تفسير سورة يونس

الطبري
تفسير سورة سورة يونس من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ
القول في تفسير السورة التي يذكر فيها يونس صلى الله عليه وسلم

سورة يونس
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الر﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم تأويله: أنا الله أرى.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥١٨- حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله: (الر)، أنا الله أرى. (١)
١٧٥١٩- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قوله: (الر)، قال: أنا الله أرى.
* * *
وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو "الرحمن".
*ذكر من قال ذلك:
١٧٥٢٠- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن
(١) الأثر: ١٧٥١٨ - " يحيى بن داود بن ميمون الواسطي "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٤٤٥١، ١١٥٤٥.
589
الحسين قال حدثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (الر) و (حم) و (نون) حروف "الرَّحمن" مقطعةً.
١٧٥٢١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال: ذكر سالم بن عبد الله: (الر) و (حم) و (نون)، فقال: اسم "الرحمن" مقطع = ثم قال: "الرحمن".
١٧٥٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: (الر) و (حم) و (نون)، هو اسم "الرحمن".
١٧٥٢٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر: أنه سئل عن: (الر) و (حم) و (ص)، قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٥٢٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الر)، اسم من أسماء القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف الناس، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول "سورة البقرة"، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا، قوله في (الم)، فأما
(١) انظر ما سلف ١: ٢٠٥ - ٢٢٤.
10
الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك، مكتفًي عن الإعادة ههنا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تلك آيات التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٢٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد: (تلك آيات الكتاب الحكيم)، قال: التوراة والإنجيل.
١٧٥٢٦-.... قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: (تلك آيات الكتاب)، قال: الكُتُب التي كانت قبل القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوّله: "هذه آيات القرآن"، ووجّه معنى (تلك) إلى معنى "هذه"، وقد بينا وجه توجيه (تلك) إلى هذا المعنى في "سورة البقرة"، بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
و (الآيات)، الأعلام= و (الكتاب)، اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة: " ومكتفيًا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٢٥ - ٢٢٨.
(٣) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أي).
وتفسير " الكتاب " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم).
11
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ، فيوجه إليه الخبر.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن، هذه آيات القرآن الحكيم.
* * *
ومعنى (الحكيم)، في هذا الموضع، "المحكم"، صرف "مُفْعَل" إلى "فعيل"، كما قيل: (عَذَابٌ أَلِيمٌ)، بمعنى مؤلم، (١) وكما قال الشاعر: (٢)
*أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* (٣)
وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. (٤)
فمعناه إذًا: تلك آيات الكتاب المحكم، الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: ١]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى
(١) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم).
(٢) هو عمرو بن معديكرب الزبيدي.
(٣) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ١: ٢٨٣.
(٤) انظر ما سلف ١: ٢٨٣، ٢٨٤، وغيره من المواضع في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها.
12
من قبله إلى مثله من البشر، فتعجَّبوا من وحينا إليه. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٢٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد! فأنزل الله تعالى: (أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا) [سورة يوسف: ١٠٩].
١٧٥٢٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) [سورة الأعراف: ٦٥]، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا)، [سورة الأعراف: ٧٣]، قال الله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ)، [سورة الأعراف: ٦٩].
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم: أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله: (أن لهم قدم صدق)، عطفٌ على (أنذر).
(١) انظر تفسير " الوحي " و " الإنذار " فيما سلف من فهارس اللغة (وحي)، (نذر).
13
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (قدم صدق)، فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٢٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (أن لهم قدم صدق عند ربهم)، قال: ثواب صِدق.
١٧٥٣٠-.... قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: (أن لهم قدم صدق عند ربهم)، قال: الأعمال الصالحة.
١٧٥٣١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم)، يقول: أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم.
١٧٥٣٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد: (أن لهم قدم صدق عند ربهم)، قال: صلاتهم وصومهم، وصدقتُهم، وتسبيحُهم. (١)
١٧٥٣٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قدم صدق)، قال: خير.
١٧٥٣٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قدم صدق)، مثله.
١٧٥٣٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج،
(١) الأثر: ١٧٥٣٢ - " زيد بن حباب التميمي "، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١١٤٩٠. وكان في المطبوعة: " يزيد بن حبان "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فتصرف أسوأ التصرف.
و" إبراهيم بن يزيد الخوزي "، ضعيف، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٧٣١٣.
و" الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، ثقة، مضى برقم: ١٦٢٥٩، ١٧٣١٣.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " الوليد بن عبد الله، عن أبي مغيث "، وهو خطأ محض.
14
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٧٥٣٦-.... قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: (قدم صدق)، ثواب صدق = (عند ربهم).
١٧٥٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
١٧٥٣٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق)، قال: "القدم الصدق"، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال.
* * *
وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٣٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح عن علي، عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم)، يقول: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قَدَمَ صدق.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة = أو الحسن =: (أن لهم قدم صدق عند ربهم)، قال: محمدٌ شفيعٌ لهم. (١)
١٧٥٤١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
(١) الأثر: ١٧٥٤٠ - " فضيل بن عمرو بن الجون "، لم أجد له ترجمة. ولا أدري أهو " فضيل بن عمرو الفقيمي "، أو غيره!.
15
قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم.
١٧٥٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: (أن لهم قدم صدق عند ربهم)، قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ.
* * *
وذلك أنه محكيٌّ عن العرب: "هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام" أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا، فكان لهم فيه تقديم. ويقال: "له عندي قدم صِدْق، وقدم سوء"، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت:
لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَحَلْفُنَا لأَوّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ (١)
وقول ذي الرمة:
لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا مَعَ الحَسَبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم.
* * *
(١) مضى البيت وتخريجه فيما سلف ١٣: ٢٠٩، وروايته هناك: " لنا القدم الأولى ".
(٢) ديوانه ٢٧٢، من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، يقول بعده:
خِلاَلَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى عِنْدَ رَبِّهِ وَعُثْمَانَ وَالفَارُوقِ بَعْدَ أَبِي بَكْرِ
ورواية ديوانه: " طمت على الفخر ".
16
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)، بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به= يعنون القرآن= لسحر مبين.
* * *
وقرأ ذلك مسروق، وسعيد بن جبير، وجماعة من قراء الكوفيين: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ).
* * *
وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك: أن كل موصوف بصفةٍ، يدل الموصوف على صفته، وصفته عليه. (١)
والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك، وذلك نظير هذا الحرف: (قال الكافرون إن هذا لسحر مبين)، و "لساحر مبين". (٢)
وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه "ساحر"، ووصفهم ما جاءهم به أنه "سحر" يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ، لاتفاق معنى القراءتين.
* * *
وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره، وهو: "فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي"= قال الكافرون: إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى
(١) في المطبوعة: " نزل الموصوف "، وفي المخطوطة: " ترك "، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف ١١: ٢١٦، ٢١٧.
17
رجل منهم: أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي: يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل. (٢) = (ما من شفيع إلا من بعد إذنه)، يقول: لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة (٣) " = (ذلكم الله ربكم)، يقول جل جلاله: هذا الذي هذه صفته، سيِّدكم ومولاكم، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان = (فاعبدوه)،
(١) انظر تفسير " السحر " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (سحر)، (بين).
(٢) انظر تفسير " الاستواء " فيما سلف ١: ٤٢٨ - ٤٣١ / ١٢: ٤٨٣ = وتفسير " العرش " فيما سلف ١٢: ٤٨٢ / ١٤: ٥٨٧.
(٣) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف ١٢: ٤٨١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإذن " فيما سلف ١٤: ١١٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
18
يقول: فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهية والربوبية، بالذلة منكم له، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة = (أفلا تذكرون)، يقول: أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج، (١) فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٤٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يدبر الأمر)، قال: يقضيه وحدَه.
١٧٥٤٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه)، قال: يقضيه وحده.
١٧٥٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يدبر الأمر) قال: يقضيه وحده.
١٧٥٤٦-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٥٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
(١) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف ١٢: ٤٩٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
19
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه، معادُكم، أيها الناس، يوم القيامة جميعًا. (١) (وعد الله حقا) = فأخرج (وعد الله) مصدَّرًا من قوله: (إليه مرجعكم)، لأنه فيه معنى "الوعد"، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا، فلذلك نصب (وعد الله حقا) = (إنه يبدأ لخلق ثم يعيده) يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده = (ثم يعيده)، يقول: ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه، بعد فنائه وبَلائِه. (٢) كما:-
١٧٥٤٨- حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده)، قال: يحييه ثم يميته= قال أبو جعفر: وأحسبه أنا قال: "ثم يحييه".
١٧٥٤٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده)، قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه.
١٧٥٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ١٢: ٢٨٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " البدء " و " العود " فيما سلف ١٢: ٣٨٢ - ٣٨٨.
20
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده)، : يحييه، ثم يميته، ثم يبدؤه، ثم يحييه.
١٧٥٥١-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
* * *
وقرأت قراء الأمصار ذلك: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ)، بكسر الألف من (إنه)، على الاستئناف.
* * *
وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه (أَنَّهُ) بفتح الألف من (أنه).
* * *
= كأنه أراد: حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ف "أنّ" حينئذ تكون رفعًا، كما قال الشاعر: (١)
أحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ زَائِرًا رُبَى جَنَّة إِلا عَلَيَّ رَقِيبُ (٢)
* * *
وقوله: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط)، يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره= (ليجزي الذين آمنوا) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال، واجتنبوا ما نهاهم عنه، على أعمالهم الحسنة (٣) = (بالقسط) يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب، والصالحَ من الجزاء في الآخرة= وذلك هو "القسط"، و"القسط" العدلُ والإنصاف، (٤) كما:-
١٧٥٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) لم أعرف قائله.
(٢) في المطبوعة: " أبا حبة إلا على رقيب "، وهو تحريف لما في المخطوطة، وهو فيها هكذا، غير منقوط: " رباحه "، وصواب قراءته ما أثبت.
(٣) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى).
(٤) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ١٢: ٣٧٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
21
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بالقسط)، بالعدل.
* * *
وقوله: (والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم)، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم، كفارهم ومؤمنيهم، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ، ابتدأ الخبر، والمعنيُّ العطف فقال: والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله= (لهم شراب) في جهنم (من حميم) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره، حتى إنه فيما ذكر عن النبي ﷺ ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)، [سورة الكهف: ٢٩].
* * *
وأصله: "مفعول" صرف إلى "فعيل"، وإنما هو "محموم": أي مسخّن، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم، (١)
ومنه قول المرقش:
وَكُلُّ يَوْمٍ لَهَا مِقْطَرَةٌ فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (٢)
يعني ب "الحميم"، الماء المسخَّن.
* * *
وقوله: (عذاب أليم)، يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع، (٣) سوى الشراب من الحميم، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله.
* * *
(١) انظر تفسير " حميم " فيما سلف ١١: ٤٤٨، ٤٤٩.
(٢) سلف البيت وتخريجه وشرحه ١١: ٤٤٨، وروايته هناك: " في كل ممسي ".
(٣) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
22
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض= (هو الذي جعل الشمس ضياء)، بالنهار= (والقمر نورًا) بالليل. ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر= (وقدّره منازل)، يقول: قضاه فسوّاه منازلَ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. (١)
* * *
وقال: (وقدّره منازل)، فوحّده، وقد ذكر "الشمس" و"القمر"، فإن في ذلك وجهين:
أحدهما: أن تكون "الهاء" في قوله: (وقدره) للقمر خاصة، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين، لا بالشمس.
والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، [سورة التوبة: ٦٢]، وكما قال الشاعر: (٢)
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيًّا، وَمِنْ جُولِ الطَّوِيِّ رَمَانِي (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " التقدير " فيما سلف ١١: ٥٦٠.
(٢) هو ابن أحمر، أو: الأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي.
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ٤٥٨، اللسان (جول)، وغيرهما. وكانت بينه وبين رجل حكومة في بئر، فقال خصمه: " إنه لص ابن لص "، فقال هذا الشعر، وبعده:
دَعَانِي لِصًّا فِي لُصُوصٍ، ومَا دَعَا بِهَا وَالِدِي فِيمَا مَضَى رَجُلاَن
ورواية البيت على الصواب: " ومن أجل الطوى "، و " الطوى ": البئر. و " الجول " و " الجال " ناحية من نواحي البئر إلى أعلاها من أسفلها.
وقوله: (لتعلموا عدد السنين والحساب)، يقول: وقدّر ذلك منازل = (لتعلموا)، أنتم أيها الناس = (عدد السنين)، دخول ما يدخل منها، أو انقضاءَ ما يستقبل منها، وحسابها= يقول: وحساب أوقات السنين، وعدد أيامها، وحساب ساعات أيامها= (ما خلق الله ذلك إلا بالحق)، يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي، بغير عون ولا شريك= (يفصل الآيات) يقول: يبين الحجج والأدلة (١) = (لقوم يعلمون)، إذا تدبروها، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، من خلع الأنداد، والبراءة من الأوثان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته، وأنه خالق كلِّ ما دونه: إن في اعتقاب الليل النهارَ، واعتقاب النهار الليلَ،. إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، (٢) وفيما خلق الله في السموات من الشمس والقمر والنجوم، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء= (لآيات)، يقول: لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً= (لقوم يتقون) الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم.
(١) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف: ١٤: ١٥٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير "الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي)
(٢) وتفسير " اختلاف الليل والنهار " فيما سلف ٣: ٢٧٢، ٢٧٣.
24
فإن قال قائل: أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السموات والأرض على صانعه، إلا لمن اتقى الله؟
قيل: في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
* * *
25
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضُون بها عوضًا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين (١) = والذين هم عن آيات الله = وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده، في إخلاص العبادة له = (غافلون)، معرضون عنها لاهون، (٢) لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون= (أولئك مأواهم النار)، يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم = (مأواهم)، مصيرها إلى النار نار
(١) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف ١٣: ٤١٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ١٣: ٢٨١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
25
جهنم في الآخرة (١) = (بما كانوا يكسبون)، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات. (٢)
* * *
والعرب تقول: "فلان لا يرجو فلانًا": إذا كان لا يخافه.
ومنه قول الله جل ثناؤه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا). [سورة نوح: ١٣]، (٣) ومنه قول أبي ذؤيب:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْج لَسْعَهَا وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوب عَوَاسِلِ (٤)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٥٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واطمأنوا بها)، قال: هو مثل قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا).
١٧٥٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)، قال: هو مثل قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) [سورة هود: ١٥].
١٧٥٥٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٧٥٥٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن
(١) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ١٤: ٤٢٥، تعليق: ٦، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب).
(٣) انظر تفسير "الرجاء" فيما سلف من فهارس اللغة (كسب).
(٤) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ٩: ١٧٤.
26
آياتنا غافلون)، قال: إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى.
١٧٥٥٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)، الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله= (وعملوا الصالحات)، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره (١) = (يهديهم ربهم بإيمانهم)، يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة، كما:-
١٧٥٥٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) بلغنا أن نبيَّ الله ﷺ قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول: أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة (٢)
(١) انظر تفسير " الصالحات " فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).
(٢) في المطبوعة: " وبشارة "، والصواب ما أثبته من المخطوطة.
27
فيقول: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول: أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار.
١٧٥٥٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يهديهم ربهم بإيمانهم)، قال: يكون لهم نورًا يمشون به.
١٧٥٦٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، مثله.
١٧٥٦١-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٥٦٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله= وقال ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم)، قال: يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: (يهديهم ربهم بإيمانهم). والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم، يهديهم ربهم لدينه. يقول: بتصديقهم هَدَاهم.
* ذكر من قال ذلك:
..................................
(١) في المطبوعة: " ويلاده"؛ بالدال، وأثبت في المخطوطة. " لازه يلازه ملازاة ولزازًا" قارنه ولزمه ولصق به
28
...................................................................... (١)
* * *
وقوله: (تجري من تحتهم الأنهار)، يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم، أنهار الجنة= (في جنات النعيم)، يقول في بساتين النعيم، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. (٢)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (تجري من تحتهم الأنهار)، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [سورة مريم: ٢٤]. ومعلوم أنه لم يجعل "السري" تحتها وهي عليه قاعدة= إذ كان "السري" هو الجدول= وإنما عني به: جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون، (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، [سورة الزخرف: ٥١]، بمعنى: من دوني، بين يديّ.
* * *
(١) لم يذكر شيئًا بعد قوله: " ذكر من قال ذلك "، وفي هامش المخطوطة " كذا "، وهو دليل على أنه سقط قديم.
(٢) انظر تفسير " جنات النعيم " فيما سلف ١٠: ٤٦١، ٤٦٢.
29
وأما قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم)، فإن معناه: دعاؤهم فيها: سبحانك اللهم، (١) كما:-
١٧٥٦٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم)، قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه (٢)
قالوا: سبحانك اللهم! وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: (وتحيتهم فيها سلام). قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم، فذلك قوله: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
١٧٥٦٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم)، يقول: ذلك قولهم فيها= (وتحيتهم فيها سلام).
١٧٥٦٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت سفيانا يقول: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام)، قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: "اللهم"، فيأتيهم ما دَعَوا به.
* * *
وأما قوله: (سبحانك اللهم)، فإن معناه: تنزيها لك، يا رب، مما أضاف إليك أهل الشرك بك، من الكذب عليك والفِرْية. (٣)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٦٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي.
(١) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف ١٢: ٣٠٣، ٣٠٤.
(٢) في المطبوعة: " فيشتهونه " بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ١٤، ٢١٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
30
عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم: "سبحان الله" تنزيهٌ لله.
١٧٥٦٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله ﷺ عن "سبحان الله"، قال: إبراء الله عن السوء.
١٧٥٦٨- حدثنا أبو كريب، وأبو السائب، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن "سبحان الله"، قال: كلمة رضيها الله لنفسه.
١٧٥٦٩- حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة قال: سُئل رسول الله ﷺ عن "سبحان الله"، فقال: تنزيهًا لله عن السوء. (١)
١٧٥٧٠- حدثني علي بن عيسى البزار قال، حدثنا عبيد الله بن محمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال، حدثني حفص بن سليمان قال، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله ﷺ عن تفسير "سبحان الله"، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء. (٢)
(١) الأثر: ١٧٥٦٧، ١٧٥٦٩ - " سفيان " بن سعيد، هو الثوري الإمام المشهور.
و" عثمان بن عبد الله بن وهب التيمي "، مولى آل طلحة ينسب إلى جده يقال: " عثمان بن وهب " تابعي ثقة، روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأم سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ١٥٥.
و" موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، تابعي ثقة، روى عن أبيه وغيره من الصحابة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٢٨٦، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ١٤٧.
وهو خبر مرسل، وسيأتي موصولا في الذي يليه، ولكنها أخبار لا يقوم إسنادها.
(٢) الأثر: ١٧٥٧٠ - " علي بن عيسى البزار "، شيخ الطبري، هو " علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي، ثقة، مضى برقم: ٢١٦٨.
و" عبيد الله بن محمد بن حفص التميمي، العيشي "، من ولد عائشة بنت طلحة، ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٣٣٥.
و" عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله "، منكر الحديث، لا يحتج به.
مترجم في لسان الميزان ٣: ٤١٢، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٢٦، ومي زان الاعتدال ٢: ١٠٢.
و" حفص بن سليمان الأسدي البزار "، ضعيف الحديث، مضى برقم: ٥٧٥٣، ١١٤٥٨.
و" طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، وثقه ابن معين وغيره، وقال البخاري: " منكر الحديث "، وقال في كتاب الضعفاء الصغير ص: ٤٦: " وليس بالقوي "، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٧٧.
وأبوه: " يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٢٨٣، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٦٠.
وهذا خبر هالك الإسناد، كما رأيت.
31
١٧٥٧١- حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال، حدثنا سليمان بن أيوب قال: حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، قول "سبحان الله"؟ قال: تنزيه الله عن السوء. (١)
* * *
= (وتحيتهم)، يقول: وتحية بعضهم بعضًا= (فيها سلام)، أي: سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. (٢)
* * *
والعرب تسمي الملك "التحية"، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي (٣)
(١) الأثر: ١٧٥٧١ - " محمد بن عمرو بن تمام الكلبي، المصري "، أبو الكروس، شيخ الطبري، مترجم في ابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٣٤.
و" سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة " روى نسخة عن أبيه عن آبائه عامة، أحاديثه لا يتابع عليها، وروى أحاديث مناكير. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم من التهذيب وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ١٠١.
وهذا خبر ضعيف الإسناد أيضًا.
(٢) انظر تفسير " التحية " فيما سلف ٨: ٥٨٦ - ٥٩٠.
(٣) من قصيدة طويلة له، رواها أبو علي القالي في أماليه ٣: ١٤٧ - ١٥٠، واللسان (حيا)، مع اختلاف في الرواية.
32
ومنه قول زهير بن جناب الكلبي:
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى قَدْ نِلْتُهُ إلا التَّحِيَّهْ
* * *
وقوله: (وآخر دعواهم)، يقول: وآخر دعائهم (١) = (أن الحمد لله رب العالمين)، يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين"، ولذلك خففت "أن" ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال= (استعجالهم بالخير)، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به= (لقضي إليهم أجلهم)، يقول: لهلكوا، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل. (٢)
* * *
وعني بقوله: (لقضي)، لفرغ إليهم من أجلهم، (٣) ونُبذ إليهم، (٤) كما قال أبو ذؤيب:
(١) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف ص: ٣٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف ١٣: ٢٩٠، تعليق: ٦، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " قضى " فيما سلف ١٣: ٢٩٠، تعليق: ٦، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: " وتبدى لهم "، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته.
33
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ، أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ (١)
* * *
= (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا)، يقول:
فندع الذين لا يخافون عقابنا، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، (٢) = (في طغيانهم)، يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، (٣) (يعمهون) يعني: يترددون. (٤)
وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٧٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)، قال: قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله: "لا باركَ الله فيه ولعنه"!
١٧٥٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)، قال: قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه"!
(١) سلف البيت وتخريجه وشرحه ٢: ٥٤٢.
(٢) انظر تفسير " يذر " فيما سلف من فهارس اللغة (وذر).
= وتفسير " الرجاء " فيما سلف ص: ٢٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف ١٣: ٢٩١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " العمه " فيما سلف ١٣: ٢٩١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
34
فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
١٧٥٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)، قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه" = (لقضي إليهم أجلهم) قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته.
١٧٥٧٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)، قال: قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله: "اللهم لا تبارك فيه والعنه"! قال الله: (لقضي إليهم أجلهم)، قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال: (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا)، قال يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون.
١٧٥٧٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
١٧٥٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لقضي إليهم أجلهم)، قال: لأهلكناهم. وقرأ: (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)، [سورة فاطر: ٤٥]. قال: يهلكهم كلهم.
* * *
ونصب قوله: (استعجالهم)، بوقوع (يعجل) عليه، كقول القائل: "قمت اليوم قيامَك" بمعنى: قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من (يعجل)، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول "الكاف" = أعني كاف التشبيه = فيه. (١)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٥٨.
35
واختلفت القراء في قراءة قوله: (لقضي إليهم أجلهم).
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)، على وجه ما لم يسمَّ فاعله، بضم القاف من "قضي"، ورفع "الأجل".
* * *
وقرأ عامة أهل الشأم: (لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ)، بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد (١) = (دعانا لجنبه)، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه = (لجنبه)، يعني مضطجعًا لجنبه. = (أو قاعدًا أو قائمًا) بالحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به = (فلما كشفنا عنه ضره)، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه (٢) = (مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، (٣) ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي
(١) انظر تفسير " المس " فيما سلف ١٤: ٦٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك. = وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة (ضرر).
(٢) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف ١١: ٣٥٤ / ١٣: ٧٣.
(٣) انظر تفسير " مر " فيما سلف ١٣: ٣٠٤، ٣٠٥.
فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: (كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون)، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه، (١) استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، (٢) ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٧٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (دعانا لجنبه)، قال: مضطجعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم (٣) = (لما ظلموا)، يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه (٤) = (وجاءتهم رسلهم) من عند الله، (بالبينات)، وهي الآيات والحجج
(١) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف ١٤: ٢٤٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف ١٢: ٤٥٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " القرون " فيما سلف ١١: ٢٦٣.
(٤) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم).
التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. (١)
ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق = (وما كانوا ليؤمنوا) يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له = (وكذلك نجزي المجرمين)، يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم، أيها المشركون، بظلمهم أنفسَهم، وتكذيبهم رسلهم، وردِّهم نصيحتَهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا، وأوردُه النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) ﴾
قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم (٢) (لننظر كيف تعملون)، يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل، كما:-
١٧٥٧٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
(١) انظر تفسير " البينات " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٢) انظر تفسير " الخلائف " فيما سلف ١٣: ١٢٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
38
عن قتادة قوله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربُّنا، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار، والسر والعلانية.
١٧٥٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم، (١)
ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر، ثم ذُرِع الناس حول المنبر، (٢)
ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال: يا عوف، رؤياك! قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنتهرني! قال: ويحك! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله ﷺ نفسه! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ: " ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع"، قال: أمّا إحداهن، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة، فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)، فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل.
وأما قوله: "فإني لا أخاف في الله لومة لائم" فما شاء الله.
وأما قوله: "فإني شهيد" فأنَّى لعمر الشهادة، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال: إن الله على ما يشاء قدير. (٣)
* * *
(١) " انتشط " (بالبناء للمجهول)، أي: انتزع، جذب إلى السماء ورفع إليها، من قولهم: " نشط الدلو من البئر "، إذا نزعها وجذبها من البئر صعدا بغير بكرة.
(٢) "ذرع الناس"، أي: قدر ما بينهم وبين المنبر بالذراع. يقال: "ذرع الثوب "، إذا قدره بالذراع.
(٣) الأثر: ١٧٥٨٠ - " زيد بن عوف القطعي "، " أبو ربيعة "، " فهد "، متروك، وقد مضى برقم: ٥٦٢٣، ١٤٢١٥، ١٤٢١٨، ١٤٢٢١. وكان في المطبوعة هنا: " يزيد بن عوف، أبو ربيعة، بهذا "، ومثله في تفسير ابن كثير ٤: ٢٨٧، وهو اتفاق غريب على الخطأ!.
وهذا الخبر، رواه ابن سعد بغير هذا اللفظ، بإسناد حسن في كتاب الطبقات الكبير ٣ / ١ / ٢٣٩.
39
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلنَاه إليك، يا محمد (١) = (بينات)، واضحات، على الحق دالاتٍ (٢) = (قال الذين لا يرجون لقاءنا)، يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا، ولا يوقنون بالمعاد إلينا، ولا يصدّقون بالبعث، (٣) لك = (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله)، يقول: أو غيِّره (٤) = (قل) لهم، يا محمد = (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي)، أي: من عندي. (٥)
* * *
والتبديل الذي سألوه، فيما ذكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا، فأمر الله نبيَّه ﷺ أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع.
* * *
وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ)، يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم
(١) انظر تفسير " تلا " فيما سلف ١٣: ٥٠٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " بينات " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٣) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف ص: ٣٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " التبديل " فيما سلف ١١: ٣٣٥ / ١٢: ٦٢، وفهارس اللغة (بدل).
(٥) انظر تفسير " تلقاء " فيما سلف ١٢: ٤٦٦.
به أيها القوم، وأنهاكم عنه، إلا ما ينزله إليّ ربي، ويأمرني به (١) = (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)، يقول: إني أخشى من الله إن خالفت أمره، وغيَّرت أحكام كتابه، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه، وذلك: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه، معرِّفَه الحجةَ على هؤلاء المشركين الذين قالوا له: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) = (قل) لهم، يا محمد = (لو شاء الله ما تلوته عليكم)، أي: ما تلوت هذا القرآن عليكم، أيها الناس، بأن كان لا ينزله عليَّ فيأمرني بتلاوته عليكم (٣) = (ولا أدراكم به)، يقول: ولا أعلمكم به= (فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله) يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوَه عليكم، ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي = (أفلا تعقلون)، أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيّام شبابي وحَداثتي، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم، لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم، مندوحةٌ عن معاداتكم، ومتّسَعٌ، في الحال التي كنت بها
(١) انظر تفسير " الوحي " فيما سلف من فهارس اللغة (وحي).
(٢) هذا تضمين لآية سورة الحج: ٢.
(٣) انظر تفسير " تلا " فيما سلف ص: ٤٠، رقم: ١.
41
منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا أدراكم به)، ولا أعلمكم.
١٧٥٨٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به)، يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه.
١٧٥٨٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به)، يقول: ما حذَّرتكم به.
١٧٥٨٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله)، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون)، لبث أربعين سنة.
١٧٥٨٥- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به)، ولا أعلمكم به.
١٧٥٨٦- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، أنه كان يقرأ: (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ)، يقول: ما أعلمتكم به. (١)
١٧٥٨٧- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول،
(١) في المخطوطة: " ولا أدرأكم "، وفي المطبوعة: " ولا أدراتكم "، بغير همز، والصواب ما أثبت، كما نص عليه ابن خالويه في شواذ القراءات ص: ٥٦: " بالهز والتاء "، ومعاني القرآن للفراء.
42
أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ولا أدراكم به)، يقول: ولا أشعركم الله به.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن، عند أهل العربية غلطٌ.
