى :﴿ سيجزيهم وصفهم ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ].
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو ﴾ النبأ الخبر المهم ذو الفائدة العظيمة، والاستنباء طلبه، وهذا إخبار عن بعض الكفار والمكذبين، فإنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم، وإنما كانوا ظانين مستبعدين، بين معاندين ومقلدين، وقد تقدم في هذا السياق قوله تعالى :﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ﴾ [ يونس : ٣٦ ]، والمعنى : ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة أحق هو سيقع بالفعل ؟ أم هو إرهاب وتخويف ؟
﴿ قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ أي بكسر الهمزة وسكون الياء الخفيفة حرف جواب وتصديق بمعنى نعم، وإنما يستعمل مع القسم، أي نعم أقسم لكم بربي إنه لحق واقع، كما قال في أول سورة الطور بعد القسم :﴿ إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ﴾ [ الطور : ٧، ٨ ]، وقد أكده هنا بالقسم وبأن مع الجملة الاسمية.
﴿ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ لله تعالى عن إنزاله بكم، ولا بفائتيه هربا منه، وقد علم مؤمنوا الجن ما جهلتم إذ قالوا كما حكى الله عنهم :﴿ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجز هربا ﴾ [ الجن : ١٢ ].
وقد استشكل بعض المفسرين السؤال باستبعاد أن يكون الاستفهام حقيقيا من المكذبين، والجواب بزعمهم أن تأكيده بالقسم وغيره من المؤكدات اللفظية لا يقنع السائلين، ومن عرف أخلاق العرب في زمن البعثة لم يستشكل السؤال، إلا أن يكون السائلون من المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ يكون الاستفهام للتهكم والاستهزاء، أو كما قيل : إنما سألوا أهو جد أو هزل، فأرادوا من الحق لازمه وهو الجد لا مقابل الباطل، والمعروف من أخلاق العرب في ذلك العهد أنه كان يقل فيهم الكذب لعزة أنفسهم، وعدم خضوعهم لرياسة استبدادية تضطرهم إليه، وكانوا يهابون الأيمان الباطلة ويخافونها، ومن المنقول عنهم أن الأيمان الفاجرة تدع الديار بلاقع، وناهيك بما اشتهر به النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره من الصدق والأمانة حتى لقبوه بالأمين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعضهم كان يسأله عن نبوته عن الشرائع ويستحلفه فإذا حلف اطمأن لصدقه واتبعه، وإن صدق عرب الجاهلية ليقِلّ مثله في رجال الدين وغيرهم من أهل هذا العصر حتى المسلمين منهم.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة -واللفظ للبخاري- عن أنس قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال : أيكم محمد ؟ قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال : ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" قد أجبتك ". فقال : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك، قال :" سل عما بدا لك ". فقال : أسألك بربك ورب من قبلك : آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ قال :" اللهم نعم ". قال : أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ قال :" اللهم نعم ". قال : أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال :" اللهم نعم ". قال : أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ قال :" اللهم نعم ". قال : آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. ١
ولفظ مسلم عنه : قال أنس : نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال :" صدق ". قال : فمن خلق السماء ؟ قال " الله ". قال : فمن خلق الأرض ؟ قال :" الله " ز قال فمن نصب هذه الجبال فجعل فيها ما جعل ؟ قال :" الله ". قال : فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك ؟ قال :" نعم ". ( ثم سأله بالذي أرسله عن كل من الصلوات والزكاة وصيام رمضان والحج فأجاب بنعم )، ثم ولى وقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لئن صدق ليدخلن الجنة ". ٢
وزاد الإمام أحمد أنه قال له أيضا : آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤها يعبدون معه ؟ قال :" اللهم نعم "، وأنه كان أشعر ذا غديرتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة " ٣، وذكر أنه خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى، قالوا : مه يا ضمام، اتق البرص والجذام، اتق الجنون. قال : ويلكم إنهما والله ما يضران ولا ينفعان، إن الله تعالى قد بعث إليكم رسولا، وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
وأقول : إن فائدة السؤال عمن خلق السماوات والأرض والجبال وما فيها ثم ذكره في القسم أن استحضار ذلك فيه يكون أحرى أن يلتزم في الجواب الصدق وتعظيم القسم والخوف من عاقبة الحنث، وقد خفي هذا كله على المفسرين ؛ لأنهم اعتادوا إثبات العقائد الدينية بالأدلة النظرية الجدلية التي وضعت للجاحدين المجادلين بالباطل، وجهل هذه الحقائق أعداء الإسلام من الإفرنج، ولاسيما السياسيين رجال الكنيسة الكاثوليكية ودعاة التنصير البروتستنتي المطبوعين على الكذب، والكسب به، والأخذ بقول رؤسائهم :" إن الغاية تبرر الواسطة "، يعنون أن اقتراف الكذب وسائر الرذائل لأجل مصلحة الكنيسة فضلية، جهل هؤلاء أن عباد الأصنام في الجاهلية كانوا أشد منهم احتراما للصدق فضلا عن الإسلام وكتابه ونبيه- فأباحوا لأنفسهم من افتراء الكذب على الله، وكتابه وخاتم رسله، ما لم يخطر مثله في بال الشيطان قبلهم فيوسوس به لغيره.
لقد كذبوا على الإسلام كذبا*** تزول الشم منه مزلزلات
أما المسلمون فإن الله يقول في كتابه { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ { [ النحل : ١٥ ] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في هديه :" يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب " رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو رضي الله عنهما.
١ أخرجه البخاري في العلم باب ٦، وأبو داود في الصلاة باب ٢٣، والنسائي في الصيام باب ١، وابن ماجه في الإقامة باب ١٩٤، والدارمي في الوضوء باب ١، وأحمد في المسند ١/٢٥٠، ٢٦٤، ٢٦٥، ٣/١٦٨..
٢ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٠..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٣/ ١٤٣، ١٩٢..
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ﴾ أي لو أن لكل نفس تلبست بهذا الظلم جميع ما في الأرض من أنواع الملك والزينة وصنوف النعيم، وأمكنها أن تفتدي به -أي تجعله فداء لها- من ذلك العذاب -الذي قيل لهم ذوقوه ينقذها منه بذلها له- لافتدت به كله لا تدخر منه شيئا.
﴿ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ ﴾ إسرار الشيء إخفاؤه وكتمانه، وإسرار الحديث والكلام خفض الصوت به، فهو ضد إعلانه والجهر به ومنه ﴿ وأسروا قولكم أو اجهروا به ﴾ [ الملك : ١٣ ] ﴿ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ﴾ [ الأنبياء : ١١٠ ]، واستعمل بمعنى الجهر مطلقا فهو ضد، وأنكره بعضهم، والندم والندامة ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره، وقد يجهر به بالكلام كقوله :" يا حسرتا على ما فرطت "، أو بالتوبة والاستغفار، وقد يخفيه ويكتمه لعدم الفائدة من إعلانه، أو اتقاء للشماتة، أو الإهانة به، أي وأسر أولئك الذين ظلموا ندامتهم وحسرتهم فيما بينهم وبين ربهم، أو كتموها في قلوبهم.
﴿ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾ أي رأوا مباديه عيانا بأبصارهم لما برزت الجحيم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها، وقد يعبر برؤيته عن وقوعه، والظاهر الأول لقوله :﴿ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ﴾ أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالعدل والحق، فإذا أريد بالظلم الكفر والتكذيب ولا يلزمه من الإيذاء فخصومهم الرسل والمؤمنون بهم، وكذا من أضلوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر، ويصدونهم عن الإيمان، وهو ظاهر السياق هنا، وفي سورة سبأ بعد حكاية مجادلة الظالمين والمظلومين يوم القيامة ﴿ وأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٣ ]، وإن أريد بالظلم ما يعم ظلمهم للناس في الأحكام وهضم الحقوق كان كل مظلوم خصما لظالمه.
﴿ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا يظلمهم الله كما ظلموا أنفسهم وظلموا أتباعهم ومقلديهم، بل هم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم. والآيات في ندم الظالمين يوم القيامة معروفة كقوله تعالى في آخر سورة النبأ :﴿ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ﴾ [ النبأ : ٧٨ ] وقوله :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ٢٨ ] وغير ذلك.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
ثم قفى على ذلك بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده، وكون هؤلاء الظالمين لا يعجزونه، ولا يستطيعون الافتداء من عذابه، فقال :﴿ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ﴾ قلنا مرارا إن السماوات والأرض عبارة عن جميع العالم، وهو تعالى مالك السماوات والأرض وملكهما، وله كل من فيهما من العقلاء، وما فيهما من غير العقلاء، وقد نطقت الآيات بهذا كله، ولكل مقام مقال، فهاهنا غلب غير العقلاء بمناسبة ما في الآية السابقة من الإشارة إلى غرور الكافرين والظالمين بما كانوا يمتعون به، وتعذر الافتداء بشيء منه، وسيأتي تغليب العقلاء في الآية ٦٦ من هذه السورة لاقتضاء المناسبة له. وصدر الجملة بحرف التنبيه " ألا " الذي يفتتح به الكلام لتنبيه الغافلين عن هذه الحقيقة، وإن كانوا يعرفونها لكثرة ذهول الناس عن تذكر أمثالها، والمعنى ليتذكر الناسي، وليتنبه الغافل، وليعلم الجاهل، أن لله وحده ما في العوالم العلوية. عالم الأرض يتصرف فيها حيث يشاء، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء، في يوم البعث والجزاء.
﴿ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ﴾ أعاد فيه حرف التنبيه تأكيدا وتذكيرا لتمييزه بهذا التنبيه عما سبقه ؛ لأنه المقصود هنا بذاته، وإنما ذكر قبله للاستدلال عليه، أي كل ما وعد به على لسان رسله حق واقع لا ريب فيه، لأنه وعد المالك القادر على إنجاز ما وعد، لا يعجزه منه شيء.
﴿ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يعني بأكثرهم منكري البعث والجزاء، أي لا يعلمون أمر الآخرة من طريق النظر والاستدلال، ولا من طريق الإيمان بما جاء به الرسل عليهم السلام.
﴿ وإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ ويَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ٥٢ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾
هذه الآيات تتمة الرد على المشركين في تكذيب ما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله من العقاب الذي سبق في الآية ٣٩ وما بعدها.
﴿ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ ﴾ بقدرته كما يدل عليه النظر والاستدلال، وقد بسطناه في تفسير الآيتين ٣١ و٣٤.
﴿ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ عندما يحييكم بعد موتكم ويحشركم ليحاسبكم، ويجزيكم بأعمالكم، فهذه الآية بيان مستأنف لما قبله بالإيجاز، وجملة هذه الآيات خاتمة هذا السياق.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ٥٧ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُو خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨ ﴾
هاتان الآيتان في موضوع تشريع القرآن العلمي التهذيبي جاء بعد بيان عقائده الثلاث ( التوحيد والرسالة والبعث ) وتأييدها بالاستدلال على كونه من الله تعالى، وعلى صدق وعده ووعيده، والرد على مكذبيه، وقد أجمل في الآية الأولى جميع مقاصد هذا التشريع وإصلاحه للناس بما يظهر به للعاقل أنه حق وخير وصلاح بذاته لا يصح لعاقل أن يماري فيه، ولا أن يحتاج للاستدلال عليه.
فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من موعظة حسنة لإصلاح أخلاقهم وأعمالهم الظاهرة، وحكمة بالغة لإصلاح خفايا أنفسكم وشفاء أمراضها الباطنة، وهداية واضحة للصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ورحمة خاصة للمؤمنين، هي شجنة من رحمة رب العالمين العامة للخلق أجمعين، يتراحمون بها فيما بينهم، فتكمل بها رحمته تعالى لهم، ورحمته للعالمين برسوله إليهم وبهم، وقد عرف هذا من تاريخهم أشهر فلاسفة التاريخ من الإفرنج فقال :" ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب " ١. فكأن الله تعالى يقول للناس- بعد بيان هذه المقاصد الأربعة للقرآن- : فما بالكم أيها الناس تكذبون بما لم تحيطوا به علما من أخبار هذا الكتاب، التي هي من علم الغيب عن المآل والمآب، ولا تفكرون في آدابه ومواعظه، وأحكامه وحكمه، وهداية نواميسه وسننه، وما فيها من المنافع والمصالح، التي لا يماري فيها عالم ولا يكابر فيها عاقل ؟ حتى إن أشد أعداء الرسول إيذاء له وصدا عن دعوته في أول ظهورها لم يستطيعوا الطعن على ما دعا إليه من الفضائل والخير والبر، وما نهى عنه من الرذائل والشرور والفجور، كأبي سفيان عندما سأله هرقل قيصر الروم، وعمرو بن العاص عند ما سأله أصحمة نجاشي الحبشة، فإن كان ذلك قد خفي على بعض الجاحدين والمقلدين لهم من المشركين قبل تعميم نشر القرآن فيهم، وقبل ظهور ما كان له من التأثير العظيم بعد انتشار الإسلام في العرب، ومن الإصلاح الديني والمدني في شعوب العجم، أفليس من العجب العجاب أن يماري به أحد بعد ذلك ويصدق ما يفتريه عليه دعاة الكنيسة ورجال السياسة من الإفرنج وتلاميذهم وهم أكذب البشر ؟
أجملت الآية الحكيمة هذا الإصلاح القرآني لأنفس البشر في أربع قضايا أو مسائل نكرن في اللفظ لتعظيم أمرهن، أو لبيان أنهن نوع خاص لم يعهد الناس مثلهن، في كمالهن المعنوي وبيانهن اللفظي، وقوله ﴿ من ربكم ﴾ للتذكير بما يزيدها تعظيما، ووجوب الاتعاظ بها إيمانا وتسليما، لأنها من مالك أمر الناس ومربيهم بفضله ورحمته، وعلمه وحكمته :
الأولى : الموعظة الحسنة : وهي اسم من الوعظ، أي الوصية بالحق والخير، واجتناب الباطل والشر، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرق لها القلب، فتبعث على الفعل والترك، وقد تقدم في حقوق النساء من سورة البقرة ﴿ واذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ومَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ والْحِكْمَة يَعِظُكُم بِهِ ﴾ [ البقرة : ١٣١ ] وفي التي بعدها ﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وأَطْهَرُ واللّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٢ ] وتقدم في سورة آل عمران بعد النهي عن أكل الربا والأمر بطاعة الله ورسوله والترغيب في الإنفاق في السرّاء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس، وما أعده الله على ذلك من الجزاء ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٦ ]، ويليه الكلام في الجهاد وغزوة أحد، وفي سورة النساء ﴿ إن اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ﴾ [ النساء : ٥٨ ]، وتقدم غير ذلك من أمثلة الوعظ- وسيأتي غيره مما يفسر مراده تعالى من موعظته الربانية- فهل يمكن أن يتمارى عاقلان في حسنها ومنفعتها للعباد في أعمالهم وأحكامهم ؟ كلا، إنها مما يتوقف عليه صلاح العباد في كل زمان ومكان.
الثانية : شفاء ما في الصدور : أي شفاء جميع ما في القلوب من أدواء الشرك والكفر والنفاق، وسائر الأمراض النفسية التي يشعر صاحبها ذو الضمير الحي بضيق الصدر، من شك في الإيمان، ومخالفة للوجدان، وإضمار للحقد والحسد والبغي والعدوان، وحب للباطل والشر، وبغض للحق والعدل والخير.
قال الراغب : قال بعض الحكماء : حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم نحو ﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ [ ق : ٣٧ ]، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والهوى والغضب ونحوها، وقوله :﴿ رب اشرح لي صدري ﴾ [ طه : ٢٥ ] فسؤال لإصلاح قواه، وكذلك قوله :﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ [ التوبة : ١٤ ] إشارة إلى اشتفائهم. وقوله :﴿ فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ] أي العقول التي هي مندسة فيما سائر القوى وليست مهتدية. والله أعلم بذلك اه.
والتحقيق أن الصدر يطلق مجازا على القلب الحسي الذي فيه، وعلاقته ظاهرة، وعلى القلب المعنوي الذي هو للنفس كالقلب الحسي للبدن لأنه لبها، ومركز شعور مداركها وانفعالاتها، دون الدماغ، فإن النفس لا تشعر بما ينطبع فيه من المدركات من انشراح وبسط، ولا حرج وضيق وقبض، فجميع الإدراكات العلمية والوجدانية توصف بها القلوب حقيقة والصدور مجازا، وتكون فاعلة ومفعولة وصفات للأفعال العاملة فيهما.
وأما العقل في اللغة فهو الحكم الصحيح في بعض الإدراكات ولوازمها من حسن وقبح وصلاح وفساد، ونفع وضر، ومركزه الدماغ قطعا، فأمراض الصدور والقلوب تشمل الجهل وسوء الظن، والشك في الإيمان، والنفاق، والحقد والضغن والحسد، وسوء النية وخبث الطوية، وفساد السريرة، وغير ذلك مما تقدم آنفا، والشواهد على هذا في القرآن كثيرة.
وذهب بعضهم إلى أن الشفاء في الآية يشمل شفاء الأمراض البدنية، واستدلوا بما أخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أشتكي صدري فقال :" اقرأ القرآن. يقول الله :﴿ وشفاء لما في الصدور ﴾، وفيه أن ضيق الصدر في الغالب ألم نفسي لا بدني، قد يكون سببه دينيا وقد يكون دنيويا كالخوف والحاجة، وقراءة المؤمن للقرآن تنفع في كل منهما، ومن الأول قوله :﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ] وقوله في آخر سورة الحجر ﴿ ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [ الحجر : ٩٧ ]، والتسبيح بحمد الله والسجود له وعبادته بالصلاة وتلاوة القرآن أعظم أسباب انشراح الصدر، كما قال :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
واستدلوا أيضا بما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه قال :" عليك بقراءة القرآن والعسل، فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء "، وهو على ضعفه لا يدل على ما قيل ؛ إذ معناه اقرأ القرآن تعلم منه ما يفيدك، إذ فيه أن القرآن شفاء لأمراض الصدور، والعسل شفاء لأمراض البدن، فهو كوصفه صلى الله عليه وسلم العسل لمن شكا له استطلاق بطن ابن أخيه في الحديث الصحيح. وقد ثبت في الطب الحديث أن العسل مطهر طبي ومضاد للفساد، واستطلاق البطن يكون من فساد في الأمعاء، وكذا وجع الحلق بالتهاب اللوزتين ونحوه، والعسل مطهر لكل شفاء منهما، وقد روى أبو الشيخ عن الحسن البصري أنه قال : إن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور، ولم يجعله شفاء لأمراضكم. وقال بعض المفسرين : إن تنكير الشفاء في آية العسل يدل على الخصوص لا العموم. على أن الرقية بالفاتحة وغيرها قد تفيد في شفاء بعض الأمراض، ولاسيما إذا كان الراقي قوي الإيمان، والمرقي حسن الاعتقاد، وليس هذا مما تدل عليه الآية.
الثالثة : الهدى : وهو بيان الحق المنقذ من الضلال في الاعتقاد بالبرهان، وفي العمل ببيان الحكم والمصالح في أحكام الأعمال، وهو ما فصلناه تفصيلا في هذا التفسير، وبينا أنواعه في مقاصد القرآن من مباحث الوحي في أول تفسير هذه السورة بأنواعها الدينية والعقلية والاجتماعية، وتقدم الكلام على معناه اللغوي وأنواعه في تفسير الفاتحة وأول سورة البقرة.
الرابعة : الرحمة للمؤمنين : وهي ما تثمره لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم من رحمة ربهم الخاصة، وهي صفة كمال من آثارها إغاثة الملهوف، وبذل المعروف، وكف الظلم، ومنع التعدي والبغي، وغير ذلك من أعمال الخير والبر، ومقاومة الشر، وقد وصف الله المؤمنين بقوله :﴿ رحماء بينهم ﴾ [ الفتح ؛ ٢٩ ] وبقوله :﴿ وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ﴾ [ البلد : ١٧ ].
وهذه الصفات الأربع مرتبة على سنة الفطرة البشرية، فالموعظة التعاليم التي تشعر النفس بنقصها وخطر أمراضها الاعتقادية والخلقية، وتزعجها إلى مداولتها وطلب الشفاء منها، والشفاء تخلية يتبعها طلب التحلية بالصحة الكاملة، والعافية التامة، وهو الهدى، ومن ثمراته هذه الرحمة التي لا توجد على كمالها إلا في المؤمنين المهتدين، ولا يحرمها إلا الكافرون الماديون، حتى قال بعضهم : إنها ضعف في القلب، يجعل صاحبه كالمضطر إلى الإحسان والعطف، وما هذا القول إلا من فساد الفطرة، وقسوة القلب، وفلسفة الكفر، فلقد كان أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا أرحم الناس وأشدهم عطفا، وهو سيد ولد آدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين، الذي وصفه ربه بما وصف به نفسه من قوله :﴿ بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] ؛ بل جعله عين الرحمة في قوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ]، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنه حتى كان من يوصف بالشدة والقسوة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه صار من أرحم الناس، وسيرته في ذلك معروفة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم :" لا تنزع الرحمة إلا من شقي " ٢. رواه أبو داود والترمذي واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع -وهو في الصلاة- بكاء طفل تجوز في صلاته، أي اختصر وخفف رحمة به وبأمه، وروى ابن إسحاق أن بلالا رضي الله عنه مرّ بصفية وبابنة عم لها على قتلى قومهما اليهود بعد انتهاء غزوة قريظة، فصكت ابنة عمها وجهها وحثت عليه التراب وهي تصيح وتبكي، فقال صلى الله عليه وسلم له :" أنزعت الرحمة من قلبك حتى مررت بالمرأتين على قتلاهما "، وجاء أعرابي إليه صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تقبلون أولادكم وما نقبلهم، فقال :" أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك " ٣. رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنه.
بل كان صلى الله عليه وسلم شديد الرحمة بالبهائم والطير والحشرات، وطالما أوصى بها، ولاسيما صغارها وأمهاتها، جاءه مرة رجل وعليه كساء، وفي يده شيء قد التف عليه، فقال : يا رسول الله إنني لما رأيتك أقبلت، فمررت بغيطة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذ
١ هو الحكيم الاجتماعي المؤرخ الدكتور غوستاف لوبون الفرنسي (المؤلف)..
٢ أخرجه الترمذي في البر باب ١٦، وأحمد في المسند ٢/٣٠١، ٤٤٢، ٤٦١، ٥٩٣..
٣ أخرجه البخاري في الأدب باب ١٨، ومسلم في الفضائل حديث ٦٤..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ٥٧ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُو خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨ ﴾
هاتان الآيتان في موضوع تشريع القرآن العلمي التهذيبي جاء بعد بيان عقائده الثلاث ( التوحيد والرسالة والبعث ) وتأييدها بالاستدلال على كونه من الله تعالى، وعلى صدق وعده ووعيده، والرد على مكذبيه، وقد أجمل في الآية الأولى جميع مقاصد هذا التشريع وإصلاحه للناس بما يظهر به للعاقل أنه حق وخير وصلاح بذاته لا يصح لعاقل أن يماري فيه، ولا أن يحتاج للاستدلال عليه.
