تفسير سورة يونس

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
دروس من سورة يونس
نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فتكون سورة يونس من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة، فهي سورة مكية من أواخر ما نزل من القرآن بمكة. وقد سميت بهذا الاسم ؛ لذكر قصة يونس فيها، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية.
أهدافها الإجمالية
موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكية الغالبة، وهي الجدل حول مسائل العقيدة والتوجيه إلى آيات الله الكونية، وإلى سنن الله في الأرض، وإلى العظة بالقرون الخوالي ومصائرها وعرض بعض القصص من هذا الجانب الذي تبرز فيه العظة واللمسات الوجدانية التي تنتقل بالإنسان من آيات الله في الكون إلى آياته في النفس، إلى مشاهد القيامة المؤثرة، إلى قصص الماضين ومصائرهم، كأنها جميعا حاضرة معرضة للأنظار.
وهذه السورة تتضمن شيئا من هذا كله، و ينتقل السياق فيها من غرض إلى غرض بمناسبات ظاهرة أو خفية بين مقاطعها، ولكن جوهرها كله هو هذا الجو حتى ليصعب الفصل بين مقطع ومقطع فيها في أغلب الأحيان.
الدرس الأول مظاهر قدرة الله :
يبدأ القسم الأول من السورة بحروف ثلاثة هي : ألف، لام، را، كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران بحروف مشابهة ؛ ذكر العلماء أنها أسماء للسورة، أو إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته، أو هي لبيان إعجاز القرآن الكريم، أو هي مما استأثر الله تعالى بعلمه، ثم تأخذ السورة في عرض عدة أمور هي بيان حكمة القرآن وطريقته في تنبيه الغافلين إلى تدبر آيات الله، في صفحة الكون وتضاعيفه : في السماء والأرض، وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي مصارع القرون الأولى، وفي قصص الرسل فيهم، وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود.
ثم تشرح السورة الحكمة في الإيحاء إلى رجل من البشر يعرفه الناس ويطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج، وتذكر الحكمة من إرسال الرسل ؛ فالإنسان بطبعه مهيئا للخير والشر، وعقله هو أداته للتمييز، ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما اختلط عليه الأمر وأحاطت به الشبهات وجذبته التيارات والشهوات، وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعته.
وتلفت سورة يونس النظر إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما، وإظهار قدرة الله الذي ﴿ جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ﴾. ( يونس : ٥ ).
وقدر اختلاف الليل والنهار، إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون ربا يعبد ولا يشرك به شيء من خلقه.
إن هذا الليل المظلم، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح، وهذا الفجر المتفتح في نهاية الليل كابتسامة الولد، وهذه الحركة التي يتنفس بها الصحيح فيدب النشاط في الحياة والأحياء وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال، وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة، وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق، وهذه الأرحام التي تدفع، والقبور التي تبلع، الحياة ماضية في طريقها كما شاء الله.
إن هذا الحشد من الصور والأشكال، والحركات والأحوال والرواح والذهاب والبلى والتجدد والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار، إن هذا كله ليستنهض كل همة في كيان البشر للتأمل والتدبر والتأثر حتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب ؛ لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات وتأمل قدرة الله في اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر، فيطول الليل في الشتاء ويقصر في الصيف، ويطول النهار في الصيف ويقصر في الشتاء، ووراء كل إبداع يد الله القدير الذي رفع السماء وزينها بالنجوم وحفظها من التصدع والوقوع، وبسط سبحانه الأرض وثبتها بالجبال وزينها بالنبات وأحياها بالأمطار ؛ ﴿ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ﴾. ( يونس : ٦ ).
الدرس الثاني الأدلة على وجود الله :
يستهل الدرس الثاني من سورة يونس بإعلان جزاء المؤمنين وعاقبة المكذبين، حيث يقول سبحانه :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ ( يونس : ٢٦ ).
فالجزاء الحق من جنس العمل، فمن عمل صالحا في الدنيا ؛ أدخله الله الجنة، ومتعه بالطيبات ونجاه من النار.
ثم تستمر الآيات في بيان عقوبة المكذبين، وجزاء الخائنين، وتسوق السورة عددا من الأدلة والبراهين تنتهي كلها إلى هدف واحد ؛ هو إشعار النفس بتوحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر، والقسط في الجزاء.
تلمس الأدلة أقطار النفس، وتأخذ بها إلى آفاق الكون في جولة واسعة شاملة، جولة من الأرض إلى السماء، ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر، ومن الدنيا إلى الآخرة.
وقد لاحظنا في الدرس الماضي لمسات من هذه، ولكنها في هذا الدرس أظهر، فمن معرض الحشر إلى مشاهد الكون إلى ذات النفس، وإلى التحدي بالقرآن إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين، ومن ثم لمحة عابرة عن الحشر في مشهد جديد، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب، وإلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء، إلى بعض آيات الله في الكون، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب.
إنها مجموعة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك نفس سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة إلا أن تستجيب لها، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود. لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم، وهم يتناهون عن الاستماع إليه ؛ خيفة أن يجرفهم بتأثيره ويزلزل قلوبهم، وهم يرددون أن يظلوا على الشرك صامدين. وأن سورة واحدة كهذه أو بعض سورة لتحمل من المؤثرات النفسية والعقلية ما لا يحمله جمع كبير من قوى الشرك والانحراف والفسوق.
لقد أخذ القرآن على النفوس كل مسلك ؛ ليسير بها نحو الإيمان، وساق إليها أدلة محسوسة ملموسة، حيث يقول سبحانه :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض ﴾. من المطر الذي يحيى الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض ونباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، فمن سطح الأرض أرزاق، ومن أعماقها أرزاق، ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. وحتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق. ﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾. يهبهما القدرة على أداء وظائفهما أو يحرمهما، ويصححهما أو يمرضهما، ويصرفهما إلى العمل أو يلهيهما، وإن تركيب العين وأعصابها و كيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات لعالم وحده يدير الرءوس عندما يقاس هذا الجهاز أو ذلك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم الحديث.
﴿ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾. أي : النور من الظلام والظلام من النور، والنهار من الليل والليل من النهار، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والنبتة من الحبة والحبة من النبتة، والفرخ من البيضة والبيضة من الفرخ... إلى آخر هذه المشاهدات العجيبة، وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ؟ ! وأين كان يكمن العود، وأين كانت الجذور والساق والأوراق ؟ !
﴿ ومن يدبر الأمر ﴾. كله في هذا الذي ذكر وفي سواه من شئون الكون وشئون البشر ؟ ! من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق ؟ ! ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر ؟ !
﴿ فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ﴾. ( يونس : ٣١ )، أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، الذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه :﴿ فذالكم الله ربكم الحق ﴾. هو سبحانه صاحب الحق والأمر تبارك الله رب العالمين.
الدرس الثالث قصص الأنبياء :
اشتملت الآيات من ٧١٩٣ من سورة يونس عل ذكر طرف من قصة نوح مع قومه، وقصة موسى مع فرعون وملئه، وقد تحقق فيهما عاقبة المكذبين، وهلاك المخالفين لأوامر الله وهدى رسله، والقصص في القرآن يجيء في السياق ؛ ليؤدي وظيفة فيه، ويتكرر القصص في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه في السياق والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع، ونلاحظ فيما عرض من قصتي نوح وموسى هنا، وفي طريقة العرض، مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان، كما نلحظ المناسبة الواضحة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه.
قصة نوح
بدأت قصة نوح من الحلقة الأخيرة، حلقة التحدي الأخير بعد الإنذار الطويل والتذكر والتكذيب، ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ولا التفصيلات الواردة في سور أخرى ؛ لأن الهدف هنا هو إبراز التحدي الذي واجه نوحا من قومه، واستعانته بالله، ونجاته ومن معه وهم قلة، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة، لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة التي يقصها إلى حلقة واحدة، ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة وهي نجاة نوح ومن آمن معه في السفينة و استخلافهم في الأرض على قلتهم، وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم. قال تعالى :﴿ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآيتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾. ( يونس : ٧٣ ).
وأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي وينهيها عند غرق فرعون وجنوده، وإذا كانت قصة نوح قد ذكرت في أربع آيات فقط هي الآيات من ٧١ إلى ٧٤ من سورة يونس، فإن قصة موسى قد ذكرت على نطاق أوسع خلال ثماني عشرة آية هي الآيات من ٧٥ إلى ٩٣، وقد ألمت قصة موسى بالمواقف ذات الشبه بموقف المشركين في مكة من الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القلة المؤمنة التي معه، وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى مقسمة إلى ثلاثة مواقف يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به. وهذه المواقف الثلاثة تتتابع في السياق على هذا النحو :
الموقف الأول : وصول موسى إلى فرعون ومعه آيات تسع ذكرت في سورة الأعراف ؛ و لكنها لم تذكر في سورة يونس ولم تفصل ؛ لأن السياق لا يقتضيها، والإجمال في هذا الموضع بغنى، والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله، لقد استقبلوها بالظلم والاستكبار قال تعالى :
﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون و ملإيه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ﴾. ( يونس : ٧٥، ٧٦ ).
ادعى فرعون أن معجزة موسى سحر ظاهر، وجمع له كبار السحرة وأرادوا أن يغرقوا الجماهير في صراع السحر بأن تعقد حلقة للسحر يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها ؛ ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحرا ماهرا.
والموقف الثاني : موقف المبارزة بين السحرة وموسى، فقد ألقى السحرة حبالهم وعصيه

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الر تلك آيات الكتاب الحكيم ( ١ ) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ( ٢ ) ﴾.
المفردات :
الر : قال السلف فيها وفي أمثالها : الله أعلم بمراده : ويأتي تفصيل الحديث عنها في الشرح.
الكتاب الحكيم : القرآن المشتمل على الحكمة وهي إصابة الحق.
التفسير :
١ ﴿ الر تلك آيات الكتاب الحكيم ﴾.
( الر )
أسلفنا الحديث عن هذه الأحرف المقطعة في صدر سورة البقرة، وآل عمران، والأعراف، ومجمل هذا الحديث أن هذه الفواتح للعلماء فيها رأيان رئيسان :
الأول : أنها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه.
الثاني : أن لها معنى وتعددت الآراء في تحديد هذا المعنى.
فمن العلماء من قال : إنها أسماء للسور التي تصدرتها، ومنهم من قال : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته، ومنهم من قال : هي حروف ذكرت للتحدي والإعجاز، وبيان أن القرآن مكون من الحروف العربية التي تنطقون بها، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ؛ فدل ذلك على أنه من عند الله تعالى.
ومنهم من قال : هي حروف للتنبيه كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ؛ فقد تواصى الكفار بالإعراض عن القرآن وعدم الاستماع إليه، قال تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾. ( فصلت : ٢٦ ).
فلما طرق أسماعهم ما لم يألفوه ؛ تنبهوا، فكانت هذه الأحرف بمثابة أدوات الاستفتاح التي تدعو الناس إلى الإصغاء والانتباه لما يلقى عليهم.
وجاء في تفسير الطبري حكاية عن الربيع : أن الإعجاز في هذه الأحرف : هو جواز اشتمالها على جميع الآراء التي ذكرها العلماء في تفسيرها، فهي أسماء للسورة، وهي حروف للتحدي والإعجاز، وهي أدوات للتنبيه، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته، وهي في نفس الوقت مما استأثر الله تعالى بعلمه.
﴿ تلك آيات الكتاب الحكيم ﴾. أي : تلك الآيات السامية، المنزلة عليك يا محمد، هي آيات الكتاب المشتمل على الحكمة والصواب، الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
المفردات :
قدم صدق عند ربهم : مكانة سابقة محققة في حسن الجزاء عند ربهم في الجنة والقدم والقدمة بضم فسكون : السابقة في الآمر.
لساحر مبين : أي : لساحر بين السحر واضحه : كذا قال الكافرون وهم كاذبون.
التفسير :
٢ ﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس... ﴾ الآية.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير : عن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدا رسولا، أنكرت العرب ذلك فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله :﴿ أكان للناس عجبا... ﴾. الآية وأنزل :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا... ﴾ الآية. ( يوسف : ١٠٩ ).
فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾. ( الزخرف : ٣١ ) ؛ يعنون : الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردا عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك... ﴾ الآية. ( الزخرف : ٣٢ ).
المعنى : أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم ؛ أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم، يعرفهم ويعرفونه ؛ لكي يبلغهم الدين الحق أمرا عجبا، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه صلى الله عليه وسلم حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية ؟ !
إن الذي يدعو إلى العجب حقا، هو ما تعجبوا منه ؛ لأن الله جل جلاله اقتضت حكمته أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس المرسل إليهم ؛ لأن كل جنس يأنس إلى جنسه وينفر من غيره، وقد عجبوا أن يكون الرسول بشرا لا ملكا، فقال تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾. ( الأنعام : ٩ ).
كما سخروا من اليتيم الفقير، وقالوا : أما وجد الله من يرسله رسولا سوى يتيم أبي طالب، وقد بين الله سبحانه أنه أعلم حيث يجعل رسالته ؛ فالله يصطفي للرسالة من هو أقدر على حملها ؛ بخلقه وقوته النفسية والمعنوية، وما يتمتع به من صبر واحتمال، وشجاعة وإخلاص، وهذه صفات لا يقتصر توافرها على الأغنياء والوجهاء، بل إن نعم الله موزعة على جميع خلقه، فرب فقير بلغ القمة في مكارم أخلاقه، قال تعالى :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾. ( القلم : ٤ )، ورب غنى ليس أهلا لتحمل أعباء الرسالة ؛ لأنه عنيد مكابر، قال تعالى :﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا... ﴾ ( المدثر : ١١١٢ ).
وقال تعالى مخاطبا رسوله الكريم :﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى... ﴾ ( الضحى : ٥٨ ).
﴿ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ﴾. أي : لا ينبغي أن يعجب الناس من اختيار الله لمحمد رسولا ؛ لينذر أهل مكة، ويبشر المؤمنين بأن لهم سابقة محققة في الفضل وحسن الجزاء عند ربهم ؛ فالنبوة للبشر لا للملائكة، والتفاوت بين الناس، ليس بالمال، بل بالعقل والكمال والاستقامة.
﴿ قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ﴾. أي : لا يملك الضعيف أو الخاسر المفلس، سوى الاتهام الرخيص الكاذب الذي لا فائدة منه ؛ لذلك قال الكافرون : إن محمدا لساحر ظاهر السحر، أو إن القرآن لسحر مبين.
قال الإمام الرازي :
ووصف القرآن بأنه سحر يدل على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا، وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام الذي ذكروه في معرض الذم، على ما يظهر، وأرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ؛ ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، أو ذكروه في معرض المدح، وأرادوا به : أنه لكمال فصاحته، وتعذر جار مجرى السحر.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٤ ﴾
المفردات :
في ستة أيام : أي : في ستة أوقات لا يعلم مداها إلا الله تعالى أما اليوم المعروف ؛ فإنه لم يحدث إلا بعد خلق السماوات والأرض.
ثم استوى على العرش : ثم استولى عليه، ومنه قول الشاعر : استوى بشر على العراق. من غير سيف ودم مهراق.
أي : ثم استولى على العرش ؛ ليدبر شئونه وشئون الكون كله، ولم يغلبه عليه أحد، فهو وحده الخالق المدبر، وسيأتي في المعنى الحديث عن العرش.
التفسير :
٣ ﴿ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض... ﴾ الآية.
جاءت هذه الآية لإظهار بطلان تعجبهم من أن الله تعالى أرسل إليهم رجلا منهم ؛ لينذرهم ويبشرهم.
المعنى : إن ربكم ومالك أموركم هو الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أزمنة أو أيام، قيل : كأيام الدنيا، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون، أو خمسين ألف سنة.
والمختار : أن السماوات والأرض خلقت في ستة مراحل متباعدة، اقتضاها تطوير خلقها من دخان إلى نجوم وكواكب وأرضين يابسات. i
﴿ ثم استوى على العرش ﴾. أي : ملك سلطان الكون وهيمن عليه.
﴿ يدبر الأمر ﴾. أي : يدبر أمر الخلائق والملكوت بما يتفق مع حكمته وعلمه، ويقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته.
﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾. في هذا النص الكريم تقدير لعظمة الله ؛ فهو المتفرد بالألوهية، ليس معه إله آخر وقد ادعى المشركون أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى ؛ فذكر القرآن الكريم في أكثر من آية أن الشفاعة مقصورة على من ارتضاه الله أهلا للشفاعة وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى : ما من شفيع لأحد في وقت من الأوقات إلا من بعد إذن الله المبني على الحكم الباهرة، وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار، والمشفوع له ممن تليق به الشفاعة من عصاة المؤمنين.
﴿ ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ﴾. أي : هذا الذي ذكر فضله وآلاؤه هو الله الذي لا إله سواه. وهو ربكم وخالقكم ؛ فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.
﴿ أفلا تذكرون ﴾. أفلا تتفكرون أدنى تفكر، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه.
المفردات :
بالقسط : بالعدل.
شراب من حميم : شراب من ماء شديد الحرارة.
التفسير :
٣ ﴿ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا... ﴾ الآية.
إلى الله تعالى وحده رجوعكم جميعا بالبعث والحشر لا إلى غيره. وعد الله ذلك وعدا حقا، لا خلف فيه ؛ فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه ؛ لتناولوا ثوابه وتنجوا من عقابه.
﴿ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ﴾.
تقع هذه الجملة موقع الدليل على وقوع البعث ؛ فإنه سبحانه وتعالى بدأ الخلق بدون مثال سابق، ومن بدأ الخلق كان قادرا على إعادته، بل الإعادة أهون وأيسر، فقال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾. ( الروم : ٢٨ ).
وحكمة البعث والجزاء : هي إثابة الطائعين ومعاقبة المكذبين، قال تعالى :
﴿ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط.. ﴾.
أي : ليكافئ المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بالعدل، فيحسن جزاءهم ويزيدهم من فضله.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾.
إن الدنيا ليست دار جزاء، وربما تنعم فيها المفسدون، ونالوا حظا من المال والجاه والسلطان ؛ فلا بد من دار جزاء يكافأ فيها المحسنون، أما الكافرون فيلقون جزاء كفرهم، ومن ذلك : أن يشربوا ماء كالمهل يشوي الوجوه، وأن ينالوا عذابا شديد الإيلام ؛ بسبب إصرارهم على كفرهم واستمرارهم على الجحود والتكذيب برسالات السماء.
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ٦ ﴾
المفردات :
ضياء : أي : ذات ضياء واشتعال، والضياء : اسم مصدر من أضياء يضيء، وجمع ضوء كسياط وسوط، وحياض وحوض.
والقمر نورا : أي : ذا نور، في إنارة، والضوء والنور بمعنى واحد لغة، والضوء أقوى من النور استعمالا بدليل هذه الآية، وقيل الضوء لما كان من ذاته كالشمس والنار، والنور لما كان مكتسبا من غيره. ويدل على ذلك قوله :{ وجعل القمر فيهن نورا
وجعل الشمس سراجا }. ( نوح : ١٦ ). والسراج : نوره من ذاته،
والضياء ما أضاء لك، وشعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي ترى في قوس السحاب فهو سبعة أضواء، وقد كشف ترقى العلوم الفلكية عن ذلك، وكان الناس يجهلونه في عصر التنزيل.
وقدره منازل : أي : قدره ذا منازل. والتقدير : جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة، في الذات أو الصفات أو الزمان أو المكان، كما قال :﴿ وخلق كل شيء فقدره تقديرا ﴾. ( الفرقان : ٢ ). وقال :{ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون
القديم }. ( يس : ٣٩ ). والمنازل : واحدها منزل، وهو مكان النزول، و هي ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب بأسمائها.
ويبقى من الشهر ليلة : إن كان ٢٩ وليلتان إن كان ٣٠ يوما يحتجب فيها فلا يرى.
التفسير :
٥ ﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا... ﴾ الآية.
خلق الله السماء، وبسط الأرض، ودبر نظام الكون، وجعل الشمس مضيئة نهارا والقمر منيرا ليلا.
﴿ وقدره منازل ﴾. أي : وقدر سير القمر في فلكه منازل ينزل كل ليلة في واحد منها لا يجاوزها لا ويقصر دونها، وهو ثمانية وعشرون منزلا يرى القمر فيها بالأبصار، وليلة أو ليلتان يحتجب فيها فلا يرى.
﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾. أي : لتعلموا بما ذكر من صفة النيرين، وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام ؛ لضبط عبادتكم ومعاملتكم المالية والمدنية، ولولا هذا النظام المشاهد ؛ لتعذر العلم بذلك على الأميين من أهل البدو والحضر ؛ إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري، الذي يعرفه كل واحد بالمشاهدة.
ولعبادتي الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع الفصول، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة باردة ومعتدلة. ii
وقد حث الشارع على الانتفاع بالحساب الشمسي بنحو قوله :﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾. ( الرحمان : ٥ ).
وقوله سبحانه :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين وكل شيء فصلناه تفصيلا ﴾. ( الإسراء : ١٢ ).
﴿ ما خلق الله ذلك إلا بالحق ﴾. ما خلق الله ذلك إلا مقترنا بالحق الذي تقتضيه الحكمة والمنفعة لحياة الخلق ونظام معايشهم فلا عبث ولا خلل «كل هذا النظام، وكل هذا التناسق لا يكون عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة، بل تنظيم إله حكيم مدبر ». iii
﴿ يفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾. يوضح الدلائل من حكم الخلق، مفصلة منوعة من كونية وعقلية، لقوم يعلمون وجوه دلالة الدلائل، والفرق بين الحق والباطل. باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات، فيجزمون بأن من خلق هذين النيرين وما فيهما من النظام بالحق، لا يمكن أن يكون خلقه لهذا الإنسان العجيب عبثا ولا أن يتركه سدى، وفي الآية تنويه بفضل العلم وكون الإسلام دينا علميا لا تقليديا. iv
٥ ﴿ إن في اختلاف الليل والنهار ﴾.
في حدوثهما وتعاقبهما في طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس والنظام الدقيق لهما، وطبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل ديني ودنيوي.
﴿ وما خلق الله في السماوات والأرض ﴾. من أحوال الجماد والنبات والحيوان، ويدخل في ذلك أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار وأحوال البحار، وأحوال المعادن وسائر المخلوقات.
﴿ لآيات لقوم يتقون ﴾. لأدلة ناطقة لوجود الله، ووحدانيته وحكمته في الإبداع والإتقان، وفي تشريع العقائد والأحكام، لقوم يتقون الله. ويخافون غضبه، ويرجون رحمته، ويتأملون في بديع صنعة. والتقوى : هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل.
﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨ ﴾
المفردات :
لا يرجون لقاءنا : لا يتوقعون الرجوع إلى الله تعالى.
التفسير :
٧ ﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾.
هذه الآية والتي تليها تبين مصير من كفر بالبعث، ومصير من غفل عن آيات الله.
لقد وصفتهم الآية بأربع صفات :
١ ﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ﴾.
أي : لا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة للحساب والجزاء ؛ فقد خلت قلوبهم من الإيمان بالآخرة والعمل لها، وعدم عمل أي حساب لها وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزر علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا ﴾. ( الفرقان : ٢١ ).
٢ ﴿ ورضوا بالحياة الدنيا ﴾.
لقد رضوا بالحياة الدنيا، وألقوا زينتها، ومتعوا، ولم يفكروا إلا في تشبعهم في زينة الدنيا والركون إليها، والاغتراف من لذائذها وشهواتها وأعرضوا عن الآخرة وما فيها من نعيم مقيم.
قال الإمام الرازي : استغرقوا في طلب اللذائذ الحسية، واكتفوا بها، وتفرغوا لها.
٣ ﴿ واطمأنوا بها ﴾.
أي : سكنوا فيها سكون من لا يبرحها، آمنين من المزعجات.
قال الإمام الرازي : اطمأنوا إلى الدنيا اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه.
فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا.
٤ ﴿ والذين عن آياتنا غافلون ﴾.
لقد غفلوا عن آيات الله في هذا الكون، وعن آيات الله وشرائعه المنزلة على رسله ؛ فلم تتحرك قلوبهم إلى النظر أو التأمل في هذا الكون البديع المنظم لينتقلوا من جمال الصنعة إلى جمال الصانع، ولم تتحر ك عقولهم للنظر في الأدلة الشرعية والبراهين الداعية إلى الإيمان، ولم يتزودوا ليوم الوعيد.
المفردات :
مأواهم : مسكنهم ومقرهم.
التفسير :
٨ ﴿ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ﴾.
أي : أولئك الذين تقدمت صفاتهم، مقرهم وملجأهم الذي يلجئون إليه : النار وبئس القرار ؛ جزاء انشغالهم بالدنيا، واستغراقهم في التمتع بلذائذها والاستمتاع بلهوها وباطلها و إعراضهم عن الآخرة وعن العمل لها.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٩ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٠ ﴾
المفردات :
تجري من تحتهم : تجري من تحت قصورهم في الجنة.
التفسير :
يقابل الحق سبحانه بين عمل الكافرين للدنيا، واستغراقهم في متعها وشهواتها، وبين إيمان المؤمنين الممزوج بالعمل الصالح فيقول :
٩ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾.