* * *
وكان الفرّاء يقول في ذلك: قد ذكر عن الحسن أنه قال: (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ). قال: فإن يكن فيها لغة سوى "دريت" و "أدريت"، فلعل الحسن ذهب إليها. وأما أن تصلح من "دريت" أو "أدريت" فلا لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف، مثل "قضيت" و"دعوت". ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع "درأت الحد"، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول: "رثَأْتُ زوجي بأبيات"، ويقولون: " لبّأتُ بالحجّ" و"حلأت السويق"، فيغلطون، لأن "حلأت"، قد يقال في دفع العطاش، من الإبل، و"لبأت": ذهبت به إلى "اللبأ" لِبَأ الشاء، و "رثأت زوجي"، ذهبت به إلى "رثأت اللبن "، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب، فتلك "الرثيثة". (١)
* * *
وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من "أدريت" مثل "أعطيت"، إلا أن لغةً لبني عقيل (٢)
: "أعطَأتُ"، يريدون: "أعطيت"، تحوّل الياء ألفًا، قال الشاعر: (٣)
(١) هذا نص الفراء بتمامه في معاني القرآن ١: ٤٥٩، مع خلاف يسير في حروف قليلة.
(٢) في المطبوعة: " لغة بني عقيل "، والصواب ما في المخطوطة، باللام.
(٣) هو حريث بن عناب (بالنون) الطائي.
43
لَقَدْ آذَنَتْ أَهْلُ الْيَمَاَمَةِ طَيِّئٌ بِحَرْبٍ كَنَاصَاةِ الأَغَرِّ المُشَهَّرِ (١)
يريد: كناصية، حكي ذلك عن المفضّل، وقال زيد الخيل:
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا (٢)
فقال "بقا"، وقال الشاعر: (٣)
لَزَجَرْتُ قَلْبًا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ إِنَّ الغَوِيَّ إِذَا نُهَا لَمْ يَعْتِبِ (٤)
يريد "نُهِي". قال: وهذا كله على قراءة الحسن، وهي مرغوب عنها، قال: وطيئ تصيِّر كل ياء انكسر ما قبلها ألفًا، يقولون: "هذه جاراة"، (٥)
وفي "الترقوة" "ترقاة" و"العَرْقوة" "عرقاة". قال: وقال بعض طيئ: "قد لَقَت فزارة"، حذف الياء من "لقيت" لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفًا، لسكون التاء، فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن "نَسَا" و"رضا" لغة معروفة، قال الشاعر:
(١) نوادر أبي زيد: ١٢٤، والمعاني الكبير: ١٠٤٨، واللسان (نصا).
(٢) نوادر أبي زيد:
٦٨، وقبله أُنْبِئْتُ أَنَّ ابْنًا لِتَيْمَاءَ هَهَنَا تَغَنَّى بِنَا سَكْرَانَ أَوْ مُتَسَاكِرًا
يَحُضُّ عَلَيْنَا عَامِرًا، وِإَخالُنَا سَنُصْبِحُ أَلْفًا ذَا زَوَائِدَ، عامِرًا
قال أو زيد: " يقول: لا أخشى ما بقي قيس يسوق إبلا، لأني أغير عليهم ".
(٣) هو لبيد.
(٤) ديوانه قصيدة رقم: ٦١، والأغاني ١٥: ١٣٤ (ساسي)، من مرثية أخيه أربد، وقبله:
طَرِبَ الفُؤَادُ وَلَيْتَهُ لَمْ يُطْرَبِ وَعَنَاهُ ذِكْرَى خُلَّةٍ لم تَصْقَبِ
سَفَهًا، وَلَوْ أنّي أطَعتُ عَوَاذِلِي فيما يُشِرْنَ بِهِ بِسَفْحِ المِذْنِبِ
لَزَجَرْتُ قَلْبًا.... ...................
والذي أثبته هو نص المخطوطة، أما المطبوعة، فإنه لم يحسن معرفة الشعر، فكتبه هكذا: " زجرت له: و " أعتب "، آب إلى رضى من يعاتبه.
(٥) يعني في " جارية ".
44
(١)
وَأُبْنِيْتُ بِالأَعْرَاض ذَا الْبَطْنِ خالِدًا نَسَا أوْ تَنَاسَى أَنْ يَعُدَّ المَوَالِيَا
* * *
ورُوي عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضًا روايةٌ أخرى، وهي ما:-
١٧٥٨٨- حدثنا به المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد بن حنظلة عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ).
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيزُ أن نعدوها، (٢) هي القراءة التي عليها قراء الأمصار: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ)، بمعنى: ولا أعلمكم به، ولا أشعركم به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربّك إلى الكذب: أيُّ خلق أشدُّ تعدّيًا، (٣) وأوضع لقيله في غير موضعه، (٤) ممن اختلق على الله كذبًا، وافترى عليه باطلا = (٥) (أو كذب بآياته) يعني بحججه ورسله وآيات كتابه؟ (٦) يقول له
(١) لم أعرف قائله، ولم أجد البيت في مكان آخر.
(٢) في المطبوعة: " لا أستجيز أن تعدوها "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: " أي خلق أشر بعدنا "، وهو كلام ساقط جدًا، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقولة.
(٤) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم).
(٥) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف ١٣: ١٣٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٦) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى).
جل ثناؤه: قل لهم: ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم، وافترائكم عليه، وتكذيبكم بآياته = (إنه لا يفلح المجرمون)، يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة، إذا لقوا ربّهم، ولا ينالون الفلاح. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك، يا محمد صفتهم، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها = (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله (٢) قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: (قل) لهم (أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض)، يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض؟ (٣) وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطلٌ
(١) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ١٤: ٤١٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم).
(٢) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف ص: ١٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ).
لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد، ولا تنفع ولا تضر = (سبحان الله عما يشركون)، يقول: تنزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون، (١) من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة فاختلفوا في دينهم، فافترقت بهم السبل في ذلك = (ولولا كلمة سبقت من ربك)، يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم = "لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" يقول: لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق. (٢)
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في "سورة البقرة"، وذلك في قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ)، [سورة البقرة: ٢١٣]، وبينا الصواب من القول فيه بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
١٧٥٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص، ٣٠، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
= وتفسير " تعالى " فيما سلف ١٣: ٣١٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى).
(٣) انظر ما سلف ٤: ٢٧٥ - ٢٨٠.
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)، حين قتل أحدُ ابني آدم أخاه.
١٧٥٩٠- حدثني المثنى قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٧٥٩١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنزل على محمد آيةٌ من ربه (١) = يقول: عَلَمٌ ودليلٌ نعلم به أن محمدًا محق فيما يقول؟ (٢) قال الله له: (فقل) يا محمد (إنما الغيب لله)، أي: لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب =وهو السرُّ والخفيّ من الأمور (٣) = إلا الله، فانتظروا أيها القوم، قضاءَ الله بيننا، بتعجيل عقوبته للمبطل منا، وإظهاره المحقَّ عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف.
* * *
(١) انظر تفسير " لولا " فيما سلف من فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها.
(٢) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى).
(٣) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب، ورخاء بعد شدّة أصابتهم.
وقيل: عنى به المطر بعد القحط، و"الضراء": وهي الشدة، و"الرحمة": هي الفرج. يقول: (إذا لهم مكر في آياتنا)، استهزاء وتكذيبٌ، (١) كما:-
١٧٥٩٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذا لهم مكر في آياتنا) قال: استهزاء وتكذيب.
١٧٥٩٣-... قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٥٩٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (قل الله أسرع مكرًا) يقول تعالى ذكره:: (قل) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا، يا محمد = (الله أسرع مكرًا)، أي: أسرع مِحَالا بكم، (٢) واستدراجًا لكم وعقوبةً، منكم، من المكر في آيات الله.
* * *
(١) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ١٤: ٢٣٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " الضراء " فيما سلف ١٢: ٥٧٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير " المس " فيما سلف ص: ٣٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " المكر " فيما سلف ١٣: ٥٠٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) " المحال " (بكسر الميم) : الكيد والمكر.
والعرب تكتفي ب "إذا" من "فعلت" و "فعلوا"، فلذلك حُذِف الفعل معها. (١) وإنما معنى الكلام: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم)، مكروا في آياتنا فاكتفى من "مكروا"، ب "إذا لهم مكر".
* * *
= (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون)، يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم، أيها الناس، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم، أيها الناس، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك = (حتى إذا كنتم في الفلك)، وهي السفن (٢) = (وجرين بهم) يعني: وجرت الفلك بالناس = (بريح طيبة)، في البحر= (وفرحوا بها)، يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها.
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٥٩، ٤٦٠.
(٢) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف ١٢: ٥٠٢.
50
و"الهاء" في قوله: "بها" عائدة على "الريح الطيبة".
* * *
= (جاءتها ريح عاصف)، يقول: جاءت الفلك ريحٌ عاصف، وهي الشديدة.
* * *
والعرب تقول: " ريح عاصف، وعاصفة"، و "وقد أعصفت الريح، وعَصَفت " و"أعصفت"، في بني أسد، فيما ذكر، قال بعض بني دُبَيْر: (١)
حَتَّى إِذَا أَعْصَفَتْ رِيحٌ مُزَعْزِعَةٌ فِيهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجِلُ (٢)
* * *
= (وجاءهم الموج من كل مكان) يقول تعالى ذكره: وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان = (وظنوا أنهم أحيط بهم)، يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق (٣) = (دعوا الله مخلصين له الدين)، يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما:-
١٧٥٩٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (دعوا الله مخلصين له الدين)، قال: إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء.
١٧٥٩٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله: (مخلصين له الدين)، = "هيا شرا هيا" (٤) تفسيره: يا حي يا قوم.
١٧٥٩٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
(١) لم أعرف قائله. و " بنو دبير " من بني أسد.
(٢) معاني القرآن للفراء ١: ٤٦٠ " مزعزعة "، شديدة الهبوب، تحرك الشجر توشك أن تقتلعه.
و" قطار " جمع " قطر "، وهو المطر. و " رعد زجل " رفيع الصوت متردده عاليه.
(٣) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف ١٤: ٢٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) هكذا جاءت الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي، وهي أعجمية بلا ريب.
51
قوله: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون.
* * *
= (لئن أنجيتنا) من هذه الشدة التي نحن فيها = (لنكونن من الشاكرين)، لك على نعمك، وتخليصك إيانا مما نحن فيه، بإخلاصنا العبادة لك، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هو الذي يسيركم) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) من "السير" بالسين.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: (هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ)، من "النشر"، وذلك البسط، من قول القائل: "نشرت الثوب"، وذلك بسطه ونشره من طيّه.
* * *
فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا = وهو قريب المعنى من "التسيير".
* * *
وقال: (وجرين بهم بريح طيبة)، وقال في موضع آخر: (في الفلك المشحون)، فوحد [سورة يس: ٤١].
* * *
والفلك: اسم للواحدة، والجماع، ويذكر ويؤنث. (١)
* * *
قال: (وجرين بهم)، وقد قال (هو الذي يسيركم) فخاطب، ثم عاد
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٦٠.
52
إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وجواب قوله: (حتى إذا كنتم في الفلك) = (وجاءتها ريح عاصف).
* * *
وأما جواب قوله: (وظنوا أنهم أحيط بهم) ف (دعوا الله مخلصين له الدين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه، من الكفر به، والعمل بمعاصيه على ظهرها. (٢)
يقول الله: يا أيها الناس، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه = (متاع الحياة الدنيا)، يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. (٣)
* * *
وعلى هذا التأويل، "البغي" يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله: (على
(١) انظر ما سلف ١: ١٥٤، ١٩٦ / ٣: ٣٠٤، ٣٠٥ / ٦: ٢٣٨، ٤٦٤ / ٨: ٤٤٧ / ١١: ٢٦٤، ومواضع أخر، اطلبها في فهارس النحو والعربية وغيرهما.
(٢) انظر تفسير " البغي " فيما سلف ١٢: ٤٠٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف ١٤: ٣٤٠، تعليق ٣، والمراجع هناك.
53
أنفسكم) (١) ويكون قوله (متاع الحياة الدنيا)، مرفوعًا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ)، [سورة الأحقاف: ٣٥]، بمعنى: هذا بلاغ.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا، فيكون "البغي" مرفوعًا ب "المتاع"، و "على أنفسكم" من صلة "البغي".
* * *
وبرفع "المتاع" قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق، فإنه نصبه، بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا، فجعل "البغي" مرفوعًا بقوله: (على أنفسكم)، و"المتاع" منصوبًا على الحال. (٢)
* * *
وقوله: (ثم إلينا مرجعكم) يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات (٣) = يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. (٤)
* * *
(١) قراءتنا في مصحفنا اليوم، في مصر وغيرها، بنصب " متاع "، وهي القراءة الأخرى التي سيذكرها أبو جعفر، ولكنه جرى فيما سلف على تفسير قراءة الرفع.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٦١، في تأويل القراءتين.
(٣) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: ٢٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: ٤٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
54
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، = كمثل ماءٍ أنزلناه من السماء، يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض = (فاختلط به نبات الأرض)، يقول: فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات، مختلطٌ بعضها ببعض، كما:-
١٧٥٩٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض)، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. (١)
* * *
وقوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) يعني: ظهر حسنها وبهاؤها (٢) = (وازينت)، يقول: وتزينت (٣) = (وظن أهلها)، يعني: أهل الأرض
(١) انظر تفسير " الأنعام " فيما سلف ١٣: ٢٨٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الزخرف " فيما سلف ١٢: ٥٥، ٥٦.
(٣) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص: ٣٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
55
= (أنهم قادرون عليها)، يعني: على ما أنبتت.
* * *
وخرج الخبر عن "الأرض" والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به.
* * *
وقوله: (أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا)، يقول: جاء الأرض= "أمرنا"، يعني: قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات = إما ليلا وإما نهارًا = (فجعلناها)، يقول: فجعلنا ما عليها = (حصيدًا) يعني: مقطوعة مقلوعة من أصولها. (١)
* * *
= وإنما هي "محصودة" صرفت إلى "حصيد".
* * *
= (كأن لم تغن بالأمس)، يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس.
* * *
وأصله: من "غَنِيَ فلان بمكان كذا، يَغْنَى به"، إذا أقام به، (٢) كما قال النابغة الذبياني:
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لَكَ جِيرَةٌ مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالَةٍ وَتَوَدُّد (٣)
* * *
يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها.
يقول الله جل ثناؤها: (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)، يقول: كما
(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٧٧.
(٢) انظر تفسير " غني بالمكان " فيما سلف ١٢: ٥٦٩، ٥٧٠.
(٣) ديوانه: ٦٥، وسيأتي في التفسير ١٢: ٦٦ (بولاق)، وغيرهما، من قصيدته المشهورة التي وصف فيها المتجردة، وقبله:
فِي إثْرِ غانيةٍ رَمَتْكَ بِسَهْمِاَ فأَصَابَ قَلْبَكَ غَيْرَ أَنْ لَمْ تَقْصِدِ
وكان في المطبوعة: " إذ هم لي جيرة "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ديوانه.
56
بينَّا لكم أيها الناس، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. (١)
وخصَّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٩٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها)، الآية،: أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه.
١٧٦٠٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وازينت)، قال: أنبتت وحسُنَت.
١٧٦٠١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَّنَ أَهْلُهَا أَنَّهمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا)، قال: قد قرأتها، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. (٢)
(١) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص: ٢٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) الأثر: ١٧٦٠١ - " الحارث "، هو: " الحارث بن أبي أسامة "، ثقة، مضى مرارًا.
و" عبد العزيز "، هو: " عبد العزيز " بن أبان الأموي، كذاب خبيث، وضاع للأحاديث، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٤٣٣٣.
وأما " عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام "، فلم أجحد له ذكرا في التوراة.
وأبوه " أبو بكر بن عبد الرحمن "، " راهب قريش "، ثقة، عالم، عاقل، سخي، كثير الحديث، أحد فقهاء المدينة السبعة. ترجم له ابن حجر في التهذيب، وابن سعد في الطبقات ٥: ١٥٣ والزبيري في نسب قريش: ٣٠٣، ٣٠٤. وذكر ابن سعد ولده فقال: " فولد أبو بكر: عبد الرحمن لا بقية له = وعبد الله، وعبد الملك، وهشاما... ". ولم يذكر ذلك الزبيري في نسب قريش، ولكنه ذكر قصة قال في أولها " فقال لابنه عبد الله اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن... " ثم قال في نفس القصة بعد قليل: " فذهب عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن ": " وسماه ابن سعد لما عد أولاد، أبي بكر بن عبد الرحمن: عبد الرحمن "، ولكن نص ابن سعد مخالف لما قال الحافظ ابن حجر فهما عنده رجلان بلا شك في ذلك. ولم أجد ما أستقصي من الأخبار حتى أفضل في هذا الاختلاف. و " عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن "، ليس بثقة. و " مروان "، هو: " مروان بن الحكم ". وهذا الخبر كما ترى، هالك الإسناد من نواحيه. والقراءة التي فيه إذا صحت من غير هذا الطريق الهالك، فهي قراءة تفسير، كما هو معروف، وكما أشرنا إليه مرارًا في أشباهها. ولا يجل لقارئ أنة يقرأ بمثلها على أنها نص التلاوة، لشذوذها، ولمخالفتها رسم المصحف بالزيادة، بغير حجة يجب التسليم لها.
57
١٧٦٠٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كأن لم تغن بالأمس)، يقول: كأن لم تعشْ، كأن لم تَنْعَم.
١٧٦٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: في قراءة أبيّ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (وازينت).
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (وَازَّيَّنَتْ) بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذ كانت التاء قد سكنت، والساكن لا يُبْتَدأ به.
* * *
وحكي عن أبي العالية، وأبي رجاء، والأعرج، وجماعة أخر غيرهم، أنهم قرءوا ذلك: (وَأَزْيَنَتْ) على مثال "أفعلت".
* * *
(١) الأثر: ١٧٦٠٣ - " أبو أسامة "، هو " حماد بن أسامة بن يزيد القرشي "، ثقة، روى له الجماعة مضى مرارًا.
" وإسماعيل "، هو " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. وأما " أبو سلمة بن عبد الرحمن "، فلم يسمع من أبي بن كعب. فهو إسناد مرسل.
58
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك: (وَازَّيَّنَتْ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، (١) كما:-
١٧٦٠٤- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: "الله"، السلام، ودارُه الجنة.
١٧٦٠٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
(١) انظر تفسير " الهداية " و " الصراط المستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى)، (سرط)، (قوم).
59
معمر، عن قتادة في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام)، قال: "الله" هو السلام، ودارُه الجنة.
١٧٦٠٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي ﷺ قال، قيل لي: "لتنم عينُك، وليعقِل قلبك، ولتسمع أُذُنك" فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: " سيّدٌ بنى دارًا، ثم صنع مأدُبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرضَ عنه السيد"، فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم". (١)
١٧٦٠٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا:" يا باغي الخير هلمّ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ".
١٧٦٠٨- حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال، حدثني خُلَيد العَصَريّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين (٢)
(١) الأثر: ١٧٦٠٦ - " أبو قلابة "، هو: " عبد الله بن زيد الجرمي "، أحد أعلام التابعين، مضى مرارًا. فهذا خبر " مرسل "، وسيأتي نحوه متصلا في تخريج الأثر رقم: ١٧٦٠٩.
(٢) " الجنبة " (بفتح الجيم والنون، وبفتحها وإسكان النون) الناحية، ورواة الحديث يروون " الجنبة " فتحتين، وأهل اللغة يؤثرون سكون النون. ويستدلون على ذلك بقول أبي صعترة البولاني:
فما نُطْفَةٌ مِنْ حَبِّ مُزْنٍ تَقَاذَفَتْ به جَنْبَتَا الجُودِيِّ والليلُ دَامِسُ
بِأَطْيَبِ مَنْ فِيهَا، وَمَا ذُقْتُ طَعْمَهُ، وَلكِنَّنِي فِيما تَرَى العَيْنُ فَارِسُ
والذي رواه أهل الحديث جيد صحيح.
60
: "يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى". قال: وأنزل ذلك في القرآن في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). (١)
١٧٦٠٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله ﷺ يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك، كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه.
(١) الأثر: ١٧٦٠٨ - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي الطحان "، شيخ الطبري، ثقة. روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، مترجم في التهذيب، وأبي ابن حاتم ١ / ٢ / ٥٤. و " عبد الملك بن عمرو "، هو " أبو عامر العقدي "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٢٧٩٥. و" عباد بن راشد التميمي "، ثقة وليس بالقوي، روى له البخاري مقرونا بغيره، مضى برقم: ١١٠٦٠، ١٢٥٢٧. و" خليد بن عبد الله العصري "، روى عن أبي الدرداء، وقال ابن حبان في الثقات، وذكره: يقال إن هذا مولى لأبي الدرداء. وفرق البخاري في الكبير بين " خليد مولى أبي الدرداء "، و " خليد بن عبد الله العصري "، وكذلك ابن أبي حاتم. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ١ / ١٨١، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٣٨٣. وهذا خبر صحيح الإسناد، ورواه أحمد في مسنده مطولا ٥: ١٩٧، من طريق همام، عن قتادة، عن خليد العصري. وزيادته: " وَلَا آبَت شمس قَطُّ إلا بعث بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَان يُناديان، يُسْمِعان أهل الأرض إلا الثَّقلين: اللهمّ أعطِ مُنْفقًا خلفًا، وأعط مُمْسكًا تَلَفًا ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٣٠٤، مطولًا، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
61
فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (١)
* * *
(١) الأثر: ١٧٠٦٩ - " خالد بن يزيد الجمحي المصري " ثقة مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٣٣٧٧. و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري "، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٧٤٢٩، روايته عن جابر مرسلة، وحديثه عن جابر أورده البخاري معلقًا، متابعة. وفي الترمذي: " سعيد بن أبي هلال، لم يدرك جابرًا ". فهذا خبر مرسل عن جابر، وصله الحاكم في المستدرك ٢: ٣٣٨ من طريق " عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على بن الحسين، وتلا هذه الآية: " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال: حدثني جابر بن عبد الله "، ثم قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٣٠٤، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، بمثل لفظ الحاكم وإسناده. وكان في المطبوعة: " أكل منها "، وهو موافق لما في سائر المراجع، وأثبت ما في المخطوطة، لأنه واضح لا إشكال في قراءته، ولا في معناه.
62
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادَة الله في الدنيا من خلقه، فأطاعوه فيما أمر ونَهَى، (الحسنى).
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الحسنى"، و"الزيادة" اللتين وعدهما المحسنين من خلقه.
فقال بعضهم: "الحسنى"، هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء = "والزيادة عليها"، النظر إلى الله.
* ذكر من قال ذلك:
62
١٧٦١٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: النظر إلى وجه ربهم. (١)
١٧٦١١- حدثنا سفيان قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: النظر إلى وجه الله. (٢)
١٧٦١٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
(١) الأثر: ١٧٦١٠ - " عامر بن سعد البجلي "، تابعي ثقة، له في الصحيح حديث واحد، وروايته عن أبي بكر الصديق، مرسلة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٣٢١. وهذا الخبر، أخرجه الآجري في الشريعة ص: ٢٥٧، من طرق، مرسلًا.
(٢) الأثر: ١٧٦١١ - " سعيد بن نمران الناعطي "، روى عن أبي بكر الصديق، روى عنه عامر بن سعد العجلي، وكان سعيد بن نمران الناعطي، من أصحاب علي بن أبي طالب، وضمه إلى عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، حين ولاه اليمن، وشهد اليرموك، وكان ابنه مسافر بن سعيد بن نمران من أصحاب المختار، مترجم في الكبير ٢ / ١ / ٤٧٣، وابن أبي حاتم، ٢ / ١ / ٦٨، وابن سعد ٦: ٥٦، وقال البخاري " سمع أبا بكر "، ولكن العجيب أن ابن حجر ترجم له في لسان الميزان ٣: ٤٦، وقال: " مجهول "، وكذلك قال الذهبي في ميزان الاعتدال ١: ٣٩٢. فأخشى أن يكون ذلك تجاوزًا من الذهبي وابن حجر، وأنهما عنيا بقولهما " مجهول " أن حال روايته وسماعه من أبي بكر هو المجهول، لا سعيد بن نمران نفسه. وإلا فكيف يكون مجهولا، وهو مذكور مترجم، وله عند الطبري في تاريخه ذكر ٤: ١٢٦، في حوادث سنة ١٤، في فتح اليرموك ثم في سنة ١٧ (٤: ١٩٤) في خبر سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب، وأن سعدًا " أرسل إلى قوم من نساب العرب وذوي رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران، ومشعلة بن نعيم ". وفي باب ذكر الكتاب من بدء أمر الإسلام (تاريخ الطبري ٧: ١٩٨) :" وكان يكتب لعلي، سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولّى قضاء الكوفة لابن الزبير ". وذكره وكيع أيضًا في أخبار القضاة ٢: ٣٩٦، ٣٩٧، وقال: " لما قدم علي الكوفة، ولى سعيد بن نمران الهمداني ثم عزله، وولى مكانه عبيدة السلماني" ثم قال في ص ٣٩٧: " فاستقضى ابن الزبير سعيد بن نمران الهمداني، فقضى ثلاث سنين ". وذكر كتابته لعلي، الجهشياري في الوزراء والكتاب ص: ٢٣. فثبت بهذا أنه معروف مشهور، وأما " المجهول "، فهو حال سماعه من أبي بكر، لولا ما قاله البخاري من أنه سمع أبا بكر.
ومهما يكن من أمر، فهذا خبر في إسناده نظر. خرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٣٠٦، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والدارقطني، وابن منده في الرد على الجهمية، واللالكائي والآجري، والبيهقي، كلاهما في الرؤية.
63
عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: النظر إلى وجه ربهم.
١٧٦١٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: "الزيادة"، النظر إلى وجه الرحمن.
١٧٦١٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال: النظر إلى وجه ربهم. (١)
١٧٦١٥- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا شريك قال: سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله: (وزيادة)، قال: النظر إلى وجه الرحمن.
١٧٦١٦- حدثني علي بن عيسى قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعت أبا تميمة الهُجَيْمِيّ، يحدَّث عن أبي موسى الأشعري قال: إذا كان يومُ القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديًا ينادي: "هل أنجزكم الله ما وعدكم"! فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم! فيقول: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، النظرُ إلى وجه الرحمن. (٢)
١٧٦١٧- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن
(١) الأثر: ١٧٦١٤ - " مسلم بن نذير السعدي "، ويقال: " مسلم بن يزيد "، ويقال إن " يزيد " جده. روى عن حذيفة، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وهو من أهل الكوفة، كان قليل الحديث، ويذكرون أنه كان يؤمن بالرجعة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٢٧٣، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ١٩٧، ١٩٩ في " مسلم بن يزيد السعدي ". وابن سعد ٦: ١٥٩. و " نذير " بضم النون، على التصغير.
(٢) الأثر: ١٧٦١٦ - " أبو بكر الهذلي "، ضعيف بمرة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٤٦٩٠. و " أبو تميمة الهجيمي "، هو " طريف بن مجالد "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٣٥٦، وابن أبي حاتم ٢/١/٤٩٢، وهذا خبر ضعيف الإسناد، وسيأتي في الأثرين التاليين.
64
المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: أخبرنا أبو تميمة الهجيمي قال، سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة مَلَكًا إلى أهل الجنة فيقول: "يا أهل الجنة، هل أنجزكم الله ما وعدكم"! فينظرون، (١) فيرون الحليّ والحُلل والثمار والأنهار والأزواجَ المطهَّرة، فيقولون: "نعم، قد أنجزنا الله ما وعدنا"! ثم يقول الملك: "هل أنجزكم الله ما وعدكم"؟ ثلاث مرات، فلا يفقدون شيئًا مما وُعِدوا، فيقولون: "نعم"! فيقول: "قد بقى لكم شيءٌ، إن الله يقول: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظرُ إلى وجه الله". (٢)
١٧٦١٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي: أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم: (٣) "إن الله وعدكم الحسنى وزيادةً، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن". (٤)
(١) في المطبوعة: " فينظرون، إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيرون "، زاد على المخطوطة ما ليس فيها، أظنه فعله متابعًا لما جاء في الأثر السالف.
(٢) الأثر: ١٧٦١٧ - هو مكرر الذي قبله مطولا، وهو ضعيف بمرة، لضعف " أبي بكر الهذلي "، كما سلف.
(٣) في المخطوطة " يسمع ألهم آخرهم "، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
(٤) الأثر: ١٧٦١٨ - " شبيب بن سعيد التيمي الحبطي "، أحاديثه مستقيمة، ومضى برقم: ٦٦١٣، ١٢٠٨٥، غير أن ابن وهب حدث عنه بأحاديث مناكير، قال ابن عدي: " ولعل شبيبًا لما قدم مصر في تجارته، كتب عنه ابن وهب من حفظه، فغلط ووهم. وأرجو أن لا يتعمد الكذب وإذا حدث عنه ابنه أحمد، فكأنه شبيب آخر يعني = يجود ". و " أبان "، هو " أبان بن أبي عياش فيروز "، مولى عبد القيس، كان رجلا صالحًا سخيًّا، فيه غفلة، يهم في الحديث ويخطئ فيه حتى أسقطوا روايته، وحتى قال فيه شعبة: " لأن أشرب من بول حماري أحب إلي من أن أقول: حدثني أبان = ولأن يزني الرجل، خير من أن يروى من أبان ". ومضى برقم: ٦٧٢٨. فهذا أيضًا خبر هالك الإسناد. وخبر أبي موسى الأشعري، خرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٣٠٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والدارقطني في الرؤية، وابن مردويه.
