تفسير سورة آل عمران

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

وقرأ الجمهور ﴿ الۤمۤ * ٱللَّهُ ﴾ بفتح الميم وإسقاط ألف الوصل. وقرىء بسكونها وقطع الألف. وقرىء بكسر الميم. قال الأخفش: لالتقاء الساكنين ومن قرأ بفتح الميم فالفتحة لالتقائهما وكانت أولى لأجل الياء كاين وقيل هي فتحة همزة الله نقلت إلى الميم وحذفت الهمزة. واختار الزمخشري مذهب الغراء في أن الفتحة في الميم من الم الله هي حركة الهمزة ألقيت حين أسقطت للتخفيف وأورده أسئلة وأجاب عنها قال: (فإِن قلت): كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟ (قلت): هذا ليس بدرجٍ لأن ميم في حكم الوقف، والسكون والهمزة في حكم الثابت، وإنما حذفت تخفيفاً وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ونظيره قولهم واحد اثنان بإِلقاء حركة الهمزة على الدال. " انتهى ". ليس هذا الجواب بشيء لأنه ادعى أن الميم حين حركت موقوف عليها وان ذلك ليس يدرج بل هو وقف وهذا خلاف لما أجمعت عليه العرب والنحاة من أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء أكانت حركته إعرابية أم بنائية. أم نقلية أو لالتقاء الساكنين أو للحكاية أو للاتباع فلا يجوز في قد أفلح إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى دال قد أن تقف على دال قد بالفتحة، بل تسكّنها قولاً واحداً، وأما قوله: ونظير ذلك قولهم: واحد اثنان بإِلقاء حركة الهمزة على الدال فإِن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ولم يحك الكسر لغة فإِذا صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه كما زعم الزمخشري ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم اثنان فالتقى ساكنان دال واحد وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت وصلاً وأما الذي ما استدل به الفراء من قولهم: ثلاثة أربعة بالقاء حركة الهمزة على الهاء فلا دلالة فيه لأن همزة أربعة: همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها وليس كذلك همزة الوصل نحو: من الله، وأيضاً فقولهم ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ولكن أقرت في الوصل اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا لا أنها موقوف عليها. قال الزمخشري: (فإِن قلت): هلا زعمت انها حركت لالتقاء الساكنين؟ (قلت): لأن التقاء الساكنين لا يبالي به في باب الوقف وذلك قولهم: هذا إبراهيم وداود وإسحاق، ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف يوجب التحريك تحرك الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن آخر. " انتهى ". هذا السؤال وجوابه صحيحان لكن الذي قال: ان الحركة لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألم في الوقف وإنما عني التقاء الساكنين اللذين هما ميمٌ ميمٌ الأخيرة ولام التعريف كالتقاء نون من ولام الرجل إذا قلت: من الرجل. قال الزمخشري: (فإِن قلت): إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين فإِذا جاء ساكن ثالث لم يكن إلا التحريك فحركوا (قلت): الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن انهم كان يمكنهم أن يقولوا واحد اثنان بسكون الدال مع طرح الهمزة فجمعوا بين ساكنين كما قالوا اصيم تصغيراً ومذيق، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين. " انتهى ". وفي سؤاله تعمية في قوله: فإِن قلت إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ويعني بالساكن الياء والميم في ميم، وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين يعني الياء والميم، ثم قال: فإِذا جاء ساكن ثالث يعني لام التعريف لم يمكن إلا التحريك يعني في الميم فحركوا يعني الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن وهو لا يمكن، هذا شرح سؤاله. وأما الجواب عن سؤاله فلا يطابق لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإِمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم واحد اثنان بأن يسكنوا الدال والثاء ساكنة وتسقط الهمزة فعولوا عن هذا الامكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال وهذه مكابرة في المحسوس إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء وطرح الهمزة. وأما قوله: فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع كما قلناه، وأما قوله: كما قالوا أصيم ومذيق فهذا ممكن كما هو في واد وصَال لأنه في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو فأمكن النطق به، وليس مثل واحد اثنان لأن الساكن الأول ليس حرف علة ولا الثاني مدغم فلا يمكن الجمع بينهما وأما قوله فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين لما بين على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي في باب ما لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ أدعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لا لإِلتقاء الساكنين، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك. فإِن صح كسر الدال كما نقل هذا الرجل فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا للنقل. وقد رُد قول الفراء واختيار الزمخشري إياه بأن قيل: لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها لما في ذلك من الفساد والتدافع وذلك أن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ونية الوصل توجب حذف الهمزة ونية الوقف على ما قبلها موجب ثباتها وثباتها وقطعها متناقض وهو رد صحيح. والذي تحرر في هذه الكلمات أن العرب إذا سردت أسماء من غير تركيب ما كانت تلك الأسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً، فلو التقى آخر مسكن منها بساكن آخر حرّك لالتقاء الساكنين فهذه الحركة التي في الم الله هي حركة التقاء الساكنين.﴿ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ ﴾ كلا مبتدأ جملة راده على نصارى نجران فالجلالة مبتدأ خبره ما بعده. وقرىء القيّام والقيم.﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ خاطب المنزل عليه تشريفاً له ولم يذكر المنزل عليه التوراة والإِنجيل. والباء في بالحق للسبب أو للحال.﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب الإِلهية ونزل استئناف إخبار. ومن أجاز تعداد الأخبار أجاز أن يكون خبراً بعد خبر. ومصدقاً حال مؤكدة لازمة وما بين يديه المتقدم في الزمان، يقال: هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد.﴿ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ قال الزمخشري: التوراة والإِنجيل اسمان أعجميان وتكلف استشقاقهما من الورى والبخل ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين. " انتهى ". ونقول: إنهما اسمان عبرانيان فلا يدخلهما اشتقاق عربي بنص النحاة، ثم تكلموا فيهما على تقدير أنهما عربيات، فالتوراة فوعلة والتاء بدل من واو أو تفعلة بكسر عين الكلمة قلبت الياء ألفاً وانفتح ما قبلها كالناصاة في الناصية أو تفعلة بفتح العين أقوال واشتقاقها من مصدر ورويَ الزند أو مصدر وريت والإِنجيل افعيل من البخل وهو الماء الذي ينزّ من الأرض أو من البخل وهو الولد أو من البخل وهو الأصل أقوال ونزل وأنزل بمعنى واحد.﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل إنزال الكتاب عليك. و ﴿ هُدًى ﴾ مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله ولا يلزم وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس.﴿ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾ جنس الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل أو القرآن. بما فيه من الوصف تعظيماً لشأنه وهو مصدر في الأصل، والظاهر أنه أريد به الفارق ويجوز أن يراد به المفروق. كما قال وقرآنا مزقناه، ولما ذكر إنزال الكتب الإِلهية توعد من كفر بها.﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ في الدنيا بالقتل والأسر والغلبة وفي الآخرة بالنار والذين كفروا عام يدخل فيه من نزلت الآيات بسببه وغيره.﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ أي غالب.﴿ ذُو ٱنْتِقَامٍ ﴾ أي ذو عقوبة وسطوة على الكافر. ولما ذكر انفراده تعالى بالالوهية ذكر الحياة والقيدمية وإنزال الكتب وإعداد العذاب للكافر. ذكر صفة العلم فقال:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾ وشيء نكرة يعم ويشمل الجزئيات والكليات. وذكر مقر الشيء وهو في الأرض والسماء اذ هما أعظم ما نشاهده.
﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي على ما يشاء من الهيآت ودل على كمال العلم والقدرة ودل على كينونة عيسى عليه السلام من الذين صورهم في الأرحام فانتفت عنه الإِلهية وفيه رد على الطبيعيين إذ يجعلون لطبيعة فاعلة مستبدة كيف يشاء مفعول يشاء محذوف وكيف جزاء وفعل الشرط محذوف والتقدير على أي هيئة شاء أن يصوركم صوركم وكيف منصوب على الحال وحذف صوركم هنا لحذف الجزاء في نحو أنت ظالم إن فعلت أي إن فعلت فأنت ظالم ولا محل للجملة في مثل هذا وان كان لها تعلق بما قبلها من حيث المعنى وتفكيك مثل هذا التركيب لا يهتدي إليه إلا بعد تمرن في الاعراب واستحضار للطائف النحو وقد خبطوا في إعراب هذه الجملة بما يوقف عليه في الهجر.﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ تأكيد لما قبلها من الإِنفراد بالإِلهية والغلبة والحكمة وفي ذكر الحكيم إشارة إلى التصوير وضع الأشياء على ما اقتضته الحكمة ولما كان أولئك الوفد قد ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ان في كتابه وروح منه أي في حق عيسى أخبر تعالى أن آيات الكتاب منها محكمة ومتشابهة والمحكم ما لم يتشابه كآيات الحلال والحرام ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابهة ما احتمل من التأويل وجوهاً.﴿ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي الأصل الذي يرجع إليه.﴿ وَأُخَرُ ﴾ أي وآيات أخر أي غير تلك.﴿ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ وقد اختلف المفسرون في المحكم والمتشابه اختلافاً كثيراً وارتفع آيات على الفاعلية إذ المجرور معتمد أو على الابتداء.﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي ميل عن الحق كالنصارى واليهود من صرف كلام الله ممن ينتمي إلى ملة الإِسلام كالإِباحية والقائلين بالتناسخ وعلم الحروف والمجسمة وغلاة الباطنية والقائلين بالحلول والوحدة من المتظاهرين بذلك في كتبهم وكل من زاغ عن الحق بالتعلق بشيء من المتشابه وعلل اتباع أهل الزيغ المشابه بعلتين إحداهما.﴿ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ ﴾ أي فتنة أهل الإِسلام بالاضطراب والثانية.﴿ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ وكلاهما مذموم ثم ذكر تأويله المتشابه فقال:﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ بالوقف على لفظ الجلالة وهذا هو الظاهر فيكون قوله:﴿ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ ﴾ إبتداء كلام وخبره قوله:﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ ومن عطف والراسخون على الجلالة فجعلهم يعلمون التأويل فليس بظاهر وعلى قولهم يكون يقولون جملة في موضع الحال من الراسخين والضمير في به عائد في الظاهر على التأويل ويجوز أن يعود على الكتاب محكمة ومتشابهة لأن الإِيمان بهما حاصل وقوله:﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي كل من المحكم والمتشابه.﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ ﴾ أي ما يتعظ بالمحكم والمتشابه.﴿ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾ أي ذوو العقول السليمة الناظرون في وجوه التأويلات والاحتمالات الحاملون ذلك على ما اقتضاه لسان العرب من الحقيقة والمجاز والنظر فيما يجوز وما يجب وما يستحيل وانتصاب.﴿ رَبَّنَا ﴾ على النداء فجاز أن يكون من قول الراسخين وجاز أن يكون على إضمار قولوا ربنا ويكون قوله:﴿ لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ﴾ أي لا تجعلنا من الذين في قلوبهم زيغ.﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ وأضاف بعد إلى إذ وإذا إلى الجملة بعدها والمعنى بعد وقت هدايتك إيانا وختم بقوله:﴿ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ ﴾ إشارة بأن جميع ما يحصل من الخيرات هو هبة من الله لهم وجاء بصيغة المبالغة ليدل على كثرة هباته تعالى وناسب الفواصل في قوله قبل الألباب وقرىء: لا تزغ قلوبنا، مبيناً للفاعل بتاء المضارعة ويائها لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة والبعث فيه للمجازاة وان اعتقاد صحة الوعد به هو الذي حملهم على سؤال ان لا تزيغ قلوبهم.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ عدل من ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو الله ولم يأت التركيب إنك لا تخلف الميعاد دلالة على الاستئناف وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين وقد يكون قوله: " ان الله " من باب الالتفات عدلوا من الخطاب إلى الغيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ عام في الكفار من وفد نجران وغيرهم.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي من عذابه وكانوا يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ثم ذكر مآلهم في قوله: ﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ ﴾.
