تفسير سورة يونس

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة يونس من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة يونس عليه الصلاة والسلام مكية وآياتها تسع ومائة إلا ثلاث آيات من قوله :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك. . . ﴾ إلى آخرها.

سُورَةِ يُونُسَ
سُورَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ إِلَى آخِرِهَا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) ﴾.
﴿الر﴾ وَ"المر" قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ: بِفَتْحِ الرَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالْإِمَالَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: " الر " أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَ" المر " أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ " الر " وَ" حم " وَ" ن " حُرُوفُ اسْمِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي (١).
﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ أَيْ: هَذِهِ، وَأَرَادَ بِالْكِتَابِ الْحَكِيمِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "تِلْكَ"، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ مُؤَنَّثٍ، وَالْحَكِيمُ: الْمُحْكَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " (هُودٍ -١).
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ " (الْبَقْرَةِ -٢١٣).
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَحْكُومِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. قَالَ الْحَسَنُ: حُكِمَ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَالْبَغْيِ، وَحُكِمَ فِيهِ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالنَّارِ لِمَنْ عَصَاهُ.
(١) راجع فيما سبق: ١ / ٥٨-٥٩. وانظر هذ الأقوال كلها في: الطبري: ١ / ٢٠٥-٢٢٤.
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا﴾ الْعَجَبُ: حَالَةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ.
وَسَبَبُ نزول الآية: ١٦٨/أأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا. فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ﴾ (١) يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، ﴿عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ أَيْ: أَعْلِمْهُمْ مَعَ التَّخْوِيفِ، ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَجْرًا حَسَنًا بِمَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: ثَوَابُ صِدْقٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَمَلٌ صَالِحٌ أَسْلَفُوهُ يَقْدِمُونَ عَلَيْهِ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَقَامُ صِدْقٍ لَا زَوَالَ لَهُ، وَلَا بُؤْسَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ (٢).
وَأُضِيفَ الْقَدَمُ إِلَى الصِّدْقِ وَهُوَ نَعْتُهُ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَحَبُّ الْحَصِيدِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ سَابِقٍ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ قَدَمٌ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ قَدَمٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ وَقَدَمُ سُوءٍ، وَهُوَ يُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: قَدَمٌ حَسَنَةٌ، وَقَدَمٌ صَالِحَةٌ. ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ: "لَسِحْرٌ" بِغَيْرِ أَلْفٍ يَعْنُونَ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: "لَسَاحِرٌ" بِالْأَلْفِ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ يَقْضِيهِ وَحْدَهُ، ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ مَعْنَاهُ: أَنَّ الشُّفَعَاءَ لَا يَشْفَعُونَ
(١) أخرجه الطبري عن ابن عباس: ١٥ / ١٣، وانظر: أسباب النزول ص (٣٠٥)، الدر المنثور: ٤ / ٣٤٠ وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه مطولا.
(٢) انظر في هذه الأقوال: الطبري: ١٥ / ١٣-١٦ وقال: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثواب" ثم ساق على ذلك شواهد من الشعر.
إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تُشَفِّعُنِي اللَّاتُ وَالْعُزَّى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ يَعْنِي: الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَبُّكُمْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرُهُ، ﴿فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ تَتَّعِظُونَ.
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) ﴾.
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ صِدْقًا لَا خِلْفَ فِيهِ. نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَعَدَكُمْ وَعْدًا حَقًّا ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أَيْ: يُحْيِيهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ، قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: ﴿إِنَّهُ﴾ بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "أَنَّهُ" بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِأَنَّهُ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾ بِالْعَدْلِ، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ مَاءٌ حَارٌّ انْتَهَى حَرُّهُ، ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾ بِالنَّهَارِ، ﴿وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ بِاللَّيْلِ. وَقِيلَ: جَعَلَ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ، وَالْقَمَرَ ذَا نُورٍ، ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ أَيْ: قَدَّرَ لَهُ، يَعْنِي: هَيَّأَ لَهُ مَنَازِلَ لَا يُجَاوِزُهَا وَلَا يَقْصُرُ دُونَهَا، وَلَمْ يَقُلْ: قَدَّرَهُمَا.
قِيلَ: تَقْدِيرُ الْمَنَازِلِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ: " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " (التَّوْبَةِ -٦٢).
وَقِيلَ: هُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَمَرِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْقَمَرَ يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ، لَا بِالشَّمْسِ.
وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا وَأَسْمَاؤُهَا: الشَّرْطَيْنُ، وَالْبُطَيْنُ، والثُّرَيَّاءُ، وَالدُّبْرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنِّسْرُ، وَالطَّوْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصِّرْفَةُ، وَالْعُوَاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالزِّبَانِيُّ، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَايِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحِ، وَسَعْدُ بَلْعٍ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَفَرْعُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ، وَفَرْعُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.
وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْبُرُوجِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ.
وَلِكُلِّ بُرْجٍ مَنْزِلَانِ وَثُلْثُ مَنْزِلٍ، فَيَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَة مَنْزِلًا مِنْهَا، وَيَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَلَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ تِلْكَ الْمَنَازِلُ وَيَكُونُ مَقَامُ الشَّمْسِ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَيَكُونُ انْقِضَاءُ السَّنَةِ مَعَ انْقِضَائِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ﴾ أَيْ: قَدْرَ الْمَنَازِلِ "لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ" دُخُولَهَا وَانْقِضَاءَهَا، ﴿وَالْحِسَابَ﴾ يَعْنِي: حِسَابَ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ. ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ﴾ رَدَّهُ إِلَى الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَوْ رَدَّهُ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ لَقَالَ: تِلْكَ. ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: لَمْ يَخْلُقْهُ بَاطِلًا بَلْ إِظْهَارًا لِصُنْعِهِ وَدَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ. ﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: "يَفَصِّلُ" بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ: "مَا خَلَقَ" وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: "نُفَصِّلُ" بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ.
﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) ﴾.
﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ يُؤْمِنُونَ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ أَيْ: لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابَنَا. وَالرَّجَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فَاخْتَارُوهَا وَعَمِلُوا لَهَا، ﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ سَكَنُوا إِلَيْهَا. ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾ أَيْ: عَنْ أَدِلَّتِنَا غَافِلُونَ لَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنْ آيَاتِنَا عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ غَافِلُونَ مُعْرِضُونَ.
﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: يُرْشِدُهُمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى جَنَّةٍ، ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْجَنَّةِ، يَجْعَلُ لَهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ.
وَقِيلَ: " يَهْدِيهِمْ " مَعْنَاهُ يُثِيبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِإِيمَانِهِمْ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ لِدِينِهِ، أَيْ: بِتَصْدِيقِهِمْ هَدَاهُمْ " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ " أَيْ: بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا " (مَرْيَمَ -٢٤) لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَهَا وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَلَيْهِ، بَلْ أَرَادَ بَيْنَ يَدَيْهَا.
وَقِيلَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ: بِأَمْرِهِمْ، ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) ﴾.
﴿دَعْوَاهُمْ﴾ أَيْ: قَوْلُهُمْ وَكَلَامُهُمْ. وَقِيلَ: دُعَاؤُهُمْ. ﴿فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ وَهِيَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ، تُنَزِّهُ اللَّهَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ. وَرَوَيْنَا: "أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبِيحَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ" (١).
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْخَدَمِ فِي الطَّعَامِ، فَإِذَا أَرَادُوا الطَّعَامَ قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَأَتَوْهُمْ فِي الْوَقْتِ بِمَا يَشْتَهُونَ عَلَى الْمَوَائِدِ، كُلُّ مَائِدَةٍ مِيلٌ فِي مِيلٍ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ صَحْفَةٍ، وَفِي كُلِّ صَحْفَةٍ لَوْنٌ مِنَ الطَّعَامِ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ حَمِدُوا اللَّهَ، فَذَلِكَ، قوله تعالى: ١٦٨/ب ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ أَيْ: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ. وَقِيلَ: تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِالسَّلَامِ.
وَقِيلَ: تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ بِالسَّلَامِ.
﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يُرِيدُ: يَفْتَتِحُونَ كَلَامَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ، وَيَخْتِمُونَهُ بِالتَّحْمِيدِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْغَضَبِ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ: لَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَلَا بَارَكَ فِيكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ. مَعْنَاهُ: لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ النَّاسَ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ فِي الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ اسْتِعْجَالَهُمْ
(١) عن جابر قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن أهل الجنة يأكلون فيا ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوَّطون ولا يمتخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك. يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس". رواه مسلم، في الجنة وصفة نعيمها، باب في صفات الجنة وأهلها.. (٣٨٣٥) : ٤ / ٢١٨٠-٢١٨١.
(٢) ساق السيوطي عدة روايات في ذلك. الدر المنثور: ٤ / ٣٤٥-٣٤٦.
بِالْخَيْرِ، أَيْ: كَمَا يُحِبُّونَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ، ﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: "لَقَضَى" بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ، ﴿أَجَلَهُمْ﴾ نُصِبَ، أَيْ: لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ وَأَمَاتَهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: "لَقُضِيَ" بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ "أَجَلُهُمْ" رُفِعَ، أَيْ: لَفَرَغَ مِنْ هَلَاكِهِمْ وَمَاتُوا جَمِيعًا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ " (١) الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ -٣٢) يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ، ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّلَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشْرَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهْ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَيَصْدُرُ مِنِّي مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، أَوْ شَتَمْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (٢).
﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ﴾ الْجَهْدُ وَالشِّدَّةُ، ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ﴾ أَيْ: عَلَى جَنْبِهِ مُضْطَجِعًا، ﴿أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ يُرِيدُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْدُو إِحْدَى هَذِهِ الْحَالَاتِ. ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ دَفَعْنَا ﴿عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ أَيِ اسْتَمَرَّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الضُّرُّ، وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ أَيْ: لَمْ يَطْلُبْ مِنَّا كَشْفَ ضُرٍّ مَسَّهُ. ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ الْمُجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الْعِصْيَانِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَتَرَكِ الشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا زَيَّنَ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ زَيَّنَ لِلْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَنْ قَبِلَكُمْ أَعْمَالَهُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ أَشْرَكُوا، ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ﴾
(١) انظر: المحرر الوجيز: ٧ / ١١٣.
(٢) أخرجه البخاري في الدعوات، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة": ١١ / ١٧١، ومسلم في البر والصلة، باب من لعنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سبه... برقم (٢٦٠١) : ٤ / ٢٠٠٨، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ٨.
أَيْ: كَمَا أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، ﴿نَجْزِي﴾ نُعَاقِبُ وَنُهْلِكُ، ﴿الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ الْكَافِرِينَ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخَوِّفُ كَفَّارَ مَكَّةَ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ.
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) ﴾.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦) ﴾.
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ﴾ أَيْ: خُلَفَاءَ، ﴿فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ، ﴿لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (١).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ قَالَ قَتَادَةُ (٢) : يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ (٣) هَمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ الْعَامِرِيُّ، والعاصُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ. ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ هَمُ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ لَيْسَ فِيهِ تَرْكُ عِبَادَةِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْهَا اللَّهُ فَقُلْ أَنْتَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ، ﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾ فَاجْعَلْ مَكَانَ آيَةِ عَذَابٍ آيَةَ رَحْمَةٍ، أَوْ مَكَانَ حَرَامٍ حَلَالًا أَوْ مَكَانَ حَلَّالٍ حَرَامًا، ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ أَيْ: مَا أَتْبَعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ يَعْنِي: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيَّ. ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ أَيْ: وَلَا أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ. قَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ: "وَلَأَدْرَاكُمْ بِهِ" بِالْقَصْرِ بِهِ عَلَى الْإِيجَابِ، يُرِيدُ: وَلَا عَلَّمَكُمْ
(١) أخرجه مسلم في الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء... برقم (٢٧٤٢) : ٤ / ٢٠٩٨، والمصنف في شرح السنة: ٩ / ١٢.
(٢) في أسباب النزول للواحدي ص (٣٠٥) : مجاهد. وانظر: الدر المنثور: ٤ / ٣٤٧.
(٣) أسباب النزول ص (٣٠٥).
بِهِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَتِي عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَلَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ" مِنَ الْإِنْذَارِ. ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا﴾ حِينًا وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَلَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قِبَلِي، وَلَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْوَحْيِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ هَاجَرَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَرَوَى أَنَسٌ: أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْوَحْيِ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ (١).
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ لَا يَنْجُو الْمُشْرِكُونَ.
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ﴾ إِنْ عَصَوْهُ وَتَرَكُوا عِبَادَتَهُ، ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ إِنْ عَبَدُوهُ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ﴾ أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ، ﴿بِمَا لَا يَعْلَمُ﴾ اللَّهُ صِحَّتَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، أَوْ عِنْدَهُ شَفِيعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ شريكا؟! ﴿فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "تشركون" بالتاء، ها هنا وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ مَوْضِعَيْنِ، وَفِي سُورَةِ الرُّومِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ كُلَّهَا بِالْيَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أَيْ: عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢) ﴿فَاخْتَلَفُوا﴾ وَتَفَرَّقُوا إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بِأَنْ جَعَلَ
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١٣ / ٥٤، ١٤ / ٢٩١، وابن سعد في الطبقات: ٢ / ٣٠٨، وعبد الرزاق: ٣ / ٥٩٩. وانظر: الدر المنثور: ٤ / ٣٤٨-٣٤٩، كنز العمال: رقم (٤٧٥٠).
(٢) انظر فيما سبق: ١ / ٢٤٣-٢٤٤.
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ إِمْهَالُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فَصْلًا بَيْنَهُمْ، ﴿فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ وَقَالَ الْحَسَنُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، مَضَتْ فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ: لَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دُونَ الْقِيَامَةِ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَدْخَلَ الْمُؤْمِنَ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرَ النَّارَ، وَلَكِنَّهُ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ الْأَجَلُ فَجَعَلَ مَوْعِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) ﴾.
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ أَيْ: عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ عَلَى مَا نَقْتَرِحُهُ، ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ يَعْنِي: قُلْ إِنَّمَا سَأَلْتُمُونِي الْغَيْبَ وَإِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ لِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: الْغَيْبُ نزول الآية ١٦٩/ألَا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ نُزُولَهَا ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ وَقِيلَ: فَانْتَظِرُوا قَضَاءَ اللَّهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ﴾ يَعْنِي: الْكُفَّارَ، ﴿رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ﴾ أَيْ: رَاحَةً وَرَخَاءً مِنْ بَعْدِ شِدَّةٍ وَبَلَاءٍ. وَقِيلَ: الْقَطْرُ بَعْدَ الْقَحْطِ، ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ أَيْ: أَصَابَتْهُمْ، ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: تَكْذِيبٌ وَاسْتِهْزَاءٌ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا يَقُولُونَ: هَذَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ " (الْوَاقِعَةِ -٨٢).
﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾ أَعْجَلُ عُقُوبَةً وَأَشَدُّ أَخْذًا وَأَقْدَرُ عَلَى الْجَزَاءِ، يُرِيدُ عَذَابُهُ فِي إِهْلَاكِكُمْ أَسْرَعُ إِلَيْكُمْ مِمَّا يَأْتِي مِنْكُمْ فِي دَفْعِ الْحَقِّ، ﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ حَفَظَتَنَا، ﴿يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "يَمْكُرُونَ" بِالْيَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ﴾ يُجْرِيكُمْ وَيَحْمِلُكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: "يُنْشِرُكُمْ" بِالنُّونِ وَالشِّينِ مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ وَالْبَثُّ، "فِي الْبَرِّ"، عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ، وَفِي ﴿الْبَحْرِ﴾ عَلَى
الْفُلْكِ، ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ أَيْ: فِي السُّفُنِ، تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ يَعْنِي: جَرَتِ السُّفُنُ بِالنَّاسِ، رَجَعَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ، ﴿بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ لَيِّنَةٍ، ﴿وَفَرِحُوا بِهَا﴾ أَيْ: بِالرِّيحِ، ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ﴾ أَيْ: جَاءَتِ الْفُلْكَ رِيحٌ، ﴿عَاصِفٌ﴾ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَلَمْ يَقُلْ رِيحٌ عَاصِفَةٌ، لِاخْتِصَاصِ الرِّيحِ بِالْعُصُوفِ. وَقِيلَ: الرِّيحُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. ﴿وَجَاءَهُمْ﴾ يَعْنِي: رُكْبَانَ السَّفِينَةِ، ﴿الْمَوْجُ﴾ وَهُوَ حَرَكَةُ الْمَاءِ وَاخْتِلَاطُهُ، ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا﴾ أَيْقَنُوا ﴿أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ دَنَوْا مِنَ الْهَلَكَةِ، أَيْ: أَحَاطَ بِهِمُ الْهَلَاكُ، ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ: أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ لِلَّهِ وَلَمْ يَدْعُوا أَحَدًا سِوَى اللَّهِ. وَقَالُوا ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ يَا رَبَّنَا، ﴿مِنْ هَذِهِ﴾ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لَكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) ﴾.
﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يَظْلِمُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ إِلَى غَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْفَسَادِ. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ لِأَنَّ وَبَالَهُ رَاجِعٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: هَذَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، كَقَوْلِهِ: " لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ " (الْأَحْقَافِ -٣٥)، أَيْ: هَذَا بَلَاغٌ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ وَالْبَغْيُ: ابْتِدَاءٌ، وَمَتَاعٌ: خَبَرُهُ.
وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا يَصْلُحُ [زَادًا لِمَعَادٍ] (١) لِأَنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ غَضَبَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ: "مَتَاعَ" بِالنَّصْبِ، أَيْ تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فِي فَنَائِهَا وَزَوَالِهَا، ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ﴾
(١) في "أ" (لزاد المعاد).