هؤلاء الذين آمنوا بالله إيمانا صادقا، وعملوا الأعمال الصالحة من العبادات والمعاملات و الآداب ومكارم الأخلاق هؤلاء يهديهم الله في دنياهم ؛ فينير بصيرتهم وتكون سعادتهم في طاعة الله ومرضاته، والبعد عن معصيته وإذا قام المؤمن من قبره ؛ وجد أمامه صورة حسنة تبشره بالجنة وترشده إلى الصراط المستقيم ؛ فيسأل صاحب الصورة : من أنت ؟ ! فيقول له : أنا عملك الصالح ؛ فيجعل عمله الصالح بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله تعالى :﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾.
والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة فيلزم صاحبه حتى يقذفه في النار. v
﴿ تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم ﴾.
أي : تجري من تحت قصورهم الأنهار في جنات النعيم والخلد، وهذا مثل للتنعم والراحة والسعادة، والانسجام في تلك المناظر الخلابة، التي تأخذ بمجامع القلوب.
المفردات :
دعواهم فيها : أي : دعاؤهم فيها.
التفسير :
٩ ﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم ﴾.
أي : يبدءون دعاءهم وثناءهم على الله بهذه الكلمة :﴿ سبحانك اللهم ﴾. أي : تنزيها وتقديسا لك يا الله، أو اللهم، إنا نسبّحك.
قال الإمام الرازي : إنه لا عبادة لأهل الجنة، إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى.
﴿ وتحيتهم فيها سلام ﴾.
وما يحيون به في الجنة لفظ السلام، الدال على الأمن والطمأنينة والسلامة في كل مكروه ؛ وهذا السلام هو تحية الله لهم.
قال تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾. ( الأحزاب : ٤٤ ). وهو تحية الملائكة لهم عند دخول الجنة.
قال تعالى :﴿ وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ﴾. ( الزمر : ٧٣ ).
وأهل الجنة يعيشون في سلام وأمان بعيدين عن اللغو والآثام ؛ قال تعالى :﴿ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما ﴾. ( الواقعة : ٢٥، ٢٦ ).
﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾.
أي : أن آخر دعائهم : أن يشكروا الله تعالى ؛ على ما أنعم عليهم من نعم ظاهرة وباطنة، ويختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين.
قال ابن كثير : وفي هذا دلالة على أنه سبحانه هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى ؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وعند ابتداء تنزيل كتابه، حيث يقول تعالى :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾. ( الأنعام : ١ ).
ويقول سبحانه :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ﴾. ( الكهف : ١ ).
كما نجد أن حمد الله هو آخر كلام الملائكة ؛ قال تعالى :﴿ وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾. ( الزمر : ٧٥ ).
﴿ * وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ١٣ ﴾.
المفردات :
لقضي إليهم أجلهم : لانتهى الأجل الذي قدره الله لعذابهم وأميتوا جميعا وما أمهلوا لحظة واحدة.
لا يرجون لقاءنا : لا يتوقعون الرجوع إلينا لإنكارهم البعث.
في طغيانهم : الطغيان : مجاوزة الحد في الظلم والمراد هنا : إنكارهم البعث وتكذيب الرسل وارتكاب ما يترتب على ذلك من المفاسد والموبقات.
يعمهون : يترددون ويتحيرون.
التفسير :
١١ ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ... ﴾ الآية.
تمهيد :
كان كفار مكة يتعجلون نزول العذاب بهم ؛ استهزاء بالنبي، وتهكما بالعذاب، واستهانة به. قال تعالى :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾. ( الأنفال : ٣٢ ).
فرد القرآن عليهم بقوله سبحانه :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾. ( الأنفال : ٣٣ ).
فهم يستعجلون نزول العذاب عند يأسهم أو قنوطهم من الهداية ؛ ولكن الله تعالى لا يعجل عقوبتهم في هذه الدنيا، ويمنحهم الفرصة لعلهم أن يتوبوا، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله.
المعنى : ولو يعجل الله لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا يتوقعون الرجوع إلى الله لو يعجل لهم العذاب الذي كانوا يستعجلون وقوعه بهم، مثل : إسراعه الخير لهم عند استعجالهم به وطلبهم إياه.
﴿ لقضي إليهم أجلهم ﴾.
أي : لأميتوا وأهلكوا في هذه الدنيا، وما أمهلوا لحظة واحدة ؛ جزاء جرأتهم.
كما قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾. ( فاطر : ٤٥ ).
ولكنه سبحانه يمهلهم ويملى لهم، ولا يعجل لهم الشر الذي طلبوه.
﴿ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ﴾.
أي : فنترك الذين لا يتوقعون لقاءنا يوم البعث، ولا يصدقون بيوم القيامة فيما هم فيه من طغيان الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين، ولا نعجل لهم عذاب الاستئصال ؛ تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم، ونمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم ؛ إلزاما للحجة عليهم.
وقد روى الإمام الآلوسي : أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾. ( الأنفال : ٣٢ ).
وقال الإمام الرازي :«بين سبحانه في هذه الآية : أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم ؛ لأنه تعالى لو أرسل ذلك العقاب إليهم ؛ لماتوا وهلكوا، ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمنا، وذلك يقتضي ألا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر ».
ومع أن الآية تشمل المشركين اشتمالا أوليا، فإن العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ فهي كذلك تشمل طائفة من الناس يتعجلون وقوع الشر بهم أو بأولادهم أو بأحبابهم في حالة الغضب أو الحزن منهم ؛ فيدعون على أنفسهم أو على أولادهم. والله تعالى من فضله ولطفه لا يعجل استجابتهم، إذا دعوا على أنفسهم، أو أموالهم وأولادهم بالشر في حالة ضجرهم وغضبهم ؛ لأنه سبحانه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ؛ فلهذا لا يستجيب لهم في هذه الحالة، مع أنه يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم، أو لأموالهم أو أولادهم بالخير والبركة.
وقد اختار الإمام ابن كثير هذا الرأي في تفسيره ؛ فذهب إلى أن الآية تخص المسلم الذي يدعو على نفسه أو ولده في حال غضبه، فلا يعجل الله إجابته ؛ لطفا منه ورحمة.
ثم قال الإمام ابن كثير :
ولكن لا ينبغي الإكثار من دعاء الإنسان على نفسه أو أولده ؛ كما في الحديث الذي رواه الحافظ أبو البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم ).
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في ذلك لهم في الخير لأهلكهم. vi
وقال صلى الله عليه وسلم :( إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه ). vii
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ﴾. ( الإسراء : ١١ ). أي : أن الإنسان إذا غضب أو انفعل من ولده ؛ فإنه يدعو عليه بالشر مثل : المرض أو الفقر، وكان الأولى والأوفق أن يدعو له بالهداية والتوفيق والخير، ولكن الإنسان عجول يتعجل في دعائه بالشر على أحبابه، والله تعالى لا يعجل لعجلة العباد.
وقد ورد في هدى السنة النبوية : النهي عن دعاء الإنسان على ولده ؛ خشية أن تكون أبواب السماء مفتوحة ؛ فيستجاب الدعاء، وينحرف الابن، ويكون دعاء الأب سببا في فساد الابن.
المفردات :
وإذا مس الإنسان الضر : وإذا أصابه أي ضرر.
دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما : تضرع إليها وهو مضطجع على جنبه أو دعانا قاعدا أو قائما، طالبا إزالته عنه.
مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه : أي : مضى واستمر على ما كان عليه قبل البلاء من التكذيب، كأنه يلجأ إلينا لإزالة ما أصابه.
زين للمسرفين ما كانوا يعملون : حسن للمتجاوزين الحد في ارتكاب القبائح ما عملوه منها.
التفسير :
١٢ ﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا... ﴾
من طبيعة الإنسان أن يلجأ إلى الله تعالى في البأساء، وأن ينسى ذلك في النعماء ؛ فمن الناس من إذا نزل به الضر ؛ فزع إلى ربه داعيا راجيا.
قال تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ﴾. ( الإسراء : ٨٣ ).
قال سبحانه :﴿ وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ﴾. ( فصلت : ٥١ ).
والآية مع كونها تتناول الكافر تناولا أوليا، فإنها تشمل كذلك المؤمن العاصي، فهو في حالة المرض والفقر والخطر يدعو ربه، صارخا مستغيثا متبتلا راجيا فضله، متبتلا بذكره، طارقا باب مولاه بالليل والنهار، في النوم، واليقظة والجلوس والقعود، وفي جميع الحالات.
﴿ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ﴾.
أي : دعا الله تعالى حالة كونه مضطجعا لجنبه أو قاعدا أو قائما وفي جميع أحواله ؛ لأن فائدة الترديد في القعود والقيام والرقاد ؛ تعميم الدعاء لجميع الأحوال.
قال الزمخشري : معناه : أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء ؛ حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها، سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض، أم كان قاعدا لا يقدر على القيام، أم كان قائما لا يطيق المشي، ويجوز أن يراد : أن من المضرورين من هو أشد حالا، وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء، واستدفاع البلاء ؛ لأن الإنسان للجنس. viii
﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾.
فلما كشف الله كربه، وأزاح عنه الضر والبلاء ؛ اندفع في غمار الحياة، ناسيا ما كان فيه من ضر وبلاء، غارقا في بحار الغفلة كأنه لم يكن متلهفا، متبتلا، راجيا، دعيا، مستغيثا في وقت البلاء، كثير الدعاء والرجاء.
قال الشوكاني : وهذه الحالة تتفق لكثير من المسلمين ؛ تلين ألسنتهم بالدعاء عند نزول ما يكرهون بهم، فإذا كشفه الله غفلوا، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة على إجابة دعائهم، ورفع الضر ودفع المكروه. ix
﴿ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾.
زين لهم الإعراض عن الدعاء، والغفلة عن الشكر، والاشتغال بالشهوات، والجدير بالمسلمين أن يلجئوا إلى الله في السراء أيضا ؛ فإن ذلك أرجى للإجابة في الضراء.
روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( تعرف إلى الله في الرخاء ؛ يعرفك في الشدة ).
١٣ ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾.
هذه الآية خطاب لأهل مكة، وفيها تذكير وتحذير.
والمعنى : ولقد أهلكنا أهل القرون السابقة من قبلكم بسبب ظلمهم وكفرهم، مثل : قوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وفرعون وقومه، والرومان واليونان، وكل أمة كذبت رسل الله أو كفرت بنعمة الله.
فإما أن يعذبها عذاب استئصال بالغرق أو الصاعقة والهلاك، وإما أن يعاقبها بالفقر واستيلاء الآخرين على أرضها، وسيطرتهم على أملاكها مثل : قوم سبإ.
قال تعالى :﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ﴾ ( سبأ : ١٧ ).
وقال سبحانه :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾. ( النحل : ١١٢ ).
﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾. لقد أرسل الله لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وقدم مع الرسل المعجزات، مثل : ناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله على يد عيسى ؛ لكنهم كذبوا هذه المعجزات الظاهرة ؛ التي لا ينبغي فيها التكذيب والكفران، لأنها تدعوا إلى التصديق والإيمان.
﴿ وما كانوا ليؤمنوا ﴾.
وما صح لهم وما استقام أن يؤمنوا ؛ لعدم استعدادهم لذلك ؛ إذ أفسدوا فطرتهم ؛ باختيارهم الضلالة على الهدى.
﴿ كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾.
أي : مثل ذلك الجزاء الأليم الذي حل بالمكذبين، من الأمم الماضية ؛ نجزي كل طائفة أجرمت وطغت وبغت وكفرت بأنعم الله.
في هذه الآية تهديد لأهل مكة ولأمثالهم ؛ بأن يهلكهم الله إذا كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، لكن حكمة الله اقتضت تأجيل وقوع العذاب بهم ؛ أملا في استغفارهم وتوبتهم.
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ١٤ ﴾.
المفردات :
خلائف في الأرض : خلفاء في الأرض بعد إهلاك المكذبين السابقين.
التفسير :
١٤ ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾.
وهذا خطاب لمن أرسل إليهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان من شأن الله وحكمته أن يرسل الرسل وينزل الكتب، ويعاقب المكذبين جزاء ظلمهم وكفرهم وتكذيبهم للرسل، ثم خاطب الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله :
﴿ ثم جعلناكم ﴾. خلفاء في الأرض بعد تلك القرون والأمم التي أهلكنا ؛ لننظر أتعملون خيرا أم شرا، وننظر طاعتكم لرسولنا وإتباعكم له.
وفي آيات أخرى بين الحق سبحانه : أن الخلافة في الأرض والتمكين فيها ؛ سببه العمل الصالح، والاستجابة لأمر الله وقوانينه ونواميسه في تمكين العاملين المجتهدين في الخير، والانتقام من المهملين المتقاعسين عن عمل الخير.
قال تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾. ( الأنبياء : ١٠٥ ).
وقال عز شأنه :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ﴾. ( النور : ٥٥ ).
والله تعالى يستخلف قوما بعد آخرين ؛ لينظر كيف يعملون خيرا أو شرا.
قال تعالى :﴿ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾. ( الملك : ٢ ).
وقال عز شأنه :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٧ ).
وجاء في صحيح مسلم : عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون ؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء ). x
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ١٦ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ١٧ ﴾
المفردات :
لا يرجون لقاءنا : لا يتوقعون مجيء البعث، والمراد : أنهم ينكرونه.
التفسير :
١٥ ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ... ﴾ الآيات.
تكشف هذه الآيات عن وجه مشركي مكة الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدوا الأصنام، ثم نزلت آيات القرآن تدعو إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والأوثان، وتدعو العقول إلى التأمل والتفكر، في خلق هذا الكون العظيم، وأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ؛ وعندئذ جاء كفار مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه تبديل آيات القرآن ؛ حتى يمكن الاستجابة لها أو التفكير فيها طلبوا حذف الآيات التي تندد بعبادة الأصنام، وطلبوا تبديل آيات الوعيد، إلى آيات تقدم الوعد والجنة، بدلا من التوعد بالنار.
والمعنى :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ﴾. تدعو إلى توحيد الله ونبذ الأوثان وإبطال الشرك، وتشرح حقيقة الإيمان وتنفر من الغرور والعصيان.
﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾.
جاء في تفسير الآلوسي عن مقاتل قال :
نزلت هذه الآية في جماعة من قريش ؛ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت تريد أن نؤمن لك، فآت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى، وليس فيه ما يعيبها، وإن لم ينزل الله تعالى عليك ذلك فقل أنت هذا من عند نفسك، أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان حرام حلالا، ومكان حلال حراما.
والمعنى : وإذا تتلى على المشركين آياتنا الواضحة، المنزلة عليك يا محمد ؛ قالوا على سبيل العناد والحسد : ائت بقرآن آخر غير هذا القرآن الذي تتلوه علينا، أو بدله بأن تجعل مكان الآية التي فيها ذم لآلهتنا، آية أخرى فيها مدح لها.
﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾.
كان المشركون يطمعون في استجابة محمد لكلامهم ؛ وبذلك يتحول القرآن من أنه وحي من السماء، إلى أن يكون كلاما من كلام البشر ؛ والقرآن هنا يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إجابتهم، وتوضيح حقيقة موقفه ؛ فهو يبلغ عن الله، وهو أمين على وحي السماء، وما ينبغي له أن يبدل كلام الله، بكلام من عند نفسه ؛ ومن جهتها ؛ وإنما هو مبلغ عن الله، ملزم بهذا التبليغ.
قال تعالى :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾. ( المائدة : ٦٧ ).
وقد بلغ الرسول كلام ربه، وأدى هذه الأمانة.
﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾.
أي : أنا أبلغ وحي الله إلي، بدون تحريف ولا تبديل، وبدون زيادة أو نقصان ؛ فهذا وحي الله وأنا عبد الله ورسوله، ما علي إلا البلاغ.
﴿ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾.
إني أخشى إن ارتكبت أي مخالفة أو عصيان لما أمر ربي، عذاب يوم عظيم هو عذاب يوم القيامة.
المفردات :
ولا أدراكم : ولا أعلمكم الله بالقرآن عن طريق الوحي به إلي.
فقد لبثت فيكم عمرا من قبله : أي : فقد أقمت بينكم زمنا طويلا من قبل نزول القرآن عليّ.
التفسير :
١٦ ﴿ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ﴾.
أي : قل أيها النبي لهؤلاء المنكرين ؛ عنادا واستكبارا : لو شاء الله تعالى ألا يجعلني رسولا إليكم ما تلوته عليكم، ولا أدراكم به ولا أعلمكم به، ولا أخبركم به، ولكنه شاء أن أتلوه عليكم، وأن يعلمكم به بواسطتي ؛ فأنا رسول مبلغ عن الله.
﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
أي : مكثت فيكم وأقمت بينكم أربعين سنة قبل نزول القرآن علي، شاهدتم أحوالي وأخلاقي، وعرفتم صدقي وأمانتي، وعرفتم أنني أمي لم أجلس إلى معلم ؛ فكيف أستطيع أن أجيء بهذا الكتاب المشتمل على التشريع والآداب والأخلاق وقصص الأولين وأخبار القيامة والبعث. أنّى لأمّي مثلي أن يفصح عن كل هذا، إلا إذا كان ذلك عن طريق الوحي ؟ !
﴿ أفلا تعقلون ﴾.
أفلا تستخدمون عقولكم، وتعرفون أن أمثال هذه الاقتراحات المتعنتة التي اقترحتموها ؛ لا يملك تنفيذها أحد إلا الله تعالى.
المفردات :
لا يفلح المجرمون : أي : لا ينجون مما يحذرون ولا يفوزون بما يطلبون.
التفسير :
١٧ ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴾.
أي : لا أحد أظلم من رجلين :
الأول : من يفتري على الله كذبا، بأن ينسب إليه سبحانه ما هو بريء منه، أو يبدل القرآن من عند نفسه وينسب ذلك إلى الله أو يتقول على الله ويزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك.
والثاني : من كفر بآيات الله وكذب بوحي السماء.
﴿ إنه لا يفلح المجرمون ﴾.
أي : إن حال وشأن هؤلاء المجرمين أنهم لا يفلحون، ولا يصلون إلى ما يبتغون ويريدون ؛ فشتان بين محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين المؤيد بوحي السماء، المنزل عليه القرآن الصادق المعجز المتحدي به، وبين مسيلمة الكذاب المدّعي للنبوة ؛ إن الفرق بينهما كما بين الشمس في رائعة النهار، وبين نصف الليل في شدة الظلام ؛ فالحق أبلج، والباطل لجلج.
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٩ ﴾
المفردات :
أتنبئون الله بما لا يعلم في
السماوات ولا في الأرض : أي : أتخبرون الله بشفعاء لا يعلمهم في السماوات ولا في الأرض، والمراد : نفي وجودهم إذ لو وجدوا لعلمهم الله سبحانه.
التفسير :
١٨ ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ... ﴾ الآية.
هذه قصة أخرى من قصص هؤلاء المشركين، الذين عبدوا اللات والعزى ومناة، وزعموا أن هذه الأصنام تشفع لهم في الدنيا، بالنعيم والسعادة والغنى والعافية، وتشفع لهم في الآخرة، بدخول الجنة.
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : كان النضر بن الحارث يقول : إذا كان يوم القيامة ؛ شفعت لي اللات والعزى ؛ فنزلت هذه الآية :
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾. أي : إن من شأن الإله المعبود أن ينفع صاحبه الذي يعبده ويستجيب دعاءه، ويدفع عنه المكروه والضر، لكن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تضرهم إن لم يعبدوها، ولا تنفعهم إن عبدوها ؛ لأنها صماء لا تسمع ولا تعقل ولا تحس ولا تجيب، وهي غافلة عن عبادتهم.
﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ﴾.
إذا توجه القول إلى الكفار : بأن هذه الأصنام لا تسمع ولا تجيب ولا تنفع ولا تضر ؛ قالوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾. ( الزمر : ٣ ) ؛ فهم شفعاؤنا عند الله، أي : نتوسل بهم إلى الله ؛ لإصلاح معاشنا في الدنيا، وإصلاح معادنا في الآخرة.
وحال هؤلاء المشركين إن دل على شيء، فإنما يدل على فرط الحماقة والجهل ؛ حيث تركوا عبادة الإله، القادر الواحد الأحد، النافع الضار ؛ الفرد الصمد، وتوجهوا بعبادتهم إلى ما لا يضر ولا ينفع.
﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ﴾.
أي : قل أيها الرسول لهؤلاء الحمقى ؛ إنكارا عليهم وتوبيخا لهم، وسخرية منهم : أتخبرون الله تعالى بشيء لا وجود له أصلا في السماوات والأرض، وهو أن الأصنام شفعاؤكم عند الله تعالى.
جاء في تفسير التحرير والتنوير ما يأتي :
ولما كان ذلك شيئا اخترعوه من عند أنفسهم، وهو غير واقع ؛ جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به، وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه ؛ لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف، ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه : ما علم الله هذا مني، وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء : يعلم الله كذا حتى صار عند العرب من صيغ اليمين. xi
﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾.
وهي اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى أي : تنزيها لله تعالى عن إشراكهم الذي بنوا عليه هذا القول الزائف، وعن الشركاء الذين يشركونهم في العبادة معه تعالى.
المفردات :
أمة واحدة : جماعة متفقة على الحق في أصل الفطرة.
ولولا كلمة سبقت : أي : ولولا قضاء الله بتأخير الفصل بين المحق والمبطل إلى يوم القيامة.
التفسير :
١٩ ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
إن الإنسان بفطرته ينزع إلى توحيد الله الخالق.
أي : وما كان الناس كافة من لدن آدم عليه السلام ؛ إلا متفقين على الحق والتوحيد، وظلوا كذلك حتى أغوى الشيطان فريقا منهم فكفر، وثبت الآخرون على التوحيد، الذي فطروا عليه ؛ فخالف كل من الفريقين الآخر.
﴿ وَلَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
شاء الله ألا يهلك المبطلون في هذه الدنيا ؛ بل يمهلهم بعض الوقت ؛ علهم أن يتبينوا الحق والهدى وهذه منة من الله ورحمة.
فقد خلق الإنسان بيده، وأسجد له الملائكة، وميزه بالعقل وحرية الاختيار، وأخر عنه العذاب والأخذ بغتة، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وأخبره بما أصاب المكذبين من الهلاك، كل ذلك ليكون لدى الإنسان فرصة مناسبة ؛ للتأمل والتفكر والتدبر، واختيار الحق والبعد عن الباطل.
جاء في تفسير التحرير والتنوير :
وجملة :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾.
إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء ؛ لأراهم وجه الفصل في اختلافهم ؛ باستئصال المبطل، وإبقاء المحق، وهذه الكلمة أجملت هنا، وأشير إليها في سورة الشورى بقوله :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ﴾. ( الشورى : ١٤ ).
والأجل : هو أجل بقاء الأمم، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب، وأصرح من ذلك في بيان معنى ( الكلمة ) قوله في سورة هود :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾. xii ( هود : ١١٨، ١١٩ ).
﴿ لقضي الأمر فيما فيه يختلفون ﴾.
أي : لحكم بينهم عاجلا في الدنيا بإهلاك المبطلين.
﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ٢٠ ﴾
التفسير :
٢٠ ﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ... ﴾ الآية.
تعنت المشركون تعنتا شديدا أمام دعوة الإسلام، والآية تحكي جانبا في تعنتهم وامتناعهم عن قبول دعوة الإسلام، حتى يشاهدوا آية أي معجزة مثل : معجزات الرسل السابقين ؛ كما حدث لسيدنا إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى.
وقد جعل الله القرآن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وجعله معجزة عقلية تشريعية تخاطب العقل والفكر وتحكي تاريخ الأمم، وتبين سنن الله في الكون والحياة ؛ ليكون إيمان الناس عن بينة ودليل.
قال تعالى :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ﴾. ( الإسراء : ١٠٦ ).
﴿ فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين ﴾.
أي : إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة، وعلقتم إيمانكم بنزوله ؛ من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ولا علم لي به، فإن كان قدر إنزال آية علي ؛ فهو يعلم وقتها، وينزلها فيه، ولا أعلم إلا ما أوحاه إلي.
فانتظروا هذا الغيب، لكنني منتظر ما يفعله الله بكم من نكال في الدنيا أو عذاب في الآخرة.
وفي معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة تحكي تعنت المشركين في طلب معجزات مادية ومنافع دنيوية ؛ حتى يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾. ( الإسراء : ٩٠ ٩٣ ).
وقد أعطى الله رسوله معجزات أخرى لم تكن للتحدي، مثل : استجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم ؛ كشفاء المريض وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة بدر وغزوة تبوك، وغير ذلك من المعجزات ؛ لكن حجته على نبوته كانت كتاب الله المعجز بهدايته وعلومه.
روى الشيخان والترمذي : عن أبي هريرة مرفوعا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ). xiii
﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ٢١ ﴾
المفردات :
أذقنا الناس رحمة : أنعمنا عليهم بالرحمة والمراد بها : الصحة والسعة.
من بعد ضراء مستهم : أي : من بعد ضراء أصابتهم حتى أحسوا بشدتها عليهم.