جعلهم كالوقود الذي يضرم به النار. قال الزمخشري: من الله شيئاً مثله في قوله ان الظن لا يغني من الحق شيئاً، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله شيئاً، أي بدل رحمة الله وطاعة وبدل الحق ومنه ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بذلك أي بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وفي معناه قوله تعالى:﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ ﴾[سبأ: ٣٧] انتهى. وإثبات البدلية بمنى فيه خلاف أصحابنا ينكرونه وغيرهم قد أثبته وزعم أنها تأتي بمعنى البدل واستدل بقوله تعالى:﴿ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾[التوبة: ٣٨] لجعلنا منكم ملائكة أي بدل الآخرة وبدلكم وقال الشاعر: أخذوا المخاض من الفصيل غلبة   ظلماً ويكتسب للأميرا فالا أي بدل الفصيل وانتصاب شيئاً على المصدر أي شيئاً من الاغناء وقرىء: لن تغني بسكون الياء وهي لغة كثيرة في الشعر وقرىء: لن يغني وانتقل من الأموال إلى الأولاد لأن الأولاد بهم التناصر والكثرة والعزة.﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ ﴾ معطوف على خبر ان وهو لن تغني أو مستأنف وقرىء: وقود بضم الواو مصدر وقد يقد وقد نقل ان الوقود بفتح الواو مصدر كالوقود بضمها.﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ أي كدأب الكفار المتقدم ذكرهم في مآلهم إلى النار مثل آل فرعون إلى النار فهو خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم كدأب آل فرعون والمكذبين ونص على آل فرعون لعظيم مرتكبه في دعوى الإِلهية ولمعرفة بني إسرائيل بما جرى له.﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ كأمة شعيب وصالح وهود نوح.﴿ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ تفسير لدأبهم كتكذيب كفار معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: دأب ودأب ومعناه العادة.﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم معاصروه عليه السلام وفي سبب نزولها اختلاف قيل أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر ان: قريشاً كانوا أغمار ولو حاربتنا لرأيت رجالاً وناسب ما سبق من الوعد الصادق في قوله فيما آله إليه الكفار السابق ذكرهم في أخذ الله إياهم ومآلهم إلى النار هذا الوعد الصادق في قوله:﴿ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ﴾ الآية، وقرىء: بالتاء وبالياء فيهما والمخصوص بالذم محذوف أي وبئس المهاد جهنم والخطاب في قوله:﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ للمؤمنين والآية العلامة التي قد ظهرت في وقعة بدر وهي غلبة المؤمنين للكافرين حسب الوعد الصادق في قوله: " ستغلبون ". والفئة الجماعة من فاء يفيء رجع و:﴿ ٱلْتَقَتَا ﴾ جملة في موضع الصفة للفئتين ثم فصل الفئتين في قوله:﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ وصح الابتداء بالنكرة لأنه في موضع تفصيل وثم صفة محذوفة تقديرها فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله.﴿ وَأُخْرَىٰ ﴾ معطوف على فئة وثم صفة محذوفة تقديرها وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت كما قال:﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ ﴾[النساء: ٧٦].
فحذف من الجملة الأولى ما أثبت مقابلة في الجملة الثانية ومن الثانية ما أثبت مقابله في الأولى وقرىء فئة بالجر على البدل من الفئتين وهو بدل تفصيل وقرىء: فئة بالنصب على المدح أي أمدح فئة وأخرى كافرة بالنصب على الذم أي وأذم أخرى وزعم الزمخشري أي نصب فئة على الانتقاص وليس بجيد لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً وأجاز هو وغيره قبله كالزجاج أن ينتصب فئة الحال من الضمير وهي حال موطئة وقرىء يقاتل بالياء على تذكير الفئة لأن معناها القوم وقرىء:﴿ ترونهم ﴾ بالتاء وبالياء مفتوحتين ومضمومتين فضمير الرفع للمؤمنين وضمير النصب للكافرين وكذلك ضمير الجر في.﴿ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ أي يرى المؤمنون الكافرين مثل الكافرين فالمؤمنون أقل من الكافرين ومع ذلك وقع النصر كما قال تعالى:﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾[البقرة: ٢٤٩] ويدل على هذا قوله:﴿ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ والرؤية هنا من رؤية البصر يدل عليه قوله: ﴿ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ ﴾ والتأييد التقوية وكان المسلمون في وقعة بدر ثلاثمائة عشر وثلاثة عشر والكفار نحو الألف.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ أي في تلك الآية، من غلبة المؤمنين على قلتهم للكافرين على كثرتهم.﴿ لَعِبْرَةً ﴾ أي لاتعاظاً و:﴿ ٱلأَبْصَارِ ﴾ قد تكون من بصر العين أو من بصيرة القلب ومفعول يشاء محذوف أي من يشاء نصره وقرىء:﴿ زُيِّنَ ﴾ مبنياً للفاعل وهو عائد على الله تعالى ذكر تعالى ما جبل عليه طباع الناس من حب الدنيا وما فيها من متاعها وأضاف.﴿ حُبُّ ﴾ وهو مصدر إلى المفعول وهو.﴿ ٱلشَّهَوَاتِ ﴾ والفاعل محذوف أي حبهم للشهوات والشهوة مسترذلة يذم متبعها والشهوات عام بينت بما بعدها فبدأ بالنساء ولا شيء أعظم منهن في الشهوة ثم بما يتولد منهم وهم البنون ثم بما يتم به حال المشتهي من الذهب والفضة ثم بالخيل لأنه فيها عزة وقدرة على الامتناع ثم بالانعام لأنها كانت أكثر مراكبهم وأكثر مشروبهم منها ثم بالحرث إذ فيه تحصيل أقواتهم والقنطار مختلف في عدده والظاهر المبالغة فيما يملكه الانسان من العينين والمقنطرة صفة للقناطير ويراد به الكثرة وجاء هذا التركيب في أحسن أسلوب من تعلق النفس بما ذكر والإِشارة بقوله:﴿ ذٰلِكَ ﴾ إلى ما تقدم ذكره من المحبوبات. و ﴿ مَتَاعُ ﴾ أي ما يتمتع به ثم يزول. و ﴿ ٱلْمَآبِ ﴾ المرجع وهو الجنة للمؤمنين.﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ ﴾ أي بخير مما تقدم ذكره من متاع الدنيا لأن ذلك فان وهذا باق لما أبهم في قوله بخير من ذلكم عين جهة الخيرية بقوله:﴿ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ﴾ وقرىء: بخفض جنات فجاز أن يكون بدلاً من قوله: ﴿ بِخَيْرٍ ﴾ ويكون قوله: ﴿ لِلَّذِينَ ﴾ متعلقاً بقوله بخير فلا يكون استئناف كلام بخلاف رفع جنات فإِنه مبتدأ وللذين خبره والكلام مستأنف جواب كلام مقدر كأنه قيل ما الخير فقيل للذين اتقوا عند ربهم جنات ونبأ هنا تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر وبدأ بمقر المتقين وهي جنات وذكر من صفاتها أنها تجري من تحتها الأنهار ثم بالأزواج اللائي هن من أعظم الشهوات إذ ذكر في الآية قبلها حب الشهوات من النساء ووصفهن بالتطهير من دم الحيض وغيره واتبع ذلك بأعظم الأشياء وهو رضاه عنهم فانتقل من عال إلى أعلى منه.﴿ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ أي مطلع على أعمالهم فيجازى كلاً بعمله ولما ذكر المتقين ذكر شيئاً من صفاتهم فبدأ بالإِيمان الذي هو رأس التقوى ورتب سؤال المغفرة عليه والوقاية من النار ولما ذكر الإِيمان بالقول أخبر بالوصف الدال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف.﴿ وَٱلْمُنْفِقِينَ ﴾ أموالهم في الطاعات.﴿ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ ﴾ الله لذنوبهم.﴿ بِٱلأَسْحَارِ ﴾ وهي أوقات الإِجابة ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى:" من يدعوني فأستجيب له "في حديث النزول قال الزمخشري: والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها " انتهى ". ولا نعلم العطف في الصفة بالواو ويدل على الكمال.