أَيْ: بِالْمَطَرِ، ﴿نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، ﴿وَالْأَنْعَامِ﴾ مِنَ الْحَشِيشِ، ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾ حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَظَهَرَ الزَّهْرُ أَخْضَرَ وَأَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَبْيَضَ ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ أَيْ: تَزَيَّنَتْ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "تَزَيَّنَتْ". ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ عَلَى جِذَاذِهَا وَقِطَافِهَا وَحَصَادِهَا، رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ: النَّبَاتُ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا، وَقِيلَ: رَدَّهَا إِلَى الْغَلَّةِ. وَقِيلَ: إِلَى الزِّينَةِ. ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ قَضَاؤُنَا، بِإِهْلَاكِهَا، ﴿لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾ أَيْ: مَحْصُودَةً مَقْطُوعَةً، ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِالْأَمْسِ، وَأَصْلُهُ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَشَبِّثَ بِالدُّنْيَا يَأْتِيهِ أَمْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ. ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ، وَدَارُهُ: الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّلَامِ التَّحِيَّةُ سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ، لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ وَالْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " (الرَّعْدِ -٢٣).
وَرَوَيْنَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ [فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا:] (١) إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا. قَالَ: فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ: دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ: لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، [فَقَالُوا أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا:] (٢) فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ" (٣).
﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ، عَمَّ بِالدَّعْوَةِ لِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ، وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الْخَلْقِ.
(١) ما بين القوسين من صحيح البخاري وشرح السنة للمصنف، وهو أيضا في المطبوع.
(٢) ما بين القوسين من صحيح البخاري وشرح السنة للمصنف، وهو أيضا في المطبوع.
(٣) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ١٣ / ٢٤٩، والمصنف في شرح السنة: ١ / ١٩٢.
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ أَيْ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَزِيَادَةٌ: وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] (١) الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْأُسُودُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ -يَعْنِي الْبُنَانِيَّ-عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، قَالُوا: مَا هَذَا الْمَوْعُودُ؟ (٢) أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، ويُجِرْنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ" (٣).
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ: أَنَّ الْحَسَنَةَ بِمِثْلِهَا وَالزِّيَادَةَ هِيَ التَّضْعِيفُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ (٤). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى: حَسَنَةٌ مِثْلُ حَسَنَةٍ، وَالزِّيَادَةُ الْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ (٥).
﴿وَلَا يَرْهَقُ﴾ لَا يَغْشَى ﴿وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ غُبَارٌ، جَمْعُ قَتْرَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: سَوَادُ الْوَجْهِ، ﴿وَلَا ذِلَّةٌ﴾ هَوَانٌ. قَالَ قَتَادَةُ: كَآبَةٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هَذَا بُعْدُ نَظَرِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
(١) ساقط من "ب".
(٢) في "ب": (الموعد).
(٣) أخرجه مسلم في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، برقم (١٨١-١٨٢) : ١ / ١٦٣، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٢٣٠.
(٤) أخرجه الطبري عن ابن عباس: ١٥ / ٧٠.
(٥) الطبري: ١٥ / ٧١. وقال رحمه الله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى، أن يجزيهم على طاعتهم إياه الجنة، وأن تبيضَّ وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة: أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرَفًا من لآلئ، وأن يزيدهم غفرانًا ورضوانًا. كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمَّ ربنا جل ثناؤه بقوله: "وزيادة" الزيادات على "الحسنى" فلم يخصص منها شيئا دون شيء. وغير مُسْتَنْكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يُعَمَّ، كما عمَّه عز ذكره".
﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) ﴾.
﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ ١٦٩/ب أَيْ: لَهُمْ مَثْلُهَا، كَمَا قَالَ: " وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا " (الْأَنْعَامِ -١٦٠). ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ وَ"مِنْ" صِلَةٌ، أَيْ: مَالَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَاصِمٌ، ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ أُلْبِسَتْ، ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا﴾ جَمْعُ قِطْعَةٍ، ﴿مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ نُصِبَتْ عَلَى الْحَالِ دُونَ النَّعْتِ، وَلِذَلِكَ لَمَّ يَقُلْ: مُظْلِمَةٌ، تَقْدِيرُهُ: قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ فِي حَالِ ظُلْمَتِهِ، أَوْ قِطْعًا مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: "قِطْعًا" سَاكِنَةَ الطَّاءِ، أَيْ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ: "بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ" (هُودٍ -٨١). ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ﴾ [أَيِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ] (١) ﴿أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ يَعْنِي: الْأَوْثَانَ، مَعْنَاهُ: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا: الْزَمُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ مَكَانَكُمْ، وَلَا تَبْرَحُوا. ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ مَيَّزْنَا وَفَرَّقْنَا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ، وَقَطَعْنَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّوَاصُلِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ حِينَ يَتَبَرَّأُ كُلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ عَبَدَهُ، ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، ﴿مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ بِطِلْبَتِنَا فَيَقُولُونَ: بَلَى، كُنَّا نَعْبُدُكُمْ، فَتَقُولُ الْأَصْنَامُ:
﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾ أَيْ: مَا كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ إِيَّانَا إِلَّا غَافِلِينَ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ وَلَا نَعْقِلُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو﴾ أَيْ: تُخْتَبَرُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَعْلَمُ وَتَقِفُ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: "تَتْلُو" بِتَاءَيْنِ، أَيْ: تَقْرَأُ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ صَحِيفَتَهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَتْبَعُ كُلُّ نَفْسٍ ﴿مَا أَسْلَفَتْ﴾
(١) ساقط من "أ".
مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تُعَايِنُ، ﴿وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ إِلَى حُكْمِهِ فَيَتَفَرَّدُ فِيهِمْ بِالْحُكْمِ، ﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ الَّذِي يَتَوَلَّى وَيَمْلِكُ أُمُورَهُمْ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " (مُحَمَّدٍ -١١) ؟ قِيلَ: الْمَوْلَى هُنَاكَ بمعنى الناصر، وها هنا بِمَعْنَى: الْمَالِكِ، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ زَالَ عَنْهُمْ وَبَطَلَ، ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّكْذِيبِ.
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) ﴾.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ بِالْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ أَيْ: مِنْ إِعْطَائِكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ وَالنُّطْفَةَ مِنَ الْحَيِّ، ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ أَيْ: يَقْضِي الْأَمْرَ، ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، ﴿فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ فِي شِرْكِكُمْ؟ وَقِيلَ: أَفَلَا تَتَّقُونَ الشِّرْكَ مَعَ هَذَا الْإِقْرَارِ؟.
﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ﴾ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هُوَ رَبُّكُمْ، ﴿الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ أَيْ: فَأَيْنَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِهِ؟.
﴿كَذَلِكَ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَكَذَا، ﴿حَقَّتْ﴾ وَجَبَتْ، ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ حُكْمُهُ السَّابِقُ، ﴿عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ كَفَرُوا، ﴿أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ "كَلِمَاتُ ربك" بالجمع ها هنا مَوْضِعَيْنِ، وَفِي الْمُؤْمِنِ، وَالْآخَرُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ أَوْثَانِكُمْ ﴿مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ يُنْشِئُ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ، ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ ثُمَّ يُحْيِيهِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ كَهَيْئَتِهِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَـ ﴿قُلْ﴾ أَنْتَ: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ: تُصْرَفُونَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦) ﴾.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي﴾ يُرْشِدُ، ﴿إِلَى الْحَقِّ﴾ فَإِذَا قَالُوا: لَا -وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ- ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ أَيْ إِلَى الْحَقِّ.
﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سَاكِنَةَ الْهَاءِ، خَفِيفَةَ الدَّالِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَقَالُونُ: بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِرَوْمِ الْهَاءِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، وَمَعْنَاهُ: يَهْتَدِي -فِي جَمِيعِهَا-فَمَنْ خَفَّفَ الدَّالَ، قَالَ: يُقَالُ: هَدَيْتُهُ فَهُدِي، أَيِ: اهْتَدَى، وَمَنْ شَدَّدَ الدَّالَ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ، ثُمَّ أَبُو عَمْرٍو يَرُومُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي إِيثَارِ التَّخْفِيفِ، وَمَنْ سَكَّنَ الْهَاءَ تَرَكَهَا عَلَى حَالَتِهَا كَمَا فَعَلَ فِي "تَعْدُّوا" وَ"يَخْصِّمُونَ" وَمَنْ فَتَحَ الْهَاءَ نَقَلَ فَتْحَةَ التَّاءِ الْمُدْغَمَةِ إِلَى الْهَاءِ، وَمَنْ كَسَرَ الْهَاءَ فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَالَ الْجَزْمُ يُحَرَّكُ إِلَى الْكَسْرِ، وَمِنْ كَسَرَ الْيَاءَ، مَعَ الْهَاءِ أَتْبَعَ الْكَسْرَةَ الْكَسْرَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ مَعْنَى الْآيَةِ: اللَّهُ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الصَّنَمُ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى؟.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: "إِلَّا أَنْ يُهْدَى"، وَالصَّنَمُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَهْتَدِيَ وَلَا أَنْ يُهْدَى؟.
قِيلَ: مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي حَقِّ الْأَصْنَامِ الِانْتِقَالُ، أَيْ: أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ وَتُنْقَلَ، يَتَبَيَّنُ بِهِ عَجْزُ الْأَصْنَامِ.
وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ ذِكْرَ الْهِدَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً وَأَنْزَلُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْهَا بِمَا يُعَبَّرُ عَمَّنْ يَعْلَمُ وَيَعْقِلُ، وَوُصِفَتْ بِصِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ.
﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ كَيْفَ تَقْضُونَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا؟
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا﴾ مِنْهُمْ، يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ، وَإِنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ، لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، وَأَرَادَ بِالْأَكْثَرِ: جَمِيعَ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ أَيْ: لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. وَقِيلَ: لَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ: وَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ " (آلِ عِمْرَانَ -١٦١).
وَقِيلَ: "أَنْ" بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ الْقُرْآنِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وَقِيلَ: تَصْدِيقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ تَبْيِينَ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ، ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "أَمْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَيَقُولُونَ، ﴿افْتَرَاهُ﴾ اخْتَلَقَ مُحَمَّدٌ الْقُرْآنَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ شِبْهِ الْقُرْآنِ ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ مِمَّنْ تَعْبُدُونَ، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ لِيُعِينُوكُمْ عَلَى ذَلِكَ، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ ثُمَّ قَالَ:
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، كَذَّبُوا بِهِ وَلَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أَيْ: عَاقِبَةُ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِي القرآن، أنه يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لَمْ يعلموا ما يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ. ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِالْقُرْآنِ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ آخِرُ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْهَلَاكِ.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ أَيْ: مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ لِعِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ فِيهِمْ، ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ ١٧٠/أالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.
﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي﴾ وَجَزَاؤُهُ، ﴿وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ وَجَزَاؤُهُ، ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ " (الْقَصَصِ -٥٥)،
" لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ " (الْكَافِرُونَ -٦).
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْجِهَادِ (١).
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْإِيمَانِ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) ﴾.
(١) ورواه الطبري أيضا عن ابن زيد: ١٥ / ٩٥. وانظر: الدر المنثور: ٤ / ٣٦٤. وانظر فيما سبق: ٣ / ٣٢ تعليق (١).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) ﴾.
فَقَالَ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ بِأَسْمَاعِهِمُ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَنْفَعُهُمْ، ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ يُرِيدُ: سَمْعَ الْقَلْبِ، ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾ بِأَبْصَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ، ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ يُرِيدُ عَمَى الْقَلْبِ، ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾ وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُسْمِعَ مَنْ سَلَبْتُهُ السَّمْعَ، وَلَا أَنْ تَهْدِيَ مَنْ سَلَبْتُهُ الْبَصَرَ، وَلَا أَنْ تُوَفِّقَ لِلْإِيمَانِ مَنْ حَكَمْتُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ مُتَفَضِّلٌ عَادِلٌ، ﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بِالْكَفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ قَرَأَ حَفْصٌ بِالْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالنُّونِ، ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا قَدْرَ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حِينَ بُعِثُوا مِنَ الْقُبُورِ كَمَعْرِفَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ إِذَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ بِجَنْبِهِ وَلَا يُكَلِّمُهُ هَيْبَةً وَخَشْيَةً. (١)
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ وَالْمُرَادُ مِنَ الْخُسْرَانِ: خُسْرَانُ النَّفْسِ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
(١) عزاه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن. الدر المنثور: ٤ / ٣٦٥.
﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ فِي حَيَاتِكَ مِنَ الْعَذَابِ، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قَبْلَ تَعْذِيبِهِمْ، ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ فِي الْآخِرَةِ، ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ فَيَجْزِيهِمْ بِهِ، "ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهُ شَهِيدٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَكَانَ الْبَعْضُ الَّذِي أَرَاهُ قَتْلَهُمْ بِبَدْرٍ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ﴾ وَكَذَّبُوهُ، ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا وَأُهْلِكُوا بِالْعَذَابِ، يَعْنِي: قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُضِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لَا يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ أَيْ: وَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ الَّذِي تَعِدُنَا يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: قِيَامُ السَّاعَةِ، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَأَتْبَاعُكَ.
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ لَا أَقْدِرُ لَهَا عَلَى شَيْءٍ، ﴿ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ أَيْ: دَفْعَ ضُرٍّ وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ، ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أَنْ أَمْلِكَهُ، ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ، ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ وَقْتُ فَنَاءِ أَعْمَارِهِمْ، ﴿فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَأَخَّرُونَ وَلَا يَتَقَدَّمُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا﴾ لَيْلًا ﴿أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ أَيْ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنَ اللَّهِ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ، وَقَدْ وَقَعُوا فِيهِ؟ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ، فَيَقُولُونَ: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " (الْأَنْفَالِ -٣٢). فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَاذَا يَسْتَعْجِلُ﴾ يَعْنِي: أَيْشٍ (١) يَعْلَمُ
(١) أي شي؟.
الْمُجْرِمُونَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُونَ وَيَطْلُبُونَ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ وَقَدْ فَعَلَ قَبِيحًا مَاذَا جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.
﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) ﴾.
﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) ﴾.
﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَهُنَالِكَ؟ وَحِينَئِذٍ، وَلَيْسَ بِحَرْفِ عَطْفٍ، " إِذَا مَا وَقَعَ " نَزَلَ الْعَذَابُ، ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أَيْ بِاللَّهِ فِي وَقْتِ الْيَأْسِ. وَقِيلَ: آمَنْتُمْ بِهِ أَيْ صَدَّقْتُمْ بِالْعَذَابِ وَقْتَ نُزُولِهِ، ﴿آلْآنَ﴾ فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: يُقَالُ لَكُمْ: آلْآنَ تُؤْمِنُونَ حِينَ وَقَعَ الْعَذَابُ؟ ﴿وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً.
﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أَشْرَكُوا، ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ فِي الدُّنْيَا.
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾ أَيْ: يَسْتَخْبِرُونَكَ يَا مُحَمَّدُ، ﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ أَيْ: مَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾ أَيْ: نَعَمْ وَرَبِّي، ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ لَا شَكَّ فِيهِ، ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أَيْ: بِفَائِتِينَ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ فَاتَهُ.
﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾ أَيْ: أَشْرَكَتْ، ﴿مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ﴾ يَوْمَ القيامة، والافتداء ها هنا: بَذْلُ مَا يَنْجُو بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ: أَظْهَرُوا النَّدَامَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ تَصَبُّرٍ وَتَصَنُّعٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْفَوْا أَيْ: أَخْفَى الرُّؤَسَاءُ النَّدَامَةَ مِنَ الضُّعَفَاءِ، خَوْفًا من ملامتهم وتعبيرهم، ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ فَرَغَ مِنْ عَذَابِهِمْ، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ ما في السموات وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ تَذْكِرَةٌ، ﴿مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ أَيْ: دَوَاءٌ لِلْجَهْلِ، لِمَا فِي الصُّدُورِ. أَيْ: شِفَاءٌ لِعَمَى الْقُلُوبِ، وَالصَّدْرُ: مَوْضِعُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي الْإِنْسَانِ لِجِوَارِ الْقَلْبِ، ﴿وَهُدًى﴾ مِنَ الضَّلَالَةِ، ﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وَالرَّحْمَةُ هِيَ النِّعْمَةُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَهْدَى مَلِكٌ إِلَى مَلِكٍ شَيْئًا لَا يُقَالُ قَدْ رَحِمَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا فِي مُحْتَاجٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ (١). وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: فَضْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ (٢).
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: تَزْيِينُهُ فِي الْقَلْبِ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: السُّنَنُ.
وَقِيلَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْجَنَّةُ.
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ أَيْ: لِيَفْرَحَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، ﴿هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أَيْ: مِمَّا يَجْمَعُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: كِلَاهُمَا خَبَرٌ عَنِ الْكُفَّارِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: "فَلْيَفْرَحُوا" بِالْيَاءِ، و"تَجْمَعُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ كِلَيْهِمَا بِالتَّاءِ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ.
﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِكَفَّارِ مَكَّةَ، ﴿أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾ عَبَّرَ عَنِ الْخَلْقِ بِالْإِنْزَالِ، لِأَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ، فَمِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ رِزْقٍ، مِنْ زَرْعٍ وَضَرْعٍ، ﴿فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ هُوَ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَمِنَ الْأَنْعَامِ كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ وَالِحَامِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنعام نصيبا " ١٧٠/ب (الأنعام -١٣٦). ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، ﴿أَمْ﴾ بَلْ، ﴿عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ".
(١) انظر: الطبري: ١٥ / ١٠٧.
(٢) الطبري: ١٥ / ١٠٦ وانظر الدر المنثور: ٤ / ٣٦٧-٣٦٨، وفيهما سائر الأقوال.
﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١) ﴾.
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) ﴾.
﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أَيَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِهِ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا تَكُونُ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿فِي شَأْنٍ﴾ عَمَلٍ مِنَ الأعمال، وجمعه شُؤون، ﴿وَمَا تَتْلُو مِنْهُ﴾ مِنَ اللَّهِ، ﴿مِنْ قُرْآنٍ﴾ نَازِلٍ، وَقِيلَ: مِنْهُ أَيْ مِنَ الشَّأْنِ مِنْ قُرْآنٍ، نَزَلَ فِيهِ ثُمَّ خَاطَبَهُ وَأُمَّتَهُ فَقَالَ: ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أَيْ: تَدْخُلُونَ وَتَخُوضُونَ فِيهِ، الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَالْإِفَاضَةُ: الدُّخُولُ فِي الْعَمَلِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَنْدَفِعُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: تُكْثِرُونَ فِيهِ. وَالْإِفَاضَةُ: الدَّفْعُ بِكَثْرَةٍ.
﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ يَغِيبُ عَنْ رَبِّكَ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "يَعْزِبُ" بِكَسْرِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ أَيْ: مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، و"مِنْ" صِلَةٌ، وَالذَّرَّةُ هِيَ: النَّمْلَةُ الْحُمَيْرَاءُ الصَّغِيرَةُ. ﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أَيْ: مِنَ الذَّرَّةِ، ﴿وَلَا أَكْبَرَ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: بِرَفْعِ الرَّاءِ فِيهِمَا، عَطْفًا عَلَى مَوْضِع الْمِثْقَالِ قَبْلَ دُخُولِ "مِنْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِنَصْبِهِمَا، إِرَادَةً لِلْكَسْرَةِ، عَطْفًا عَلَى الذَّرَّةِ فِي الْكَسْرِ. ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ [ابْنِ] (١) أَبِي حُسَيْنٍ
(١) من "شرح السنة" و"مصنف عبد الرزاق"، و"مسند الإمام أحمد".
عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ لِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيٌّ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِشْرَ، فَقَالَ: "هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى وَقَبَائِلَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرَوْحِ اللَّهِ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ" (١).
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الذين إذا رؤوا ذُكِرَ اللَّهُ" (٢).
وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي وأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ" (٣).
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) ﴾.
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبُشْرَى: رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، قَالَ: "هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ" (٤).
(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ١١ / ٢٠١-٢٠٢، والطبري: ١٥ / ١٢٢، والإمام أحمد في المسند: ٥ / ٣٤١، ٣٤٣، والمصنف في شرح السنة: ١٣ / ٥٠، وذكره في المصابيح: ٣ / ٣٧٩، وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الحاكم وصححه: ٤ / ١٧٠-١٧١ وأقره الذهبي، ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان برقم (٢٥٠٨) ص (٦٢١) من موارد الظمآن. ومن حديث عمر رضي الله عنه أخرجه أبو داود، وإسحاق بن راهويه، وهناد ١ / ٥٦٤، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم. والبيهقي في الشعب. انظر: الدر المنثور: ٤ / ٣٧٢، الكافي الشاف ص (٨٤)، مجمع الزوائد: ١٠ / ٢٧٦-٢٧٩، الزهد للإمام هناد بن السري: ١ / ٥٦٤-٥٦٥ مع تعليق المحقق. والحديث إسناده صحيح بشواهده.
(٢) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص (٢٤٨-٢٤٩).
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند: ٣ / ٤٣٠. قال الهيثمي في المجمع: ١ / ٥٨ "رواه أحمد، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، وذكره أيضا: ١ / ٨٩ من رواية الطبراني في الكبير، وقال: "فيه رشدين، وهو ضعيف". وانظر: الدر المنثور: ٤ / ٣٧١.
(٤) أخرجه الترمذي في الرؤيا، باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات: ٦ / ٥٥٤، وابن ماجه في الرؤيا، برقم (٣٨٩٨) : ٢ / ١٢٨٣، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: ٢ / ٣٤٠، ٤ / ٣٩١، والدارمي في الرؤيا: ٢ / ١٢٣، والإمام أحمد في المسند: ٥ / ٣١٥، ٣٢١، والطيالسي ص (٧٩). قال ابن حجر: في فتح الباري: "ورواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة". وانظر: الكافي الشاف ص (٨٤).
140
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِد الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ"، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ" (١).
وَقِيلَ: الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا هِيَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَفِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ" (٢). وَأَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، وَقَالَ: "وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ". (٣).
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: هِيَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِالْبِشَارَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " تَتَنَزَّلُ عليهم الملائكة أن لا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ " (فُصِّلَتْ -٣٠)
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا، يُرِيدُ: عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، وَيُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مَا بَشَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَكِرِيمِ ثَوَابِهِ، كَقَوْلِهِ: " وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " (الْبَقْرَةِ -٢٥)، " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " (الْأَحْزَابِ -٤٧) " وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ " (فُصِّلَتْ -٣٠).
وَقِيلَ: بَشَّرَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَيُبَشِّرُهُمْ فِي الْقُبُورِ وَفِي كُتُبِ أَعْمَالِهِمْ بِالْجَنَّةِ (٤).
﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ لَا تَغْيِيرَ لِقَوْلِهِ، وَلَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ. ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
(١) أخرجه البخاري في التعبير، باب المبشرات: ١٢ / ٣٧٥، والمصنف في شرح السنة: ١٢ / ٢٠٢.
(٢) شرح السنة للبغوي: ١٤ / ٣٢٧.
(٣) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى لا تضره، برقم (٢٦٤٢) : ٤ / ٢٠٣٤-٢٠٣٥، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٣٢٨.
(٤) ساق الإمام الطبري رحمه الله، الأقوال في تفسير "البشرى" التي بشَّر الله بها هؤلاء القوم، ثم قال: "وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين، البشرى في الحياة الدنيا. ومن البشارة في الحياة الدنيا: الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له، ومنها بشرى الملائكة إياه، عند خروج نفسه، برحمة الله، كما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... ، ومنها بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الثواب الجزيل... وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشَّره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمَّهُ جل ثناؤه: أن لهم البشرى في الحياة الدنيا. وأما في الآخرة فالجنة" انظر: تفسير الطبري: ١٥ / ١٤٠-١٤١.
141
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) ﴾.
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ يَعْنِي: قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ تَمَّ الكلام ها هنا ثُمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ﴾ يَعْنِي الْغَلَبَةَ وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ ﴿جَمِيعًا﴾ هُوَ نَاصِرُكَ، وَنَاصِرُ دِينِكَ، وَالْمُنْتَقِمُ مِنْهُمْ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " (الْمُنَافِقُونَ -٨)، وَعِزَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ فَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ.
﴿هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ﴾ هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ؟
وَقِيلَ: وَمَا يَتَّبِعُونَ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فَيَشْفَعُونَ لَنَا، وَلَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّونَ. ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ يَكْذِبُونَ.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ مُضِيئًا يُبْصَرُ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ نَائِمٌ وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَضَاءَ النَّهَارُ وَأَبْصَرَ، أَيْ: صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ وَضِيَاءٍ وَبَصَرٍ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سَمْعَ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا عَالِمٌ قَادِرٌ.
﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ وَهُوَ قَوْلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عَنْ خَلْقِهِ، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ عَبِيدًا وَمُلْكًا، ﴿إِنْ عِنْدَكُمْ﴾ مَا عِنْدَكُمْ، ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، و"مِنْ" صِلَةٌ.
﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ ١٧١/ألَا يَنْجُونَ، وَقِيلَ: لَا يَبْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنْ:
﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) ﴾.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) ﴾.
﴿مَتَاعٌ﴾ قَلِيلٌ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ وَبَلَاغٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ: و"مَتَاعٌ" رُفِعَ بِإِضْمَارٍ، أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ، ﴿فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ أَيِ: اقْرَأْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَ نُوحٍ ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ وَهُمْ وَلَدُ قَابِيلَ، ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ﴾ عَظُمَ وَثَقُلَ عَلَيْكُمْ، ﴿مَقَامِي﴾ طُولُ مُكْثِي فِيكُمْ ﴿وَتَذْكِيرِي﴾ وَوَعْظِي إِيَّاكُمْ ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ بِحُجَجِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، فَعَزَمْتُمْ عَلَى قَتْلِي وَطَرْدِي ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ أَيْ: أَحْكِمُوا أَمْرَكُمْ واعْزِمُوا عَلَيْهِ، ﴿وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ أَيْ: وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ، أَيْ: آلِهَتَكُمْ، فَاسْتَعِينُوا بِهَا لِتَجْتَمِعَ مَعَكُمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ مَعَ شُرَكَائِكُمْ، فَلَمَّا تَرَكَ "مَعَ" انْتَصَبَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "وَشُرَكَاؤُكُمْ" رَفْعٌ، أَيْ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ.
﴿ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أَيْ: خَفِيًّا مُبْهَمًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَمَّ الْهِلَالُ عَلَى النَّاسِ، أَيْ: أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ﴾ أَيِ: أَمْضُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَافْرَغُوا مِنْهُ، يُقَالُ: قَضَى فُلَانٌ إِذَا مَاتَ وَمَضَى وَقَضَى دَيْنَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَوَجَّهُوا إِلَيَّ بِالْقَتْلِ وَالْمَكْرُوهِ.
وَقِيلَ فَاقْضُوا مَا أَنْتُمْ قَاضُونَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ: " فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ " (طَهَ -٧٢)، أَيِ: اعْمَلْ مَا أَنْتَ عَامِلٌ.
﴿وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ وَلَا تُؤَخِّرُونَ وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْجِيزِ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ كَيْدِ قَوْمِهِ، عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُمْ وَآلِهَتَهُمْ لَيْسَ إِلَيْهِمْ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أَعْرَضْتُمْ عَنْ قَوْلِي وَقَبُولِ نُصْحِي، ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ﴾ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَةِ، ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ جُعْلٍ وَعِوَضٍ، ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ مَا أَجْرِي وَثَوَابِي، ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) ﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ يَعْنِي نُوحًا ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ﴾ أَيْ: جَعَلَنَا الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفَلَكِ سُكَّانَ الْأَرْضِ خُلَفَاءَ عَنِ الْهَالِكِينَ. ﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ أَيْ: آخِرُ أَمْرِ الَّذِينَ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا. ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بِالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ﴾ أَيْ: نَخْتِمُ، ﴿عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ يَعْنِي: أَشْرَافَ قَوْمِهِ، ﴿بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾ يَعْنِي: جَاءَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، ﴿الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا﴾ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ سِحْرٌ أَسِحْرٌ هَذَا، فَحَذَفَ السِّحْرَ الْأَوَّلَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾.
﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لِمُوسَى، ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ لِتَصْرِفَنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِتَلْوِيَنَا، ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ﴾ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أَرْضِ مِصْرَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: "وَيَكُونَ" بِالْيَاءِ، ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ بِمُصَدِّقِينَ.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ٧٩ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ٨٠ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) ﴾.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾
﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ: "آلسِّحْرُ" بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا مَدٍّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ "مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ" بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ بِآيَاتِهِ، ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾.
﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى﴾ لَمْ يُصَدِّقْ مُوسَى مَعَ مَا آتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، ﴿إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ اخْتَلَفُوا فِي الْهَاءِ الَّتِي فِي "قَوْمِهِ"، قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى، وَأَرَادَ بِهِمْ مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرَ وَخَرَجُوا مَعَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا أَوْلَادَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلَكَ الْآبَاءُ وَبَقِيَ الْأَبْنَاءُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ. رَوَى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هُمْ نَاسٌ يَسِيرٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ آمَنُوا، مِنْهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَخَازِنُ فِرْعَوْنَ، وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ، وَمَاشِطَتُهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ الْقِبْطِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأُمَّهَاتُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتْبَعُ أُمَّهُ وَأَخْوَالَهُ.
وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ نَجَوْا مِنْ قَتْلِ فِرْعَوْنَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا وَلَدَتِ ابْنًا وَهَبَتْهُ لِقِبْطِيَّةٍ خَوْفًا من القتل، فنشؤوا عِنْدَ الْقِبْطِ، وَأَسْلَمُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي غُلِبَتِ السَّحَرَةُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: سُمُّوا ذُرِّيَّةً؛ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا مِنَ الْقِبْطِ وَأُمَّهَاتِهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا يُقَالُ لِأَوْلَادِ أَهْلِ فَارِسَ الَّذِينَ سَقَطُوا إِلَى الْيَمَنِ: الْأَبْنَاءُ، لِأَنَّ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ آبَائِهِمْ.
﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾ قِيلَ: أَرَادَ بِفِرْعَوْنَ آلَ فِرْعَوْنَ، أَيْ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، كما قال: " واسئل الْقَرْيَةَ " (يُوسُفَ -٨٢) أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "وَمَلَئِهِمْ" وَفِرْعَوْنُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا ذُكِرَ يُفْهَمُ مِنْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، كَمَا يُقَالُ: قَدِمَ الْخَلِيفَةُ يُرَادُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَلَأَ الذُّرِّيَّةِ، فَإِنَّ مَلَأَهُمْ كَانُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. ﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ أَيْ: يَصْرِفَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ يَفْتِنُوهُمْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ وَكَانَ قَوْمُهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ، ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ﴾ لَمُتَكَبِّرٍ، ﴿فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ الْمُجَاوَزِينَ الْحَدَّ، لِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ.
﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) ﴾.
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ لِمُؤْمِنِي قَوْمِهِ، ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ اعْتَمَدْنَا، ثُمَّ دَعَوْا فَقَالُوا، ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا وَلَا تُهْلِكْنَا بِأَيْدِيهِمْ، فَيَظُنُّوا أَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى الْحَقِّ فَيَزْدَادُوا طُغْيَانًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: لَوْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ لَمَا عُذِّبُوا وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَّا فيُفْتَتَنُوا.
﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ﴾ هَارُونَ، ﴿أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ يُقَالُ: تَبَوَّأَ فَلَانٌ لِنَفْسِهِ بَيْتًا وَمَضْجَعًا إِذَا اتَّخَذَهُ، وَبَوَّأْتُهُ أَنَا إِذَا اتَّخَذْتُهُ لَهُ، ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ قَالَ أكثر المفسرين: ١٧١/ب كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي كَنَائِسِهِمْ وبِيَعِهِمْ، وَكَانَتْ ظَاهِرَةً، فَلَمَّا أُرْسِلَ مُوسَى أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِتَخْرِيبِهَا وَمَنَعَهَمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَأُمِرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا مَسَاجِدَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيُصَلُّوا فِيهَا خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، هَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَعِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَافَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْكَنَائِسِ الْجَامِعَةِ، فَأُمِرُوا بِأَنْ يَجْعَلُوا فِي بُيُوتِهِمْ مَسَاجِدَ مُسْتَقْبِلَةً الْكَعْبَةَ، يُصَلُّونَ فِيهَا سِرًّا. مَعْنَاهُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يَا مُحَمَّدُ.
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨) ﴾.
﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً﴾ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، ﴿وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّامِ، قِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، مَعْنَاهُ: آتَيْتُهُمْ كَيْ تَفْتِنَهُمْ فَيَضِلُّوا وَيُضِلُّوا، كَقَوْلِهِ: " لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ " (الْجِنِّ -١٦).
وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ يَعْنِي: فَيَضِلُّوا وَتَكُونُ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الضَّلَالَ، كَقَوْلِهِ: " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " (الْقَصَصِ -٨).
قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ: الْمَحْقُ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: امْسَخْهَا وَغَيِّرْهَا عَنْ هَيْئَتِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ وَحُرُوثُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ وَجَوَاهِرُهُمْ حِجَارَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً (١)، وَكَانَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ فِي فِرَاشِهِ فَصَارَا حَجَرَيْنِ، وَالْمَرْأَةُ قَائِمَةٌ تَخْبِزُ فَصَارَتْ حَجَرًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَغَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ صَارَتْ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَتِهَا صِحَاحًا وَأَنْصَافًا وَأَثْلَاثًا.
وَدَعَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِخَرِيطَةٍ فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ بَقَايَا آلِ فِرْعَوْنَ فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْبَيْضَةَ مَشْقُوقَةً وَالْجَوْزَةَ مَشْقُوقَةً وَإِنَّهَا لِحَجَرٌ.
قَالَ السُّدِّيُّ: مَسَخَ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ حِجَارَةً، وَالنَّخِيلَ وَالثِّمَارَ وَالدَّقِيقَ وَالْأَطْعِمَةَ، فَكَانَتْ إِحْدَى الْآيَاتِ التِّسْعِ.
﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ: أَقْسِهَا وَاطْبَعْ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَلِينَ وَلَا تَنْشَرِحَ لِلْإِيمَانِ، ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ قِيلَ: هُوَ نَصْبٌ بِجَوَابِ الدُّعَاءِ بِالْفَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ "لِيُضِلُّوا" أَيْ: لِيُضِلُّوا فَلَا يُؤْمِنُوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ دُعَاءٌ مَحَلُّهُ جَزْمٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا، ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ وَهُوَ الْغَرَقُ. قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ أَمِتْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ.
﴿قَالَ﴾ " اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ، ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ إِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِمَا وَالدُّعَاءُ كَانَ مِنْ مُوسَى لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤَمِّنُ، وَالتَّأْمِينُ دُعَاءٌ. وَفِي بَعْضِ الْقِصَصِ: كَانَ بَيْنَ دُعَاءِ
(١) انظر: الطبري: ١٥ / ١٧٩-١٨٢، الدر المنثور: ٤ / ٣٨٤.
مُوسَى وَإِجَابَتِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً (١). ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾ عَلَى الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَةِ، وَامْضِيَا لِأَمْرِي إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾ نَهْيٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَمَحَلُّهُ جَزْمٌ، يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ: لَا تَتَّبِعَنَّ بِفَتْحِ النُّونِ؛ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبِكَسْرِ النُّونِ فِي التَّثْنِيَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَخْفِيفِ النُّونِ لِأَنَّ نُونَ التَّأْكِيدِ تُثَقَّلُ وَتُخَفَّفُ، ﴿سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي: وَلَا تَسْلُكَا طَرِيقَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ وَعْدِي، فَإِنَّ وَعْدِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَوَعِيدِي نَازِلٌ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) ﴾.
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ عَبَرْنَا بِهِمْ ﴿فَأَتْبَعَهُمْ﴾ لِحِقَهُمْ وَأَدْرَكَهُمْ، ﴿فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ﴾ يُقَالُ: "أَتْبَعَهُ وَتَبِعَهُ" إِذَا أَدْرَكَهُ وَلَحِقَهُ، و"اتَّبَعَهُ" بِالتَّشْدِيدِ إِذَا سَارَ خَلْفَهُ وَاقْتَدَى بِهِ. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ. ﴿بَغْيًا وَعَدْوًا﴾ أَيْ: ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً. وَقِيلَ: بَغْيًا فِي الْقَوْلِ وَعَدْوًا فِي الْفِعْلِ. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدِ انْفَلَقَ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ إِلَى الْبَحْرِ هَابُوا دُخُولَهُ فَتَقَدَّمَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ وَدِيقٍ (٢) وَخَاضَ الْبَحْرَ، فَاقْتَحَمَتِ الْخُيُولُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ آخِرُهُمْ وَهَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾ أَيْ: غَمَرَهُ الْمَاءُ وَقَرُبَ هَلَاكُهُ، ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "إِنَّهُ" بِكَسْرِ الْأَلْفِ أَيْ: آمَنْتُ وَقُلْتُ إِنَّهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "أَنَّهُ" بِالْفَتْحِ عَلَى وُقُوعِ آمَنْتُ عَلَيْهَا ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فَدَسَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فِيهِ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ.