65
١٧٦١٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: النظر إلى وجه ربهم. وقرأ: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)، قال: بعد النظر إلى وجْه ربهم.
١٧٦٢٠- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة قال، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: (وزيادة)، قال: قيل له: أرأيت قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ؟ قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأُعطوا فيها ما أُعْطُوا من الكرامة والنعيم، قال: نودوا: "يا أهل الجنة، إن الله قد وعدكم الزيادة، فيتجلى لهم" = قال ابن أبي ليلى: فما ظنك بهم حين ثَقُلت موازينهم، وحين صارت الصُّحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم؟ كل ذلك لم يكن شيئًا فيما رأوا!. (١)
١٧٦٢١-.... قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، وسليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: النظر إلى وجه ربهم.
١٧٦٢٢-.... قال: حدثنا الحجاج، ومعلّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ قال لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعْطَوْه! قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال: فيصغر عندهم كل شيء أعطوه. قال: ثم قال: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربهم، ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ بعد ذلك.
(١) الأثر: ١٧٦٢٠ - الآثار من رقم: ١٧٦١٩ إلى رقم: ١٧٦٢٣، راجع آخر التعليق التالي.
66
١٧٦٢٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، النظر إلى وجه الله.
١٧٦٢٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قول الله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، النظر إلى الربّ.
١٧٦٢٥- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي ﷺ في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نودوا: " يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا "! قالوا: ما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا، وتُثْقِل موازيننا، وتُدخلنا الجنة، وتُنْجِنَا من النار؟ فيكشف الحجابُ، فيتجلى لهم، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه = ولفظ الحديث لعمرو.
١٧٦٢٦- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال، تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، نادى منادٍ: "يا أهل الجنة، إنّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكُمُوه". فيقولون: "وما هو؟ ألم يُثقل الله موازيننا، ويبيِّض وجوهنا؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي، وابن بشار، عن عبد الرحمن. (١)
(١) الأثر: ١٧٦٢٦ - هذا خبر صحيح، رواه مسلم في صحيحه ٣: ١٦، ١٧، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد. ورواه أبو داود الطياليسي في مسنده ص: ١٨٦ رقم ٢٣١٥، روايته عن حماد بن سلمة. ورواه أحمد في مسنده (٤: ٣٣٢، ٣٣٣) من ثلاث طرق، من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد، ومن طريق عفان عن حماد = ثم رواه في مسنده (٦: ١٥) من طريق يزيد، عن حماد. ورواه ابن ماجه في سننه ص ٦٧، رقم: ١٨٧ من طريق حجاج بن المنهال، عن حماد. ورواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد، ثم قال: " حديث حماد بن سلمة، هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة مرفوعا، وروى سليمان بن المغيرة هذا الحديث عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله، ولم يذكر فيه: عن صهيب، عن النبي ﷺ ". وهذا الذي أشار إليه الترمذي، هو ما رواه أبو جعفر من رقم: ١٧٦١٩ - ١٧٦٢٣. ورواه الآجري في الشريعة: ٢٦١ من طريق يزيد بن هارون عن حماد، ومن طريق هناد بن السري، عن قبيصة بن عقبة، عن حماد.
67
١٧٦٢٧-.... قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. (١)
١٧٦٢٨-.... قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، مثله.
١٧٦٢٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، بلغنا أن المؤمنين لما دَخلوا الجنة ناداهم منادٍ: إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة، وأما الزيادة، فالنظر إلى وجه الرحمن.
١٧٦٣٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
١٧٦٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عجرة، عن النبي ﷺ في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: الزيادة، النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى. (٢)
(١) الأثر: ١٧٦٢٧ - " سعيد بن نمران " مضى برقم: ١٧٦١١، ولم يذكر أن أبا إسحاق السبيعي، سمع من سعيد بن نمران، وظاهر أن بينهما " عامر بن سعد "، كما سلف في الآثار من رقم: ١٧٦١٠ - ١٧٦١٣.
(٢) الأثر: ١٧٦٣١ - " إبراهيم بن المختار التميمي "، " حبويه "، " أبو إسماعيل الرازي ".
روى عن شعبة، ومالك، وابن جريج، وغيرهم. قال ابن معين: " ليس بذاك "، وقال البخاري: " فيه نظر "، وقال ابن حبان في الثقات: " يتقي حديثه من رواية ابن حميد عنه ". مترجم في التهذيب والكبير ١ / ١ / ٣٢٩، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ١٣٨، وميزان الاعتدال ١: ٣١. و" عطاء "، هو " عطاء بن أبي مسلم الخراساني " وهو " عطاء بن ميسرة "، مضى مرارًا. وروى عن الصحابة مرسلا، كابن عباس، وعدي بن عدي الكندي، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس، وكعب بن عجرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم. فهذا خبر ضعيف الإسناد لضعف " إبراهيم بن المختار "، ولأنه من مرسل عطاء عن كعب بن عجرة.
68
١٧٦٣٢-.... قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "الحسني"، النضرة = و"الزيادة"، النظر إلى وجه الله.
١٧٦٣٣- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية قال، حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله. (١)
* * *
وقال آخرون في "الزيادة"، بما:-
١٧٦٣٤- حدثنا به يحيى بن طلحة قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: "الزيادة"، غرفة من لؤلؤة واحدةٍ لها أربعة أبواب. (٢)
١٧٦٣٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه، نحوه، إلا أنه قال: فيها أربعة أبواب.
١٧٦٣٦-.... قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم بن عتيبة، عن علي رضي الله عنه، مثل حديث يحيى بن طلحة، عن فضيل، سواءً.
* * *
(١) الأثر: ١٧٦٣٣ - هذا خبر ضعيف إسناده، لجهالة من روى عن أبي العالية.
(٢) الأثر: ١٧٦٣٤ - " الحكم "، هو " الحكم بن عتيبة الكندي " مضى مرارًا، والثابت سماعه من التابعين، فإنه ولد سنة ٥٠، ومات سنة ١١٣، وكان فيه تشيع إلا أن ذلك لم يظهر منه. فهذا حديث ضعيف لإرساله عن علي.
69
وقال آخرون: "الحسنى" واحدةٌ من الحسنات بواحدة =
و"الزيادة"، التضعيف إلى تمام العشر.
* ذكر من قال ذلك.
١٧٦٣٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: هو مثل قوله: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)، [سورة ق: ٣٥]، يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، [سورة الأنعام: ١٦٠].
١٧٦٣٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن علقمة بن قيس: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال قلت: هذه الحسنى، فما الزيادة؟ قال: ألم تر أن الله يقول: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ؟
١٧٦٣٩- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: الزيادة: بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف.
* * *
* وقال آخرون: "الحسنى" حسنة مثل حسنة = و"الزيادة" زيادة مغفرة من الله ورضوان.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٦٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (للذين أحسنوا الحسنى)، مثلها حسنى = "وزيادة"، مغفرة ورضوان.
* * *
وقال آخرون: "الزيادة"، ما أعطوا في الدنيا.
70
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٤١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، قال: "الحسنى"، الجنة = "وزيادة" ما أعطاهم في الدنيا، لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرءوا: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا)، [سورة العنكبوت: ٢٧]، قال: ما آتاه مما يحب في الدنيا، عجل له أجره فيها.
* * *
وكان ابن عباس يقول في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى)، بما:-
١٧٦٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (للذين أحسنوا الحسنى)، يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة، وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفا من لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا، كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جل ثناؤه بقوله: (وزيادة)، الزيادات على "الحسنى"، فلم يخصص منها شيئًا دون شيء، وغير مستنكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يُعَمَّ، كما عمَّه عز ذكره.
* * *
71
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)، لا يغشى وجوههم كآبة، ولا كسوف، حتى تصير من الحزن كأنما علاها قترٌ.
* * *
و"القتر" الغبار، وهو جمع "قَتَرَةٍ" ومنه قول الشاعر: (١)
مُتَوَّجٌ بِرِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّاياتِ وَالْقَتَرَا (٢)
يعني ب "القتر" الغبار.
* * *
= (ولا ذلة)، ولا هوان (٣) = (أولئك أصحاب الجنة)، يقول: هؤلاء الذين وصفت صفتهم، هم أهل الجنة وسكانها، (٤)
ومن هو فيها (٥) = (هم فيها خالدون)، يقول: هم فيها ماكثون أبدًا، لا تبيد، فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغَّص عليهم لذَّتُهم. (٦)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
(١) هو الفرزدق.
(٢) ديوانه: ٢٩٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٧٧، واللسان (قتر)، وغيرها، ورواية ديوانه " معتصب برداء الملك "، وهذا بيت من قصيدة مدح فيها بشر بن مروان، وقبله:
كُلُّ امْرِئٍ لِلْخَوْفِ أَمَّنَهُ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَالمَذْعُورُ مَنْ ذَعَرَا
فَرْعٌ تَفَرَّعَ فِي الأَعْياصِ مَنْصِبُهُ والعامِرَيْنِ، لَهُ العِرنَيْنُ مِنْ مُضَرَا
(٣) انظر تفسير " الذلة " فيما سلف ١٣: ١٣٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " أصحاب الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب).
(٥) في المطبوعة: " ومن هم فيها "، غير ما في المخطوطة لغير طائل.
(٦) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
72
وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله: (ولا يرهق وجوههم قتر) ما:-
١٧٦٤٣- حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا عفان قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)، قال: بعد نظرهم إلى ربِّهم. (١)
١٧٦٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، ومعلَّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بنحوه.
١٧٦٤٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (ولا يرهق وجوههم قتر)، قال: سوادُ الوجوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله (٢) = (جزاء سيئة)، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا = (بمثلها)، من عقاب الله في الآخرة = (وترهقهم ذلة)، يقول: وتغشاهم ذلة وهوان، بعقاب الله إياهم (٣)
= (ما لهم من الله من عاصم)، يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم، إذا عاقبهم، يحول بينه وبينهم.
* * *
(١) الأثر: ١٧٦٤٣ - " محمد بن منصور بن داود الطوسي "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٦٦٥٣.
(٢) انظر تفسير " كسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب)، (سوأ).
(٣) انظر تفسير " الرهق " فيما سلف قريبًا ص: ٧٢.
= وتفسير " ذلة " فيما سلف ص: ٧٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
73
وبنحو الذي قلنا قوله:"وترهقهم ذلة" قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٦٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وترهقهم ذلة)، قال: تغشاهم ذلة وشدّة.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع ل "لجزاء".
فقال بعض نحويي الكوفة: رُفع بإضمار "لهم"، كأنه قيل: ولهم جزاء السَّيئة بمثلها، كما قال: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ)، [سورة البقرة: ١٩٦]، والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، قال: وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله: (وجزاء سيئة بمثلها). (١)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: "الجزاء" مرفوع بالابتداء، وخبره (بمثلها). قال: ومعنى الكلام: جزاء سيئة مثلها، وزيدت "الباء"، كما زيدت في قوله: " بحسبك قول السُّوء".
وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم، فقال: يجوز أن تكون "الباء" في "حسب" [زائدة (٢) ]
لأن التأويل: إن قلت السوء فهو حسبك = فلما لم تدخل في الخبر، (٣) أدخلت في "حسب"، "بحسبك أن تقوم": إن قمت فهو حسبك. (٤) فإن مُدح ما بعد "حسب" أدخلت "الباء"، فيما بعدها، كقولك: "حسبك بزيد"،
(١) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٤٦١، وفي المطبوعة: " وجزاء سيئة بمثلها " بالواو، وفي معاني القرآن للفراء " فجزاء " بالفاء، ولا أجد في القرآن آية فيها مثل ذلك بالواو أو بالفاء، وإنما عني هذه الآية بعينها.
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " لم تدخل في الجزاء "، وهو خطأ لا ريبة فيه.
(٤) أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء.
74
ولا يجوز "بحسبك زيد"، لأن زيدًا الممدوح، فليس بتأويل خبَرٍ. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يكون "الجزاء" مرفوعًا بإضمارٍ، بمعنى: فلهم جزاء سيئة بمثلها، لأن الله قال في الآية التي قبلها: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، فوصف ما أعدَّ لأوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه، فأشبهُ بالكلام أن يقال: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى، كانت الباء صلة للجزاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات (٢)
= (قِطَعًا من الليل)، وهي جمع "قطعة".
* * *
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما:-
١٧٦٤٧- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا)، قال: ظلمة من الليل.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى: (قطعًا) فقرأته عامة قراء الأمصار: (قِطَعًا) بفتح الطاء، على معنى جمع "قطعة"،
(١) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع أيضًا: " فليس بتأويل جزاء "، وهو فساد لا شك فيه.
(٢) انظر تفسير " الإغشاء " فيما سلف ١٢: ٤٨٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
75
وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك: كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جُمِع "الوجه".
* * *
وقرأه بعض متأخري القراء: "قِطْعًا" بسكون الطاء، بمعنى: كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل، وبقيةً من الليل، ساعةً منه، كما قال: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)، [سورة هود: ٨١ /سورة الحجر: ٦٥]، أي: ببقية قد بقيت منه.
ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك، أنه في صحف أبيّ: (وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ). (١)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. (٢)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير "المظلم" وتوحيده، وهو من نعت "القطع"، و"القطع"، جمع لمؤنث؟
قيل: في تذكير ذلك وجهان: (٣)
أحدهما: أن يكون قَطْعًا من "الليل" (٤). وإن يكون من نعت "الليل"، فلما كان نكرةً، و"الليل" معرفةً، نصب على القَطْع،
فيكون معنى الكلام حينئذ: كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم = ثم حذفت الألف واللام
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٦٢.
(٢) في المطبوعة: " أهل الأمصار والإسلام "، وهو عبث سخيف.
(٣) في المطبوعة: " في تذكيره "؛ بالهاء مضافة، وهو عبث أيضًا.
(٤) " القطع " (بفتح فسكون)، الحال، كما سلف مرارًا شرحه وبيانه، وانظر ما سلف ١١: ٤٥٥ / ١٢: ٤٧٧، وفهارس المصطلحات. وقد بين الطبري في هذا الموضع بأحسن البيان عن معنى " القطع "، وقد سلف كلامنا فيه مرارًا.
76
من "المظلم"، فلما صار نكرة وهو من نعت "الليل "، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك "حالا"، والكوفيون "قطعًا".
والوجه الآخر: على نحو قول الشاعر: (١)
* لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * (٢)
والوجه الأوّل أحسن وجهيه.
وقوله: (أولئك أصحاب النار)، يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها (٣)
= (هم فيها خالدون)، يقول: هم فيها ماكثون. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا، (٥) ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهةَ والأندادَ: = (مكانَكم)، أي:
(١) هو أبو ذؤيب.
(٢) ديوانه: ١١٣، في آخر قصيدة له، ورواية الديوان:
لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا أَحْيَى أُبُوَّتَكِ الشُّمَّ الأَمَادِيحُ
وهذا لا شاهد فيه، ويروى: * لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا *
وهذا شاهد.
(٣) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب).
(٤) انظر تفسير " الخلود "، فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(٥) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ١٣: ٥٢٩، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
77
امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم، أنتم، أيها المشركون، وشُركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان = (فزيّلنا بينهم)، يقول: ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به.
* * *
= [من قولهم: "زِلْت الشيء أزيلُه "، إذا فرّقت بينه] وبين غيره وأبنته منه. (١) وقال: "فزيّلنا" إرادة تكثير الفعل وتكريره، ولم يقل: "فزِلْنا بينهم".
* * *
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: (فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ)، كما قيل: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ)، [سورة لقمان: ١٨]، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في "فعَّلت"، يلحقون فيها أحيانًا ألفًا مكان التشديد، فيقولون: "فاعلت" إذا كان الفعل لواحدٍ. وأما إذا كان لاثنين، فلا تكاد تقول إلا "فاعلت". (٢)
* * *
= (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون)، وذلك حين (تبرَّأ الذين اتَّبعوا من الذين اتُّبعوا ورأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب، لما قيل للمشركين: "اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله"، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: "كنا نعبد هؤلاء"!، فقالت الآلهة لهم: (ما كنتم إيانا تعبدون)، كما:-
١٧٦٤٨- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يكون يومَ القيامة ساعةٌ فيها شدة، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون، فيقال: "هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله"، فتقول الآلهة: "والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا"! فيقولون: "والله لإيّاكم
(١) هذه الزيادة بين القوسين، استظهار من نص اللغة لا بد منه، وكان الكلام في المخطوطة سردًا واحدًا، وهو فساد من الناسخ. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٩٢.
(٢) انظر بيان هذا أيضًا في معاني القرآن للفراء ١: ٤٩٢، فهو نحو منه.
78
كنا نعبد"! فتقول لهم الآلهة: (فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين).
١٧٦٤٩- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم)، قال: فرّقنا بينهم = (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ! قالوا: بلى، قد كنا نعبدكم! فقالوا: (كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين)، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم! فقال الله: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)، الآية.
* * *
وروي عن مجاهد، أنه كان يتأول "الحشر" في هذا الموضع، الموت.
١٧٦٥٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن مجاهد في قوله: (ويوم نحشرهم جميعًا)، قال: الحشر: الموت.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم، ومعلومٌ أن ذلك غير كائن في القبر، وأنه إنما هو خبَرٌ عما يقال لهم، ويقولون في الموقف بعد البعث.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) ﴾
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد = (كفى
بالله شهيدًا بيننا وبينكم)، أي إنها تقول: حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم، أيها المشركون، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون = (إنا كنا عن عبادتكم لغافلين)، يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم، (١) كما:-
١٧٦٥١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين)، قال: كُلُّ شيء يعبد من دون الله. (٢)
١٧٦٥٢- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٦٥٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين)، قال: يقول ذلك كُلُّ شيء كان يُعْبد من دون الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة قوله: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ)، بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كلّ نفس ما قدمت من خيرٍ أو شٍّر. (٣)
وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك، مجاهدٌ.
(١) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: ٢٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: " قال ذلك كل شيء "، زاد " ذلك " وأثبت ما في المخطوطة، وهو لا بأس به.
(٣) في المطبوعة: " بما قدمت " بالباء، لم يحسن قراءة المخطوطة. وانظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف من فهارس اللغة (بلا)
80
١٧٦٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)، قال: تختبر.
١٧٦٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٦٥٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: (تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ)، بالتاء. (١)
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كل نفس ما قدَّمت في الدنيا لذلك اليوم. (٢)
وروي بنحو ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، من وجْه وسَنَدٍ غير مرتضى أنه قال: يَمْثُل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة، فيتَّبعونهم حتى يوردوهم النار. قال: ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: (هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت). (٣)
* * *
وقال بعضهم: بل معناه: يتلو كتاب حسناته وسيئاته. يعني يقرأ، كما قال جل ثناؤه: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، [سورة الإسراء: ١٣].
* * *
وقال آخرون: "تَتْلو" تعاين. (٤)
*ذكر من قال ذلك:
(١) انظر هذه القراءة وتفسيرها فيما سلف ٢: ٤١١.
(٢) انظر تفسير " يتلو " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا).
(٣) " لم أجد نص الخبر في غير هذا المكان. مسندًا ولا غير مسند.
(٤) في المطبوعة في المواضع كلها " تبلو " بالباء، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب بالتاء، وذلك بين أيضًا من سياق التفسير لهذه القراءة.
81
١٧٦٥٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (هنالك تَتْلو كل نفس ما أسلفت)، قال: ما عملت. تتلو: تعاينه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متقاربتا المعنى. وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلفَ من العمل في الدنيا، هجم به على مَوْرده، فيخبر هنالك ما أسلفَ من صالح أو سيئ في الدنيا، وإنّ مَنْ خَبَر من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبرُ بعد مصيره إلى حيث أحلَّه ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين مُتَّبع ما أسلف من عمله، مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
وأما قوله: (وردّوا إلى الله مولاهم الحق)، فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذٍ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم، الحقّ لا شك فيه، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد = (وضل عنخم ما كانوا يفترون)، يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرَّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقرِّبهم منه زُلْفَى، (١) كما:-
١٧٦٥٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون)، قال: ما كانوا
(١) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
82
يدعون معه من الأنداد والآلهة، ما كانوا يفترون الآلهة، وذلك أنهم جعلوها أندادًا وآلهة مع الله افتراءً وكذبًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل)، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ = (من يرزقكم من السماء)، الغيثَ والقطر، ويطلع لكم شمسها، ويُغْطِش ليلها، ويخرج ضحاها = ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم، وثمار أشجارها = (أم من يملك السمع والأبصار) يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها: أن يزيدَ في قواها، أو يسلبكموها، فيجعلكم صمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها: أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون = (ومن يخرج الحي من الميت)، يقول: ومن يخرج الشيء الحي من الميت = (ويخرج الميت من الحي)، يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته، في "سورة آل عمران"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
(١) انظر ما سلف ٦: ٣٠٤ - ٣١٢.
= (ومن يدبر الأمر)، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن، وأمركم وأمرَ الخلق (١) ؟ = (فسيقولون الله)، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا: الذي يفعل ذلك كله الله = (فقل أفلا تتقون)، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: أيها الناس، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال، فيرزقكم من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي، ويدبر الأمر; = (الله ربُّكم الحق)، لا شك فيه = (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، يقول: فأي شيء سوى الحق إلا الضلال، وهو الجور عن قصد السبيل؟ (٢)
يقول: فإذا كان الحقُّ هو ذا، فادعاؤكم غيره إلهًا وربًّا، هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه= (فأنى تصرفون)، يقول: فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون، وسواهما تسلكون، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق؟ (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " تدبير الأمر " فيما سلف ص: ١٨، ١٩.
(٢) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل).
(٣) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف ١٤: ٥٨٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما قد صُرِف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال = (كذلك حقت كلمة ربك)، يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه = (على الذين فسقوا)، فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به (١) = (أنهم لا يؤمنون)، يقول: لا يصدِّقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
(١) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل)، يا محمد = (هل من شركائكم)، يعني من الآلهة والأوثان = (من يبدأ الخلق ثم يعيده)، يقول: من ينشئ خَلْق شيء من غير أصل، فيحدث خلقَه ابتداءً = (ثم يعيده)، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيَه، فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدِّلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أربابٌ، وهي لله في العبادة شركاء، كاذبون مفترون.
فقل لهم حينئذ، يا محمد: الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شيء، ويحدثه من
غير أصل، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء = (فأنى تؤفكون)، يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرُّشد تُصْرَفون وتُقْلَبُون؟ (١) كما:-
١٧٦٥٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فأنى تؤفكون)، قال: أنى تصرفون؟
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: (أنى تؤفكون)، والصواب من القول في ذلك عندنا، بشواهده في "سورة الأنعام". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ (٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل)، يا محمد لهؤلاء المشركين = (هل من شركائكم)، الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانُهم، (من يهدي إلى الحق) يقول: من يرشد ضالا من ضلالته
(١) انظر تفسير " الأفك " فيما سلف ١٠: ٤٨٦ / ١١: ٥٥٤ / ١٤: ٢٠٨.
(٢) انظر ما سلف ١١: ٥٥٤، وقوله أنه ذكر في سورة الأنعام، وهم من أبي جعفر، فإنه لم يفصل بيان معنى " الأفك "، إلا في سورة المائدة (١٠: ٤٨٥، ٤٦٨). ولم يذكر قط اختلاف المختلفين في تفسيره. فأخشى أن يدل هذا النص، على أن أبا جعفر كان قد باعد بين أطراف تفسيره، فكان ينسى الموضع الذي فصل فيه أحيانًا، بل لعل هذا يدل أيضًا على أنه كان قد شرع في التفسير مطولا، كما ذكر في ترجمته، ثم اختصره هذا الاختصار. ويدل أيضًا، إذا صح ما قلته، على أنه كان قد أعد مادة كتابه إعدادًا تامًا، ثم أدخل في كتابة تفسيره تعديلا كبيرًا، فلم يثبت فيه كل ما كان أعده له. والله تعالى أعلم.
86
إلى قصد السبيل، ويسدِّد جائرًا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون أن يدَّعوا أن آلهتهم وأوثانهم تُرشد ضالا أو تهدي جائرًا. وذلك أنهم إن ادَّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة، وأبان عجزَها عن ذلك الاختبارُ بالمعاينة. فإذا قالوا "لا" وأقرُّوا بذلك، فقل لهم. فالله يهدي الضالَّ عن الهدى إلى الحق= (أفمن يهدي) أيها القوم ضالا إلى الحقّ، وجائرًا عن الرشد إلى الرشد= (أحق أن يتبع)، إلى ما يدعو إليه (أمْ مَنْ لا يهدِّي إِلا أن يُهدى) ؟
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة: (أَمَّنْ لا يَهْدِّي) بتسكين الهاء، وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين (١) = وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجَّهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم من لا يهتدي، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرءوا، (٢) وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقرُّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشدَّدوا الدال طلبًا لإدغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعَدُّوا فِي السَّبْتِ)، [سورة النساء: ١٥٤]، (٣) وفي قوله: (يَخْصِّمُون)، [سورة يس: ٤٩]. (٤)
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة= " (يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمُّوا ما أمَّه المدنيون من الكلمة، غير أنهم نقلوا حركة التاء من "يهتدي": إلى الهاء الساكنة، ، فحرَّكوا بحركتها، وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها.
* * *
(١) انظر ما قاله في شبه هذه القراءة فيما سلف ٩: ٣٦٢.
(٢) في المطبوعة: " بغير ما قرروا "، والصواب ما في المخطوطة.
(٣) انظر ما سلف في هذه القراءة ٩: ٣٦٢.
(٤) انظر ما سيأتي في هذه القراءة ٢٣: ١١ (بولاق).
87
وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: (يَهِدِّي)، بفتح الياء، وكسر الهاء، وتشديد الدال، بنحو ما قصدَه قراء أهل المدينة، غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من "يهتدي"، استثقالا للفتحة بعدها كسرةٌ في حرف واحدٍ.
* * *
وقرأ ذلك بعدُ، عامة قراء الكوفيين (١) (أَمْ مَنْ لا يَهْدِي)، بتسكين الهاء وتخفيف الدال. وقالوا: إن العرب تقول: "هديت" بمعنى "اهتديت"، قالوا: فمعنى قوله: (أم من لا يهدي) : أم من لا يَهْتَدي إلا أن يهدى.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءة في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ: (أَمْ مَنْ لا يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب، وفيهم المنكر غيره. وأحقُّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلامُ الله.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهدي؟
* * *
وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن يُنْقل.
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما:-
١٧٦٦٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدّي إلا أن يهدي)، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لمن شاء.
(١) في المطبوعة: " وقرأ ذلك بعض عامة قرأة، الكوفيين " جعل " بعد "، " بعض "، فأفسد الكلام وأسقطه.
88
١٧٦٦١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (أمن لا يهدي إلا أن يهدي)، قال: قال: الوثن.
* * *
وقوله: (فما لكم كيف تحكمون)، ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء، إلا أن يهديه إليه هادٍ غيره، فتتركوا اتّباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته، وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر، وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده، دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شكٍّ وريبة (١) = (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا)، يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا، ولا يقوم في شيء مقامَه، ولا ينتفع به حيث يُحتاج إلى اليقين (٢) = (إن الله عليم بما يفعلون)، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون، من اتباعهم الظن، وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يُغني عنهم ظنّهم من الله شيئًا. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة (ظنن).
(٢) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف ١٤: ١٧٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، يقول: ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله. (١) وذلك نظير قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) [سورة آل عمران: ١٦١]، (٢) بمعنى: ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه.
وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن، هذا القرآن من عنده، أنزله إلى محمد عبده، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا: "هو شعر وكهانة"، والذين قالوا: "إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ". (٣)
يقول لهم جل ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق= (ولكن تصديق الذي بين يديه)، أي: يقول تعالى ذكره: ولكنه من عند الله أنزله مصدِّقًا لما بين يديه، أي لما قبله من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه= (وتفصيل الكتاب)، يقول: وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفرائضه التي فرضها عليهم في
(١) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى).
= وتفسير " ما كان " فيما سلف ٧: ٣٥٣ / ١٤: ٥٠٩ - ٥١٤، ٥٦١، ٥٦٥.
(٢) هذه قراءة أهل المدينة والكوفة، بضم الباء وفتح العين، بالبناء للمجهول، وهي غير قراءتنا في مصحفنا. وقد سلف بيانها وتفسيرها واختلاف المختلفين فيها فيما سلف ٧: ٣٥٣، ٣٥٤. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٦٤.
(٣) في المطبوعة: " يعيش الرومي "، وأثبت ما في المخطوطة، وذاك تصرف لا خير فيه.
السابق من علمه= يقول: (لا ريب فيه) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [مثل كلامكم]، (٢) فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن.
* * *
و"الهاء" في قوله "مثله"، كناية عن القرآن.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته= ثم ألقيت "سورة"، وأضيف "المثل" إلى ما كان مضافًا إليه "السورة"، كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: ٨٢] يراد به: واسأل أهل القرية.
* * *
(١) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف ص: ٥٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " الريب " فيما سلف ١٤: ٤٥٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " العالمين " فيما سلف ١٣: ٨٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) في المخطوطة: " ولساني مثل لسانكم، وكلامي فجيئوا" أسقط من الكلام ما وضعته بين القوسين استظهارًا، أما المطبوعة، فقد جعلها: " ولساني وكلامي مثل لسانكم "، فأساء.