﴿ شَهِدَ ٱللَّهُ ﴾ الآية، سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة فقال أحدهما للآخر ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان ثم عرفا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعت فقالا أنت محمد قال: نعم، فقالا: أنت أحمد، قال: نعم، فقالا: نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا فقال: سلاني. فقال أحدهما: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت فأسلما وشهد هنا بمعنى أعلم بانفراده بالوحدانية وعطف عليه.﴿ وَٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾ وهم من العالم العلوي ثم أولي العلم ويشمل الملائكة وغيرهم من الثقلين وانتصب قائماً على الحال من الله وحده. قال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه أي من الله لقوله:﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً ﴾[البقرة: ٩١] " انتهى ". ليس هذا من الحال المؤكدة لأنه ليس من باب ويوم يبعث حياً ولا من باب أنا عند الله شجاعاً وهو زيد شجاعاً وفي كونه حالاً من اسم الله قلق في التركيب إذ يصير كقولك أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعة فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد وقال الزمخشري: فإِن قلت قد جعلته حالاً من فاعل شهد فهل يصح أن ينتصب حالاً من هو في لا إله إلا هو. قلت: نعم لأنها حال مؤكدة والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها كقولك: أما عبد الله شجاعاً " انتهى ". يعني أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة وإنما تنتصب بعامل مضمر تقديره أحق أو نحوه مضمراً بعد الجملة وهذا قول الجمهور والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم أو شبيه بالملازم فإِن كان المتكلم بالجملة مخبراً عن نفسه فيقدر الفعل أحق مبنياً للمفعول نحو أنا عبد الله شجاعاً أي أحق شجاعاً وإن كان مخبراً عن غيره نحو: هو زيد شجاعاً، فتقدره أحقه شجاعاً وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه وجعله بعضهم حالاً من الجميع على اعتبار كل واحد واحد ورد بأنه لو جاز ذلك لجاز جاء القوم راكباً، أي كل واحد منهم، وهذا لا تقوله العرب، ومعنى بالقسط: بالعدل وأنه لا إله إلا هو مفعول شهد وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف ليدل على الاعتناء بذكر المفعول وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين بحيث لا ينسقان متجاورين. وقرىء: شهد مبنياً للمفعول والمصدر المنسبك من أن وما بعدها بدل من لفظ الجلالة أي شهد انفراده بالألوهية وارتفع والملائكة على إضمار فعل أي وشهد الملائكة أو على الابتداء والخبر محذوف تقديره والملائكة وأولوا العلم يشهدون وقرىء: شهداء الله جمعاً منصوباً مضافاً إلى الله وجوز أن يكون حالاً من المستغفرين أو على المدح وهو جمع شهيد أو شاهد وقرىء شهداء الله بالرفع على إضمار مبتدأ محذوف أي هم شهداء وقرىء: شهد الله بضم الشين والهاء ونصب الدال منوناً ونصب الله، وقرىء: شهد بضم الدال وبفتحها مضافاً لاسم الله فالرفع على خبر مبتدأ أي هم شهد الله والنصب على الحال وهو جمع شهيد كنذير وقرىء: شهد الله بضم الدال ونصبها وبلام الجر ووجه رفع الملائكة في هاتين القراءتين بالعطف على الضمير المستكن في شهداء وتقدم توحيه رفع الملائكة على إضمار الفعل وعلى إضمار الخبر وقرىء: انه بكسر الهمزة، وقرىء: ان لا إله إلا هو بحذف الضمير وخرج نصب قائماً على أنه حال من هو أو صفة للمنفي وهو بعيد جداً أو من الجميع على اعتبار كل واحد واحد وهو أبعد مما قبله وأجاز الزمخشري انتصاب قائماً على المدح وقال: فإِن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك الحمد لله الحميد انا معشر الأنبياء لا نورث انا بني نهشل لا ندعي لأب قلت قد جاء نكرة في قول الهذلي: ويأوي إلى نسوة عطل وشعثاً مراضيع مثل السعالي " انتهى سؤاله وجوابه ". وفي ذلك تخليط وذلك أنه لم يفرق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم وبين المنصوب على الاختصاص وجعل حكمهما واحداً وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو الحمد لله الحميد ومثالين من المنصوب على الاختصاص وهما انا معشر الأنبياء لا نورث انا بني نهشل لا ندعي لأب والذي ذكره النحويون أن المنصور على المدح والذم أو الترحم قد يكون معرفة وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لهم وقد لا يصلح وقد يكون نكرة كذلك وقد يكون نكرة وقبلها معرفة فلا يصح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة: أقارع عون لا أحاول غيرها   وجوه قرود تتبعني من تخادعفانتصب وجوه قرود على الذم وقبله معرفة وهو قوله: أقارع عوف وأما المنصوب على الاختصاص قصوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهماً ولا يكون إلا معرفاً بالألف واللام أو بالاضافة أو بالعلمية أو بأي ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص به أو مشارك فيه وربما أتى بعد ضمير مخاطب واما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري: فإِن قلت هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل لا إله قائماً بالقسط إلا هو قلت: لا يبعد فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف ثم قال وهو أوجه من انتصابه عن فاعل شهد وكذلك انتصابه على المدح " انتهى ". وكان قد مثل بالفصل بين الصفة والموصوف بقوله لا رجل إلا عبد الله شجاعاً ويعني أن انتصاب قائماً على أنه صفة لقوله: إله، وكونه إنتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل شهد وهو الله وهذا الذي ذكره لا يجوز لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما والملائكة وأولوا العلم وليسا معمولين لشيء من جملة لا إله إلا هو بل هما معمولان لشهد وهو نظير عرف زيد أن هند أخارجة وعمرو وجعفر التيمية فيفصل بين هند والتميمية بأجنبي ليس داخلاً في حيز ما عمل فيها وفي خبره وهما عمرو وجعفر المرفوعان بعرف المعطوفان على زيد وأما المثال الذي مثل به وهو لا رجل إلا عبد الله شجاعاً فليس نظير تخريجه في الآية، لأن قولك إلا عبد الله بدل على الموضع من لا رجل فهو تابع على الموضع فليس بأجنبي على أن في جواز هذا التركيب نظراً لأنه بدل وشجاعاً وصف والقاعدة أنه إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح فصار من جملة أخرى على هذا المذهب وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلا على مذهب الكوفيين وقد أبطله البصريون والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من إسم الله والعامل فيه شهد وهو قول الجمهور وأما قراءة عبد الله القائم بالقسط فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو القائم بالقسط. وقال الزمخشري وغيره: أنه بدل هو ولا يجوز ذلك لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي وهو المعطوفان لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك لم يجز إنما الكلام جاء زيد أخوك وعائشة وقال الزمخشري: فإِن قلت: لم يجز افراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز قلت: إنما جاز هذا لعدم الإِلباس كما جاز في قوله:﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾[الأنبياء: ٧٢] أن انتصب نافلة حالاً عن يعقوب ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً جاز لتمييز بالذكورة " انتهى ". وما ذكره في قوله: في جاءني زيد وعمرو راكباً أنه لا يجوز ليس كما ذكره بل هذا جائز لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل أو ما أشبهه وإذا كان قيداً فإِنه يحتمل على أقرب مذكور ويكون راكباً حالاً مما يليه ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة ولو قلت جاءني زيد وعمرو الطويل لكان الطويل صفة لعمرو ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة لأنه يلبس بل لا لبس في هذا وهو جائز فكذلك الحال وأما قوله: في نافلة أنه انتصب حالاً عن يعقوب إذ يحتمل أن يكون نافلة مصدراً كالعافية والعاقبة ومعناه زيادة فيكون ذلك شاملاً لإِسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإِبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره إذ كان جاء له إسحاق على الكبر وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة. ولما ذكر شهادة الله والملائكة وأولي العلم بانحصار الألوهية فيه تعالى أخبر بتقرير ذلك بقوله: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾.
وفيه ضرب من التأكيد لما سبق ثم ذكر.﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ وهو الذي لا يغالب أو الذي هو عديم النظير. و ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ هو الذي يصنع الأشياء بحكمته مواضعها وارتفع العزيز على إضمار هو. و ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ هو الذي يضع الأشياء بحكمته مواضعها وارتفع العزيز على إضمار هو ﴿ إِنَّ الدِّينَ ﴾ أي أن الشرع المقبول ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ هو ﴿ ٱلإِسْلاَمُ ﴾ أي الانقياد لأمر الله ونهيه واعتقاد ما جاءت به الرسل من صفات الله تعالى. والبعث والجزاء. وقرى ان الدين ولهم في إعرابه اضطرابات وقد اخترنا أنه متعلق بالحكيم وهي صفة مبالغة وتكون على إضمار حرف الجر أي الحاكم بأن الدين عند الله الاسلام وأشبه ما قالوه أن يكون إن الدين بدل من قوله أنه لا إله إلا هو وفيه بعد لطول الفصل بين البدل والمبدل منه ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية وشهد له بذلك الملائكة وأولوا العلم حكم أن الدين المقبول عنده هو الإِسلام فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه.﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾[آل عمران: ٨٥] وعدل عن صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ولمناسبة العزيز ومعنى المبالغة تكرار حكمة بالنسبة إلى الشرائع ان الدين عنده هو الإِسلام إذ حكم في كل شريعة بذلك. وفي البحر الذي هذا النهر ملخص منه ما نصه وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب أنه وإن فقال أبو علي الفارسي إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو ألا ترى ان الدين الذي هو الإِسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو في المعنى، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الاسلام مشتمل على التوحيد والعدل، وإن شئت جعلته بدلاً من القسط لأن الدين الذي هو الإِسلام قسط وعدل، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. انتهت تخريجات الفارسي وهو معتزلي فلذلك يشتمل كلامه على ألفاظ المعتزلة من التوحيد والعدل وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو خرجه غيره أيضاً وليس بجيد لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي مثله في كلام العرب وهو عرف زيد أنه لا شجاع إلا هو وبنو تميم وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي وان الخصلة الحميدة هي البسالة وتقريب هذا المثال ضرب زيد عائشة والعمران حنقا أختك، فحنقا حال من زيد وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف وهو لا يجوز وبالحال لغير المبدل منه ولا يجوز لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل، وخرجه الطبري على حذف حرف العطف والتقدير وان الدين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف. انتهى. ولم يبين وجه ضعفه ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض وصار في التركيب دون مراعاة الفصل نحو: أكل زيد خبزاً، وعمرو وسمكا. وأصل التركيب أكل زيد وعمرو خبزاً وسمكاً فإِن فصلنا بين قولك وعمرو وبين قولك وسمكاً يحصل شنع التركيب وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح. وقرأ ابن عباس أنه بالكسر ان الدين بالفتح، وخرج على أن الدين عند الله الإِسلام، وهو معمول شهد ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما بين المعطوف عليه والمعطوف وهو أنه لا إله إلا هو، والثاني: بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وإذا أعربنا العزيز خبر مبتدأ محذوف كان ذلك ثلاث اعتراضات. " انتهى ". ما خرجت عليه قراءة ابن عباس أيضاً فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد أن يأتي لها بنظير من كلام العرب وإنما جمل على ذلك العجمة وعدم الإِمعان في تراكيب كلام العرب وحفظ أشعارها. وقد أشرنا في خطبة هذا الكتاب إلى أنه لا يكفي النمو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بد من الاطلاع على كلامهم والتطبع بطباعهم والإِستكثار من ذلك، والذي خرجت عليه قراءة أن الدين بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول للحكيم على إسقاط حرف الجر أي بأنّ لأن الحكيم فعيل للمبالغة كالعليم والسميع والخبير كما قال تعالى:﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾[هود: ١].
وقال:﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾[النمل: ٦].
والتقدير لا إله إلا هو العزيز الحكيم، ان الدين عند الله الإِسلام، ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك الملائكة وأولوا العلم، حكم ان الدين عند الله المقبول عنده هو الإِسلام، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه.﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾[آل عمران: ٨٥].
(فإِن قلت) لم حملت إليكم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل، فيكون معناه المحكم كما قالوا في أليم انه بمعنى مؤلم وفي سميع من قول الشاعر: أمن ريحانة الداعي   السميع إلى المسمع(فالجواب) إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل وقد يؤوّل سميع وأليم على غير مفعل ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحول من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً خارج عن الحصر كحليم وعليم وسميع وقدير وخبير وحفيظ إلى ألفاظ لا تحصر وأيضاً فإن العربي لقمح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلا أنه محول للمبالغة من حاكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ: ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله سميع عليم ﴾.
أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق فقيل له التلاوة والله عزيز حكيم. فقال: هكذا يكون عز فحكم وفهم من حكيم أنه محول للمبالغة من حاكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة لما قلناه. وكذا نقول على قراءة ابن عباس ولا نجعل أن الدين معمولاً لشهد كما زعموا وأنّ انه لا إله إلا هو اعتراض وانه بين المعطوف. والحال وبين أن الدين اعتراض آخر أو اعتراضان، بل نقول: معمول شهد هو أنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراء لها مجرى القول أو نقول أنه معمول لها ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً فإِنك تقول شهدت أن زيداً المنطلق فتعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أنّ فقلت شهدت أن زيداً منطلق فمن قرأ بفتح أنه فإِنه لم ينو التعليق ومن كسر فإِنه نوى التعليق ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا.﴿ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ عام في أهل الكتاب من اليهود والنصارى وإن المختلف فيه هو الإِسلام. وقد تنكبوا إلى غيره من الأديان فانقسمت اليهود إلى قرائي ورباني وَسَمَرة. وانقسمت النصارى الى ملكي ويعقوبي ونسطوري. وكل طائفة تكفر من خالفها بعد أن كانت اليهود أمة واحدة، والنصارى كذلك، والعلم الذي جاءهم هو كتب الله المنزلة من التوراة والزبور والإِنجيل، والحامل على اختلافهم هو البغي وهو الظلم الواقع من بعضهم لبعض. وتقدم إعراب بغيا بعد الاستثناء في البقرة.﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ عام في كل كافر فلا يخص المختلفين ولا غيرهم. و ﴿ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ كناية عن المجازاة في الآخرة، والجملة جواب الشرط، والضمير العائد على اسم الشرط محذوف تقديره سريع الحساب له.
﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ ﴾ الظاهر عود الضمير على أهل الكتاب ويحتمل العموم. ومعنى ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ ﴾ انقدت وأطعت وخضعت لله وعبر بالوجه عن جميع ذاته لأنه أشرف الأعضاء.﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ ﴾ معطوف على الضمير في أسلمت: قاله الزمخشري وابن عطية. وبدأ به ولا يجوز لأنه يلزم منه المشاركة في المفعول الذي هو وجهي وهو ولا يجوز بل المعنى وأسلم من اتبعني وجهه لله فالأحسن أن تكون من في موضع رفع على الإِبتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه التقدير، ومن اتبعني أسلم وجهه لله فيكون إخباراً منه عليه السلام لأنه وإياهم أسلموا وجوههم لله. وأجاز الزمخشري أن تكون الواو واو مع، وهو لا يجوز لأنه يلزم منه المشاركة في المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: أكلت رغيفاً وعمراً أي مع عمر، ودل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف. والمراد بالأميين من ليس من أهل الكتاب من مشركي العرب وغيرهم.﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾ تقرير في ضمنه الأمر أي أسلموا، فقد أتاكم من البينات ما يوجب الإِسلام. ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُواْ ﴾ أي دخلوا في شريعة الإِسلام.
﴿ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ ﴾ أي حصلت لهم الهداية. ﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي لا يضرونك بتوليهم عن الإِسلام ولا يلزمك إلا تنبيههم للهداية بما تبلغ عن ربك.﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ فيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإِسلام، ووعد بالخير لمن أسلم. إذ معناه أن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ ﴾ ذكر أولاً أعظم الأوصاف المذكورة في هذه الآية وهو الكفر بآيات الله، ثم قتل الأنبياء الذين أظهروا آيات الله وهي المعجزات الدالة على صدقهم، ثم قتل من أمر بالقسط وهو العدل، وهذه أوصاف أسلافهم وهم عالمون بها فنعي على أهل الكتاب المعاصرين للرسول عليه السلام فعل أسلافهم قبلك وجعلوا كمن باشر ذلك، وجاء هنا بغير حق بالتنكير، وفي البقرة بالتعريف، لأن الجملة هنا خرجت مخرج لشرط وهو عام لا يتخصص فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً، وهناك جاء في سورة البقرة في ناس معهودين. وذلك قوله:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾[البقرة: ٦١، آل عمران: ١١٢] الآية. و ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ حال مؤكدة كالتي في البقرة لأن قتل نبيّ لا يكون بحق.﴿ فَبَشِّرْهُم ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وضمير المفعول عائد على أسلافهم وهو في المعنى لهم لأنهم راضون بقول أسلافهم. ودخول الفاء دليل على أنه أريد بالذين العموم. وقرىء: ﴿ حَبِطَتْ ﴾ بفتح الباء. " وناصرين " جمع ناصر وهو أولى من الإِفراد لأنه رأس آية وبإِزاء شفعاء المؤمنين وإذا انتفى النفع من جمع فانتفاؤه من واحد أولى. والضمير في أوتوا لليهود، والنصيب: الحظ، ومن: للتبعيض، والكتاب: التوراة. و ﴿ يُدْعَوْنَ ﴾ حال و ﴿ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ التوراة أو القرآن. والضمير في ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ عائد على كتاب الله. وقرىء ليحكم مبْنياً للمفعول ونسب التولي إلى فريق منهم لأن منهم من أسلم كعبد الله بن سلام.﴿ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ جملة حالية مؤكدة أو لأن التولي كان بالأبدان والإِعراض بالقلوب فثبت التغاير بينهما.﴿ ذٰلِكَ ﴾ الإِشارة إلى التولي والإِعراض بسبب هذه الأقوال الباطلة وتسهيلهم على أنفسهم العذاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل. وجاء هنا ﴿ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ بالجمع وهناك معدودة بالصفة التي تصلح للواحدة من المؤنث وهما فصيحان.﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي ما كانوا يختلقون من الكذب كقولهم هذا وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وغير ذلك فكيف يجوز أن يكون في موضع نصب التقدير فكيف يصنعون وفي موضع رفع خبر المبتدأ محذوف التقدير فكيف حالهم وإذا معمول لذلك المحذوف.﴿ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ وهو يوم القيامة أي لجزاء يوم.﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ ﴾ الآية سبب نزولها ما أخبر عليه السلام من ظهور ملك أمته على قصور العجم وعلى قصور الروم وقصور اليمن من الضربات التي ضربها على الصخرة يوم الخندق فبرقت ثلاث مرات، أي عليه السلام تلك القصور فعيره المنافقون بأنه يحفر الخندق ويضرب بالمعول ويخبر أن مُلك أمته يكون بالمواضع المذكورة، واللهم منادى والميم زائدة ولا يجمع بينهما وبين حرف النداء في مذهب البصريين. (قال) ابن عطية: أجمعوا على أنها يعني اللهم مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وانها منادى. " انتهى " ما ذكره من الإِجماع على تشديد الميم فقد نقل الفراء تخفيفها في بعض اللغات قال وأنشدني بعضهم: كحلفة من أبي رباح يسمعها اللهم الكبار   قال: الراد عليه تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ولأن عنده أن الميم هي التي في أمنا إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية. امنا. (قال): والرواية الصحيحة يسمعها لاه الكبار. " انتهى ". وإن صح هذا البيت الذي أنشده الفراء عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله. ومالك الملك: منصوب على أنه منادى ثان ولا يجوز عند سيبويه نصبه على أن يكون صفة لقوله: اللهم. ومعنى مالك الملك أي يتصرف فيه كما يريد ولذلك جاء تبيين التصرف بعد في قوله:﴿ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ الآية وجاء فيها مقابلة الإِيتاء بالنزع والإِذلال بالاعزاز ثم ختم بقدرته العامة الناشىء عنها ما ذكر. وقوله:﴿ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ﴾ اقتصر عليه لأن الآية في معنى المدح وإن كان عز وجل بيده الخير والشر على مذهب أهل السنة، قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف قال: بيدك الخير فذكر الخير دون الشر. (قلت): لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة. فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله. انتهى كلامه. وهذا يدافع آخره أوله لأنه ذكر السؤال ثم اقتصر على ذكر الخير دون الشر وأجاب بالجواب الأول وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر وإنما كان الاقتصار على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط، وأجاب بالجواب الثاني. وذلك يدل على أن جميع أفعاله خير ليس فيها شر وهذا الجواب يناقض الأول لأن الآية في معنى المدح، وإن كان سبحانه بيده الخير والشر على مذهب أهل السنة.
﴿ تُولِجُ ٱللَّيْلَ ﴾ الولوج الدخول وهو هنا كناية عما نقص من الليل زيد في النهار، وما نقص من النهار زيد في الليل وذكروا اختلافاً كثيراً في الحي والميت والذي نختاره أنه أريد به التوالد فيخرج الحي وهو الذي قامت به حياة من الميت وهو الذي يأتي عليه الموت ويؤول إليه فيكون هذا مجازاً باعتبار المآل.﴿ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ ﴾ الذي هو سيموت وهذا مجاز من الحي الذي قامت به حياة وظاهرة التوالد الإِنساني، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ ﴾ فأتى بمن التي تطلق على العقلاء.﴿ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي بالمعاملة الحسنة في الأفعال لقرابة أو صداقة وأما بالقلب فمنهي عنه، ولا يصدر ذلك عن مؤمن، بل المؤمن يوالي المؤمن بالمودة في الأفعال وبالقلب. ثم توعد تعالى بقوله: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ﴾ أي موالاة الكفار.﴿ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ أي هو بريء من الله. قال ابن عطية: فليس من الله في شيء معناه في شيء فرضيّ على الكمال والصواب، وهذا كما قال عليه السلام: من غشنا فليس منا. وفي الكلام حذف مضاف تقديره فليس من التقرب إلى الله والتزلف ونحو هذا وقوله في شيء هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله: ليس من الله. " انتهى ". هذا كلام مضطرب لأن تقديره فليس من التقرب إلى الله يقتضي أن لا يكون من الله خبراً لليس ولا يستقبل: وقوله: في شيء، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبر فتبقى ليس على قوله لا يكون لها خبر وذلك لا يجوز وتشبيهه بقوله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا إلى آخره. ليس بجيد لأن منّا خبر ليس وتستقل به الفائدة. وفي الآية ليس كذلك بل الخبر في شيء فليس الحديث كالآية. وكذلك قوله: إذا حاولت في أسد فجورا   فإِني لست منك ولست منيوقرىء لا يتخذ برفع الذال على النفي والمراد به النهي، وفي قوله: فليس من الله محذوف تقديره من ولاية الله في شيء ومن دون متعلق بقوله: لا يتخذ والمعنى لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين.﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ ﴾ استثناء مفرغ من المفعول له. والمعنى لا يتخذ مؤمن كافر الشيء من الأشياء إلا بسبب التقية فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب. وقال ابن عباس: التقية هنا المداراة ظاهرة، وقال: يكون مع الكفار أو بين أظهرهم فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه وتتقوا خطاب وهو التفات لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ولو جاء على نظم الأول لكان إلا أن يتقوا بالياء المعجمة من أسفل، وهذا النوع في غاية الفصاحة لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز جعل ذلك في اسم غايب فلم يواجهوا بالنهي ولما وقعت المسامحة والإِذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذاناً بلطف الله تعالى بهم وتشريفاً بخطابه إياهم. وقرىء تقاة وتقيّة وأصل تقاة وقَيَه أبدلت الواو فيها تاء وهما مصدران جاءا على غير الصدر لأنه لو جاء على تتقوا لكان اتقاء وتجويز أبي على أن تكون تقاة جمعاً لتقي فيكون نصبه على الحال المؤكدة كتقية بعيد لأنه يكون مثل كميّ وكماة وهو شاذ وقياس تقيّ أن يقال أتقياء كغنى أغنياء. قال الزمخشري: إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه فنصب تقاة على أنه مفعول به ويدل على المصدرية قوله تعالى:﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[آل عمران: ١٠٢].
﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ قال ابن عباس: بطشه.﴿ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ أي الصيرورة والمرجع فيجازيكم ان ارتكبتم موالاتهم بعد النهي.