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ فضل الله على جميع عباده عظيم وهو على المؤمنين منهم أعظم، ورحمته العامة لهم وبهم واسعة، ورحمته الخاصة بالمؤمنين أوسع، وبكل من النوعين نطق القرآن، وقد من تعالى عليهم بالجمع لهم بين الفضل والرحمة في آيات، وبكل منهما في آيات، وقال بعد الجمع بينهما في آيتين من سورة النور :﴿ ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [ النور : ٢١ ]، وإن دخول الباء على كل من الفضل والرحمة هنا يدل على استقلال كل منهما بالفرح به، فهو يرد ما روي عن مجاهد من أن المراد بهما واحد وهو القرآن، ويرده أيضا ما روي عن المأثور في تفسير كل منهما بمعنى، ومنه ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه من حديث أنس مرفوعا :" فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله "، وروي عن البراء وأبي سعيد الخدري موقوفا.
وعن ابن عباس روايتان : إحداهما : أن فضل الله القرآن ورحمته الإسلام. والثانية : أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد في الرواية الثانية عنه، فضل الله الإيمان ورحمته القرآن.
وكل هذه المعاني صحيحة في نفسها لا في روايتها، وأظهرها في الآية' وهو المناسب لما قبلها، والجامع لمعاني الروايات كلها- أن فضل الله توفيقه إياهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والشفاء والهدى التي امتاز بها القرآن، ورحمته ثمرتها التي فضلوا بها جميع الناس، فكانوا أرحمهم، بعد أن كانوا أعدلهم وأبرهم بهم، فقد أمرهم هذا القرآن بالبر والعدل وإقامة القسط في المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وأمرهم بالرحمة حتى في المحاربين لهم بقدر ما يدفع شرهم، كما فصلناه في المقصد الثامن من مقاصد القرآن في مباحث الوحي، ولولا مراعاة هذا التناسب لقلت : إن المراد بفضله تعالى على هذه الأمة هو قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وقوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] ولكن ما قلته يدخل في معناه ويوافقه، ولكل مقام مقال.
والفرح – كالسرور- انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ القلب ويشرح الصدر، وضدهما الأسى والحزن، وهما من الوجدان الطبيعي، لا يمدحان ولا يذمان لذاتهما، بل حكمهما حكم سببهما أو أثرهما في النفس والعمل، خلافا لبعض الناس من الصوفية وغيرهم فيهما، فقد أمر الله تعالى هنا بالفرح بفضله ورحمته، ومدح المؤمنين بالفرح في قوله :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ﴾ [ الروم : ٤ ]، وهذا فرح بأمر ديني دنيوي، ثم قال فيها ﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها ﴾ [ الروم : ٣٦ ]، وقال في أهل الكتاب الذين يؤمنون به صلى الله عليه وسلم ويهتدون بالقرآن ﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ﴾ [ الرعد : ٣٦ ].
وذم سبحانه الفرح بالباطل وفرح البطر والغرور بالمال ومتاع الدنيا وشهواتها في عدة آيات معروفة، وجعل الاعتدال بين الفرح والأسى والحزن من صفات المؤمنين، فقال بعد ذكر تربيتهم بالمصائب المقدرة في كتاب الله ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [ الحديد : ٢٣ ]، وتقدم تحقيق الكلام في الحزن في تفسير سورة براءة ( ج ١٠ تفسير ).
والتعبير في الآية في غاية البلاغة لما فيها من التأكيد والمبالغة في التقرير، فإن أصل المعنى بدونهما : قل ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، فأخر الأمر وقدم عليه متعلقه لإفادة الاختصاص، كأنه : قال إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته، وأدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية، فصار فيهما فليفرحوا دون ما يجمعون من متاع الدنيا المبين في آخر الآية، ثم أدخل على الأمر ( فبذلك ) لزيادة التأكيد والتقرير، وتفصيل مباحثه في الإعراب أكثر مما قلنا، وبسطه يشغل عن المعنى والاعتبار به، وهو خروج عن منهجنا في هذا التفسير.
ثم قال :﴿ هُو خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ أي أن الفرح بفضله وبرحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعونه من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وسائر متاع الحياة الدنيا، مع فقدهما، ولأنه سبب سعادة الآخرة الباقية، المفضلة على الحياة الدنيا الفانية، كما اشتهر فيما خطته الأقلام ولاكته الألسنة، بل لأنه هو الذي يجمع بين سعادة الدارين كما حصل بالفعل، إذ كانت هداية الإسلام بفضل الله وبرحمته سببا لما ناله المسلمون في العصور الأولى من الملك الواسع، والمال الكثير، مع الصلاح والإصلاح، والعدل والإحسان، والعلم والعرفان، والعز الكبير، فلما صار جمع المال ومتاع الدنيا وفرح البطر به هو المقصود لهم بالذات، وتركوا هداية الدين في إنفاقه والشكر عليه، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أعدائهم كما شرحناه مرارا.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩ ومَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ٦٠ ﴾
هاتان الآيتان في إقامة الحجة على منكري الوحي من المشركين بفعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فيه، تعزيزا لما تقدم من أنواع الحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه، وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، وقاعدة كون الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الخلق الإباحة، وقاعدة كون انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء عليه وكفرا به، يستحق فاعلوه أشد عقابه، وهو يتضمن الشهادة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في كونه مبلغا لهذا القرآن عنه تعالى، مؤكدا لما تقدم من الحجج على صدقه، وعلى كون القرآن كلام الله المعجز لجميع خلقه.
قال عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم ﴾ أي أخبروني أيها الجاحدون للوحي والتشريع الإلهي ﴿ مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ أي هذا الذي أفاضه الله عليكم من سماء فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان، وكل عطاء منه تعالى يعبر عنه بالإنزال كقوله :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ﴾ [ الزمر : ٦ ] وقوله :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ [ الحديد : ٢٥ ].
﴿ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وحَلاَلاً ﴾ أي فترتب على إنزاله لمنفعتكم أن جعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا. وقد تقدم تفصيل هذا في سورة الأنعام من قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذَا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] إلى قوله ﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا ﴾ [ الأنعام : ١٥٠ ]، وفي معناها قوله من سورة المائدة ﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ ولاَ وصِيلَةٍ ولاَ حَامٍ ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ] أي يفترون عليه بتحريم ما لم يحرمه، وقال هنا وهو المراد من الاستخبار :
﴿ قُلْ آاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ﴾ هذا الاستفهام للتقرير، ومدت همزته لدخولها على ألف اسم الجلالة. أي إنه ليس لأحد حق أن يحرم على الناس ويحل لهم إلا ربهم الله، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي أنزله إليكم ؟
﴿ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ بزعمكم أنه حرمها عليكم ؟ أي لا مندوحة لكم عن الإقرار بأحد الأمرين : إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحليل والتحريم، وهو اعتراف بالوحي، وأنتم تنكرونه وتلحون وتلجون في الإنكار، وتزعمون أنه محال عليه تعالى أن يوحي إلى أحد من الناس، وإما الافتراء على الله ؟ وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول ؛ إذ لا واسطة بينهما. ويحتمل أن يكون الاستفهام للإنكار وأم متصلة، فيكون المعنى إن الله لم يأذن لكم ؛ بل أنتم تفترون على الله تعالى، والغاية واحدة، وأصل الفري قطع الجلد لمصلحة، والافتراء تكلفة، وغلب في تعمد الكذب.
قال الكرخي في هذا الاستفهام : وكفى به زاجرا لمن أفتى بغير إتقان، كبعض فقهاء هذا الزمان.
وقال العماد ابن كثير في تفسيره : وقد أنكر الله على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها اه.
ونحن نقول : وكفى به زاجرا لمن يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله تعالى بنص كتابه، كالتحريم بالرأي والقياس، أو بدليل ظني من الكتاب والحديث غير قطعي الرواية والدلالة، وهو مخالف لهذه الآية وأمثالها، والمروي عن السلف أن التحريم لا يكون إلا بنص قطعي، وهو أصل مذهب الحنفية، والكرخي منهم، وقد تقدم بيان هذا مرارا في هذا التفسير، ومنه قول القاضي أبي يوسف : لم يكونوا يقولون في شيء : إنه حرام إلا ما كان بينا في كتاب الله بلا تفسير.
وفي هذه الآية قواعد أشرنا إلى ثلاث منها :
القاعدة الأولى : إن الأصل في كل ما خلقه الله تعالى للناس من الأرزاق نباتها وحيوانها الإباحة، وهو يتضمن بطلان قول من يحرمون أكل اللحوم، ولهم على هذا شبهتان :
أولاهما قديمة، وهي زعمهم أن أكل لحم الحيوان يتوقف على تذكيته بالذبح وغيره وهو تعذيب مستقبح عقلا، وجوابه أن هذا القول جهل، فإن التذكية الشرعية ليست تعذيبا، وربما كانت أهون من موته بسبب آخر من أسباب الموت، كافتراس سبع، أو ترد من مكان عال، أو اختناق بين شجرتين مثلا، أو نطاح، أو وقذ راع قاس، أو معتد آخر، وقد حرم الله في آية المائدة ( ٥ : ٣ ) أكل ما مات بسبب من هذه الأسباب، كالذي يموت حتف أنفه. ونهى الشرع عن تعذيب أي ذي روح، وحث على رحمته، كما تقدم قريبا في تفسير الرحمة، وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم :" إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته " ١. رواه مسلم من حديث شداد بن ثابت رضي الله عنه، والذبح بهذه الصفة لا يؤلم الحيوان إلا لحظة قصيرة، والحيوانات لا تشعر بالألم بقدر ما يشعر به البشر، كما قرره بعض علماء هذا الشأن.
الشبهة الثانية : حادثة، وهي ما يزعمه النباتيون الذين يفضلون الأغذية النباتية على الحيوانية من كون أكل اللحوم ضارا للناس، وجوابنا عنها أنهم إن عزموا أن أكل اللحم يضر كل آكل منهم مطلقا فهذا زعم تبطله التجارب وينكره أكثر أطباء العالم، وإن قالوا : إنه يضر بعضهم كأصحاب أمراض الترف وضعاف المعدة ( كالرئية والنقرس ) فهذا لا يقتضي تحريمه عليهم كلهم بالإطلاق، وحكم الشرع في المضار الحظر ومنه عام وخاص.
القاعدة الثانية والثالثة : إن تشريع التحريم الديني هو حق الله تعالى وحده، وإن جعله لغيره شرك به، وقد بسطنا هذا في مواضع من هذا التفسير بدلالة الآيات والسنة والآثار.
القاعدة الرابعة : إن ما خلقه الله وسخره لنا من سائر منافع الكون فالأصل فيه الإباحة كالرزق، ويؤخذ من هذه الآية بالفحوى، وبناء المنة فيه على كونه منه تعالى، وهو صريح قوله :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾ [ البقرة : ٢٩ ].
١ أخرجه مسلم في الصيد حديث ٥٧، وأبو داود في الأضاحي باب ١١، والترمذي في الديات باب ١٤، والنسائي في الضحايا باب ٢٢، ٢٦، ٢٧، وابن ماجه في الذبائح باب ٣، وأحمد في المسند ٤/١٢٣، ١٢٤، ١٢٥..
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩ ومَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ٦٠ ﴾
هاتان الآيتان في إقامة الحجة على منكري الوحي من المشركين بفعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فيه، تعزيزا لما تقدم من أنواع الحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه، وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، وقاعدة كون الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الخلق الإباحة، وقاعدة كون انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء عليه وكفرا به، يستحق فاعلوه أشد عقابه، وهو يتضمن الشهادة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في كونه مبلغا لهذا القرآن عنه تعالى، مؤكدا لما تقدم من الحجج على صدقه، وعلى كون القرآن كلام الله المعجز لجميع خلقه.
﴿ ومَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ سجل عليهم جريمة افتراء الكذب على الله، وهو اختلاقه، وقفى عليه الوعيد عليه مشيرا إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة. والمعنى أي شيء ظنهم في ذلك اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت ؟ أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله وهو تعمده في حق خاص بربوبيته، فهو نزاع له فيها وشرك به، كما قال :﴿ أم لهم شراء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ [ الشورى : ٢١ ] الآية، فويل للمعمين من جهلاء المقلدين، الذين يحرمون على الناس ويحلون لهم بتقليد بعض المؤلفين، أو باتباع الهوى والرأي في الدين، وهم يتلون قوله :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ﴾ إلى قوله :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ [ النحل : ١١٦ ].
﴿ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ هذه الآية بيان مستأنف يتضمن بمفهومه تعليلا لما فهم مما قبلها من عقاب المفترين على الله بكونه عدلا استحقوه بظلمهم لأنفسهم لا ظلما منه، وهو إثبات فضله على الناس بهذه الجملة المؤكدة أشد التوكيد، فأفاد أن صاحب هذا الفضل العظيم عليهم-لمجرد إحسانه إليهم- ليس من شأنه أن يكون ظالما لهم إذا قابلوا أكثر فضله ونعمه بأشد الكفر وأنكره، وهذا المعنى المفهوم من الآيتين من أغرب إيجاز القرآن المعجز للبشر. والمعنى : تالله إن الله لذو فضل عظيم على الناس في كل ما خلقه لهم من الرزق، وكل ما شرعه لهم من الدين، ومنه أنه جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة، وجعل حق التحريم والتحليل له وحده عز وجل، لكيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، كما تقدم في تفسير سورة التوبة براءة وهو لم يحرم عليهم إلا ما هو ضار بهم، ولهذا أباح لهم ما حرمه عليهم إذا اضطروا إليه، وكان تركه أضر من تناوله، وحصر أصول محرمات الطعام في قوله :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ]، وفصل أنواع الميتة المحرمة في أول سورة المائدة ( ٣ : ٥ ) فراجع تفسير الآيتين.
﴿ ولَكِنَّ أَكْثَرَ الناسْ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ فضله عليهم كما يجب، كما قال :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ] فيجنون على أنفسهم بتحريم ما لم يحرمه عليهم، وبغير ذلك من كفر نعمه المادية والمعنوية، كالغلو في الزهد، وترك الزينة والطيبات من الرزق، وفي ضد ذلك من الإسراف في الأكل والشرب، وزينة اللباس ابتغاء الشهرة والخيلاء والتكبر على الناس، وشر من ذلك كله تحريمه تعبدا، والإسلام يأمر بالوسط والاعتدال ﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ﴾ [ الطلاق : ٧ ] الآية.
أخرج الإمام أحمد من طرق عن أبي الأحوص -وهو عوف بن مالك بن نضلة- يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رثّ الهيئة فقال :" هل لك مال ؟ " قلت : نعم، قال :" من أي المال ؟ ". قلت : من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال :" إذا آتاك الله مالا فليُرَ عليك " ١ الحديث. وفي رواية أصحاب السنن الثلاثة عنه :" إذا أتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته " ٢، وأخرج البخاري في التاريخ والطبراني والضياء بسند صحيح عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا :" إذا أتاك الله مالا فلير عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس ".
والشكر نصف الإيمان، بحسب متعلقاته من الأعمال والأحوال، وهي ما يجب على العبد لربه ولعباده من استعمال نعمه عليه فيما يرضيه من أحكام شرعه، وموافقة سننه وحكمته في خلقه، والنصف الآخر الصبر، وهو ما يجب في حال وقوع المكاره والابتلاء من عمل بدني ونفسي. ويضاد الشكر الكفر، وهو قسمان : كفر النعم، وكفر المنعم، وأنصح للقارئ أن يطالع كتاب الصبر والشكر في المجلد الرابع من إحياء العلوم للغزالي.
١ أخرجه أحمد في المسند ٤/٣٩٦، ٤١١..
٢ أخرجه أبو داود في اللباس باب ١٤، والنسائي في الزينة باب ٥٤، وأحمد في المسند ٤/١٣٧..
﴿ ومَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ولاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ ولاَ فِي السَّمَاء ولاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ٦١ ﴾
لما ذكر تعالى عباده بفضله، وما يجب عليهم من شكره، وبكون أكثرهم لا يشكرونه كما يجب عليهم عطف على ذلك تذكيره لهم بإحاطة علمه بشؤونهم وأعمالهم كلها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وبكل ما في العوالم علويها وسفليها، ليحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في ذكره وشكره وعبادته، وبدأ بخطاب أعظمهم شأنا في أعظم شؤونه فقال ﴿ ومَا تَكُونُ ﴾ أيها الرسول ﴿ فِي شَأْنٍ ﴾ أي أمر من أمورك المهمة الخاصة بك، أو العامة التي تعالج بها أمر الأمة، في الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إنذارا وتبشيرا، وتعليما وعملا.
﴿ ومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ﴾ أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك، تعبدا به أو تبليغا له، ف( من ) الأولى للتعليل والثانية للتبعيض، أو الضمير في ( منه ) للكتاب لأن السياق بل السورة كلها فيه، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له، وقيل لله، لذكره في الآية قبلها، والتعبير في خطابه صلى الله عليه وسلم بالشأن- وهو الأمر العظيم أو ذو البال- يدل على أن جميع أموره وأعماله صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة، حتى العادات منها ؛ لأنه كان قدوة صالحة فيها كلها.
﴿ ولاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ﴾ هذا خطاب عام للأمة كلها في كل شؤونها وأعمالها، بعد خطاب رأسها وسيدها في أخص شؤونه وأعلاها، فتذكرك الآية في أخصر الألفاظ وأقصرها بأفضل ما آتاك الله من هداية ونعمة، وتنتقل بك إلى كل عمل تعمله من شكر وكفر، وإن كان كمثقال ذرة، فإن مجيء عمل نكرة منفية يفيد العموم، ودخول من التبعيضية عليه يؤكد هذا العموم، فيشمل أدق الأعمال وأحقرها، وهو في معنى قوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧ ٨ ].
﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾ أي رقباء مطلعين عليكم.
﴿ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ أي تخوضون وتندفعون فيه، فنحفظه عليكم لنجزيكم به، وأصل الإفاضة في الشيء أو من المكان الاندفاع فيه بقوة أو بكثرة كما تقدم في " أفضتم من عرفات ".
﴿ ومَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ ﴾ أي وما يبعد عنه، ولا يغيب عن علمه، ولا يخفى عليه. قرأ الجمهور يعزب بضم الزاي، والكسائي بكسرها، وهما لغتان فيها. وأصله من قولهم : عزب الرجل يعزب بإبله، أي يبعد ويغيب في طلب الكلأ العازب، وهو ما يكون بفلاة بعيدة حيث لا زرع، ويقال : رجل عزب –بفتحتين- أي منفرد، ومنه رجل وامرأة عزب أي منفرد لا زوج له أو لها، ويقال : امرأة عزبة، واختلف في أعزب وعزباء، ونفي عزوب الشيء عن الرب تعالى أخص وأبلغ من نفي الغيبة أو الخفاء عنه. كما أن الإفاضة في العمل أخص من إتيانه مطلقا. وحكمة تخصيصها بالذكر دون اللفظ الأعم منها هي أن ما يفيض فيه الإنسان مهمّا به مندفعا فيه جدير بأن لا ينسى أو يغفل عن مراقبة ربه فيه وإطلاعه عليه، فاللفظ يذكره به تذكيرا منبها مؤثرا. وكذلك لفظ ( يعزب ) الدال على الخفاء والبعد معا، فكأنه يقول : إن شأنه أن يبعد ويخفي عليكم من أعمالكم لا يغيب عن علم ربكم، فإنه لا يعزب عنه.
﴿ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾ أي أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة، وهي النملة الصغيرة يضرب بها المثل في الصغر والخفة، ويطلق على الدقيقة من الهباء والغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت.
﴿ فِي الأَرْضِ ولاَ فِي السَّمَاء ﴾ أي في الوجود سفليه وعلويه، وقد ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها، وأخره في آية سبأ ( ٣٤ : ٣ ) وقدم السماء لأنها في سياق ثنائه تعالى على نفسه، ووصفه بإحاطة علمه، فناسب تقديم السماء لأنها أعظم، فإن فيها من الشموس وعوالمها ما يبعد بعضه عن بعض مسافة ألوف الألوف من السنين التي تقدر أبعادها بسرعة النور، كما ثبت في علم هذا العصر.
﴿ ولاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أَكْبَر ﴾ هذا كلام مستقل بنفسه قائم برأسه، مؤكد لما قبله بتعبير أدق وأشمل، و( لا ) نافية للجنس على قراءة الجمهور، أي ولا شيء أصغر من الذَرة، وهو ما لا تبصرونه من دقائق الكون كما قال :﴿ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ﴾ [ الحاقة : ٣٨، ٣٩ ]، ولا أكبر منها وإن عظم مقداره كعرشه عز وجل، وقرأ حمزة ويعقوب أصغر بالرفع على الابتداء والخبر، ولا يخفى توجيهه في الإعراب على أهله. قدم ذكر الأصغر لأنه هو الأهم في سياق العلم بالخفي، وعطف عليه الأكبر لإفادة الإحاطة، وكون الأكبر لا يكبر عليه، كما أن الأصغر لا يعزب عنه.
﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي إلا وهو معلوم ومحصى عنده، ومرقوم في كتاب عظيم الشأن تام البيان، وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام، وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب المبين في تفسير ﴿ وعنده مفاتح الغيب ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] الآية من سورة الأنعام فراجعه في الجزء السادس من هذا التفسير.
وفي الآية إشارة إلى ما في الوجود من أشياء لا تدركها الأبصار، وقد رئي كثير منها في هذا العصر بالآلات التي تكبر المرئيات أضعافا كثيرة، ولم يكن هذا مما يخطر في البال في عصر التنزيل، فهو من دقائق تعبير القرآن، التي تظهر حكمتها للناس آنا بعد آنا، وتقدم التذكير بما لها من الأمثال التي هي من أنواع الإعجاز.
﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ الَّذِينَ آمَنُواْ وكَانُواْ يَتَّقُونَ٦٣ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ٦٤ ﴾
لما بين تعالى لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاءه أعمالهم عليهم، وجزاءهم عليها، وذكرهم بفضله، وما يجب عليهم من شكره، بين لهم في هذه الآيات الثلاث حال الشاكرين المتقين، الذين لهم أحسن الجزاء في يوم الدين.
فقال :﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ ﴾ افتتحت هذه الجملة بكلمة ( ألا ) للتنبيه وتوجيه الفكر لها، والأولياء جمع ولي، وهو وصف من الولاء والتوالي، ومن الولاية والتولي، فيطلق على القريب بالنسب بالمكانة والصداقة، وعلى النصير، والمتولي للأمر والحكم، أو على اليتيم والقاصر المدبر لشؤونه، ويوصف به العبد والرب تعالى كما تقدم في قوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] وفصلنا الكلام في تفسيره بما بينا به ولاية الله العامة والخاصة لعباده، وولايتهم له، أو للشيطان والطاغوت، وولاية بعضهم لبعض، وضلال بعضهم بجعل ولاية الله الخاصة به لبعض عباده، وهم الذين يسمونهم أولياء الله بما يسلبهم استحقاق هذا اللقب، وذكرنا في شواهد ذلك التفسير هذه الآية.