إذا لهم مكر في آياتنا : المراد بالمكر هنا : الطعن في آيات الله وعدم الاهتداء بها، والاحتيال في ردها. والمكر في الأصل : تدبير الكيد في خفاء.
قل الله أسرع مكرا : المراد بيان أن الله أعجل عقوبة وأشد أخذا.
التفسير :
٢١ ﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا... ﴾ الآية.
سبب النزول :
روى البخاري ومسلم : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ دعا عليهم بسنين كسني يوسف ؛ فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع.
فأنزل الله تعالى :﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم ﴾. ( الدخان : ١٠، ١١ ).
فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك ربما هلكوا ؛ فادع الله لهم، فدعا لهم ؛ فكشف الله عنهم العذاب، ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول يطعنون في آيات الله، ويعادون رسوله ويكذبونه !
وعلماء القرآن يذكرون : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ فالآية تسجل طبيعة الناس عامة ؛ وهي التضرع والبكاء في البأساء، فإذا رزقهم الله الغنى بعد الفقر، واليسر بعد العسر، والهناء بعد الشقاء ؛ لم ينسبوا هذه النعم إلى الله تعالى بل نسبوها إلى الصدفة أو أهليتهم لهذه النعم، ودبروا كيدا ومكرا للتخلص من شكر الله على النعماء. والمراد : أنهم انصرفوا عن شكر الله وحمده، وانشغلوا بأهوائهم، وقريب من هذا المعنى ما سبق في هذه السورة :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾. ( يونس : ١٢ ).
جاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
والمعنى : وإذا أنعمنا على هؤلاء الكفار وأمثالهم بنعمة الصحة والسعة، وأفضنا عليهم أنواع الخير ؛ ورحمناهم بكشف ما نزل من المصائب الأليمة، والمكاره الشديدة التي خالطتهم وأحاطت بهم ؛ حتى أحسوا بشدة وطأتها عليهم، وسوء أثرها فيهم، إذا رحمناهم بكشفها ؛ سارعوا سرا وفي خفاء إلى تدبير ضروب الكيد لآياتنا ؛ التي أنزلناها على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم واحتالوا في دفعها وبالغوا في تكذيبها. ا ه.
﴿ قل الله أسرع مكرا ﴾.
أي : الله سبحانه وتعالى أقوى أخذا للمكذبين وأشد إهلاكا للماكرين، فلن يمهلكم حتى تظفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتنالوا منه بمكركم وكيدكم، بل إن الله سيدبر حفظه ونصره وحمايته، وقد دبر المشركون كيدا ومكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة فدبروا حبسه أو نفيه أو قتله، بيد أن الله دبر نصره وحفظه ؛ فأمره بالهجرة إلى المدينة وأعقب ذلك بالنجاح والنصر المبين.
قال تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾. ( الأنفال : ٣٠ ).
ونسبة المكر إلى الله تعالى من باب المشاكلة وهي شيء طريف في اللغة العربية، مثل قول الشاعر :
قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه *** قلت : اطبخوا لي جبة وقميصا
﴿ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ﴾.
أي : إن الحفظة من الملائكة الكرام الكاتبين يسجلون عليكم أعمالكم وكيدكم ومكركم، ويخبرون بها الله سبحانه وتعالى حتى يجازيكم عليها.
وفي هذا دليل على تمام الضبط والحفظ والعناية، وأن كيدهم ومكرهم لن يخفى على الله سبحانه.
قال تعالى :﴿ أحصاه الله ونسوه ﴾. ( المجادلة : ٦ ).
وقال سبحانه :﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ٢٢ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٣ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤ ﴾.
المفردات :
حتى إذا كنتم في الفلك : في السفن في البحر.
جاءتها ريح عاصف : شديدة.
وظنوا أنهم أحيط بهم : أن الهلاك قد أحاط بهم، وأحدق بهم.
مخلصين له الدين : دون آلهتهم وأوثانهم.
الدين : الطاعة لا يدعون سواه.
التفسير :
٢٢ ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... ﴾ الآية.
الله تعالى يمدكم بتوفيقه وحفظه عند سيركم في البحر والجو، وهو صاحب الفضل أن مهد لكم الأرض وسخر لكم البحر، ويعرض القرآن لوحة حافلة بالحياة والحركة مليئة بالانفعالات، هي صورة ركب في سفينة، تسير رخاء بريح طيبة يفرح بها الراكبون، ثم فاجأهم موقف خطير يحتوي على رياح عاصفة، وأمواج عالية، واغتلم البحر واشتدت الأزمة، واقترب الموت وساد الفزع والخوف.
في هذه الشدة لا يلجأ الإنسان إلا إلى الله، مخلصا له الدعاء والنداء، متضرعا إليه في البأساء، مترددا إليه في شدة الاضطراب والخوف.
قال تعالى :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ﴾. ( الإسراء : ٦٧ ).
وهذا دليل جديد من دلائل الألوهية دليل الدعاء والالتجاء إلى القوة الغيبية في الشدة والاضطرار، وهم يناشدون الله ملحين في الدعاء : لئن تفضل عليهم بالنجاة، وأنقذهم من براثن الموت ؛ ليخلصن له العبادة وليشكرنه على نعمه، شكرا يليق بذاته الكريمة، فلا يشركون معه في العبادة أحدا، وليفردنه بالعبادة كما أفردوه بالدعاء.
المفردات :
فلما أنجاهم : يعني : الذين أحيط بهم.
إذ هم يبغون : يتجاوزون أمر الله إلى الكفر والعصيان.
إنما بغيكم على أنفسكم : إياها تظلمون، وعليها تعتدون، لما توجبون عليها من سخط الله ونقمته.
متاع الحياة الدنيا : إنما هو متاع لكم في الحياة الدنيا.
التفسير :
٢٣ ﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق... ﴾
فلما أنجاهم الله من هذه الشدة، ومن عليهم باليسر بعد العسر، وبالفرح بعد الكرب، وأعادهم إلى البر سالمين غانمين، إذا بهم ينسون عهدهم، وينقضون ميثاقهم، ويسرفون في البغي والعدوان، ويتسلطون على عباد الله ظلما وعدوانا، وينسون حق الله عليهم، وحق العدالة والإنسانية، فحق الله عليهم : أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئا، وحق العباد : أن ينصفونهم من أنفسهم وألا يتطاولوا عليهم بالظلم والبغي والعدوان.
وقد رددت آيات القرآن هذا المعنى، فكشفت عن طبيعة الإنسان وهو الالتجاء إلى الله في الشدة والإعراض عن الله في الرخاء والنعمة.
قال تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ﴾. ( فصلت : ٥١ ).
وقال عز شأنه :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾. ( يونس : ١٢ ).
وقال تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ﴾. ( الزمر : ٨ ).
وينبه القرآن الناس إلى أن البغي لا يدوم، فللظالم يوم يعض فيه على يديه، والبغي مرتعه وخيم.
قال تعالى :﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ﴾. ( يونس : ٢٣ ).
فالظالم يظلم نفسه، ويعرضها للحساب والعقاب، وهو الذي سيتحمل مسئولية هذا الظلم في يوم الحق والجزاء.
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾. ( آل عمران : ٣٠ ).
﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾. أي : إنما هو لكم متاع في الحياة الدنيا الفانية المحدودةxiv أي : أن البغي عاقبته وخيمة على الباغي، ومتعته محدودة بهذه الحياة، أو أن الباغي يبغي على إنسان مثله، ويقضي متعة محدودة، ثم يبغي عليه إنسان آخر فذلك شأن الدنيا، تهارش وتناوش، وتنازع البقاء وتنافس في متع الدنيا والعدوان على الآخرين، وهناك قصاص عادل من رب الأرض والسماء.
﴿ ثم إلينا مرجعكم ﴾.
ثم يقف الإنسان أمام الله ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فيسأله عما قدم في دنياه، وعن نقضه عهد الله، ويخبره بحصيلة عمله في هذه الحياة.
﴿ فننبئكم بما كنتم تعملون ﴾.
وقد صرح القرآن بهذا في كثير من آياته مثل قوله سبحانه :﴿ أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ﴾. ( المجادلة : ٦ ).
وقوله :﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
المفردات :
فاختلط به نبات الأرض : فنبت بذلك المطر أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض.
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها : زينتها وبهاءها.
وازينت : تزينت.
وظن أهلها : أهل الأرض.
قادرون عليها : على ما أنبتت.
أمرنا : قضاؤنا بهلاك ما على الأرض من نبات.
فجعلناها حصيدا : فجعلنا ما عليها مقطوعا مقلوعا من أصله.
كأن لم تغن : كأن لم تعش أو كأن لم تنعم.
يقول : كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس.
التفسير :
٢٤ ﴿ إنما مثل الحياة الدنيا... ﴾ الآية.
من شأن القرآن أن يضرب الأمثال ؛ تشبيها للمعقول بالمحسوس، وإبراز للمعنى المقصود في صورة حسية مجسمة يراها الناظر ويتأملها.
ومن هذه الأمثال : تشبيه الدنيا في إقبالها وجمال بهجتها وحسن منظرها، ثم في سرعة تحويلها وانتهاء أمرها، بحال المطر ينزل من السماء فيختلط بالنبات، ثم يثمر النبات وينمو، وتزدهر الزروع والثمار، بما يأكل منه الناس والأنعام وتدب الحياة في الأرض، وتعمها الخضرة والجمال، ويصبح وجهها كالبساط السندسي، وترى الأرض في أبهى حلتها وزينتها، كالعروس الحسناء ليلة زفافها، أي : أن جني الثمرة أصبح وشيكا، وقطف الثمار صار قاب قوسين أو أدنى.
فإذا نظر الزارع إلى أرضه ؛ أعجبه الزرع ومنّى نفسه بيوم الحصاد وظن أن الزرع لن يفلت من يده، فهو قادر على جني الثمرة في يوم قريب.
ثم حدثت المفاجأة ؛ فجاء أمر الله وقدره، وأرسل بأسه وعقابه على هذا الزرع، فصار يابسا بعد الخضرة والنضارة، وتحول العرس إلى مأتم وموسم حصاد الزرع إلى حصاد الندم ! ! !
﴿ كذلك نفصل الآيات ﴾.
نبين الحجج والأدلة ونوضح الأمثال.
﴿ لقوم يتفكرون ﴾.
فيعتبرون بهذا المثل، في سرعة زوال الدنيا عن أهلها، مع اغترارهم بها، وتفلتها من بين أيديهم، والدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا أقبلت على رجل أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عن رجل سلبته محاسن نفسه.
وقد ضرب القرآن هذا المثل في كثير من الآيات محذرا من الاغترار بالدنيا، مبينا سرعة نهايتها وفجأة تحولها ؛ قال تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكن الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ﴾. ( الكهف : ٤٥، ٤٦ )، وتجد هذا المعنى في الآية ٢١ من سورة الزمر، xv كما تجده في الآية ٢٠ من سورة الحديد. xvi
وجهة نظر :
بعض العلماء يرى في هذه الآية دليلا على نهاية الكون، واحتمال هذه النهاية فجأة بين عشية وضحاها، عندما يظن الإنسان أنه امتلك ناصية الكون ؛ وأصبح قادرا على تحطيم الذرة ؛ أو إطلاق صاروخ إلى القمر، فإن ذلك لن يمنع إنهاء حياته، وإنهاء حياة الكون عندما تتعلق بذلك مشيئة الله وإرادته والمتخصصون من علماء الطبيعة يرون أن عمر الكون محدود فالكون موجود من عدم، وستنتهي حياة هذا الكون بحسب قوانين الطبيعة.
يقول الأستاذ الدكتور : زغلول النجار متحدثا عن النجوم :
وتختلف النجوم في أحجامها وألوانها، وفي درجات حرارتها، ويعتقد العلماء أن النجوم التي في السماء تختلف اختلافا كبيرا في أعمارها، وأنها تمر بدورة تشبه دورة الحياة على الأرض، فهي تبدأ نجوما زرقاء حارة، ثم تصير بيضاء فصفراء، ثم تصير في آخر الأمر نجوما باردة حمراء. والنجوم كلها تتحرك في الفضاء الكوني في اتجاهات ثابتة محددة.
ويتحدث في مكان آخر عن النجوم والكواكب فيقول :
وبالسماء ما يعرف باسم النجوم البيضاء القزمة، ومادتها ذات كثافة هائلة، ويعتقد بأنه دور لشيخوخة في حياة النجم العادي، وفي مادة هذه النجوم القزمة، يعتقد أن الإلكترونات في حالة انحلال بمفهوم نظرية الكم وحتى بمفهوم النظرية النسبية في بعض الحالات، وهناك أيضا حدا أعلى لكتلة النجم التي تكون في وضع اتزان ميكانيكي في مثل هذه الحالات.
ويتحدث عن الشمس فيقول :
وتبلغ درجة حرارة السطح الخارجي للشمس ستة آلاف درجة مئوية تقريبا، بينما يتزايد اتجاه مركزها إلى حوالي عشرين مليون درجة مئوية، وبالتحليل الطيفي لأشعة الشمس تبين أن الشمس تحتوي على نفس العناصر التي تتكون منها الأرض، ولكن بنسبة متفاوتة كثيرا، حيث يكون الهيدروجين معظم كتلة الشمس.
والشمس في تمدد مستمر، ولولا ذلك لانفجرت كقنبلة هيدروجينية هائلة، والشمس تشع أضواءها في الفضاء المتسع منذ نشأتها، وهي تفقد من طاقتها في الثانية الواحدة ما يعادل خمسمائة وثمانية آلاف مليون مليون مليون قوة حصان.
ولما كان للطاقة كتلة ؛ فإن الشمس تفقد من كتلتها ما يعادل خمسة ملايين من الأطنان في كل ثانية، وعلى ذلك فقد حسب أنه بعد خمسة آلاف مليون سنة من الآن ستتوهج الشمس أكثر من ذلك ألف مرة ويزداد حجمها مائة مرة، ثم بعد ١٥ ألف مليون سنة من الآن ستتحول الشمس إلى ما يعرف بالنجوم البيضاء القزمة، وحينئذ تنطفئ جذوتها ويخبو نورها، وهذا بالطبع إذا استمرت الأمور في إطارها العادي دون طارئ خارجي يتدخل من إرادة عظمى تهيمن على هذا الكون وتسيره. xvii
لقد أخبر القرآن الكريم : أن الدنيا محدودة الأجل، وإذا جاء يوم القيامة ؛ انشقت السماء، وامتدت الأرض، ونسفت الجبال، وفجرت البحار، وكورت الشمس، وانكدرت النجوم.
﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ٥١ ).
﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٢٥ ﴾
التفسير :
٢٥ ﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ... ﴾ الآية.
بعد أن بين لهم زوال الدنيا وسرعة تغيرها ؛ دعاهم هنا إلى العمل للآخرة ؛ المؤدى إلى دخول الجنة.
والمعنى : والله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح، والمسارعة إلى الخير ؛ فإن ذلك يؤدى إلى الجنة وهي دار السلام، وسميت الجنة دار السلام ؛ لسلامتها من الآفات والشوائب، والنقائص والأكدار، فالله تعالى حثنا على طاعته، وحذرنا من معصيته، وأمرنا بالجهاد وبذل النفس والمال في سبيل الله.
قال تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾. ( التوبة : ١١١ ).
﴿ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾.
أي : ويرشد من أراد هدايتهم إلى طريق معتدل لا عوج فيه وهو الإسلام والعمل بشرائعه.
﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٦ ﴾
المفردات :
الحسنى : أي : المثوبة الحسنى في الجنة، وهي تتفاوت حسب تفاوت درجات الإحسان.
يرهق : يغشي ويغطي.
قتر : أي : غبرة فيها سواد كالقترة، ومن معانيها في اللغة : الدخان الكثيف من شواء أو فحم أو حطب أو غيره.
التفسير :
٢٦ ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ... ﴾ الآية.
أي : للذين أتقنوا عملهم في الدنيا الجزاء الحسن في الآخرة وهو الجنة. والزيادة : هي رضوان الله تعالى ورؤية الله عز وجل.
روى أحمد ومسلم وجماعة من الأئمة : عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال :( إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا أن ينجزكموه ؛ فيقولون : وما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار ؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم ). xviii
﴿ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ﴾.
ولا يعلو وجوههم شيء مما يغشي وجوه الكفار من الغبرة التي فيها سواد، والهوان والصغار. أي : لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر وفي شأن أهل النار.
قال تعالى :﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة ﴾. ( عبس : ٤٠، ٤١ ).
وقال سبحانه :﴿ وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة ﴾. ( الغاشية : ٢، ٣ ).
﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾. أي : أولئك السعداء هم المقيمون في الجنة إقامة دائمة كأنهم أصحابها، وهم خالدون في الجنة خلودا أبديا، لا خوف معه ولا زوال.
﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٧ ﴾
المفردات :
كسبوا السيئات : عملوا المعاصي من كفر وغيره.
من عاصم : من حافظ ومانع.
أغشيت : غطيت.
التفسير :
٢٨ ﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا... ﴾ الآية.
أثاب الله المتقين بالحسنى وزيادة، ثم عاقب مرتكب السيئة بمثل ما ارتكب، فالجزاء الحق من جنس العمل ؛ فمن ارتكب السيئات جازاه الله على كل سيئة بمثلها، أي : بمقدارها في الصغر والعظم، بدون زيادة.
قال تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾. ( الأنعام : ١٦٠ ).
﴿ وترهقهم ذلة ﴾. أي : يغشاهم الهوان الذي يلف وجوههم ونفوسهم.
قال تعالى :﴿ ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة ﴾. ( عبس : ٤٠ ٤٢ ).
فشدة العذاب قد أثرت في نفوسهم وأرهقها بالمذلة والهوان، نعوذ بالله تعالى من حال أهل النار !
قال تعالى :﴿ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ﴾. ( الشورى : ٤٥ ).
﴿ ما لهم من الله من عاصم ﴾.
أي : ليس لهم من دون الله منقذ أو مدافع يحميهم من عذابه.
﴿ كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾.
كأنما ألبست وجوههم أجزاء أغشية من سواد الليل المظلم ؛ لفرط سوادها وظلمتها، فالسواد قد علا وجوههم، وتراكم السواد طبقات فوق طبقات، وفيه تعبير عن ظلام النفس وظلام الوجه، ومن حكمة الله أن ظلام النفس يظهر أثره على ظلام الوجه.
قال تعالى :{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون{ . ( آل عمران : ١٠٦ : ١٠٧ ).
وقال الشوكاني :
﴿ كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾ ؛ لشدة ما يغشاها من دخان النار وسوادها. ا ه.
﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
أي : أولئك المتصفون بتلك الصفات، هم أصحاب النار لا انفكاك لهم عنها، وهم فيها خالدون خلودا أبديا لا نهاية له. وفي الآيتين صور من كمال الرضوان للمؤمنين، وصور رائعة من الأدب الرفيع في ألوان العذاب التي تحيق بالكافرين.
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ٢٨ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ٢٩ ﴾
المفردات :
فزيلنا : فرقنا وفصلنا.
التفسير :
٢٨ ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ... ﴾ الآية.
هذا مشهد فاصل من مشاهد يوم القيامة ؛ حيث يحشر العابد والمعبود لسؤالهم على رءوس الخلائق، ثم يؤمر الجميع بالوقوف في أماكنهم ؛ استعدادا للسؤال.
قال تعالى :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ﴾. ( الصافات : ٢٤ ).
﴿ فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ﴾. أي : فرقنا بين العابدين والمعبودين، وانقطع ما كان بينهم في الدنيا من صلات وآمال، حيث كان المشركون يعبدون الشركاء على أمل شفاعتهم، وهم الآن قد يئسوا من نفع هذه الأصنام وابتعد المشركون عن اللجوء إليها.
﴿ وقال شركاؤهم ما كنتم تعبدون ﴾.
أي : لم نأمركم بعبادتنا، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم، وشياطينكم، الذين أغووكم، أمروكم بعبادتنا فأطعتموهم، وفي هذا تهديد ووعيد، وأنه تتبدد حينئذ آمال المشركين في شفاعة الشركاء.
الشركاء : هم كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وملك وإنسي وجني.
وتبرؤ الأصنام وما في حكمها من عبادة المشركين، إما أن يكون بلسان الحال، وإما أن يكون بلسان المقال ؛ بأن ينطقها الله الذي أنطق كل شيء.
قال تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ﴾. ( البقرة : ١٦٦ ).
٢٩ ﴿ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾.
أي : إن الله يشهد بيننا وبينكم، وهو أعظم شهيد تكفينا شهادته بأننا ما رضينا عن عبادتكم، ولأمرناكم بها، ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ؛ لأنا كنا جمادا لا روح فينا.
﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٣٠ ﴾
المفردات :
تبلو : تعرف يقينا ما قدمت.
التفسير :
٣٠ ﴿ هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت... ﴾ الآية.
عندئذ في الآخرة بعد أن تبرأ الشركاء ممن عبدوهم، وغاب عن المشركين من كانوا يأملون في شفاعتهم، يظهر لكل نفس ما قدمت من عمل في هذه الدنيا، وأي هذه الأعمال تثاب عليه يوم القيامة، وأي : هذه الأعمال تعاقب عليه.
قال الشوكاني : أي : في ذلك الموقف تذوق كل نفس وتخبر جزاء ما أسلفت من العمل.
﴿ وردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾.
أي : رجع المشركون يوم القيامة إلى الإله الحق الذي كان يرزقهم ويطعمهم ويخلقهم ويميتهم ويحييهم دون ما اتخذوا من الشركاء.
﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.
أي : وغاب عنهم وذهب عنهم ما كانوا يدعون زورا وبهتانا من الشفعاء والشركاء والآلهة ؛ فلم تنفع ولم تشفع.
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ٣١ ﴾
المفردات :
يدبر الأمر : يصرف شأن الكائنات بنظام دقيق وحكمة بالغة.
٣١ ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ... ﴾ الآية.
تناقش هذه الآية موقف المشركين، في الانصراف عن عبادة الله إلى عبادة غيره، فتقول لهم : من ينزل لكم رزق السماء بالأمطار و الهواء، والشمس والقمر والنجوم ويسخر هذا الكون ؟ ! ومن يرزقكم من الأرض بالنبات والحيوان والطيور والأسماك ؟ ! فلا شك أن هذا الرزق كله من عند الله ؛ تكريما لكم، وحفظا لحياتكم.
﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾.
أي أخبروني من يملك أداة السمع وما أعد فيها من أسباب إدراك المسموعات ؟ ! ومن يملك أداة البصر وما هيئت به لإدراك المبصرات ؟ ! وخص السمع والبصر ؛ لأنهما أهم الحواس، وأداة تحصيل العلوم.
وقد جاء لفظ السمع مفردا، ولفظ الأبصار جمعا ؛ لأن السمع يتناول نوعا واحدا هو الأصوات، أما الأبصار فتتناول الأحجام والأبعاد والألوان والأشكال.
﴿ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾.
أي : من ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله ؛ فيخرج الأحياء من الأموات، والأموات من الأحياء، فيخرج الليل من النهار، والنهار من الليل، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن ؟ ! من يملك إخراج النبات من الأرض، ومن يملك إخراج الإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان، والطير من البيضة، والبيضة من الطير ؟ !
﴿ ومن يدبر الأمر ﴾.
أي : من يتولى تدبير الأمر في هذا الكون فيرفع السماء ويبسط الأرض ويرسي الجبال، وسخر الشمس والقمر، ويمسك بزمام هذا الكون ويحفظ نظامه ومسيرته ؟ !
ومن يجيب الدعاء، ويحقق الرجاء، ويشفي المريض ويعافي المبتلى ويغني الفقير ويفقر الغني ؟ ومن بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير ؟ !
﴿ فسيقولون الله ﴾.
أي : سيقولون الله وحده هو الذي فعل كل ذلك.
﴿ فقل أفلا تتقون ﴾.
أي : إذا أقروا بأن الله هو الخالق الرازق، المنعم المدبر، المتفرد بالملك والوحدانية ؛ فقل لهم يا محمد : أفلا تتقون الله فتفردوه بالعبادة ؟ !
﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٣٢ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٣ ﴾
المفردات :
فأنى تصرفون : أي : فكيف تتحولون عن الحق.
التفسير :
٣٢ ﴿ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ... ﴾ الآية.
أي : هذا هو الإله الخالق الرازق المبدع، مالك الملك، هو الإله الحق الذي ينبغي أن نتوجه جميعا إليه بالعبادة.
﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾.
أي : ليس بعد ترك الحق إلا الضلال، وهو إشراك الأصنام مع الله في العبادات وهو أمر لا يختاره عاقل.
﴿ فأنى تصرفون ﴾.
أي : كيف تتحولون عن الحق إلى الضلال ؟ ! وكيف تصرفون عن الهدى إلى الباطل ؟ ! ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.
المفردات :
فسقوا : خرجوا عن طاعة الله، وأصل الفسق : الانسلاخ عن الجلد، ومنه فسقت الرطبة عن قشرها، أي : انسلخت منه، والفاجر : فاسق ؛ لانسلاخه عن طاعة الله.
التفسير :
٣٣ ﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
أي : كما ثبت أن الحق ليس بعده إلا الضلال، ثبت حكم الله تعالى على الذين تمردوا على طاعته، وعتوا عن أمره، واستمروا على كفرهم ؛ عنادا ومكابرة. ﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾. فقد سلب الله عنهم الهدى، ولم يمنحهم التوفيق ؛ جزاء كفرهم وعنادهم.