﴿ قُلْ إِن تُخْفُواْ ﴾ الآية تقدم تفسير نظيرها في البقرة، والمعنى: أنه تعالى مطلع على خفايا الأمور وجلاياها ومرتب عليها الثواب والعقاب.﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ ذكر عموماً بعد خصوص وختمها بسعة قدرته تعالى.﴿ يَوْمَ تَجِدُ ﴾ ويضعف نصبه بقوله: ويحذركم لطول الفصل هذا من جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود، واليوم موعود فلا يصح له العمل فيه ويضعف انتصابه بالمصير للفصل بين المصدر ومعموله، ويضعف نصبه بقدير لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً وأما نصبه بإِضمار فعل فالإِضمار على خلاف الأصل وهذه أقوال للمعربين. وقال الزمخشري: يوم تجد منصوب بتودّ، والضمير في بيته أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضر بين تتمنى. ﴿ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا ﴾ وبين ذلك اليوم وهو له.﴿ أَمَدَاً بَعِيداً ﴾ انتهى. وهذا التخريج. والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف مذكور في النحو. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون ما موصولة مبتدأة وخبرها تودّ بدأ بذلك أبو البقاء واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون وما عملت من سوء شرطاً. قال الزمخشري: لارتفاع تود. وقال ابن عطية: لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضي جزمه اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف أي نهي تود وفي ذلك ضعف. انتهى. وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع تود وهو في الكلام جائز مسموع من العرب لكن امتناعه هنا لغير ذلك وهو ان ارتفاعه على مذهب سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب فنقول إذا كان تود منوياً به التقديم أدى إلى تقدم المضمر على ظاهره. في غير الأبواب المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله: وبينه، عائد على اسم الشرط الذي هو ما فيصير التقدير تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء فيلزم من هذا التقرير تقدم المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز. (فإِن قلت): لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط فإن كانت نيته التقديم فقد حصل عدد الضمير على الإِسم الظاهر قبله وذلك نظير ضرب زيداً غلامه فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير. (فالجواب): أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل بل انها تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإِعراب وإذا كان هذا تدافع الأمر لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ومن حيث عدد الضمير على اسم الشريط اقتضتها فتدافعا، وهذا بخلاف: ضرب زيداً غلامه، وهي جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ولذلك جاز عند بعضهم: ضرب غلامها هنداً، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل وامتنع ضرب غلامها جار هند لعدم الإِشتراك في العامل فهذا فرق ما بين المسألتين ولا يحفظ من لسان العرب أودُّ لو أني أكرمه أياً ضربت هند لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون فلذلك لا يجوز تأخيره. وقرىء من سوء ودّت فعلى هذا يجوز أن تكون ما شرطية مفعولة بعملت ومبتدأه على مذهب الفراء والضمير العائد محذوف أي عملته لأنه يجيز ذلك في فصيح الكلام وفي الكلام حذف تقديره محضراً تسربه ومن سوء محضراً حذف تسربه من الأول ومحضراً من الثاني. والمعنى من سوء محضراً تكرهه وعبر عن فرط الكراهة بقوله: تود أن بينها وبينه أمداً بعيداً ولو على قول الجمهور حرف لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابها محذوف تقديره كسر به ومفعول تود محذوف تقديره تود تباعد ما بينهما ومن ذهب إلى أن لو مصدرية بمعنى أن فيبعد لأن أنْ ومعموليها في تقدير مصدر فيكون حرف مصدري دخل على حرف مصدري. وقوله: أمداً بعيداً أي غاية طويلة.﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه.﴿ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ لما ذكر صفة التخويف وكررها كان ذلك مزعجاً للقلوب ومنبهاً على أيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من إطلاعه على خفايا الأعمال وإحضاره لها يوم الحساب وهذا هو الإِتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما وذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه وليبسط الرجاء في أفضاله فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر ذكر ما يدل على سعة الرحمة، لقوله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[الأعراف: ١٦٧]، وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله إذ الوصف متحمل ضميره تعالى وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضى للمبالغة والتكثير وجاء بأخصّ ألفاظ الرحمة وهو رؤوف، وجاء متعلقه عاماً ليشمل المخاطب وغيره وبلفظ العباد ليدل على الإِحسان التام لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر إذ هو ملكه.﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ ﴾ خطاب لمن ادعى محبة الله تعالى ومحبتهم له تعالى هو بامثتال أمره واجتناب نهيه. ومعنى: ﴿ فَٱتَّبِعُونِي ﴾ اتبعوا ما جئت به من عنده تعالى. ومعنى ﴿ يُحْبِبْكُمُ ﴾ أي يعاملكم بالإِحسان على طاعته.﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ما سلف من ذنوبكم. وقرىء تحبون ويحببكم بفتح التاء والياء وهما من حب. وقرىء يحبكم الله بفتح الياء والإِدغام. وقرىء فاتبعوني بشد النون ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية ولم يحذف الواو شبهها بأتحاجوني وهذا توجيه شذوذ.
﴿ قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ﴾ جعل طاعة الرسول طاعة لله كما قال في من يطع الرسول فقد أطاع الله. و ﴿ تَوَلَّوْاْ ﴾ يجوز أن يكون مضارعاً حذفت منه التاء أي فإِن تتولوا وهو خطاب مناسب لقوله: أطيعوا، ويجوز أن يكون ماضياً والمراد به الإِستقبال فيكون انتقالاً من خطاب في أطيعوا إلى غيبة في قوله: تولوا، إهانة لهم. ونفي محبته تعالى للكافرين وهو إشعار بالعلية فلا يندرج فيه المؤمن العاصي.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها انه لما ذكر أنه لا يحب الكافرين ذكر من اصطفاه تعالى فبدأ بآدم وهو أبو البشر وأولهم، وأتبعه بنوح وهو اسم أعجمي وهو آدم الثاني إذ البشر كلهم من ولده سام وحام ويافت، ثم ذكر آل إبراهيم فاندرج فيهم من كان منهم من الأنبياء وخصوصاً محمد صلى الله عليه وسلم، ثم آل عمران وعمران اسم أعجمي واستطرد إلى قصة مريم ويدل عليه تكراره في قوله: إذ قالت امرأة عمران وصار نظير تكرار الإِسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول، نحو: أكرم زيداً ان زيداً رجل صالح وانتصب ذرية على أنه بدل مما قبله وقيل على الحال. ومعنى من بعض متشعبة ترجع إلى أصل واحد. وقرىء ذرية بكسر الذال والظاهر أن الختم بقوله: سميع عليم مناسب لآل إبراهيم وآل عمران لأن إبراهيم دعا بدعوات كثيرة تقبلها الله منه وكذلك امرأة عمران في قصة مريم.﴿ إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ ﴾ اسمها حنة بالحاء المهملة وشدّ النون وهي بنت فاقود وقبرها بظاهر دمشق. وقيل: لم يسم بحنّة في العرب. وقال عبد الغني بن سعيد: حنّة أم عَمرو يروي حديثها ابن جريج.﴿ لَكَ ﴾ أي لعبادتك ولخدمتك. ﴿ مَا فِي بَطْنِي ﴾ ما مبهمة يحتمل أن يكون ذكراً أو أنثى وإن كان الغالب أن يكون المنذور ذكراً ولذلك قالت: ﴿ مُحَرَّراً ﴾ بصفة الذكر ومعناه مخلصاً للعبادة والخدمة.﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾ التقبل أخذ الشيء على الرضا به ﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لدعائي. ﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ بنيتي وإذ منصوبة باذكر. وقيل بقوله: وآل عمران على تقدير واصطفى آل عمران فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات. وقال الزمخشري تابعاً للطبري: سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها وإذ منصوب به. " انتهى " ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما أن يكون خبراً بعد خبر أو وصفاً لقوله: سميع، فإِن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل سميع في الظرف لأنه قد وصف واسم الفاعل، وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ولأن اتصافه تعالى بسميع عليم لا يختص ولا يتقيد بذلك الوقت وانتصب محرراً على أنه حال من ما والعامل فيه نذرت ويكون حالاً تقديرية ويبعد نصبه على الحال ويكون العامل فيه العامل في بطني، وهو الإِستقرار وكذلك يبعد انتصابه انتصار المصدر على أن معنى نذرت حررت.﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ﴾ أي النسمة وأنت على معنى ما. ﴿ قَالَتْ رَبِّ ﴾ على معنى التحسر على ما فاتها من أن يكون المولد ذكراً يصلح للخدمة. ﴿ وَضَعْتُهَآ ﴾ أي وضعت النسمة.﴿ أُنْثَىٰ ﴾ نصب على الحال. (قال) الزمخشري: فإِن قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها وهي كقولك: وضعت الأنثى أنثى. قلت: الأصل وضعته أنثى وإنما أنت لتأنيث الحال لأن الحال وذا الحال شيء واحد كما أنث الإِسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر. ونظيره قوله تعالى:﴿ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ ﴾[النساء: ١٧٦].
" انتهى ". وآل قوله إلى أن أنثى تكون حالاً مؤكدة ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن تكون الحال مؤكدة وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك حيث عاد الضمير على معنى من فليس ذلك نظير وضعتها أنثى لأن ذلك حمل على معنى من إذ المعنى أيّة امرأة كانت أمّك أي كانت هي المرأة أمك فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحمل على معنى من، ولو فرضنا أنه تأنيث للإِسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير وضعتها أنثى لأن الخبر تخصص بالاضافة إلى الضمير فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الإِسلام بخلاف أنثى فإِنه لمجرد التأكيد، وأما تنظيره بقوله: فإِن كانتا اثنتين فيفي انه ثنى الإِسم لتثنية الخبر وتخريجه مشكل، وسيأتي الكلام عليه من موضعه. وقرىء وضعت بضم التاء وهو من كلامها وكأنها خاطبت نفسها. وقرىء بإِسكان التاء وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر إذا أرادها الله تعالى سلّت نفسها بذلك. قال ابن عطية: كالأنثى في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله بعض التابعين. وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق الكلام أن تقول وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. " انتهى ". وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في الذكر للجنس. وقرىء وضعت بكسر التاء مخاطبها الله بذلك أي انك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلو قدرها. ومريم معناه في كلامهم العابدة تفاءلت بذلك لتكون عابدة لله مطيعة له وخاطبت الله تعالى لترتب الإِستعاذة بالله تعالى لها ولذريتها، وقال الزمخشري: وهي يعني.﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ على قراءة من قرأ وضعت بسكون التاء أو بكسرها معطوفة على أني وضعتها أنثى وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى:﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾[الواقعة: ٧٦].
انتهى. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان لأنه يحتمل أن يكون وليس الذكر كالأنثى في هذه القراءة من كلامها ويكون المعترض جملة واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ وضعت بضم التاء. وتشبيه الزمخشري هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله:﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾[الواقعة: ٧٦] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب بل اعترض بين القسم الذي هو:﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ ﴾[الواقعة: ٧٥]، وجوابه الذي هو: انه لقرآن كريم، بجملة واحدة وهي قوله:﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾[الواقعة: ٧٦]، لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض اعتراض بجملة وهو قوله: لو تعلمون، اعترض به بين المنعوت الذي هو لقسم وبين نعته الذي هو عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض وليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى.
﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ القبول مصدر بفتح القاف وهو مصدر قبل جعل تقبّل بمعنى قبل كعجب وتعجب والباء الظاهر انها زائدة أي فقبلها قبولاً حسناً وقيل الباء ليست بزائدة فالقبول اسم لما يقبل به الشيء. كالسعوط.﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ عبارة عن حسن النشأة والجودة في خَلق وخُلق وإنشائها على الطاعة والعبادة. قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار وقيل لم تجر عليها خطيئة. وانتصب نباتاً على أنه مصدر على غير المصدر أو مصدر لفعل محذوف أي فنبتت نباتاً حسناً. وقرىء ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ أي ضمها إليه حالة التربية. وقرىء وكفّلها زكريا أي كفلها الله تعالى. ويقال كفل. يكفل كعلم ويعلم وكفل يكفل كقتل يقتل لغتان. وقرىء فتقبلْها وأنبتها وكفّلها على الأمر وربّها على النصب نداء منها فتكون الجمل إذ ذاك من كلام أم مريم دعت ربها بهذه الدعوات. وقرىء زكريا بالمد والقصر ويأتي الكلام في سبب تكفيل زكريا مريم. قال ابن اسحاق: كان زكريا تزوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين فولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم وزكريا نبي معصوم وهو ابن داود بن مسلم وهو من ولد سليمان عليه السلام. قال ابن إسحاق: ضمها إلى خالتها أمّ يحيى حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بني لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه ألا بسُلّم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره.﴿ كُلَّمَا ﴾ تدل على التكرار وتقدم الكلام عليها في البقرة والعامل فيها فعل ماض وقد جاء مضارعاً قليلاً في قول الشاعر: علاه بسيف كلما هز يقطع   أي قطع وقيل هنا كلام محذوف تقديره فلما صلحت للعبادة احتجبت عن أهلها في مكان بعيد منفردة للعبادة وكان زكريا يأتيها وتبناها إذ كان هو كافلها. والرزق هنا قيل: هو فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ولم يعيّن في القرآن، ولا صح تعيينه في ألسنة ولما استغرب زكريا ذلك.﴿ قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ﴾ أي من أين لك هذا فأجابته بقوله: ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي هو مسبب الأشياء وموجدها. وجوابها لسؤاله ظاهره أنه لم يأت به آدمي البتة بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى.﴿ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ ﴾ ظاهره أنه من كلام مريم عليها السلام. ﴿ هُنَالِكَ ﴾ إسم إشارة للمكان البعيد. قيل: وقد يستعمل للزمان، ولما كان المحراب مكان عبادة وكرامة لمريم.﴿ دَعَا زَكَرِيَّا ﴾ فيه بأن يهب الله له ذرية طيبة ولما كان دعاؤه على سبيل ما لا تسبّب فيه لكبر سنه وعقر امرأته وكان وجوده كالوجود من غير سبب أي هبة مخصّة منسوبة إلى الله تعالى، بقوله: ﴿ مِن لَّدُنْكَ ﴾ أي من جهتك بمحض قدرتك من غير توسط سبب. وختم بقوله: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ ﴾ أي مجيبه. كما ختمت أمُ مريم دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. وطيب الذرية كونها صالحة خالصة لعبادة الله كما جاءت مريم كذلك.﴿ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ ظاهره أنها باشرته بالنداء ليلقى سمعه إلى ما تكلمه الملائكة وتخبره عن تبشير الله له بالهبة وانه تعالى قبل دعاءه في ذلك. ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ ﴾ جملة حالية نادته حالة التباسه بهذه العبادة العظيمة وهي الصلاة في المكان الشريف المخصوص بالعبادة. ﴿ بِيَحْيَـىٰ ﴾ أي بولادة يحيى منك ويحيى علم. والظاهر أنه أعجمي لأنه ليس من لسانهم وقرىء فناداه وفنادته. وقرىء ان الله يكسر الهمزة على تقدير قول محذوف في مذهب أهل البصرة وفي إجراء النداء مجرى القول في مذهب الكوفيين وبفتحها على تقدير الباء أي بأن الله. وقرىء يبشرك مخفف الشين، ويبشرك مضارع بشر بتشديد الشين ويبشرك مضارع أبشر بالهمزة. ﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ ﴾ هي عيسى عليه السلام وأطلق عليه كلمة لأنه ناشىء عن لفظ كن المستعار لسرعة التكوين. وقرىء بكلمة بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن. ﴿ وَسَيِّداً ﴾ السيد المطاع الفائق أقرانه والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك. وترتبت هذه الأوصاف لحسن ترتيب بدأ فذكر التصديق أولاً وهو الإِيمان ثم السيادة وهو كونه فاق الناس في الخصال الحميدة ثم الحصر من النساء اللاتي هن ملاذ الرجال، ثم النبوة التي هي أشرف الأوصاف. وتقدم الكلام في الصلاح ما هو في البقرة في قوله:﴿ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾[البقرة: ١٣٠].
وصفات يحيى هذه مقابلة لصفات مريم اشتركا في التصديق وفي السيادة إذ كان سيد بني إسرائيل وكانت سيدة نساء العالمين وكان لا يأتي النساء وكانت عذراء. وقد قيل: انها كانت نبيّة لقوله تعالى:﴿ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا ﴾[مريم: ١٧].
﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ﴾ تقدم أن الملائكة بشرته بيحيى فسأل عن كيفية ذلك أيكون ذلك مع كوننا في سن من لا يولد له لكبر عمره أم ذلك على رجوعنا إلى الشبيبة، فأخبره تعالى أنه يولد لهما على علوّ سنهما من الكبر حتى قيل أن عمره كان مائة سنة وعشرين سنة وعمرها ثمانية وتسعين سنة. وقال الزمخشري: استبعاد من حيث العادة. كما قالت مريم. " انتهى ". وعلى ما قاله لو كان استبعاداً لما سأله بقوله: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، لأنه لا يسأل إلا ما كان ممكناً لا سيما الأنبياء لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع. ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ جملتان حاليتان صدرت الأولى بالفعل الماضي، والثانية اسمية، لأن بلوغ الكبر مما يتجدد والعقر لا يتجدد وبلوغه تأثيره فيه وهو على سبيل المجاز. وفي سورة مريم وقد بلغت من الكبر عتيا.﴿ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي مثل ذلك الفعل، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً عن الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء بل سبب إيجاده هو تعلق الإِرادة سواء أكان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة فتكون الكاف في موضع نصب والعامل يفعل. وقيل: كذلك الله مبتدأ وخبر فتكون في موضع رفع وعلى حذف مضاف أي كذلك صنع الله أو فعله ويفعل ما يشاء جملة مفسّرة للإِبهام الذي في اسم الإِشارة.﴿ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً ﴾ سؤال عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له.﴿ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى.﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ﴾ الظاهر أنه سأل آية تدل على أنه يولد له فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً وانتفاء الكلام قد يكون لتكليف به أو بملزومه في شريعتهم وهو الصوم أو لمنع قهري مدة معينة لآفة تعرض في الجارحة أو لغير آفة قالوا مع قدرته على الكلام بذكر الله سبحانه وتعالى. (قال) الزمخشري: ولذلك قال: واذكر ربك إلى آخره، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة. " انتهى ". ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الانتفاء ولأن الأمر بالذكر والتسبيح ليس مقيداً بالزمان الذي لا يكلم الناس فيه وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق والكلام وانتصب ثلاثة أيام على الظرف لا على المفعول به خلافاً للكوفيين لانتفاء الفعل في جميعها ودخل في الأيام الليالي ألا ترى إلى قوله ثلاث ليال سوياً.﴿ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ ظاهره أنه استثناء منقطع، وقيل: متصل. والرمز الإِشارة بالشفتين أو العين أو الحاجب أو اليد. وقرىء رمزاً بضمتين وهو مصدر جاء على فعل. وقرىء رمزاً بفتحتين وهو مصدر كقولهم: غلب غلباً. ﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ ﴾ الظاهر أنه باللسان. ﴿ وَسَبِّحْ ﴾ مفعوله محذوف. أي وسبحه والظاهر أنه أريد ﴿ بِٱلْعَشِيِّ ﴾ آخر النهار. ﴿ وَٱلإِبْكَارِ ﴾ أوله، إذ العشي: وقت ارتفاع الأعمال، والإِبكار: وقت ابتدائها. وقرىء والإِبكار بفتح الهمزة جمع بكر. تقول: آتيك بكراً أي بكرة.
﴿ وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ ﴾ لما فرغ من قصة زكريا وكان قد استطرد من قصة مريم إليها رجع إلى قصة مريم والمقصود تبرئة مريم عليها السلام مما رمتها به اليهود وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها. قال الزمخشري: روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة كزكريا عليه السلام لنبوة عيسى. " انتهى ". يعني بالإِرهاص التقدم والدلالة على نبوته وهذا مذهب المعتزلة أن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد على غير نبي إلا إن كان في وقت نبي أو انتظار بعث نبي فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثه ذلك النبي.﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ قال ابن عباس: وطهرك من دم الحيض. وقال الزمخشري: اصطفاك أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية وطهرك مما يستقذر من الأفعال ومما قذفك به اليهود.﴿ وَٱصْطَفَـٰكِ ﴾ آخراً. ﴿ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء. " انتهى ". وهو كلام حسن.﴿ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي ﴾ أمرت بالصلاة فذكر أركانها من القنوت وهو القيام والسجود وهو وضع الجبين على الأرض والركوع وهو انحناء الظهر، وقدم السجود على الركوع لأنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. والعطف بالواو لا يدل على الترتيب الزماني. وقد يكون الركوع في ملتهم متأخراً عن السجود. قال ابن عطية: هذه الآية أشد اشكالاً من قولنا: قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة. وقد علم ان السجود بعد الركوع فكيف جاءت الواو بعكس ذلك. " انتهى ". وهذا كلام من لم يمعن النظر في كلام سيبويه. فإن سيبويه ذكر أن الواو تكون معها في العطف المعية وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ولا يترجح أحد الإِحتمالات على الآخر. ومع في قوله: مع الراكعين، تقتضي الصحبة والاجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع والظاهر التجوز في لفظة مع فتكون للموافقة في الفعل فقط لأنها كانت في عبادتها تنفرد من أهلها كما قال تعالى:﴿ فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً ﴾[مريم: ١٧]، وجاء الراكعين جمع سلامة ويعم المذكرين والمؤنثات بالتغليب.﴿ ذٰلِكَ ﴾ الإِشارة إلى اخبار الله تعالى باصطفائه آدم وما بعد ذلك من القصص ذلك مبتدأ. " ومن أنباء " الخبر. " ونوحيه إليك " الضمير المنصوب عائد على الغيب أي من شأننا أن نوحي إليك بالمغيبات ولو كان الضمير عائداً على ذلك لكان بصيغة الماضي فكان التركيب أوحيناه إليك لأن الإِيحاء به قد وقع.﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ ﴾ روي أن منّة لما ولدت مريم لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت أمامهم وصاحب قرباتهم وكان بغوا مائتان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها. فقالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر قيل: هو نهر الأرْدُنّ وهو قول الجمهور وقيل إلى عين ماء كانت هناك فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فكفلها. والخطاب في قوله: وما كنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تقرير وتثبيت ان ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى والمعلم به قصتان قصة مريم وقصة زكريا فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالاخبار أولاً وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد والاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل فما خلت من تنبيه على قصته. ويعني وما كنت لديهم، أي وما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم ونفي المشاهدة وإن كانت منتفية بالعلم ولم ينف القراءة والتلقي من حفاظ الأنبياء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار فتعين أن يكون علمه بذلك عن وحي من الله إليه، ونظيره في قصة موسى وما كنت بجانب الغربي وما كنت بجانب الطور وفي قصة يوسف وما كنت لديهم إذا جمعوا أمرهم. والضمّير في لديهم عائد على غير مذكور بل على ما دل عليه المعنى أي وما كنت لدى المتنازعين كقوله: فأثرت به نقعا، أي بالمكان والعامل في إذ العامل في لديهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في إذ كنت. " انتهى ". ولا بناس ذلك مذهبه في مكان الناقصة لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث وتجردت للزمان وما سبيله هذا فكيف يعمل في الظرف لأن الظرف دعاء للحدث ولا حدث فلا تعمل فيه والمضارع بعد إذ في معنى الماضي أي إذ ألقوا أقلامهم للإِستهام على مريم والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة قيل كانوا يكتبون بها التوراة فاختاروها للقرعة تبركاً بها. ومعنى الإِلقاء: الرمي والطرح. ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ولا كيفية حال الإِلقاء وكيف خرج قلم زكريا. و ﴿ أَيُّهُمْ ﴾ مبتدأ وما بعده خبره والجملة في موضع نصب اما على الحكاية بقول محذوف أي يقولون أيهم يكفل مريم وأما بعلة محذوفة أي ليعلموا أيهم يكفل مريم وأما بحال محذوفة أي ينظرون أيهم يكفل مريم ودل على المحذوف يلقون أقلامهم.