91
وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله، ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن "السورة" إنما هي سورة من القرآن، وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن. فقيل لهم: (فأتوا بسورة مثله)، ولم يقل: "مثلها"، لأن الكناية أخرجت على المعنى= أعني معنى "السورة"= لا على لفظها، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: "فأتوا بسورة مثلها".
* * *
= (وادعوا من استطعتم من دون الله)، يقول: وادعوا، أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها مَنْ قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم = (من دون الله)، يقول: من عند غير الله، فأجمِعُوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا.
* * *
وقوله: (إن كنتم صادقين)، يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدًا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك، فلا شك أنكم كَذَبَةٌ في زعمكم أن محمدًا افتراه، لأن محمدًا لن يَعْدُوَ أن يكون بشرًا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز.
* * *
92
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ممَّا أنزل الله عليك في هذا القرآن، (١) من وعيدهم على كفرهم بربهم= (ولما يأتهم تأويله)، يقول: ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن (٢) = (كذلك كذب الذين من قبلهم)، يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، بوعيد الله، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم = (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر، يا محمد، كيف كان عُقْبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسْف وبعضهم بالغرق؟ (٣) يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم، ويسارعوا إلى التوبة.
* * *
(١) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف ص: ٥١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف ١٢: ٤٧٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ١٣: ٤٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن قومك، يا محمد، من قريش، من سوف يؤمن به يقول: من سوف يصدِّق بالقرآن ويقرُّ أنه من عند الله= (ومنهم من لا يؤمن به) أبدًا، يقول: ومنهم من لا يصدق به ولا يقرُّ أبدًا= (وربك أعلم بالمفسدين) يقول: والله أعلم بالمكذّبين به منهم، الذين لا يصدقون به أبدًا، من كل أحدٍ، لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبتُ له أن يؤمن به منهم، فإني سأتوب عليه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون، وردُّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم، لي ديني وعملي، ولكم دينكم وعملكم، لا يضرني عملكم، ولا يضركم عملي، وإنما يُجازَى كل عامل بعمله= (أنتم بريئون مما أعمل)، لا تُؤْاخذون بجريرته= (وأنا برئ مما تعملون)، لا أوخذ بجريرة عملكم. (٢) وهذا كما
(١) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف ١٤: ٨٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " بريء " فيما سلف ١٤: ١٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
قال جل ثناؤه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [سورة الكافرون: ١-٣].
* * *
وقيل: إن هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والأمر بالقتال.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٦٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) الآية، قال: أمرَه بهذا، ثم نَسَخه وأمرَه بجهادهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك= (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون)، يقول: أفأنت تخلق لهم السمع، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا؟
وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع، يا محمد، من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومِك، من ينظر إليك، يا محمد، ويرى أعلامك وحُججَك على نبوتك، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به= (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون)، يقول: أفأنت يا محمد، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك، فلا يوفَّقون للتصديق بك أبصارًا، لو كانوا عُمْيًا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ.
وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه ﷺ عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إيّاه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به = (ولكن الناس)، يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، باجترامهم ما يورثها غضبَ الله وسخطه.
وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ والمؤمنين به، أنه لم يسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمانَ ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم= وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه، لذنوبٍ اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، (١) كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، (٢) ثم انقطعت المعرفة، وانقضت تلك الساعة= يقول الله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين)، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا (٣) = (وما كانوا مهتدين) يقول: وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله.
* * *
(١) انظر تفسير " الحشر" فيما سلف ص: ٧٧، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " اللبث " فيما سلف ص: ٤١.
(٣) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف ١٤: ٣٤٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإما نرينّك، يا محمد، في حياتك بعضَ الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب= (أو نتوفينك) قبل أن نريك ذلك فيهم (١) = (فإلينا مرجعهم)، يقول: فمصيرهم بكل حال إلينا، ومنقلبهم (٢) = (ثم الله شهيد على ما يفعلون)، يقول جل ثناؤه: ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها، (٣) وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم، جزاءهم الذي يستحقُّونه، كما:-
١٧٦٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإما نرينك بعض الذي نعدهم)، من العذاب في حياتك= (أو نتوفينك)، قبل= (فإلينا مرجعهم).
١٧٦٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١٧٦٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
(١) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف ١٤: ١٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص ٥٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف من فهارس اللغة (شهد).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل أمة خلت قبلكم، أيها الناس، رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدًا إليكم، يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته= (فإذا جاء رسولهم)، يعني: في الآخرة، كما:-
١٧٦٦٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم)، قال: يوم القيامة.
* * *
وقوله: (قضى بينهم بالقسط)، يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل (١) = (وهم لا يظلمون)، من جزاء أعمالهم شيئًا، ولكن يجازي المحسن بإحسانه. والمسيءُ من أهل الإيمان، إما أن يعاقبه الله، وأما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النارِ. فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شكّ عدلٌ لا ظلمٌ.
١٧٦٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قضى بينهم بالقسط)، قال: بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد = (متى هذا الوعد)، الذي تعدنا أنه يأتينا من
(١) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص: ٢١، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
عند الله؟ وذلك قيام الساعة = (إن كنتم صادقين)، أنت ومن تبعك، فيما تعدوننا به من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "قل"، يا محمد، لمستعجليك وعيدَ الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين؟ = (لا املك لنفسي)، أيها القوم، أي: لا اقدرُ لها على ضرٍّ ولا نفع في دنيا ولا دين (١) = (إلا ما شاء الله)، أن أملكه، فأجلبه إليها بأذنه.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذْ كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز واعجز، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك = (لكل أمة أجل)، يقول: لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم (٢)
= (لا يستأخرون)، عنه (ساعة)، فيمهلون ويؤخرون، (ولا يستقدمون)، قبل ذلك، لأن الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " الملك " فيما سلف ١٣: ٣٠٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف من فهارس اللغة (أمم).
= وتفسير " الأجل " فيما سلف ص: ٣٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " استأجر " و " استقدم " فيما سلف ١٢: ٤٠٤، ٤٠٥.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتًا، يقول: ليلا أو نهارا، (١)
وجاءت الساعة وقامت القيامة، أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يستعجلُ من نزول العذاب، (٢) المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصالون بحرِّه دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذابُ الله بكم أيها المشركون "آمنتم به"، يقول: صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيها التصديق، وقيل لكم حينئذ: آلآنَ تصدّقون به، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون، وأنتم بنزوله مكذبون؟ فذوقوا الآن ما كنتم به تكذّبون.
* * *
ومعنى قوله: (أثم)، في هذا الموضع: أهنالك، وليست "ثُمَّ" هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " البيات " فيما سلف ١٢: ٢٩٩، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الاستعجال " فيما سلف ص: ٣٣.
(٣) انظر تفسير " ثم " فيما سلف ٢: ٥٣٥ وفيه تفسير " ثم " المفتوحة، بمعنى: هنالك. وقد قال الطبري في تفسيره ٨: ٣٥١: " وقيل إن " ثم " ههنا بمعنى " ثم " بفتح التاء فتكون ظرفا، والمعنى: أهنالك، وهو مذهب الطبري. وقال أبو حيان في تفسيره ٥: ١٦٧ " وقال الطبري في قوله: أثم، بضم الثاء أن معناه: أهنالك، وليست " ثم " هذه ههنا التي تأتي بمعنى العطف، وما قاله الطبري دعوى ".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ثم قيل للذين ظلموا)، أنفسهم، بكفرهم بالله= (ذوقوا عذاب الخلد)، تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا، الذي لا فناء له ولا زوال (١) = (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون)، يقول: يقال لهم: فانظروا هل تجزون، أي: هل تثابون = (إلا بما كنتم تكسبون)، يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد، (٣)
فيقولون لك: أحق ما تقول، وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاءً على ما كنا نكسِب من معاصي الله في الدنيا؟ قل لهم يا محمد: "أي وربي إنه لحق "، لا شك فيه، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم، بهربٍ، أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه، إذ أراد فعل ذلك بكم، فاتقوا الله في أنفسكم. (٤)
* * *
(١) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: ٤٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " الخلد " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(٢) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى)، (كسب).
(٣) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: ٥٤، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ١٤: ١٣١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أن لكل نفس كفرت بالله = و"ظلمها"، في هذا الموضع، عبادتُها غيرَ من يستحق عبادته، (١) وتركها طاعة من يجب عليها طاعته= (ما في الأرض)، من قليل أو كثير= (لافتدت به)، يقول: لافتدت بذلك كلِّه من عذاب الله إذا عاينته (٢) = وقوله: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب)، يقول: وأخفتْ رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامةَ حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم = (وقضي بينهم بالقسط)، يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل (٣) = (وهم لا يظلمون)، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته، ولا يأخذه بذنب أحدٍ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ذكره: ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء، لله مِلْك، لا شيء فيه لأحدٍ سواه. يقول: فليس لهذا الكافر
(١) في المطبوعة: " من يستحق عبادة "، غير ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير " الافتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (فدى).
(٣) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص: ٩٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
بالله يومئذٍ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربّه، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه. ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها، لم يقبل منه بدلا من عذابه، فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شيء له يفتدى به منه، وقد حقَّ عليه عذاب الله؟ يقول الله جل ثناؤه: (ألا إن وعد الله حق)، يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به، فإنه بهم واقع لا شك = (ولكن أكثرهم لا يعلمون)، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله هو المحيي المميت، لا يتعذّر عليه فعلُ ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم، ولا إماتتهم إذا أراد ذلك، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم، فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيدِ الله وعقابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم)، يعني: ذكرى تذكركم عقابَ الله وتخوّفكم وعيده (١) = (من
(١) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف ٨: ٥٢٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
ربكم)، يقول: من عند ربكم، لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحةَ لها. وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله.
وقوله: (وشفاء لما في الصدور)، يقول: ودواءٌ لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهلَ الجهال، فيبرئ به داءهم، ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به = (وهدى)، يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليلٌ على طاعته ومعصيته = (ورحمة)، يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لأن من كفر به فهو عليه عمًى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلودُ في لظًى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك= (١) (بفضل الله)، أيها الناس، الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبيَّنه لكم، ودعاكم إليه = (وبرحمته)، التي رحمكم بها، فأنزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصَّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن = (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: " لهؤلاء المشركين بك "، وهو فاسد جدًا، ورجحت أن الصواب ما أثبت.
105
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٦٨- حدثني علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، قال: بفضل الله القرآن (وبرحمته) أن جعَلَكم من أهله. (١)
١٧٦٦٩- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل، عن منصور، عن هلال بن يساف: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، قال: بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علّمكم.
١٧٦٧٠- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف: (قل بفضل الله وبرحمته)، قال: بالإسلام والقرآن= (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، من الذهب والفضَّة.
١٧٦٧١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته)، قال: "فضل الله"، الإسلام، و"رحمته"، القرآن.
١٧٦٧٢- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته)، قال: الإسلام والقرآن.
(١) الأثر: ١٧٦٦٨- " علي بن الحسن الأزدي " شيخ الطبري، مضى برقم: ١٠٢٥٨، وأننا لم نجد له ترجمة. وكان في المطبوعة هنا "بن الحسين" وهو خطأ، وقع مثله عندنا في هامش التعليق علىالأثر المذكور ٩: ٩٨، تعليق: ١
106
١٧٦٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف مثله.
١٧٦٧٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال، مثله.
١٧٦٧٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن.
١٧٦٧٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (قل بفضل الله وبرحمته)، قال: فضله: الإسلام، ورحمته القرآن.
١٧٦٧٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل بفضل الله وبرحمته)، قال: القرآن.
١٧٦٧٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وبرحمته)، قال: القرآن.
١٧٦٧٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: (هو خير مما يجمعون)، قال: الأموال وغيرها.
١٧٦٨٠- حدثنا علي بن داود قال، حدثني أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (قل بفضل الله وبرحمته) يقول: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن.
١٧٦٨١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، قال: بكتاب الله، وبالإسلام= (هو خير مما يجمعون).
* * *
107
وقال آخرون: بل "الفضل": القرآن= و"الرحمة"، الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٨٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، قال: (بفضل الله)، القرآن، (وبرحمته)، حين جعلهم من أهل القرآن.
١٧٦٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: "فضل الله"، القرآن، و"رحمته"، الإسلام.
١٧٦٨٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) قال: (بفضل الله) القرآن، (وبرحمته)، الإسلام.
١٧٦٨٥- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، قال: كان أبي يقول: فضله القرآن، ورحمته الإسلام.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (فبذلك فليفرحوا).
فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: (فَلْيَفْرَحُوا) بالياء (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) بالياء أيضًا على التأويل الذي تأولناه، من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول: فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه، فليفرح هؤلاء المشركون، لا بالمال الذي يجمعون، فإن الإسلام والقرآن خيرٌ من المال الذي يجمعون، وكذلك:-
١٧٦٨٦- حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء، عن هارون، عن أبي التيّاح:
108
(فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، يعني الكفار.
* * *
ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما:-
١٧٦٨٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خُيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، بالتاء.
١٧٦٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الأجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، مثل ذلك.
* * *
وكذلك كان الحسن البصري يقول: غير أنه فيما ذُكر عنه كان يقرأ قوله: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، بالياء; الأول على وجه الخطاب، والثاني على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وكان أبو جعفر القارئ، فيما ذكر عنه، يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ، بالتاء جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار من قراءة الحرفين جميعًا بالياء: (فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لمعنيين:
أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه.
والثاني: صحته في العربية، وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء، وإنما تأمره فتقول: "افعل ولا تفعل".
وبعدُ، فإني لا أعلم أحدًا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام، ويرى أنها لغة مرغوب عنها، غير الفراء، فإنه كان يزعم أن الّلام في
109
الأمر [هي البناء الذي خلق له]، (١) واجهتَ به أم لم تُوَاجِهْ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه، لكثرة الأمر خاصةً في كلامهم، كما حذَفوا التاء من الفعل. قال: وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف، فلما حُذِفت التاء ذهبت اللام، وأُحدِثَت الألف في قولك: "اضرب" و"افرح"، لأن الفاء ساكنة، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكنٍ، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء، كما قال: (ادَّارَكُوا)، [سورة الأعراف: ٣٨] (٢)
و (اثَّاقَلْتُمْ)، [سورة التوبة: ٣٨]. (٣)
وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له، وذلك أن العَرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجَه وتركتها، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يُدْخِل فيها ما ليس منه ما دام متكلِّمًا بلغتها. فإن فعل ذلك، كان خارجًا عن لغتها، وكتابُ الله الذي أنزله على محمد بلسانها، (٤) فليس لأحدٍ أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها، وإن كان معروفًا بعضُ ذلك من لغة بعضها، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها؟ وإنما هو دعوى لا تثبتُ بها [حجّة] ولا صحة. (٥)
* * *
(١) في المطبوعة: " أن اللام في ذي التاء الذي خلق له "، وهو كلام ساقط بمرة واحدة. وكان في المخطوطة: " أن اللام هي البناء... "، والزيادة التي بين القوسين من عندي، لأن الناسخ أسقط: كما هو ظاهر. واستظهرت ذلك من كتاب الفراء، وهذا كله نصه، كما سيأتي.
(٢) في المطبوعة: " ادراكتم "، وفي المخطوطة " قالوا: ادراكوا واثاقلتم "، وأثبت نص الفراء.
(٣) هذا كله نص الفراء في معاني القرآن ١: ٤٦٩.
(٤) في المطبوعة: " وكلام الله "، والجيد ما في المخطوطة.
(٥) في المطبوعة: " لا ثبت بها ولا حجة "، وفي المخطوطة: " لا تثبت بها ولا صحة " فزدت " حجة " بين القوسين، لاقتضاء السياق إياها.
110
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين: (أرأيتم) أيها الناس = (ما أنزل الله لكم من رزق)، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة = (فجعلتم منه حرامًا وحلالا)، يقول: فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) [سورة الأنعام: ١٣٦].
ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا. (١)
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل] يا محمد (آلله أذن لكم) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه (أم على الله تفترون)، : أي تقولون الباطل وتكذبون؟ (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه
(١) انظر ما سلف ١١: ١١٦ - ١٣٤.
(٢) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى).
111
حرامًا وحلالا) وهو هذا. فأنزل الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية [سورة الأعراف: ٣٢].
١٧٦٩٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم) إلى قوله: (أم على الله تفترون)، قال: هم أهل الشرك.
١٧٦٩١- حدثني القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (فجعلتم منه حرامًا وحلالا)، قال: الحرث والأنعام = قال ابن جريج قال، مجاهد: البحائر والسُّيَّب.
١٧٦٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) قال: في البحيرة والسائبة.
١٧٦٩٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا)، الآية، يقول: كل رزق لم أحرِّم حرَّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك، أم على الله تفترون؟
١٧٦٩٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا)، فقرأ حتى بلغ: (أم على الله تفترون)، وقرأ: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [سورة الأنعام: ١٣٩]، وقرأ: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) حتى بلغ: (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) [سورة الأنعام: ١٣٨] فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقًا، فجعلوا منه حرامًا وحلالا وحرموا بعضه وأحلوا بعضه.
112
وقرأ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ)، أيّ هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء، (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا)، إلى آخر الآيات، [سورة الأنعام: ١٤٤].
١٧٦٩٥- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا)، هو الذي قال الله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا) إلى قوله: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، [سورة الأنعام: ١٣٦].
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما ظن هؤلاء الذين يتخرَّصون على الله الكذبَ فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاءً، أنَّ الله فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه؟ أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر؟ كلا بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا = (إن الله لذو فضل على الناس)، يقول: إن الله لذو تفضُّل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة
= (ولكن أكثرهم لا يشكرون)، يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضُّله عليهم بذلك، وبغيره من سائر نعمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما تكون)، يا محمد= (في شأن)، يعني: في عمل من الأعمال= (وما تتلوا منه من قرآن)، يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن (١)
(ولا تعملون من عمل)، يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس، من خير أو شر= (إلا كنَّا عليكم شهودًا)، يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم، إذ تعملونها وتأخذون فيها. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة.
ذكر من قال ذلك:
١٧٦٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إذ تفيضون فيه)، يقول: إذ تفعلون.
* * *
(١) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا.).
(٢) انظر تفسير " الإفاضة " فيما سلف ٤: ١٧٠.
114
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذبَ.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٩٧- حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: (إذ تفيضون فيه)، يقول: تشيعون في القرآن من الكذب. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٦٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذ تفيضون فيه)، في الحق ما كان.
١٧٦٩٩-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٧٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه، ثم وصل ذلك بقوله: (إذ يفيضون فيه)، فكان معلومًا أن قوله: (إذ تفيضون فيه) إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد= لا عن وَقْت تلاوة النبي ﷺ القرآن، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: "إذ يفيضون فيه" خبرًا منه عن المكذبين فيه.
فإن قال قائل: ليس ذلك خبرًا عن المكذبين، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، (٢) أنه شاهده إذْ تلا القرآن.
(١) في المطبوعة: " فتشيعون " بالفاء، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: " ولكن خطاب "، بحذف الهاء، وأثبتها من المخطوطة.
115
=فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل: (إذ تفيضون فيه)، لأن النبي ﷺ واحدٌ لا جمع، كما قال: (وما تتلوا منه من قرآن)، فأفرده بالخطاب= ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه ﷺ بالإفراد، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)، [سورة الطلاق: ١]، وذلك أن في قوله: (إذا طلقتم النساء)، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي ﷺ مع جماعة الناس غيره، لأنه ابتدأ خطابه، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس، والنبي ﷺ فيهم.
=وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد، (١) يحصى عليه ويعلمه كما قال: (وما يعزب عن ربك)، يا محمد، عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء.
* * *
وأصله من "عزوب الرجل عن أهله في ماشيته"، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: "عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ".
* * *
=لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب، غير أني أميل إلى الضم فيه، لأنه أغلب على المشهورين من القراء.
* * *
وقوله: (من مثقال ذرة)، يعني: من زنة نملة صغيرة.
* * *
يحكى عن العرب: "خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك، أي: أخفُّ وزنًا. (٢)
* * *
(١) قوله: " وخبر عن أنه لا يعمل أحد " معطوف على قوله في أول هذه الفقرة: " إنما هو خبر عن وقت عمل العاملين... ".
(٢) انظر تفسير " المثقال " فيما سلف ٨: ٣٦٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٧٨، وهو نص كلامه.
116
و"الذرّة" واحدة: "الذرّ"، و"الذرّ"، صغار النمل. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء، وإن خف في الوزن كلّ الخفة، ومقاديرُ ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم، فإنّا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصُوها ومجازوكم بها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر).
فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من (أَصْغَرَ) و (أَكْبَرَ) على أن معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذرة، وبالأكبر على الأصغر، ثم فتحت راؤهما، لأنهما لا يُجْرَيان.
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين: [وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ] رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال، لأن معناه الرفع. وذلك أن (مِنْ) لو ألقيت من الكلام، لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: "وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ"، وذلك نحو قوله: (مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللهِ)، و (غَيْرُ اللهِ)، [سورة فاطر: ٣]. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ بالفتح، على وجه الخفض والردّ على الذرة، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار، وعليه عَوَامٌّ القراء،
(١) انظر تفسير " الذرة " فيما سلف ٨: ٣٦٠، ٣٦١.
(٢) لم يذكر أبو جعفر قراءة الرفع في هذه الآية، في موضعها من تفسير " سورة فاطر "، فيما سيأتي ٢٢: ٧٧ (بولاق)، وسأشير إلى ذلك في موضعه هناك. وهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر، تفسيره في مواضع، كما أشرت إليه في كثير من تعليقاتي.
117
وهو أصحُّ في العربية مخرجًا، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ.
* * *
وقوله: (إلا في كتاب)، يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله = (مبين)، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. (١) أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه.
* * *
١٧٧٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وما يعزب)، يقول: لا يغيب عنه.
١٧٧٠٢- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: (وما يعزب عن ربك)، قال: ما يغيب عنه.
* * *
(١) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
118
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه = ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
* * *
و"الأولياء" جمع "ولي"، وهو النصير، وقد بينا ذلك بشواهده. (١)
* * *
(١) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي)، ولكن ههنا تفصيل في معنى " أولياء الله "، لم يسبق له نظير.
118
واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم.
فقال بعضهم: هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم، لما عليهم من سيما الخير والإخبات.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٠٣- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال، حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، قال: الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم.
١٧٧٠٤- حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا حدثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (١)
١٧٧٠٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى، مثله.
١٧٧٠٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، قال: الذي يُذْكَر الله لرؤيتهم.
١٧٧٠٧-.... قال، حدثنا ابن مهدي وعبيد الله، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى قال: سمعته يقول في هذه الآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، قال: من الناس مَفَاتِيح، (٢) إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم.
(١) الأثر: ١٧٧٠٤ - " أشعث بن سعد بن مالك القمي "، ثقة، مضى برقم: ٧٨، وهذا خبر مرسل.
(٢) " مفاتيح "، جمع " مفتاح "، وهو الذي يفتح به الباب. وهذا مجاز، إنما أراد أنهم يفتحون باب الخير للناس، وأعظم الخير ذكر الله سبحانه وتعالى.
119
١٧٧٠٨-.... قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن سَهْل أبي الأسد، عن سعيد بن جبير، قال: سُئل رسول الله ﷺ عن "أولياء الله"، فقال: الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله. (١)
١٧٧٠٩-.... قال، حدثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن عبد الله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، قال: الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم
١٧٧١٠-.... قال، حدثنا أبو يزيد الرازي، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن النبي ﷺ قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ.
١٧٧١١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرات، عن أبي سعد، عن سعيد بن جبير قال: سئل النبي ﷺ عن "أولياء الله"، قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله.
١٧٧١٢-.... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، الآية، قال: إن ولي الله إذا رُئِي ذُكِر الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
١٧٧١٣- حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا
(١) الأثر: ١٧٧٠٨ - " سهل أبو الأسد القراري الحنفي " ثقة، مترجم في الكبير ٢ / ٢ / ١٠٠، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٢٠٦، وكان في المطبوعة: " سهل بن الأسد "، وهو تصرف من الناشر وفساد، غير ما في المخطوطة. و " القراري "، بالقاف، قال البخاري: " وقرار، قبيلة "، وهي من حنيفة، من بكر ومما يذكر في كتب الرجال " سهل الفزاري " بالفاء " وسهل بن قلان القراري بالقاف وهو عندهم مجهول، وأخشى أن يكون هو " سهل القراري "، انظر أيضًا ابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٢٠٦، وميزان الاعتدال ١: ٤٣١، ولسان الميزان ٣: ١٢٣. ومهما يكن، فهذا خبر مرسل، عن سعيد بن جبير.
120
أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل: من هم يا رسول الله؟ فلعلنا نحبُّهم! قال: هم قوم تحابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم من نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (١)
١٧٧١٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك! قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (٢)
(١) الأثر: ١٧٧١٣ - " ابن فضيل "، هو " محمد بن فضيل بن غزوان الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٤٢٤٧. وكان في المطبوعة والمخطوطة " أبو فضيل " وهو خطأ، صوابه من تفسير ابن كثير ٤: ٣١٤، إذ نقل هذا الخبر عن هذا الموضع من التفسير. وأبوه: " فضيل بن غزوان الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٤٢٤٧. و" عمارة بن القعقاع الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٤٢٠٣، ١٤٢٠٩، ١٤٧١٥. و" أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة. مضى مرارًا آخرها رقم: ١٤٧١٥، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أبو زرعة، عن عمرو بن حمزة "، ومثله في المخطوطة، و"حمزة " سيئة الكتابة وإنما هي " جرير "، دخل حرف منها على حرف. وقد مضى الخطأ في اسمه مرارًا. وهذا إسناد صحيح.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٣١٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي.
(٢) الأثر: ١٧٧١٤ - سلف بيان رجاله في الإسناد السابق، إلا أن أبا زرعة بن عمرو بن جرير، لم يرو عن عمر إلا مرسلا، فهو إسناد جيد إلا أنه منقطع.
121
١٧٧١٥- حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل، (١) قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، (٢) تحابُّوا في الله، وتصافَوْا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: "الولي" = أعني
(١) "أفناء الناس" أخلاطهم، ومن لا يدري من أي قبيلة هو. و"نوازع القبائل" جمع "نازع" على غير قياس، وهم الغرباء الذين يجاورون قبائل ليسوا منهم. وإنما قلت: "جمع على غير قياس " لأن المشهور "نزاع القبائل" كما ورد في حديث آخر. و"فاعل" الصفة للمذكر، لا يجمع عندهم على "فواعل" إلا سماعًا، نحو "فوارس" و"هوالك".
(٢) في المطبوعة: "لم يتصل "، والصواب من المخطوطة ومسند أحمد
(٣) الأثر: ١٧٧١٥- " بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري " شيخ الطبري، ثقة مضى برقم: ٣٨٤١، ١٠٥٨٨، ١٠٦٤٧، وكان في المطبوعة هنا " الحسن بن نصر الخولاني " لا أدري من أين جاء به هكذا، فأصاب بعض الصواب؟ وهذا عجب. أما المخطوطة، ففيها ا"لحسن بن الخولاني "، والصواب ما أثبت. وروايته عن "يحيى بن حسان" مضت برقم: ٢٦٤٣، إلا أنه وقع هناك خطأ أيضًا في اسمه، فكتب " يحيى بن نصر"، وقد خبطنا في تصحيفه خبط عشواء، والصواب " بحر بن نصر " فليصحح هناك. و"يحيى بن حسان التنيسي المصري "، ثقة، مضى برقم: ٢٦٤٣، والراوي عنه هناك " بحر بن نصر" أيضًا، كما سلف. و"عبد الحميد بن بهرام الفزاري "، ثقة، وثقه أحمد وغيره، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٧٤١٧. و"شهر بن حوشب" مضى مرارًا كثيرة، ومضى توثيقه، وثقه أخي أحمد السيد، رحمه الله وغفر له. و" عبد الرحمن بن غنم الأشعري "، مختلف في صحبته، ويعد من الطبقة الأولى من التابعين، بعثه عمر بن الخطاب يفقه الناس، ولازم معاذ بن جبل، وكان أفقه أهل الشام، وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام، وكان له جلالة وقدر. وأبو مالك الأشعري " هو المشهور بكنيته، والمختلف في اسمه، صحابي، مترجم في الإصابة والتهذيب وسائر الكتب. وهذا خبر صحيح الإسناد. رواه أحمد في مسنده مطولا ٥: ٣٤٣، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٣١٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي.
122
"ولي الله"= هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
١٧٧١٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، من هم يا ربّ؟ قال: (الذين آمنوا وكانوا يتقون)، قال: أبى أن يُتَقَبَّل الإيمان إلا بالتقوى. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين صدقوا لله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتَّقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
* * *
وقوله: (الذين آمنوا) من نعت "الأولياء"، ومعنى الكلام: ألا إن أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
فإن قال قائل: فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك، أفي موضع رفع (الذين آمنوا) أم في موضع نصب؟
قيل: في موضع رفع. وإنما كان كذلك، وإن كان من نعت "الأولياء"، لمجيئه بعد خبر "الأولياء"، والعرب كذلك تفعل خاصة في "إنّ"، إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه فقالوا: "إن أخاك قائم الظريفُ"،
(١) في المطبوعة والمخطوطة " أن يتقبل"، والصواب ما أثبت.