أولياء الله أضداد أعدائه المشركين به، الكافرين بنعمه، فهم المؤمنون المتقون كما نطقت به الآية، وهم درجات : أعلاهم درجة هم الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده، والتوكل عليه، وحبه والحب فيه، والولاية له، فلا يتخذون له أندادا يحبونهم من نوع حبه، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى، ولا وكيلا ولا نصيرا فيما يخرج عن توفيقهم لإقامة سننه في الأسباب والمسببات، ويتولون رسوله والمؤمنين بما أمرهم به، قال تعالى :﴿ وأنذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه من ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ﴾ [ الأنعام : ٥١ ] وقال :﴿ ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ﴾ [ السجدة : ٤ ] وقال :﴿ قل من الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من الله وليا ولا نصيرا ﴾ [ الأحزاب : ١٧ ] وقال في آيتين أخريين منها ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ [ النساء : ٨١ ] والآيات كثيرة في توليهم له بالطاعة، وتوليه لهم بالهداية والعناية والإعانة والنصر والتوفيق.
وحسبنا هنا ما نفاه عنهم، وما وصفهم به، ثم ما زفه إليهم من البشارة :
فأما ما نفاه مخبرا به عنهم فقوله :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ وهو ما نفاه عن جميع المؤمنين الصالحين والمصلحين والمتقين في الآيات الكثيرة ( راجع ٢ : ٦٢ و ٥ : ٧٢ و ٦ : ٤٨ و٧ : ٤٣ و٤٩ وقد تقدم تفسيرها ). فأما في الآخرة حيث يتحقق هذا على أتم وجه -وهو المقصود بالذات- فلا خوف يقع عليهم ويرهقون به مما يخاف الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة، كما قال تعالى بعد ذكر إبعادهم عن جهنم ﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر ﴾ [ البقرة ١٠٣ ] الآية، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم، وأما في الدنيا فلا يخافون مما يخاف غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كلقاء العدو، قال :﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] أو بخس في الحقوق، أو رهق يغشاهم بالظلم والذل، قال :﴿ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ﴾ [ الجن : ١٣ ] ولا هم يحزنون من مكروه أو ذهاب محبوب وقع بالفعل كما قال :﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ﴾ [ الحديد : ٢٣ ] والمراد أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار، ولا يحزنون كحزنهم، وسنذكر نفي الخوف والحزن عنهم عند الموت. وأما أصل الخوف والحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا، وإنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس وأرضاهم بسنن الله اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشيء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما ورد من الأخبار والآثار في الأولياء.
ذكر بعض المفسرين في تفسير الآية بعض الأخبار النبوية -ولا يصح منها حديث مرفوع متصل الإسناد- وأقرب ما رووه في تفسيرها إلى اصطلاحهم في الأولياء حديث أبي هريرة المرفوع :" إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء " قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال :" هو قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أخرجه ابن جرير من طريق شيخه أبي هشام الرفاعي- وهو محمد بن يزيد بن كثير العجلي الكوفي- قال البخاري : رأيتهم مجمعين على ضعفه. ورواه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب بمثل سند ابن جرير عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير عنه، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمرو، وقال بعضهم : وأخرجه الحاكم وصححه، ولم أره في تفسير السورة من المستدرك، وما كل ما صححه الحاكم بصحيح. ومتن هذا الحديث مشكل ؛ لأنه يدل على تفصيل الأولياء على الأنبياء وهو مخالف لإجماع علماء المسلمين، موافق لقول بعض أولياء الشياطين : إن الولي أفضل من النبي، من حيث إن ولاية النبي أفضل من نبوته، وهو تأويل شيطاني.
ومن مثله حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا :" يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ٢، والحديث مطول أخرجه الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب، وفيه مقال لهم أهونه ما اكتفى به الحافظ في التقريب، وهو أنه صدوق كثير الإرسال والأوهام، وذكر في تهذيب التهذيب أن مما قيل فيه أنه يروي المنكرات عن الثقات، وقال ابن حزم : هو ساقط، وقال ابن عدي : ضعيف جدا.
وورد عدة روايات مرفوعة وآثار في تفسير البشرى في الدنيا بالرؤيا الصالحة يراها المسلم أو المؤمن أو تُرى له، وعليه ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس من الصحابة، ومجاهد وعروة بن الزبير ويحيي بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح من التابعين وغيرهم. وفسرها بعضهم بآية حم السجدة التي أوردناها آنفا مع تفسيرها. وروي عن ابن عباس وغيره : الأولياء هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم. ورواه بعضهم مرفوعا، وهو ضعيف، وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنهما قالا : إذا لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله تعالى ولي. قال النووي : والمراد بهم العلماء العاملون. فهذه خلاصة الروايات في الآية.
وإننا لم نر في الأحاديث الصحيحة في الأولياء ما هو أقرب إلى كلام الصوفية منه إلى كلام الله عز وجل إلا حديث " من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب " ٣ الخ، وقد انفرد به البخاري، وفي سنده غرابة كمتنه. قال الحافظ ابن رجب : هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد ـ إلى أن قال ـ وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد، وليس في مسند أحمد، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه الإمام أحمد وغيره، وقالوا : له مناكير، ثم قال : وقد روي من وجوه أخر لا تخلو كلها من مقال. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب اختلاف أئمة الجرح والتعديل في خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير، ومنه : في الميزان للذهبي قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الأزدي : في حديثه بعض المناكير، وهم عندنا في عداد أهل الصدق، ومنه قول ابن سعد : كان منكر الحديث متشيعا مفرطا في التشيع، وكتبوا عنه للضرورة. وذكر بعض هذا الجرح وغيره في مقدمة فتح الباري، وأجاب عنه بما حاصله أن التشيع لا يضر مثله، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه، وأوردها في كامله، وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، قال : بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة " من عادى لي وليا " الحديث اهـ.
أقول : وأما الغرابة في متن هذا الحديث فهو قوله تعالى :" ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به " ٤ الخ، الذي استدلوا به على الحلول والاتحاد، وقد أوله العلماء، وبينت أمثل تأويل له عندي في الكلام على حب الله تعالى من تفسير ( ٩ : ٢٤ ج ١٠ تفسير )، فراجعه يغنك عن ذكره كله هنا.
أولياء الخيال وأولياء الطاغوت والشيطان
ذلك ما فسرنا به الآيتين بشواهد مما في معناهما من الآيات، والقرآن خير ما يفسر به القرآن وأصحه، وكل ما خالفه وخرج عنه فهو باطل، وعززناه بأمثل ما روي من الأخبار والآثار فيهما، فأولياء الله الذين يشهد لهم كتابه بالولاية له هم المؤمنون الصالحون المتقون، ولكن اشتهر بين المسلمين بعد عصر السلف ما يدل على أن الأولياء عالم خيالي غير معقول، لهم من الخصائص في عالم الغيب، والتصرف في ملكوت السماوات والأرض، فوق كل ما ورد في كتاب الله وأخبار رسوله الصادقة في أنبياء الله المرسلين، بل فوق كل ما وصف به جميع الوثنيين آلهتهم وأربابهم التي اتخذوها من دون الله، وينقلون مثل هذه الدعاوى عن بعض من اشتهروا بالولاية ممن لهم ذكر في التاريخ، ومن لا ذكر لهم إلا في كتب الأدعياء الذين فتنوا المسلمين والمسلمات بهم، ممن يسمون بالمتصوفة وأهل الطريق، ينقلون عنهم ما يؤيدون به مزاعمهم الخرافية الشركية، كما ترى فيما ننقله من الشواهد الآتية.
ولئن أنكر عليهم منكر، واحتج عليهم بكتاب ربهم وحديث نبيهم مفسر أو محدث، ليقولون : هذا ضال مضل منكر للكرامات، مخالف للقرآن، وقرؤوا عليه ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ وهل هذه الآية كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والَّذِينَ هَادُواْ والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦٢ ] وغيره مما أوردنا من الشواهد آنفا، نعم إن هؤلاء المؤمنين الصالحين درجات، أشرنا آنفا إلى أدناها وأعلاها، وفصلنا القول فيهم في الكلام على حب الله ورسوله من تفسير ( ١٠ : ٢٤ ).
هذه الولاية الخيالية المبتدعة من محدثات الصوفية ألبسوها أولا ثوب الشريعة، وجعلوا للشريعة مقابلا سموه الحقيقة، ثم صاروا يلبسونها عليها لبسا، ويبعدون بها عنها معنى وحسا، بقدر ما يبعدون عن الاتباع، ويوغلون في الابتداع، واعتبر في ذلك بسيرة سلفهم الأولين كالحارث المحاسبي والسري السقطي ومنصور بن عمار والجنيد والشبلي وجمهور رجال رسالة القشيري، ومثل أبي إسماعيل الهروي وسيرة من بعدهم، فإن أكثر أولئك قد رووا الحديث وتفقهوا في الدين، وكانوا يتحرون الاعتصام بالكتاب والسنة، ويحذرون ويحذرون أتباعهم من البدع، ويحثون على اتباع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة آل البيت وحفاظ السنة وعلماء الأمصار كالأربعة وطبقتهم، ولولا هذا لكان بينهم وبين غلاة متصوفة القرون الوسطى ومن بعدهم من المبتدعة والدجالين أصحاب الدعاوى العريضة والخرافات الشنيعة مثل ما بين صوفية البرهمية والإسلام، وكتابهم ( الفيدا ) وكتابه القرآن.
أمرر ببصرك على طبقات الشعراني الكبرى فإنك لا ترى فيها فرقا كبيرا بين سيرة أئمة الحديث والفقه وأئمة التصوف في العبادة والتقوى والعلم والحكمة، ثم انظر في سيرة من بعدهم من صوفية القرون الوسطى ثم قرن المؤلف- وهو العاشر- وتأمل ووازن ترى في أولياء الشعراني المجانين والمجان والقذرين الذين تتناثر الحشرات من رؤوسهم ولحاهم وثيابهم التي لا يغسلونها حتى تبلى أو في السنة مرة واحدة، تجد ذلك البون الشاسع فيهم، وهم مع ذلك يفضلون أنفسهم على الأنبياء، ومنهم من يدعي الاتحاد بالله أو الألوهية.
تأمل ما كتبه في ترجمة الذين يسمونهم الأقطاب الأربعة، فإنك لا تجد فيه لأحد منهم أنه كان ينفع الناس بعلوم الشرع إلا الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتجد أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يوبخه علماء عصره، ويخاطبونه بلقب الدجال، ويرمونه بالجمع بين النساء والرجال، وأما الدسوقي فكتب عنه أنه كان يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحوش، ونقل عنه كتابا من هذه اللغات أرسله إلى أحد مريديه، وهو خلط مخترع ليس منها في شيء، وسلاما مثله أرسله مع أحد الحجاج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه قوله :" موز الرموز التهوز، سلاحات أفق، فردنانية أمق، شوامق اليرامق، حيد وفرقيد، وفرغاط الأسباط " الخ، فما معنى هذا وأي فائدة للناس فيه ؟
ونقل عنه كلاما من المعهود من أمثاله الصوفية منه النافع والضار، فمن الحق النافع ما معناه أنه لو لم تغلب عليهم الأحوال لما قالوا في التفسير إلا صحيح المأثور، ومن الضار الذي أفسد على المصدقين بولاية هؤلاء الناس دينهم وهو مما نحن فيه قوله : وكان رضي الله عنه يقول :" أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلقته بيدي، ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي على الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس " الخ، وقوله وهو في تفسير الآية :" واعلم يا ولدي أن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون متصلون بالله، وما كان ولي متصل بالله إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه، وما من ولي إلا وهو يحمل على الكفار كما كان علي رضي الله عنه يحمل، وقد كنت أنا وأولياء الله أشياخا في الأزل، بين يدي قديم الأزل، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي، فخلعت عليهم بيدي، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا إبراهيم أنت نقيب عليهم، فكنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأخي عبد القادر الخلفي وابن الرفاعي خلف عبد القادر، ثم التفت إلي رسول الله صلى عليه وسلم وقال لي :" يا إبراهيم سر إلى مالك، وقل له يغلق النيران، وسر إلى رضوان، وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أمر به، ورضوان ما أمر به " الخ وله ما هو أغرب منه.
وذكر الشعراني أنه أطال في هذا الكلام، وهو من مقام الاستطالة، تعطي الرتبة صاحبها أن ينطق بما ينطق به، وقد سبقه إلى نحو ذلك الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه وغيره فلا ينبغي مخالفته إلا بنص صريح اهـ.
ونقول : إن مثبت هذه الدعاوى المنكرة في عالم الغيب من شؤون رب العالمين وملائكته وأكرم رسله وجنته وناره هو الذي يحتاج في إثباته إلى النص الصريح دون منكره، فإنه يتبع الأصل، والإجماع على أن شيئا من ذلك لا يثبت إلا بنص قطعي، وسنذكر ما انتهت إليه هذه الدعاوى في إفساد الدين، وإضلال الملايين من المسلمين.
جاء في كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي مس بيده سمكة فأرادوا شيها بالنار فلم تؤثر فيها النار، فذكروا له ذلك، فقال : وعدني العزيز أن كل ما لمسته يد هذا اللاش حميد لا تحرقه النار في

﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ الَّذِينَ آمَنُواْ وكَانُواْ يَتَّقُونَ٦٣ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ٦٤ ﴾
لما بين تعالى لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاءه أعمالهم عليهم، وجزاءهم عليها، وذكرهم بفضله، وما يجب عليهم من شكره، بين لهم في هذه الآيات الثلاث حال الشاكرين المتقين، الذين لهم أحسن الجزاء في يوم الدين.
وأما ما وصفهم وعرفهم به فقوله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ فهذا استئناف لبيان حال هؤلاء الأولياء النفسية والعملية، أي هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وملكة التقوى له عز وجل، وما تقتضيه من عمل، وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضي لبيان أنه كان كاملا باليقين، لم يزلزله شك، ولم يحصل بالتدريج، وعن تقواهم بالفعل الذي يدل على الحال والاستقبال ؛ لأن التقوى تتجدد دائما بحسب متعلقاتها : من كسب وحرب، وشهوة وغضب، والمعنى الجامع فيها أنها اتقاء كل ما لا يرضي الله تعالى من ترك واجب ومندوب، وفعل محرم ومكروه، واتقاء مخالفة سنن الله تعالى في خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة. وقد فصلنا هذا في مواضع من أهمها تفسير قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾ [ الأنفال : ٢٩ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما ورد من الأخبار والآثار في الأولياء.
ذكر بعض المفسرين في تفسير الآية بعض الأخبار النبوية -ولا يصح منها حديث مرفوع متصل الإسناد- وأقرب ما رووه في تفسيرها إلى اصطلاحهم في الأولياء حديث أبي هريرة المرفوع :" إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء " قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال :" هو قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أخرجه ابن جرير من طريق شيخه أبي هشام الرفاعي- وهو محمد بن يزيد بن كثير العجلي الكوفي- قال البخاري : رأيتهم مجمعين على ضعفه. ورواه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب بمثل سند ابن جرير عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير عنه، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمرو، وقال بعضهم : وأخرجه الحاكم وصححه، ولم أره في تفسير السورة من المستدرك، وما كل ما صححه الحاكم بصحيح. ومتن هذا الحديث مشكل ؛ لأنه يدل على تفصيل الأولياء على الأنبياء وهو مخالف لإجماع علماء المسلمين، موافق لقول بعض أولياء الشياطين : إن الولي أفضل من النبي، من حيث إن ولاية النبي أفضل من نبوته، وهو تأويل شيطاني.
ومن مثله حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا :" يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ٢، والحديث مطول أخرجه الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب، وفيه مقال لهم أهونه ما اكتفى به الحافظ في التقريب، وهو أنه صدوق كثير الإرسال والأوهام، وذكر في تهذيب التهذيب أن مما قيل فيه أنه يروي المنكرات عن الثقات، وقال ابن حزم : هو ساقط، وقال ابن عدي : ضعيف جدا.
وورد عدة روايات مرفوعة وآثار في تفسير البشرى في الدنيا بالرؤيا الصالحة يراها المسلم أو المؤمن أو تُرى له، وعليه ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس من الصحابة، ومجاهد وعروة بن الزبير ويحيي بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح من التابعين وغيرهم. وفسرها بعضهم بآية حم السجدة التي أوردناها آنفا مع تفسيرها. وروي عن ابن عباس وغيره : الأولياء هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم. ورواه بعضهم مرفوعا، وهو ضعيف، وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنهما قالا : إذا لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله تعالى ولي. قال النووي : والمراد بهم العلماء العاملون. فهذه خلاصة الروايات في الآية.
وإننا لم نر في الأحاديث الصحيحة في الأولياء ما هو أقرب إلى كلام الصوفية منه إلى كلام الله عز وجل إلا حديث " من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب " ٣ الخ، وقد انفرد به البخاري، وفي سنده غرابة كمتنه. قال الحافظ ابن رجب : هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد ـ إلى أن قال ـ وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد، وليس في مسند أحمد، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه الإمام أحمد وغيره، وقالوا : له مناكير، ثم قال : وقد روي من وجوه أخر لا تخلو كلها من مقال. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب اختلاف أئمة الجرح والتعديل في خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير، ومنه : في الميزان للذهبي قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الأزدي : في حديثه بعض المناكير، وهم عندنا في عداد أهل الصدق، ومنه قول ابن سعد : كان منكر الحديث متشيعا مفرطا في التشيع، وكتبوا عنه للضرورة. وذكر بعض هذا الجرح وغيره في مقدمة فتح الباري، وأجاب عنه بما حاصله أن التشيع لا يضر مثله، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه، وأوردها في كامله، وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، قال : بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة " من عادى لي وليا " الحديث اهـ.
أقول : وأما الغرابة في متن هذا الحديث فهو قوله تعالى :" ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به " ٤ الخ، الذي استدلوا به على الحلول والاتحاد، وقد أوله العلماء، وبينت أمثل تأويل له عندي في الكلام على حب الله تعالى من تفسير ( ٩ : ٢٤ ج ١٠ تفسير )، فراجعه يغنك عن ذكره كله هنا.
أولياء الخيال وأولياء الطاغوت والشيطان
ذلك ما فسرنا به الآيتين بشواهد مما في معناهما من الآيات، والقرآن خير ما يفسر به القرآن وأصحه، وكل ما خالفه وخرج عنه فهو باطل، وعززناه بأمثل ما روي من الأخبار والآثار فيهما، فأولياء الله الذين يشهد لهم كتابه بالولاية له هم المؤمنون الصالحون المتقون، ولكن اشتهر بين المسلمين بعد عصر السلف ما يدل على أن الأولياء عالم خيالي غير معقول، لهم من الخصائص في عالم الغيب، والتصرف في ملكوت السماوات والأرض، فوق كل ما ورد في كتاب الله وأخبار رسوله الصادقة في أنبياء الله المرسلين، بل فوق كل ما وصف به جميع الوثنيين آلهتهم وأربابهم التي اتخذوها من دون الله، وينقلون مثل هذه الدعاوى عن بعض من اشتهروا بالولاية ممن لهم ذكر في التاريخ، ومن لا ذكر لهم إلا في كتب الأدعياء الذين فتنوا المسلمين والمسلمات بهم، ممن يسمون بالمتصوفة وأهل الطريق، ينقلون عنهم ما يؤيدون به مزاعمهم الخرافية الشركية، كما ترى فيما ننقله من الشواهد الآتية.
ولئن أنكر عليهم منكر، واحتج عليهم بكتاب ربهم وحديث نبيهم مفسر أو محدث، ليقولون : هذا ضال مضل منكر للكرامات، مخالف للقرآن، وقرؤوا عليه ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ وهل هذه الآية كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والَّذِينَ هَادُواْ والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦٢ ] وغيره مما أوردنا من الشواهد آنفا، نعم إن هؤلاء المؤمنين الصالحين درجات، أشرنا آنفا إلى أدناها وأعلاها، وفصلنا القول فيهم في الكلام على حب الله ورسوله من تفسير ( ١٠ : ٢٤ ).
هذه الولاية الخيالية المبتدعة من محدثات الصوفية ألبسوها أولا ثوب الشريعة، وجعلوا للشريعة مقابلا سموه الحقيقة، ثم صاروا يلبسونها عليها لبسا، ويبعدون بها عنها معنى وحسا، بقدر ما يبعدون عن الاتباع، ويوغلون في الابتداع، واعتبر في ذلك بسيرة سلفهم الأولين كالحارث المحاسبي والسري السقطي ومنصور بن عمار والجنيد والشبلي وجمهور رجال رسالة القشيري، ومثل أبي إسماعيل الهروي وسيرة من بعدهم، فإن أكثر أولئك قد رووا الحديث وتفقهوا في الدين، وكانوا يتحرون الاعتصام بالكتاب والسنة، ويحذرون ويحذرون أتباعهم من البدع، ويحثون على اتباع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة آل البيت وحفاظ السنة وعلماء الأمصار كالأربعة وطبقتهم، ولولا هذا لكان بينهم وبين غلاة متصوفة القرون الوسطى ومن بعدهم من المبتدعة والدجالين أصحاب الدعاوى العريضة والخرافات الشنيعة مثل ما بين صوفية البرهمية والإسلام، وكتابهم ( الفيدا ) وكتابه القرآن.
أمرر ببصرك على طبقات الشعراني الكبرى فإنك لا ترى فيها فرقا كبيرا بين سيرة أئمة الحديث والفقه وأئمة التصوف في العبادة والتقوى والعلم والحكمة، ثم انظر في سيرة من بعدهم من صوفية القرون الوسطى ثم قرن المؤلف- وهو العاشر- وتأمل ووازن ترى في أولياء الشعراني المجانين والمجان والقذرين الذين تتناثر الحشرات من رؤوسهم ولحاهم وثيابهم التي لا يغسلونها حتى تبلى أو في السنة مرة واحدة، تجد ذلك البون الشاسع فيهم، وهم مع ذلك يفضلون أنفسهم على الأنبياء، ومنهم من يدعي الاتحاد بالله أو الألوهية.