قال تعالى :﴿ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ﴾. ( آل عمران : ١١٧ ).
﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٣٤ ﴾
المفردات :
أنى : كيف.
تؤفكون : أي : تصرفون عن الحق إلى الباطل.
التفسير :
٣٤ ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... ﴾ الآية.
يستمر القرآن الكريم في هذه المناقشة الفريدة التي توضح ضياع الأصنام، وضياع عبادها، وتبدأ بكلمة : قل. وتتكرر مع بداية الآية.
أي : قل لهؤلاء المشركين الذين يعبدون آلهة من دون الله : هل ادعى أحد من هذه الآلهة التي تعبدونها أنه بدأ الخلق ؛ فخلق هذا الكون بما فيه من سماء وأرض، وشمس وقمر، وفضاء، وهواء وماء وتربة، وتكامل بين أجزاء هذا الكون بحيث يؤدي إلى استمرار الحياة ؟
وهل من شركائكم من يخلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من عظام، ثم يكسو العظام لحما، ثم ينشؤه خلقا آخر ؟ !
فإذا عجزوا عن الجواب، أو أنكروا البعث والمعاد ؛ فتطوع يا محمد لهم بالجواب وقل لهم :
﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾.
فهو الذي بدأ هذا الكون على غير مثال سابق، وهيأ هذا الكون للحياة، ثم خلق الإنسان وأمده بالسمع والبصر والفؤاد وسائر الحواس ثم سخر له هذا الكون.
﴿ فأنى تؤفكون ﴾.
أي : كيف تصرفون عن الحق، وتتجهون إلى الباطل مع وضوح الأمر أمامكم، وقيام الدليل على وحدانية الله ؛ فكيف تتركون التوحيد، وتتجهون إلى الشرك بالله ؟ !
﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٣٥ ﴾
المفردات :
يهدي : يهتدي.
يهدى : أي : إلا أن يهديه الله تعالى.
تمهيد :
الإنسان جسم وروح، والله تعالى خالق الكون وخالق الأجسام وخالق الأرواح. و في الآية السابقة تحدث القرآن عن أن الله يبدأ الخلق ويوجده بخلق الكون، ثم خلق الإنسان، وهو سبحانه يعيد الخلق مرة أخرى بالبعث يوم القيامة. وفي هذه الآية تحدث عن هداية الأرواح ؛ بإنزال الكتب وإرسال الرسل، وهداية البشر، وتوجيه الروح إلى الحق، ومنح العون والرشاد للمؤمنين، وسلب الهداية والتوفيق عن الضالين.
قال تعالى :﴿ الذي خلقني فهو يهدين ﴾. ( الشعراء : ٧٨ ).
وقال سبحانه :﴿ سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ﴾. ( الأعلى : ١ ٣ ).
التفسير :
٣٥ ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ... ﴾ الآية.
المعنى : قل لهم يا محمد : هل من شركائكم من يستطيع أن يهدي غيره إلى الدين الحق ؟ فينزل كتابا أو يرسل رسولا أو يشرع شريعة، أو يضع نظاما دقيقا لهذا الكون ؟ أو يحث العقول على التدبر والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ؟
قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي يفعل كل ذلك، أما شركاؤكم فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك. أفمن يهدي غيره للحق والهداية والرشاد أحق أن يتبع فيما يأمر به وينهى عنه، أم من لا يستطيع أن يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، أحق بالإتباع ؟ !
﴿ فما لكم كيف تحكمون ﴾.
أي : ما صرفكم عن الحق ؟ ! كيف تحكمون في شأن هذه الحجة التي أوردناها لكم ؟ وكيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء الله ؟ !
وقوله سبحانه :﴿ أمن لا يهدي ﴾. ورد فيه ست قراءات منها قراءة يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال ومنها قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف كيرْمى.
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ٣٦ ﴾
التفسير :
٣٦ ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾.
أي : ما يتبع أكثر المشركين في عبادة الأصنام، إلا التقليد للآباء، والظن بأن هذه الأصنام تشفع لهم يوم القيامة، وليس معهم دليل يقيني بذلك.
﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾.
إن أمر الدين ينبغي أن ينبني على العلم اليقيني، وبه يتّضح الحق من الباطل، وإن الظن الفاسد المبني على الأوهام، لا يغني صاحبه شيئا من الإغناء، عن الحق الثابت الذي لا ريب في ثبوته، والمراد من الحق هنا : ما ثبت بطريق سماوي، أو دليل عقلي مبني على الآيات الكونية، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن العلم اليقيني واجب على كل مسلم في أصول العقائد.
﴿ إن الله عليم بما تعملون ﴾. تذييل قصد به : التهديد والوعيد.
﴿ و َمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٣٧ ﴾
المفردات :
ما كان : ما صح ولا استقام.
يفترى : يختلق.
ولكن تصديق الذي بين يديه : أي : ولكن أنزله ؛ تصديقا للكتب السماوية التي سبقته في أصول العقائد والأحكام قبل تحريفها.
وتفصيل الكتاب : تبيين ما كتب وأثبت في الكتب السماوية.
التفسير :
٣٧ ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ... ﴾ الآية.
تتابع هذه الآية مع ما قبلها وما بعده تفنيد حجج المشركين ؛ حيث ادعوا : أن القرآن من عند محمد ؛ فبينت الآية أن هذا القرآن في إعجازه واشتماله على التشريع والآداب وأخبار السابقين، وعلوم الآخرين، وأخبار الغيب، ومجيء جميع ما فيه في أقصى درجات الفصاحة والبلاغة والدقة، وفي أنماط سامية، وآفاق عالية، كل ذلك يدل على أنه ليس من صنع بشر بل هو كلام الله، ولا يستطيع مخلوق أن يخترعه أو يختلقه ؛ لأنه فوق طاقة الإنس والجن.
﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾.
ولكن الله أنزله مصدقا وموافقا لما تقدم من الكتب السماوية، ومعنى تصديق القرآن لما سبقه من الكتب السماوية مثل : التوراة، والإنجيل، والزبور : أنه اتفق معها في الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر، والتحلي بالآداب ومكارم الأخلاق.
﴿ وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ﴾.
أي : وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام، والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع.
﴿ لا ريب فيه ﴾. أي : لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه ؛ لوضوح برهانه ؛ لأنه الحق والهدى.
﴿ من رب العالمين ﴾. أي : من وحيه، لا افتراء من عند غيره ولا اختلاقا. كما قال تعالى :﴿ و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾. ( النساء : ٨٢ ).
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ ﴾
التفسير :
٣٨ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ... ﴾ الآية.
والمعنى : بل أيقولون : افتراه محمد واختلقه من قبل نفسه ؟ ! فإذا كان ذلك صحيحا ؛ فأنتم أرباب البيان والفصاحة والبلاغة، فأتوا بسورة مثله !.
﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله ﴾.
وهذا توسع في دائرة التحدي، أي : اجمعوا ما شئتم، واستعينوا بمن تستطيعون الاستعانة بهم لمعاونتكم في الإتيان بسورة واحدة مثله.
﴿ إن كنتم صادقين ﴾.
أي : في دعواكم : أني افتريت هذا القرآن. والآية دالة على إعجاز القرآن الكريم في فنون متعددة.
الإعجاز اللفظي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز الغيبي، مع الإحاطة بنفسية ومعرفة ما يناسبها مما يعجز عن الإتيان به فحول العلماء في جيل من الأجيال ؛ بل في سائر الأجيال.
وقد استمر هذا التحدي وامتد في مكة والمدينة، مع وجود الحاجة والدافع، واستمرار القتال بين المشركين والمؤمنين. والعرب أفصح الناس وأبلغهم، وأحوج الناس إلى إسكات صوت محمد ؛ فلو كانت أمامهم أي وسيلة للإتيان بسورة مثله ؛ لفعلوا، وقد حاولوا وجاءوا ببعض السور ؛ فكانت أدل على عجزهم.
و صدق الله العظيم :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾. ( الإسراء : ٨٨ ).
﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ٣٩ ﴾
التفسير :
٣٩ ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ... ﴾ الآية.
أي : بل هم سارعوا إلى تكذيبه من غير إحاطة بعلم ما فيه ولا تدبر لمعانيه، ولا وقوف على ما جاء به من الأدلة الشاهدة بصدقه، من تشريع حكيم، وآداب وحكم عالية، وغير ذلك من أسرار إعجازه.
قال الزمخشري :
أي : بل سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يفقهوه، ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه ؛ وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم.
﴿ ولما يأتهم تأويله ﴾.
أي : كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة معانيه وفضائله ؛ تمردا وعنادا.
جاء في تفسير المراغي :
وخلاصة ذلك : أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار بالغيب قد أسرعوا في تكذيبه قبل أن يتدبروا أمره، أو ينتظروا وقوع ما أخبر به. وفي تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع حصوله، شناعة وقصر نظر لا تخفى على عاقل، وفيه دليل على أنهم مقلدون. xix
﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين ﴾.
أي : مثل ذلك التكذيب الناشئ عن عدم التدبر ؛ كذب الذين من قبلهم من مشركي الأمم رسلهم ؛ فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوه، كقوم نوح وعاد وثمود، فكانت نتيجة هذا التكذيب ؛ أن أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر.
قال تعالى :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. ( العنكبوت : ٤٠ ).
﴿ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ٤١ ﴾
التفسير :
٤٠ ﴿ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ... ﴾ الآية.
أي : ومن هؤلاء المشركين من يؤمن بالقرآن في قلبه وباطنه ؛ ولكن منعه العناد والحسد والكبر أن يؤمن به ظاهرا أمام الناس.
قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾. ( النمل : ١٤ ).
وقال عز شأنه :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾. ( الأنعام : ٣٣ ).
ومن هؤلاء أهل مكة من لا يؤمن بالقرآن ظاهرا وباطنا ؛ فقد طمس الله على بصيرته فآثر تقليد الآباء على الإيمان، وآثر الغي على الرشد. وقيل : إن المعنى : ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ومنهم من يصر على الكفر والعناد ولا يؤمن بالقرآن الكريم.
﴿ وربك أعلم بالمفسدين ﴾.
أي : إن الله عليم بمن أفسد في الأرض بالظلم وإتباع الهوى، وترك الإيمان بالله وتكذيب وحي السماء. وهذا العلم مراد به : لازمه، وهو الحساب والعقاب.
٤١ ﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ... ﴾ الآية.
أي : وإن تمادى هؤلاء الكفار في طغيانهم وتكذيبهم ؛ فقل لهم : أنا مسئول عن عملي أمام الله، وأنتم مسئولون عن أعمالكم أمامه.
﴿ أنتم بريئون مما أعمل ﴾. فلا تتحملون مسئوليته.
﴿ وأنا بريء مما تعملون ﴾. فلست مسئولا عنه ؛ فالآية الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بأن عليه البلاغ فقط أما حسابهم فعلى الله تعالى.
قال الله تعالى :﴿ الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ﴾. ( الشورى : ١٥ ).
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ٤٢ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ٤٣ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ ﴾
المفردات :
الصم : فاقدي حاسة السمع.
التفسير :
٤٢ ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ... ﴾ الآية.
أي : ومن هؤلاء المشركين من يستمع إلى القرآن بآذانهم ولا يتدبرون معناه بقلوبهم، وقد وصف الله حالهم في آي أخرى فقال سبحانه :﴿ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾. ( الأنعام : ٢٥ ).
وقال سبحانه :﴿ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم ﴾. ( الأنبياء : ٢، ٣ ).
﴿ أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ﴾. أي : إن السماع النافع للمستمع هو الذي يعقل به ما يسمعه ويفقهه ويعمل به، ومن فقد هذا ؛ كان كالأصم الذي لا يسمع، وإنك أيها الرسول الكريم لم تؤت القدرة على إسماع الصم الذين فقدوا حاسة السمع حقيقة ؛ فكذلك لا تستطيع أن تسمع إسماعا نافعا من في حكمهم وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون، ولا يفقهون معناه فيهتدوا به، وينتفعوا بعظاته.
المفردات :
لا يبصرون : أي : لا يدركون ببصيرتهم.
التفسير :
٤٣ ﴿ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾.
أي : يتأمل في وجهك، ويشاهد البراهين الدالة على صدقك ؛ فإن وجهك ليس بوجه كذاب، وسيرتك السابقة واللاحقة تدل على أنك صادق أمين ؛ ولكنك يا محمد لا تستطيع أن تهدي العمى ولو انضم إلى فقدان بصرهم، فقدان بصيرتهم.
والمقصود في الآتين : أن هداية السماء وتوفيق الله ومعونته، لا تمنح إلا لمن كان أهلا لذلك، بأن استخدم عقله وفكره، وسار في طريق التأمل والتبصر، فيعينه الله بتوفيقه ومعونته، والمقصود : أنت لا تستطيع إسماع الأصم الغافل، ولا هداية أعمى القلب والبصيرة.
قال تعالى :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾. ( الحج : ٤٦ ).
٤٤ ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
من عدالة الله تعالى : أنه خلق الخلق وأرسل وأنزل الكتب ومنح الإنسان العقل والتفكير، ووسائل الإدراك ؛ فالله تعالى لم يظلم الإنسان، بمعنى : أنه لم ينقصه شيئا من وسائل الإدراك والهداية، بل منحه العقل وهداه النجدين، وبين له الطريقتين، تلك سنة الله في خلقه، وهي سنة كونية وإنسانية ؛ فهو سبحانه عادل في خلقه، وعادل في حكمته.
بيد أن الإنسان هو الذي يظلم نفسه فيختار الضلال على الهدى، ويفضل الكفر على الإيمان، وعندئذ يستحق الجزاء العادل في الآخرة وهو الحساب والعقاب.
قال تعالى :﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾. ( الطور : ٢١ ).
وقال سبحانه :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾. ( المدثر : ٣٨ ).
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ٤٥ ﴾
التفسير :
٤٥ ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ... ﴾ الآية.
يذكر الله تعالى الناس بقيام الساعة والحشر في قبورهم، على طريقة القرآن الكريم في عرض مشاهد القيامة، كأنها مشاهدة أما الإنسان ؛ ليأخذ العظة والعبرة.
والمعنى : واذكر لهم أيها الرسول الكريم وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث والحشر، والبعث : هو إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم بعد جمع ما تفرق من أجزائهم الأصلية، ثم يحشرون إلى أرض المحشر للحساب والجزاء، وعندما يشاهدون هول الموقف يلاحظون هوان الدنيا، وقصر عمرها ؛ كأنهم لم يمكثوا إلا وقتا يسيرا أو ساعة من ساعات النهار، يشاهد بعضهم بعضا. وفي هذا المحشر يعرف الظالمون بعضهم بعضا، ويتناولون إلقاء التهم على بعض ؛ فيقول الضعفاء للذين استكبروا : لقد كنا لكم أتباعا في الدنيا ؛ وسرنا وراءكم ؛ فهل تتحملون عنا شيئا من العذاب ؟ ! ويتنصّل الذين استكبروا من تبعتهم، ويذكرون أن العذاب سينزل بالتابعين والمتبوعين، ويستمر التعارف فترة ثم ينقطع التعارف عند شدة الأهوال في الحساب والجزاء.
﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ﴾.
وهذه جملة تقديرية تعلن خسارة هؤلاء الكفار ؛ حين باعوا الآخرة ونعيمها الدائم، وأعرضوا عن هداية السماء، واشتروا متع الدنيا ولهوها وغرورها، فآثروا العاجلة على الآجلة.
﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ ؛ حين أعرضوا عن الإيمان بالرسل، وأسرفوا في عنادهم، وخسروا نعيم الآخرة مع أن الدنيا إلى زوال وهي ساعة محدودة، ومدة وجيزة، ثم يساق الناس إلى الجزاء العادل.
قال تعالى :﴿ فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى ﴾. ( النازعات : ٣٧ ٤١ ).
﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ٤٦ ﴾
التفسير :
٤٦ ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ... ﴾ الآية.
كان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم في توعده لهم بالعذاب، وكانوا يستعجلون نزوله ؛ تكذيبا له واستهزاء به، ويتمنون موته ؛ لتموت دعوته، فرد الله عليهم مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : إن ننتقم منهم في حياتك ؛ لتقر عينك كما حدث يوم بدر وحنين وغيرهما فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فمصيرهم إلينا، وسوف نذيقهم العذاب الشديد ؛ جزاء عنادهم وكفرهم.
﴿ ثم الله شهيد على ما يفعلون ﴾.
وهذه الجملة تأكيد للوعيد السابق والمراد : أن الله مطلع على أعمالهم وكفرهم، فيجازيهم على علم وشهادة حق.
وذلك كقوله تعالى :﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾. ( الرعد : ٤٠ ).
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٤٧ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ ﴾
التفسير :
٤٧ ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
من حكمة الله تعالى أنه أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب ؛ لهداية الإنسان، وتذكير عقول البشر بما ينفعهم.
قال تعالى :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون الناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾. ( النساء : ١٦٥ ).
فليس محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، بل أرسل الله رسلا إلى كل أمة ؛ قال تعالى :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾. ( فاطر : ٢٤ ).
لقد أرسل الله الرسل إلى أمم سابقة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وفي يوم القيامة يجمع الله كل أمة ومعها رسولها، والملائكة تشهد عليها، والكرام الكاتبون. وفي هذا اليوم يقضي الله بين الخلائق، وأول من يقضى بينهم من الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ تكريما لرسولها. ثم يقضي بين جميع الأمم بالقسط والعدل، ويوفى كل إنسان جزاء عمله بدون أن يظلم مثقال ذرة.
قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾. ( النساء : ٤٠ ).
٤٨ ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
رفض المشركون دعوة الإسلام، واستخفوا بها، واستهانوا بوعيد الله لهم بالعذاب، ثم تساءلوا حين تأخر العذاب عنهم ؛ فقالوا : متى يتحقق ما أنذرتمونا به من العذاب إن كنتم صادقين في هذا الوعيد ؟ !
﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩ ﴾
التفسير :
٤٩ ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ... ﴾ الآية.
أمر الله رسوله أن يجيبهم : بأن إنزال العذاب بالأمم المكذبة شأن من شئون القدرة الإلهية، وأنا بشر مثلكم ؛ لا أملك لنفسي ضرا أمنعه، ولا خيرا أجلبه ؛ إلا ما شاء الله أن يقدرني عليه.
﴿ لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾.
وللأمم المكذبة وقت معين مضروب عند الله، لا يعلمه إلا هو ؛ فإذا جاء ذلك الأجل نزل في الموعد المحدد ؛ بدون تأخير ولا تقديم، والساعة يراد بها : جزء من الوقت ؛ وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم ؛ تأكيدا بأن وعد الله لا يتخلف.
قال تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾. ( النحل : ١ ).
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ٥١ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ٥٢ ﴾
المفردات :
أرأيتم : أي : أخبروني.
بياتا : أي : ليلا، وقت نومكم وغفلتكم.
ماذا يستعجل منه المجرمون : أي شيء يستعجل المجرمون من العذاب ؟
التفسير :
٥٠ ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا... ﴾ الآية.
أي : أخبروني عن حالكم إذا باغتكم العذاب وأنتم نائمون أو مستقرون في بيوتكم بالليل، أو جاءكم وأنتم مشغولون في معاشكم بالنهار ؛ إن هذا العذاب فيه نهايتكم وهلاككم، والعاقل لا يستعجل وقوع المصائب به.
قال القرطبي : قوله :﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾.
استفهام معناه : التهويل والتعظيم، أي : ما أعظم ما يستعجلون به، كما يقال لمن يطلب أمرا تستوخم عاقبته : ماذا تجني على نفسك ؟ ! ا ه.
وقوله تعالى :﴿ إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ﴾. أسلوب شرط وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن أتاكم عذابه في أحد هذين الوقتين ؛ أفزعكم وأهلككم ؛ فلماذا تستعجلون وقوع شيء هذه نتائجه ؟ !
المفردات :
أثم إذا ما وقع آمنتم به : أي : أبعد ما يقع العذاب حقيقة تؤمنون به، ودخول همزة الاستفهام على، ثم ؛ لإنكار تأخيرهم الإيمان إلى وقت وقوع العذاب وتوبيخهم عليه.
التفسير :
٥١ ﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾.
من شأن القرآن الكريم تصريف القول، وتلوين الوعيد، واستحضار الغائب، وهنا عرض القرآن مشهدا من مشاهد العذاب ؛ حين يشاهد الكفار المكذبون عذاب الله رأى العين ؛ فيؤمنون بالله بعد فوات الأوان !
ومعنى الآية :
إنكم أيها الجاهلون لستم بصادقين في استعجال وقوع العذاب بكم، فإنكم حين ينزل العذاب وتشاهدون أهواله وتذوقون مرارته ؛ تؤمنون بأنه حق.
ويتحول استهزاؤكم به إلى تصديق وإذعان وتحسر ؛ لكن هذا الإيمان لن يقبل منكم ؛ لأنه جاء بعد فوات الأوان، ومن سنة الله أن يرسل الرسل وينزل الكتب، ويترك الفرصة للإيمان في سعة الحياة فإذا انتهى الأجل وحل العذاب ؛ لا يقبل من الإنسان الإيمان بعد انتهاء السعة والفرصة السانحة في دنياه.
قال تعالى :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين* فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ﴾. ( غافر : ٨٤، ٨٥ ).
٥٢ ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾.
بعد أن أنكر عليهم الإيمان بعد فوات الأوان في الآية السابقة ؛ أفاد هنا أنه يقال للظالمين المعاندين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان وتكذيب الرسول تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، ﴿ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ﴾. أي : إن الجزاء الحق من جنس العمل وقد اخترتم الكفر على الإيمان ؛ فذوقوا العذاب بما كسبت أيديكم، وفي هذا المعنى قال تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
﴿ * وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٥٤ ﴾
المفردات :
ويستنبئونك : أي : ويطلبون منك النبأ وهو الخبر.
إي وربى : نعم وحق ربي.
وما أنتم بمعجزين : أي : وما أنتم بمفلتين من عذاب الله.
التفسير :
﴿ وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾.
لا يزال الكلام متصلا في نقاش الكافرين، والنبأ : الخبر الهام، والاستنباء : طلب النبأ.
والمعنى : وقع في قلب الكفار رعب وخوف من عذاب الله في الدنيا والآخرة ؛ فطلبوا من الرسول بيان الحقيقة، وهم يسخرون ويستهزءون، كما صنع قوم نوح.
قال تعالى :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ﴾. ( هود : ٣٨ ).
بيد أن الله أمر رسوله أن يرد عليهم، ويجيبهم : بأن العذاب حق واقع لا محالة من وقوعه، وأنتم لن تهربوا من عقاب الله، ولن تنجوا من عذابه، ولن تستطيعوا الامتناع عن العذاب ؛ فإن قدرة الله فوق كل قدرة، وأنتم في قبضته وهو قادر على عذابكم. وكلمة إي : بمعنى : نعم، وقد ورد القسم بالله في آيتين أخريين في القرآن ردا على مزاعم الكافرين وإنكارهم للبعث.
قال ابن كثير : وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان :
الأولى : في قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ﴾. ( سبأ : ٣ ).
والثانية : في قوله تعالى :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ﴾. ( التغابن : ٧ ).
المفردات :
وأسرو ا الندامة : قال أبو عبيدة : معناه : وأظهروا الندامة. وقال غيره : وأخفوا الندامة فهو من الأضداد.
بالقسط : القسط بكسر القاف : بمعنى : العدل أما بفتحها : فبمعنى : الظلم وليس له موضع هنا.
التفسير :
٥٤ ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ... ﴾
الظالم لن يعجز الله ولن يستطيع الإفلات من عذابه، وكل نفس ظلمت في الدنيا بالشرك أو المعاصي ؛ تندم أشد الندم على ظلمها، ولو أنها كانت تملك جميع ما في الأرض ؛ لقدمته فدية من هذا العذاب ؛ إن كان الافتداء يجديها.
والآية قصد بها : التهويل من شأن العذاب والتعظيم له حتى إن الكافر لو كان يملك ما في الأرض من مال ومتاع، وأمكنه أن يقدمه كفداء لنفسه ؛ لقدمه سريعا.
﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾.
أي : أخفى هؤلاء الظالمون الندامة ؛ حين رأوا مقدمات العذاب، وأيقنوا أنهم لا نجاة لهم منه، وقد فاجأهم العذاب فأسكتهم وأذلهم ؛ حين رأوا من فظاعة الخطب ما جعلهم جامدين مبهوتين.
وقيل :﴿ أسروا الندامة ﴾. أظهروها ولم يكن عندهم تجلد على كتمها والكلمة من الأضداد تطلق على الجهر والإسرار ؛ وفي سورة الملك :﴿ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ﴾. ( الملك : ١٣ ).
﴿ وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ﴾.
أي : حكم الله تعالى بينهم بالعدل التام الذي لا ظلم فيه بوجه من الوجوه.
قال تعالى :﴿ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. ( النحل : ٣٣ ).
﴿ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٥ ﴾
التفسير :
٥٥ ﴿ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآية والتي بعدها ؛ لتبين أن الكافر لن يجد ما يفتدى به نفسه من العذاب، وعلى فرض أنه وجد فلن يقبل منه شيء.