كما قال الله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ)، [سورة سبأ: ٤٨]، وكما قال: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)، [سورة ص: ٦٤]. (١)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك، مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب. وليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون. (٢)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "البشرى"، التي بشر الله بها هؤلاء القوم ما هي؟ وما صفتها؟ فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧١٧- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن شيخ، عن أبى الدرداء، قال: سألت رسول الله
(١) انظر معاني القرآن ١: ٤٧٠، ٤٧١.
(٢) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف ١٤: ٥٠٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
124
صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له. (١)
١٧٧١٨- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال: أخبرنا الأوزاعي قال، أخبرني يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سأل عبادةُ بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك =أو قال: غيرك=. قال: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له. (٢)
(١) الأثر: ١٧٧١٧ - حديث أبي الدرداء، رواه أبو جعفر من طرق، أصنفها في هذا الموضع لأحيل عليها في تخريج الآثار، أثرًا أثرًا.
١ - طريق ذكوان (أبي صالح السمان)، عن شيخ، عن أبي الدرداء، رقم: ١٧٧١٧، ١٧٧٣٣.
٢ - طريق ذكوان (أبي صالح السمان)، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم: ١٧٧٣٥، ١٧٧٤١.
٣ - طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء، بخمسة أسانيد، رقم: ١٧٧٢٢، ١٧٧٢٣، ١٧٧٢٤، ١٧٧٣٤، ١٧٧٣٧.
٤ - طريق عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم: ١٧٧٣٦، ١٧٧٤٣.
٥ - طريق عمرو بن دينار، عن فقيه من أهل مصر، عن أبي الدرداء، رقم: ١٧٧٣٨.
٦ - طريق عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم: ١٧٧٤٣.
وهذا تفسير الإسناد رقم: ١٧٧١٧.
" سليمان "، هو الأعمش "، " سليمان بن مهران "، تابعي ثقة، مضى مرارًا.
و" شيخ "، مجهول، وظاهر أنه تابعي. وعلة هذا الإسناد، جهالة " الشيخ " الذي روى عنه أبو صالح السمان، وسائر الإسناد صحيح حسن. وسيأتي في رقم: ١٧٧٢٢، ١٧٧٣٤، ١٧٧٣٦، ١٧٧٣٧، برواية أبي صالح، عن عطاء بن يسار في الطريق الثانية، والثالثة كما فصلتها آنفا.
(٢) الأثر: ١٧٧١٨ - حديث عبادة بن الصامت من ثلاث طرق:
١ - طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بسبعة أسانيد، رقم:
١٧٧١٨، ١٧٧١٩، ١٧٧٢٠، ١٧٧٢١، ١٧٧٣١، ١٧٧٣٩، ١٧٧٤٠.
٢ - طريق حميد بن عبد الله المزني، عن عبادة بن الصامت، بإسنادين، رقم: ١٧٧٢٥، ١٧٧٥٦. ٣ - طريق أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة رقم: ١٧٧٣٠. وهذا تفسير إسنادنا هذا." العباس بن الوليد بن مزيد الآملي البيروتي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٣٤٦١. وأبوه: " الوليد بن مزيد الآملي البيروتي " ثقة، قال الأوزاعي شيخه: " كتبه صحيحة "، مضى برقم: ١١٨٢١، ١٣٤٦١. و" الأوزاعي "، هو الإمام المشهور." ويحيى بن أبي كثير الطائي "، ثقة، مضى برقم: ٩١٨٩، ١١٥٠٥، ١٢٧٦٠." وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٢٨٢٢. وانظر التعليق على رقم: ١٧٧٢٠ في سماع أبي سلمة من عبادة بن الصامت. وهذا إسناد لم أجده عن طريق الأوزاعي، وانظر التعليق على سائر حديث عبادة بن الصامت في الأرقام التي ذكرتها آنفا.
125
١٧٧١٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود عمن ذكره، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي الرؤية الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. (١)
١٧٧٢٠- حدثنا أبو قلابة قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٢)
(١) الأثر: ١٧٧١٩ - هذا الإسناد لم أجده في سنن أبي داود، يضعفه جهالة الراوي عن يحيى بن أبي كثير، ويسنده سائر الآثار التي رويت عن ثقات، عن يحيى بن أبي كثير.
(٢) الأثر: ١٧٧٢٠ - " أبو قلابة "، هو " عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي الضرير " شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: ٤٣٣١، ٥٦٢٣."ومسلم، " هو " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٣٥١٨." وأبان "، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة. مضى مرارًا آخرها رقم: ١٣٥١٨." وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف "، لم يسمع من عبادة بن الصامت، يدل على ذلك الأثر التالي، وقوله فيه: " نبئت عن عبادة بن الصامت ". فقد ذكر المزي: " أنه لم يسمع من طلحة، وعبادة بن الصامت. فأما عدم سماعه من طلحة فرواه ابن أبي خيثمة والدوري عن ابن معين. وأما عدم سماعه من عبادة، فقاله ابن خراش. ولئن كان كذلك، فلم يسمع أيضًا من عثمان ولا من أبي الدرداء، فإن كلا منهما مات قبل طلحة "، التهذيب في ترجمته. فإذا صح هذا، وهو صحيح عن الأرجح، فأخبار أبي سلمة هذه من عبادة بن الصامت أخبار ضعاف لانقطاعها. ولذلك لم يخرج منها شيء في الصحاح. ومن هذه الطريق، رواه أحمد في مسنده ٥: ٣١٥، عن عفان، عن أبان، عن يحيى. ورواه الدارمي في سننه ٢: ١٢٣، من طريق مسلم بن إبراهيم، عن أبان، وانظر التعليق على رقم: ١٧٧١٨، وسيأتي رقم: ١٧٧٤٠.
126
١٧٧٢١- حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان بن عمر قالا حدثنا علي بن يحيى، عن أبي سلمة قال: نُبّئت أن عبادة بن الصامت سأل رسول الله ﷺ عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (١)
(١) الأثر: ١٧٧٢١ - هذا إسناد مختل في المطبوعة والمخطوطة على السواء، وهو باطل لا شك في بطلانه. وأظنه اضطراب على الناسخ من أصل أبي جعفر.
فقوله " قالا "، يدل على أن الخبر روي عن " ابن المثنى " وعن " أبي عثمان بن عمر "، وأن هذا الثاني شيخ الطبري. ولم أجد في شيوخه من هذه كنيته منسوبًا إلى أبيه " عمر ".
وأخرى أنه قال " حدثنا علي بن يحيى "، وهو باطل أيضًا، فليس في الرواة عن أبي سلمة " علي بن يحيى ".
ولا أكاد أشك أن " أبا عثمان " شيخ الطبري، هو " أبو عثمان "، " أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي "، مضى برقم: ٨٧٦، ٣٠٣٠.
وأن الذي روى عنه " محمد بن المثنى "، هو فيما أرجح، " عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي "، وقد سلفت روايته عنه في رقم: ١٥٢٢٥.
ولكن لست أدري، أروى أيضًا " أبو عثمان المقدمي" شيخ الطبري، عن " عثمان بن عمر بن فارس " أم لم يرو عنه، وإن كنت أرجح أنه خليق أن يروى عنه.
وأما قوله: " علي بن يحيى "، فظاهر أن صوابه: " علي، عن يحيى، عن أبي سلمة "، يعني " علي بن المبارك "، عن " يحيى بن أبي كثير " كما سيأتي في الإسناد رقم: ١٧٧٣٩.
وإذن، فأخشى أن يكون صواب هذا الإسناد هو:
" حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان قالا، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي، عن يحيى، عن أبي سلمة ".
وبذلك يستقم هذا الإسناد الهالك الذي وقع في المطبوعة والمخطوطة.
وتجد هذا الإسناد نفسه، عن محمد بن المثنى، عن عثمان بن عمر بن فارس إلى أبي سلمة، في تاريخ الطبري ٢: ٢٠٨.
ومهما يكن من شيء، فهو بعد ذلك إسناد منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من عبادة بن الصامت، كما سلف في رقم: ١٧٧٢٠.
ثم انظر التعليق على رقم: ١٧٧٣٩، فيما سيأتي.
127
١٧٧٢٢- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: سأل رجلٌ أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألتني عن شيء ما سمعت أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة. (١)
١٧٧٢٣- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منْذ سألت رسول الله ﷺ غيرَك، إلا رجلًا
(١) الأثر: ١٧٧٢٢ - هذا حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة، التي ذكرتها في التعليق على رقم: ١٧٧١٧.
" أبو معاوية " الضرير هو " محمد بن خازم "، إمام ثقة، مضى مرارًا.
و" الأعمش "، هو " سليمان بن مهران " الإمام. مضى قريبًا رقم: ١٧٧١٧.
و"أبو صالح" هو "ذكوان"، مضى برقم: ١٧٧١٧
و" عطاء بن يسار " تابعي ثقة، مضى مرارًا، يروي عن أبي الدرداء مباشرة. ولكنه روى الخبر هنا عن رجل من أهل مصر، وكان عطاء قد قدم مصر، ومات بالإسكندرية.
فهذا خبر في إسناده علة، لجهالة الذي روى عنه أبو الدرداء. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري ١٢: ٣٣١، رواية الخبر عن عطاء بن يسار، وقال: " ذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف "، ولكن في نسخة " الفتح " خطأ، فإنه كتب " من طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن عبادة "، والصواب " عن أبي الدرداء ".
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من طريق أبي معاوية عن الأعمش في موضعين من مسنده ٦: ٤٤٧، ٤٥٢.
وانظر التعليق على رقم: ١٧٧١٧.
128
واحدًا! سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلًا واحدًا، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (١)
١٧٧٢٤- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمع عطاء بن يسار يخبر، عن رجل من أهل مصر: أنه سأل أبا الدرداء عن: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، ثم ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني، عن عثمان بن سعيد. (٢)
١٧٧٢٥- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثني يحيى بن سعيد قال، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسيّ، عن حميد بن عبد الله المزني قال: أتَى رجلٌ عبادةَ بن الصامت فقال: آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"؟ فقال عبادة: ما سألني عنها أحدٌ قبلك! سألت عنها رسول الله ﷺ فقال مثل ذلك:
(١) الأثر: ١٧٧٢٣ - " سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني "، شيخ الطبري، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٤٢٦٦. وكان في المخطوطة سيئ الكتابة، يشبه أن يكون " محمد بن عمرو "، والصواب ما في المطبوعة.
و" عثمان بن سعيد "، لعله: " عثمان بن سعيد بن دينار القرشي "، ثقة مترجم في التهذيب.
و" سفيان "، هو " سفيان بن عيينة ".
و" ابن المنكدر "، هو " محمد بن المنكدر "، أحد الأئمة الأعلام مضى مرارًا برقم: ٣٨٢٩، ١٠٨٦٩.
وهذا إسناد صحيح إلى عطاء، كسائر الأسانيد السالفة، إلا ما فيه من جهالة الرجل من أهل مصر.
رواه أحمد في مسنده ٦: ٤٤٧، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، وفي كتاب الرؤيا، من طريق ابن أبي عمر العدني، عن سفيان.
وانظر التعليق على رقم: ١٧٧١٧، وسيأتي من طريق أخرى بعد هذه رقم: ١٧٧٢٤، وانظر أيضًا التعليق على رقم: ١٧٧٤٣.
(٢) الأثر: ١٧٧٢٤ - هو مكرر الأثر السالف.
" عمرو بن عبد الحميد الآملي "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٣٧٥٩، ١٠٣٧٨.
129
ما سألني عنها أحدٌ قبلك، الرؤيا الصالحة يراها العبدُ المؤمن في المنام أو تُرَى له. (١)
١٧٧٢٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة، هي البشرى، يراها المسلم، أو تُرَى له. (٢)
١٧٧٢٧-.... قال، حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح
(١) الأثر: ١٧٧٢٥ - حديث عبادة بن الصامت، هذه هي الطريق الثانية التي أشرت إليها في التعليق على رقم: ١٧٧١٨، وسيأتي من طريق أخرى رقم: ١٧٧٥٦.
" أبو حميد الحمصي "، " أحمد بن المغيرة "، هو " أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار " أو " أحمد بن محمد بن سيار "، هكذا يذكر في التفسير أحيانًا، شيخ الطبري، مضى مرارًا منها: ٣٤٧٣، ٥٧٥٣، ٨١٦٤، ٨٩٨٤.
و" يحيى بن سعيد "، هو العطار الشامي الدمشقي، ضعفوه، مضى برقم: ٥٧٥٣، ٩٢٢٤، ولكن أخي السيد أحمد في التعليق على رقم: ٥٧٥٣، مال إلى توثيقه.
و" عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي " ويقال في اسمه: " عمرو "، صالح الحديث، من ثقات الشاميين، أدرك عبد الله بن بسر، ويروي عن أبي عمرو الأنصاري، والمخارق بن أبي المخارق الذي يروي عن ابن عمر، روى عنه يحيى بن سعيد العطار، مترجم في ابن أبي حاتم ٣ ١ ١٢٧، وتعجيل المنفعة: ٣١٣.
و" الأحموسي "، ضبطه الحافظ بالضم، والواو بعد الميم.
وأما " حميد بن عبد الله المزني "، فهكذا هو في المخطوطة، وفي مسند أحمد ٥: ٣٢٥ " حميد بن عبد الرحمن اليزني "، وفي ابن أبي حاتم " حميد بن عبد الله المدني ". وأما في التاريخ الكبير للبخاري، فاقتصر على " حميد بن عبد الله " غير منسوب إلى بلدة أو قبيلة. وأمر نسبته، لم أستطع أن أفصل فيه، لقلة ما ذكر عنه. وأما الاختلاف في اسم أبيه، فلم أجده في غير مسند أحمد، فلا أدري أهو خطأ في نسخة المسند أم لا. قال البخاري: " حميد بن عبد الله، سمع عبد الرحمن بن أبي عوف، ومالك بن أبي رشيد، سمع منه محمد بن الوليد الزبيدي، وصفوان بن عمرو، وعمر الأحموسي "، ومثله في ابن أبي حاتم.
مترجم في الكبير ١ ٢ ٣٥٢، وابن أبي حاتم ١ ٢ ٢٢٤، ولم يذكر فيه جرحًا.
وهذا خبر منقطع بين حميد، وعبادة بن الصامت.
(٢) الأثر: ١٧٧٢٦ - حديث أبي هريرة، رواه الطبري من: طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، وطريق أبي صالح، عن أبي هريرة.
"أبو بكر "، هو "أبو بكر بن عياش". ثقة مضى مرارًا، آخرها رقم ١٤٨٠٥.
و"هشام" هو " هشام بن حسان الأزدي القردوسي "، أحد الأعلام، مضى مرارًا كثيرة، كان من أحفظ الناس عن ابن سيرين.
فهذا خبر صحيح الإسناد. وانظر التخريج في الخبرين التاليين.
130
قال، قال أبو هريرة: الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي المبشِّرات. (١)
١٧٧٢٨- حدثنا محمد بن حاتم المؤدب قال، حدثنا عمار بن محمد قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له = وهي في الآخرة الجنة. (٢)
١٧٧٢٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن يزيد قال، حدثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السَّمْح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي ﷺ أنه قال: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" الرؤيا الصالحة يُبَشَّر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوّة. (٣)
(١) الأثر: ١٧٧٢٧ - هذا حديث موقوف على أبي هريرة.
"أبو بكر " هو " أبو بكر بن عياش "، كما سلف.
و" أبو حصين " هو: " عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة.
و" أبو صالح " هو " ذكوان" السمان، مضى قريبًا برقم: ١٧٧١٧. وهذا خبر موقوف صحيح الإسناد، وسيأتي بعده مرفوعًا.
(٢) الأثر: ١٧٧٢٨ - " محمد بن حاتم بن سليمان الزمي "، المؤدب، شيخ أبي جعفر، ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ ٢ ٢٣٨، وتاريخ بغداد ٢: ٢٦٨.
و"عمار بن محمد الثوري "، ابن أخت " سفيان الثوري "، لا بأس به، روى عنه أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو كريب، وثقه ابن سعد وابن معين، والبخاري وقال: " كان أوثق من سيف "، وسيف أخوه، كان شيخًا كذابًا خبيثًا يضع الحديث. وقال ابن حبان في عمار: " فحش خطأه وكثر وهمه، فاستحق الترك " وظني أن ابن حبان قد غالى فيه علوا شديدًا. ومع ذلك فأخشى أن يكون قوله هذا تفسيرا لقول البخاري إنه أوثق من سيف أخيه الكذاب، وكأنه ضعفه شيئًا، لا يبلغ منه مبلغ الترك والإسقاط، مترجم في التهذيب، والكبير ٤ ١ ٢٩، وابن أبي حاتم ٣ ١ ٣٩٣.
وإسناد هذا الخبر، إسناد صالح. وأما الإسناد الجيد الصحيح، فهو إسناد مسلم في صحيحه ١٥: ٢٣، حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رؤيا المسلم يراها أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
(٣) الأثر: ١٧٧٢٩ - حديث عبد الله بن عمرو، سيأتي من طريق أخرى رقم: ١٧٧٥٤.
و" محمد بن يزيد " الذي روى عنه أبو كريب، لم يبين هنا، وأظنه " محمد بن يزيد الحزامي البزاز " روى عن ابن المبارك، والوليد بن مسلم، وضمرة بن ربيعة، وشريك، وابن عيينة. روى عنه البخاري في التاريخ، وأبو كريب، مترجم في التهذيب، والكبير ١ ١ ٢٦١، وابن أبي حاتم ٤ ١ ١٢٨، وميزان الاعتدال ٣: ١٥٠، ولم يذكر فيه البخاري جرحًا.
وأما " رشدين بن سعد المصري "، فهو ضعيف الحديث، مضى تضعيفه برقم: ١٩، ١٩٣٨، ٢١٧٦، ٢١٩٥. و " أبو كريب " يروي عن " رشدين " مباشرة، كما سلف في الآثار التي ذكرتها.
و" عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري "، ثقة حافظ، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٣٥٧٠.
وأما " أبو السمح "، فهو " دراج بن سمعان "، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص. ثقة، متكلم فيه، ورجح أخي السيد أحمد رحمه الله توثيقه فيما سلف، رقم: ٣١٨٧، ٥٥١٨. وكان في المطبوعة: " عن أبي الشيخ " وهو خطأ صرف. وفي المخطوطة مثله رسمًا غير منقوط. والصواب ما أثبت، كما سيأتي في رقم: ١٧٧٥٤.
و" عبد الرحمن بن جبير المصري "، الفقيه، ثقة، روى عن عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر، وعمرو بن غيلان بن سلمة الثقفي، وأبي الدرداء،. كان عبد الله بن عمرو به معجبًا. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ ٢ ٢٢١.
وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف " رشدين بن سعد ": وسيأتي بإسناد صالح فيما سيأتي رقم: ١٧٧٥٤.
131
١٧٧٣٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقد عرفنا بشرى الآخرة، فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا = أو ستين جزءًا = من النبوة. (١)
(١) الأثر: ١٧٧٣٠ - حديث عبادة بن الصامت، هذا هو الطريق الثالث من طرقه.
" موسى بن عبيدة الربذي "، ضعيف لا تحل الرواية عنه، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٦٢٢٩.
و" أيوب بن خالد بن صفوان الأنصاري "، ثقة، متكلم فيه. روى عن جابر بن عبد الله، وعن التابعين، مترجم في التهذيب، والكبير ١ ١ ٤١٢، وابن أبي حاتم ١ ١ ٢٤٥، وفرق البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم بينه وبين " أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري، " وكذلك فرق بينهما أبو زرعة، قال الحافظ ابن حجر " وجعلها ابن يونس واحدًا. قلت: وسبب ذلك أن خالد بن صفوان والد أيوب، وأمه عمرة بنت أبي أيوب الأنصاري، فهو جده لأمه، فالأشبه قول ابن يونس، فقد سبق إليه البخاري ". وقد رأيت أن البخاري قد فرق بينهما في تاريخه، فلا أدري من أين قال ذلك الحافظ ابن حجر؟
وهذا إسناد ضعيف، لضعف " موسى بن عبيدة "، وهو إسناد منقطع أيضًا، لأن " أيوب بن خالد " لم يرو عن عبادة بن الصامت.
وكان في المطبوعة: " أو سبعين جزءًا من النبوة "، وأثبت ما في المخطوطة.
132
١٧٧٣١- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله ﷺ عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. (١)
١٧٧٣٢- حدثنا أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز الكعبية: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات. (٢)
(١) الأثر: ١٧٧٣١ - حديث عبادة بن الصامت، هذه هي الطريق الأول من طرقه، كما فصلتها في رقم: ١٧٧١٨، وهو إسناد آخر للخبر رقم: ١٧٧١٨.
(٢) الأثر: ١٧٧٣٢ - " أحمد بن حماد بن سعيد الدولابي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: ٢٥٩٣، ٣٥٧١.
و" سفيان "، هو " ابن عيينة ".
و" عبيد الله بن أبي يزيد المكي "، ثقة، مضى برقم: ٢٠، ٣٧٧٨، ١٠٢٧٤، ١٤٦٧٣ - ١٤٦٧٧.
وأبوه " أبو يزيد المكي "، ثقة، مضى برقم: ٢٠.
و" سباع بن ثابت "، حليف لبني زهرة، عدّه ابن حجر وابن الأثير في الصحابة، مترجم، فيهما، وفي ابن أبي حاتم ٢ ١ ٣١٢، ولم يذكر له صحبة. وكان في المخطوطة وحدها " سباع بن أبي ثابت "، والصواب ما في المطبوعة.
وهذا الخبر من طريق سفيان بن عيينة، بهذا الإسناد، ورواه ابن ماجة في سننه ص: ١٢٨٣، رقم: ٣٨٩٦، والدارمي في سننه ٢: ١٢٣، بمثله. ورواه أحمد في مسنده ٦: ٣٨١، من طريق سفيان بن عيينة أيضًا، وروى معه ثلاثة أحاديث بالإسناد نفسه وفيه " عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت "، فقال أبو عبد الرحمن ولده: " سمعت أبي يقول: سفيان يهم في هذه الأحاديث. عبيد الله، سمعها من سباع بن ثابت "، ثم ساق أحد الأحاديث الأربعة من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال حدثني سباع بن ثابت "، مصرحًا بالتحديث.
وذكر ابن أبي حاتم في ترجمة " سباع بن ثابت " أن عبيد الله بن أبي يزيد، روى عن سباع بن ثابت " من رواية ابن جريج، وحماد بن زيد، عنه. وقال: " وأما ابن عيينة، فيروى عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت ".
وهذا خبر صحيح، على ما فيه من الاختلاف، وإنما الوهم فيه من سفيان.
133
١٧٧٣٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن رجل، عن أبي الدرداء، عن النبي ﷺ في قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، قال: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. (١)
١٧٧٣٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل كان بمصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. (٢)
١٧٧٣٥-.... قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي ﷺ عن قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: ما سألني عنها أحد غيرُك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (٣)
(١) الأثر: ١٧٧٣٣ - حديث أبي الدرداء، من الطريق الأولى التي بينتها في التعليق على رقم: ١٧٧١٧، وروايته هنا من طريق الأعمش، عن أبي صالح ذكوان. وانظر التعليق على رقم: ١٧٧١٧.
ومن هذه الطريق رواها أحمد في مسنده ٦: ٤٤٥، بإسناده عن عبد الرازق، عن سفيان.
(٢) الأثر: ١٧٧٣٤ - حديث أبي الدرداء، من الطريق الثالثة التي بينتها في رقم: ١٧٧١٧، وهو مكرر رقم ١٧٧٢٢، وقد خرجته هناك.
(٣) الأثر: ١٧٧٣٥ - هذه هي الطريق الثانية لحديث أبي الدرداء أيضًا، ولكنه رواية أبي صالح ذكوان، عن أبي الدرداء مباشرة، كما سيأتي برقم: ١٧٧٤١، وقد فصلت ذلك في التعليق على رقم ١٧٧١٧. وهذه هي الطريق التي أشار إليها الترمذي في سننه، في كتاب التفسير، تذييلا على الخبر الذي رواه أبو جعفر برقم: ١٧٧٢٤.
و" عاصم "، هو " عاصم بن بهدلة "، و" عاصم بن أبي النجود "، وهو ثقة، روى له الجماعة، روى له الشيخان مقرونًا بغيره، لأنه كان في حفظه شيء. فأخشى أن يكون هذا الذي انفرد به مما ساء حفظه فيه. وانظر التعليق على سائر حديث أبي الدرداء.
134
١٧٧٣٦-.... قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء في قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. (١)
١٧٧٣٧-.... قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح = قال ابن عيينة: ثم سمعته من عبد العزيز، عن أبي صالح السمان= عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلت عليَّ إلا رجلٌ واحدٌ، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (٢)
١٧٧٣٨-.... قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار: أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيهًا، قدم عليهم في بعض تلك المواسم، قال قلت: ألا تخبرني عن قول الله تعالى ذكره: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ؟ قال: سألت عنها أبا الدرداء، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله ﷺ فقال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو تُرَى له. (٣)
(١) الأثر: ١٧٧٣٦ - هذه هي الطريق الرابعة لحديث أبي الدرداء، وهي رواية أبي صالح السمان " ذكوان "، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة. و" عطاء بن يسار "، يروي عن أبي الدرداء.
وإسناده حسن. وانظر ما قلته في التعليق على رقم: ١٧٧١٧، وما سيأتي في رقم: ١٧٧٤٣.
(٢) الأثر: ١٧٧٣٧ - حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة التي بينتها في رقم: ١٧٧١٧.
وهذا الخبر سمعه ابن عيينة من عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، ثم سمعه من عبد العزيز بن رفيع مباشرة.
" وعبد العزيز بن رفيع الأسدي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٤٨١٠.
ومن هذه الطريق، رواه الترمذي في السنن، في كتاب التفسير، تعقيبًا للأثر السالف برقم: ١٧٧٢٤. ورواه أحمد في مسنده ٦: ٤٤٧، من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد العزيز بن رفيع، ليس بينهما " عمرو بن دينار ".
(٣) الأثر: ١٧٧٣٨ - هذه هي الطريق الخامسة، لحديث أبي الدرداء.
" عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي "، ثقة، مضى برقم: ١٠٨٨٥.
و" حاتم بن أبي صغيرة "، ثقة، مضى برقم: ١٧٤١٠، ١٧٤١١.
و" عمرو بن دينار "، لم يسمع من أبي الدرداء، ولكنه رواه هنا عن مجهول، وهو " فقيه من أهل مصر ". فهو حديث ضعيف.
135
١٧٧٣٩-.... قال، حدثنا أبي، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. (١)
١٧٧٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد الطيالسي قالا حدثنا أبان قال، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله، قال الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك = أو: أحدٌ من أمتي = قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرَى له. (٢)
١٧٧٤١-.... قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا الدرداء، وسئل عن:
(١) الأثر: ١٧٧٣٩ - " حديث عبادة بن الصامت، من الطريق الأولى التي بينتها في رقم: ١٧٧١٨.
وقد فصلت الحديث عنه في التعليق على رقم: ١٧٧٢١، ذلك الإسناد المختل، وفي رقم: ١٧٧٢٠، وبينت علته هناك.
ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده ٥: ٣١٥.
وابن ماجه في سننه ص: ١٢٨٣، رقم: ٣٨٩٨.
والحاكم في المستدرك ٢: ٣٤٠، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وقد بينت قبل أن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من عبادة بن الصامت، فهو إسناد منقطع. فهذه علته، وإن كان سائر الإسناد صحيحًا.
(٢) الأثر: ١٧٧٤٠ - حديث عبادة من الطريق الأولى، كالذي قبله، وهو مكرر رقم: ١٧٧٢٠، وقد خرجته هناك.
136
(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك منذ سألت رسول الله ﷺ عنها، فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له. (١)
١٧٧٤٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها الإنسان أو تُرَى له. (٢)
١٧٧٤٣-.... وقال: ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء = أو ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي ﷺ عنها فقال: هي الرؤيا الصالحة. (٣)
١٧٧٤٤-.... وقال ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: هي الرؤيا يراها الرجل.
١٧٧٤٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
(١) الأثر: ١٧٧٤١ - حديث أبي الدرداء من الطريق الثانية، وهو مكرر رقم: ١٧٧٣٥، وخرجته هناك.
(٢) الأثر: ١٧٧٤٢ - " عبيد الله بن أبي يزيد المكي "، ثقة، مضى قريبًا رقم: ١٧٧٣٢ ونافع بن جبير بن مطعم النوفلي" تابعي مشهور وأحد الأئمة. مضى برقم ١٧٤٢٩. وهذا الخبر، رواه نافع عن صحابي لم يصرح باسمه، لعله أبو هريرة، وجهالة الصحابي لا تضر. فهو حديث صحيح إن شاء الله.
(٣) الأثر: ١٧٧٤٣ - حديث أبي الدرداء هذا من طريقين: طريق عمرو بن دينار عن أبي الدرداء، بلا واسطة، وهي الطريق السادسة التي بينتها في رقم: ١٧٧١٧." وعمرو بن دينار " لم يسمع من أبي الدرداء، كما بينت في رقم: ١٧٧٣٨، فهو ضعيف لانقطاعه.
وطريق محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، وهي الطريقة الرابعة. وقد سلف بيانها في تخريج الخبر رقم: ١٧٧٣٦، وانظر أيضًا حديث محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء، رقم: ١٧٧٢٣، ١٧٧٢٤.
137
١٧٧٤٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح.