تأمل ما كتبه في ترجمة الذين يسمونهم الأقطاب الأربعة، فإنك لا تجد فيه لأحد منهم أنه كان ينفع الناس بعلوم الشرع إلا الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتجد أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يوبخه علماء عصره، ويخاطبونه بلقب الدجال، ويرمونه بالجمع بين النساء والرجال، وأما الدسوقي فكتب عنه أنه كان يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحوش، ونقل عنه كتابا من هذه اللغات أرسله إلى أحد مريديه، وهو خلط مخترع ليس منها في شيء، وسلاما مثله أرسله مع أحد الحجاج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه قوله :" موز الرموز التهوز، سلاحات أفق، فردنانية أمق، شوامق اليرامق، حيد وفرقيد، وفرغاط الأسباط " الخ، فما معنى هذا وأي فائدة للناس فيه ؟
ونقل عنه كلاما من المعهود من أمثاله الصوفية منه النافع والضار، فمن الحق النافع ما معناه أنه لو لم تغلب عليهم الأحوال لما قالوا في التفسير إلا صحيح المأثور، ومن الضار الذي أفسد على المصدقين بولاية هؤلاء الناس دينهم وهو مما نحن فيه قوله : وكان رضي الله عنه يقول :" أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلقته بيدي، ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي على الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس " الخ، وقوله وهو في تفسير الآية :" واعلم يا ولدي أن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون متصلون بالله، وما كان ولي متصل بالله إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه، وما من ولي إلا وهو يحمل على الكفار كما كان علي رضي الله عنه يحمل، وقد كنت أنا وأولياء الله أشياخا في الأزل، بين يدي قديم الأزل، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي، فخلعت عليهم بيدي، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا إبراهيم أنت نقيب عليهم، فكنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأخي عبد القادر الخلفي وابن الرفاعي خلف عبد القادر، ثم التفت إلي رسول الله صلى عليه وسلم وقال لي :" يا إبراهيم سر إلى مالك، وقل له يغلق النيران، وسر إلى رضوان، وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أمر به، ورضوان ما أمر به " الخ وله ما هو أغرب منه.
وذكر الشعراني أنه أطال في هذا الكلام، وهو من مقام الاستطالة، تعطي الرتبة صاحبها أن ينطق بما ينطق به، وقد سبقه إلى نحو ذلك الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه وغيره فلا ينبغي مخالفته إلا بنص صريح اهـ.
ونقول : إن مثبت هذه الدعاوى المنكرة في عالم الغيب من شؤون رب العالمين وملائكته وأكرم رسله وجنته وناره هو الذي يحتاج في إثباته إلى النص الصريح دون منكره، فإنه يتبع الأصل، والإجماع على أن شيئا من ذلك لا يثبت إلا بنص قطعي، وسنذكر ما انتهت إليه هذه الدعاوى في إفساد الدين، وإضلال الملايين من المسلمين.
جاء في كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي مس بيده سمكة فأرادوا شيها بالنار فلم تؤثر فيها النار، فذكروا له ذلك، فقال : وعدني العزيز أن كل ما لمسته يد هذا اللاش حميد لا تحرقه النار في

﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ الَّذِينَ آمَنُواْ وكَانُواْ يَتَّقُونَ٦٣ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ٦٤ ﴾
لما بين تعالى لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاءه أعمالهم عليهم، وجزاءهم عليها، وذكرهم بفضله، وما يجب عليهم من شكره، بين لهم في هذه الآيات الثلاث حال الشاكرين المتقين، الذين لهم أحسن الجزاء في يوم الدين.
وأما البشرى التي زفها إليهم فهي قوله :﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ﴾ البشرى الخبر السار الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتهلل وتبرق أساريره. وهذه البشرى مبينة في مواضع من كتاب الله تعالى، وقد يراد متعلقها الذي يبشرون به، ولم يذكر هنا ليشمل كل ما بشروا به في كتاب الله تعالى وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما البشرى في الحياة الدنيا فأهمها البشارة بالنصر، وبحسن العاقبة في كل أمر، وباستخلافهم في الأرض، ما أقاموا شرع الله و سننه، ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وأما في الآخرة فمن أكملها وأجمعها لمعاني الآية لأكملهم قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا ولَا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الْآخِرَةِ ولَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ ولَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ٣٢ ].
المشهور في تنزل الملائكة عليهم أنه يكون عند البعث، وكذا عند الموت، ولا مانع من شموله لما في الدنيا من تثبيت قلوبهم، وتقوية إلهام الحق والخير فيهم، كما قال تعالى في الملائكة الذين أمد بهم أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن به قلوبكم ﴾ [ الأنفال : ١٠ ] الآية ثم قال :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ [ الأنفال : ١٢ ]، وقد يكون منه إلهام الحق والخير كما ورد في حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي :" إن الشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ". ١
﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ﴾ أي لا تغيير ولا خلف في مواعيد الله عز وجل، ومنها هذه البشارات وما في معناها من الآيات.
﴿ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز العظيم الذي لا يعلوه فوز، وإنما هو ثمرة الإيمان لحق، والتقوى العامة في حقوق الله وحقوق الخلق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما ورد من الأخبار والآثار في الأولياء.
ذكر بعض المفسرين في تفسير الآية بعض الأخبار النبوية -ولا يصح منها حديث مرفوع متصل الإسناد- وأقرب ما رووه في تفسيرها إلى اصطلاحهم في الأولياء حديث أبي هريرة المرفوع :" إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء " قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال :" هو قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أخرجه ابن جرير من طريق شيخه أبي هشام الرفاعي- وهو محمد بن يزيد بن كثير العجلي الكوفي- قال البخاري : رأيتهم مجمعين على ضعفه. ورواه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب بمثل سند ابن جرير عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير عنه، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمرو، وقال بعضهم : وأخرجه الحاكم وصححه، ولم أره في تفسير السورة من المستدرك، وما كل ما صححه الحاكم بصحيح. ومتن هذا الحديث مشكل ؛ لأنه يدل على تفصيل الأولياء على الأنبياء وهو مخالف لإجماع علماء المسلمين، موافق لقول بعض أولياء الشياطين : إن الولي أفضل من النبي، من حيث إن ولاية النبي أفضل من نبوته، وهو تأويل شيطاني.
ومن مثله حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا :" يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ٢، والحديث مطول أخرجه الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب، وفيه مقال لهم أهونه ما اكتفى به الحافظ في التقريب، وهو أنه صدوق كثير الإرسال والأوهام، وذكر في تهذيب التهذيب أن مما قيل فيه أنه يروي المنكرات عن الثقات، وقال ابن حزم : هو ساقط، وقال ابن عدي : ضعيف جدا.
وورد عدة روايات مرفوعة وآثار في تفسير البشرى في الدنيا بالرؤيا الصالحة يراها المسلم أو المؤمن أو تُرى له، وعليه ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس من الصحابة، ومجاهد وعروة بن الزبير ويحيي بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح من التابعين وغيرهم. وفسرها بعضهم بآية حم السجدة التي أوردناها آنفا مع تفسيرها. وروي عن ابن عباس وغيره : الأولياء هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم. ورواه بعضهم مرفوعا، وهو ضعيف، وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنهما قالا : إذا لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله تعالى ولي. قال النووي : والمراد بهم العلماء العاملون. فهذه خلاصة الروايات في الآية.
وإننا لم نر في الأحاديث الصحيحة في الأولياء ما هو أقرب إلى كلام الصوفية منه إلى كلام الله عز وجل إلا حديث " من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب " ٣ الخ، وقد انفرد به البخاري، وفي سنده غرابة كمتنه. قال الحافظ ابن رجب : هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد ـ إلى أن قال ـ وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد، وليس في مسند أحمد، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه الإمام أحمد وغيره، وقالوا : له مناكير، ثم قال : وقد روي من وجوه أخر لا تخلو كلها من مقال. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب اختلاف أئمة الجرح والتعديل في خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير، ومنه : في الميزان للذهبي قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الأزدي : في حديثه بعض المناكير، وهم عندنا في عداد أهل الصدق، ومنه قول ابن سعد : كان منكر الحديث متشيعا مفرطا في التشيع، وكتبوا عنه للضرورة. وذكر بعض هذا الجرح وغيره في مقدمة فتح الباري، وأجاب عنه بما حاصله أن التشيع لا يضر مثله، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه، وأوردها في كامله، وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، قال : بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة " من عادى لي وليا " الحديث اهـ.
أقول : وأما الغرابة في متن هذا الحديث فهو قوله تعالى :" ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به " ٤ الخ، الذي استدلوا به على الحلول والاتحاد، وقد أوله العلماء، وبينت أمثل تأويل له عندي في الكلام على حب الله تعالى من تفسير ( ٩ : ٢٤ ج ١٠ تفسير )، فراجعه يغنك عن ذكره كله هنا.
أولياء الخيال وأولياء الطاغوت والشيطان
ذلك ما فسرنا به الآيتين بشواهد مما في معناهما من الآيات، والقرآن خير ما يفسر به القرآن وأصحه، وكل ما خالفه وخرج عنه فهو باطل، وعززناه بأمثل ما روي من الأخبار والآثار فيهما، فأولياء الله الذين يشهد لهم كتابه بالولاية له هم المؤمنون الصالحون المتقون، ولكن اشتهر بين المسلمين بعد عصر السلف ما يدل على أن الأولياء عالم خيالي غير معقول، لهم من الخصائص في عالم الغيب، والتصرف في ملكوت السماوات والأرض، فوق كل ما ورد في كتاب الله وأخبار رسوله الصادقة في أنبياء الله المرسلين، بل فوق كل ما وصف به جميع الوثنيين آلهتهم وأربابهم التي اتخذوها من دون الله، وينقلون مثل هذه الدعاوى عن بعض من اشتهروا بالولاية ممن لهم ذكر في التاريخ، ومن لا ذكر لهم إلا في كتب الأدعياء الذين فتنوا المسلمين والمسلمات بهم، ممن يسمون بالمتصوفة وأهل الطريق، ينقلون عنهم ما يؤيدون به مزاعمهم الخرافية الشركية، كما ترى فيما ننقله من الشواهد الآتية.
ولئن أنكر عليهم منكر، واحتج عليهم بكتاب ربهم وحديث نبيهم مفسر أو محدث، ليقولون : هذا ضال مضل منكر للكرامات، مخالف للقرآن، وقرؤوا عليه ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ وهل هذه الآية كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والَّذِينَ هَادُواْ والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦٢ ] وغيره مما أوردنا من الشواهد آنفا، نعم إن هؤلاء المؤمنين الصالحين درجات، أشرنا آنفا إلى أدناها وأعلاها، وفصلنا القول فيهم في الكلام على حب الله ورسوله من تفسير ( ١٠ : ٢٤ ).
هذه الولاية الخيالية المبتدعة من محدثات الصوفية ألبسوها أولا ثوب الشريعة، وجعلوا للشريعة مقابلا سموه الحقيقة، ثم صاروا يلبسونها عليها لبسا، ويبعدون بها عنها معنى وحسا، بقدر ما يبعدون عن الاتباع، ويوغلون في الابتداع، واعتبر في ذلك بسيرة سلفهم الأولين كالحارث المحاسبي والسري السقطي ومنصور بن عمار والجنيد والشبلي وجمهور رجال رسالة القشيري، ومثل أبي إسماعيل الهروي وسيرة من بعدهم، فإن أكثر أولئك قد رووا الحديث وتفقهوا في الدين، وكانوا يتحرون الاعتصام بالكتاب والسنة، ويحذرون ويحذرون أتباعهم من البدع، ويحثون على اتباع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة آل البيت وحفاظ السنة وعلماء الأمصار كالأربعة وطبقتهم، ولولا هذا لكان بينهم وبين غلاة متصوفة القرون الوسطى ومن بعدهم من المبتدعة والدجالين أصحاب الدعاوى العريضة والخرافات الشنيعة مثل ما بين صوفية البرهمية والإسلام، وكتابهم ( الفيدا ) وكتابه القرآن.
أمرر ببصرك على طبقات الشعراني الكبرى فإنك لا ترى فيها فرقا كبيرا بين سيرة أئمة الحديث والفقه وأئمة التصوف في العبادة والتقوى والعلم والحكمة، ثم انظر في سيرة من بعدهم من صوفية القرون الوسطى ثم قرن المؤلف- وهو العاشر- وتأمل ووازن ترى في أولياء الشعراني المجانين والمجان والقذرين الذين تتناثر الحشرات من رؤوسهم ولحاهم وثيابهم التي لا يغسلونها حتى تبلى أو في السنة مرة واحدة، تجد ذلك البون الشاسع فيهم، وهم مع ذلك يفضلون أنفسهم على الأنبياء، ومنهم من يدعي الاتحاد بالله أو الألوهية.
تأمل ما كتبه في ترجمة الذين يسمونهم الأقطاب الأربعة، فإنك لا تجد فيه لأحد منهم أنه كان ينفع الناس بعلوم الشرع إلا الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتجد أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يوبخه علماء عصره، ويخاطبونه بلقب الدجال، ويرمونه بالجمع بين النساء والرجال، وأما الدسوقي فكتب عنه أنه كان يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحوش، ونقل عنه كتابا من هذه اللغات أرسله إلى أحد مريديه، وهو خلط مخترع ليس منها في شيء، وسلاما مثله أرسله مع أحد الحجاج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه قوله :" موز الرموز التهوز، سلاحات أفق، فردنانية أمق، شوامق اليرامق، حيد وفرقيد، وفرغاط الأسباط " الخ، فما معنى هذا وأي فائدة للناس فيه ؟
ونقل عنه كلاما من المعهود من أمثاله الصوفية منه النافع والضار، فمن الحق النافع ما معناه أنه لو لم تغلب عليهم الأحوال لما قالوا في التفسير إلا صحيح المأثور، ومن الضار الذي أفسد على المصدقين بولاية هؤلاء الناس دينهم وهو مما نحن فيه قوله : وكان رضي الله عنه يقول :" أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلقته بيدي، ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي على الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس " الخ، وقوله وهو في تفسير الآية :" واعلم يا ولدي أن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون متصلون بالله، وما كان ولي متصل بالله إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه، وما من ولي إلا وهو يحمل على الكفار كما كان علي رضي الله عنه يحمل، وقد كنت أنا وأولياء الله أشياخا في الأزل، بين يدي قديم الأزل، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي، فخلعت عليهم بيدي، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا إبراهيم أنت نقيب عليهم، فكنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأخي عبد القادر الخلفي وابن الرفاعي خلف عبد القادر، ثم التفت إلي رسول الله صلى عليه وسلم وقال لي :" يا إبراهيم سر إلى مالك، وقل له يغلق النيران، وسر إلى رضوان، وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أمر به، ورضوان ما أمر به " الخ وله ما هو أغرب منه.
وذكر الشعراني أنه أطال في هذا الكلام، وهو من مقام الاستطالة، تعطي الرتبة صاحبها أن ينطق بما ينطق به، وقد سبقه إلى نحو ذلك الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه وغيره فلا ينبغي مخالفته إلا بنص صريح اهـ.
ونقول : إن مثبت هذه الدعاوى المنكرة في عالم الغيب من شؤون رب العالمين وملائكته وأكرم رسله وجنته وناره هو الذي يحتاج في إثباته إلى النص الصريح دون منكره، فإنه يتبع الأصل، والإجماع على أن شيئا من ذلك لا يثبت إلا بنص قطعي، وسنذكر ما انتهت إليه هذه الدعاوى في إفساد الدين، وإضلال الملايين من المسلمين.
جاء في كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي مس بيده سمكة فأرادوا شيها بالنار فلم تؤثر فيها النار، فذكروا له ذلك، فقال : وعدني العزيز أن كل ما لمسته يد هذا اللاش حميد لا تحرقه النار في


١ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ٣٥..
﴿ ولاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ٦٥ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوات ومَن فِي الأَرْضِ ومَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ٦٦ هُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ٦٧ ﴾
بعد أن بين الله تعالى لرسوله حال أوليائه وصفتهم، وما بشرهم به في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكونه لا تبديل لكلماته فيما بشرهم ووعدهم، كما أنه لا تبديل لهما فيما أوعد به أعداءه المشركين، وكان هذا يتضمن الوعد بنصره ونصر من آمن له، وهم أولياء الله وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم، وكانت العزة -أي القوة والغلبة- في مكة لا تزال للمشركين بكثرتهم التي يعبرون عنها بقولهم : وإنما العزة للكاثر، وكانوا - لغرورهم بكثرتهم وثروتهم- يكذبون بوعد الله، وكان ذلك يحزنه صلى الله عليه وسلم بالطبع كما قال :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] الآية قال تعالى مسليا له، ومؤكدا وعده له ولأوليائه/ ووعيده لأعدائهم وأعدائه :
﴿ ولاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ نهاه عن الحزن والغم من قولهم الذي يقولونه في تكذيبه الذي تقدم مفصلا في هذه السورة، فحذف مقول القول للعلم به، وبين له سبب هذا النهي بقوله :﴿ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾ أي إن الغلبة والقوة والمنعة لله جميعها، لا يملك أحد من دونه شيئا منها، فهو يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء، وليست للكثرة دائما كما يدعون، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وقد وعد بها رسله والذين آمنوا بهم واتبعوهم من أوليائه، كما قال :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [ غافر : ٥١ ] ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون : ٨ ] فعزته تعالى ذاتية له، وعزة رسوله والمؤمنين به ومنه عز وجل، كما قال :﴿ وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ].
وقرأ نافع ( يحزنك ) بضم الياء من أحزنه، وهي لغة، وقرئ ( أن العزة ) بفتح همزة أن لحذف لامها وهي للتعليل الذي تدل عليه قراءة الجمهور بالكسر على الاستئناف البياني.
﴿ هُو السَّمِيعُ ﴾ لما يقولون من تكذيب بالحق وادعاء للشرك ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بما يفعلون من إيذاء وكيد ومكر، فهو يذلهم ويحبط أعمالهم، وهذا استئناف آخر في تقرير مضمون الأول، وهو تسليته صلى الله عليه وسلم، وتأكيد وعده بالعزة، ووعيد تكذيبه، ثم استدل على كون العزة له جميعا والجزاء بيده بقوله مستأنفا أيضا ومفتتحا بأداة التنبيه.
﴿ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوات ومَن فِي الأَرْضِ ﴾ من عابد ومعبود، فهو ربهم ومالكهم، وهم عبيده المربوبون المملوكون له.
﴿ ومَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء ﴾ له في ربوبيته وملكه، أي إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله بدعائهم في الشدائد، واستغاثتهم في النوازل، والتقرب إليهم بالنذور، والقرابين والوسائل، لا يتبعون شركاء له في تدبير أمور عباده ينفعونهم أو يكشفون الضر عنهم ؛ إذ لا شركاء له.
﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ﴾ أي ما يتبعون في الحقيقة إلا ظنهم أن هؤلاء الذين يدعونهم أولياء لله وشفعاء عنده، فهم يتوسلون بهم وبتماثيلهم إليه، لأنهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين المتكبرين، الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجابه ووسائطه ووزارته.
﴿ وإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ أي وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا إلا يخرصون خرصا، أي يحزرون حزرا، أو يكذبون كذبا، أصل الخرص الحزر والتقدير للشيء الذي لا يجري على قياس من وزن أو كيل أو ذرع، بل هو كخرص الثمر على الشجر والحب في الزرع، ولكثرة الخطأ فيه أطلق على لازمه الغالب وهو الكذب، فالظن الذي يبنى عليه يكون من أضعف الظن وأبعده عن الحق، مثاله ما ذكرناه آنفا من قياس الرب في تدبير أمور عباده على الملوك، وهذا قياس شيطاني سمعته من جميع طبقات الجاهلين لعقائد الإسلام، وتوحيد الرحمن، حتى من يلقبون بالعلماء وبالباشاوات، ومثله قولهم في وسائلهم الذين يسمونهم الأولياء : إن الله يحبهم، وكل من يحب أحدا فإنه يقبل وساطته وشفاعته، فيقيسون تأثير عباد الله الصالحين عنده تعالى، على تأثير أصدقاء الملوك والوجهاء ومعشوقيهم في قبولهم منهم جميع ما يطلبونه، ويجهلون أن أفعال الله تعالى إنما تجري بمقتضى مشيئته الأزلية لا تؤثر فيها الحوادث، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ] أي إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليه تعالى بهم كالمسيح والملائكة ومن دونهم، هم يتلوسلون إليه راجين خائفين، لا كأعوان الملوك الذين لا يقوم أمر ملكهم بدونهم، ومعشوقيهم الذين لا يتم تمتعهم الشهواني إلا بهم.
﴿ هُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِراً ﴾ هذا استدلال على مضمون ما قبله من نفي وجود شركاء له في الخلق والتدبير، أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع، بل بمحض الحكمة البالغة والرحمة الشاملة : أحدهما الليل، جعله مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول الحركة والتقلب في الأرض، وتستريحوا من التعب في طلب الرزق، وثانيهما النهار، جعله مضيئا ذا إبصار لتنتشروا في الأرض، وتقوموا بجميع أعمال العمران والكسب، والشكر للرب، فالمبصر هنا معطي الإبصار سببه حسيا كان أول معنويا، فالأول قوله تعالى :﴿ و َجَعَلْنَا اللَّيْلَ و النَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] الآية، والثاني قوله في هذه السورة أيضا ﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] أي آية مفيدة للبصيرة والحجة على صدق رسولهم، ومثله قوله في سورة النمل ﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النمل : ١٣ ].
وقال قطرب : تقول العرب : أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء بمعنى صار ذا ظلمة وذا إبصار وذا ضياء، وقد تكرر التذكير في التنزيل بآيات الله في الليل والنهار من خلقهما وتقديرهما ومنافع الناس فيهما، وفي هذه الآية احتباك، وهو أنه حذف من كل من آيتي الليل والنهار ما أثبت في الأخرى والعكس.
وفي قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ مثله، أي إن فيما ذكر لدلائل بينات، وآيات أي آيات، على وحدانيته في الذات والصفات، لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمه تعالى ونعمه فيها سماع فقه وتدبر، ويبصرون ما في الكائنات من السنن الحكيمة إبصار تأمل، ذكر الآيات السمعية المناسبة لليل الذي قدم ذكره، وهي تدل على الآيات البصرية المناسبة للنهار وتذكر بها، وهو أبلغ الإيجاز، وقد جمع بينهما في مقام الإطناب من سورة القصص بقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ومِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ القصص : ٧١٧٣ ] وأحسن بذلك الإطناب تفسيرا لما هنا من الإيجاز، ولكل منهما موقعه من بلاغة الإعجاز.
﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ ولَداً سُبْحَانَهُ هُو الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوات ومَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ ﴾
هذه الآيات حكاية لنوع آخر من الكفر بالله تعالى قريب من كفر اتخاذ الشركاء له، وهو زعمهم أنه اتخذ ولدا، وقد اشترك فيه عباد الأصنام والأوثان وبعض أهل الكتاب، فحكاه عنهم مفصولا ؛ لأنه نوع مستقل وتعقبه بالإبطال.
﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ ولَداً ﴾ فزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله، وقال بعض اليهود، عزير ابن الله، وتقدم في سورة التوبة :" ويرى بعض المؤرخين أن عزير هو أوزيروس أحد آلهة قدماء المصريين ".
﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ كلمة التسبيح معناها التنزيه والتقديس، أي تسبيحا له عز وجل عن كل ما لا يليق بربوبيته وألوهيته، وتقال في مقام التعجب، ويصح هنا جمع المعنيين كليهما، وقفى على هذا التنزيه والتعجب بما يدل على بطلان قولهم بأفواههم ما ليس به علم فقال :
﴿ هُو الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوات ومَا فِي الأَرْضِ ﴾ أي هو الغني بذاته عن الولد، لأن كل ما في الوجود من العالم العلوي والسفلي ملك وعبيد له لا يحتاج منها إلى شيء، ويحتاج إليه كل شيء، ولا يشبهه أو يجانسه منها شيء، فالإنسان يحتاج إلى الولد لأمور : منها بقاء ذكره به وبذريته، ومنها أنه قوة وعصبة له يعتز به هو وعشيرته، ومنها أن وجوده زينة له في داره يلهو به في صغره، ويفاخر به أقرانه في كبره، ومنها أنه قد يحتاج إليه لقضاء مصالحه وتنمية ثروته، وقد يحتاج إلى رفده وبره عند عجزه أو فقره، والله تعالى لا يحتاج إلى شيء من هذه المنافع ؛ لأنه هو الغني عن كل شيء بذاته لذاته أزلا وأبدا.
﴿ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا ﴾ " إن " هنا نافية و " من " مؤكدة لهذا النفي مفيدة لعمومه، والسلطان الحجة والبرهان، والجملة تجهيل لهم ورد عليهم، أي ما عندكم أي نوع من أنواع الدليل والبرهان متعلق بهذا القول الذي تقولونه من غير عقل ولا علم ولا وحي إلهي، تعارضون به هذا البرهان العقلي، وهو تنزيه الله وغناه المطلق عن الولد وغيره، وكونه المالك لكل شيء مما في السماوات والأرض.
﴿ أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ هذا استفهام تبكيت وتوبيخ على أقبح الجهل والكفر، وهو قولهم على الله تعالى ما ليس لهم به علم، ولاسيما بعد مجيء ما ينقضه من العلم والبرهان والوحي الإلهي، قال البيضاوي وغيره : وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد لها من قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغاه. وقد تقدم حكاية اتخاذ الولد عن الكفار عامة وعن النصارى خاصة في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام، وسيأتي في سور أخرى مع إبطاله وتفنيده بالدلائل ووجوه الحجة المختلفة الأساليب، أو التقريع والتأنيب، والإنذار والوعيد.
﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ ولَداً سُبْحَانَهُ هُو الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوات ومَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ ﴾
هذه الآيات حكاية لنوع آخر من الكفر بالله تعالى قريب من كفر اتخاذ الشركاء له، وهو زعمهم أنه اتخذ ولدا، وقد اشترك فيه عباد الأصنام والأوثان وبعض أهل الكتاب، فحكاه عنهم مفصولا ؛ لأنه نوع مستقل وتعقبه بالإبطال.
﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ﴾ باتخاذهم الشركاء له، أو بزعمهم اتخاذه ولدا لنفسه، أو بغير ذلك من التحليل والتحريم، وغيرهما من مسائل التشريع، أو بدعوى ولايتهم وإطلاعه إياهم على أسرار خلقه وتصريفه لهم في ملكه، وقد تقدم بعضه في هذه السورة كالآيات ١٧ و٥٩ و٦٠.
﴿ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ أي لا يفوزون بما يؤملون من النجاة من عذاب الآخرة والتمتع بنعيمها بشفاعة الولد أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى أو فدائهم لهم من عذاب النار.
﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ ولَداً سُبْحَانَهُ هُو الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوات ومَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ ﴾
هذه الآيات حكاية لنوع آخر من الكفر بالله تعالى قريب من كفر اتخاذ الشركاء له، وهو زعمهم أنه اتخذ ولدا، وقد اشترك فيه عباد الأصنام والأوثان وبعض أهل الكتاب، فحكاه عنهم مفصولا ؛ لأنه نوع مستقل وتعقبه بالإبطال.
﴿ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ﴾ هذا جواب لسؤال مقدر قد يرد على نفي فلاحهم بالإطلاق الذي يدخل فيه منافع الدنيا، والمفترون على الله بكل نوع من أنواع الافتراء المقبولة عند الجاهلين لهم كثير من المنافع المادية والمعنوية من هؤلاء المساكين، وأكثر البشر لا يزالون جاهلين يخضعون لهؤلاء الزعماء الملبسين، فهو يقول : هذا متاع قليل - أو لهم متاع- في الدنيا حقير، يتلهون به في حياة قصيرة، فأما قلته وحقارته فيدل عليها تنكيره مع القرينة، وأما قصر الحياة التي يكون في بعضها فمعلوم بالاختبار، فمهما يبلغ هذا المتاع من كثرة المال وعظمة الجاه في هذه الحياة فلا يكون إلا قليلا بالنسبة إلى ما عند الله في الآخرة للصادقين المتقين كما صرحت به الآيات الكثيرة، وبالنسبة إلى ما لهم من ضد ذلك كما صرح به في قوله :﴿ ثم إلينا مرجعهم ﴾ بالبعث بعد الموت، وما فيه من أهوال الحشر والحساب والعرض.
﴿ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ ‏ بآياتنا ونعمنا، وبالافتراء علينا، وتكذيب رسلنا، أو الكذب عليهم بعد أن تقوم عليهم الحجة في الحساب بأنهم يستحقونه بظلمهم لأنفسهم وإننا لا نظلمهم شيئا، وتقدم ذكر الرجوع إليه تعالى وما يليه من الجزاء في هذه السورة وغيرها.
﴿ واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ولاَ تُنظِرُونِ ٧١ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ ومَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ٧٣ ﴾
هذا سياق جديد متصل بما سبق من مقاصد هذه السورة أتم الاتصال، بتفصيله لبعض ما فيها من إجمال، وهو الاحتجاج على مشركي مكة وما حولها وسائر من تبلغهم الدعوة من المكذبين، بأن الله تعالى سيخذلهم وينصر رسوله عليهم كما نصر من قبله من الرسل على أقوامهم المجرمين، فأهلكهم وأنجى المؤمنين.
فقد تقدم في أوائلها قوله :﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ﴾ إلى آخر الآية ١٤، ثم قال في الرد على تكذيبهم إياه بما وعدهم من العذاب ﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ٣٩ ] ثم قال :﴿ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٧ ] جاء هذا في سياق إقامة الحجج العقلية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الوحي، وكون القرآن من عند الله لا من عنده ورأيه وكلامه، والحجج على مضمون الدعوى من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء والتفنن فيها، والتكرار البليغ لمقاصدها، وإنذار أولئك المكذبين بها، فناسب أن يفصل لهم شيئا من ذلك الإجمال من هذا الوجه، فجاء به معطوفا ؛ لأنه مرتبط به متمم له، بخلاف سرد قصص الرسل في سورة الأعراف حيث بدأه بقوله :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] ؛ لأن هذه القصص أوردت هناك مستقلة، لا تفسيرا ولا تفصيلا لجمل قبلها، وأما مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة بكونها من جنس موضوعها العام فلا تدل على هذه الخصوصية العلمية التي بها كانت البلاغة فلسفة عقلية نفسية.
قال عز وجل :﴿ واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ﴾ أي واقرأ أيها الرسول على هؤلاء المشركين المكذبين لك من قومك - فيما أوعدتهم من عقاب الله لهم على سابق سنته في المكذبين لرسله من قبلك- خبر نوح ذي الشأن العظيم ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ ﴾ أي نبأه حين قال لهم هذا القول فكذبوه، فأغرقناهم ونجيناه هو ومن آمن معه، وجعلناهم خلائف الأرض، لا جميع أنباء قصته معهم ( المفصلة في سورة هود التي نزلت قبل هذه السورة ووضعت بعدها في المصحف )، ليعلموا من هذا النبأ الخاص سنته تعالى في نصر رسله على المكذبين من قبلهم، وأنه كذلك ينصرك عليهم، فيهلك المكذبين لك المغرورين بكثرتهم وقوتهم، وقلة من اتبعك وضعفهم، وأن هؤلاء الضعفاء سيكونون خلائف الأرض في قومهم وغير قومهم من سكان الأرض، قال نوح عليه السلام لقومه بعد أن طال مكثه فيهم يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وحده والإصلاح في الأرض فملوا مقامه، وسئموا وعظه، وائتمروا به : يا قومي إن كان قد كبر -أي شق وعظم- عليكم قيامي فيكم، أو مكاني من القيام بما أقوم به من دعوتكم إلى عبادة ربكم، وتذكيري إياكم بآياته الدالة على وحدانيته، ووجوب عبادته وشكره، والرجاء في ثوابه للمؤمنين المتقين، أو الخوف من عقابه للمشركين المجرمين التذكير يطلق على الإعلام بالآيات والدلائل في أنفس الناس وفي الآفاق فيدركها العقل وتقتضيها الفطرة، حتى يكون بيانها تذكيرا أو كالتذكير لمن فقهها بشيء كان يعرفه بالقوة، فعرفه بالفعل، ويطلق على الوعظ والنصح المشتمل على عواقب الأمور، وسيأتي في السورة التالية قوله لهم :﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ﴾ [ هود : ٣٤ ] الآية.
﴿ فَعَلَى اللّهِ تَوكَّلْتُ ﴾ دون غيره من المؤمنين الذين تستضعفونهم، أي إن كان كبر عليكم ذلك وأردتم التقصي منه بالإيقاع بي فإنني قد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلني، واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتي.
﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ و َشُرَكَاءكُمْ ﴾ من أجمع الأمر كالسفر والصيام وغيرهما، وأجمع عليه إذا عزم عليه عزما لا تردد فيه. قيل أصله جمع ما تفرق من أسبابه ومقدماته، وأجمع القوم على الشيء اتفقوا عليه كلهم لم يشذ أحد منهم، أي أجمعوا ما تريدون من أمركم من شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله لا تتفرقوا فيه، وقيل : التقدير وادعوا شركاءكم ليعينوكم كما تزعمون، كما أدعو ربي وأتوكل عليه.
﴿ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ ﴾ الذي تعتزمونه ﴿ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾ أي خفيا، فيه شيء من الحيرة أو اللبس الذي يقتضي التردد في الإنفاذ، بعد العزم والإجماع، بل كونوا على علم وبصيرة فيه لكيلا تتحولوا عنه بظهور الخطأ أو التردد في كونه هو الصواب.
﴿ ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ﴾ ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه وبعد استبانته التامة التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل، فالقضاء يطلق بمعنى أداء الشيء وتنفيذه وإتمامه ومنه ﴿ فلما قضي موسى الأجل ﴾ [ القصص : ٣٩ ] ﴿ فمنهم من قضى نحبه ﴾ [ الأحزاب : ٢٣ ] ﴿ فلما قضى زيد منها وطرا ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] وتعديته بإلى لإفادة إبلاغه وإيصاله إلى متعلقه بالفعل، كما قال في أوائل السورة ﴿ ولَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [ يونس : ١١ ]، ويطلق بمعنى الحكم بالشيء وإذا عدي هذا بإلى يفيد تبليغ خبره كقوله تعالى :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ﴾ [ الإسراء : ٤ ] الخ، وقوله :﴿ وقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ] ﴿ ولاَ تُنظِرُونِ ﴾ أي لا تمهلوني بتأخير هذا القضاء وتنفيذه بعد استيفاء تلك المقدمات كلها.
هذه الآية من أبلغ آيات القرآن عبارة، وأجمعها على إيجازها للمعاني الكثيرة من علم النفس، ودرجة إيمان الأنبياء المرسلين وثقتهم بالله عز وجل، وشجاعتهم واحتقارهم لكل ما في الحياة الدنيا من أسباب الخوف من غيره والرجاء فيما سواه، وبيان خاتمهم لسنته تعالى فيهم وفي أقوامهم، وحسن وعظه لهم بوحي ربه تعالى، فهو يضرب لحاله ومقامه معهم مثل نوح مع قومه في غرور كل منهم بكثرتهم وقوتهم وتكذيبهم واحتقارهم لرسوله ولمن آمن معه من الضعفاء والفقراء، ولما يعتز به كل من الرسولين من التوكل على الله، والاعتماد عليه في النصر والعزة وحسن العاقبة، والجزم بإهلاك المصرين على تكذيبه ونجاة المؤمنين المتبعين له بجعلهم خلائف الأرض وأصحاب السلطان فيها.
صورت الآية لأهل مكة البلغاء هذه المعاني بمطالبة نوح عليه السلام لقومه على كثرتهم وقوتهم المشهور في تواريخ الأمم وظواهر الكتب المقدسة أنهم جميع أهل الأرض بأن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به واكتفاء أمره، والاستراحة من دعوته، مطالبة القوي العزيز المدل ببأسه، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، للضعيف العاجز عن تنفيذ مراده مهما يكن من استيفائه لجميع أسبابه الطبيعية والكسبية، إذ أمرهم في المرتبة الأولى بإجماع أمرهم بالعزيمة الصادقة وقوة الإرادة الجازمة حتى لا يكون شيء من موجباتها متفرقا بينهم، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية الكسبية قوة الإيمان المعنوية بشركائهم وآلهتهم، ولما كانت العزيمة الصادقة المجمعة قد يعرض لها الوَهن أو العلل المقتضية للفسخ قبل التنفيذ نهاهم أن يكون في أمرهم الذي أجمعوا شيء من الغمة والخفاء الذي يقتضي ذلك.
فإن قيل : إن إجماع العزم في الأمر لا يكون بعد الجزم بالعلم بالمقتضى له الباعث عليه، إذ لو كان الأمر غمة امتنع إجماعه كما يمتنع إجماع الصيام من الليل في أول رمضان إذا غم الهلال في ليلة الثلاثين من شعبان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين " ١ رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة ورواه غيرهم عن غيره، فالأمر بإجماع الأمر يغني عن النهي أن يكون غمة، فما حكمة ذكره بعده، وعطفه عليه بثم الدالة على تأخره عنه في الرتبة ؟ قلت : يكفي في إجماع الأمر على الإيقاع بنوح عليه السلام أن يعتقدوا أنه مصلحة لهم غير معارضة بمفسدة أرجح منها، وهذا لا يمنع أن يعرض لهم قبل تنفيذه شيء من الغمة والحيرة المقتضية للفسخ أو التردد، فمن ثم اقتضت المبالغة في أمر التعجيز المذكور أن يؤكد بهذا النهي عن الغمة في المستقبل، واقتضت البلاغة أن يعطف بثم ؛ لأن مرتبته متأخرة عن مرتبة ذلك الأمر وما يستلزمه من العلم بالمقتضي له، كما أن مرتبة قضاء ذلك الأمر وتنفيذه متأخرة عن مرتبة الأمر الأول والنهي كلتيهما، ولذلك عطفا عليها معا بثم، وأكد هذا الأمر الثاني بالنهي عن الإنظار معطوفا بالواو التي تفيد مطلق الجمع لاتحاد زمنهما ورتبتهما فلا ترتيب بينهما.
وقرأ نافع ( فاجمَعوا أمركم ) بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع، أي اجمعوا ما تفرق منه، وعلى هذا يكون قوله :﴿ وشركاءَكم ﴾ مفعولا به معطوفا عليه، لا مفعولا معه، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عبد الرحمن السلمي وعيسى الثقفي :﴿ وشركاءُكم ﴾ بالرفع، أي أنتم وشركاءكم، وهذه القراءة شاذة مخالفة لخط المصحف الإمام، فلا تتلى في الصلاة. وقرئ " أفضوا إلي " من الإفضاء إلى الشيء، وهو الوصول والانتهاء إليه مباشرة، والظاهر أنها تصحيف، وإن كان المعنى المراد واحدا لا يختلف.
١ أخرجه البخاري في الصوم باب ٥، ومسلم في الصيام ٦، ٩، ١٧، والترمذي في الصوم باب ٢..
﴿ واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ولاَ تُنظِرُونِ ٧١ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ ومَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ٧٣ ﴾
هذا سياق جديد متصل بما سبق من مقاصد هذه السورة أتم الاتصال، بتفصيله لبعض ما فيها من إجمال، وهو الاحتجاج على مشركي مكة وما حولها وسائر من تبلغهم الدعوة من المكذبين، بأن الله تعالى سيخذلهم وينصر رسوله عليهم كما نصر من قبله من الرسل على أقوامهم المجرمين، فأهلكهم وأنجى المؤمنين.
فقد تقدم في أوائلها قوله :﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ﴾ إلى آخر الآية ١٤، ثم قال في الرد على تكذيبهم إياه بما وعدهم من العذاب ﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ٣٩ ] ثم قال :﴿ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٧ ] جاء هذا في سياق إقامة الحجج العقلية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الوحي، وكون القرآن من عند الله لا من عنده ورأيه وكلامه، والحجج على مضمون الدعوى من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء والتفنن فيها، والتكرار البليغ لمقاصدها، وإنذار أولئك المكذبين بها، فناسب أن يفصل لهم شيئا من ذلك الإجمال من هذا الوجه، فجاء به معطوفا ؛ لأنه مرتبط به متمم له، بخلاف سرد قصص الرسل في سورة الأعراف حيث بدأه بقوله :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] ؛ لأن هذه القصص أوردت هناك مستقلة، لا تفسيرا ولا تفصيلا لجمل قبلها، وأما مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة بكونها من جنس موضوعها العام فلا تدل على هذه الخصوصية العلمية التي بها كانت البلاغة فلسفة عقلية نفسية.
﴿ فَإِن تَولَّيْتُمْ ﴾ أي انصرفتم عني مصرين على إعراضكم عن تذكيري ﴿ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ﴾ أي فما سألتكم على هذا التذكير ولا على غيره من مسائل الدعوة والنصح أدنى شيء من الأجر والمكافآت فتتولوا لثقله عليكم، أو فيضرني أن يفوت علي وأحرمه فأبالي بتوليكم.
﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ﴾ أي ما أجري وثوابي على دعوتكم وتذكيركم إلا على الله الذي أرسلني إليكم، فهو يوفيني إياه سواء آمنتم أو توليتم.
﴿ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي المنقادين المذعنين بالفعل لما أدعوكم إليه أسلمتم أم كفرتم، فلا أترك شيئا مما أمرتكم به ﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ [ هود : ٨٨ ].
﴿ واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ولاَ تُنظِرُونِ ٧١ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ ومَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ٧٣ ﴾
هذا سياق جديد متصل بما سبق من مقاصد هذه السورة أتم الاتصال، بتفصيله لبعض ما فيها من إجمال، وهو الاحتجاج على مشركي مكة وما حولها وسائر من تبلغهم الدعوة من المكذبين، بأن الله تعالى سيخذلهم وينصر رسوله عليهم كما نصر من قبله من الرسل على أقوامهم المجرمين، فأهلكهم وأنجى المؤمنين.
فقد تقدم في أوائلها قوله :﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ﴾ إلى آخر الآية ١٤، ثم قال في الرد على تكذيبهم إياه بما وعدهم من العذاب ﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ٣٩ ] ثم قال :﴿ ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٧ ] جاء هذا في سياق إقامة الحجج العقلية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الوحي، وكون القرآن من عند الله لا من عنده ورأيه وكلامه، والحجج على مضمون الدعوى من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء والتفنن فيها، والتكرار البليغ لمقاصدها، وإنذار أولئك المكذبين بها، فناسب أن يفصل لهم شيئا من ذلك الإجمال من هذا الوجه، فجاء به معطوفا ؛ لأنه مرتبط به متمم له، بخلاف سرد قصص الرسل في سورة الأعراف حيث بدأه بقوله :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] ؛ لأن هذه القصص أوردت هناك مستقلة، لا تفسيرا ولا تفصيلا لجمل قبلها، وأما مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة بكونها من جنس موضوعها العام فلا تدل على هذه الخصوصية العلمية التي بها كانت البلاغة فلسفة عقلية نفسية.
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ ومَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ ﴾ أي فأصروا على تكذيبه بعد أن أقام لهم الحجة بقوله وعمله على حقية دعوته، وبراءته من كل خوف منهم إذا كذبوا، وجاء فيهم إذا آمنوا، فنجيناه هو ومن آمن معه في السفينة التي كان يصنعها بأمرنا لأجل ذلك. ولفظ الفلك هنا مفرد - وهو السفينة- كما عبر به في سورة العنكبوت، وهو يطلق على الجمع أيضا كما قال :﴿ وترى الفلك مواخر فيه ﴾ [ النحل : ١٤ ] ويفرق بينهما بالقرائن، إن لم توصف بالجمع كالمواخر.
﴿ وجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ ﴾ يخلفون المكذبين في الأرض كلها على قلتهم.
﴿ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ بعد أن أنذرهم وأوعدهم العذاب أي وأغرقناهم لأنهم كذبوا بآياتنا.
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴾ أي فانظر أيها الرسول بعين بصيرتك وعقلك كيف كانت عاقبة القوم الذين أنذرهم رسولهم وقوع عذاب الله عليهم فأصروا على تكذيبه، فكذا تكون عاقبة من يصرون على تكذيبك من قومك، وكذلك تكون عاقبة المؤمنين المتبعين لك.
قدم ذكر تنجية المؤمنين واستخلافهم على إغراق المكذبين وقطع دابرهم ؛ لأنه هو الأهم في سياق صدق الوعد والوعيد من وجهين : أولهما تقديم مصداق الوعد لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتسرية حزنه على قومه ومنهم، وثانيهما كونه هو الأظهر في الحجة على أنهما -أي الوعد والوعيد- من الله تعالى القادر على إيقاعهما، على خلاف ما يعتقد المشركون المكذبون المغرورون بكثرتهم وقلة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف الأصل المعهود في المصائب العامة في العادة وهو أنها تصيب الصالح والطالح على سواء، فلا تمييز فيها ولا استثناء، ولكنه هو الذي جرت به سنة الله تعالى في مكذبي الرسل من بعد نوح فكان آية لهم، فلولا أن الأمر بيد الله على وفق وعده ووعيده لما هلك الألوف الكثيرون، ونجا أفراد قليلون لهم صفة خاصة أخرجهم منهم تصديقا لخبر رسولهم، وما سيق هذا النبأ هنا إلا لتقرير هذا المعنى، وغفل عنه الباحثون عن نكتة البلاغة في العدول عن الضمير إلى الاسم الموصول فقالوا : إنها تعجيل المسرة للمؤمنين، والإيذان بأن الرحمة مقدمة على العذاب، ولكن ما قلناه هو المقصود الأول لذاته الذي يقتضيه السياق والحمد لله ملهم الصواب.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ٧٤ ﴾
بين الله تعالى في هذه الآية عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل وسنة من سننه فيهم تكملة لما بينه في حال قوم نوح مع رسولهم، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا كيف يتقون عاقبة المكذبين من قوم نوح وغيرهم، فإن كل سوء وضر علم سببه أمكن اتقاؤه باتقاء سببه إذا كان من عمل الناس الاختياري كالكفر والاعتداء والظلم.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ ﴾ أي بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فيما يأتي من خبرهم معهم، ولهذا أفرد كلمة قومهم فيما يظهر لنا منه، والمراد أرسلنا كل رسول إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا زمانه إلا شعيبا أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة لاتحادهما في اللغة والوطن، وإنما أرسل محمد وحده إلى الناس كافة.