وبدأت بأداة الاستفتاح للتنبيه ؛ لتنبه الناس قاطبة ؛ على أن الله مالك السماوات والأرض بكل ما فيهما.
قال تعالى :﴿ له ما في السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ﴾. ( طه : ٦، ٧ ).
﴿ ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
تكررت أداة التنبيه لبيان أهمية ما بعدها وهو أن وعد الله حق لا يتخلف أبدا.
قال تعالى :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾. ( آل عمران : ٩ ).
ولكن أكثر الكفار منكر للبعث، غافل عن الآخرة مقصر في الاستعداد لها.
﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦ ﴾.
التفسير :
٥٦ ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
أي : هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة، وإليه وحده ترجعون يوم القيامة للحساب والجزاء ؛ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ٥٧ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨ ﴾.
التفسير :
٥٧ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
هذا نداء من الله تعالى للناس كل الناس، حيث أنزل الوحي، وأرسل الرسل وبين للناس ما يشفيهم من أمراض الجاهلية، وما يهديهم إلى طريق الصواب، وهذا الكتاب رحمة للمؤمنين ؛ لأنهم هم الذين استفادوا بهدايته، وعملوا بأحكامه ؛ فنالوا سعادة الدنيا والآخرة.
وقد وصف الله القرآن بأربع صفات :
١. موعظة تعظ الناس وترشدهم، وتشرح لهم أسباب الهداية والرشاد.
٢. شفاء حسي ومعنوي لأمراض القلوب ؛ وهي : الرياء، والشرك، والكبر، وحب الدنيا، ودليل إلى الصفاء والنقاء ومحبة الله وإيثار الآخرة ؛ وذكر بعض المفسرين : أن القرآن شفاء للأمراض الحسية ؛ بشرط الأخذ في الأسباب، والجمع بين الطب الإكلينيكي والطب الروحي.
قال الآلوسي في تفسيره : واستدل بالآية على أن القرآن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية، والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض ؛ ويقول جعل الله القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم. xx
وعند التأمل نجد أنه لا مانع من دلالة الآية على أن يكون القرآن شفاء للأمراض المعنوية، وللأمراض الحسية ؛ حيث قد ورد في السنة الصحيحة : أن القرآن شفاء للأمراض الحسية، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة رقية من المرض وسبيل للشفاء.
٣. القرآن هداية للناس ؛ لأنه شرح لهم أصول الدين ؛ وبين أسباب السعادة، وأرشد دعائم الإيمان المحقق لسعادة الدنيا والآخرة.
قال تعالى :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ﴾. ( فصلت : ٤٤ ).
٤. رحمة للمؤمنين خاصة ؛ حيث كان سبيلا إلى الإيمان والإحسان، وتلاوة القرآن ومرضاة الرحمان.
سمع عمر بن عبد العزيز رجلا وقف للفتيا عشية عرفات، وظل يجيب على أسئلة كل سائل من أهل الموسم حتى غربت الشمس ؛ فقال عمر به عبد العزيز :«هذي المكارم لا قعبان من لبن ». أي : هذا هو الفضل الحقيقي، وليس هناك فضل سوى ذلك.
٥٨ ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾.
أي : قل لهم يا محمد : أن فضل الله على الناس بالإسلام، ورحمته لهم بنزول القرآن، وهدايته لهم إلى طريق الصلاح والاستقامة ؛ هو الاصطفاء والهداية التي تستحق الفرح والسرور ؛ لأن هذا خير من مال الدنيا ومتاعها.
روى أبان عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من هداه الله للإسلام، وعلمه القرآن، ثم شكا الفاقة ؛ كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾. xxi
من تفسير ابن كثير : قال ابن كثير :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ أي : بهذا الذي جاءهم من الهدى ودين الحق فليفرحوا، أولى مما يفرحون به من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية، والذاهبة لا محالة ؛ فعن أيفع ابن عبد الكلاعي قال : لما قدم خراج العراق إلى عمر – رضي الله عنه- يخرج عمر ومولى له فجعل يعد الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول : الحمد لله تعالى، ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله فيه :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾. ا ه.
أي : ليس هذا المال هو المعنى بهذه الآية، وإنما فضل الله ورحمته يتمثل فيما جاءهم من الله تعالى من دين قويم، ورسول كريم، وقرآن مبين.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ٦٠ ﴾
المفردات :
رزق : الرزق في اللغة : ما ينتفع به، ومعلوم أنه ليس كله نازلا من السماء، وإنما الذي أنزل من السماء، هو التشريع الذي أحله، أو أسبابه التي حدث بها كالمطر والهواء وأشعة الشمس، وعلى هذا فالمراد من إنزال الرزق من السماء : إنزال تشريعه أو أسبابه، وفسر بعض العلماء إنزال الرزق بمعنى : خلقه ؛ وعليه فلا إشكال.
التفسير :
٥٩ ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً... ﴾ الآية.
كان أهل الجاهلية يحرمون على أنفسهم أنواعا من الحيوانات مع أن الله أحلها لهم وهنا يوجه السؤال إليهم ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين : أخبروني أيها الجاحدون للوحي والرسالة، المبدلون لشرع الله على حسب أهوائكم، إن الله تعالى قد أنزل عليكم ألوانا من الرزق الحلال، فجئتم أنتم، وقسمتم هذا الرزق الحلال، فجعلتم منه حلالا، وجعلتم منه حراما.
وقد حكى الله عنهم ذلك في آيات متعددة منها قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ﴾. ( الأنعام : ١٣٦ ).
وقوله في سورة المائدة :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ﴾. ( المائدة : ١٠٣ ).
﴿ قل أآلله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾.
أي : قل لهم يا محمد على سبيل الزجر والتوبيخ : إن الله وحده هو الذي يملك التحليل والتحريم، فهل هو سبحانه أذن لكم بذلك بوحي من عنده، أم أنتم تفترون على الله بزعمكم أنه حرم ما حرمتم، وحلل ما حللتم.
والخلاصة : أنه لا مندوحة لكم في الاعتراف بأحد أمرين : إما دعوى الإذن لكم من الله بالتحريم والتحليل ؛ لأن أحل هذه الأنعام في شريعة إبراهيم وشريعة الرسل من بعده ؛ وإما اعترافكم بالافتراء على الله.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
والمعنى : أخبروني : الله أذن لكم في التحليل والتحريم، وأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ا ه.
٦٠ ﴿ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.
أي : هؤلاء الذين أحلوا وحرموا، افتراء على الله، ماذا يظنون أن الله سيفعل بهم يوم القيامة ؟ أيظنون أن الله سيتركهم بدون عقاب ؟ كلا إن عقابهم لشديد بسبب افترائهم عليه الكذب.
قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ﴾. ( النحل : ١١٦ ).
﴿ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾. أي : إن الله لذو فضل عظيم على الناس أجمعين ؛ حيث خلقهم بقدرته، ومنحهم العقل والإرادة والاختيار، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب السماوية ؛ لبيان الحلال والحرام والمباح وأمور التشريع، وما يهمهم من أمر المعاش والمعاد، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث.
﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾. تلك النعم كما يجب، قال تعالى :﴿ وقيل من عبادي الشكور ﴾. ( سبأ : ١٣ ).
ومن ثم ترى بعض الناس تحرم ما لم يحرمه الله، فيغالبون في الزهد، وترك الزينة والطيبات من الرزق، أو يسرفون في الأكل والشرب والزينة ؛ ابتغاء الشهوة، والتكبر على الناس مع أن الإسلام أمر بالتوسط والاعتدال ؛ حيث مدح الله التوسط. فقال :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ﴾. ( الإسراء : ٢٩ ).
وقال عز شأنه :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ﴾. ( الفرقان : ٦٧ ).
أخرج الإمام أحمد : عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا رث الهيئة فقال :( هل لك مال ) ؟ قلت : نعم ؛ ( من أي مال ؟ ) قلت : من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم، قال :( إذا آتاك الله مالا ؛ فلير أثر نعمته عليك وكرامته ). xxii
وأخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا :( إذا آتاك الله مالا ؛ فلير عليك ؛ فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس ). xxiii
﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ٦١ ﴾
المفردات :
في شأن : في أمر تقصده.
كنا عليكم شهودا : كنا رقباء مطلعين عليكم.
تفيضون فيه : تخوضون وتندفعون فيه، وأصل الإفاضة : الاندفاع بكثرة أو بقوة.
وما يعزب : ولا يغيب.
مثقال ذرة : المثقال : الوزن، والذرة : النملة والهباء.
كتاب مبين : المراد به : اللوح المحفوظ أو هو كناية عن علمه تعالى، ومعنى مبين : بين واضح.
التفسير :
٦١ ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا... ﴾ الآية.
بينت هذه الآية الكريمة إحاطة القدرة الإلهية بكل شيء في هذا الوجود، وإحاطة علم الله بالصغير والكبير في هذا الكون ؛ إن الله قد أحاط بكل شيء علما.
والمعنى : وما تكون يا محمد في شأن من شئونك الهامة، خاصة كانت أو عامة.
﴿ وما تتلوا منه من قرآن ﴾.
وما تقرأ من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزله الله عليك ؛ تعبدا به أو تبليغا له ولا تعلمون أيها الناس الذين بلغتكم دعوته من عمل خيرا كان أو شرا، شكرا كان أو كفرا ؛ إلا كنا عليكم رقباء وحافظين وشهداء فنحفظه عليكم ونجازيكم به.
﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾.
وما يغيب عن علم ربك شيء في وزن الهباء الدقيق ؛ سواء أكان ذلك الشيء الدقيق في الأرض أمام أنظاركم، أو في السماء بعيدا عنكم، وقدم ذكر الأرض ؛ لأن الكلام مع أهلها.
﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إلا في كتب مبين ﴾.
أي : ولا شيء أصغر من الذرة، ولا أكبر من ذلك وإن عظم مقداره ؛ إلا وهو معلوم ومحصى عنده في كتاب عظيم الشأن، أي : إن علمه محيط بكل صغير وكبير ؛ فكيف تخفى عليه أعمالكم ؟
جاء في تفسير المراغي ما يأتي :
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون ﴾. ( الحاقة : ٣٨، ٣٩ ).
وفي ذلك إشارة إلى أن في الوجود أشياء لا تدركها الأبصار وقد أثبت العلم الحديث بواسطة الآلات التي تكبر الأشياء أضعافا مضاعفة ( الميكروسكوبات ) أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم ( الميكروبات ) ولم تكن تخطر على البال في عصر التنزيل، وقد ظهرت للناس الآن فهي من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير. xxiv
وأضيف أنني أكتب هذا التفسير اليوم بتاريخ ٢٧/١٢/١٩٩٣، وبالأمس أفادت أخبار من أمريكا أنها استردت قمرا صناعيا استمر دورانه في الفضاء ٤ سنوات ؛ ليجيب عن سؤالين هما :
١ كيف كان خلق الكون ؟
٢ ما عمر هذا الكون ؟
وذكروا أن الكون خلق بعد الانفجار الكبير الذي ترتب عليه وجود السماوات والأرض وما بينهما من الفضاء والهواء وأن عمر الكون ١٥ مليون سنة، وسيمكث الكون ١٥ مليون سنة أخرى ثم يشيخ وينتهي. ا ه.
ونقول : إن تقدم العلوم لا يصطدم مع حقائق القرآن ؛ بل ينزع إلى تأكيد ما جاء في القرآن، وتأكيد أنه كلام الله الذي أحاط بكل شيء علما.
لقد كانت الأرض صماء لا تنبت، وكانت السماء رتقا لا تمطر ؛ ففتق الله السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات وسبب الأسباب ؛ لإعمار الكون وتكامله، فسخر الشمس تلقي أشعتها على المحيطات ؛ فيتصاعد البخر ثم يسوق الله السحاب ثم ينزل من المطر.
وعندما يشاء الله ينتهي عمر هذا الكون، فتنكدر النجوم، وتنشق السماء ؛ و تتمدد الأرض، ويستجيب الجميع لأمر الله.
﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ١٨ ).
ويقول سبحانه :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾. ( الأنبياء : ٣٠ ).
ويقول عز شأنه :﴿ إن في خلق السموات والأرضxxv واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ﴾. ( البقرة : ١٦٤ ).
﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ٦٤ ﴾.
المفردات :
أولياء الله : أولياء : جمع ولى، ومن معانيه : لغة القريب، وقد أطلق الأولياء في عرف القرآن على المؤمنين الصادقين ؛ لقربهم الروحي من الله تعالى.
التفسير :
٦٢ ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
توعد الله المفترين في الآية ٦٠ من هذه السورة ؛ وهنا يبين جزاء أوليائه المقربين إليه.
والولي : هو من يوالي طاعة الله ويتقرب إليه سبحانه فهو في محبة الله تعالى.
وفي الحديث القدسي :( ما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحب، فإذا أحببته ؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن سألني لأعطينه ). xxvi
إن هؤلاء الأولياء، الذين يلتزمون طاعة الله تعالى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالخوف : حالة نفسية تجعل الإنسان مضطرب المشاعر ؛ لتوقعه حصول ما يكرهه.
والحزن : اكتئاب نفسي يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه. أي : أن الخوف : يكون من أجل مكروه بتوقع حصوله، بينما الحزن : يكون من أجل مكروه قد وقع فعلا. أي : أن أحباب الله الذين صدق إيمانهم، وحسن عملهم ؛ ﴿ لا خوف عليهم ﴾. في الدنيا ؛ لثقتهم بالله، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾. على شيء فاتهم من هذه الدنيا ؛ فإن متاعها قليل، كما أنهم في الآخرة لا ينالهم الحزن ولا الخوف ؛ لأن الله يبشرهم بالمنزلة العالية، ويطمئنهم على منازلهم في الجنة.
قال تعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم ﴾. ( فصلت : ٣٠، ٣٢ ).
والخلاصة : إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة ؛ فإن الله منحهم نعمة الرضا في دنياهم ؛ فإن أقبلت عليهم النعمة والصحة والنصرة والقبول ؛ شكروا وحمدوا، وإن فاتهم شيء من ذلك ؛ صبروا ورضوا، وقد من الله عليهم في الآخرة بجنة عرضها السماوات والأرض، وفيها النعيم المقيم، وهم يحمدون الله فيها قائلين :﴿ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ﴾( فاطر : ٣٤ ).
٦٣ ﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾.
هذه صفات أولياء الله تتمثل فيما يأتي :
١ الإيمان الصادق بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
٢ تقوى الله سبحانه ومراقبته، وطاعته والبعد عن معاصيه.
وما نراه من ادعاء بعض الناس الولاية، وهم لا يؤدون الفرائض، ولا يأخذون بأسباب الكسب، ولا يشاركون في نهضة الأمة ؛ فإنهم لم يفهموا هذا الدين حق الفهم ؛ لأن دين الله
سهل سمح وسط، واضح لا شبهة فيه ولا غلو، بل هو الصراط المستقيم، والمحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
المفردات :
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة : البشرى : مصدر أريد به : المبشر به، وبشرى الحياة الدنيا : خيراتها العاجلة كالنصر والفتح والغنيمة وغير ذلك، وبشرى الحياة الآخرة : ما أعد لهم فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
التفسير :
٦٤ ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ... ﴾ الآية.
أي : إن هؤلاء الأولياء الموصوفين بالإيمان والتقوى يبشرهم الله بالنصر والنجاح في أعمالهم الدنيوية كالزراعة والصناعة والتجارة ويبشرهم في الآخرة بدخول الجنة.
قال تعالى :﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ﴾. ( الحديد : ١٢ ).
ورأى بعض المفسرين : أن البشرى هي الرؤيا الصادقة ؛ فالله تعالى يبشرهم في منامهم بالخير الذي ينتظرهم.
قال الآلوسي في تفسيره :
وأكثر الروايات تفيد أن البشرى في الحياة الدنيا، هي الرؤيا الصالحة فقد أخرج الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وغيرهم : عن عبادة بن الصامت. قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾ ؛ فقال :( هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ). xxvii
﴿ لا تبديل لكلمات الله ﴾.
أي : لا تغيير ولا خلف في مواعيده تعالى، ومن جملتها بشارة المتقين بجناب النعيم والخير العميم.
﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾.
أي : تلك البشرى لأولياء الله بالفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة ؛ ﴿ هو الفوز العظيم ﴾. وأي فوز أعظم من طاعة الله ورضوانه، والفوز في الدنيا والنجاة يوم القيامة، ودخول الجنة والتمتع برضوان الله، وهو أكبر كل نعيم ؟ !
جاء في تفسير القاسمي :
«وإذا كان أولياء الله هم المتقون، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى ؛ كان أكمل ولاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل ؛ بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، ومن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم ؛ كان كاذبا في دعواه، أو كان مجنونا، وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، ولا بحلق شعر أو تقصير ؛ بل يوجدون في جميع طبقات الأمة، فيوجدون في أهل القرآن، وأهل العلم، وفي أهل الجهاد والسيف وفي التجار والصناع والزراع، وليس من شرط الولي أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين... ». xxviii
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ٦٥ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ٦٦ ﴾
المفردات :
العزة : الغلبة والقهر.
التفسير :
٦٥ ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا... ﴾ الآية.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه، وكان الحزن يشتد عليه بسبب تكذيبهم وإيذائهم له، وكان القرآن يمسح آلامه ويدعوه إلى التسرية وانشراح الصدر.
قال تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بها الحديث أسفا ﴾. ( الكهف : ٦ ).
قال تعالى :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾. ( الأنعام : ٣٣ ).
وفي هذه الآية يقول الله تعالى :﴿ ولا يحزنك قولهم ﴾.
لا يشتد حزنك من قولهم : إن محمدا ساحر أو كاهن أو شاعر أو كذاب، أو ينقل أساطير الأولين. و النهي عن الحزن وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه، والمراد به هنا : النهي عن لوازمه كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب، وتعظيم أمرها، وبذلك تتحدد الآلام ويصعب نسيانها.
﴿ إن العزة لله جميعا ﴾.
إن القوة الكاملة، والقدرة الكامنة، والخلق الأمر بيد الله وحده، لا راد لأمره ولا معقب لقضائه ؛ فالخلق جميعا في قبضته، والملك كله في يده، وهؤلاء المشركون لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ؛ فهم مخلوقون مربوبون خاضعون لقدرة الله.
قال تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾. ( آل عمران : ٢٦ ).
وعزة المؤمنين مستمدة من عزة الله، فهم في طاعته و كنفه وهو يفيض عليهم من فضله ونعمه.
قال تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين... ﴾. ( المنافقون : ٨ )، فلا تعارض بين هذه الآية والآية التي معنا ؛ فإن العزة جميعا لله سبحانه، كما قال عز شأنه :﴿ أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ﴾. ( النساء : ١٣٩ ).
وقال عز شأنه :﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾. ( الصافات : ١٨٠ ).
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية :
﴿ إن العزة لله جميعا ﴾.
أي : إن الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه، فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم.
﴿ هو السميع العليم ﴾.
فهو السميع لكل مسموع، العليم بهم وبجميع من في الكون ؛ فينصرك عليهم ويحقق لك الغلبة، وقد تحقق وعد الله لرسوله ؛ فتم له النصر والفتح، وذلك من المبشرات التي عجلها الله لرسوله في الدنيا.
المفردات :
إن يتبعون إلا الظن : ما يتبعون إلا التوهم.
يخرصون : يكذبون. وهو في الأصل بمعنى : يقدرون بالاجتهاد الجزافي وكثيرا ما يحدث فيه الخطأ، فلذا يطلق على الكذب مجازا وهو المراد هنا.
التفسير :
٦٦ ﴿ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ ﴾.
في هذه الآية تأكيد لما بشر الله به رسوله في الآية السابقة، فالملك الحقيقي كامل لله لجميع من في السماوات ومن في الأرض، وما بينهما من الملائكة والجن والإنس، فهم جميعا مملوكون لله تعالى، ومقهورون بسلطانه، وعبيدا لمشيئته، وكذلك جميع الكائنات فهي أيضا تحت سلطانه وقهره.
﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾.
أي : وما يتبع هؤلاء المشركون شركاء لله في الحقيقة، فليس لله شركاء أبدا ؛ فالأصنام، والمسيح، وعزير، وسائر الشركاء المزعومين مملوكة لله تعالى، ولا قدرة لها على شيء من تدبير أمور العباد، ودفع الضر عنهم، بل إنهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم، ولا يملكون جلب أي نفع لمن يعبدهم.
﴿ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ﴾.
أي : ما يتبع المشركون، إلا الظن الفاسد، والخطأ الفادح، وما هم في هذا الظن إلا متخرصون كاذبون.
قال الشوكاني :
﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾.
أي : إنهم وإن سموا معبوداتهم : شركاء لله، فليست شركاء له على الحقيقة ؛ إنما هي أسماء لا مسميات لها، والله مالك لمعبوداتهم.
﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾. أي : ما يتبعون يقينا، والظن لا يغني من الحق شيئا.
﴿ وإن هم إلا يخرصون ﴾. أي : يقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا وكذبا بحتا.
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٦٧ ﴾
المفردات :
لتسكنوا فيه : لتطمئنوا وتستقروا فيه بعد حركتكم بالنهار.
مبصرا : مضيئا لتتحركوا فيه وتهتدوا في ضوئه إلى حوائجكم. ونقل القرطبي عن قطرب أنه قال : أظلم الليل أي : صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر، أي : صار ذا ضياء وبصر يقصد : صاحب ضياء وبصر من الناس فيه.
التفسير :
٦٧ ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا... ﴾ الآية.
من شأن القرآن أن ينوع في أدلته، وأن يستلفت الأنظار إلى آثار القدرة الإلهية في خلق الكون وإبداع نظامه ومن ذلك ما ورد في هذه الآية :
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾.
أي : أن الله سبحانه قسم الوقت نصفين، فجعل نصفا منه للسكن والهدوء والنوم والراحة، وهو الليل، وجعل النصف الثاني مبصرا، أي : منيرا فيه، الشمس والحياة والحركة والسعي والعمل ؛ وذلك في النهار وبذلك يتم التكامل في هذا الكون.
ولو استمر الليل دائما ؛ لتعطلت مصالح الناس وتعطنت أجسامهم، ولو استمر النهار دائما ؛ لضج الناس من السعي والحركة، وتعبت أجسامهم وضعفت أعصابهم.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ﴾.
إن في هذا التدبير الحكيم لدلائل واضحة ﴿ لقوم يسمعون ﴾. سماع تأمل وتدبر وتعقل.
وفي معنى هذه الآية يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾. ( القصص : ٧١ ٧٣ ).
﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ ﴾
المفردات :
إن عندكم من سلطان بهذا : ليس عندكم من حجة عليه.
التفسير :
٦٨ ﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ... ﴾ الآية.
أي : قالت اليهود : عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال المشركون : الملائكة بنات الله.
سبحانه : أي : تنزه الله عن أن يكون له ولد ؛ لأنه هو الغنى بذاته عن الولد، وعن كل شيء، وهو المالك لجميع الكائنات، علويّها وسفليها، وهو الذي لا يحتاج إلى غيره، وغيره محتاج إليه، وخاضع لسلطان قدرته.
وفي معنى هذه الآية قال تعالى :
﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمان وَلَدًا َقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرحمان عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمان وُدًّا ﴾. ( مريم : ٨٨ ٩٦ ).
﴿ إن عندكم من سلطان بهذا ﴾. هذه الجملة تجهيل لهم ورد عليهم، وإن هنا نافية بمعنى : ما، أي : ليس عندكم من الدلائل والبراهين ؛ ما يؤيد صحة هذا القول الذي تقولونه بلا علم ولا وحي إلهي.
﴿ أتقولون على الله ما تعلمون ﴾.
أي : أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته، وتنسبون إليه تعالى مالا يجوز إضافته إليه.
قال الآلوسي : وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه ؛ فهو جهالة، وأن العقائد لا بد لها من قاطع، وأن التقليد بمعزل من الاهتداء. xxix
٦٩ ﴿ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ﴾.
أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إن الذين يختلقون الكذب على الله، وينسبون إليه ما يتنزه عنه، هؤلاء لا يفلحون ولا يفوزون بمطلوب أصلا، فالنار مثواهم، والجنة حرام عليهم.
٧٠ ﴿ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾.
أي : أن ما يتمتعون به في الدنيا من شهوات وملذات، هو متاع قليل بالنسبة لنعيم الآخرة، ثم إن مرجع الخلائق جميعا إلى الله تعالى، وبيده الخلق والأمر والحساب والجزاء.
﴿ ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ﴾.
وفي يوم القيامة يلقى الكافرون جزاء كفرهم وافترائهم على الله، عذابا شديدا في أفواه جهنم.
قال تعالى :﴿ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. ( النحل : ٣٣ ).
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ٧١ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٧٢ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ٧٣ ﴾
المفردات :
نبأ نوح : النبأ : الخبر الذي له شأن وخطر.
كبر عليكم مقامي : شق وعظم عليكم قيامي ووجودي بينكم.
فأجمعوا أمركم : إجماع الأمر : العزم عليه، تقول : أجمعت الأمر وأجمعت عليه. أي : عزمته وأردته بهمة و مضاء عزيمة، والصيغة الأولى أفصح من الثانية، وقال أبو الهيثم : أجمع أمره : جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا.