وَقَالَ: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ (٣) الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ (٤) الرَّحْمَةُ" (٥). فَلَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِهَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ
(١) انظر: الطبري: ١٥ / ١٨٧.
(٢) يقال: أتان وفرس ودوق ووديق، وودقت وداقا: أرادت الفحل.
(٣) في "ب" (حمأ).
(٤) في "أ": (يدركه جانب الرحمة).
(٥) أخرجه الترمذي في تفسير سورة يونس: ٨ / ٢٢٥، وقال: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: ١ / ٥٧، ٤ / ٢٤٩، وابن حبان ص (٤٣٢)، والطبري: ١٤ / ١٩٠-١٩٢، والطيالسي ص (٣٤١) والإمام أحمد في المسند: ١ / ٣٤٠. وانظر: الكافي الشاف ص (٨٥). وقد زعم الزمخشري في "الكشاف" أن ما جاء في الحديث من قول جبريل عليه السلام: "خشية أن تدركه الرحمة" "من زيادات الباهتين لله وملائكته. وفيه جهالتان: إحداهما أن الإيمان بالقلب، كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر، لأن الرضا بالكفر كفر". الكشاف: ٢ / ٢٠٢. وردَّ عليه الحافظ ابن حجر فقال: "وهذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغضّ من أهله، فإن الحديث صحيح الزيادات، وقد أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، وإسحاق، والبزار، وأبو داود الطيالسي كلهم من رواية شعبة... ثم ساق الروايات بأسانيدها - ثم قال: وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري، فللحديث توجيه وجيه، لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري، وذلك أن فرعون كان كافرا كفر عناد.. ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل، وكيف توجه منفردا وأظهر أنه مخلص، فأجرى له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره، فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا، فيستمر في غيه وطغيانه فدسَّ في فمه الطين، ليمنعه التكلم بما يقتضي ذلك. هذا وجه الحديث، ولا يلزم منه جهل ولا رضا بكفر. بل الجهل كل الجهل ممن اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد. وأيضا: فإن إيمانه في تلك الحالة -على تقدير أنه كان صادقا- بقلبه لا يقبل، لأنه وقع في حال الاضطرار، ولذلك عقب في الآية بقوله: "الآن وقد عصيت قبل" وفيه إشارة في قوله تعالى: "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا". انظر: الكافي الشاف ص (٨٥-٨٦).
فَأَلْقَى فِرْعَوْنَ عَلَى السَّاحِلِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ ثَوْرٌ فَرَآهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَقْبَلُ الْمَاءُ مَيْتًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ﴾.
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) ﴾.
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ﴾ أَيْ نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ "نُنْجِيكَ" بِالتَّخْفِيفِ، ﴿بِبَدَنِكَ﴾ بِجَسَدِكَ لَا رُوحَ فِيهِ. وَقِيلَ: بِبَدَنِكَ: بِدِرْعِكَ، وَكَانَ لَهُ دِرْعٌ مَشْهُورٌ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ، فَرَأَوْهُ فِي دِرْعِهِ فَصَدَّقُوا. ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ عِبْرَةً وَعِظَةً، ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [أَنْزَلْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ] (١) بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ مَنْزِلَ صِدْقٍ، يَعْنِي: مِصْرَ. وَقِيلَ الْأُرْدُنُ وَفِلَسْطِينُ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ [مِيرَاثًا] (٢) لِإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مِصْرُ وَالشَّامُ، ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الْحَلَالَاتِ، ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾ يَعْنِي
(١) ساقط من: "أ".
(٢) زيادة من "ب".
الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَصْدِيقِهِ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالْبَيَانَ بأنه رسول [الله] (١) صِدْقٌ، وَدِينُهُ حَقٌّ.
وَقِيلَ: حَتَّى جَاءَهُمْ مَعْلُومُهُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ كَمَا يُقَالُ لِلْمَخْلُوقِ: خَلْقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " هَذَا خَلْقُ اللَّهِ " (لُقْمَانَ -١١)، وَيُقَالُ: هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ: مَضْرُوبُهُ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ مِنَ الدِّينِ.
﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فَيُخْبِرُونَكَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.
قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الرَّجُلَ وَيُرِيدُونَ بِهِ غَيْرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتق الله " ١٧٢/أ (الْأَحْزَابِ -١)، خَاطَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " وَلَمْ يَقُلْ: "بِمَا تَعْمَلُ" وَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ " (الطَّلَاقِ -١).
وَقِيلَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ وَشَاكٍّ، فَهَذَا الْخِطَابُ مَعَ أَهْلِ الشَّكِّ، مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْهُدَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ، فاسأل الذين يقرؤون الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَنْ آمَنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، فَيَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُونَكَ بِنُبُوَّتِهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ رَسُولَهُ غَيْرُ شَاكٍّ، لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِعَبْدِهِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، وَيَقُولُ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا إِنْ كُنْتَ ابْنِي، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ.
﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ مِنَ الشَّاكِّينَ.
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وَهَذَا كُلُّهُ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُهُ.
(١) زيادة من "ب".
﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧) ﴾.
﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ﴾ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ قِيلَ: لَعْنَتُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَخَطُ اللَّهِ. وَقِيلَ: "الْكَلِمَةُ" هِيَ قَوْلُهُ: هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ دَلَالَةٍ، ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ قَالَ الْأَخْفَشُ: أَنَّثَ فِعْلَ "كَلُّ" لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْمُؤَنَّثِ وَهِيَ قَوْلُهُ: "آيَةٍ" وَلَفْظُ "كل" للمذكر والمؤنت سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ﴾ أَيْ: فَهَلَّا كَانَتْ، ﴿قَرْيَةٌ﴾ وَمَعْنَاهُ: فَلَمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ ضَرْبًا مِنَ الْجَحْدِ، أَيْ: أَهْلُ قَرْيَةٍ، ﴿آمَنَتْ﴾ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، ﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ فِي [حَالَةِ الْبَأْسِ] (١) ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ فَإِنَّهُ نَفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. و"قَوْمَ" نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ، ﴿لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ وَهُوَ وَقْتُ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ هَلْ رَأَوُا الْعَذَابَ عِيَانًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَوْا دَلِيلَ الْعَذَابِ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوُا الْعَذَابَ عَيَانًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ " وَالْكَشْفُ يَكُونُ بَعْدَ الْوُقُوعِ أَوْ إِذَا قَرُبَ.
وَقِصَّةُ الْآيَةِ -عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَوَهْبٌ وَغَيْرُهُمْ (٢) -أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِنِينَوَى، مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يُونُسَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَدَعَاهُمْ فَأَبَوْا، فَقِيلَ لَهُ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُهُمْ إِلَى ثَلَاثٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبَا فَانْظُرُوا فَإِنْ بَاتَ فِيكُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُكُمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَرَجَ يُونُسُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَغَشَّاهُمُ الْعَذَابُ فكان فوق رؤوسهم قَدْرَ مِيلٍ.
وَقَالَ وَهْبٌ: غَامَتِ السَّمَاءُ غَيْمًا أَسْوَدَ هَائِلًا يُدَخِّنُ دُخَانًا شَدِيدًا، فَهَبَطَ حَتَّى [تَغَشَّاهُمْ فِي
(١) في "ب": (في حال اليأس).
(٢) انظر: تفسير الطبري: ١٥ / ٢٠٧-٢١٠، الدر المنثور: ٤ / ٣٩٢-٣٩٣، البداية والنهاية لابن كثير: ١ / ٢٣١ وما بعدها، تفسير ابن كثير: ٢ / ٤٣٤.