﴿ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ أي فجاء كل رسول منهم قومه بالبينات الدالة على رسالته وصحة ما دعاهم إليه بحسب أفهامهم وأحوالهم العقلية.
﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي فما كان من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله في سبب كفره وهو استنكار الرؤساء، وتقليد الدهماء للآباء والأجداد.
﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ أي مثل هذا الطبع، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت فيهم نطبع على قلوب المعتدين مثلهم في كل قوم كقومك أيها الرسول إذا كانوا مثلهم ﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾ [ الإسراء : ٧٧ ] ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٢ ]، فأما الطبع على القلوب فهو عبارة عن عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها مما يخالفه، كقبول الجاهل المقلد الدليل العلمي على بطلان اعتقاده التقليدي، ورجوع المعاند عن عناده وكبره النفسي، وقد تقدم تفصيله في تفسير ما سبق فيه من الآيات في سور النساء والأعراف والتوبة، ومثله تفسير ﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ [ البقرة : ٧ ] في أوائل سورة البقرة، وأما الاعتداء الذي صار وصفا ثابتا لهؤلاء ( المعتدين ) فمعناه تجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها، فالطبع المذكور أثر طبعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء، وليس عقابا آنفا ( بضمتين أي جديد ) خلقه الله لمنعهم من الإيمان، إذ لو كان كذلك لكانوا معذورين بكفرهم، ولما كان فيه عبرة لغيرهم، بل لكان حجة لهم، وقد فهمت قريش وسائر العرب ما لم يفهمه متكلموا الجبرية من هذه الآية وأمثالها، وهو أنها وصف للعلة والمعلول، والسبب والمسبب، وسنته تعالى في دوام كل منهما بدوام الآخر، لا بذاته وكونه خلقيا لا مفرا منه، بل المفر أمر اختياري ممكن، وهو ترك المعاند لعناده والمقلد لتقليده، إيثارا للحق الذين يقوم عليه الدليل، فهموا هذا فاهتدى الأكثرون بالتدريج، وهلك الذين استحبوا العمى على الهدى في غزوة بدر وغيرها.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ ومَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ ﴾
هذه قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وملئه ملخصة هنا في ١٩ آية مفصلة مرتبة كما نبينه في تفسيرها، وهذه الأربع منها في استنكار فرعون وملئه عن الإيمان وزعمهم أن آيات الله لموسى من السحر، وتعليل تكذيبهم له بأمرين : أحدهما أن اتباعه تحويل لهم عن التقاليد الموروثة عن الآباء، والثاني أنه يسلب سلطانهم منهم وينفرد هو وأخوه بما يتمتعون به من الكبرياء في الأرض، وهذا بمعنى ما تقدم من قصة نوح المختصرة في هذه السورة. وهاك تفسيرهن باختصار :
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ ﴾ أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين بعثناهم إلى أقوامهم وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه -الذين هم أركان دولته- وإلى قومهم القبط بالتبع لهم ؛ لأنهم كانوا مستعبدين لهم يكفرون بكفرهم، ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ أي بعثناهما مؤيدين بآياتنا التسع المفصلة في سورة الأعراف وغيرها.
﴿ فَاسْتَكْبَرُواْ وكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ أي فاستكبر فرعون وملؤه، أي أعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاء به هو الحق، لما كانوا عليه من سعة العلم وصناعة السحر، وكانوا قوما راسخين في الإجرام - وهو الظلم والفساد في الأرض- كما قال تعالى في سورة النمل ﴿ و جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ النمل : ١٤ ].
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ ومَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ ﴾
هذه قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وملئه ملخصة هنا في ١٩ آية مفصلة مرتبة كما نبينه في تفسيرها، وهذه الأربع منها في استنكار فرعون وملئه عن الإيمان وزعمهم أن آيات الله لموسى من السحر، وتعليل تكذيبهم له بأمرين : أحدهما أن اتباعه تحويل لهم عن التقاليد الموروثة عن الآباء، والثاني أنه يسلب سلطانهم منهم وينفرد هو وأخوه بما يتمتعون به من الكبرياء في الأرض، وهذا بمعنى ما تقدم من قصة نوح المختصرة في هذه السورة. وهاك تفسيرهن باختصار :
﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ﴾ وهو آياتنا الدالة على الربوبية والألوهية ﴿ مِنْ عِندِنَا ﴾ ووحينا إلى موسى -كما هو مفصل في أول سورة الشعراء وغيرها- المبطل لادعاء فرعون لهما بقوله :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ] وقوله :﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ [ القصص : ٣٨ ].
﴿ قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي أقسموا أن هذا الذي جاء به موسى من الآيات الدالة على صدقه إنما هو سحر بين ظاهر، وإنما السحر صناعة باطلة هم أحذق الناس بها، فكيف يتبعون ما جاء ينازعهم سلطانهم بها، فماذا قال لهم موسى ؟
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ ومَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ ﴾
هذه قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وملئه ملخصة هنا في ١٩ آية مفصلة مرتبة كما نبينه في تفسيرها، وهذه الأربع منها في استنكار فرعون وملئه عن الإيمان وزعمهم أن آيات الله لموسى من السحر، وتعليل تكذيبهم له بأمرين : أحدهما أن اتباعه تحويل لهم عن التقاليد الموروثة عن الآباء، والثاني أنه يسلب سلطانهم منهم وينفرد هو وأخوه بما يتمتعون به من الكبرياء في الأرض، وهذا بمعنى ما تقدم من قصة نوح المختصرة في هذه السورة. وهاك تفسيرهن باختصار :
﴿ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ ﴾ أي قال متعجبا من قولهم : أتقولون هذا الذي قلتم للحق الظاهر، الذي هو أبعد الأشياء عن كيد السحر الباطل، لما جاءكم وعرفتموه واستيقنته أنفسكم، حذف مقول القول لدلالة ما قبله عليه وهو قولهم :" إن هذا لسحر مبين "، وكذا ما بعده، وهو قوله منكرا له، متعجبا منه :﴿ أَسِحْرٌ هَذَا ﴾ أي إن هذا الذي ترونه من آيات الله بأعينكم، وترجف من عظمته قلوبكم، لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تصنعه أيديكم.
﴿ ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ أي والحال المعروف عندكم أن الساحرين لا يفوزون في أمور الجد العملية من دعوة دين وتأسيس ملك وقلب نظام، وهو ما تتهمونني به على ضعفي وقوتكم، لأن السحر أمور شعوذة وتخييل، لا تلبث أن تفتضح وتزول، يدل على هذا جوابهم له.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ ومَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ ﴾
هذه قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وملئه ملخصة هنا في ١٩ آية مفصلة مرتبة كما نبينه في تفسيرها، وهذه الأربع منها في استنكار فرعون وملئه عن الإيمان وزعمهم أن آيات الله لموسى من السحر، وتعليل تكذيبهم له بأمرين : أحدهما أن اتباعه تحويل لهم عن التقاليد الموروثة عن الآباء، والثاني أنه يسلب سلطانهم منهم وينفرد هو وأخوه بما يتمتعون به من الكبرياء في الأرض، وهذا بمعنى ما تقدم من قصة نوح المختصرة في هذه السورة. وهاك تفسيرهن باختصار :
﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ ﴾ هذا استفهام توريط وتقرير تجاه ما أورده موسى من استفهام الإنكار والتعجيب، فحواه أتقر وتعترف بأنك جئتنا لتصرفنا وتحولنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الدين القومي الوطني لنتبع دينك، وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها في أرض مصر كلها ؟ يعنون أنه لا غرض لك من دعوتك إلا هذا، وإن لم تعترف به اعترافا، جعلوا الخطاب الخاص بالدعوة والغرض منها لموسى ؛ لأنه هو الداعي لهم بالذات، وأشركوا معه أخاه في ثمرة الدعوة وفائدتها ؛ لأنها تكون مشتركة بينهما بالضرورة.
﴿ ومَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ ‏ أي وما نحن بمتبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذين تقلده عامتنا، ويسلبنا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا وهم الملك وأركان دولته وبطانته وحواشيه وهذان الأمران هما اللذان كانا يمنعان جميع الأقوام من اتباع الأنبياء والمصلحين في كل زمان.
﴿ وقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١ ويُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢ ﴾
هذه الآيات الأربع في خلاصة ما قاوم به فرعون دعوة موسى لتأييد ادعائه أنه ساحر، وصرف قومه عن اتباعه لعدم تمييزهم بين السحر وآيات الله له.
﴿ وقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ أي ذاك ما قاله ملأ فرعون لموسى وأخيه بحضرته، وقال فرعون لملأه بعد ما رأوا من إصرار موسى على دعوة، وعدم مبالاته بالتصريح له بما يدعون أو يظنون من مراده : ائتوني بكل ساحر واسع العلم، راسخ فيه، متقن للسحر بالعمل، كما عبر عنه في آية أخرى ﴿ بكل سحار عليم ﴾ [ الشعراء : ٣٧ ].
﴿ وقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١ ويُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢ ﴾
هذه الآيات الأربع في خلاصة ما قاوم به فرعون دعوة موسى لتأييد ادعائه أنه ساحر، وصرف قومه عن اتباعه لعدم تمييزهم بين السحر وآيات الله له.
﴿ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ ﴾ المطلوبون الموصوفون بما ذكر ﴿ قَالَ لَهُم مُّوسَى ﴾ بعد أن خيروه بين أن يلقي ما عنده أولا أو يلقوا هم ما عندهم كما هو مبين في سورتي الأعراف وطه ﴿ أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ﴾ ليترتب عليه إبطال الباطل وإظهار الحق.
﴿ وقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١ ويُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢ ﴾
هذه الآيات الأربع في خلاصة ما قاوم به فرعون دعوة موسى لتأييد ادعائه أنه ساحر، وصرف قومه عن اتباعه لعدم تمييزهم بين السحر وآيات الله له.
﴿ فَلَمَّا أَلْقَواْ ﴾ ما ألقوه من حبالهم وعصيتهم الصناعية السحرية ﴿ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْر ﴾ أي هذا الذي جئتم به وألقيتموه أمامنا هو السحر لا ما جئت به من آيات الله تعالى، وسماه فرعون وملؤه سحرا.
﴿ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ ﴾ أي سيظهر بطلانه للناس وأنه صناعة خادعة، لا آية خارقة صادعة، فالجملة استئنافية لبيان ما يوقن به موسى من مآل هذا السحر، ويجوز أن تكون خبرا لما قبلها، ويكون التقدير : ما جئتم به الذي هو السحر، إن الله سيبطله بما جئت به من الحق، وعلل حكمه بقوله :﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾، وهو قاعدة عامة مبينة لسنة الله في تنازع الحق والباطل، والصلاح والفساد، ويدخل فيها سحرهم فإنه باطل وفساد، أي لا يجعل عمل المفسدين صالحا، والسحر من عمل فرعون وقومه المفسدين.
﴿ وقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١ ويُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢ ﴾
هذه الآيات الأربع في خلاصة ما قاوم به فرعون دعوة موسى لتأييد ادعائه أنه ساحر، وصرف قومه عن اتباعه لعدم تمييزهم بين السحر وآيات الله له.
﴿ ويُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي يثبت الحق الذي فيه صلاح الخلق وينصره على ما يعارضه من الباطل بكلماته التكوينية وهي مقتضى إرادته، وكلماته التشريعية التي يوحيها إلى رسله، ومنها وعده بنصري على فرعون وإنقاذ قومي من عبوديته وظلمه.
﴿ ولَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ كفرعون وقومه. وقد سبق تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنفال [ الآيتان : ٧ ٨ ].
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣ وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥ ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٨٦ وأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وأَخِيهِ أَن تَبَوءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧ ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان ما كان من شأن موسى مع قومه بني إسرائيل الذين أرسله ليخرجهم من مصر، في إثر ما كان من شأنه مع فرعون وملئه.
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ﴾ المتبادر إلي فهمي أن عطف هذه الجملة على ما قبلها بالفاء لإفادة السببية أو التفريع، أي إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى بعد خيبة السحرة وظهور حقه على باطلهم، ثم عزمه على قتله كما أنبأ الله تعالى بقوله :﴿ وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [ غافر : ٢٦ ] يعني بالفساد الثورة والخروج على السلطان، كما قتل من آمن به من السحرة. كل هذا أوقع الخوف والرعب في قلوب بني إسرائيل قوم موسى فما آمن له إلا ذرية من قومه وهم الأحداث من المراهقين والشبان، وقيل : قوم فرعون، ولكن من آمن به منهم كان يكتم إيمانه، ولا يقال آمن له إلا من اتبعه مؤمنا، ولم يكونوا صغارا. والذرية في اللغة الصغار من الأولاد، قال الراغب وإن كان يقع على الصغار والكبار معا في التعارف، ويستعمل للواحد والجمع، وأصله الجمع.
﴿ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾ أي آمنوا على خوف من فرعون وملئهم- أي أشراف قومهم الجبناء المرائين الذي هم عرفاؤهم عند فرعون- فيما يطلب هو منهم، فإن الملوك يستذلون الشعوب ويستعبدونهم برؤساء وعرفاء منهم، وقيل : ملأ فرعون، وجمع ضميره للتعظيم، على خوف منه أن يفتنهم عن الإيمان لموسى، واتباع دينه، بالتعذيب والإرهاق. الفتون الابتلاء والاختبار الشديد للحمل على الشيء أو على تركه، واستعمل في الاضطهاد والتعذيب للارتداد عن الدين بكثرة كما تقدم في تفسير ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
﴿ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ ﴾ أي والحال أن فرعون عات شديد العتو مستبد غالب قوي القهر في أرض مصر، فهو جدير بأن يخاف منه. فالمراد بعلوه قهره واستبداده كما حكى الله عنه بقوله :﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ].
﴿ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ أي المتجاوزين حدود الرحمة والعدل، إلى الظلم والقتل، والعدوان والبغي، وغمط الحق واحتقار الخلق ( وهو معنى الكبرياء ).
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣ وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥ ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٨٦ وأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وأَخِيهِ أَن تَبَوءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧ ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان ما كان من شأن موسى مع قومه بني إسرائيل الذين أرسله ليخرجهم من مصر، في إثر ما كان من شأنه مع فرعون وملئه.
﴿ وقَالَ مُوسَى ﴾ لمن آمن من قومه -وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد- مرشدا ومثبتا لهم ﴿ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ أي إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان فعليه توكلوا، وبوعده فثقوا، إن كنتم في إيمانكم مستسلمين مذعنين بالفعل، وإنما يكون الإيمان يقينا إذا صدقه العمل وهو الإسلام، وهذا لا يدل على إيمان جميع قومه كما قيل، فالإيمان بالله غير الإيمان لموسى المتضمن لمعنى الإسلام والاتباع المشار إليه بقوله :﴿ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ وهم قد طلبوا منه بعد نجاتهم أن يجعل لهم آلهة من الأصنام، ثم اتخذوا العجل المصنوع وعبدوه.
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣ وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥ ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٨٦ وأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وأَخِيهِ أَن تَبَوءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧ ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان ما كان من شأن موسى مع قومه بني إسرائيل الذين أرسله ليخرجهم من مصر، في إثر ما كان من شأنه مع فرعون وملئه.
﴿ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي فامتثلوا الأمر، إذ علموا أنه يتوقف عليه إنجاز الوعد، وصرحوا به في القول، مع الدعاء بأن يحفظهم الله من فتنة القوم الظالمين بالفعل، فإن التوكل على الله الذي هو أكبر مقامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد، والدعاء لا يصح ولا يقبل فيستجاب إلا إذا كان مسبوقا أو مقارنا لاتخاذ الأسباب، وهو أن تعمل ما تستطع، وتطلب من الله أن يسخر لك ما لا تستطيع. ولفظ " فتنة " هنا يحتمل معنى الفاتن والمفتون، فكأنهم قالوا : ربنا لا تسلطهم علينا فيفتنونا، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا، أو نضعف فيه فرارا من شدة ظلمهم لنا، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرا وعنادا وظلما بظهورهم علينا، ويظنوا أنهم على الحق وأننا على الباطل، ومن المعقول والثابت –وبالتجارب- أن سوء حال المؤمنين وأهل الحق في أي حال من ضعف أو فقر أو عمل مذموم يجعلهم موضعا أن موضوعا لافتتان الكفار وأهل الباطل بهم، باعتقاد أنهم هم خير منهم، كما قال تعالى :﴿ وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] وقال :﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] فكيف إذا خذل أهل الحق حقهم، وكفروا نعمة ربهم ؟
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣ وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥ ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٨٦ وأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وأَخِيهِ أَن تَبَوءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧ ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان ما كان من شأن موسى مع قومه بني إسرائيل الذين أرسله ليخرجهم من مصر، في إثر ما كان من شأنه مع فرعون وملئه.
﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ أي نجنا من سلطانهم وحكمهم ؛ لأن حكم الكافر لا يطاق. ومثل هذا الدعاء في جملته قوله تعالى في سياق التأسي بإبراهيم والذين آمنوا معه في أقوالهم لقومهم وأفعالهم وتوكلهم ﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوكَّلْنَا وإِلَيْكَ أَنَبْنَا وإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ الممتحنة : ٤، ٥ ]، وما أجدر المسلمين اليوم بهذه الأسوة، وتجديد الإنابة، وتكرار هذا الدعاء خاشعين معتبرين مستعبرين، فقد أصبحوا فتنة للقوم الكافرين.
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣ وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥ ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٨٦ وأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وأَخِيهِ أَن تَبَوءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧ ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان ما كان من شأن موسى مع قومه بني إسرائيل الذين أرسله ليخرجهم من مصر، في إثر ما كان من شأنه مع فرعون وملئه.
﴿ وأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وأَخِيهِ أَن تَبَوءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً ﴾ يقال تبوأ الدار : اتخذها مبوّءا أو مباءة، أي مسكنا ثبتا، وملجأ يبوء إليه، أي يرجع كلما فارقه لحاجة، وبوأها غيره. وقوله :﴿ أن تبوءا ﴾ تفسير لأوحينا ؛ لأنه بمعنى قلنا لهما : اتخذا لقومكما بيوتا في مصر تكون مساكن وملاجئ يبوءون إليها ويعتصمون بها.
﴿ واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ أي متقابلة في وجهة واحدة، فالقبلة في اللغة ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه، ومنه قبلة الصلاة- وهي أخص- ويصح الجمع هنا بين المعنيين العام والخاص بقرينة قوله ﴿ وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ أي فيها متوجهين إلى وجهة واحدة ؛ لأن الاتحاد في الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حكمة تسوية الصفوف في الصلاة :" ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم " ١، وحكمة هذا أن يكونوا مستعدين لتبليغها إياهم ما يهمهم ويعينهم مما بعثنا لأجله وهو إنجاؤهم من عذاب فرعون بإخراجهم من بلاده، واختلف المفسرون في الجهة التي أمروا باستقبالها والتوجه إليه في الصلاة وهي لا تعلم إلا بنص ولا نص، ﴿ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم. خص الله موسى بهذا الأمر ( التبشير ) لأنه من أمر الوحي والتبليغ المنوط به، وأشرك هارون معه في الأمر الذي قبله ؛ لأنه تدبير عملي هو وزيره المساعد له على تنفيده.
١ أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١٢٢، وأبو داود في الصلاة باب ٩٣، ٩٥، والترمذي في الصلاة باب ٥٤، والنسائي في الإمامة باب ٢٣، ٢٥، ٢٦، وابن ماجه في الإقامة باب ٤٥، والدارمي في الصلاة باب ٤٩، ٥١، وأحمد في المسند ١/٤٥٧، ٤/١٢٢، ٢٧٦، ٢٨٥، ٢٩٧، ٣٠٤، ٥/١٦٤..
﴿ وقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأهُ زِينَةً وأَمْوالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا ولاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٨٩ ﴾
هاتان الآيتان هما الرابطتان بين سيرة موسى وهارون مع فرعون وقومه في مصر، وبين ما انتهت إليه من نصر الله له عليه، وإنجاء بني إسرائيل من ظلمه، وإهلاكه عقابا له كما وقع لنوح مع قومه.
﴿ وقَالَ مُوسَى ﴾ بعد أن أعد بني إسرائيل للخروج من مصر إعدادا دينيا دنيويا، متوجها إلى الله تعالى في إتمام الأمر، بعد قيامه بما يقدر عليه هو وبنو إسرائيل من الأسباب.
﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأهُ زِينَةً وأَمْوالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءهم دون دهمائهم من الصناع والزراع والجند والخدم زينة من الحلي والحلل والآنية والماعون والأثاث والرياش، وأموالا كثيرة الأنواع والمقادير، يتمتعون وينفقون منها في حظوظ الدنيا من العظمة الباطلة والشهوات البدنية بدون حساب.
﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ﴾ أي لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح، ذلك بأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك وتخضع رقاب الناس لهم، كما قال تعالى :﴿ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ﴾ [ العلق : ٦، ٧ ] وذلك دأب فراعنة مصر، به تشهد آثارهم وركازهم التي لا تزال تستخرج من برابيهم١ ونواويس قبورهم إلى يومنا هذا الذي أكتب فيه تفسير هذه الآيات، وتحفظ في دار الآثار المصرية، ويوجد مثلها دور أخرى في عواصم بلاد الإفرنج ملأى بأمثالها. فاللام في قوله :﴿ ليضلوا ﴾ تسمى لام العاقبة والصيرورة، وهي الدالة على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به، كقوله تعالى في موسى عليه السلام ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَنًا ﴾ [ القصص : ٨ ] ويميز بينها وبين لام كي الدالة على علة الفعل بالقرينة. وجعلها بعضهم هنا منها، وحملوها على الاستدراج، أي آتيتهم ذلك لكي يضلوا الناس فيستحقوا العقاب.
وقد يعززه قوله :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ ﴾ يقال طمس الأثر وطمسته الريح إذا زال حتى لا يرى أولا يعرف ﴿ ولَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ﴾ [ يس : ٦٦ ]، وهو يصدق بالعمى بعدم الانتفاع بها كما سبق قريبا في قوله :﴿ ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ﴾ [ يونس : ٤٣ ] واتفقوا على أن المراد بالعمى هنا عمى البصيرة لا البصر، والمعنى هنا ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب حرثهم وأنعامهم وتنقص مكاسبهم وثمراتهم وغلاتهم فيذوقوا ذل الحاجة.
﴿ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ أي اطبع عليها، وزدها قساوة وإصرارا وعنادا، حتى يستحقوا تعجيل عقابك فتعاقبهم.
﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ هذا جواب للدعاء أو دعاء آخر بلفظ النهي متمم له.
وقد روي أن موسى دعا بهذا الدعاء، وأمن هارون عليهما السلام كما هو المعتاد، فاستجاب الله تعالى لهما بقوله.