غمة : أي : مستورا، من غمه ؛ إذا ستره.
اقضوا إلى : أي : أدوا إلى الأمر الذي تريدونه بي.
ولا تنظرون : ولا تمهلوني.
التفسير :
٧١ ﴿ واتل عليهم نبأ نوح... ﴾ الآية.
نوع القرآن في أساليب دعوته للحق والإيمان ؛ فهو قد جابه المشركين في الآيات السابقة، وفند شبههم، وانتقل إلى نقل جانب من قصص المرسلين السابقين.
وفي ذكر هذا القصص حكم متعددة من بينها ما يأتي :
١ تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بذكر قصص الرسل السابقين، وبيان ما تعرضوا له من البلاء وبذلك يهون عليه ما يلقاه من قومه.
٢ بيان عاقبة المكذبين من الهلاك، وجزاء المؤمنين من النصر، وفي هذا تهديد للمشركين ؛ حتى تلين قلوبهم نحو الحق، و تثبيت للمؤمنين ؛ حتى يثقوا بوعد الله في النصر.
٣ تنويع القول ؛ لأن الكلام إذا سار على وتيرة واحدة ؛ فربما أصاب السامع شيء من الملالة ؛ كما يقول الإمام الرازي في تفسيره، وفي ذكر القصص ؛ دفع للسآمة والملل.
قال تعالى :﴿ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ﴾. ( طه : ١١٣ ).
﴿ واتل عليهم نبأ نوح ﴾. أي : واذكر لقومك يا محمد : قصة نوح عليه السلام وقد ذكرت قصة نوح بصورة أكثر تفصيلا في سورة الأعراف، وهود، والمؤمنون، وسورة نوح...
لكنها ذكرت هنا بصورة مجملة لإبراز جانب التحدي من رسول لا يملك جيشا ولا قوة ﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾. ( هود : ٤٠ )، ولكنه هنا يجاهر قومه، بأنه بلغ الرسالة لهم خلال عمر طويل هو :﴿ ألف سنة إلا خمسين عاما ﴾. ( العنكبوت : ١٤ ).
ولكنهم صموا آذانهم عن سماع الحق، وأغلقوا عقولهم عن النظر في أدلة الإيمان ودعوته، وهنا أزمع نوح أمره على هجرهم وتحديهم.
﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴾.
وفي الآية فقرات تحتاج بعض التوضيح وهي :
١ ﴿ إن كان كبر عليكم مقامي ﴾.
أي : شق عليكم طول مكثي بينكم وطول دعوتكم إلى الإيمان والتوحيد.
٢ ﴿ فعلى الله توكلت ﴾.
لقد اعتمدت على الله القوي الجبار ذي القوى المتين ؛ فلا أخاف منكم ولا أتهدد من وعيدكم، ولا أبالي بمكركم وكيدكم.
٣ ﴿ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ﴾.
أي : اتخذوا قرارا جماعيا بشأن دعوتي، واجمعوا معكم الأصنام التي تعبدونها وترجون نصرتها يقال : أجمع أمره على كذا، أي : استقر على قرار بشأنه بعد كان الرأي فيه مشتتا متفرقا.
قال الشاعر :
أجمعوا أمرهم عشاء فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن تص هال خيل خلال ذاك رغاء
أي : أنهم باتوا على نية السفر في الصباح وأجمعوا أمرهم عليه.
٤ ﴿ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾.
غمة : أي : خفيا مستورا ؛ بل اجعلوه ظاهرا واضحا علنا، ومنه الحديث الشريف :( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم الهلال ؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ). xxx
ومعنى الحديث :«فإن غم » أي : إن استتر الهلال، وحال دون رؤيته لكم حائل من غيم أو ضباب ؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما.
وإنما قال نوح ذلك ؛ إظهارا لقلة مبالاته بهم، وثقة بأن الله سينصره ويحفظه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا.
﴿ ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ﴾.
وهذه الجملة زيادة في تحديهم وإثارتهم. أي : أنفذوا قضاءكم، الذي تريدون أداءه نحوي : من إيذائي أو إهلاكي، بدون إنظار أو إمهال ويصح أن يكون القضاء بمعنى : الحكم. أي : ثم احكموا علي بما تريدون من أحكام، ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها، بل نفذوها في الحال.
وكل ما في الآية يؤيد ثقة نوح بنصر الله، وعدم مبالاته بكيدهم أو وعيدهم ؛ فهو نموذج للداعية المؤمن الثابت أمام الباطل ؛ الواثق بعون الله ونصره.
ومعنى الآية : يا قوم، إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم، وتذكيري إياكم بآيات الله، الدالة على وحدانيته، فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد، ثم ادعوا شركاءكم ؛ ليساعدوكم في ذلك، ولا تجعلوا أمركم الذي تعتزمونه خفيا ملتبسا عليكم بل أظهروه لي وتبصروا فيه ؛ فإن كنتم ترون أنكم محقون، فاقضوا إلى ذلك الأمر، ونفذوه بالفعل، ولا تؤخروني ساعة واحدة، عن تنفيذ هذا القضاء، ومهما قدرتم فافعلوا ؛ فأنا لا أبالي بكيدكم ؛ لأني توكلت على الله ربي وربكم.
وهذا الموقف من نوح عليه السلام، مشابه لموقف هود عليه السلام حين قال لقومه :
﴿ إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ﴾. ( هود : ٥٤ ٥٦ )
وكذا يتبين الفرق بين موقف المؤمن الراسخ الإيمان الذي لا يعرف التردد، وبين موقف الكافر الضعيف المتردد، الذي لا ملاذ له إلا بالقوة الوهمية للشركاء، الآلهة المزعومة.
المفردات :
توليتم : أعرضتم عن تذكيري.
من المسلمين : من المنقادين لحكم الله ؛ لا أخالف أمره.
التفسير :
٧٢ ﴿ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله... ﴾ الآية.
أي : فإن أعرضتم عن نصحي، وكفرتم برسالتي ؛ فإني لا أنتظر منكم على تبليغ الرسالة أجرا ولا مالا ؛ لأن أجري وجزائي من الله وحده.
﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾.
أي : أمرني ربي بأن أكون من المسلمين. أي : المستسلمين الخاضعين لحكمه، الراضين بقضائه وقدره، والإسلام هنا بمعنى : الخضوع والاستسلام لأمر الله عز وجل، وهو دين الأنبياء والرسل جميعا من أولهم إلى آخرهم وإن تنوعت شرائعهم التفصيلية فهذا نوح يقول :﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾.
وقال تعالى عن إبراهيم الخليل :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين* ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾. ( البقرة : ١٣١، ١٣٢ ).
وقال موسى :﴿ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ﴾. ( يونس : ٨٤ ).
وقال سحرة فرعون :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ﴾. ( الأعراف : ١٢٦ ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ﴾. ( الأنعام : ١٦٢، ١٦٣ ). أي : من هذه الأمة.
وقد روى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الأنبياء أخوات لعلاّت ؛ أمهاتهم شتى، ودينهم واحد ).
فالأنبياء والرسل أشبه بإخوة من أب واحد وأمهات متعددة ؛ لأن الله سبحانه هو الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب داعية إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، ولكل رسول شرعة ومنهاج ؛ قال تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾. ( المائدة : ٤٨ ).
المفردات :
الفلك : السفينة.
التفسير :
٧٣ ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا... ﴾ الآية.
لقد لون نوح في دعوته كما ذكر في سورة نوح، وفي سورة هود، وفي سور أخرى، بيد أن قومه كذبوه ؛ فأغرقهم الله بالطوفان، وأمر نوح ومن معه من المؤمنين بركوب السفينة والسير بها، باسم الله مجراها ومرساها، ثم استخلف الله المؤمنين في عمارة الأرض، والممتلكات التي تركها المشركون الهالكون، وأغرق الله المكذبين ونجى المؤمنين :
﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾.
أي : فانظر وتأمل يا كل ذي عقل سليم، كيف كان عاقبة المنذرين الذين أنذرهم نوح بالعقوبة على كفرهم فسخروا منه واستهزءوا به ؛ فكان عاقبتهم الهلاك والدمار وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ﴾. ( هود : ٣٨٤٠ ).
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ٧٤ ﴾.
التفسير :
٧٤ ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ... ﴾ الآية.
ثم أرسل الله رسلا كثيرين لهداية البشرية.
قال تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ﴾. ( إبراهيم : ٤ ).
وكان كل رسول يأتي إلى قومه فيدعوهم إلى الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، ومع كل رسول معجزة خارقة للعادة ؛ تصديقا له في دعواه.
﴿ فما كان ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ﴾.
إن القوم مرنوا على التكذيب بالرسل، فكلما جاء أمة رسول كذبوا به، وكأنما وصّى السابق منهم اللاحق وتعودوا على هذا التكذيب، كأن التكذيب طبيعة في جبلتهم، والعناد صفة ملازمة لهم، فما كان اللاحقون ليؤمنوا بما كذب به السابقون.
ومن معاني الآية أيضا : أن المكذبين كذبوا الرسول عندما جاءهم بالرسالة أول مرة، ثم استمروا على عنادهم، ولم يعاودوا النظر في هذه الرسالة، ولم يعودوا إلى الإيمان بها بعد أن كذبوا بها أول مرة جاء بها رسولهم.
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإمام ابن كثير في تفسيره، حيث قال :
قوله :﴿ فما كان ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ﴾.
أي : فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول من أرسلوا إليهم.
قال تعالى :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾. ( الأنعام : ١١٠ ).
وتفيد الآية عموما : استمرار هؤلاء الكفار على التكذيب والعناد، دون أن تحولهم الآيات البينات التي جاءهم بها الرسل عن عنادهم وضلالهم.
﴿ كذلك نطبع على قلوب المعتدين ﴾.
أي : كما نختم على قلوب هؤلاء فلا يؤمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا نختم على قلوب من أشبههم في العناد ممن بعدهم من المعتدين كقومك ؛ فقد جرت سنة الله تعالى، أن يرسل الرسل، وينزل الكتب فإذا استمر أقوام الرسل في تكذيبهم، ولم يفتحوا قلوبهم للنظر، واستمروا على العناد ؛ سلب الله عنهم الهدى والرشاد، وتركهم في غيهم وضلالهم كأنما ختم على هذه القلوب فلا تفقه الحق ولا تتأمل الرشاد، وقريب من ذلك قوله تعالى :
﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴾. ( البقرة : ٦، ٧ ).
قال الزمخشري :
والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم ؛ لأن الخذلان يتبعه، ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
وبعبارة أخرى : المراد بالطبع : عدم قبول القلوب شيئا من نور الهداية والمعرفة ؛ لأنهم تجاوزوا كل حد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ٧٦ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ٧٧ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ٧٨ ﴾
المفردات :
وملئه : الملأ : أشرف القوم.
التفسير :
٧٥ ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآيات عن قصة موسى عليه السلام، من باب ذكر الخاص بعد العام ؛ فقد أرسل الله رسلا إلى قومهم، ومن بينهم موسى، كما ذكر في الآية السابقة، لكنه ذكر موسى هنا ؛ لاشتمال قصته على أمور كثيرة، ولأن اليهود كانوا يجاورون العرب، ويعرفون هذه القصة، ولاشتهار فرعون وأعماله، ولأنها أيضا تشتمل على حوار بين ملك متكبر ؛ يملك الأرض والمال والنيل والأتباع، وموسى وهارون لا يملكان شيئا سوى الرسالة والتأييد الإلهي، يشاء الله أن يغرق فرعون في ماء النيل، وأن يرث المؤمنون الملك والأرض ؛ فهو نموذج لزهاق الباطل، وإحقاق الحق.
ومعنى الآية : ثم بعثنا موسى وهارون، من بعد الرسل الذين أرسلهم الله بعد نوح، مثل : هود إلى قومه عاد، وشعيب إلى قومه مدين، وصالح إلى قومه ثمود.
وقد أيد الله موسى بتسع آيات وهي :
السنون ( أعوام الجدب والقحط )، ونقص الأموال، ونقص الأنفس، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
قال تعالى :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات... ﴾. ( الأعراف : ١٣٣ ).
وقد أرسل موسى وهارون إلى جميع الأمة المصرية، ولكنه خص فرعون وملأه ؛ لأن السلطة كانت في يده، ولأن الحديث كان مع فرعون أولا ؛ رغبة في إيمان من خلفه بإيمانه.
﴿ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾.
أي : امتنعوا عن قبول الحق والانقياد له، وعن الإيمان بموسى وهارون.
﴿ وكانوا قوما مجرمين ﴾. أي : معتادي الإجرام راسخين في الجريمة والظلم، والإفساد في الأرض. وأعظم الكبر : أن يتهاون الناس برسالة ربهم، بعد قيام الأدلة على صحتها.
٧٦ ﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ﴾.
فلما جاءهم موسى برسالة السماء ؛ تحمل الدعوة إلى الحق والإيمان، ومع موسى معجزات ظاهرة ؛ تؤيد رسالته ؛ قال فرعون وقومه : هذا سحر ظاهر وليس بمعجزة، وأكدوا كلامهم بأدوات التأكيد، وهي : إن، ولام القسم، واسمية الجملة، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان.
قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾. ( النمل : ١٤ ).
٧٧ ﴿ قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم... ﴾ الآية.
قال موسى منكرا عليهم عزوفهم عن قبول الحق، واتهام المعجزة بأنها سحر، وحذف مقول القول ؛ لتنزيه لسانه عن إعادة الجملة الباطلة التي قالوها ؛ وهي اتهام الحق بأنه سحر واضح.
﴿ أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ﴾.
أي : عجبا لكم أهذا الحق المؤيد بالمعجزات سحر، والسحر في حقيقته تخييل وخداع، والساحر لا يفوز في ساحات الحقائق، وقضايا الدين، وأصول الحياة، وإقامة الممالك ؛ لأن السحر حيلة وشعوذة وخفة يد. ﴿ ولا يفلح الساحر حيث أتى ﴾. ( طه : ٦٩ ).
المفردات :
لتلفتنا : لتصرفنا، واللقب والفتل بمعنى واحد.
التفسير :
٧٨ ﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾.
رفض فرعون وحاشيته رسالة موسى لسببين :
١ أنها تصرفهم عما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم.
٢ أن موسى وهارون سينالان تأييدا شعبيا، وزعامة دينية، فأثر الدين في نفوس الناس أجمعين ؛ ويصبح ملك فرعون صوريا ؛ بعد تصديق الناس برسالة موسى.
ونلاحظ في الرد عليهما ما يأتي :
١ الرسالات السماوية جاءت لإصلاح الخلل وتقويم العوج، وشنعت على الناس تقليد الآباء والأجداد في الباطل، وعبادة الهوى.
٢ وقف الكفار في وجه رسالات السماء من عهد نوح ؛ خوفا على ملكهم وجبروتهم وتسلطهم، وحاولوا منع أتباعهم من الإيمان بالرسل ؛ تمسكا بالملك والجبروت، وكراهية لكل رسالة إصلاح ودعوة إيمان، فقوم نوح قالوا عنه :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم.... ﴾. ( المؤمنون : ٢٤ ).
وقوم محمد كانوا أعرف الناس بصدقه وأمانته، وبأن الشرك تهافت، ولكنهم يخشون على مكانتهم الموروثة، القائمة على ما في عقيدة الشرك من خرافات وتقاليد، وكذلك خشي الملأ من قوم فرعون ؛ من دعوة موسى وهارون ؛ لأنها ستغير الهرم الاجتماعي، وتجعل القيادة في يد الحق والرسالة ؛ ولذلك جحدوا وكفروا بهذه الرسالة وقالوا :
﴿ وما نحن لكما بمؤمنين ﴾.
أي : لن نصدق برسالتكما ؛ لأنها ستسحب بساط الملك من تحت أقدامنا وهكذا يتعلل فرعون وملؤه بهذه التعللات ؛ فقد كان الملك والسلطان أهم عندهم من الهداية والإيمان مع أن الدنيا فانية، وأثر الإيمان خالد باق !
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ٧٩ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢ ﴾
التفسير :
٧٩ ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾.
لقد ألقى موسى عصاه فانقلبت ثعبانا كبيرا أمام فرعون، وأدخل يده في جيبه، فخرجت بيضاء بياضا يغلب ضوء الشمس، وادعى فرعون أن هذا سحر مبين، وليس معجزة إلهية، وحاول أن يؤيد قوله بالفعل ؛ فأرسل فرعون أوامره في سائر المدن، وجمع أمهر السحرة، وأعلاهم قدرا.
﴿ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ﴾.
أي : قال فرعون أمرا قومه : اجمعوا لي من جميع أنحاء مملكتي كل ساحر واسع العلم بفنون السحر، عظيم الخبرة به، قوي التأثير، بارع الحيلة.
٨٠ ﴿ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ﴾.
جاء السحرة وعرضوا على موسى أن يبدأ هو أو يبدءوا هم ؛ فترك لهم موسى عنصر المبادأة ؛ ليظهروا كل ما في حوزتهم ؛ وليفعلوا كل ما يستطيعون فعله، فإذا أبطله موسى، أدركوا أن ما فعله ليس سحرا ؛ لأنهم أعلم الناس بالسحر.
وقد حكى القرآن في سورة الأعراف هذا الموقف فقال :
﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾. ( الأعراف : ١١٥١١٧ ).
المفردات :
السحر : يطلق على ما لطف ودق، ويطلق على ما يقع بخداع وتخيلات لا حقيقة لها، مثل ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، ويكون السحر أيضا بمباشرة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد من التأثير على الشخص
المقصود ؛ بحيث يغير مزاجه ويؤثر في حواسه ووجدانه، كأن يجد الحلو مرا، وينقبض صدره وتضعف قواه، ويكثر اضطرابه.
سيبطله : سيمحقه ولا يبقى له أثرا.
لا يصلح : لا يثبت ولا يؤيد.
التفسير :
٨١ ﴿ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
عندما ألقى السحرة سحرهم ؛ بهروا جميع الناس، وأدخلوا الرهبة في قلوبهم، بالحيلة والشعوذة، فقد دهنوا حبالهم بالزئبق، وأرسلت الشمس أشعتها على الحبال ؛ فصار لها بريق وتموج كأنها حيات تسعى.
قال موسى : ما جئتم به الآن هو السحر، وليس ما أتيتم به من المعجزات، التي قال عنها فرعون وملؤه :
﴿ إن هذا لسحر مبين ﴾.
ثم قال موسى : هذا السحر الذي أظهرتموه ؛ إن الله سيبطله وسيمحقه، وسيظهر بطلانه قطعا أمام الناس، بما يفوقه من المعجزة التي هي آية خارقة للعادة، تفوق السحر وأشكاله المختلفة.
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾. الذين يتخذون الباطل مركبا لخداع الناس، وتزييف الحقائق ؛ فالسحر باطل وفساد، والله تعالى لا ينصر الباطل ولا يصلح عمل المفسدين، ﴿ ولا يفلح الساحر حيث أتى ﴾. ( طه : ٦٩ ).
قال العلماء : لا تكتب هذه الجملة على مسحور ؛ إلا دفع الله عنه السحر وهي :﴿ إن الله لا يصلح عمل المفسدين ﴾.
المفردات :
ويحق الله الحق : ويثبت الله الحق ويقويه ويؤيده.
بكلماته : بأوامره ووحيه.
التفسير :
٨٢ ﴿ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾.
ويريد الله أن يحق الحق ويؤيده وينصره على الباطل بقدرته وآياته ؛ فهو سبحانه إذا أراد أمرا فإنما يقول له : كن ؛ فيكون، ومن إرادة الله : أن ينصر الحق وأن يؤيد الرسل بآياته، قال تعالى :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾. ( المجادلة : ٢١ ).
﴿ و لو كره المجرمون ﴾. انتصار الحق واستقراره، ففي إحقاقه قطع أطماعهم، وتقويض سلطانهم، والقضاء على باطلهم ومن سنن الله في خلقه : أن البقاء لمبادئ الخير والحق، قال تعالى :﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾. ( الإسراء : ٨١ ).
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ٨٤ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٨٦ ﴾.
المفردات :
ذرية من قومه : جماعة من قومه، شبابا أو كهولا، فقد آمن به السحرة وهو كهول غالبا كما آمن به غيرهم.
أن يفتنهم : أن يعذبهم.
لعال في الأرض : لغالب فيها.
التفسير :
٨٣ ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ... ﴾ الآية.
في الآيات السابقة ما يفيد : أن الله أبطل عمل السحرة، ونصر موسى وأيده بالمعجزات، وقد كان هذا النصر كفيلا بأن يؤمن بموسى أعدادا كثيرة، لكن الآية هنا أفادت بأن من آمن بموسى، كان أعدادا قليلة من الشبان، وكانوا خائفين من التعرض للعذاب والفتنة.
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ﴾.
أي : لم يؤمن بدين موسى إلا جماعة من شبان بني إسرائيل، أما الآباء والرؤساء، فقد شايعوا فرعون ؛ طمعا في المناصب والرئاسة، وقد رجح هذا الرأي ابن جرير، حيث ذكر : أن الذرية كانت من بني إسرائيل ؛ لعود الضمير على أقرب مذكور.
وذهب فريق من المفسرين : إلى أن الذين آمنوا بموسى ذرية من قوم فرعون، آمنوا بموسى مع وجود الخوف، والتعرض للفتنة من فرعون وملئه.
قال العوفي : عن ابن عباس :«إن الذرية التي آمنت بموسى من قوم فرعون منهم : امرأته، ومؤمن آل فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه »، وقد اختار هذا الرأي ابن كثير في تفسيره ؛ حيث قال : من المعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى، واستبشروا به ؛ فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به.
وأيد هذا الرأي الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن، حيث اختار أن هذه الذرية ؛ ذرية المصريين الذين آمنوا بموسى عليه السلام ؛ فقد آمن بموسى طائفة من المصريين، منهم السحرة : الذين أعلنوا إسلامهم وتحملوا صنوف العذاب في سبيل الله، ومنهم : مؤمن آل فرعون، الذي أخذ يبشر قومه بدعوة موسى عليه السلام، وقد سميت سورة غافر، بسورة المؤمن، أي : مؤمن آل فرعون.
فيها يقول الله تعالى :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ﴾. ( غافر : ٢٨ ).
وقال تعالى :﴿ وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ﴾. ( غافر : ٣٨ ).
ونلاحظ أن الذين استجابوا لدعوة موسى كانوا من الذرية، أي : من الأبناء والشبان ؛ لأن الكبار أشد تمسكا بما ألفوه، والشباب هم أتباع الرسل.
قال تعالى :﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾.
أي : آمن بموسى شبان وأولاد ونساء من أهل مصر، مع خوفهم من بطش فرعون وحاشيته بالمؤمنين بموسى.
«وإنما جاء في القرآن :﴿ أن يفتنهم ﴾ دون أن يفتنوهم ؛ حتى يشمل فرعون وملأهم ؛ لإفادة : أن الخوف من الملإ كان بسبب أن كل ظالم في دولة فرعون ؛ كان يستمد ظلمه من طغيان فرعون وجبروته ». xxxi
﴿ وإن فرعون لعال في الأرض ﴾.
تؤكد هذه الجملة ما سبقها، وتؤكد أن فرعون كان جبارا، عنيدا، غالبا للناس، قاهرا لهم في أرض مصر بالسلطان والملك.
﴿ وإنه لمن المسرفين ﴾.
كان مسرفا في البطش والظلم، والتمرد والعتو، متجاوزا الحد في الظلم والفساد، شديد البطش والفتك، حتى إنه ادعى الربوبية، واسترق أسباط الأنبياء، وكانت له سطوة ومهابة، تخاف رعيته منه خوفا شديدا.
٨٤ ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾.
قال موسى لقومه الذين أظهروا الإيمان والانقياد لأمر الله، مع الخوف من فرعون وملئه قال لهم موسى : إن الإيمان الحق ينبغي أن يتبعه صدق اليقين، بأن الله هو خالق الكون وبيده الخلق والأمر، والتوكل على الله تعالى من شعب هذا الإيمان، والتوكل يقتضي الأخذ بالأسباب، مع اليقين الجازم بأن المسبب الحقيقي هو الله تعالى، كما أن الإيمان بالقلب يستتبع التوكل، ويقتضي الاستسلام لحكم الله، والالتزام بما أمر الله، وتنفيذ المأمورات، واجتناب المنهيات.
﴿ إن كنتم مسلمين ﴾. أي : إن كنتم مستسلمين له خاضعين لشرعه.
٨٥ ﴿ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
أي : استجاب المؤمنون لدعوة موسى، وقالوا : على الله وحده توكلنا، واعتمدنا، وفوضنا أمورنا إليه، ثم دعوا ربهم قائلين :
﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ﴾.
أي : يا رب، لا تجعلنا موضع فتنة من القوم الظالمين ؛ بأن تسلطهم علينا، فنجنا يا رب من مكرهم وكيدهم، أو يكون المعنى : اللهم، لا تنصر علينا القوم الظالمين ؛ فنكون مصدر فتنة لهم ؛ حيث يظنون أنهم على الحق، وأن المؤمنين على الباطل بدليل انتصار الظالمين على المؤمنين، وكان أتباع فرعون يأخذون المؤمنين بالأعمال الشاقة.