151
مَدِينَتِهِمْ] (١) وَاسْوَدَّتْ سُطُوحُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، فَطَلَبُوا يُونُسَ نَبِيَّهُمْ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ، فَخَرَجُوا إِلَى الصَّعِيدِ بِأَنْفُسِهِمْ وَنِسَائِهِمْ [وَصِبْيَانِهِمْ] (٢) وَدَوَابِّهِمْ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ، وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ فَحَنَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَعَلَتْ أَصْوَاتُهَا، وَاخْتَلَطَتْ أَصْوَاتُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ، وَعَجُّوا وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالُوا آمَنَّا بِمَا جَاءَ بِهِ يُونُسُ، فَرَحِمَهُمْ رَبُّهُمْ فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ مَا أَضَلَّهُمْ، وَذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ يُونُسُ قَدْ خَرَجَ فَأَقَامَ يَنْتَظِرُ الْعَذَابَ وَهَلَاكَ قَوْمِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَكَانَ مَنْ كَذَبَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ قُتِلَ، فَقَالَ يُونُسُ: كَيْفَ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي وَقَدْ كَذَبْتُهُمْ؟ فَانْطَلَقَ عَاتِبًا عَلَى رَبِّهِ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، فَأَتَى الْبَحْرَ فَإِذَا قَوْمٌ يَرْكَبُونَ سَفِينَةً، فَعَرَفُوهُ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَتَوَسَّطَتْ بِهِمْ وَلَجَجَتْ، وَوَقَفَتِ السَّفِينَةُ لَا تَرْجِعُ وَلَا تَتَقَدَّمُ، قَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ: إِنَّ لِسَفِينَتِنَا لَشَأْنًا، قَالَ يُونُسُ: قَدْ عَرَفْتُ شَأْنَهَا رَكِبَهَا رَجُلٌ ذُو خَطِيئَةٍ عَظِيمَةٍ، قَالُوا وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، اقْذِفُونِي فِي الْبَحْرِ، قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَطْرَحَكَ مِنْ بَيْنِنَا حَتَّى نُعْذَرَ فِي شَأْنِكَ، وَاسْتَهَمُوا فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأُدْحِضَ سَهْمُهُ، وَالْحُوتُ عِنْدَ رِجْلِ السَّفِينَةِ فَاغِرًا فَاهُ يَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّهِ فِيهِ، فَقَالَ يُونُسُ: إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَتَهْلَكُنَّ جَمِيعًا أَوْ لَتَطْرَحُنَّنِي فِيهَا، فَقَذَفُوهُ فِيهِ وَانْطَلَقُوا وَأَخَذَهُ الْحُوتُ.
وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى حُوتٍ عَظِيمٍ حَتَّى قَصَدَ السَّفِينَةَ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ السَّفِينَةِ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ وَقَدْ فَغَرَ فَاهُ يَنْظُرُ إِلَى مَنْ فِي السَّفِينَةِ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ شَيْئًا خَافُوا مِنْهُ، وَلَمَّا رَآهُ يُونُسُ زَجَّ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَإِذَا سَفِينَةٌ مَشْحُونَةٌ، فَرَكِبَهَا فَلَمَّا لَجَجَتِ السَّفِينَةُ، تَكَفَّأَتْ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فقال الملاحون: ها هنا رَجُلٌ عَاصٍ أَوْ عَبْدٌ آبِقٌ، وَهَذَا رَسْمُ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا آبِقٌ لَا تَجْرِي، وَمِنْ رَسْمِنَا أَنْ نَقْتَرِعَ فِي مِثْلِ هَذَا فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَلَأَنْ يَغْرَقَ وَاحِدٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَغْرَقَ السَّفِينَةُ بِمَا فِيهَا، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ فِي كُلِّهَا عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ يُونُسُ: أَنَا الرَّجُلُ الْعَاصِي وَالْعَبْدُ الْآبِقُ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، ثُمَّ جَاءَ حُوتٌ آخَرُ أَكْبَرُ مِنْهُ وَابْتَلَعَ هَذَا الْحُوتَ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ لَا تُؤْذِي مِنْهُ شَعْرَةً، فَإِنِّي جَعَلْتُ بَطْنَكَ سِجْنَهُ وَلَمْ أَجْعَلْهُ طَعَامًا لَكَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نُودِيَ الْحُوتُ: إِنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ لَكَ قُوتًا، إِنَّمَا جَعَلَنَا بَطْنَكَ لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا.
وَرُوِيَ: أَنَّهُ قَامَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ فَقَالَ: أَنَا الْعَبْدُ الْعَاصِي وَالْآبِقُ، قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى، فَعَرَفُوهُ فَقَالُوا: لَا نُلْقِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ نُسَاهِمُ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ.
(١) في"ب": (غشي مدينتهم).
(٢) ليست في "أ".
152
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ فَأَهْوَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَكَانَ فِي بَطْنِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْحَصَى، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَمَرَ الْحُوتَ، فَنَبَذَهُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَهُوَ كَالْفَرْخِ الْمُمَّعِطِ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَهُوَ الدُّبَّاءُ، فَجَعَلَ يَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا وَوَكَّلَ بِهِ وَعْلَةً يشرب من ١٧٢/ب لَبَنِهَا، فَيَبِسَتِ الشَّجَرَةُ، فَبَكَى عَلَيْهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: تَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ يَبِسَتْ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَأَرَدْتَ أَنْ أُهْلِكَهُمْ، فَخَرَجَ يُونُسُ فَإِذَا هُوَ بِغُلَامٍ يَرْعَى، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: مِنْ قَوْمِ يُونُسَ، قَالَ: إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي لَقِيتُ يُونُسَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: قَدْ تَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ لِي بَيِّنَةٌ قُتِلْتُ، قَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَشْهَدُ لَكَ هَذِهِ الْبُقْعَةُ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: فَمُرْهَا، فَقَالَ يُونُسُ: إِذَا جَاءَكُمَا هَذَا الْغُلَامُ فَاشْهَدَا لَهُ، قَالَتَا: نَعَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي لَقِيتُ يُونُسَ فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي بَيِّنَةً، فَأَرْسِلُوا مَعِي، فَأَتَى الْبُقْعَةَ وَالشَّجَرَةَ، فَقَالَ: أُنْشِدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ أَشْهَدَكُمَا يُونُسُ؟ قَالَتَا: نَعَمْ، فَرَجَعَ الْقَوْمُ مَذْعُورِينَ، وَقَالُوا لِلْمَلِكِ: شَهِدَ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْأَرْضُ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ بِيَدِ الْغُلَامِ وَأَجْلَسَهُ فِي مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَكَانِ مِنِّي، فَأَقَامَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ ذَلِكَ الْغُلَامُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ الشَّقَاوَةُ.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ﴾ وَمَا يَنْبَغِي لِنَفْسٍ. وَقِيلَ: مَا كَانَتْ نَفْسٌ، ﴿أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: بِعِلْمِ اللَّهِ. ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: "وَنَجْعَلُ" بِالنُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَيْ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أَيِ: الْعَذَابَ وَهُوَ الرِّجْزُ، ﴿عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
﴿قُلِ انْظُرُوا﴾ أَيْ: قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ انْظُرُوا، ﴿مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ والعبر، ففي السموات الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَغَيْرُهَا، وَفِي الْأَرْضِ
الْجِبَالُ وَالْبِحَارُ وَالْأَنْهَارُ وَالْأَشْجَارُ وَغَيْرُهَا، ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ﴾ الرُّسُلُ، ﴿عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وَهَذَا فِي قَوْمٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) ﴾.
﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ﴾ يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ، ﴿إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا﴾ مَضَوْا، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ مِنْ مُكَذِّبِي الْأُمَمِ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي وَقَائِعَ اللَّهِ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّى الْعَذَابَ أَيَّامًا، وَالنَّعِيمَ أَيَّامًا، كَقَوْلِهِ: " وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ " (إِبْرَاهِيمَ -٥)، وَكُلُّ مَا مَضَى عَلَيْكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ أَيَّامٌ، ﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾.
﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾ قَرَأَ يَعْقُوبُ "نُنْجِي" خَفِيفٌ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ مَعَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ مَعْنَاهُ: نَجَّيْنَا، مُسْتَقْبَلٌ بِمَعْنَى الْمَاضِي، ﴿كَذَلِكَ﴾ كَمَا نَجَّيْنَاهُمْ، ﴿حَقًّا﴾ وَاجِبًا، ﴿عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ "نُنْجِي" بِالتَّخْفِيفِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَنَجَّى وَأَنْجَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي﴾ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ، وَهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ مَا جَاءَ بِهِ؟.
قِيلَ: كَانَ فِيهِمْ شَاكُّونَ، فَهُمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ اضْطَرَبُوا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ مِنَ الْأَوْثَانِ، ﴿وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ يُمِيتُكُمْ وَيَقْبِضُ أَرْوَاحَكُمْ، ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمَلُكَ. وَقِيلَ: اسْتَقِمْ عَلَى الدِّينِ حَنِيفًا. ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) ﴾.
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩) ﴾.
﴿وَلَا تَدْعُ﴾ وَلَا تَعْبُدْ، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ﴾ إِنْ أَطَعْتَهُ، ﴿وَلَا يَضُرُّكَ﴾ إِنْ عَصَيْتَهُ، ﴿فَإِنْ فَعَلْتَ﴾ فَعَبَدْتَ غَيْرَ اللَّهِ، ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الضَّارِّينَ لِأَنْفُسِهِمُ الْوَاضِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ أَيْ: يُصِبْكَ بِشِدَّةٍ وَبَلَاءٍ، ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ﴾ فَلَا دَافِعَ لَهُ، ﴿إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ وَسِعَةٍ، ﴿فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ فَلَا مَانِعَ لِرِزْقِهِ، ﴿يُصِيبُ بِهِ﴾ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ، ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أَيْ: عَلَى نَفْسِهِ، وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ، ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ بِكَفِيلٍ، أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (١).
﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ بِنَصْرِكَ وَقَهْرِ عَدُوِّكَ وَإِظْهَارِ دِينِهِ، ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ فَحَكَمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَبِالْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ يُعْطُونَهَا عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
(١) انظر فيما سبق: ٣ / ٣٢ تعليق (١)، الفوز الكبير للدهلوي ص (٥٣، ٦٠).
Icon