١٧٧٤٧-.... قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
١٧٧٤٨-.... قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن طلحة القناد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. (١)
١٧٧٤٩- قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: الرؤيا من المبشِّرات.
١٧٧٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد: أن رجلا سأل النبي ﷺ عنها، فقال: "ما سألني عنها أحدٌ من أمتي منذ أنزلت عليّ قبلك! قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو تُرَى له. (٢)
١٧٧٥١-.... قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، أن ابن مسعود قال: ذهبت النبوة، وبقيت المبشِّرات! قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (٣)
١٧٧٥٢- قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، فهو قوله لنبيه: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا)، [سورة الأحزاب: ٤٧]. قال: هي
(١) الأثر: ١٧٧٤٨ - هذا خبر موقوف على ابن عباس.
(٢) الأثر: ١٧٧٥٠ - هذا خبر مرسل.
(٣) الأثر: ١٧٧٥١ - هذا خبر موقوف على ابن مسعود، صحيح الإسناد.
138
الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو تُرَى له.
١٧٧٥٣-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن عطاء في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: هي رؤيا الرجل المسلم يبشَّر بها في حياته.
١٧٧٥٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث أن درَّاجًا أبا السمح حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله ﷺ أنه قال: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) : الرؤيا الصالحة يبشَّر بها المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة. (١)
١٧٧٥٥- حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه في هذه الآية: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له.
١٧٧٥٦- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا حميد بن عبد الله: أن رجلا سأل عبادة بن الصامت عن قول الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، فقال عبادة: لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ قبلك، ولقد سألت رسول الله ﷺ عما سألتني فقال لي: يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ من أمتي! تلك
(١) الأثر: ١٧٧٥٤ - حديث عبد الله بن عمرو، مضى من طريق أخرى ضعيفة، برقم: ١٧٧٢٩. " عمرو بن الحارث المصري "، ثقة، مضى برقم: ١٧٧٢٩.
و" دراج بن سمعان "، " أبو السمح "، ثقة، مضى أيضًا برقم: ١٧٧٢٩، وتوثيق أخي السيد أحمد رحمه الله، له. وقد رواه أحمد مطولا في سنده، برقم: ٧٠٤٤، من طريق حسن بن الأشيب، عن لهيعة، عن دراج أبي السمح، وقال أخي: " إسناده صحيح ". وخرجه في مجمع الزوائد ٧: ١٧٥، وقال: " رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن دراج " وحديثهما حسن، وفيهما ضعف. وبقية رجاله ثقات ". وهذه الطريق الأخرى من رواية ابن وهب، أوثق من طريق ابن لهيعة. وخرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد ٧: ٣٦، وقال نحوه.
139
الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى له. (١)
* * *
وقال آخرون: هي بشارة يبشَّر بها المؤمن في الدنيا عند الموت.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٥٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، وقتادة: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا.
١٧٧٥٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى، عن أبي بسطام، عن الضحاك: (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، قال: يعلم أين هو قبل الموت.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له = ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه". (٢)
(١) الأثر: ١٧٧٥٦ - هذه هي الطريق الثانية لحديث عبادة بن الصامت، التي ذكرتها في رقم: ١٧٧١٨.
" محمد بن عوف بن سفيان الطائي "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٥٤٤٥، ١٢١٩٤، ١٣١٠٨ " وأبو المغيرة "، هو " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، ثقة، مضى برقم: ١٠٣٧١، ١٢١٩٤، ١٣١٠٨. " وصفوان " هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة، مضى برقم: ٧٠٠٩، ١٢٨٠٧، ١٣١٠٨ رواه أحمد من هذا الطريق نفسها في السند ٥: ٣٢٥، عن أبي المغيرة، عن صفوان، عن حميد بن عبد الرحمن اليزني. " وحميد بن عبد الله "، مضى برقم: ١٧٧٢٥، ويشبه هناك " المزني "، وذكرت أن في ابن أبي حاتم " المدني "، وفي المسند " اليزني "، كما رأيت. ثم اختلاف آخر، في المسند " حميد بن عبد الرحمن اليزني "، ولكني لم أجد هذا الاختلاف في شيء من الدواوين، فأخشى أن يكون خطأ ناسخ من نساخ المسند. وسلف في رقم: ١٧٧٢٥. أن هذا إسناد منقطع بين " حميد بن عبد الله "، وعبادة بن الصامت.
(٢) حديث بغير إسناد، لم أستطع أن أجده بلفظه في مكان قريب.
140
ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ من الثواب الجزيل، كما قال جل ثناؤه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) الآية، [سورة البقرة: ٢٥].
وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه: أن (لهم البشرى في الحياة الدنيا)، وأما في الآخرة فالجنة.
* * *
وأما قوله: (لا تبديل لكلمات الله)، فإن معناه: إن الله لا خُلْفَ لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يُمْضي لخلقه مواعيدَه وينجزها لهم، (١) وقد:-
١٧٧٥٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع قال: أطال الحجاج الخطبة، فوضع ابن عمر رأسَه في حِجْري، فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله! فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير! لا تبديل لكلمات الله! فقال الحجاج: لقد أوتيت علمًا إن نفعك! (٢) = قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصّة نفسه سكَتَ. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " تبديل الكلمات " فيما سلف ٢: ٦٢، تعليق: ١، ٣، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " لقد أوتيت علما أن تفعل "، وهو بين الفساد، صوابه من المستدرك للحاكم.
(٣) الأثر: ١٧٧٥٩ - رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٣٩، ٣٤٠، من طريق أبي النعمان، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، بمثله، ليس فيه كلمة أيوب. وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وهذا خبر عظيم القدر فيه أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظاهرة كما علمهم رسولهم، من ترك هيبة الجبابرة، ومن إنكار المنكر من القول والعمل، ومن اليقظة لمعاني الكلام ومقاصد الأعمال، ومن تعليم الناس جهرة أخطاء أمرائهم والولاة عليهم، ومن الصبر على أذى هؤلاء الجبابرة إذا كان الأذى يمسهم في خاصة أنفسهم. فأما إذا كان الأمر أمر الله وأمر رسوله، وأمر الكتاب المنزل بالحق إلى الديانين والجبابرة جميعًا، يأمرهم وينهاهم على السواء، فهم لا يخافون جبارًا قد عود سيفه سفح الدماء، ودرب لسانه على اللذع والقرص واللجاجة. فرحم الله أمة كان هؤلاء النبلاء، أئمتها وهداتها!
141
وقوله: (ذلك هو الفوز العظيم)، يقول تعالى ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة = "وهي الفوز العظيم"، يعني الظفر بالحاجة والطَّلبة والنجاة من النار. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزنكَ، يا محمد، قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام (٢) = فإنّ العزة لله جميعًا، يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة، لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحدٌ، لأنه لا يُعَازُّه شيء (٣) = (هو السميع العليم)، يقول: وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه، وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، مُحْصًى ذلك عليهم كله، وهو لهم بالمرصاد. (٤)
* * *
وكسرت "إن" من قوله: (إن العزة لله جميعًا) لأن ذلك خبرٌ من الله مبتدأ، ولم يعمل فيها "القول"، لأن "القول"، عني به قول المشركين، وقوله: (إن العزة لله جميعًا)، لم يكن من قِيل المشركين، ولا هو خبرٌ عنهم أنهم قالوه. (٥)
* * *
(١) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ١٤: ٤٣٩، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الحزن " فيما سلف ١٠: ١٠٨، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " العزة " فيما سلف ١٠: ٤٢١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " السميع " و " العليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع)، (علم).
(٥) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧١، ٤٧٢ وفيه تفصيل موقع " إن " بعد " القول " وشبهه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (٦٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن لله يا محمد كلَّ من في السموات ومن في الأرض، ملكًا وعبيدًا، لا مالك لشيء من ذلك سواه. يقول: فكيف يكون إلهًا معبودًا من يعبُده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب؟ = (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء)، يقول جل ثناؤه: وأيُّ شيء يتبع من يدعو من دون الله = يعني: غير الله وسواه = شركاء. ومعنى الكلام: أيُّ شيءٍ يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبًا، والله المنفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض؟ = (إن يتبعون إلا الظن)، يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين (١) = (وإن هم إلا يخرصون)، يقول: وإن هم إلا يتقوّلون الباطل تظنِّيًا وتَخَرُّصا للإفك، (٢) عن غير علمٍ منهم بما يقولون.
* * *
(١) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة (ظنن).
(٢) في المطبوعة: " تظننا " وأثبت ما في المخطوطة معجما، على قلة إعجام الحروف فيها.
" والتظني "، هو " التظنن "، وإنما قلبت نونه الآخرة ياء لتوالي النونات وثقل تواليها، وهو كثير فاش في كلام العرب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة، هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من النهار، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التَّعب والنَّصب، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار (١) = (والنهار مبصرًا)، يقول:: وجَعَل النهار مبصرًا، فأضاف "الإبصار" إلى "النهار"، وإنما يُبْصَر فيه، وليس "النهار" مما يبصر، ولكن لما كان مفهوما في كلام العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم،
وذلك كما قال جرير:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلانَ فِي السُّرَى وَنِمتِ، وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ (٢)
فأضاف "النوم" إلى "الليل" ووصفه به، ومعناه نفسه، أنه لم يكن نائمًا فيه هو ولا بَعِيره.
* * *
يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئًا.
* * *
وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)، يقول تعالى ذكره: إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما، دلالةً وحججًا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق الليل والنهار، وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق
(١) انظر تفسير " جعل " فيما سلف في فهارس اللغة (جعل).
(٢) ديوانه: ٥٥٤، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٧٩، من قصيدة له طويلة، أجاب بها الفرزدق.
سكنًا، وهذا لهم معاشًا، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئًا، ولا يضر ولا ينفع.
* * *
وقال: (لقوم يسمعون)، لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها، فيعتبرون بها ويتعظون. ولم يرد به: الذين يسمعون بآذانهم، ثم يعرضون عن عبره وعظاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من قومك، يا محمد: (اتخذ الله ولدًا)، وذلك قولهم: "الملائكة بنات الله". يقول الله منزهًا نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك: "سبحان الله"، تنزيهًا لله عما قالوا وادَّعوا على ربهم (١) = "هو الغني" يقول: الله غنيٌّ عن خلقه جميعًا، فلا حاجة به إلى ولد، (٢) لأن الولد إنما يَطْلُبه من يطلبه، ليكون عونًا له في حياته وذكرًا له بعد وفاته، والله عن كل ذلك غنيٌّ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره، ولا يبيدُ فيكون به حاجة إلى خلف بعده = (له ما في السموات وما في الأرض)، يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض مِلْكًا، والملائكةُ عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدًا؟ يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون؟ = (إن عندكم من سلطان بهذا)، يقول: ما عندكم أيها القوم،
(١) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص: ٤٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الغني " فيما سلف ١٢: ١٢٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله، من حجة تحتجون بها = وهي السلطان (١) = أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه، جهلا منكم بما تقولون، بغير حجة ولا برهان؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد، لهم (إن الذين يفترون على الله الكذب)، فيقولون عليه الباطل، ويدّعون له ولدًا (٢) = (لا يفلحون)، يقول: لا يَبْقَون في الدنيا (٣)
، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كُتِب فناؤهم فيه (٤) = (ثم إلينا مرجعهم)، يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم، إلينا مصيرهم ومنقلبهم (٥)
= (ثم نذيقهم العذاب الشديد)، وذلك إصلاؤهم جهنم (٦) = (بما كانوا يكفرون) بالله في الدنيا، فيكذبون رسله، ويجحدون آياته.
* * *
ورفع قوله: (متاع) بمضمر قبله إما "ذلك"، وإما "هذا". (٧)
* * *
(١) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف ١٢: ٥٢٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى).
(٣) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: ٤٦، ، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف ص: ٥٣، ، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٥) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: ٩٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٦) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: ١٠٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٧) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٢، وفيه ": إما (هو)، وإما (ذاك) ".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واتل) على هؤلاء المشركين الذي قالوا: (اتخذ الله ولدًا)، من قومك (١) = (نبأ نوح)، يقول: خبر نوح (٢) (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي)، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، (٣) = (وتذكيري بآيات الله)، يقول، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك (٤) = (فعلى الله توكلت)، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي، وهو سَنَدي وظهري (٥) = (فأجمعوا أمركم)، يقول: فأعدُّوا أمركم، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. (٦)
* * *
يقال منه: "أجمعت على كذا"، بمعنى: عزمت عليه، (٧)
ومنه قول النبي
(١) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا).
(٢) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: ١٠٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " كبر " فيما سلف ١١: ٣٣٦، ٣٣٧.
(٤) انظر تفسير " التذكير " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر).
(٥) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ١٤: ٥٨٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٦) في المطبوعة: " وما تقدمون عليه "، وفي المخطوطة: " وما سومون " غير منقوطة، وهو وهم من الناسخ، والصواب الذي أرجحه، ما أثبت، لأن " الإجماع " هو إحكام النية والعزيمة.
(٧) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣، وقد فصل القول فيه هناك.
147
صلى الله عليه وسلم:: "من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له"، بمعنى: من لم يعزم، (١) ومنه قول الشاعر: (٢)
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لا تَنْفَعُ هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ (٣)
* * *
وروي عن الأعرج في ذلك ما:-
١٧٧٦٠- حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الوهاب، عن هارون، عن أسيد، عن الأعرج: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم)، يقول: أحكموا أمركم، وادعوا شركاءكم. (٤)
ونصب قوله: (وشركاءكم)، بفعل مضمر له، وذلك: "وادعوا شركاءكم"، وعطف ب"الشركاء" على قوله: (أمركم)، على نحو قول الشاعر:
(١) هذا حديث رواه بلا إسناد. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث حفصة أم المؤمنين. انظر سنن أبي داود ٢: ٤٤١، ٤٤٢، رقم: ٢٤٥٤.
(٢) لم أعرف قائله، ولكني أظنه لأبي النجم، هكذا أذكر.
(٣) نوادر أبي زيد: ١٣٣، معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣، اللسان (جمع)، (زفا)، وبعده فيما روى أبو زيد: وَتَحْتَ رَحْلِي زَفَيَانٌ مَيْلَعُ
حَرْفٌ، إذَا مَا زُجِرَتْ تَبَوَّعُ.
(٤) الأثر: ١٧٧٦٠ - " عبد الوهاب "، هو " عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي "، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٤٢٢٩. " وهارون " هو " هارون بن موسى " الأعور النحوي، مضى برقم: ٤٩٨٥، ١١٦٩٣، ١٥٥١٤، ١٥٥١٥." وأسيد "، هو " أسيد بن أبي أسيد، يزيد "، البراد. روى الحروف عن الأعرج، مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ١/ ٤٩، ولم يزد على أن قال " أسيد، حدثنا موسى، حدثنا هارون، عن أسيد سمع عكرمة، وعن الأعرج في القراءة "، لم يذكر له نسبًا. وفي ابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣١٦، في ترجمة " أسيد بن يزيد المدني "، وقال: " روى عن الأعرج، روى عنه هارون النحوي". ثم أتبعه بترجمة " أسيد بن أبي أسيد البراد "، وقال: " واسم أبي أسيد يزيد "، ولم يذكر له رواية عن الأعرج، ولا في الرواة عنه هارون النحوي، فجعلهما رجلين. بيد أني رأيت ابن الجزري في طبقات القراء ١: ٣٨١ في ترجمة " الأعرج "، وهو " عبد الرحمن بن هرمز " قال: " وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد ". وانظر هذا الاختلاف في التهذيب، وما قاله الحافظ ابن حجر هناك.
148
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (١)
فالرمح لا يُتَقلَّد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ على ما حذف، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف، (٢) فكذلك ذلك في قوله: (وشركاءكم).
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته قراء الأمصار: (وَشُرَكَاءَكُمْ) نصبًا، وقوله: (فَأَجْمِعُوا)، بهمز الألف وفتحها، من: "أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ)، بفتح الألف وهمزها = (وَشُرَكَاؤُكُمْ)، بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)، بفتح الألف من "أجمعوا"، ونصب "الشركاء"، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع الحجة على القراءة بها، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو.
* * *
وعني ب"الشركاء"، آلهتهم وأوثانهم.
* * *
وقوله: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة)، يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا.
* * *
(١) مضى البيت وتخريجه في مواضع، آخرها ١٣: ٤٣٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " فاكتفى " بالفاء، والصواب حذفها، وإنما خلط الناسخ.
(٣) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣.
149
= من قولهم: "غُمَّ على الناس الهلال"، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [العجاج] :(١)
بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا بِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا (٢)
وقيل: إن ذلك من "الغم"، لأن الصدر يضيق به، ولا يتبين صاحبه لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه، (٣) ومنه قول خنساء:
وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه وَغُمَّتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ (٤)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
١٧٧٦١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أمركم عليكم غمة)، قال: لا يكبر عليكم أمركم.
* * *
وأما قوله: (ثم اقضوا إليّ)، فإن معناه: ثم امضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه، كما:-
١٧٧٦٢- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)، قال: اقضوا إليّ ما كنتم قاضين.
١٧٧٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم.
(١) في المطبوعة والمخطوطة: " ومنه قول رؤبة "، وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخ، فلذلك وضعته بين القوسين، وإنما نقل هذا أبو جعفر من مجاز القرآن لأبي عبيدة، وهو فيه على الصواب " العجاج ".
(٢) ديوانه: ٦٣، واللسان (غمم)، (كمم)، وغيرها. أول رجز له طويل في ديوانه، ذكر فيه مسعود بن عمرو العتكي، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج، وسلف بيان ذلك ١٣: ٧٥، تعليق: ٢، في شرح بيت من هذا الرجز. وقوله: " تكموا " من قوله: " تكممه "، أي غطاه وغشاه، ثم لما توالت الميمات في " تكمموا "، قلبت الأخيرة ياء، كما قيل في " التظنن " و " التظني "، فلما أسند إليه الواو، قال: " تكموا ".
(٣) في المطبوعة: " يتفرج عنه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٤) ديوانها: ٢٢، وروايته " ومُخْتَنِقٍ رَاخَى ابنُ عَمْرٍو " من رثائها في أخيها صخر.
150
١٧٧٦٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: (ثم اقضوا إليّ). (١).
فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: "قد قضى فلان"، يراد: قد مات ومَضَى.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: "القضاء"، الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ "قضى دينه " من ذلك، إنما هو فَرَغ منه.
* * *
وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: (ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ)، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: "قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه". (٢)
* * *
وقوله: (ولا تنظرون)، يقول: ولا تؤخرون.
* * *
=من قول القائل: "أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين". (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف (٤) =وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ، على عزم منكم صحيح، واستعينوا من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله،
(١) انظر تفسير " قضى " فيما سلف ص: ٣٣، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٢) انظر بيان هذه القراءة في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٤.
(٣) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف ١٣: ٣٢٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: " من كيدهم وتواثقهم "، وهي قراءة فاسدة، صوابها ما أثبت. والمخطوطة غير منقوطة. و " البوائق "، جمع " بائقة ". يعني: غوائلهم وشرهم وظلمهم وبغيهم عليه.
151
ولا تؤخروا ذلك، فإني قد توكلت على الله، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي.
وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد ﷺ على التأسّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) ﴾
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه: (فإن توليتم)، أيها القوم، عني بعد دعائي إياكم، وتبليغ رسالة ربي إليكم، مدبرين، فأعرضتم عمّا دعوتكم إليه من الحقّ، والإقرار بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، وترك إشراك الآلهة في عبادته، فتضيعٌ منكم وتفريطٌ في واجب حق الله عليكم، لا بسبب من قبلي، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا، ولا عوضًا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق والهدى، ولا طلبت منكم عليه ثوابًا ولا جزاءً = (إن أجري إلا على الله) يقول جل ثناؤه: إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على ربي، لا عليكم، أيها القوم، ولا على غيركم = (وأمرت أن أكون من المسلمين)، وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة، المنقادين لأمره ونهيه، المذللين له، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه، وبأمره آمركم بترك عبادة الأوثان. (١)
* * *
(١) انظر تفسير " التولي " و " الأجر "، و " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى)، (أجر)، (سلم).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه فيما أخبرهم به عن الله من الرسالة والوحي = "فنجيناه ومن معه " ممن حمل معه = في "الفلك"، يعني في السفينة (١) = "وجعلناهم خلائف"، يقول: وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوه (٢) بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، = يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا، ورسالة رسولنا نوح.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "فانظر"، يا محمد = كيف كان عاقبة المنذرين" وهم الذين أنذرهم نوحٌ عقابَ الله على تكذيبهم إياه وعبادتهم الأصنام. يقول له جل ثناؤه: انظر ماذا أعقبهم تكذيبهم رسولَهم، فإن عاقبة من كذَّبك من قومك إن تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم، نحو الذي كان من عاقبة قوم نوح حين كذبوه. (٣)
يقول جل ثناؤه: فليحذروا أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ، بهم إن لم يتوبوا.
* * *
(١) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف ١٢: ٥٠٢ / ١٥: ٥٥.
(٢) انظر تفسير "الخلافة" فيما سلف ص: ٣٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص: ٩٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلّة على صدقهم، وأنهم لله رسل، وأن ما يدعونهم إليه حقّ = (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل)، يقول: فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذب به قوم نوح ومن قبلَهم من الأمم الخالية من قبلهم = (كذلك نطبع على قلوب المعتدين)، يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء الله نصيحتَهم، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم، بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام (١) = كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربّه فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، (٢) عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم، موسى وهارون ابني عمران، إلى فرعون مصر
(١) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف ١٤: ٤٢٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).
وملئه، يعني: وأشراف قومه وسادتهم (١) = (بآياتنا)، يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعُبُودة، والإقرار لهما بالرسالة = (فاستكبروا)، يقول: فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون (٢) = (وكانوا قومًا مجرمين)، يعني: آثمين بربهم، بكفرهم بالله. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (فلما جاءهم الحق من عندنا)، يعني: فلما جاءهم بيانُ ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله = (قالوا إن هذا لسحر مبين)، يعنون أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له (٤) = (قال موسى)، لهم: = (أتقولون للحق لما جاءكم)، من عند الله = (أسحر هذا) ؟.
* * *
واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله: (أسحر هذا) ؟ فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت فيه على الحكاية لقولهم، لأنهم قالوا: (أسحر هذا) ؟ فقال: أتقولون: (أسحر هذا) ؟
* * *
(١) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ١٣: ٣٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الاستكبار " فيما سلف ١٣: ١١٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) قوله " آثمين بربهم "، تعبير سلف مرارًا في كلام أبي جعفر، وبينته وفسرته فيما سلف انظر ١٢: ٣٠٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " السحر " فيما سلف ١٣: ٤٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
155
وقال بعض نحويي الكوفة: إنهم قالوا: "هذا سحر"، ولم يقولوه بالألف، لأن أكثر ما جاء بغير ألف. قال: فيقال: فلم أدخلت الألف؟ فيقال: قد يجوز أن تكون من قِيلهم وهم يعلمون أنه سحر، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته: أحقٌّ هذا؟ وقد علم أنه حق. قال: وقد يجوز أن تكون على التعجّب منهم: أسحر هذا؟ ما أعظمه! (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المفعولُ محذوفًا، ويكون قوله: (أسحر هذا)، من قيل موسى، منكرًا على فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم: " سحر"، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قال موسى لهم: (أتقولون للحق لما جاءكم) = وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه = سحرٌ، أسحرٌ هذا الحقّ الذي ترونه؟ فيكون "السحر" الأوّل محذوفًا، اكتفاءً بدلالة قول موسى (أسحر هذا)، على أنه مرادٌ في الكلام، كما قال ذو الرمة.
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ نَصَّبَت لَهُ مِنْ خَدَّا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ (٢)
يريد: أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، وكما قال جل ثناؤه: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) [سورة الإسراء: ٧]، والمعنى: بعثناهم ليسوءوا وجوهكم = فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه، في أشباه لما ذكرنا كثيرة، يُتْعب إحصاؤها.
* * *
وقوله: (ولا يفلح الساحرون)، يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يَبْقون. (٣)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٤.
(٢) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ١: ٣٢٧، تعليق: ٢.
(٣) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: ١٤٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
156
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملأه لموسى: (أجئتنا لتلفتنا)، يقول: لتصرفنا وتلوينا = (عمّا وجدنا عليه آباءنا)، من قبل مجيئك، من الدين.
* * *
= يقال منه: "لفت فلانٌ [عنق فلان" إذا لواها، كما قال رؤبة] :(١)
*لَفْتُا وَتْهِزِيعًا سَواءَ اللَّفْتِ* (٢)
"التهزيع": الدق، و"اللفت"، اللّي، كما:-
١٧٧٦٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لتلفتنا)، قال: لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا.
* * *
وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض)، يعني العظمة، وهي "الفعلياء" من "الكبر". ومنه قول ابن الرِّقاع:
(١) كان في المخطوطة والمطبوعة: " كما قال ذو الرمة "، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما أثبت، كما دل عليه مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٨٠، وأنا أرجح أن ذلك من الناسخ، لا من أبي جعفر، لأنه نقل عن أبي عبيدة. وانظر مثل هذا فيما سلف ص: ١٥٠، تعليق: ١: فوضعت الصواب بين القوسين.
(٢) ديوانه ٢٤، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٨٠، اللسان (هزع)، من رجز ذكر فيه نفسه، يقول قبله، مشبها نفسه بالأسد: فَإنْ تَرَيْنِي أَحْتَمِي بِالسَّكْتِ
فَقَدْ أَقُومُ بِالْمَقَامِ الثَّبْتِ
أشْجَعَ مِنْ ذي لِبَدٍ بِخَبْتِ
يَدُقُّ صُلْباتِ العِظَامِ رَفْتِي
و" الرفت "، الدق والكسر. وقوله " سواء اللفت "، أي " سوى اللفت " " سواء " (بفتح السين) و " سوى " (بكسر السين)، بمعنى: غير.
157
سُؤْدَدًا غَيْرَ فَاحِش لا يُدَا نِيهِ تِجِبَّارَةٌ وَلا كِبْرِياءُ (١)
* * *
١٧٧٦٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض)، قال: الملك.
١٧٧٦٧-.... قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض)، قال: السلطان في الأرض.
١٧٧٦٨-.... قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد قال: الملك في الأرض.
١٧٧٦٩-.... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض)، قال: الطاعة.
١٧٧٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) قال: الملك.
١٧٧٧١-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٧٧٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
(١) لم أجد البيت في مكان آخر، وكان في المطبوعة: " تجباره "، ومثله في المخطوطة، أما ضبطه فقد شغلني، لأن أصحاب اللغة لم يذكروا في مصادر " الجبروت " سوى " التجبار " (بفتح فسكون) بمعنى الكبر. فكأن قارئه يقرؤه كما في المطبوعة والمخطوطة " تجباره " (بفتح فسكون)، مضافا إلى الهاء. وظني أن الضبط الذي ذهبت إليه أجود، وإن لم يذكروه في المصادر في كتب اللغة التي بين أيدينا. ومصدر " تِفِعَّال " (بكسر التاء والفاء وتشديد العين)، هو قياس التصدير في " تَفَعَّل " لكنها صارت مسموعة لا يقاس على ما جاء منها الشافية ١: ١٦٦)، نحو " تِمِلَّاق " ودخول التاء في مثله في المصادر جائز في العربية. وبالضبط الذي ضبطته يستقيم وزن الشعر، فأخشى أن يكون هذا المصدر على هذا الميزان، مما أغفلته كتب اللغة.
158
١٧٧٧٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد قال: السلطان في الأرض.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال كلها متقارباتُ المعاني، وذلك أن الملك سلطان، والطاعة ملك، غير أن معنى "الكبرياء"، هو ما ثبت في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك.
* * *
وقوله: (وما نحن لكما بمؤمنين)، يقول: "وما نحن لكما" يا موسى وهارون "بمؤمنين"، يعني بمقرِّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا.
* * *
159
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل من يسحر من السحرة، عليم بالسحر (١) = (فلما جاء السحرة)، فرعونَ = قال موسى: (ألقوا ما أنتم ملقون)، من حبالكم وعصيِّكم.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: "فأتوه بالسحرة، فلما جاء السحرة"، ولكن اكتفى بدلالة قوله: (فلما جاء السحرة)، على ذلك، فترك ذكره.
وكذلك بعد قوله: (ألقوا ما أنتم ملقون)، محذوفٌ أيضًا قد ترك ذكرُه، وهو: (فألقوا حبالهم وعصيهم) = (فلما ألقوا قال موسى)، ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه، فتُرك ذكره.
* * *
(١) انظر تفسير " السحر " فيما سلف ص: ١٥٥: تعليق: ٤، والمراجع هناك.
= وتفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه، قال لهم موسى: ما جئتم به السحر.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون، أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم: قال موسى: الذي جئتم به أيّها السحرة، هو السحر.
* * *
وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين البصريين: (مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا به، أسحر هو أم غيره؟ (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه، أي شيء هو؟
وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه، فلم يكن
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٥، وفيه تفصيل مفيد.