٨٥ ﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
أي : أنقذنا بفضلك وعونك من هؤلاء القوم الكافرين، الذين كفروا بك ؛ فقد ادعى فرعون الألوهية، وعذب بني إسرائيل أشد العذاب ؛ فتضرع المؤمنون إلى ربهم : أن ينجيهم من هؤلاء الزبانية الذين كفروا بنعمة الله عليهم، ومارسوا أشد الظلم والعدوان.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٨٨ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٨٩ ﴾
المفردات :
تبوءا لقومكما بمصر بيوتا : أي : اجعلا لقومكما منازل يقيمون فيها يقال : تبوأ المكان، وتبوأ به : نزل فيه وأقام به.
واجعلوا بيوتكم قبلة : أي : اجعلوها أماكن الصلاة متجهين فيها إلى القبلة.
التفسير :
٨٧ ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
أمر الله تعالى موسى وأخاه هارون، بوحي أوحاه إليهما، أن يجعلا لقومهما بمصر بيوتا خاصة بهم، ينزلون بها ويسكنون فيها، ويعتزلون فرعون وجنده إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة ﴾.
أي : اجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم - وعبادتكم وكان فرعون وجنده، قد خربوا معابد بني إسرائيل ومنعوهم من الصلاة في أماكن العبادة الخاصة بهم.
﴿ وأقيموا الصلاة ﴾.
أي : حافظوا على الصلاة في خشوع وخضوع، وحضور قلب ؛ فهي وسيلة لتثبيت الإيمان، وتفريج الكروب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر ؛ فزع إلى الصلاة.
﴿ وبشر المؤمنين ﴾.
أي : بالنصر والفلاح في الدنيا، والثواب في الآخرة.
تنوع الخطاب في الآية :
أول الآية فيه خطاب مثنى، توجه الخطاب بالوحي إلى موسى وهارون، فاتخاذ البيوت التي تخص القوم، قرار رئيس تم بتوجيه نبي الله موسى ونبي الله هارون، لكن تهيئة البيت ليكون معدا للصلاة، والاتجاه جهة القبلة للعبادة، أمر ينبغي أن يقوم به جميع المؤمنين، وكذلك إقامة الصلاة، أمر عام للجميع فجاء الأمر بواو الجمع.
أما البشارة بالنصر فكانت من موسى وحده ؛ لتكون أوقع في نفوس المؤمنين وأنسب في إدخال السرور عليهم، وذهب بعض المفسرين : إلى أن المراد بالبيوت هنا : المساجد، وتبني المساجد جهة القبلة.
قال الشوكاني في تفسير الآية :
﴿ تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ﴾. أي : اتخذوا لقومكما بمصر بيوتا ؛ لعبادة الله تعالى، أي : مساجد، قيل : ومصر في هذه الآية هي : الإسكندرية، وقيل : هي مصر القديمة، بجوار القاهرة الآن. ﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة ﴾. أي : متوجهة إلى جهة القبلة، وقيل : المراد : البيوت التي يسكنون فيها، أمروا بأن يجعلوها متقابلة، والمراد بالقبلة على القول الأولى هي : جهة بيت المقدس، وقيل : جهة الكعبة. ا ه.
المفردات :
اطمس على أموالهم : الطمس في اللغة : المحق والمحو، أي : أهلكها واجعلها غير للانتفاع بها.
واشدد على قلوبهم : أي : اختم عليها واجعلها قاسية لا تنشرح للإيمان ؛ لاختيارهم الكفر وإصرارهم عليه.
التفسير :
٨٨ ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾.
الزينة : اسم لكل ما يتزين به من ملبوس، ومركوب، وحلية، وفراش، وسلاح، وغير ذلك.
كان موسى يعد بني إسرائيل للخروج من مصر ؛ لذلك اتخذ لهم بيوتا خاصة بهم، وحثهم على كثرة العبادة والصلاة، وبشرهم بالنصر، ثم شاهد موسى ما يتمتع به فرعون وقومه من المال والزينة، والزراعة والترف، والتنعم بصنوف الأموال والمتع، ولكنهم لا يشكرون الله على نعمائه، ولا يؤدون حق الله فيما رزقهم، بل استغلوا هذه النعم في الضلال والإضلال ؛ فجحدوا الدين، ورفضوا الإيمان بموسى، وعذبوا المؤمنين وفتنوهم ؛ فدعا موسى ربه أن يختبرهم بصنوف العذاب، ومنها : محق الأموال، وطمس القلوب، وعدم تفتحها للحق حتى يفاجئها الموت.
قال الإمام الشوكاني في فتح القدير :
﴿ ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾.
أي : فكانت عاقبة أمرهم أن استعملوا نعمك في صرف الناس عن دينك ؛ دين الحق.
﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾. دعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها.
﴿ واشدد على قلوبهم ﴾. أي : اجعلها قاسية مطبوعة لا تقبل الحق، ولا تنشرح للإيمان.
﴿ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾.
أي : لا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به، وعند ذلك لا ينفع إيمانهم. ا ه.
ونلاحظ أن موسى قدم بين يدي دعائه، على فرعون وقومه : ذكر طغيانهم ؛ ليكون أرجى لاستجابة الله، وتشهيرا بهؤلاء الذين لم يقدروا نعم الله حق قدرها، وكرر النداء ربنا ؛ مبالغة في الضراعة إليه تعالى.
قال الإمام ابن كثير : وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام ؛ غضبا لله تعالى، ولدينه ؛ على فرعون وملئه، كما دعا نوح على قومه.
٨٩ ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
كان موسى عليه السلام يدعو ربه، وهارون يؤمن على دعائه، فاعتبر الله الدعاء متوجها منهما معا، فقال سبحانه :
﴿ قد أجيبت دعوتكما ﴾. لقد استجيبت دعوتكما، وسوف أحقق هذا الدعاء ؛ بتدمير فرعون، وإهلاك أمواله، لكن هذه الإجابة لها وقت محدد لا يتقدم ولا يتأخر.
﴿ فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ﴾. فاستمرا على دعوة الناس إلى الإيمان، والزما الاستقامة على دين الله، ولا تسيران في طريق من يخرج عن شرع الله، أو يتعجل إجابة الدعاء قبل أوان ذلك وهذا توجيه من الله للناس بأهمية الدعاء، والإخلاص فيه، وعدم الاستعجال ؛ لأن الله لا يعجل لعجلة العباد، وإن من علامات الإيمان الصادق : أن يكون الإنسان غيورا على دين الله تعالى، وكان موسى قد علم أن فرعون لن يؤمن، فلما أعلمه الله بذلك ؛ دعا بهذه الدعوة، كما سبق أن أعلم الله نوحا بعدم إيمان قومه.
قال تعالى :﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴾. ( هود : ٣٦ ).
فلما علم نوح بذلك قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ﴾. ( نوح : ٢٦٢٧ ).
﴿ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ٩٢ ﴾
المفردات :
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر : أي : وجعلناهم يجاوزونه ويعبرونه من الغرب إلى الشرق حتى وصلوا إلى شاطئه الشرقي.
فأتبعهم فرعون : أي : تبعهم حتى اقترب منهم، تقول : تبعته حتى أتبعته، إذا كان قد سبقك فلحقته.
بغيا وعدوا : أي : ظلما، وتجاوزا للحد فيه.
حتى إذا أدركه الغرق : أي : حتى إذا لحقه الغرق.
التفسير :
٩٠ ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا... ﴾ الآية.
لما أعلم الله تعالى موسى وهارون باستجابة دعائهما على فرعون وقومه، أمرهما أن يخرجا ببني إسرائيل من مصر ليلا، فخرجا بهم على حين غفلة من فرعون وقومه، فلما علم فرعون بخروجهم ؛ خرج هو وجنوده على إثرهم مسرعين في طلبهم بغيا وعدوانا، والتفت بنو إسرائيل فإذا الطامة الكبرى وراءهم ؛ فقال بنو إسرائيل : يا موسى، العدو وراءنا والبحر أمامنا ! فقال موسى :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾. ( الشعراء : ٦٢ ).
فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر ( وهو بحر القلزم المسمى : البحر الأحمر، بحر السويس ) فضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي : كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقا لكل سبط طريق وأمر الله الريح فنشّفت أرضه، وسارت بنو إسرائيل في هذه الطرق اليابسة، وعبرت إلى الشاطئ الآخر، ووصل فرعون وجنوده إلى الساحل، وكان طريق بني إسرائيل في البحر لا يزال باقيا، فسار فيه فرعون بجنوده، فلما اكتملوا جميعا فيه، وهم أولهم بالخروج، أمر الله العلي القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم، فارتطمت عليهم فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت.
قال :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا ﴾.
أي : جعلنا بني إسرائيل يجاوزون البحر ويعبرونه، من الغرب إلى الشرق حتى وصلوا إلى شاطئه الشرقي، ثم دخل فرعون وجنوده في إثرهم، فأطبق الله عليهم البحر، وشاهد بنو إسرائيل جموعهم تنجو من فرعون وجنوده، كما شاهدوا فرعون وجنوده غرقى في قلب البحر.
قال تعالى :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ﴾. ( البقرة : ٥٠ ).
﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾.
كان فرعون في مرحلة الغرغرة، ورأى الموت رأى العين ؛ فاعترف بالإيمان اعترافا مكررا ثلاث مرات :
١ قال : آمنت.
٢ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.
٣ وأنا من المسلمين.
وهو في كل ذلك يحاول أن يفلت من الموت ؛ فأعلن إيمانه وشهد بأن الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، هو الإله الحق الواحد الأحد، وأظهر إسلامه واستسلامه لهذا الدين، ولهذا الطريق، الذي حاربه بالأمس، وادعى الألوهية، وحرم على بني إسرائيل العبادة في دور العبادة. بيد أن هذه التوبة جاءت متأخرة ؛ لأنها جاءت بعد أن يئس من الحياة وشاهد الموت.
قال تعالى :﴿ من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها واله خبير بما تعملون ﴾. ( المنافقون : ١٠، ١١ ).
فالله تعالى يقبل توبة العبد ما دام في هده الدنيا فإذا بلغت الروح الحلقوم ؛ فقد انتهت الحياة وأغلق باب التوبة، قال تعالى :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ﴾. ( غافر : ٨٤، ٨٥ ).
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي : أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال :( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ). xxxii والغرغرة : حشرجة الموت.
٩١ ﴿ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
أي : أتؤمن الآن، في وقت لا ينفع نفسا إيمانها. وهو الوقت الذي تأكدت فيه من الموت ؛ فصار العمل اضطرارا لا اختيار فيه. ويزيد من عظم التبعة، أن فرعون قد أسرف في المعصية والعدوان، وعظم فساده في الأرض.
قال أبو السعود : وهذه الآية ؛ لتشديد التوبيخ والتقريع، على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ؛ ببيان أنه لم يكن تأخيره لعدم بلوغ الدعوة إليه، ولا للتأمل والتدبر في دلائله وآياته، ولا لشيء آخر مما عسى يعد عذرا في التأخير ؛ بل كان ذلك على طريقة الرد و الاستعصاء والإفساد. ا ه.
لقد امتنع فرعون عن الإيمان، وصد بني إسرائيل ومنعهم عن الإيمان ؛ فضاعف الله عذابه.
قال تعالى :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ﴾. ( النحل : ٨٨ ).
٩٢ ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾.
أي : نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر، ونجعلك طافيا ؛ ليراك بنو إسرائيل.
ببدنك. أي : نلقى ببدنك على شاطئ البحر، خاليا من الروح.
﴿ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾. لتكون عظة وعبرة بأن هذه نهاية الظلم والعدوان، وأن الإنسان مهما ادّعى العظمة أو الألوهية، فإنه لا يمكن أن يفر من الموت، واسم فرعون : منفتاح بن رمسيس ١٢٢٥ ق. م، وجثته لا تزال موجودة في متحف الآثار المصرية بالقاهرة.
قال المفسرون : إنما نجى الله بدن فرعون بعد الغرق ؛ لأن قوما اعتقدوا فيه الألوهية، وزعموا : أن مثله لا يموت، فأراد الله أن يشاهده الناس، على ذلك الذل والمهانة ؛ ليتحققوا موته، ويتخذوا العظة والعبرة.
﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾.
﴿ كثيرا من الناس ﴾. لا تتحرك قلوبهم للعظة والاعتبار، والتأمل في آيات الله، الداعية إلى الإيمان، وفيه تحريك لقلوب أهل مكة ومن على شاكلتهم، إلى التأمل في آيات الله، وقريب من ذلك قوله تعالى :
﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾. ( يوسف : ١٠٥ ).
ملاحظة : كان فرق البحر ونجاة موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه معجزة عظمى لسيدنا موسى عليه السلام ؛ لذا سن صوم يوم عاشوراء الذي تم فيه هذا الحدث ؛ شكرا لله تعالى.
وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة حول هذه الآيات ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال :( قدم رسول الله صلى عليه وسلم المدينة، واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه :( أنتم أحق بموسى منهم ؛ فصوموه ). xxxiii
﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٩٣ ﴾
المفردات :
بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق : أنزلناهم مكانا صالحا آمنا وأسكناهم فيه.
التفسير :
٩٣ ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ... ﴾ الآية.
في أعقاب الحديث عن نجاة بني إسرائيل، وغرق فرعون وقومه، تحدث القرآن عن جانب من النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل فقال :
﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾.
أي : ولقد أنزلنا بني إسرائيل منزلا صالحا مرضيا وهو منزلهم سابقا في مصر، ولا حقا في فلسطين، وقد رزقهم الطمأنينة والأمن، ﴿ ورزقنهم من الطيبات ﴾. أي : اللذائذ المستطابة المباحة فيها، وأنعمنا عليهم فيها بكثير من الخيرات من الثمار والغلال، وصيود البر والبحر، والمن والسلوى.
﴿ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ﴾.
أي : ظل هؤلاء يرفلون في نعم الله عليهم، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم علم التوراة ومعرفة أحكامها، وكتب الله تدعو الناس إلى التعاون والتآزر والتواد والتراحم لكنهم تفرقوا في أمور دينهم ودنياهم على مذاهب شتى، فالجملة توبخهم على جعلهم العلم الذي كان من الواجب عليهم أن يستخدموه في الحق والخير والوحدة والجماعة، فاستخدموه في التأويلات الباطلة وجعلوه وسيلة للاختلاف والابتعاد عن الصراط المستقيم.
وللعلماء في تحديد المراد ببني إسرائيل في هذه الآية قولان :
الأول : أنهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، وعلى هذا يكون مبوأ الصدق : مصر الشام، والعلم الذي أدى إلى الاختلاف بينهم هو علم التوراة.
والقول الثاني : هم اليهود المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال جمع عظيم من المفسرين، وهم قبائل اليهود في المدينة :( قريظة، والنضير، وبنو قينقاع )، ومنزل الصدق ما بين المدينة، والطيبات : ما في تلك البلاد من التمور، والمراد بالعلم : القرآن، وكونه سبب الاختلاف ؛ أن اليهود اختلفوا فآمن قوم، وبقى آخرون على كفرهم.
﴿ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ﴾.
أي : ما اختلف اليهود في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته، وتظاهر معجزاته.
وقد الكفر كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما بعث وجاءهم ما عرفوا كفروا به.
والخلاصة : أنهم ما اختلفوا في شيء من المسائل جهلا ؛ وإنما من بعد ما جاءهم العلم.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
أي : إن ربك يفصل ويحكم بينهم يوم القيامة في شأن ما اختلوا فيه فيميز المحق من المبطل، حيث ينجي الله المحقين، ويعاقب المبطلين.
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٩٤ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٩٥ ﴾
المفردات :
من الممترين : من الشاكين.
التفسير :
٩٤ ﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ... ﴾ الآية.
قص الله في الآيات السابقة قصص بعض المرسلين مع أممهم، وفي كل قصة كان النصر للمؤمنين والهلاك للجاحدين ؛ تلك سنة الله فيما سبق، وستظل كذلك إلى يوم الدين، ولا سبيل إلى الشك في ذلك. وفي هذه الآيات ساق الله هذا المعنى بطريق التلطف في الأسلوب، فساق الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد : قومه، فجاء على نحو قولهم :»إياك أعني واسمعي يا جارة«.
وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك.. ﴾. ( الزمر : ٦٥ ). وقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين.. ﴾ ( الأحزاب : ١ ).
﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ.. ﴾
المعنى : فإن كنت أيها الرسول الكريم على سبيل الفرض والتقدير في شك مما أنزلنا إليك، من قصص المرسلين، كقصة نوح وموسى وغيرهما ؛ فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء، كاليهود والنصارى ؛ فإنهم يعلمون أن ما أنزلنا إليك حق لا يستطيعون إنكاره.
وقد جرت عادة العرب أن يقدروا الشك في الشيء ؛ ليبنوا عليه ما ينفي احتمال وقوعه ؛ فيقول أحدهم لابنه : إن كنت ابني ؛ فكن شجاعا.
وجاء من هذا قول المسيح عليه السلام في إجابة الله تعالى يوم القيامة ما ورد في أواخر سورة المائدة :﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ﴾. ( المائدة : ١١٦ ).
فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقله، وإنما يفرض قوله فرضا ؛ ليستدل عليه، بأنه لو قاله لعلمه الله تعالى منه، أي : إن كنت قلته على سبيل الفرض والتقدير ؛ فقولي هذا لا يخفى عليك.
ومن هذا قول بعض العلماء في محاورة تلاميذه : إذ كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة إلى متساويين. أي : إن كون الخمسة زوجا يستلزم ذلك، وهذا لا يدل على أن الخمسة زوج، وهكذا ما في الآية.
فهو يدل على أنه لو حصل الشك ؛ لكان الواجب هو فعل كذا وكذا، وليس فيها دليل على وقوعه.
قال ابن كثير : قال قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا أشك ولا أسأل ).
وقيل : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد : أمته، ومعناه : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليكم. xxxiv
﴿ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾.
والمعنى : أقسم ؛ لقد جاءك الحق الذي لا لبس فيه من ربك لا من غيره ؛ فلا تكونن من الشاكين المترددين ؛ بل كن من ذوي الإيمان الثابت بهذا الحق المبين.
٩٥ ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.
أي : ولا تكونن أيها النبي صلى الله عليه وسلم ممن كذب بآيات الله، الدالة على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل ؛ لهداية البشر ؛ فتكون ممن خسروا الدنيا والآخرة.
وهذا أيضا من باب التهييج والتثبيت، وقطع الأطماع عنه عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾. ( القصص : ٨٦ )، وفيه تعريض بالكفار الخاسرين الضالين.
جاء في تفسير أبي السعود :
﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ ﴾.
من باب التهييج والإلهاب، والمراد : إعلام أن التكذيب من القبح والمحذور، بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يتصور إمكان صدوره عنه، فكيف يمكن اتصافه به، وفيه قطع لأطماع الكفرة ؛ ﴿ فتكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٩٦ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ٩٧ ﴾
التفسير :
٩٦- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
تأتي هذه الآية وما بعدها ؛ لبيان شدة إصرار الكافرين عل الكفر والجحود والعصيان، ولو جاءتهم كل آية كونية حسية، أو علمية، أو قرآنية، مثل : آيات موسى عليه السلام.
والمعنى : إن هؤلاء الكفار قد أعرضوا عن الحق، فثبتت عليهم كلمة الله، أي : قضاؤه وحكمه بالعذاب، وهؤلاء لا يؤمنون أبدا ؛ لفقدهم الاستعداد للإيمان، وتصميمهم على الكفر، وليس المعنى أن الله يمنعهم من الإيمان، وإنما هم الذين اختاروا الكفر وكسبوه، وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾. ( السجدة : ١٣ ).
٩٧ ﴿ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾.
أي : هؤلاء الكفار الذين اختاروا الكفر وأصروا عليه ؛ لن يستجيبوا لدعوة الهدى.
﴿ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾، واضحة المدلول، مقبولة لدى العقول.
﴿ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾. أي : حتى يشاهدوا عذاب الله كالخسف والزلازل، والصواعق والغرق والهلاك، وكل عذاب أليم موجع مطبق عليهم، وحينئذ لا ينفع إيمانهم كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أشرف على الغرق، وكما قال تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ﴾. ( الأنعام : ١١١ ).
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ٩٨ ﴾
المفردات :
فلولا : لولا : كلمة تفيد : الحث على الفعل بمعنى : هلا.
قرية : اسم للمباني المتصلة التي يسكنها جمع من الناس، وقد جاء في القرآن الكريم أن القرية والمدينة بمعنى واحد ؛ قال تعالى :﴿ حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ﴾. ثم قال :﴿ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ﴾. وقيل : القرية : بلدة أصغر من المدينة والمراد من القرية في الآية : أهلها.
التفسير :
٩٨ ﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا... ﴾ الآية.
أي : هلا كان أهل كل قرية من قرى الرسل الذين أرسلوا إليهم، آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، وقبل نزول العذاب واستحالة الإيمان ؛ فنفعهم إيمانهم.
﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾.
أي : لكن قوم يونس عليه السلام، الذي بعث في أهل نينوى، بأرض الموصل، شمال العراق، كانوا قد كفروا، ثم لما رأوا أمارات العذاب ؛ تضرعوا إلى الله وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان ؛ فرحمهم الله تعالى، وكشف عنهم العذاب. أي : العذاب الذي وعدهم يونس بنزوله، وقبل إيمانهم، ومتعهم إلى أجلهم، وفي القصة تعريض بأهل مكة، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس.
وذهب الأستاذ عبد الكريم الخطيب : إلى أن المراد بالقرية هنا : مكة.
ومعنى الآية :«هلا أسرعت مكة إلى الإيمان بالنبي المبعوث منها وفيها ؛ فانتفعت بهذا الإيمان قبل غيرها ؛ لأنها أولى به ؛ إذ كان مطلعه في أفقها، ولكن الواقع أنها لم تؤمن فحرمت هذا الخير وذلك هو حال معظم الأقوام مع أنبياءهم، إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا ؛ فنجاهم الله من العذاب الذي أوشك أن يحل بهم ».
قصة يونس
يونس بن متى، ويقول أهل الكتاب يونس بن أمتاي، وقد أرسله الله تعالى إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه فوعدهم بالعذاب بعد مدة، قيل : إلى أربعين يوما، وذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه ؛ خافوا نزول العذاب، ولما دنا الموعد غامت السماء غيما أسودا، ذا دخان شديد ؛ فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا، فطلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى الفضاء بأنفسهم، ونسائهم، ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها، فنحن بعضها إلى بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى ؛ فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة. xxxv
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم، حتى إن الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده إلى صاحبه. xxxvi
قال علي رضي الله عنه : إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر.
من تفسير الشوكاني :
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا... ﴾ الآية.
فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها، آمنت إيمانا معتدا به، وذلك بأن يكون خالصا لله قبل معاينة عذابه، ولم يؤخروه كما أخره فرعون.
﴿ إلا قوم يونس ﴾. لكن قوم يونس، ﴿ لما آمنوا ﴾. إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب.
﴿ كشفنا عنهم عذاب الخزي ﴾. وهو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه، فرأوا علاماته دون عينه.
﴿ ومتعناهم إلى حين ﴾. أي : بعد كشف العذاب عنهم. xxxvii
﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ٩٩ ﴾
التفسير :
٩٩ ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... ﴾ الآية.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه، وتبليغ دعوته، وكان يتحسر كثيرا ؛ لبعدهم عن طريق الهداية.
قال تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾. ( الكهف : ٦ ).
وفي هذه الآية بيان لحقيقة إلهية كونية، وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ومنحه العقل والاختيار والإرادة، وجعل الجزاء في الآخرة منوطا بكسب الإنسان واختياره في هذه الدنيا ؛ حتى يكون الجزاء من جنس العمل، فقد خلق الله الناس مستعدين بفطرتهم للسير في طريق الخير أو الشر، والإنسان بإرادته واختياره وكسبه هو الذي يرجح أحد الاتجاهين. قال تعالى :{ ونفس وما سوها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها{ . ( الشمس : ٧١٠ ).
وقال عز شأنه :﴿ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكر وإما كفورا ﴾. ( الإنسان : ٢، ٣ ).
وقال سبحانه :﴿ ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين ﴾. ( البلد : ٨١٠ ) ؛ أي : بينا له الطريقين.
وخلاصة معنى الآية : ولو شاء ربك ألا يخلق الإنسان مستعدا بفطرته للخير والشر، والإيمان والكفر، ومرجحا باختياره لأحد الأمور الممكنة على ما يقابله بإرادته ومشيئته ؛ لفعل ذلك، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا ؛ يوازن باختياره بين الإيمان والكفر ؛ فيؤمن بعض، ويكفر آخرون.
﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾. أي : أفأنت مطلوب منك أن تكره الناس على دينك حتى يصيروا مؤمنين به ؟ كلا، فأشفق على نفسك ؛ فما عليك إلا البلاغ، وحسبك أداء واجبك، وهو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
قال تعالى :﴿ إن أنت إلا نذير ﴾. ( فاطر : ٢٣ ).
وقال سبحانه :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾. ( البقرة : ٢٧٢ ).
وقال :﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾( الشورى : ٤٧ ).
وقال :﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾. ( ق : ٤٥ ).
وقال سبحانه :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾. ( البقرة : ٢٠٦ ).
﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٠ ﴾.