١ البرابي: مبان بشكل غريب، جمع بربي، بالفتح والقصر، وقد تكتب بربا، وهي كلمة قبطية معناها المعبد والهيكل، والنواويس: صناديق من الحجارة توضع فيها جثث الموتى. والركاز الأموال التي كان الأقدمون يدفنونها في الأرض من ركزه إذا أثبته، فهو ككتاب بمعنى مكتوب..
﴿ وقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأهُ زِينَةً وأَمْوالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا ولاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٨٩ ﴾
هاتان الآيتان هما الرابطتان بين سيرة موسى وهارون مع فرعون وقومه في مصر، وبين ما انتهت إليه من نصر الله له عليه، وإنجاء بني إسرائيل من ظلمه، وإهلاكه عقابا له كما وقع لنوح مع قومه.
﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوتُكُمَا ﴾ أي قبلت، وإذا قبلت نفذت.
﴿ فَاسْتَقِيمَا ﴾ على ما أنتما عليه من دعوة فرعون وقومه إلى الحق، ومن إعداد بني إسرائيل للخروج من مصر. وعن ابن عباس رضي الله عنه : فامضيا لأمري وهو الاستقامة.
﴿ ولاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي ولا تسلكان طريق الذين لا يعلمون سنتي في خلقي، وإنجاز وعدي لرسلي، فتستعجلا الأمر قبل أوانه، وتستبطئا وقوعه في إبانه.
هذا وإن في قصة موسى وفرعون في سفر الخروج ما يفسر استجابة هذا الدعاء بما يوافق ما قلناه هنا من إرسال الله النوازل على مصر وأهلها، ولجوء فرعون وآله إلى موسى عند كل نازلة منها ليدعو ربه فيكشفها عنهم فيؤمنوا به، حتى إذا ما كشفها قسّى الرب قلب فرعون فأصر على كفره. وقد فصلنا هذا في تفسير قوله :[ الآيات : ١٣٣ ١٣٥ ] من سورة الأعراف، ومنه تعلم أن كل ما خالفها من أقوال المفسرين في معنى الطمس على أموالهم فهو من أباطيل الروايات الإسرائيلية التي كان من مقاصد كعب الأحبار - وأمثاله منها ( كما نرى )- صد اليهود عن الإسلام، بما يرونه في تفسير المسلمين للقرآن مخالفا لما هو متفق عليه عندهم وعند غيرهم من المؤرخين في وقائع عملية وأمور حسية.
﴿ *وجَاوزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠ آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ٩٢ ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان العبرة بآخر القصة، وما كان من عاقبة تأييد الله لموسى وأخيه الضعيفين بأنفسهما، على فرعون وقومه أعظم أهل الأرض قوة ودولة.
﴿ وجَاوزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر ﴾ يقال جاز المكان وجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه. وأصله من جوز الطريق ونحوه وهو وسطه، وتسمية الجوزاء مأخوذة من تعرضها في جوز السماء أي وسطها، ومجاوزة الله البحر بهم عبارة عن كونهم جاوزوه بمعونته تعالى وقدرته وحفظه، إذ كان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم كما تقدم في سورة البقرة والأعراف.
﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وعَدْواً ﴾ أي لحقهم فأدركهم ظلما وعدوانا عليهم ليفتك بهم، أو يعيدهم إلى مصر حيث يتعبدهم ويسومهم سوء العذاب.
﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ﴾ أي فخاض البحر وراءهم حتى إذا وصل إلى حد الغرق قال ﴿ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ ﴾ أي قال قبل أن يغرق- وهو يدل على أن البحر لم يطبق عليه دفعة واحدة- : آمنت أنه لا إله بالحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى.
﴿ وأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي أنا فرد من جماعة المذعنين له، المنقادين لأمره، بعد ما كان من كفر الجحود بآياته والعناد لرسوله، يعني أنه جمع بين الإيمان الذي هو التصديق بالقلب، والإسلام الذي هو الإذعان والخضوع بالفعل، بدون امتياز لعظمة الملك، وكان من قبل جاحدا، أي مصدقا غير مذعن ولا خاضع، بدليل قوله تعالى فيه وفي آله ﴿ وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ النمل : ١٤ ] يعني آيات موسى. وهذه هي العاقبة، وقد أجيب فيها فرعون عن دعواه بقوله تعالى - الذي يعرف بلسان الحال أو بقول جبريل عليه السلام- :﴿ آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين ﴾.
﴿ *وجَاوزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠ آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ٩٢ ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان العبرة بآخر القصة، وما كان من عاقبة تأييد الله لموسى وأخيه الضعيفين بأنفسهما، على فرعون وقومه أعظم أهل الأرض قوة ودولة.
﴿ آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين ﴾ أي أتسلم الآن، أو تدعي الإسلام وإذعان الطاعة والانقياد حيث لا محل له ولا إمكان بما حال دونه من الهلاك، وقد عصيت قبله، وكنت من المفسدين في الأرض، الظالمين للعباد، والمراد أن دعوى الإسلام الآن باطلة، والإيمان بدون الإسلام مع إمكانه لا يقبل، فكيف يقبل وقد صار اضطرارا لا معنى لقبوله ؛ لأنه انفعال لا فعل لصاحبه، وجملة القول : إن إسلامه كان كما قال الشاعر :
أتت وحياض الموت بيني وبينها***وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
وقد تقدم مثل هذا الاستفهام الإنكاري في هذه السورة، وهو قوله تعالى في المكذبين بوعد الله تعالى ووعيده بما كان يحملهم على استعجال عذابه :﴿ أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ﴾ [ يونس : ٥١ ]، وسيأتي بعد بضع آيات منها أن الإيمان لا ينفع عند وقوع عذاب الاستئصال الذي هو نهاية أجل القوم، كما أنه لا ينفع حتى إذا حضر أحدهم الموت الشخص، كما تقدم في قوله تعالى :﴿ ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ولاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ ﴾ [ النساء : ١٨ ]، ومن البديهي أن التوبة من الكفر والمعصية إنما تنفع بالرجوع إلى الطاعة. على أن اليائس من الشيء بالفعل لا يعقل أن يكون صادقا في ادعائه إياه أو طلبه له بالقول. ولعل فرعون أراد بقوله حينئذ أنه كان يرجو بهذا أن ينجيه الله تعالى كما نجاه وقومه من كل نازلة من عذاب الله حلت به وبقومه ؛ إذ كان يقول لموسى ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ولَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٤ }، ولكن تلك النوازل إنما كانت لأجل إرسال بني إسرائيل مع موسى فهي غايتها، ولم تكن عقابا على الإصرار على كفر الجحود والعناد الذي هو شر أنواع الكفر وأدلها على خبث طوية صاحبه، كذا العقاب الأخير بعد نجاة بني إسرائيل منه رغم أنفه.
﴿ *وجَاوزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠ آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ٩٢ ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان العبرة بآخر القصة، وما كان من عاقبة تأييد الله لموسى وأخيه الضعيفين بأنفسهما، على فرعون وقومه أعظم أهل الأرض قوة ودولة.
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ قال أبو جعفر بن جرير الطبري : يقول تعالى ذكره لفرعون : فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ينظر إليك من كذب بهلاكك. ﴿ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ يقول : لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، فينزجرون عن معصية الله والكفر به، والسعي في أرضه بالفساد. والنجوة الموضع المرتفع من الأرض. ومنه قول أوس بن حجر :
فمن بعقوته كمن بنجوته***والمستكنُّ كمن يمشي بقرواح١
ثم ذكر روايته عمن قال بهذا القول، وقال أهل اللغة : سمي المكان المرتفع نجوة ونجاة وزاد بعضهم : منجى لأن من عليه ينجو من السيل، وإنما دفعه ودفعهم إلى تفسير الآية بهذا الوجه من اللغة أن إنجاء الإنسان من الغرق إنما يكون بخروجه حيا ببدنه ونفسه، كما تقدم قريبا في إنجاء نوح ومن معه في الفلك، وكل استعماله في القرآن بمعنى النجاة من العذاب، كإنجاء بني إسرائيل من فرعون وآله، وقال بعضهم : إن التعبير بالتنجية تهكم به، وأن الحكمة بذكر البدن أنه يخرج جسده سالما ليعرف. وقيل : إن المراد بالبدن الدرع، فهو من أسمائها في اللغة، وإنما محل العبرة أن يلفظه البحر ببدنه ليعرف فيعتبر بنو إسرائيل -الذي قيل إنهم شكوا في غرقه- ويعتبر القبط الذين عبدوه، ولذلك قيل : إن درعه كانت معروفة، وأنها من الذهب، أو كان له فوق درع الزرد درع أخرى من الذهب، ولكن الدروع تقتضي رسوب الغريق في البحر إلا أن يجرفه الموج. وأما العبرة لمن بعده فهي أعم : هي ما سيقت القصة لأجله من كونها شاهدا كالتي قبلها على صدق وعد الله لرسله، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات- بل هذه السورة كلها - لإقامة حجج الله عليهم في هذه المسألة قبل غيرهم، لأنهم أول من بلغته الدعوة.
وقوله تعالى :﴿ وإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ تعريض بهم، وأكده هذا التأكيد لما تقتضيه شدة الغفلة من قوة التنبيه، أي إنهم لشديدو الغفلة عنها على شدة ظهورها، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها، ولا يعتبرون بها، وإنما يمرون عليها معرضين كما يمرون على مسارح الأنعام، وفيه ذم للغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها للاعتبار والاتعاظ بها، ومن العجيب أن يكون أهل القرآن منهم، كلا، إنه حجة على الغافلين، بريء منهم.
١ يروى صدر البيت:
فـمن بـنجوته كـمـن بـعقـوته
والبيت من البسيط، وهو لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ١٥، ولسان العرب (قرح)، (نجا)، وكتاب العين ٣/٤٤، ٦/١٨٦، ومجمل اللغة ٤/٣٨٤، وديوان الأدب ٢/٧٣، وتهذيب اللغة ١١/ ٢٠١، وتاج العروس (قرح)، وأمالي القالي ١/١٧٧، ولأوس بن حجر في ديوانه ص ١٦، والشعر والشعراء ص ٢١٤، والأغاني ١١/٧٥، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥/٣٩٨، والمخصص ٩/١٠٣..

﴿ ولَقَدْ بَوأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوأَ صِدْقٍ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٩٣ ﴾
هذه الآية خاتمة هذه القصة، ومنتهى العبرة فيها لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلم والجاحدين من قومه المغرورين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم في موسى، والجاحدين لآياته من فرعون وقومه، وقد كانوا أكثر منهم عددا، وأشد قوة، وأعظم زينة، وأوفر ثروة، وسنة الله تعالى في موسى ومن قبله واحدة، وقصته كقصة نوح في العاقبة، وأما نصر الله لمحمد نبي الرحمة وإنجاز وعده له، قد جرى على وجه أتم وأكمل في غايته، وإن لم يكن غريبا في صورته، وهو أن الله تعالى أهلك أكثر زعماء أعدائه المشركين، وأخضع له الآخرين، وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين، وأعطاهم أعظم ملك في العالمين، ومنه ما كان أعطى موسى من قبل وهو فلسطين. قال :
﴿ ولَقَدْ بَوأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوأَ صِدْقٍ ﴾ قلنا آنفا : إن المبوأ مكان الإقامة الأمين، وأضيف إلى الصدق لدلالته على صدق وعد الله تعالى لهم به، وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية المعروفة بفلسطين.
﴿ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ فيه، وهي التي أشير إليها في وصف أرضها من كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا، وما فيها من الغلات والثمرات والأنعام، وكذا صيد البر والبحر، وقد بينا من قبل ما كان من وعد الله لهم بهذه الأرض المباركة على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومن أيلولة هذه الأرض من بعدهم لذرية إبراهيم من العرب بعد حرمان اليهود منه، تصديقا لوعيد أنبيائهم لهم على كفرهم بنعم الله تعالى أولا، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بمحمد رسول الله النبي الأمي الذي وعدهم به على لسانه ولسان من قبله كما تقدم تفصيله في تفسير سورة الأعراف، وأشير إليه هنا بقوله :﴿ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ﴾ على قول بعض المفسرين : إن المراد بالعلم هنا محمد صلى الله عليه وسلم أو رسالته أو القرآن الذي هو أكمل وأتم ما أنزل الله من علم الدين، وقوله تعالى في سياق الرد على أهل الكتاب ﴿ لكن الله يعلم بما أنزل إليك أنزله بعمله ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] وقوله :﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ﴾ [ هود : ١٤ ] وقوله :﴿ بكتاب فصلناه على علم ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ] فقد كانوا متفقين على بشارة أنبيائهم به قبل بعثته، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وقال آخرون -وهو الأظهر- : إن المراد هنا علم الدين مطلقا، وقد اختلفوا فيه كغيرهم ممن أوتوا الكتب من وجوه فصلناها في تفسير الآية العامة في الاختلاف وهي ( ٢ : ٢١٣ )، وفي الآية ١٩ من هذه السورة وما هي ببعيد.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ إذ جعلوا الدواء عين الداء في أمر الدين بعد إذ أنزل عليهم الكتاب ليحكم بينهم فاختلفوا في الكتاب بغيا بينهم.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٩٤ ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٩٥ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ٩٦ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٩٧ ﴾
هذه الآيات الأربع فذلكة هذا السياق الذي كان ذكر قصص الأنبياء شواهد فيه، وهي تقرير صدق القرآن في دعوته ووعده ووعيده، وكونه لا مجال للامتراء فيه، وبيان الداعية النفسية للمكذبين بآياته، وتوجيه الاعتبار إلى أهل مكة مقرونا بالإنذار، بأسلوب التعريض والتلطف في العبارة، على حد : إياك أعني واسمعي يا جاره.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي فإن كنت أيها الرسول في شك مما أنزلنا إليك في هذه الشواهد من قصة موسى ونوح وغيرهما على سبيل الفرض والتقدير، الذي ذكر على عادة العرب في تقدير الشك في الشيء ليبني عليه ما ينفي احتمال وقوعه أو ثبوته أمرا أو نهيا أو خبرا، كقول أحدهم لابنه : إن كنت ابني فكن شجاعا، أو فلا تكن بخيلا، أو فإنك ستكون، أو ستفعل كذا ؛ بل يفرضون سؤال الديار والأطلال أيضا، ومنه قول المسيح في جواب سؤال الله تعالى إياه ﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] وهذه الجملة الشرطية محل الشاهد، فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقل ذلك، ولكنه يفرضه ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله منه.
وبعض العلماء يجري على هذا الأسلوب، فيشكك تلميذه أو مناظره فيما لا شك فيه عندهما ليبني عليه حكما آخر. ويجب في مثل هذا أن يكون فعل بالشرط بأن التي وضعت للدلالة على عدم وقوعه أو تنزيله منزلة ما لا يقع، دون إذا الدالة على أن الأصل في فعل شرطها الوقوع.
﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ﴾ هذا جواب الشرط المقدر. قال ابن عباس : لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، وروي مثله عن سعيد بن جبير والحسن البصري قالاه فهما لغويا، وروي عن قتادة خبرا قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا أشك ولا أسأل "، ولم يسم الصحابي الذي ذكره، فهو مرسل، والمراد بالكتاب جنسه، أي فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى، فإنهم يعلمون أن ما أنزلناه إليك من الشواهد حق لا يستطيعون إنكاره، وقال بعض المفسرين : إن المراد سؤال من آمن منهم، كعبد الله بن سلام من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى، ولا حاجة إليه، والآية بل السورة نزلت في مكة، ولم يكن أحد من أهل الكتاب آمن.
ومما يؤكد كون السؤال فرضا قوله :﴿ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ فهذه الشهادة المؤكدة بالقسم من ربه، تجتث احتمال إرادة الشك والسؤال بالفعل من أصله، ويزيدها تأكيدا قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ أي من فريق الشاكين الذين يحتاجون إلى السؤال، وهذا النهي والذي بعده يدلان على أن فرض وقوع الشك والسؤال فيما قبلهما عنه تعريض بالشاكين والممترين والمكذبين له صلى الله عليه وسلم من قومه.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٩٤ ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٩٥ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ٩٦ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٩٧ ﴾
هذه الآيات الأربع فذلكة هذا السياق الذي كان ذكر قصص الأنبياء شواهد فيه، وهي تقرير صدق القرآن في دعوته ووعده ووعيده، وكونه لا مجال للامتراء فيه، وبيان الداعية النفسية للمكذبين بآياته، وتوجيه الاعتبار إلى أهل مكة مقرونا بالإنذار، بأسلوب التعريض والتلطف في العبارة، على حد : إياك أعني واسمعي يا جاره.
﴿ ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ يعني أن كل من كان من المكذبين فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن فرض أنه أول المؤمنين محمد رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وأن الممترين الشاكين فيما أنزل إليك كالمكذبين بآيات الله جحودا بها وعنادا، كلاهما سواء في الخسران المذكور لحرمان الجميع من الاهتداء بها وما له من ربح سعادة الدنيا والآخرة. وهذا النوع من الأمر والنهي للمؤتمر المنتهي والمراد غيره على سبيل التعريض أبلغ من قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ﴾ [ سبأ : ٢٤ ]، ولكل منهما موقع وتأثير خاص في استمالة الكافرين إلى التأمل والتفكر في مضمون الدعوة.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٩٤ ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٩٥ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ٩٦ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٩٧ ﴾
هذه الآيات الأربع فذلكة هذا السياق الذي كان ذكر قصص الأنبياء شواهد فيه، وهي تقرير صدق القرآن في دعوته ووعده ووعيده، وكونه لا مجال للامتراء فيه، وبيان الداعية النفسية للمكذبين بآياته، وتوجيه الاعتبار إلى أهل مكة مقرونا بالإنذار، بأسلوب التعريض والتلطف في العبارة، على حد : إياك أعني واسمعي يا جاره.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة العذاب من ربك، وهي كلمة التكوين الدالة على سنته فيمن فقدوا الاستعداد للاهتداء، لا يؤمنون لرسوخهم في الكفر والطغيان، وإحاطة خطاياهم وجهالتهم بهم من كل مكان، وإعراضهم عن آيات الإيمان، هذا معنى قوله :﴿ لا يؤمنون ﴾ لا أنه تعالى منعهم من الإيمان منعا خلقيا قهريا لا كسب لهم فيه ولا اختيار. وهذا بمعنى الآية ٣٣ من هذه السورة فراجع تفسيرها.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٩٤ ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٩٥ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ٩٦ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٩٧ ﴾
هذه الآيات الأربع فذلكة هذا السياق الذي كان ذكر قصص الأنبياء شواهد فيه، وهي تقرير صدق القرآن في دعوته ووعده ووعيده، وكونه لا مجال للامتراء فيه، وبيان الداعية النفسية للمكذبين بآياته، وتوجيه الاعتبار إلى أهل مكة مقرونا بالإنذار، بأسلوب التعريض والتلطف في العبارة، على حد : إياك أعني واسمعي يا جاره.
﴿ ولَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾ من الآيات الكونية كآيات موسى التي اقترحوها عليك أيها الرسول، والآيات المنزلة كآيات هذا القرآن العلمية العقلية الدالة بإعجازها على كونها من عند الله، وعلى حقية ما تدعوهم إليه وتنذرهم إياه.
﴿ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ بأعينهم، ويذوقوه بوقوعه بهم، وحينئذ يكون إيمانهم اضطراريا لا يعد فعلا من أفعالهم، ولا يترتب عليه عمل يطهرهم ويزكي أنفسهم، بل يقال لهم ﴿ آلآن وقد كنتم به تستعجلون ﴾ [ يونس : ٥١ ] كما قيل لفرعون ﴿ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾ [ يونس : ٩١ ].
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ٩٨ ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ٩٩ ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٠ ﴾
هذه الآيات الثلاث تفريع على اللواتي قبلهن وتكميل لهن في بيان سنة الله في الأمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدين للأمور المتضادة من الإيمان والكفر، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها على وفقها.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ﴾ لولا هذه للتخضيض كما قال أئمة اللغة والنحو. والمراد بالقرية أهلها، وهم أقوام الأنبياء، فإنهم كلهم بعثوا في أهل الحضارة والعمران دون البادية. أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنت بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم، فنفعها قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به، أي أنه لم يؤمن قوم منهم برمتهم، فإن التحضيض يستلزم الجحد.
﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ ﴾ قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم من بينهم، وروي أنهم رأوا علاماته، ويجوز في هذا الاستثناء الاتصال والانفصال.
﴿ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ أي صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا ؛ لأن نبيهم خرج بدون إذن الله تعالى له، فلم تتم عليهم الحجة، ولا حقت عليهم كلمة العذاب، وقد استدلوا بذهابه مغاضبا لهم على قرب وقوع العذاب كما أنذرهم فتابوا وآمنوا فكشفناه عنهم.
﴿ ومَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ أي ومتعناهم بمنافعها إلى زمن معلوم هو عمرهم الطبيعي الذي يعيشه كل منهم بحسب سنته تعالى في استعداد بنيته ومعيشته. وقد فصلنا الكلام في الأجل الذي يسمى الطبيعي وغيره في تفسير ﴿ ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ﴾ [ الأنعام : ٢ ] من سورة الأنعام، ولا محل للبحث عن تعذيبهم في الآخرة كما فعل بعض المفسرين، فإن شهادة الله تعالى لهم بالإيمان النافع ظاهرة في قبوله منهم صريحة في أنه لا يعذبهم في الآخرة على سابق كفرهم، وإنما يجزون بغيره من أعمالهم بعد الإيمان.
هذا الذي فسرنا به الآية هو المتبادر من عبارتها، والموافق للسياق، ولسنة الله تعالى في أقوام الأنبياء عليهم السلام. وفيه تعريض بأهل مكة، وإنذار لهم، وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا عذاب الخزي بعنادهم حتى إذا أنذرهم نبيهم قرب وقوعه، وخرج من بينهم، اعتبروا وآمنوا قبل اليأس، وحلول البأس، وسيأتي - إن شاء الله تعالى- ما ثبت من خبره عليه السلام في تفسير سورتي الأنبياء والصافات، وهو موافق في جملته لما عند أهل الكتاب.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ٩٨ ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ٩٩ ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٠ ﴾
هذه الآيات الثلاث تفريع على اللواتي قبلهن وتكميل لهن في بيان سنة الله في الأمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدين للأمور المتضادة من الإيمان والكفر، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها على وفقها.
﴿ ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ أي لو شاء ربك أيها الرسول الحريص على إيمان الناس أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لا يشذ أحد منهم لآمنوا، بأن يلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ويوجره في قلوبهم إيجارا، ولو شاء لخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة، لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان، وفي معنى هذا قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] وقوله :﴿ ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة ﴾ [ هود : ١١٨ ]، والمعنى الجامع في هذه الآيات أنه لو شاء الله ألا يخلق هذا النوع المسمى بالإنسان المستعد بفطرته للإيمان والكفر، والخير والشر، الذي يرجح أحد الأمور الممكنة المستطاعة له على ما يقابله ويخالفه بإرادته واختياره، لفعل ذلك، ولما وجد الإنسان في الأرض، ولكن اقتضت حكمته أن يخلق هذا النوع العجيب ويجعله خليفة في الأرض، كما تقدم بيانه في قصة آدم في سورة البقرة وفي آيات أخرى، هكذا خلق الله الإنسان منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به كما تقدم.
﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن هذا ليس في استطاعتك أيها الرسول، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل ﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾ [ الشورى : ٤٨ ] ﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ [ ق : ٤٥ ] وهذه أول آية نزلت في أن الدين لا يكون بالإكراه، أي لا يمكن للبشر ولا يستطاع، ثم نزل عند التنفيذ ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ]، أي لا يجوز ولا يصح به، وذكرنا في تفسيرها سبب نزولها، وهو عزم بعض المسلمين على منع أولادهم كانوا تهودوا من الجلاء مع بني النضير من الحجاز، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخيروهم، وأجمع علماء المسلين على أن إيمان المكره باطل لا يصح. لكن نصارى الإفرنج ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام و يخيرونهم بينه وبين السيف يقط رقابهم، على حد المثل " رمتني بدائها وانسلت ".
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ٩٨ ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ٩٩ ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٠ ﴾
هذه الآيات الثلاث تفريع على اللواتي قبلهن وتكميل لهن في بيان سنة الله في الأمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدين للأمور المتضادة من الإيمان والكفر، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها على وفقها.
﴿ ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ أي وما كان لنفس ولا من شأنها فيما أشير إليه من استقلالها في أفعالها، ولا مما أعطاها الله من الاختيار فيما هداها من النجدين، وما ألهمها من فجورها وتقواها الفطريين، أن تؤمن إلا بإرادة الله، ومقتضى سنته في استطاعة الترجيح بين المتعارضين، فهي مختارة في دائرة الأسباب والمسببات، ولكنها غير مستقلة في اختيارها أتم الاستقلال، بل مقيدة بنظام السنن والأقدار، فالمنفي هو استطاعة الخروج عن هذا النظام العام، لا الاستطاعة الخاصة الموافقة له، ومثله قوله تعالى :﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ]، أي إلا بمشيئته الموافقة لحكمته وسنته في أسباب الموت، فكم من إنسان يعرض نفسه للموت شهيدا أو منتحرا بما يتراءى له من أسبابه، ثم لا يموت بها لنقصها، أو لمعارض مناف لها في نظام القدر الذي لا يحيط به علما إلا الله تعالى، ومعنى الإذن في اللغة الإعلام بالرخصة في الأمر، أي تسهيله وعدم المانع منه.
﴿ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ هذا عطف على محذوف يدل عليه المذكور دلالة الضد على الضد، أو النقيض على النقيض، أي وإذا كان كل شيء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجري بقدره وسنته، فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته في كتابه وفي خلقه، ويوازنون بين الأمور فيختارون خير الأعمال على شرها، ويرجحون نفعها على ضرها، بإذنه وتيسيره، وبجعل الرجس - أي الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور- على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون، فهم لأفن رأيهم، واتباع أهوائهم، يختارون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى. وتقدم في تفسير آيات الخمر والميسر من سورة المائدة وفي الكلام على المنافقين من أواخر سورة التوبة أن الرجس لفظ يعبر به عن أقبح الخبث المعنوي الذي هو مبعث الشر والإثم.
﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ١٠١ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٣ ﴾
هذه الآيات الثلاث إرشاد للعقلاء الذين يفهمون مما قبلها أن سنة الله تعالى في نوع الإنسان أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر، والخير والشر، وله الاختيار لنفسه، وأن الرسول الحريص على إيمان الناس لا يقدر على جعلهم مؤمنين ؛ لأن الله القادر على ذلك لم يشأ أن يجعلهم أمة واحدة على الإيمان وحده، ولا على الكفر وحده، وإنما جعل مدار سعادتهم على حسن استعمال عقولهم باختيارهم في التمييز بين الكفر والإيمان، وما الرسول إلا بشير ونذير يبين الطريق المستقيم للعقل المستنير، فالدين مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكير
والله تعالى يأمر بهما بمثل قوله :
﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ﴾ أي قل أيها الرسول لقومك الذين تحرص على هداهم : انظروا بعيون أبصاركم وبصائركم ماذا في السماوات والأرض من آيات الله البينات، والنظام الدقيق العجيب في شمسها وقمرها، وكواكبها ونجومها، و بروجها ومنازلها، وليلها ونهارها، وسحابها ومطرها، وهوائها ومائها، وبحارها وأنهارها، وأشجارها وثمارها، وأنواع حيواناتها البرية والبحرية، ففي كل من هذه الأشياء التي تبصرون آيات كثيرة تدل على علم خالقها وقدرته، ومشيئته وحكمته، ووحدة النظام في جملتها، وفي كل نوع منها، هو الآية الكبرى على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته، ثم انظروا ماذا في أنفسكم منها كما قال :﴿ وفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٠، ٢١ ] إنه يريكم كل هذه الآيات ثم أنتم تشركون.
﴿ ومَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ يجوز في هذه الجملة النفي والاستفهام، والنذر فيها جمع نذير أو إنذار، والمعنى أن الآيات الكونية على ظهور دلالتها، والنذر التشريعية على بلاغة حجتها، لا فائدة فيهما ولا غنى لقوم لا يؤمنون بالله عن الإيمان الذي يهديهم إلى الاعتبار بالآيات، والاستدلال بها على ما تدل عليه أكمل الدلالة من وحدانية الله وقدرته، ومشيئته وحكمته، وفضله ورحمته، والاعتبار بسننه في خلقه، ففائدة الإيمان الأولى توجيه عقل الإنسان إلى حسن القصد في نظره في الآيات، والاستفادة منها فيما يزكي نفسه بالعلم والإيمان، ويرفعها عن أرجاس الأمور وسفسافها، وبهذا تفهم معنى جعل الرجس على الذين لا يعقلون، فليس المراد بالذين لا يعقلون المجانين الفاقدين لغريزة العقل، بل المراد به الذين لا يستعملون العقل في أفضل ما هو مستعد له من المعرفة بالله وتوحيده وعبادته، التي تجعلهم أهلا لإتمام نعمه عليهم وكرامته، بالتزام الحق والعدل، وإيثار الخير والشر.
﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ١٠١ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٣ ﴾
هذه الآيات الثلاث إرشاد للعقلاء الذين يفهمون مما قبلها أن سنة الله تعالى في نوع الإنسان أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر، والخير والشر، وله الاختيار لنفسه، وأن الرسول الحريص على إيمان الناس لا يقدر على جعلهم مؤمنين ؛ لأن الله القادر على ذلك لم يشأ أن يجعلهم أمة واحدة على الإيمان وحده، ولا على الكفر وحده، وإنما جعل مدار سعادتهم على حسن استعمال عقولهم باختيارهم في التمييز بين الكفر والإيمان، وما الرسول إلا بشير ونذير يبين الطريق المستقيم للعقل المستنير، فالدين مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكير
﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي إذا كان الأمر كما قصصنا عليك أيها الرسول من سنتنا في الخلق، وما أرسلنا قبلك من الرسل، فهل ينتظر هؤلاء الكافرون من قومك إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، أي وقائعهم مع رسلهم مما بلغهم مبدؤه وغايته، أي ما ثم شيء آخر ينتظر.
﴿ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾ أي قل لهم منذرا ومهددا : إذا فانتظروا ما سيكون من عاقبتكم إني معكم من المنتظرين على بينة مما وعد الله وصدق وعده للمرسلين، وأن الذين يصرون على الجحود والعناد سيكونون كمعانديهم من الهالكين.
﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ١٠١ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٣ ﴾
هذه الآيات الثلاث إرشاد للعقلاء الذين يفهمون مما قبلها أن سنة الله تعالى في نوع الإنسان أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر، والخير والشر، وله الاختيار لنفسه، وأن الرسول الحريص على إيمان الناس لا يقدر على جعلهم مؤمنين ؛ لأن الله القادر على ذلك لم يشأ أن يجعلهم أمة واحدة على الإيمان وحده، ولا على الكفر وحده، وإنما جعل مدار سعادتهم على حسن استعمال عقولهم باختيارهم في التمييز بين الكفر والإيمان، وما الرسول إلا بشير ونذير يبين الطريق المستقيم للعقل المستنير، فالدين مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكير
﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا التعبير من أعجب إيجاز القرآن المعجز الذي انفرد به في العطف على محذوف، وهو ذكر شيء يدل دلالة واضحة على أمر عام كسنة اجتماعية تستنبط من قصة أو قصص واقعة، ثم يأتي بجملة معطوفة لا يصح عطفها على ما قبلها من الجمل، فيتبادر إلى الذهن وجوب عطفها على ذلك الأمر العام، بحرف العطف المناسب للمقام، بحيث يستغنى به عن ذكره، وتقديره هنا : تلك سنتنا في رسلنا مع قومهم : يبلغونهم الدعوة، ويقيمون عليهم الحجة، وينذرونهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن بعض ويصر الآخرون، فنهلك المكذبين، ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا بهم.
﴿ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي كذلك الإنجاء، ننجي المؤمنين معك أيها الرسول، ونهلك المصرين على تكذيبك، وعدا حقا علينا لا نخلفه ﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ولاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٧ ] وقد صدق عده كما قال.
قرأ الجمهور ( ننجي رسلنا ) بالتشديد من التنجية، إلا في رواية عن يعقوب بالتخفيف مختلف فيها. وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب ( ننجي المؤمنين ) بالتخفيف من الإنجاء، والباقون بالتشديد، والمعنى واحد، إلا أن التشديد يدل على المبالغة أو التكرار، وهو الأنسب في الأولى لكثرة الأقوام.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ولَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وأَنْ أَقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٥ ولاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦‏ وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو و إِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٠٧ ﴾
هذه الآيات الأربع والآيتان اللتان بعدها ختم للسورة بالنداء العام، في الدعوة إلى عقيدة الإسلام، أجملت أمرا أو نهيا وخبرا في خاتمتها، كما فصلت في جملتها.
قال تعالى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾ أي إن كنتم في شك من صحة ديني الذي دعوتكم إليه، أو من ثباتي واستقامتي عليه، وترجون تحويلي عنه.
﴿ فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ﴾ أي فلا أعبد في وقت من الأوقات، ولا حال من الأحوال، أحدا من الذين تعبدونهم غير الله، من ملك أو بشر، أو كوكب أو شجر أو حجر، مما اتخذتم من الأصنام والأوثان.
﴿ ولَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ ﴾ أي يقبضكم إليه ثم يبعثكم فيحاسبكم ويجزيكم، ولا يفعل أحد غيره هذا ولا يقدر عليه. وإنما قال :﴿ وإن كنتم في شك من ديني ﴾ وشرطه يدل على الشك في شكهم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يشك فيه، لأنه نزل دينه منزلة ما لا ينبغي أن يشكوا فيه لشدة ظهوره، وتألق نوره، كما بينا مثله في تفسير﴿ وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] الآية وما بعدها. ووصف الله بتوفيهم دون غيره من صفاته وأفعاله لتذكير كل منهم بما لا يشك فيه من عاقبة أمره، وأنه سيكون كما وعده في الدنيا والآخرة.
﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه، وينصرهم على أعدائهم وأعدائه، واستخلافهم في أرضه، وإنه لإيجاز بليغ.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ولَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وأَنْ أَقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٥ ولاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦‏ وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو و إِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٠٧ ﴾
هذه الآيات الأربع والآيتان اللتان بعدها ختم للسورة بالنداء العام، في الدعوة إلى عقيدة الإسلام، أجملت أمرا أو نهيا وخبرا في خاتمتها، كما فصلت في جملتها.
﴿ وأَنْ أَقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ أي أمرت بأن أكون من المؤمنين، وبأن أقيم وجهي للدين القيم الذي لا عوج فيه حالة كوني حنيفا، أي مائلا عن غيره من الشرك والباطل، ولكن اختير هنا صيغة الطلب وفيما قبله الخبر، ذلك بأن الخبر هو المناسب لعلاقة هذا الأمر بالماضي، وهو أن يكون من جماعة المؤمنين الموعودين بما تقدم من سنة الله في النبيين، والطلب هو المناسب لعلاقته هو، وما عطف عليه من النهي بالحال والاستقبال، من دعوة هذا الدين الموجهة إلى أهل مكة وسائر الناس، " ولا فرق بينهما في الإعراب " كما حققه سيبويه وغيره، وإقامة الوجه للدين هنا وفي سورة الروم ( ٣٠ : ٤٣ ) عبارة عن التوجه فيه إلى الله تعالى وحده في الدعاء وغيره، بدون التفات إلى غيره، والمراد به توجه القلب، وفي معناه ﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ﴾ [ الأنعام : ٧٩ ]، ومثله إسلام الوجه لله في سورة البقرة ( ٢ : ١١٢ ) وآل عمران ( ٣ : ٢٠ ) والنساء ( ٤ : ١٢٤ )، وإسلامه إلى الله في سورة لقمان ( ٣١ : ٢٢ )، وكذا توجيه الوجه الحسي إلى القبلة في آياتها، وهو الأصل في اللغة، والمراد به وجهة الإنسان، فمن توجه إلى قلبه في عبادة من العبادات " ولاسيما مخ العبادة وروحها وهو الدعاء " إلى غير الله فهو عابد له مشرك بالله، وأكده بالنهي عن ضده معطوفا عليه فقال :
﴿ ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ وبين الله تعالى حجابا من الوسطاء والأولياء والشفعاء يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم، والحاجة التي تستعصي على كسبهم، ووجوههم وجملتهم إلى صورهم وتماثيلهم في هياكلهم، أو قبورهم في معابدهم، ويدعونهم لقضاء حوائجهم إما بأنفسهم وإما بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم، ثم بين هذا بالإشارة إلى سببه عند المشركين، والنهي عن مثله ومعطوفا عليه فقال :
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ولَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وأَنْ أَقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٥ ولاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦‏ وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو و إِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٠٧ ﴾
هذه الآيات الأربع والآيتان اللتان بعدها ختم للسورة بالنداء العام، في الدعوة إلى عقيدة الإسلام، أجملت أمرا أو نهيا وخبرا في خاتمتها، كما فصلت في جملتها.
﴿ ولاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ ولاَ يَضُرُّكَ ﴾ أي ولا تدع غيره تعالى ( دعاء عبادة- وهو ما فيه معنى القربة والجري على غير المعتاد في طلب الناس بعضهم من بعض، لا على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك بوساطة الشفعاء - ما لا ينفعك إن دعوته- لا بنفسه، ولا بوساطته- ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره.
﴿ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي فإن فعلت هذا بأن دعوت غيره فإنك أيها الفاعل في هذه الحال من طغامة الظالمين لأنفسهم الظلم الأكبر، وهو الشرك الذي فسر به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، فإنه لما كان دعاء الله وحده هو أعظم العبادة ومخها كما ورد في الحديث كان دعاء غيره هو معظم الشرك ومخه، كما كررنا التصريح به بتكرار تفسير الآيات الناهية عنه، ومنها في هذه السورة قوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾ [ يونس : ١٨ ] وقوله :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ولاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ﴾ [ يونس : ٤٩ ] وقوله قبلهما ﴿ وإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا ﴾ [ يونس : ١٢ ] وقوله في أهل الفلك ( السفينة ) المشركين عند إحاطة الخطر بهم ﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
والآيات في هذا المعنى كثيرة متفرقة في السور، كررت لأجل انتزاع هذا الشرك الأكبر من قلوب الجمهور الأكبر، وقد انتزع من قلوب الذين أخذوا دينهم من القرآن، وكان جل عبادتهم تكرار تلاوته بالغدو والآصال، والليل والنهار، ثم عاد بقضه وقضيضه إلى الذين هجروا تدبر القرآن وهم يدعون الإسلام، وأكثرهم يتلقون عقائدهم من الآباء والأمهات والمعاشرين، وأكثر هؤلاء من الخرافيين الأميين الجاهلين، وأكثر القارئين منهم على قلتهم يأخذونها من كتب مقلدة متأخري المتكلمين الجدلية والمتصوفة الخرافية، ولا يكاد مسجد من مساجد يخلو من قبر مشرف مشيد، توقد عليه السرج والمصابيح، وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعليها، ويتوجه إليه الرجال والنساء، ويتقربون إليهم بالهدايا والنذور من الأميين، وبعرائض الاستغاثة والدعاء من المتعلمين، ليكشفوا عنهم الضر، ويهبوا لهم ما يرجون من النفع، ومن أمامهم وورائهم عمائم مكورة، ولحي طويلة أو مقصرة، يسمون شركهم الأكبر توسلا، واستغاثتهم استشفاعا، ونذورهم لغير الله صدقات مشروعة، وطوافهم بالقبور المعبودة زيارات مقبولة، ويتأولون هذه الآيات الكثيرة بل يحرفونها عن مواضعها، بزعمهم أنها خاصة بعبادة الأصنام، والنذور للأوثان، والتعظيم للصلبان، كأن الإشراك بالله جائز من بعض الناس ببعض المخلوقات دون بعض.
ومن البلاء الأكبر على الإسلام والمسلمين بمصر أن أصدرت لهم مشيخة الأزهر الرسمية في هذا العصر مجلة رسمية دينية، تفتيهم بشرعية كل هذه البدع الشركية القبورية، سمتها نور الإسلام، وألف لهم أحد خطباء الفتنة كتابا في هذا واطأه عليه وأمضاه له سبعون عالما من علماء الأزهر بزعمه، بل طبع في طرته خواتم بعضهم، وتواقيع آخرين منهم بخطوطهم، وذكر جميع أسمائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبه وحده المستعان لإنقاذ الإسلام من هذا الطغيان.
ومنهم من يحتج على نفع هذا الدعاء لغير الله بالتجارب، كما يحتج الهنود الوثنيون والنصارى، فهو مشترك الإلزام، وقد أبطله الله بقوله :﴿ وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو ﴾
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ولَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وأَنْ أَقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٥ ولاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦‏ وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو و إِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٠٧ ﴾
هذه الآيات الأربع والآيتان اللتان بعدها ختم للسورة بالنداء العام، في الدعوة إلى عقيدة الإسلام، أجملت أمرا أو نهيا وخبرا في خاتمتها، كما فصلت في جملتها.
﴿ وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو ﴾ هذه الآية مؤكدة لما قبلها، داحضة لشبهة الذين يدعون غير الله بأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم، وكبتت أعداؤكم، وكشف الضر عنهم، وأسدي الخير إليهم، يقول تعالى لكل مخاطب بهذه الدعوة إلى توحيد الإسلام، بكلام الله و تبليغ محمد عليه أفضل الصلاة والسلام : وإن يمسسك الله أيها الإنسان بضر كمرض يصيبك بمخالفة سننه في حفظ الصحة، أو ظلم يقع عليك من الحكام المستبدين، أو غيرهم من الأعداء المعتدين، فلا كاشف له إلا هو، وقد جعل لكل شيء سببا يعرفه خلقه بتجاربهم، ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها، وخواص العقاقير التي تداوى بها، وتكل أعمالها إلى أربابها، وتأتي سائر البيوت من أبوابها، مع الإيمان والشكر لمسخرها، فإن جهلت الأسباب أو أعياك أمرها فتوجه إلى الله وحده، وادعه مخلصا له الدين متوكلا عليه وحده، يسخر لك ما شاء أو من شاء من خلقه، أو يشفك من مرضك بمحض فضله، كما ضربت لك الأمثال في هذه السورة وغيرها من كتابة.
﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْر ﴾ يهبه بتسخير أسبابه لك، وبغير سبب ولا سعي منك، ﴿ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ﴾ أي فلا أحد ولا شيء يرد فضله الذي تتعلق به إرادته، فما شاء كان حتما، فلا ترج الخير والنفع إلا من فضله، ولا تخف رد ما يريده لك من أحد غيره.
﴿ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب وبغير كسب، وبسبب مما قدره في السنن العامة وبغير سبب، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته، بخلاف الضر ؛ فإنه لا يقع بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد، أو العامة في نظام الخلق، فالأول معلوم كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل، وكثرة الفسق والظلم، والثاني كالضرر الذي يعرض من كثرة الأمطار، وطغيان البحار والأنهار، وزلازل الأرض وصواعق السماء.
﴿ وَهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ولولا مغفرته الواسعة لأهلك جميع الناس بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ [ الشورى : ٣٠ ] ﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ].
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ومَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوكِيلٍ ١٠٨ واتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ واصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وهُو خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ١٠٩ ﴾
هذا النداء خاتمة البلاغ للناس كافة، بمقتضى بعثة الرسول العامة، وهو إجمال لما فصل في هذه السورة وسائر السور المباركة.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ أي قل أيها الرسول مخاطبا لجميع البشر، من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك، ومن ستبلغه عنك : قد جاءكم الحق المبين لحقيقة الدين من ربكم، بوحيه إلى رجل منكم، وهو الذي افتتحت هذه السورة به، وقد كان هذا الحق مجهولا خفيا عنكم، بما جهل بعضكم من دعوة الرسل الأقدمين، وما حرف بعضكم وجهل وبدل وتأوَّل من كتب الأنبياء المتأخرين، وفصله لكم هذا الكتاب العربي المبين.
﴿ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾ أي فمن اهتدى بما جاء به هذا الرسول في هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنما فائدة اهتدائه لنفسه، لأنه ينال به السعادة في دنياه ودينه، دون عمل غيره، ولا فدائه ولا تأثيره.
﴿ ومَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ أي ومن ضل عن هذا الحق بإعراضه عن آياته في هذا القرآن، وحججه فيه بآياته في الأنفس والآفاق، فإنما وبال ضلاله على نفسه بما يفوته من فوائد الاهتداء في الدنيا، وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه في الآخرة.
﴿ ومَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوكِيلٍ ﴾ أي وما أنا بموكل من عند الله بأموركم ولا مسيطر عليكم فأكرهكم على الإيمان، وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان، وليس عليَّ هداكم، ولا أملك نفعكم ولا ضركم، وإنما أنا بشير لمن اهتدى، ونذير لمن ضل وغوى، وقد أعذر من أنذر.
﴿ واتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ في هذا القرآن علما وعملا وتعليما.
﴿ واصْبِرْ ﴾ كما صبر أولو العزم من الرسل على ما يصيبك من الأذى في ذات الله، والجهاد به في سبيل الله.
﴿ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ ﴾ بينك وبين المكذبين لك، وينجز لك ما وعدك.
﴿ وهُو خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾‏ أي كل من يقع منهم حكم، لأنه لا يحكم إلا بالحق، وغيره قد يحكم بالباطل لجهله الحق، أو لمخالفته له باتباع الهوى. وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، وصبر حتى حكم الله بينه وبين قومه، وأنجز وعده له ولمن اتبعه من المؤمنين، فاستخلفهم في الأرض، وجعلهم الأئمة الوارثين مدة إقامتهم لهذا الدين، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن قومه، وجعلنا من المهتدين بما جاء به من كتاب ربه، وسنته المبينة له، علما وعملا، وإرشادا وتعليما، وصلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن اتبعه وسلم تسليما.
Icon