160
يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في الخبر عمّا جاءوه به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به من ذلك بالحق الذي أتاه، (١)
ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه. (٢)
وهذه أولى بصفة رسول الله ﷺ من الأخرى.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في "السحر" إن كان الأمر على ما وصفت، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: "ما جاءني به عمرو درهمٌ = والذي أعطاني أخوك دينار"، ولا يكادون أن يقولوا (٣)
: الذي أعطاني أخوك الدرهم = وما جاءني به عمرو الدينار؟
قيل له: بلى، كلام العرب إدخال "الألف واللام " في خبر "ما" و"الذي" إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام، لأنّ الخبر حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين، وإنما يأتي ذلك بغير "الألف واللام"، (٤) إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصدَ شيء بعينه، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر. (٥) وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله عَلَمًا له على صدقه
(١) في المخطوطة: " ما جاؤوا به من ذلك الحق الذي أتاه "، وأرجح أن ناسخ المخطوطة قد أسقط شيئًا من الكلام، ولكن ما في المطبوعة يؤدي عن معناه، وذلك بزيادة الباء في " بالحق "، وإن كانت الجملة عندي ضعيفة.
(٢) في المطبوعة: " بجده " بالجيم، والصواب بالحاء. و " الحد " الشدة والبأس والسطوة.
(٣) هكذا في المخطوطة " لا يكادون أن يقولوا "، وبعد " يقولوا " حرف " ط " دلالة على الخطأ، وليس خطأ. وقد عقد ابن هشام في شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: ٩٨ - ١٠٢، فصلا جيدًا في وقوع خبر " كاد " مقرونا به " أن "، وذكر شواهده في الحديث وفي الشعر، واحتج لذلك أحسن الاحتجاج.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " واللام ".
(٥) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٥.
161
ونبوته، إلى أنه سحرٌ، فقال لهم موسى: السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو الذي جئتم به أنتم، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: (إن الله سيبطله)، يقول: سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه، حتى لم يبق منه شيء = (إن الله لا يصلح عمل المفسدين)، يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه، وعمل فيها بمعاصيه. (١)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: (مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ).
* * *
وفي قراءة ابن مسعود: (مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ)، (٢) وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه.
* * *
(١) انظر تفسير " الإفساد " فيما سلف من فهارس اللغة (فسد).
(٢) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٥.
162
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة: (ويحق الله الحق)، يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه = "بكلماته"، يعني: بأمره (١) = (ولو كره المجرمون)، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم، (٢) بمعصيتهم إياه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة (إلا ذرية من قومه) خائفين من فرعون وملئهم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع.
فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٧٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه)، قال، كان ابن عباس يقول: "الذرية": القليل.
١٧٧٧٥- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه)، "الذرية"، القليل، كما قال الله تعالى: (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [سورة الأنعام: ١٣٣]
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم "ذرية"، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. (٣)
*ذكر من قال ذلك:
(١) انظر تفسير " يحق الحق بكلماته " فيما سلف ١٣: ٤٠٧، تعليق: ٢، ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر بيان معنى " أثم بربه " فيما سلف ص: ١٥٥، تعليق: ٣: ، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الذرية " فيما سلف ١٢: ١٢٧، ١٢٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
وانظر تفسير بمعنى " القليل " في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٦.
163
١٧٧٧٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه)، قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان، ومات آباؤهم.
١٧٧٧٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
١٧٧٧٨- وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٧٧٧٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه)، قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى، من طول الزمان ومات آباؤهم.
١٧٧٨٠- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم)، قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٨١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم)، قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم: امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.
* * *
164
وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا القول، وذلك ما:-
١٧٧٨٢- حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ذرية من قومه)، يقول: بني إسرائيل.
* * *
=فهذا الخبر، ينبئ عن أنه كان يرى أن "الذرية" في هذا الموضع، (١) هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن "الذرية"، في هذا الموضع أريد بها ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرُّوا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريّتهم، فآمن منهم من ذكر الله، بموسى.
وإنما قلت: "هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك"، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فَلأن تكون "الهاء"، في قوله: "من قومه"، من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ، من خبرٍ ولا نظرٍ.
وبعدُ، فإن في قوله: (على خوف من فرعون وملئهم)، الدليلُ الواضح على أن الهاء في قوله: (إلا ذرية من قومه)، من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام، "على خوف منه"، ولم يكن (على خوف من فرعون).
* * *
وأما قوله: (على خوف من فرعون)، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى = فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، من بني إسرائيل، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم.
* * *
(١) في المطبوعة: " ينبئ عنه "، وأثبت ما في المخطوطة.
165
وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه"، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم "الذرية"، من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: "أبناء". (١).
والمعروف من معنى "الذرية" في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)، [سورة الإسراء: ٣]، وكما قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ) ثم قال بعد: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ)، [سورة الأنعام: ٨٤، ٨٥]، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.
* * *
وأما قوله: (وملئهم)، فإن "الملأ": الأشراف. (٢) وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم.
* * *
واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله: (وملئهم)، فقال بعض نحويي البصرة: عُني بها الذرية. وكأنّه وجَّه الكلام إلى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل.
* * *
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: (٣)
عني بهما فرعون. قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر، (٤) ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: "قدم الخليفة فكثر الناس"، تريد، بمن معه = "وقدم فغلت الأسعار"، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه. (٥)
* * *
(١) هو الفراء في معاني القرآن ١: ٤٧٦.
(٢) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: ١٥٥ تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: " نحويي الكوفة "، وأثبت ما في المخطوطة ".
(٤) في المطبوعة: "الخوف"، والصواب من معاني القرآن للفراء. أما المخطوطة فقد أسقط ناسخها وكتب: "لأن الملك، وقال: ألا ترى".
(٥) في المطبوعة ": لأنا ننوي بقدومه... "، وفي المخطوطة: " لأنا ننوي بقدومه وقدوم من معه "، وهو خطأ، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء.
166
قال: وقد يكون أن تريد أن بـ "فرعون" آل فرعون، وتحذف "الآل"، (١) فيجوز، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، [سورة يونس: ٨٢]، يريد أهل القرية، والله أعلم. قال: ومثله قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، [سورة الطلاق: ١]. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: "الهاء والميم" عائدتان على "الذرية". ووجَّه معنى الكلام إلى أنه: على خوف من فرعون، وملأ الذرية = لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن كان كذلك منهم، كان مع فرعون على موسى.
* * *
وقوله: (أن يفتنهم)، يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون = "أن يفتنهم" بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. (٣)
وقال: (أن يفتنهم)، فوحَّد ولم يقل: "أن يفتنوهم"، لدليل الخبر عن فرعون بذلك: أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه، لما قد تقدم من قوله: (على خوف من فرعون وملئهم).
* * *
وقوله: (وإن فرعون لعال في الأرض)، يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه = "وإنه لمن المسرفين"، وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، (٤) وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به، وجحودُه وحدانية الله، وادّعاؤه لنفسه الألوهة، وسفكه الدماء بغير حِلِّها.
* * *
(١) في المطبوعة، " وبحذف "، وفي المخطوطة: " فتحذف آل فرعون "، وهو خطأ، صوابه من معاني القرآن.
(٢) هذا الذي مضى نص مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٤٧٦، ٤٧٧.
(٣) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة (فتن).
(٤) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف ص: ٣٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
167
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته = (فعليه توكلوا)، يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلموا، (١)
فإنه لن يخذل وليّه، ولن يسلم من توكل عليه (٢) = (إن كنتم مسلمين)، يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال قوم يا موسى لموسى: (على الله توكلنا)، أي به وثقنا، وإليه فوَّضنا أمرنا.
* * *
وقوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا! (٤) = يعنون قوم فرعون.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم.
(١) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: ١٤٧، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: " ويسلم "، وفي المخطوطة: " ولم يسلم "، والصواب ما أثبت.
(٣) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة (سلم).
(٤) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة (فتن).
168
فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٨٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، قال: لا يظهروا علينا، فيروا أنهم خير منا.
١٧٧٨٤- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبى مجلز في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خيرٌ منّا.
١٧٧٨٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، قال: لا تسلّطهم علينا، فيزدادوا فتنة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٨٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
١٧٧٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا.
١٧٧٨٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله = وقال أيضًا: فيفتنونا.
١٧٧٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
169
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: "لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا"، فيفتتنوا بنا.
١٧٧٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا"، فيفتتنوا بنا.
١٧٧٩١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم، فيفتتنوا ويقولوا: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا".
١٧٧٩٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، لا تبتلنا ربنا فتجهدنا، وتجعله فتنة لهم، هذه الفتنة. وقرأ: (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ)، [سورة الصافات: ٦٣]، قال المشركون، حين كانوا يؤذون النبي ﷺ والمؤمنين ويرمونهم، أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم، وهي بلية للمؤمنين؟.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم "فتنة"، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ
170
في أنفسهم، من بلية تنزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونجِّنا يا ربنا برحمتك، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين، قوم فرعون، لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا.
* * *
= يقال منه: "تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا"، إذا اتخذه. وكذلك تبوَّأ مصْحفًا"، إذا اتخذه، "وبوأته أنا بيتًا": إذا اتخذته له. (١)
* * *
= (واجعلوا بيوتكم قبلة)، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها.
* * *
(١) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف ٧: ١٦٤ / ١٢: ٥٤١.
171
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة). (١)
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٧٩٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: مساجد.
١٧٧٩٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.
١٧٧٩٥-.... قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: كانوا يَفْرَقُون من فرعون وقومه أن يصلُّوا، فقال لهم: (اجعلوا بيوتكم قبلة)، يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها.
١٧٧٩٦- حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: خافوا، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
١٧٧٩٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
١٧٧٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شبل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
١٧٧٩٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: كانوا لا يصلون إلا في البِيَع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
(١) انظر تفسير " القبلة " فيما سلف ٣: ١٣١.
172
١٧٨٠٠-.... قال، حدثنا جرير عن ليث، عن مجاهد قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
١٧٨٠١- قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها.
١٧٨٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، يقول: مساجد.
١٧٨٠٣-.... قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون.
١٧٨٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان، عن الضحاك: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا)، قال: مساجد.
١٧٨٠٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
١٧٨٠٦- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: قال أبي (١) اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك "القبلة".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة.
(١) في المطبوعة وحدها: " قال قال أبو زيد "، يعني، أباه زيدًا، والقائل هو " ابن زيد ". وأثبت ما في المخطوطة.
173
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، يعني الكعبة.
١٧٨٠٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين)، قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة.
١٧٨٠٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، يقول: وجِّهوا بيوتكم، "مساجدكم" نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) [سورة النور: ٣٦].
١٧٨١٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: قِبَل القبلة.
١٧٨١١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (بيوتكم قبلة)، قال: نحو الكعبة، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا.
١٧٨١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، ثم ذكر مثله سواء.
١٧٨١٣-.... قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
174
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا)، مساجد.
١٧٨١٤-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: في قوله: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا)، قال: مصر، "الإسكندرية".
١٧٨١٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم، وأن يوجهوا نحو القبلة.
١٧٨١٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بيوتكم قبلة)، قال: نحو القبلة.
١٧٨١٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن الضحاك: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) قال: مساجد = (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: قبل القبلة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: يقابل بعضها بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني "البيوت" = وإن كانت المساجد بيوتًا = البيوت المسكونة، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن "المساجد" لها اسم هي به معروفة، خاصٌّ لها، وذلك "المساجد". فأمّا "البيوت" المطلقة بغير وصلها بشيء، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة.
175
وكذلك "القبلة" الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به، دون الخفيّ المجهول، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك = ولم يكن على قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب = لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا.
وكذلك القول في قوله (قبلة)
* * *
= (وأقيموا الصلاة)، يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. (١). وقوله: (وبشر المؤمنين)، يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله، يا محمد، المؤمنين بالثواب الجزيل منه. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم).
(٢) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: ١٢٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
176
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٨٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم (١) = وهم "الملأ" = "زينة"، من متاع الدنيا وأثاثها (٢) = (وأموالا) من أعيان الذهب والفضة = (في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك)، يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)، بمعنى: ليضلوا الناسَ، عن سبيلك، ويصدّوهم عن دينك.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)، بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك، فيجورُوا عن طريق الهدى. (٣)
* * *
فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه، أعطَى فرعون وقومه، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها، ليضلوا الناس عن دينه = أو ليضلُّوا هم عنه=؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك، (٤) فلا عتب عليهم في ذلك؟
(١) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: ١٦٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ١٢: ٣٨٩.
(٣) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٧.
(٤) في المطبوعة: " ما أعطاه لأجله "، وأثبت ما في المخطوطة.
177
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت. (١)
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه "اللام" التي في قوله: (ليضلوا).
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فَضَلوا عن سبيلك، كما قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، [سورة القصص: ٨]، أي فكان لهم = وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه "اللام" تجيء في هذا المعنى. (٢)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: هذه "اللام"، "لام كي" (٣) = ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم، كي يضلوا = ثم دعا عليهم.
* * *
وقال آخر: هذه اللامات في قوله: (ليضلوا) و (ليكون لهم عدوًا)، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم = والتقطوه لكونه = لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل "لام كي"، في معنى "لام الخفض"، و"لام الخفض" في معنى "لام كي"، لتقارب المعنى، قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) (٤) [سورة التوبة: ٩٥] أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال الشاعر: (٥)
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلا لِتَسْمُو وَلَكِنَّ المُضَيِّعَ قَدْ يُصَابُ
قال: وإنما يقال: "وما كنت أهلا للفعل"، ولا يقال "لتفعل" إلا قليلا. قال: وهذا منه.
* * *
(١) في المخطوطة، أسقط الناسخ فكتب: " فلا عتب عليهم في ذلك بخلاف ما توهمت "، وقد أصاب ناشر المطبوعة فيما استظهره من السياق.
(٢) أي معنى العاقبة والمآل.
(٣) هو الفراء في معاني القرآن ١: ٤٧٧.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: " يحلفون بالله " بغير السين، وهذا حق التلاوة.
(٥) لم أعرف قائله.
178
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنها "لام كي" = ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادَك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: (لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)، [سورة الجن: ١٦-١٧].
* * *
وقوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم)، هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا)، [سورة النساء: ٤٧]. يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها.
* * *
= يقال منه: "طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا وطُمُوسا". وقد تستعمل العرب "الطمس" في العفوّ والدثور، وفي الاندقاق والدروس، (١) كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُول (٢)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٢٠- حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال، حدثنا حجاج قال، حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: بلغنا عن القرظي في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: اجعل سُكّرهم حجارة. (٣)
١٧٨٢١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(١) انظر تفسير " الطمس " فيما سلف ٨: ٤٤٤، ٤٤٥.
(٢) سلف البيت وتخريجه وشرحه ٤: ٤٢٤ / ٨: ٤٤٤.
(٣) سقط من الترقيم سهوًا، رقم: ١٧٨١٩.
179
ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن كعب القرظي قال: اجعل سكرهم حجارة.
١٧٨٢٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (اطمس على أموالهم) قال: اجعلها حجارة.
١٧٨٢٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله: (اطمس على أموالهم)، قال: صارت حجارة.
١٧٨٢٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: بلغنا أن زروعهم تحوَّلت حجارة.
١٧٨٢٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: بلغنا أن حَرْثًا لهم صارت حجارة. (١)
١٧٨٢٦- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: يقولون: صارت حجارة.
١٧٨٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى الحماني قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: صارت حجارة.
١٧٨٢٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة.
١٧٨٢٩- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ربنا اطمس على
(١) في المطبوعة: " حروثًا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا.
180
أموالهم)، قال: جعلها الله حجارةً منقوشة على هيئة ما كانت.
١٧٨٣٠- حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم ذلك، طمَس على أموالهم، فصارت حجارةً، ذهبهم ودراهمهم وعَدَسهم، وكلُّ شيء.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أهلكها.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٣١- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ربنا اطمس على أموالهم)، قال: أهلكها.
١٧٨٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٣٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ربنا اطمس على أموالهم)، يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم.
* * *
وأما قوله: (واشدد على قلوبهم)، فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان، كما:-
١٧٨٣٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: "ربنَا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم"، فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الإيمان.
١٧٨٣٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
181
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (واشدد على قلوبهم)، يقول: واطبع على قلوبهم = (حتى يروا العذاب الأليم)، وهو الغرق.
١٧٨٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واشدد على قلوبهم)، بالضلالة.
١٧٨٣٨-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واشدد على قلوبهم)، قال: بالضلالة.
١٧٨٣٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٤٠- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واشدد على قلوبهم)، يقول: أهلكهم كفارًا.
* * *
وأما قوله: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)، فإن معناه: فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته، حتى يروا العذاب الموجع، (١) كما:-
١٧٨٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا يؤمنوا)، بالله فيما يرون من الآيات = (حتى يروا العذابَ الأليم).
١٧٨٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٤٣-.... قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٤٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
(١) انظر تفسير " الأليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
182
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٤٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري يقول: (فلا يؤمنوا)، يقول: دعا عليهم. (١)
* * *
واختلف أهل العربية في موضع: (يؤمنوا).
فقال بعض نحويي البصرة: هو نصبٌ، لأن جواب الأمر بالفاء، أو يكون دُعاء عليهم إذ عصوا. وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصبٌ، عطفًا على قوله: (ليضلوا عن سبيلك).
* * *
وقال آخر منهم، (٢) وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزمٌ، على الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر: (٣)
فَلا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى وَلا تَلْقَنِي إِلا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ (٤)
بمعنى: "فلا انبسط من بين عينيك ما انزوى"، "ولا لقيتني"، على الدعاء.
* * *
(١) الأثر: ١٧٨٤٥ - "المنقري "، هكذا في المطبوعة. وفي المخطوطة: " المعري " غير منقوطة، وقد أعياني أن أعرف من يعني.
(٢) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٨١.
(٣) هو الأعشى.
(٤) ديوانه: ٥٨، من قصيدته في هجاء يزيد بن مسهر الشيباني، يقول له:
فَهَانَ عَلَيْنَا مَا يَقُولُ ابْنُ مُسْهرٍ بِرَغْمِكَ إذْ حَلّتْ عَلَيْنَا اللَّهَازِمُ
يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ دُونِي، كَأَنَّمَا زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَى المَحَاجِمُ
فَلاَ يَنبَسِطْ........... ...................
فأقسم بالله الذي أنا أعبده لتصطفقن يوما عليك المآتم
.
183
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته إياه، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل: (فلا يؤمنوا)، في موضع نصب على الجواب، وليس يسهل. قال: ويكون كقول الشاعر: (١)
يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا (٢)
قال: وليس الجواب يسهلُ في الدعاء، لأنه ليس بشرط. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنه في موضع جزم على الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا = وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاءٌ، وذلك قوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم)، فإلحاق قوله: (فلا يؤمنوا)، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى.
* * *
وأما قوله: (حتى يروا العذاب الأليم)، فإنّ ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق = وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى. (٤)
١٧٨٤٦- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)، قال: الغرق.
* * *
(١) هو أبو النجم.
(٢) سيبويه ١: ٤٢١، معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٨، وغيرهما. وسيأتي في التفسير ١٣: ١٥٩ (بولاق). من أرجوزة له في سليمان بن عبد الملك، لم أجدها مجموعة في مكان. و "العنق "، ضرب من السير. و" الفسيح " الواسع البليغ.
(٣) هذا الذي سلف نص كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٤٧٧، ٤٧٨.
(٤) انظر ما سلف رقم: ١٨٧٣٥، ١٨٧٣٦.
184
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى ﷺ وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل ثناؤه: (قال) الله لهما: (قد أجيبت دعوتكما)، في فرعون وملئه وأموالهم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف نسبت "الإجابة" إلى اثنين و"الدعاء"، إنما كان من واحد؟
قيل: إن الداعي وإن كان واحدًا، فإن الثاني كان مؤمِّنًا، وهو هارون، فلذلك نسبت الإجابة إليهما، لأن المؤمِّن داعٍ. (١) وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٤٧- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة في قوله: (قد أجيبت دعوتكما)، قال: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فذلك قوله: (قد أجيبت دعواتكما).
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية، أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين، وأنشد في ذلك: (٢)
فَقُلْتُ لِصَاحِبي لا تُعْجَلانَا... بِنزعِ أُصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا (٣)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٨.
(٢) هو مضرس بن ربعى الأسدي.
(٣) الصاحبي: ١٨٦، ابن يعيش ١٠: ٤٩، واللسان (جزز)، وسيأتي في التفسير ٢٦: ١٠٣، (بولاق). من كلمة له، لم أجدها مجموعة في مكان، ومنها أبيات في حماسة ابن الشجري ٢٧، ٢٠٤، يقولها في الشواء، يقول قبل البيت: وَفِتْيَانٍ شَوَيْتُ لَهُمْ شِوَاءً... سَريعَ الشَّيِّ كنْتُ بِهِ نَجِيحَا
فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلاَتٍ... دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وقُلْتُ لِصَاحِبي: لا تَحْبِسَانَا......................
ويروى " لا تحبسنا "، ولا شاهد فيها، ويروى " واجدز " (بتشديد الزاي) وقلب " التاء دالا، ورواية الطبري الآتية: " لا تحبسانا " أيضًا.
" النجيح ": المجد السريع. واليعملات: النوق. و" الدوامي ": قد دميت أيديها من طول السير وشدته. و" السريح ": خرق أو جلود تشد على أخفاف الإبل إذا دميت. ويقول لصاحبه: لا تحبسنا عن الشيء = أو: لا تجعلنا نعجل عليك بالدعاء، بطول تلبثك في نزع الحطب من أصوله، بل خذ ما من تيسر قضبانه وعيدانه، وائتنا به لنشوي.
185
١٧٨٤٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: (قد أجيبت دعوتكما) قال: دعا موسى، وأمن هارون.
١٧٨٤٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وزيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى، وأمَّن هارون.
١٧٨٥٠-.... قال: حدثنا أبو معاوية، عن شيخ له، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى وأمّن هارون.
١٧٨٥١- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: (قد أجيبت دعوتكما)، قال: دعا موسى، وأمن هارون.
١٧٨٥٢- قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وعبد الله بن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: دعا موسى وأمَّن هارون، فذلك قوله: (قد أجيبت دعوتكما).
186
١٧٨٥٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة في قوله: "قد أجيبت دعوتكما" قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن، فذلك قوله: (قد أجيبت دعوتكما).
١٧٨٥٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (قد أجيبت دعوتكما) لموسى وهارون = قال ابن جريج: قال عكرمة: أمّن هارون على دعاء موسى فقال الله: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما).
١٧٨٥٥- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان هارون يقول: آمين فقال الله: (قد أجيبت دعوتكما) فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها.
* * *
وأما قوله: (فاستقيما)، فإنه أمرٌ من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما، من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجَابَهما فيه، (١) كما:-
١٧٨٥٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فاستقيما) : فامضيا لأمري، وهي الاستقامة = قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. (٢)
* * *
وقوله: (ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون)، (٣) يقول: ولا تسلكانّ طريق
(١) انظر تفسير " الاستقامة "، فيما سلف من فهارس اللغة (قوم).
(٢) هكذا في المطبوعة والدر المنثور: " بعد هذه الدعوة "، وفي المخطوطة: " بعد هذه الآية "، إلا أن " الآية " سيئة الكتابة.
(٣) انظر تفسير " اتبع " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (اتبع)، (سبل). وما سيأتي بعد قليل في تفسير الآية التالية.
187
الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعْدي لا خلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون وعذابي واقع به وبقومه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه (١) = (فأتبعهم فرعون)، يقول: فتَبعهم فرعون (وجنوده).
= يقال منه "أتْبَعته" و"تبعته"، بمعنى واحد.
وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول: إذا أريد أنه أتبعهم خيرًا أو شرًّا فالكلام "أتبعهم" بهمز الألف، وإذا أريد: اتبع أثرهم، أو اقتدى بهم، فإنه من "اتّبعت" مشددة التاء غير مهموزة الألف.
* * *
(بغيًا) على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل (٢) = (وعدْوًا)، يقول: واعتداء عليهم،
* * *
وهو مصدر من قولهم: "عدا فلان على فلان في الظلم، يعدو عليه عَدْوًا" مثل "غزا يغزو غزوا". (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " جاوز " فيما سلف ٥: ٣٤٥ / ١٣: ٨٠.
(٢) انظر تفسير " البغي " فيما سلف ص: ٥٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " العدوان " فيما سلف ١٤: ١٥١، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
188
وقد روى عن بعضهم أنه كان يقرأ: (بَغْيًا وَعُدُوًّا)، وهو أيضًا مصدر من قولهم: "عَدَا يَعدُو عُدُوًّا"، مثل: "علا يعلو عُلُوًّا". (١)
* * *
= (حتى إذا أدركه الغرق) يقول: حتى إذا أحاط به الغرق (٢) = وفي الكلام متروك، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه، وذلك: "فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا فيه"= فغرقناه (حتى إذا أدركه الغرق).
* * *
وقوله: (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين أشفى على الغرق، (٣) وأيقن بالهلكة: (آمنت)، يقول: أقررت، (أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل).
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم، وهو قراءة عامّة المدينة والبصرة: (أَنَّهُ) بفتح الألف من "أنه"، على إعمال "آمَنْتُ" فيها ونصبها به.
* * *
وقرأ آخرون: (آمَنْتُ إِنَّهُ) بكسر الألف من "إنه" على ابتداء الخبر. وهي قراءة عامة الكوفيين. (٤)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
* * *
(١) انظر ما سلف ١٢: ٣٥، ٣٦.
(٢) انظر تفسير " الإدراك " فيما سلف ١٢: ١٣ - ٢١.
(٣) في المطبوعة: " أشرف على الغرق "، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. " أشفى على الموت أو غيره "، أشرف عليه، وهو من " الشفى "، وهو حرف كل شيء وحده.
(٤) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٨.
189
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٧٨٥٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد قال: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ست مائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا: يا موسى أين المخرجُ؟ فقد أدركنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء؟ فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْق كالطود العظيم، (١) ويبس لهم البحرُ، وكشف الله عن وجه الأرض، وخرج فرعون على فرس حِصان أدهَم على لونه من الدُّهم ثمان مائة ألف سوى ألوانها من الدوابّ، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرسٌ ودِيق ليس فيها أنثى غيرها، (٢) وميكائيل يسوقهم، لا يشذُّ رجل منهم إلا ضمّه إلى الناس. فلما خرج آخر بني إسرائيل، دنا منه جبريل ولَصِق به، فوجد الحصان ريح الأنثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا، وقال: أقدموا، فليس القومُ أحقُّ بالبحر منكم! ثم أتبعهم فرعون، حتى إذا همّ أوّلهم أن يخرجوا، ارتطم ونادى فيها: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)، ونودي: (آلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنت من المفسدين)،
١٧٨٥٨- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: =
=وعن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يرفعه أحدهما إلى النبي ﷺ فقال: إن جبرائيل كان يدسُّ في فم فرعون
(١) تضمين آية سورة الشعراء: ٦٣
(٢) " وديق ": مريدة للفحل تشتهيه، وانظر ما سلف ٢: ٥٢.
190
الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. (١)
١٧٨٥٩- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: "جعل جبرائيل عليه السلام يدسُّ = أو: يحشو = في فم فرعون الطين، مخافة أن تدركه الرحمة.
١٧٨٦٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا أغطُّه وأدسُّ من الحَالِ في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له! = يعني فرعون. (٢)
(١) الأثران: ١٧٨٥٨، ١٧٨٥٩ - خبر ابن عباس رواه أحمد من هذا الطريق، طريق شعبة، عن عدي بن ثابت، وعطاء بن السائب، في مسنده رقم: ٢١٤٤، ٣١٥٤. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: ٣٤١ رقم: ٢٦١٨.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٤٠، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس "، وواقفه الذهبي. وانظر الموقوف فيما سيأتي: ١٧٨٦٥، ورواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: " حسن غريب صحيح ".
وانظر ما سيأتي رقم: ١٧٨٦٢.
(٢) الأثر: ١٧٨٦٠ - " حكام "، هو " حكام بن سلم الكناني "، ثقة، ولكن قال أحمد فيه: " كان حسن الهيئة قدم علينا، وكان يحدث عن عنبسة أحاديث غرائب "، مضى مرارًا. " وعنبسة "، هو " عنبسة بن سعيد الضريس "، ثقة، لا بأس به. مضى مرارًا. " وكثير بن زاذان النخعي "، قال ابن معين: " لا أعرفه "، وقال أبو حاتم وأبو زرعة، " هذا شيخ مجهول "، لا نعلم أحدًا حدث عنه إلا ما روى ابن حميد، عن هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عنه ". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٥١، ، وميزان الاعتدال ٢: ٣٥٣، وقال: " عن عاصم بن ضمرة، له حديث منكر ".
و" أبو حازم "، هو " سلمان الأشجعي "، ثقة. مضى برقم: ٧٦١٦.
فهذا خبر ضعيف جدا، لضعف كثير بن زاذان. وخرج نحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٣٦، عن أبي هريرة وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة ". وقوله: " أغطه "، أي: أغطسه في الماء وأغمسه. و " الحال "، الطين الأسود والحمأة، وهو " حال البحر ". وكان في المطبوعة " وحمئة "، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يعرف معناه، فظنه خطأ.