المفردات :
بإذن الله : بإرادة الله.
الرجس : يطلق على القذر حسيا كان أو معنويا، ومن المعنى : الذنب، والكفر، وكل يصح أن يراد هنا وقد يطلق على العذاب والشك وغير ذلك.
التفسير :
١٠٠ ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآية ؛ تأكيدا للمعنى الوارد في الآية السابقة ؛ فقد خلق الإنسان ويسر له أسباب الهداية ومن سنن الله تعالى أنه يسر الإيمان والهداية، لمن أخذ في الأسباب واستخدم عقله وفطرته، وتابع ذلك بالتأمل والنظر والتفكر والتأمل، قال تعالى :﴿ إن في خلق السماوت والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ﴾. ( آل عمران : ١٩٠، ١٩١ ).
أما من أعرض عن الهدى، ولم يستخدم عقله وفكره، ولم يتأمل في هذا الكون ونظامه وبديع صنعته ؛ فإن الله يسلب عنه الهدى والتوفيق، ويسحب منه المعونة والتسيير إلى الهداية ؛ لأنه ليس أهلا لها.
﴿ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ﴾. فإيمان أي نفس متوقف على هداية الله ومشيئته ومعونته.
قال تعالى :﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾. ( آل عمران : ٧٣ ).
وقال سبحانه :﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾. ( الإنسان : ٣٠ ).
بيد أن هذه المشيئة عادلة، فلا تسلب الهدى إلا عن أعمى عن الحق، أصم عن سماع صوت الإيمان والخير، قال تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾. ( الأعراف : ١٧٩ ).
﴿ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ﴾.
لقد يسر الله الإيمان لمن اختار الهداية والرشاد ؛ فيسر الله الإيمان بإذن الله أما من غالب صوت الحق، وأنكر دعوة الخير ؛ فإن الله يجعل الخذلان والخزي على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون إذ هم لخطل رأيهم يرجحون الكفر على الإيمان، والفجور على التقوى.
﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ١٠١ ﴾.
المفردات :
انظروا : تفكروا واعتبروا.
النذر : جمع نذير وهو الذي ينبه الناس إلى الخطر.
التفسير :
١٠١ ﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ الآية.
أي : قل يا محمد لكل من يأتي منه النظر واستخدام العقل والفكر : تأملوا في خلق الله، فهذه السماوات وما فيها من شموس وأفلاك ومجرات وأقمار وأمطار وهواء وسحاب، وهذه الأرض وما فيها من جبال ونبات وثمار وزروع وليل ونهار ؛ تأملوا في هذا الكون البديع، والنظام المتسق المتكامل، والدقة البالغة في تسخير هذا الكون قال تعالى :﴿ و في الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون * وفي السماء رزقكم وما توعدون ﴾. ( الذاريات : ٢٠٢٢ ).
﴿ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾.
تغني : تنفع وتفيد، والنذر : واحدها : نذير ؛ أي : إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها، والرسل على بلاغة حجتها، لا تجدي نفعا لقوم لا يتوقع إيمانهم، لقد أمعنوا في الضلال، وأصروا على عدم الإيمان، فلن تلين قلوبهم لسماع الحق، ولن تهتز أفئدتهم لرؤية جمال الخلق، قال تعالى :﴿ وكأين من آية في السماوت والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾. ( يوسف : ١٠٥ ).
﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ١٠٢ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٣ ﴾
المفردات :
ينتظرون : يترقبون ويتوقعون.
خلو : مضوا.
التفسير :
١٠٢ ﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ الآية.
الاستفهام هنا للتهكم والتقريع، والمراد : إن هؤلاء الجاحدين المكذبين ماذا يتوقعون جزاء كفرهم وجحودهم، إنهم أشبه بمجرم ينتظر مصيره، والحكم عليه بالعقوبة التي يستحقها.
لقد قصصنا عليك ما نزل بقوم نوح ومن بعدهم من المكذبين ؛ فهل ينتظر هؤلاء الكفار إلا عذابا مثل عذاب الأمم السابقة عليهم، قال تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ﴾. ( الإسراء : ١٧ ).
قال القرطبي : الأيام هنا بمعنى : الوقائع، يقال : فلان عالم بأيام العرب، أي : بوقائعهم.
قال قتادة : يعني : وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والعرب تسمى العذاب : أياما، والنعيم : أياما، كقوله تعالى :﴿ وذكرهم بأيام الله ﴾. وكل ما مضى من خير أو شر فهو أيام. ا ه.
﴿ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾.
أي : قل لهم يا محمد : فانتظروا وترقبوا آثار إصراركم على الكفر، فإني مترقب معكم ما سيصيبكم من عذاب ؛ إن ظللتم مصرين على الكفر والإنكار.
١٠٣ ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ... ﴾ الآية.
اقتضت سنة الله تعالى إرسال الرسل، وإنزال الكتب وإلزام الحجة قال تعالى :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾. ( النساء : ١٦٥ ).
وبعد أن يقوم الرسل بالبلاغ والإنذار، ويؤمن بهم من يؤمن، ويكفر بهم من يكفر، تكون العاقبة للمؤمنين، والهلاك للكافرين، لقد أفادت الآية السابقة : أن المكذبين ينتظرون عذابا مثل : عذاب قوم نوح ومن بعدهم، وأفادت هذه الآية : أنه بعد عذاب المكذبين، ينجي الله المرسلين، وينجي معهم من آمن بهم، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
﴿ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
أي : كما أنجى الله الأنبياء والمؤمنين مما أصاب أقوامهم، كذلك ينجي المؤمنين معك أيها الرسول، ويهلك المصرين على تكذيبك، و عدا حقا علينا لا نخلفه ؛ كما قال تعالى :﴿ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾. ( الإسراء : ٧٧ ). وقال سبحانه :﴿ ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ﴾. ( الأنبياء : ٩ ).
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٤ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٥ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦ ﴾
المفردات :
يتوفاكم : يستوفي آجالكم ؛ بقبض أرواحكم.
التفسير :
١٠٤ ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ... ﴾ الآية.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات الكريمة على طريقة القرآن في تنويع الخطاب وتصريف القول ؛ ليأخذ على الجاحدين كل طريق، وليأخذ بأيديهم إلى التفكر والتأمل في شأن الأصنام التي يعبدونها، والدين الحق الذي يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ﴾.
في هذه الآية شرط، وهو إن كنتم في شك من ديني، ولو سار الكلام على إلف البشر لكان جوابه، فهذا شأنكم، أو فلا تدخلوا في هذا الدين ؛ لكن الجواب الذي جاء به القرآن هو الجواب الذي لا يجيء إلا من الحكيم العليم.
وفي هذا الجواب تنكشف أمور :
أولا : ثبات النبي على هذا الدين، وأن شكوكهم لا تثير فيه أدنى ريب، فهو على يقين ثابت بصدق هذا الدين.
ثانيا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يتحول عن هذا الدين، إلى دين المشركين، ولن يعبد تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله.
ثالثا : أن هذه الآلهة لا تملك نفعا ولا ضرا، وأن عبادتها ضلال.
رابعا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّى نفسه عن الشرك أولا، ثم اتجه إلى عبادة الله وحده ثانيا، على طريقة قولهم : التخلية قبل التحلية، أي : التخلي عن الشرك أولا، ثم التحلي بالإيمان ثانيا.
قال الشوكاني في تفسير الآية :
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾.
وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تعلموا بحقيقته ؛ فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها.
﴿ فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ﴾. في حال من الأحوال. ﴿ ولكن أعبد الذي يتوفاكم ﴾. فيفعل ما يفعل من العذاب الشديد، ﴿ وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾. وأخلص له الدين.
من تفسير أبي السعود :
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾.
أي : فاعلموا أنه تخصيص العبادة بالله، ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا، أو إن كنتم في شك في صحة ديني وسداده ؛ فاعلموا أن خلاصته : إخلاص العبادة لمن بيده الإيجاد والإعلام، دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام ؛ فاعرضوها على عقولكم، وأجيلوا فيها أفكاركم، وانظروا فيها بعين الإنصاف ؛ لتعلموا أن هذا الدين حق لا ريب فيه، أو إن كنتم في شك من ثباتي على الدين ؛ فاعلموا أني لا أتركه أبدا.
﴿ وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾. بما دل عليه العقل ونطق به الوحي. و هو تصريح بأن ما هو عليه من دين التوحيد، ليس بطريق العقل الصرف ؛ بل بالإمداد السماوي والتوفيق الإلهي. xxxviii
المفردات :
وجهك : المراد من الوجه : الذات، أو القلب، أو القصد.
حنيفا : منصرفا عن الباطل، مقبلا على الحق.
التفسير :
١٠٥ ﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ... ﴾ الآية.
هذه الآية معطوفة على الفقرة الأخيرة في الآية السابقة وهي :﴿ وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾. أي : قيل : لي : كن من المؤمنين، وأقم وجهك ولا تشرك.
أي : وكما أمرني الله تعالى بالإيمان به، أمرني سبحانه بالإخلاص في الاتجاه إلى دينه بقلبي وجوارحي، وأقوالي وأفعالي، بحيث لا يصرفني عنه صارف، وأمرني ألا أشرك في عبادته أحدا.
قال الشوكاني في فتح القدير :
﴿ وأن أقم وجهك للدين ﴾. أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال، وخص الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء. ﴿ حنيفا ﴾. مائلا عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام. ا ه.
وقال الآلوسي :
إقامة الوجه للدين : كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا، إذ لو التفت ؛ بطلت المقابلة، فلذا كنّى به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه : الذات. أي : اصرف ذاتك وكليتك للدين. ا ه.
وقد ورد في السنة المطهرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال :( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ؛ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ). xxxix
١٠٦ ﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ... ﴾
تستأصل هذه الآيات شأفة الشرك في القلوب ؛ فقد أمرت الآيات السابقة بالإيمان، وإخلاص الوجه لله، والبعد عن الشرك بالكلية، أي : لا يقصد الإنسان بعمله إلا وجه الله، وفي الآية الكريمة :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ﴾ ترسيخ لدعوة التوحيد، وإخلاص الوجه لله ؛ فهو سبحانه النافع الضار، الخالق المبدئ المعيد، الفعال لما يريد ؛ فالواجب أن نتوجه إليه وحده بالعبادة والسؤال والطلب، أما الأصنام والأوثان، وزيارة القبور والتوسل بهم، والطلب منهم، فهو انحراف عن الجادة، وخروج عن النهج القويم.
لقد أمرنا الله، بإخلاص العبادة، والبعد عن الشرك فقال تعالى :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾. ( الأنعام : ١٤ ).
وأخرج الإمام أحمد والطبراني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أيها الناس، اتقوا هذا الشرك ؛ فإنه أخفى من دبيب النمل ).
﴿ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾.
الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موجه للمسلمين عامة في جميع العصور، والمعنى : إن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك ؛ فإنك حينئذ تكون من الظالمين لأنفسهم بالشرك، والتوجه بالدعاء وهو مخ العبادة إلى غير الله، وبهذا حرر الإسلام القلوب والنفوس، من أن تذل لصنم أو بشر أو منصب أو جاه، وركز في قرارة النفوس، اليقين الجازم بأن النافع والضار هو الله تعالى وحده.
من هدى السنة النبوية
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال : كنت رديف النبي صلى الله على بغلته، فقال لي :( يا غلام، هل أعلمك كلمات ينفعك الله بها )، قلت : بلى يا رسول الله، علمني، فقال :( يا غلام، احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف ). xl أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح.
﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٠٧ ﴾
المفردات :
يمسسك : يصبك.
التفسير :
٤ ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ... ﴾ الآية.
أي : وإن تتعرض لضرر يمس جسمك أو مالك ؛ من مرض أو فقر أو ألم، فلا كاشف أو لا رافع له إلا الله.
﴿ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾.
وإن يردك أو يخصك الله بخير منه في دينك أو دنياك، من نصر ورخاء ونعمة وعافية، فلا دافع لفضله إلا الله ؛ إذ لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مانع لفضله، وهو القادر على كل شيء ؛ يمنح ويمنع ويعطي ويحرم، يفعل كل ذلك بحكمة وعلم.
«وكل خير من الله تعالى فهو تفضل منه سبحانه ؛ لأن نعمه التي تنزل على عباده ؛ تنزل عليهم بلا استحقاق منهم عليه، بل هو المبتدئ لهم بالنعم دون استحقاق، ومن ذلك : ابتداؤه بخلقهم، وإحسان صورهم، وتمكينهم في الأرض، وكل ما أنعم به عليهم، ومنه : الهداية، ومنه : النبوة، التي اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم، فهي من فضل الله لا يقدر أحد أن يردها. ﴿ يصيب به ﴾. أي : بفضله، ﴿ من يشاء من عباده ﴾. بمحض اختيار المولى سبحانه وتعالى ». xli
وفي كتاب الجوهرة : وهو منظومة فنية في علم التوحيد :
ولم تكن نبوة مكتسبة ولو رقى في الخير أعلى عقبة
بل ذاك فضل الله يؤتيه من يشاء جل الله واهب المنن
فإذا تفضل الله على محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ؛ فليس من حق أحد أن يعترض عليه ؛ لأن العطاء منة وتفضل من الله وحده، قال تعالى :﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾. ( النساء : ٥٤ ). وقال تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾. ( البقرة : ٢٤٧ )، وقال سبحانه :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾. ( آل عمران : ٢٦ ).
فالله صاحب الفضل، وهو صاحب التصرف في هذا الفضل،
﴿ يصيب من يشاء من عباده ﴾، والله تعالى كثير الصفح والعفو وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، ومن جملة ما يغفره : تقصير عباده عن إحصاء نعمه تعالى، وهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب.
﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾. كثير المغفرة والرحمة.
والله تعالى له حكمة سامية في إصابة بعض الناس بالضر والبلاء، فقد يكون ذلك اختبارا لهم وامتحانا لصبرهم وثباتهم، قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾. ( الأنبياء : ٣٥ ). وقد يكون البلاء لرفع المنزلة، أو تكفير لذنب.
روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها ؛ إلا كفر الله بها من خطاياه ). xlii
وكما يكون الضر ابتلاء من الله لعباده لإظهار مدى إيمانهم وصبرهم، يكون الخير كذلك لإظهار مدى شكرهم له وإقبالهم عليه، قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾. ( الأنبياء : ٣٥ ). و قد يكون الخير تكريما من الله لعباده الصالحين، وتعجيلا بنصيب من الثواب في الدنيا، قال تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ﴾. ( النحل : ٣٠ )، وكما قال سبحانه :﴿ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ﴾. ( الطلاق : ٤ ).
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ١٠٨ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ١٠٩ ﴾
المفردات :
بوكيل : الوكيل : من يوكل إليه الأمر.
التفسير :
١٠٨ ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ... ﴾ الآية.
تأتي هاتان الآيتان في ختام سورة يونس. وهي سورة عنيت بتقديم أدلة الألوهية، وقصت جانبا من حياة الرسل ودعوتهم، وسلكت طرقا متعددة في دعوة الناس إلى الهداية والإيمان. وفي ختام السورة نجد هذا النداء إلى الناس جميعا، من سمع منهم هذا النداء، ومن يتأتى له سماعه إلى يوم القيامة : إن الحق والهدى والقرآن والسنة، قد وصلتكم من الله تعالى، متمثلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾. من اختار طريق الإيمان والهداية والمتابعة لهذا الدين ؛ فإنما يهتدي لمنفعة نفسه ؛ حيث سما بها من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان.
﴿ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾. ومن آثر الضلالة على الهدى، والكفر على الإيمان ؛ فإنما يقع وبال ضلاله على نفسه دون غيرها.
﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾. أي : بحفيظ يحفظ أموركم، ويتولى إجباركم على اختيار الإيمان ؛ فأنا عبد الله ورسوله، مهمتي البلاغ فقط وقد بلغت، أما الهداية والاختيار، فهي مهمتكم ثم توفيق الله لكم، وفي معنى ذلك يقول الله تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ﴾. ( الغاشية : ٢١، ٢٢ ).
١٠٩ ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾.
أي : دم أيها الرسول على اتباع وحي السماء، واصبر وصابر واصطبر على تبليغ الرسالة، وتحمل أذى المشركين، حتى يقضي الله فيهم قضاءه وينفذ فيهم مشيئته وحكمه.
﴿ وهو خير الحاكمين ﴾. وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين ؛ فهو لا يحكم إلا بالحق. وقد امتثل الرسول الأمين لأمر الله، فصبر وصابر وجاهد في سبيل الله ؛ حتى حكم الله تعالى له بالنصر والغلبة، وجاءه نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا والحمد لله رب العالمين ! ! !
i يمكن أن أنقل هنا فقرة من كتابي : تفسير الآيات الكونية الذي طبعته دار الاعتصام بالقاهرة سنة ١٩٨٠ وهي : التأمل في الآيات التي تحدثت عن خلق الكون، وعن خلق السماوات والأرض يجعلنا نخلص إلى النقاط الآتية :
١ وجود مراحل ستة للخلق عموما.
٢ تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل الأرض.
٣ خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة، كانت تشكل كتلة متماسكة، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك.
٤ تعدد السماوات، وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض.
٥ وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض.
٦ إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولى في العلم الحديث، والدخان على حسب القرآن للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى. ص ٩٥ من كتاب تفسير الآيات الكونية
د/عبد الله شحاتة.
ii تفسير المنار : المجلد السادس ص ٢٤٨، ٣٤٩، وقد نقل هذا الكلام الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في تفسير جزء ١١ صفحة ٢٨.
iii مقتبس من ظلال القرآن بقلم سيد قطب جزء ١١ صفحة ١٧٦٥.
iv تفسير المنار جزء ١١ صفحة ٢٤٩، وقد عنون صاحب المنار للآيات بقوله :( تفضيل الآيات لأهل العلم، تنويه به وحث عليه ).
v انظر هذا المعنى في تفسير ابن كثير.
vi تفسير ابن كثير.
vii التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي ١١/١٢١.
viii تفسير الكشاف.
ix زبدة التفسير من فتح القدير للإمام الشوكاني.
x إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها :
رواه مسلم في الذكر ( ٢٧٤٢ ) والترمذي في الفتن ( ٢١٩١ ) وابن ماجة في الفتن ( ٤٠٠٠ ) وأحمد في مسنده ( ١٠٧٨٥ ) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ).
تنبيه : قوله( متفق عليه ) فيه نظر. فإنما أخرجه في البخاري في الزكاة( ١٤٦٥ ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، فقال : إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل : يا رسول الله، أويأتي الخير بالشر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له : ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك. فرأينا أنه ينزل عليه، قال : فمسح عنه الرحضاء. فقال : أين السائل ؟ ! وكأنه حمده، فقال : إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل... الحديث.
xi تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ١١/١٢٦، ثم قال : و﴿ في السموات ولا في الأرض ﴾، حال من الضمير المحذوف بعد ﴿ يعلم ﴾ العائد على ﴿ ما ﴾ إذ التقدير : بما لا يعلمه، أي : كائنا في السماوات ولا في الأرض، والمقصود من ذكرهما : تعميم الأمكنة، كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل : المشرق والمغرب، وأعيد حرف النفي بعد العطف ؛ لزيادة التنصيص على النفي، والاستفهام في ﴿ أتنبئون ﴾ للإنكار والتوبيخ. ا ه.
xii تفسير التحرير والتنوير، للشيخ الطاهر ابن عاشور ١١/١٢٩.
xiii ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله :
رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن ( ٤٩٨١ )، وفي الاعتصام ( ٧٢٧٤ )، ومسلم في كتاب الإيمان ( ١٢٥ )، وأحمد في مسنده حديث رقم ( ٩٥١٨ ).
xiv قال النسفي :﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ بالنصب قراءة حفص أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر لبغيكم، وقرأ غير حفص بالرفع ؛ على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته كقوله : فبغى عليهم ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم أو هو خبر ومتاع خبر بعد خبر أو متاع خبر مبتدأ مضمر أي : هو متاع الحياة الدنيا، وفي الحديث ( أسرع الخير ثوابا : صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا : البغي واليمين الفاجرة ).
xv ﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ﴾ ( الزمر : ٢١ ).
xvi ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ ( الحديد : ٢٠ ).
xvii محاضرات الموسم الثقافي لعام ٢٧١٩٧٣ إصدار حكومة أبو ظبي ( الإمارات العربية المتحدة( محاضرة الإنسان والكون للأستاذ الدكتور زغلول راغب النجار.
xviii إذا دخل أهل الجنة الجنة ؛ قال : يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا ؟
رواه مسلم في الإيمان ( ١٨١ ) والترمذي في صفة الجنة ( ٢٥٥٢ ) وفي التفسير ( ٣١٠٥ ) وابن ماجة في المقدمة ( ١٨٧ ) وأحمد في مسنده ( ١٨٤٥٧ ) من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال : يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟، فيقولون : ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ !، قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد وزاد ثم تلا هذه الآية ﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾.
xix تفسير المراغي ١١/١٠٩.
xx تفسير الآلوسي ١١/١٤٠.
xxi من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن :
قال السيوطي في الدر : وأخرج أبو القاسم بن بشران في أماليه : عن أنس رضي الله عنه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من هداه الله للإسلام، وعلمه القرآن، ثم شكا الفاقة ؛ كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ﴾. من عرض الدنيا من الأموال ).
xxii فإذا آتاك الله مالا ؛ فلير أثر نعمة الله عليك :
رواه أبو داود في اللباس ( ٤٠٦٣ ) والنسائي في الزينة ( ٥٢٢٤ ) وأحمد في مسنده ( ١٦٧٨٠ ) من حديث أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون فقال :( ألك مال ؟ ). قال : نعم، قال : من أي المال ؟ قال : قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال :( فإذا آتاك الله مالا ؛ فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته ). والحديث رواه الترمذي في الأدب( ٢٨١٩ ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ). وقال الترمذي : هذا حديث حسن. ورواه أحمد في مسنده ( ٨٠٤٥ ) من حديث أبي هريرة رفعه. قال :( إن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ). رواه أحمد في مسنده ( ١٩٤٣٢ ) من حديث رجاء العطاردي قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أنعم الله عز وجل عليه نعمة، فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه ) وقال روح ببغداد : يجب أن يرى أثر نعمته على عبده. قال الهيثمي في المجمع : وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من سحب ثيابه ؛ لم ينظر الله إليه ). فقال أبو ريحانه : والله لقد أمرضني ما حدثتنا به، فوالله إني لأحب الجمال حتى إني أجعله في شراك نعلى وعلاق سوطي، أفمن الكبر ذاك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس. وقال : رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عيسى دمشقي قال الذهبي : مجهول، وبقية رجاله رجال الصحيح.
xxiii إذا آتاك الله مالا ؛ فلير عليك :
ذكره السيوطي في الجامع الصغير ( ٣٣١ ) بلفظ : إذا آتاك الله مالا ؛ فلير عليك، فإن الله يحب أن أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس. ونسبه للبخاري في التاريخ، والطبراني في الكبير، والضياء عن زهير بن أبي علقمة، وصححه. قال المناوي في فيض القدير : قال الذهبي : أظنه مرسلا. وقال ابن الأثير : قال البخاري : زهير هذا لا صحبة له وذكره غيره في الصحابة. وقال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني وترجم لزهير ورجاله ثقات. وانظر ما قبله.
xxiv تفسير المراغي، للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ١١ /١٢٨.
xxv انظر تفسير هذه الآية، وآيات تتعلق بالموضوع في كتابي : تفسير الآيات الكونية د. عبد الله شحاتة.
xxvi وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه :
تقدم ص ( ١٩٩٦ ).
xxvii قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له :
رواه الترمذي في الرؤيا ( ٢٢٧٥ ) وابن ماجة في تعبير الرؤيا ( ٣٨٩٨ ) والدارمي في الرؤيا ( ٢٠٣٦ ) وأحمد في مسنده ( ٢٢٢٦١ ) من حديث عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾. قال : هي الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن أو ترى له. وقال الترمذي : هذا حديث حسن. ورواه مالك في الموطإ كتاب الجامع ( ١٧٨٥ ) من حديث هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول في هذه الآية :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾ قال : هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له. ورواه الترمذي في الرؤيا( ٢٢٧٣ ) وفي التفسير( ٣١٠٦ ) وأحمد في مسنده( ٢٦٩٦٤ ) من حديث رجل من أهل مصر قال : سألت أبا الدرداء عن قول الله تعالى :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾. فقال ما سألني عنها أحد غيرك إلا رجل واحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت ؛ هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
xxviii تفسير القاسمي نقلا عن كتاب :«الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان ».
xxix تفسير الآلوسي ١١/١٥٦ ومثله تفسير البيضاوي.
xxx صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته :
رواه البخاري في الصوم ( ١٩٠٩ ) ومسلم في الصيام ( ١٠٨١ ) والترمذي في الصيام ( ٦٨٤ ) والنسائي في الصيام ( ٢١١٧ ) والدارمي في الصوم ( ١٦٨٥ ) وأحمد في مسنده ( ٩٢٧١ ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم :( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمى عليكم ؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ). ورواه مسلم في الصيام ( ١٠٨٠ ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال :( الشهر هكذا وهكذا وه
Icon