191
١٧٨٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: لما أغرق الله فرعون قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)، فقال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَالِ البحر وأدَسِّيه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة. (١)
١٧٨٦٢- حدثني المثنى قال، حدثني عمرو، عن حكام قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: لما قال فرعون "لا إله إلا الله"، جعل جبريل يحشوا في فيه الطين والتراب. (٢)
١٧٨٦٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)، قال: أخذ جبرائيل من حمأة البحر فضرب بها
(١) الأثر: ١٧٨٦١ - " علي بن زيد بن جدعان "، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٧١٥٤ - ١٧٥١٦، وثقه أخي السيد أحمد رحمه الله في المسند رقم ٧٨٣، وفيما مضى من تعليقه على بعض أحاديث الطبري. ولكني رأيت الأئمة يضعفونه، - لا أنهم يكذبونه - ويرونه إلى اللين أدنى، وأنه كان يقلب الأحاديث وكان يحدث بالحديث اليوم ثم يحدث غدا، فكأنه ليس بذاك، وكان يسوء حفظه، فأخشى أن يكون أخي جازف في توثيقه، ولكني أرجح أنه يعتبر بحديثه، ويكتب حديثه، ولكن لا يحتج به، وإنما روى له مسلم مقرونًا بغيره. فهذا غاية علي بن زيد فيما أرى، والله أعلم. " ويوسف بن مهران "، مضى مرارًا رقم: ١٣٤٩٤. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: ٢٢٠٣ من طريق يونس، عن حماد بن سلمة، ورقم: ٢٨٢١ من طريق سليمان بن حرب، عن حماد. وصححه أخي رحمه الله في الموضعين. وخرجه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، من هذه الطريق نفسها، وقال: " هذا حديث حسن " وكان في المطبوعة: " آخذ من حمأة البحر "، وأثبت ما في المخطوطة،
وقوله: " وأدسيه في فيه " (بتشديد السين) من قولهم " دساه " إذا غيبه أو أخفاه. وأصله " دسسه " مضعفا، ثم توالت السينات، فقلبت أخراهن ياء. وكذلك جاء في المسند رقم: ٢٨٢١، وهو في المطبوعة " أدسه "، وفي المخطوطة كما أثبتها، إلا أنها غير منقوطة.
(٢) الأثر: ١٧٨٦٢ - سلف تخريجه في رقم: ١٧٨٥٨، ١٧٨٥٩.
192
فاه = أو قال: ملأ بها فاه = مخافة أن تدركه رحمه الله.
١٧٨٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسين بن علي، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: خطب الضحاك بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)، قال الله: (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).
١٧٨٦٥-.... قال، حدثني أبي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو في فيه التراب خشية أن يغفر له. (١)
١٧٨٦٦-.... قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن عيسى بن المغيرة، عن إبراهيم التيمي: أن جبريل عليه السلام قال: ما حسدتُ أحدًا من بني آدم الرحمة إلا فرعون، (٢)
فإنه حين قال ما قال، خشيت أن تصل إلى الربّ فيرحمه، فأخذت من حَمْأة البحر وزَبَده، فضربت به عينيه ووجهه.
١٧٨٦٧-.... قال، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن يعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام: لقد حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة.
* * *
(١) الأثر: ١٧٨٦٥ - هذا الخبر الموقوف على ابن عباس، كما سلف في تخريج رقم: ١٧٨٥٨، ١٧٨٥٩. وكان في المطبوعة: " يحثو " بالثاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: " ما خشيت على أحد "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض، وأساء في التغيير.
193
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه، ومعصيته ربه، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونزول عقابه، مستجيرًا به من عذابه الواقع به، لما ناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرَبُ الموت: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية = الآن تقرُّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض، الصادِّين عن سبيله؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ، وباب التوبة لك منفتح، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لفرعون: اليوم نجعلك على نَجْوةٍ من الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكًا من كذّب بهلاكك = (لتكون لمن خلقك آية)، يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، ، فينزجرون عن معصية الله، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد.
194
= و"النجوة"، الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض، ومنه قوله أوس بن حجر:
فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنْ بِنْجْوَتِهِ وَالمُسْتَكِنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر قال ذلك:
١٧٨٦٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد وغيره قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون! قال: فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر.
١٧٨٦٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد قال = وكان من أكثر الناس = أو: أحدث الناس = عن بنى إسرائيل؛ قال: فحدّثنا أن أول جنود فرعون لما انتهى إلى البحر، هابت الخيلُ اللِّهْبَ. (٢)
قال: ومثل لحصان منها فرس وَديق، (٣) فوجد ريحها = أحسبه أنا قال: = فانسلَّ فاتَّبعته. قال: فلما تتامّ آخر جنود فرعون في البحر، وخرج آخرُ بني إسرائيل، أُمر البحر فانطَبق عليهم، فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدًا! فسمع الله تكذيبهم نبيَّه، قال:
(١) ديوانه، قصيدة: ٤، بيت: ١٥، يصف السحاب والمطر بالشدة، يغشي كل مكان وكل أحد. " عقوة الدار "، ساحتها وما حولها. و" المستكن "، الذي اختبأ في كن. و "القرواح "، البارز الذي ليس يستره من السماء والشمس شيء.
(٢) في المخطوطة: " اللهث "، والذي في المطبوعة هو الصواب إلا أن ضبطه بكسر اللام وسكون الهاء. و " اللهب " المهواة بين الجبلين، وهو الصدع الذي صدع في البحر، وانظر قوله تعالى: ﴿فكان كل فرق كالطود العظيم﴾.
(٣) "فرس وديق "، مريدة للفحل تشتهيه، انظر ما سلف ص: ١٩٠، تعليق: ٢.
195
فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمرُ، يتراءآه بنو إسرائيل.
١٧٨٧٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: (فاليوم ننجيك ببدنك)، قال: "بدنه"، جسده، رمى به البحرُ.
١٧٨٧١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن مجاهد،: (فاليوم ننجيك ببدنك)، قال: بجسدك.
١٧٨٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٧٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٧٨٧٤- حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما جاوز موسى البحرَ بجميع من معه، التقى البحرُ عليهم = يعني على فرعون وقومه = فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه! فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر، حتى استيقنوا بهلاكه.
١٧٨٧٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية)، يقول: أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه.
١٧٨٧٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لتكون لمن خلفك آية)، قال: لما أغرق الله فرعون لم تصدِّق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آيةً وعظةً.
١٧٨٧٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
196
ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد، أو غيره، بنحو حديث ابن عبد الأعلى، عن معمر.
١٧٨٧٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (فاليوم ننجيك ببدنك)، قال: بجسدك.
١٧٨٧٩- قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: (فاليوم ننجيك ببدنك)، قال: بجسدك. (١)
١٧٨٨٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كذّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فرمى به على ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل، قال أحمر: كأنه ثور. (٢)
* * *
وقال آخرون: تنجو بجسدك من البحر، فنخرجه منه. (٣)
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٨١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية)، يقول: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه قوله: (ببدنك) ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير بدنه، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه (ببدنك) ؟
قيل: كان جائزًا أن ينجيه بهيئته حيًّا كما دخل البحر. فلما كان جائزًا
(١) الأثر: ١٧٨٧٩ - " محمد بن بكر بن عثمان البرساني "، مضى مرارًا، وروايته عن ابن جريج، وفي المطبوعة: " محمد بن بكير "، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: " قال: كأنه ثور أحمر "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(٣) في المطبوعة: " فتخرج منه "، وأثبت ما في المخطوطة.
197
ذلك قيل:/ (فاليوم ننجيك ببدنك)، ليعلم أنه ينجيه بالبدن بغير روح، ولكن ميّتًا.
* * *
وقوله: (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون)
، يقول تعالى ذكره: (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا)، يعني: عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصةٌ (١) = (لغافلون)، يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أنزلنا بني إسرائيل منازلَ صِدْق. (٣)
* * *
قيل: عني بذلك الشأم وبيت المقدس.
وقيل: عُنِي به الشأم ومصر.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٨٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: (مبوّأ صدق)، قال: منازل صدق، مصر والشأم.
(١) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
(٢) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: ٨٠، ، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف ص: ١٧١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
198
١٧٨٨٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مبوَّأ صدق)، قال: بوّأهم الله الشأم وبيت المقدس.
١٧٨٨٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق)، الشام. وقرأ: (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء: ٧١]
* * *
وقوله: (ورزقناهم من الطيبات)، يقول: ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق = وهو (الطيب). (١)
* * *
وقوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم)، يقول جل ثناؤه: فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين. وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ ﷺ مجمعين على نبوّة محمدٍ والإقرار به وبمبعثه، غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم، والمؤمنون به منهم كانوا عددًا قليلا. فذلك قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيًّا لله = فوضع (العلم) مكان (المعلوم).
* * *
وكان بعضهم يتأول (العلم) ههنا، كتابَ الله ووحيَه.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٨٥- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم)، (٢) قال: (العلم)، كتاب الله الذي
(١) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب).
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "... حتى جاءهم العلم بغيا بينهم "، وليس هذا من تلاوة هذه الآية، ولا هو في تفسيرها، فحذفته. وأشباهها من الآيات التي ورد فيها ذكر العلم والبغي فيه في سورة آل عمران: ١٩ / سورة الشورى: ١٤ / سورة الجاثية: ١٧، وآثرت حذف هذه الزيادة من هذا الموضع، لأني لم أجد أبا جعفر ذكر هذا الخبر في تفسير شيء من هذه الآيات، والظاهر أن المعنى أخذ بعضه ببعض، فزاد ابن زيد في التفسير من نظائر الآية في السور الأخرى.
199
أنزله، وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيًا بينهم؟ أهل هذه الأهواء، هل اقتتلوا إلا على البغي قال: و"البغي" وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغى في "العلم"، يرى هذا جاهلا مخطئًا، ويرى نفسه مصيبًا عالمًا، فيبغي بإصابته وعلمه عَلَى هذا المخطئ.
* * *
وقوله: (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك، يا محمد، يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة، فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل المكذبين بك منهم النار، والمؤمنين بك منهم الجنة، فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنزلنا إليك، (٢) من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل
(١) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى).
(٢) في المطبوعة: " ما أخبرناك وأنزل إليك "، وأثبت الصواب من المخطوطة.
200
= (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، من أهل التوراة والإنجيل، كعبد الله بن سلام ونحوه، من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٨٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، قال: التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدا ﷺ من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول: فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم.
١٧٨٨٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، قال: هو عبد الله بن سلام، كان من أهل الكتاب، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
١٧٨٨٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) قال: هم أهل الكتاب.
١٧٨٨٩- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل الكتاب، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: أو كان رسول الله ﷺ في شكٍّ من خبَرِ الله
201
أنه حقٌّ يقين، حتى قيل له: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ؟
قيل: لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم.
١٧٨٩٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك)، فقال: لم يشك النبي ﷺ ولم يسأل.
١٧٨٩١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، قال: ما شك وما سأل.
١٧٨٩٢- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير = ومنصور، عن الحسن في هذه الآية، قال: لم يشك ﷺ ولم يسأل.
١٧٨٩٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، ذكر لنا أن رسول الله ﷺ قال: لا أشك ولا أسأل.
١٧٨٩٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: لا أشك ولا أسأل.
* * *
فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام، إذنْ، إن كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه: "إن كنت مملوكي فانته إلى أمري" والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: "إن كنت
202
ابني فبرَّني"، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهده، وأنّ منه قول الله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، [سورة المائدة: ١١٦]، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. (١) وهذا من ذلك، لم يكن ﷺ شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا، إذْ كان القرآن بلسانهم نزل.
* * *
وأما قوله: (لقد جاءك الحق من ربك) الآية، فهو خبرٌ من الله مبتدأ.
يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسولٌ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم = (فلا تكونن من الممترين)، يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. (٢)
* * *
ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت، بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، [سورة الأحزاب: ١]، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته.
* * *
(١) انظر ما سلف ١١: ٢٣٦، ٢٣٧، ومعاني القرآن للفراء ١: ٤٧٩.
(٢) انظر تفسير " الامتراء " فيما سلف ١٢: ٦١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
203
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تكونن يا محمدُ، من الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غُبن حظه، وباع رحمةَ الله ورضاه، بسَخَطه وعقابه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٩٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد = "كلمة ربك"، هي لعنته إياهم بقوله: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، [سورة هود: ١٨]، فثبتت عليهم.
* * *
يقال منه: "حق على فلان كذا يحقُّ عليه"، إذا ثبت ذلك عليه ووجب. (٢)
* * *
وقوله: (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية)، يقول: لا يصدقون بحجج الله، ولا يقرُّون بوحدانية ربهم، ولا بأنك لله رسول = (ولو جاءتهم كل آية)، وموعظة وعبرة، فعاينوها، حتى يعاينوا العذاب الأليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه،
(١) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
= وتفسير " الخسران فيما سلف من فهارس اللغة (خسر).
(٢) انظر تفسير " حق " فيما سلف ص: ٨٥
204
إذ حقَّت عليهم كلمة ربّك حتى عاينوا العذاب الأليم، فحينئذ قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ)، [سورة يونس: ٩٠]، حين لم ينفعه قيلُه، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك من عبدة الأوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك، إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون)، قال: حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
١٧٨٩٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون)، حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
* * *
205
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت؟ (١) وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ.
ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، ونزول سَخَط الله بها، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه، واستحقاقه سَخَط الله
(١) انظر " لولا " بمعنى " هلا " ٢: ٥٥٢، ٥٥٣ / ١١: ٢٦٦، ٣٤٣، ٣٥٦.
205
بمعصيته = إلا قوم يونس، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم.
فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم.
* * *
فان قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها)، بمعنى: فما كانت قرية آمنَت، بمعنى الجحود، فكيف نصب "قوم" وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدًا كان ما بعده مرفوعًا، وأن الصحيح من كلام العرب: "ما قام أحدٌ إلا أخوك"، و"ما خرج أحدٌ إلا أبوك"؟
قيل: إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله، وذلك أن "الأخ " من جنس "أحد"، وكذلك "الأب"، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله، كان الفصيح من كلامهم النصبُ، وذلك لو قلت: "ما بقي في الدار أحدٌ إلا الوتدَ"، و"ما عندنا أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا"، لأن "الكلب"، و"الوتد"، و"الحمار"، من غير جنس "أحد"، ومنه قول النابغة الذبياني:
عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
ثم قال:
إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيَّنُها وَالنُّؤْي كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (١)
فنصب "الأواري" إذ كان مستثنى من غير جنسه. فكذلك نصب (قوم يونس)، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم، ومن غير جنسهم
(١) سلف الشعر وشرحه ٩: ٢٠٣، تعليق: ٣، ٤، والمراجع هناك.
206
وشكلهم، وإن كانوا من بني آدم. وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع، (١) ولو كان (قوم يونس) بعض "الأمة" الذين استثنوا منهم، كان الكلام رفعًا، ولكنهم كما وصفت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٨٩٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها)، يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس.
قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس.
١٧٨٩٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)، يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ، فتُرِكت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، [وفرقوا] بين كل بهيمة وولدها، (٢) ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً. فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل.
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٩، ٤٨٠، وفيه زيادة بيان.
(٢) في المطبوعة: " وألهوا بين كل بهيمة... "، ولا معنى له، وفي المخطوطة: " وألفوا " غير منقوطة، وقد أعياني أن أجد لقراءتها وجهًا ارتضيه، فوضعت (وفرقوا) بين قوسين، لأن هذه الكلمة بهذا المعنى ولا شك، كما يتبين من الآثار التالية، ومن رواية هذا الأثر عن قتادة في الدر المنثور ٣: ٣١٧ وفيه مكان هذه الكلمة المبهمة: " وفرقوا " كالتي أثبت بين القوسين.
207
١٧٨٩٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا قوم يونس)، قال: بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، يدعون الله أربعين ليلة، حتى تاب عليهم.
١٧٩٠٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: غشَّى قوم يونس العذابُ، كما يغشِّي الثوبُ القبرَ. (١)
١٧٩٠١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دَعَوْا كشف الله عنهم.
١٧٩٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا)، قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه، قال: لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس متعناهم.
١٧٩٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (٢) فحدّث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم، وفارقهم. (٣) فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب، [لكنهم] خرجوا من مساكنهم، (٤)
وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم
(١) معنى هذا: كما يغشي القبر بالثوب، إذا أدخل فيه صاحبه، كما جاء في رواية هذا الأثر في الدر المنثور ٣: ٣١٨، باللفظ الذي ذكرته. وانظر ما سيأتي رقم: ١٧٩٠٥.
(٢) قوله: " قرأ القرآن في صدره "، أي جمعه، فحفظه جميعًا.
(٣) في المطبوعة: " ففارقهم " بالفاء، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: " لكنهم "، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: " لكنهم " غير منقوطة، ولست أدري ما صوابها، والمشكل أنه جاء مثلها فيما يلي، واستعصت علي قراءتها في الموضعين - فوضعتها بين القوسين في الموضوعين.
208
جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين: أن يكشف عنهم العذاب، وأن يرجعَ إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك أنزل: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها، إلا قوم يونس خاصة. فلما رأى ذلك يونس، [لكنه] ذهب عاتبًا على ربه، (١) وانطلق مغاضبًا وظنّ أن لن يُقدرَ عليه، حتى ركب في سفينة، فأصاب أهلَها عاصفُ الريح = فذكر قصة يونس وخبره.
١٧٩٠٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: " لما رأوا العذاب ينزل، فرَّقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام، ثم قاموا جميعًا فدعوا الله، وأخلصوا إيمانهم، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم العذاب: أرجع إليهم وقد كذَبْتُهم! وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثةٍ، فعند ذلك خرج مغضبًا وساء ظنُّه. (٢)
١٧٩٠٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه. قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبِّحهم، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبًا، فانظروا، فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ عُلاثَةً فتزوّد منها شيئًا، (٣) ثم خرج، فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب،
(١) انظر التعليق السالف.
(٢) انظر تفسير " ساء ظنه " فيما سلف ٣: ٥٨٥، تعليق: ١ / ١٣: ٩٥، تعليق: ٤.
(٣) في المطبوعة: " أخذ مخلاته فتزود فيها شيئًا "، خالف رسم المخطوطة، وفيها رسم ما أثبته غير منقوط. و " العلاثة " (بضم العين) : الأقط المخلوط بالسمن.
209
كما يتغشَّى الإنسان الثوبَ في القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده، وبين البهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا! فكشف الله عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا، قال: جَرَّبوا عليّ كذبًا! فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر.
١٧٩٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال، حدثنا ابن مسعود في بيت المال، قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرَّقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه. فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا، وكان من كذب ولم تكن له بيِّنةٌ قُتِل، فانطلق مغاضبًا.
١٧٩٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد جيلان قال: لما غشّى قوم يونس العذاب، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له: إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا: "يا حيُّ حين لا حيَّ، ويا حي محييَ الموتى، ويا حيُّ لا إله إلا أنت"! فكشف عنهم العذاب، ومُتِّعوا إلى حين. (١)
١٧٩٠٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: بلغني في حرف ابن مسعود: "فلولا"، يقول (فَهَلا).
* * *
وقوله: (لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا)، يقول: لما صدّقوا رسولهم، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلّهم العذاب وغشيهم أمْرُ الله
(١) الأثر: ١٧٩٠٧ - " أبو الجلد "، هو " جيلان بن أبي فروة الأسدي "، مضى برقم ٤٣٤، ٧٢٣، ١٩١٣.
210
ونزل بهم البلاء، كشفنا عنهم عَذَاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا (١) = (ومتعناهم إلى حين)، يقول: وأخَّرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم، ووقت فناء أعمارهم التي قَضَيْتُ فَنَاءها. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكر لنبيه: (ولو شاء)، يا محمد = (ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا)، بك، فصدَّقوك أنك لي رسول، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له، حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك، ولا يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره، ممَّن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(١) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف ١٤: ٣٣٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع).
211
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا)، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ)، [سورة يونس: ١٠٠]، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله ﷺ كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأَوّل (١) ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذّكر الأول.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه قوله: (لآمن من في الأرض كلهم جميعًا)، فـ "الكل" يدل على "الجميع"، و"الجميع" على "الكل"، فما وجه تكرار ذلك، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك:
فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله "جميعًا" في هذا الموضع توكيدًا، كما قال: (لا تتخذوا إلهين اثنين)، [سورة النحل: ٥١]، ففي قوله: "إلهين" دليل على "الاثنين".
وقال غيره: جاء بقوله "جميعًا" بعد "كلهم"، لأن "جميعًا" لا تقع إلا توكيدًا، و"كلهم" يقع توكيدًا واسمًا، فلذلك جاء ب "جميعًا" بعد "كلهم". قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد، لجاز ههنا. قال: وكذلك: (إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ)، العدد كله يفسر به، فيقال: "رأيت قومًا أربعة"، فلما جاء "باثنين"، وقد اكتفى بالعدد منه، لأنهم يقولون: "عندي درهم ودرهمان"، فيكفي من قولهم: "عندي درهم واحد، ودرهمان اثنان"، فإذا قالوا: "دراهم" قالوا: "ثلاثة"، لأن الجمع يلتبس، و"الواحد" و"الاثنان" لا يلتبسان،
(١) في المطبوعة: " لا يؤمن من قومه "، زاد ما ليس في المخطوطة، فحذفته.
212
ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ما] في الجميع، (١) لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ، لأن "درهمًا" يدل على الجنس الذي هو منه، و"واحد" يدل على كل الأجناس. وكذلك "اثنان" يدلان على كل الأجناس، و"درهمان"، يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد، لأنه الأصل.
* * *
وقوله: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، يقولُ جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدّقك، لا بإكراهك إياه، ولا بحرصك على ذلك = (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) لك، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدَعْ بما تؤْمر، وأعرض عن المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى تصديقك، يا محمد، إلا بأن آذن لها في ذلك، (٢) فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيدَ الله، وعرِّفها ما أمرك ربك بتعريفها، ثم خلِّها، فإن هداها بيد خالقها.
* * *
(١) في المطبوعة: " لم يثن الواحدة والتثنية على تنافي الجمع "، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: " ثم بنى الواحد والتثنية على تنافي الجمع "، هكذا غير منقوطة، واستظهرت قراءتها كما أثبتها، بزيادة " ما " بين " بناء "، و" في الجميع ". ومع ذلك فبقى في بيان معنى هذا الكلام، شيء في نفسي، أخشى أن يكون سقط منه شيء، فإنه غير واضح عندي.
(٢) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف ص: ١٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
وكان الثوري يقول في تأويل قوله: (إلا بإذن الله)، ما:-
١٧٩١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله)، قال: بقضاء الله.
* * *
وأما قوله: (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)، فإنه يقول تعالى ذكره: إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا محمد، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك، ويقرّ بما جئت به من عند ربك = (ويجعل الرجس)، وهو العذابُ، وغضب الله (١) (على الذين لا يعقلون)، يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جل ثناؤه على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله، وخَلْع الأنداد والأوثان.
١٧٩١١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ويجعل الرجس)، قال: السَّخَط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك، السائليك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا، أيها القوم، ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلافِ ليلها ونهارِها، ونزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها = وفي الأرض من جبالها، وتصدُّعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبَّرتم موعظة ومعتبرًا،
(١) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف ١٤: ٥٧٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
ودلالةً على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يُغْنيكم عما سواه من الآيات.
يقول الله جل ثناؤه: (وما تُغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)، يقول جل ثناؤه: وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عبادة الله عقابه، (١) عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار، لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدِّقون به. (ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) ؟ (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، محذِّرًا مشركي قومه من حلول عاجل نقمه بساحتهم نحوَ الذي حلَّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم، السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربِّهم سبيلَهم: فهل ينتظر، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك المكذِّبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يومًا يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب، الذين مضوا قبلهم فخَلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود؟ قل لهم، يا محمد، إن كانوا ذلك ينتظرون: فانتظروا عقابَ الله إياكم، ونزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم وبوارَكم بالعقوبة التي تحلُّ بكم من الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(١) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف ص: ٨٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " النذير " فيما سلف ١٠: ٨٥.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩١٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم)، يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعادٍ وثمود.
١٧٩١٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين)، قال: خوَّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه، فقال الله: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقًّا علينا ننجي المؤمنين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك: انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك، ثم ننجّي هناك رسولَنَا محمدًا ﷺ ومن آمن به وصدّقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك برُسلنا الذين أهلكنا أممهم، فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حقّ على أممهم = (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين)، يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها، كذلك نفعل بك، يا محمد، وبالمؤمنين، فننجيك وننجي المؤمنين بك، حقًّا علينا غير شك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك: إن كنتم في شك، أيها الناس، من ديني الذي أدعوكم إليه، فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئًا، فتشكُّوا في صحته.
وهذا تعريض ولحنٌ من الكلام لطيفٌ. (١)
وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شك من ديني، فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئًا ولا تضر ولا تنفع. فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكُّوا فيه، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء، وينفعهم ويضرُّهم إن شاء. (٢) وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة. وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبٍّ وعقلٍ صحيح.
* * *
وقوله: (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم)، يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض
(١) " اللحن "، التعريض والإماء دون التصريح، وذلك بأن تعدل الكلام عن جهته، فيكون أجود له وأشد إثارة لفطنة سامعه.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " وينفعهم ويضر من يشاء "، وكأنه سهو من الناسخ، فإن السياق يقتضي ما أثبت.
أرواحكم فيميتكم عند آجالكم (١) = (وأمرت أن أكون من المؤمنين)، يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وأمرت أن أكون من المؤمنين"، و"أن أقم " و"أن" الثانية عطفٌ على "أن" الأولى.
ويعني بقوله: (أقم وجهك للدين)، أقم نفسك على دين الإسلام، (٢) (حنيفًا) مستقيمًا عليه، غير معوَجّ عنه إلى يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ، ولا عبادة وثن (٣) = (ولا تكونن من المشركين)، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهةَ والأندادَ، فتكون من الهالكين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تدع، يا محمد، من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها
(١) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف ص: ٩٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " الوجه " فيما سلف ٢: ٥١٠ - ٥١٢، ٥٢٦ - ٥٤٦ / ١٠: ٢٣، وما بعدها.
(٣) انظر تفسير " الحنيف " فيما سلف ١٢: ٢٨٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
218
لا تنفع ولا تضر = "فإن فعلت"، ذلك، فدعوتها من دون الله = (فإنك إذًا من الظالمين)، يقول: من المشركين بالله، الظالمي أنفُسِهم. (١)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: " الظالم لنفسه "، والسياق لا يليق به هذا، وظني أنه سهو من الناسخ، فلذلك أبدلت به ما أثبت.
219
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله، يا محمد، بشدة أو بلاء، (١) فلا كاشف لذلك إلا ربّك الذي أصابك به، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد (٢) = (وإن يردك بخير)، يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور (٣) = (فلا رادّ لفضله)، يقول: فلا يقدر أحدٌ إن يحول بينك وبين ذلك، ولا يردّك عنه ولا يحرمكه; لأنه الذي بيده السّرّاء والضرّاء، دون الآلهة والأوثان، ودون ما سواه = (يصيب به من يشاء)، يقول: يصيب ربك، يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء، من يشاء ويريد (٤) (من عباده وهو الغفور)، لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته = (الرحيم) بمن آمن به منهم وأطاعه، أن يعذبه بعد التوبة والإنابة. (٥)
* * *
(١) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: ٤٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة (ضرر).
(٢) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف ١١: ٣٥٤ / ١٣: ٧٣ / ١٥: ٣٦، ٢٠٥.
(٣) انظر تفسير " الخير " فيما سلف من فهارس اللغة (خير).
(٤) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف من فهارس اللغة (صوب).
(٥) انظر تفسير " الغفور " و " الرحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر)، (رحم).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل)، يا محمد، للناس: (يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم)، يعني: كتاب الله، فيه بيان كل ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم = (فمن اهتدى)، يقول: فمن استقام فسلك سبيل الحق، وصدّق بما جاء من عند الله من البيان = (فإنما يهتدي لنفسه)، يقول: فإنما يستقيم على الهدى، ويسلك قصد السبيل لنفسه، فإياها يبغي الخيرَ بفعله ذلك لا غيرها (١) = (ومن ضل)، يقول: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله، وخالف دينَه، وما بعث به محمدًا والكتابَ الذي أنزله عليه = (فإنما يضل عليها)، يقول: فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها، لأنه لا يؤخذ بذلك غيرها، ولا يورد بضلاله ذلك المهالكَ سوى نفسه. ولا تزر وازرة وزر أخرى (٢) = (وما أنا عليكم بوكيل)، يقول: وما أنا عليكم بمسلَّط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله، وهو الذي يقوّم من شاء منكم، وإنما أنا رسول مبلّغ أبلغكم ما أرسلتُ به إليكم. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
(٢) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلل).
(٣) انظر تفسير " وكيل " فيما سلف ١٢: ٣٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتبع، يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك، وتنزيله الذي ينزله عليك، فاعمل به، واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى والمكاره، وعلى ما نالك منهم، حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعلٍ فاصلٍ = (وهو خير الحاكمين)، يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين. (١) فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بَدْرٍ، ، وقتلهم بالسيف، وأمر نبيه ﷺ فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم، أو يتوبوا ويُنيبوا إلى طاعته، كما:-
١٧٩١٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما أنت عليهم بوكيل واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)، قال: هذا منسوخ = (حتى يحكم الله)، حكم الله بجهادهم، وأمره بالغلظة عليهم. (٢)
(١) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف ١٢: ٥٦١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي مخطوطتنا بعد هذا ما نصه:
" آخر تفسير سورة يونس عليه السلام والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله.
يتلوه تفسير السورة التي يذكر فيها هود ".
يتلوه:
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسِّرْ "
221
آخر تفسير سورة يونس
222
Icon