﴿ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ العامل في إذا ذكر ويبعد أن يكون بدلاً من إذْ أو يكون العامل فيه يختصمون.﴿ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ هو عيسى وتقدم المراد بكلمة في قصة زكريا.﴿ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ ﴾ والضمير في اسمه عائد على الكلمة على معنى يبشرك بمكوّن منه أو بموجود من الله وسمي المسيح لأنه مسح بالبركة. وألْ في المسيح للغلبة كهي في الدبران. واسمه المسيح مبتدأ وخبر وذكر الضمير في اسمه على معنى الكلمة ولم يؤنث على اللفظ. وعيسى: اسم أعجمي بدل من المسيح، وابن مريم صفة لعيسى. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن اسمه المجموع من قوله المسيح عيسى ابن مريم وفيه بعد. والمسيح لقب بدأ به لأنه أشهر من عيسى إذ لا ينطلق على غيره وعيسى قد يقع على غيره وامتنع عيسى من الصرف للعجمة والعلمية وليست ألفه للتأنيث خلافاً لمن قال ذلك. وأصله في لسانهم أيسوع.﴿ وَجِيهاً ﴾ فعيل من وجه أي أعظم قدرة وجاهة. ﴿ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ بنبوّته ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾ بعلو درجته. ﴿ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾ قال الماوردي: معناه المبالغ في تقريبهم لأن فعّل من صيغ المبالغة يقال: قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه. " انتهى ". وليس فعّل هنا من صيغ المبالغة لأن التضعيف هنا للتعدية إنما يكون للمبالغة في نحو: جرّحت زيداً وموّت الناس ومن المقربين معطوف على قوله: وجيهاً، تقديره ومقرباً من جملة المقربين والتقريب بالمكانة والشرف لا بالمكان.﴿ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ وعطف، ويكلم حال أيضاً على وجيهاً ونظيره صافات ويقبضن أي وقابضات وجاء بالمضارع الذي يقتضي التجدد ووجيهاً بالإِسم الذي يقتضي الثبوت، وكهلاً معطوف على في المهد أي كائناً في المهد وكهلاً يشير إلى أن تكليمه في المهد يكون كتكليمه كهلاً وفيه إشارة إلى أنه يعيش الى حد الكهولة.﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ ﴾ استفهام معناه التعجب لأن وجود ولد من غير ذكر لم يعهد وهو أغرب من قصة زكريا.﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ جملة في موضع الحال. وقد فهمت من نسبته إليها في قوله: ابن مريم انه لا والد له فاستغربت ذلك وتعجبت منه.﴿ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ تقدم إعرابه في قصة زكريا وهناك يفعل لأنه ممكن إذ هو بين ذكر وأنثى مسنين. وهنا يخلق لأنه لم يعهد مولود من غير ذكر فجاء بلفظ يخلق الدال على الإِختراع الصرف من غير مادة ذكر.﴿ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ تقدم الكلام عليه في البقرة.
﴿ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ الكتاب هنا مصدر كتب قال ابن عباس: أي الخط باليد. ﴿ وَٱلتَّوْرَاةَ ﴾ هي الملة على موسى. ﴿ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ هو المنزل على عيسى عليهما السلام. وقرىء ونعلمه بالنون والياء. ﴿ وَرَسُولاً ﴾ منصوب بإِضمار فعل أي ونجعله رسولاً. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون معطوفاً على وجيهاً يعلمه فيكون حالاً التقدير ومعلماً الكتاب فهذا كله عطف بالمعنى على قوله وجيهاً وهو ضعيف لطول الفصل بين المتعاطفين. وأجاز ابن عطية أن يكون منصوباً على الحال من الضمير المستكن في ويلكم فيكون معطوفاً على قوله: وكهلاً أي ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين. وقوله وقول الزمخشري عجمة قبيحة لا تصدر بين متمكن في الفصاحة. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول عيسى التقدير ويقول: أرسلت رسولاً إلى بني إسرائيل واحتاج إلى هذا التقدير كله لقوله: اني قد جئتكم وقوله: ومصدقاً لما بين يدي أن لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر لأن ما قبله ضمير غائب وهذان ضميراً متكلم فاحتاج إلى هذا الإِضمار لتصحيح المعنى. قال: وهو من المضايف يعني من المواضع التي فيها اشكال، وهذا الوجه ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله الذي هو أرسلت والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة إذ يفهم من قوله: وأرسلت، أنه رسول نهي على هذا لتقدير حال مؤكدة. وقرأ اليزيدي ورسول بالجر وخرجها الزمخشري على أنها معطوفة على بكلمة منه وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف. وقرىء أنى بفتح الهمزة معمولاً لقوله: ورسوله، أي وناطقاً بأني قد جئتكم. وبكسر الهمزة أي قائلاً.﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾.
وهي العلامة ثم أخذ في تفسيرها، فقال: ﴿ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ ﴾ أي أصوّر. ﴿ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ ﴾ أي مثل صورته. وقرىء اني أخلق بفتح الهمزة وكسرها. وقوله: من الطين تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة الطير. وقرىء كهيّة بكسر الهاء وياء مشددة وتواطىء النقل عن المفسرين ان الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإِذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق عن فعل الخالق والظاهر ان هذه الفوارق كلها تفسير للآية التي جاء بها دالة على صحة رسالته وإن ذلك ليس باقتراح منهم. والطير قيل: هو الخفاش وهو غريب الشكل والوصف، والأكمه: المولود أعمى، يقال: من كمه يكمه، البرص: داء معروف وهو بياض يعتري الجلد، يقال. منه: برص فهو أبرص.﴿ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ لم يذكر تعيين من أحياه وذكر المفسرون ناساً والله أعلم بصحة ذلك. ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ ﴾ كان عليه الصلاة والسلام ينبئهم بتعيين ما أكلوا وتعيين ما ادّخروا. وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد والحالة الدائمة، وبدأ بالخلق الذي هو أعظم في الإِعجاز، وثني بإِبراء الأكمه والأبرص، وأتى بالثالث بإِحياء الموتى وهو خارق شاركه فيه غيره بإِذن الله كررها دفعاً لمن توهم فيه الإِلهية وكان بإِذن الله عقب قوله: انني أخلق، وعطف عليه: وابرىء الأكمه والأبرص، ولم يذكر بإِذن الله اكتفاء به في الخارق الأعظم، وعقب قوله: وأحيي الموتى بقوله: بإذن الله، وعطف عليه وأنبئكم ولم يذكر فيه بإذن الله لأن أحياء الأموات أعظم من الاخبار بالمغيبات فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضاً فكل واحد من الخارقين الأعظمين قيد بقوله: بإذن الله، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإِذن الله. وقرىء وما تدخرون بفكّ الذال عن الدال.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ إشارة إلى ما تقدم من هذه الخوارق. ﴿ وَمُصَدِّقاً ﴾ انتصب على أنه معطوف على قوله: بآية على أن بآية في موضع الحال تقديره جئتكم مصحوباً بآية ومصدّقاً ولأحل: اللام لام كي وهو معطوف على علة محذوفة التقدير لأخفف عنكم ولاحل أو على فعل متأخر التقدير ولا حل لكم جئت قال الزمخشري ولأهل ردّ على قوله: بآية من ربكم أي جئتكم بآية من ربكم ولا حل لكم. " انتهى ". ولا يستقيم أن يكون ولا حل رداً على بآية لأن بآية في موضع حال ولا حل تعليل ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشرّك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه والذي أحل لحوم الإِبل والشحوم وأشياء من السمك وما لا صيصية له من الطير. وقرىء حرّم مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله وحرم مبنياً للفاعل.﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ الظاهر أنها للتوكيد في قوله قد جئتكم بآية من ربكم. ولما طال ما بينهما أكد وان كانت للتأنيث فيختلف مدلول الآيتين وتكون الثانية مخصوصة بالكتاب الذي جاء به وهو الإِنجيل فاتفق ظهور تلك الفوارق وظهور هذا الكتاب الإِلهي.
﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ ﴾ الإِحساس الإِدراك بالحاسة ولما كان كفرهم واضحاً مصرحاً به جعل كأنه مبصر مسموع. ويقال: أحس متعدياً لمفعول به وحسست متعدياً بالباء وقد أبدلت سين حسست الثانية ياء إذا اتصل بها بعض الضمائر وقد حذفت قالوا أحسْستُ وكذلك سين أحس مع بعض الضمائر، تقول: أحست والكفر كفرهم بنبوته وطلب قتله ولذلك:﴿ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي أنصاري مضافين إلى نصر الله إياي، والحواريون أصفياء عيسى: قاله ابن عباس، وقال مصعب: الحواريون كانوا اثني عشر رجلاً يسيحون معه يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض.﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ ﴾ أي أنصار نبي الله ودينه ثم أخبروا بما حملهم على النصرة وهو الإِيمان بالله وأكدوا ذلك بقولهم: ﴿ وَٱشْهَدْ ﴾ فجاز أن يكون الضمير عائداً على عيسى أو عائداً على الله، أي وأشهر يا ربنا. وأكدوا ذلك بقولهم: ﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ ﴾ الآية.﴿ وَمَكَرُواْ ﴾ الضمير عائد على الذين أحس منهم الكفر. ومكرهم باحتيالهم على قتله وقتل أصحابه ومكر الله: مجازاتهم على مكرهم، سمي ذلك مكراً لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر، كقوله:﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى: ٤٠].
﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ ﴾ القول بواسطة ملك. لأنه عليه السلام لم يكن مكلماً كموسى عليه السلام. ﴿ مُتَوَفِّيكَ ﴾ والظاهر أن معنى " متوفيك " مميتك ورافعك إلى. والواو لا تقتضي ترتيباً أي مميتك بعد رفعك أليّ. وبدأ بقوله: ﴿ مُتَوَفِّيكَ ﴾؛ إخباراً بأنه مخلوق من مخلوقاته ليس بآله. وقيل: معنى متوفيك أي بالنوم أو قابضك من الأرض، وأجمعت الأمة على أن عيسى عليه السلام حي في السماء وسينزل الى الأرض إلى آخر الحديث الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ الرفع النقل من سفل الى علو. ﴿ وَمُطَهِّرُكَ ﴾ أي مخلصك جعلهم نجساً. ﴿ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ ﴾ أي على دينك وما جئت به عن الله من الدين والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلزام الناس شريعته.﴿ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم اليهود وشردهم الله أي تشريد بأنه ليس لهم ملك ولا مدينة يختصمون بها بل هم مغرقون في أقطار الأرض تحت قهر المسلمين وتحت قهر النصارى وتحت قهر المجوس.﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ هذا إخبار بالحشر والبعث. والمعنى ثم إلى حكمي. وهذا من الإِلتفات، لأنه سبق ذكر مكذبيه وهم اليهود وذكر من آمن به وهم الحواريون وأعقب ذلك قوله: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا. فذكر متبعيه والكافرين ولو جاء على نمط هذا السياق لكان التركيب ثم إلي مرجعهم، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ليكون الاخبار أبلغ في التهديد وأشد زجراً لمن ينزجر، ثم ذكر لفظة: إليّ، ولفظة: فأحكم، بضمير المتكلم ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم وأتى بالحكم مبهماً ثم فصل المحكوم بينهم إلى كافر ومؤمن وذكر جزاء كل واحد منهم.
﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بدأ في التفصيل بالكفار لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار والاخبار بجزائهم فناسب في البداءة بهم ولأنهم أقرب في الذكر بقوله:﴿ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[آل عمران: ٥٥]، ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وراحوا قتله، ثم أتى ثانياً بذكر المؤمنين وعلق هناك العذاب على مجرد الكفر، وهنا علق توفية الأجر على الإِيمان وعمل الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال في الإِيمان ودعاء إليها.﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ ﴾ أسند الفعل الى ضمير المتكلم وحده وذلك ليطابق قوله:﴿ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾[آل عمران: ٥٥]، وفي هذه الآية قال: فيوفيهم، بالياء على قراءة حفص درويش وذلك على سبيل الإِلتفات والخروج من ضمير التكلم الى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة. وقرأ الجمهور فنوفيهم بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الاخبار بين النسبة الإِسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن كما خالف في الفعل لأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله تعالى فناسب الإِخبار عن المجازيين بنون العظمة.﴿ ذٰلِكَ ﴾ إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما. ﴿ نَتْلُوهُ ﴾ نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء، وأضاف التلاوة الى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفاً له. وجعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر، وفي نتلوه التفات، لأن قبله ضمير غائب في قوله: لا يحب. ونتلوه: معناه تلوناه. كقوله:﴿ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ ﴾[البقرة: ١٠٢] ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ويكون ذلك بمعنى هذا. (وقال) الزمخشري: يجوز أن يكون ذلك من قوله: ذلك نتلوه عليك بمعنى الذي ونتلوه صلته ومن الآيات الخبر. " انتهى ". وهذه نزعة كوفية يجيزون في أسماء الإِشارة أن تكون موصولة ولا يجوز ذلك عند البصريين إلا في ذا وحدها إذا سبقها. ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف وقد قال: يقول الزمخشري الزجاج قبله وتبعه هو وتقدير ذلك في النحو والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات أي يأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب فهي آيات لنبوتك: قاله ابن عباس والجمهور.﴿ وَٱلذِّكْرِ ﴾ القرآن. و ﴿ ٱلْحَكِيمِ ﴾ أي الحاكم أتى بصيغة المبالغة فيه ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ الآية قال ابن عباس وغيره:" جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى وقالوا: بلغنا أنك تشتم صاحبنا، وتقول: هو عبد. فقال صلى الله عليه وسلم: وما يضر ذلك عيسى أجل هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقالوا: هل رأيت بشراً قط جاء في غير فحل أو سمعت به فخرجوا. "فنزلت. والمثل هاهنا بمعنى الصفة أي صفة عيسى في ولادته من غير أب على خلاف المعهود مثل صفة آدم في الغرابة والإِنشاء من غير أب وأم ولا يلزم التشبيه بالشيء أن يكون من جميع وجوهه وأنكر بعض الناس أن يكون المثل بمعنى الصفة وتقدم نوع من هذا التركيب والكلام عليه في قوله:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾[البقرة: ١٧] فأغنى عن إعادته. ومعنى عند الله أي عند من يعلم حقيقة الأمر وكيف هو.﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ ذكر أصل نشئه أي صوره شكلاً من تراب. ﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ﴾ أي كن بشراً سوياً ذا روح وعقل. ﴿ فَيَكُونُ ﴾ أي فهو يكون وهذه كناية عن سرعة الإِيجاد نزل قابلية الشيء لما أراده الله منزلة الموجود المأمور القابل لامتثال الأمر. والجملة من قوله: خلقه، تفسيرية كمثل آدم فلا موضع لها من الإِعراب وقد أجيز أن تكون محالاً ومنعه بعضهم.
﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ ﴾ أي من جادلك فيه أي في أمر عيسى لأنه المحدّث عنه أولاً في قوله: إن مثل عيسى، والمحاجة مفاعلة وهي من اثنين وقعت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين وفد نجران.﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾ وهو إخباره عليه السلام بولادة عيسى من غير أب وقصته إلى أن ذكر رفع الله إياه. ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْاْ ﴾ قرىء بفتح اللام وهو الأصل وبضمها شاذاً ووجهه أنه كان أصله تعالَيُوا فنقلت الضمة الى اللام فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. ﴿ نَدْعُ ﴾ أي يدْع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه الى المباهلة وفي صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي. ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾ نتضرع: قاله ابن عباس.﴿ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ ﴾ أي يقول كل منّا لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى وقد طول المفسرون في قصة المباهلة ومضمنها أنه لما دعاهم إلى المباهلة وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعلي الى الميعاد وانهم كفّوا عن ذلك ومعلوم ان الكاذب هم النصارى وهو نظير قوله تعالى:﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾[سبأ: ٢٤].
ومعلوم ان الذي على الهدى هو محمد صلى الله عليه وسلم وأن الذين في الضلال المبين هم الكفار المخاطبون بقوله:﴿ أَوْ إِيَّاكُمْ ﴾[سبأ: ٢٤]، وأبرز ذلك إبراز الاحتمال كما قال الشاعر: أيا ظبية الوعساء بين حلاحل   وبين النقاء أأنت أمْ أمّ سالوخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ومن ثم كانوا يسوقون معهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الدفع عنها بأرواحهم حماية الحوزة وحماية الحقائق وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها وفيه دليل لا شيء أقوى منه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ ﴾ الإِشارة بهذا الى قصة عيسى عليه السلام وكونه مخلوقاً من غير أب إلى سائر ما قص تعالى في أمره فليس بإِله بل هو عبد من عبيده كما قال تعالى:﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾[الزخرف: ٥٩]، ولذلك جاء بعده:﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ فحصر الإِلهية له تعالى. ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ إشارة إلى وصفي الألوهية وهما القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والاتقان لما اخترع فلا يخفى عليه شيء. وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى عليه السلام. ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ يجوز أن يكون مضارعاً حذفت منه التاء أصله تتولوا. ويجوز أن يكون ماضياً وتوليهم عن ما جئت به في أمر عيسى وفي صحة نبوتك ومعنى علمه تعالى اطلاعه على أحوالهم فيعاقبهم على توليهم. و ﴿ بِٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ جاء باسم الفاعل الدال على الثبوت وجاء جمعاً ليعمهم وغيرهم من أهل الفساد.﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ قال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة فقرأها جعفر والنجاشي جالس وأشراف الحبشة. وقيل: نزلت في وفد نجران واللفظ عام فيهم وفي غيرهم.﴿ سَوَآءٍ ﴾ صفة للكلمة وهو مصدر وصف به أي مستوية. ﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ وهذا دعاء إنصاف. وقرىء سواء بالنصب وخرج على أنه منصوب على المصدر بفعل محذوف استوت استواء ويجوز انتصابه على الحال من النكرة وإن لم توصف نص على ذلك سيبويه.﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ في موضع جر على البدل من كلمة. ﴿ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ﴾ توكيد للجملة التي قبلها لأن من أفرد العبادة لله تعالى وحصرها فيه لا يشرك بالله شيئاً وانتصب شيئاً على أنه مفعول به أو مصدر ﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً ﴾ أي لا نتخذهم. ﴿ أَرْبَاباً ﴾ فنعتقد فيهم الالهية ونعبدهم على ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام. ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ عن الإِقرار بالكلمة. ﴿ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ ﴾ أي اعلموا أنا مباينون لكم منقادون لها وهذه الآية في الكتاب الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية إلى عظيم بُصْرَى فدفعه إلى هرقل.
﴿ لِمَ تُحَآجُّونَ ﴾ ادعت اليهود ان إبراهيم عليه السلام كان يهودياً والنصارى قالوا كان نصرانياً وحاجوا في ذلك. وما في لم استفهامية حذفت ألفها أنكر سبحانه وتعالى عليهم دعواهم وبين أن اليهودية إنما هي منتسبة لمن أنزل عليهم التوراة، والنصرانية لمن أنزل عليهم الإِنجيل، وهما إنما أنزلا بعد إبراهيم عليه السلام وهذا إلزام واضح.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ تنبيه على عدم عقلهم إذ نسبوا شيئاً متأخراً لمن كان متقدماً. ﴿ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ ﴾ أي على دعواكم في قصة عيسى عليه السلام إذ كانوا قد شاهدوه وإن كانوا قد نسبوه إلى ما لا يليق بما لا يكون له من ادعاء الإِلهية فيه كما ادّعت النصارى أو قذفه بما هو باطل كادّعاء اليهود فيه.﴿ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ هي دعواهم من إبراهيم عليه السلام. ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ أي دين إبراهيم الذي حاججتهم فيه. و ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ الآية أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان وبدأ بانتفاء اليهودية لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى وكرر لا لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينيين ثم استدرك ما كان عليه. بقوله:﴿ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ﴾ ووقعت لكن هنا أحسن مواقعها إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى كان الإِستدراك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتيهما ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين وهم عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم وكالمجوس عبدة النار وكالصابئة عبدة الكواكب ولم ينص على تفصيلهم لأن الإِشراك يجمعهم. ﴿ إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ ﴾ الآية. وقال ابن عباس: قالت رؤساء اليهود والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك وانه كان يهودياً وما بك إلا الحسد. فنزلت فأولى الناس أخضهم به وأقربهم منه في الولي وهو القرب وأولى أفضل تفضيل، والمفضل عليه محذوف تقديره منكم أهل الكتاب.﴿ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ أي اتبعوا شريعته في زمانه وفي الفترات بعده. ﴿ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ ﴾ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة. كقوله:﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ ﴾[البقرة: ٩٨].
﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [قيل: آمنوا] بمحمد صلى الله عليه وسلم وقرأ وهذا النبي عطفاً على الضمير المنصوب في اتبعوه أي اتبعوا إبراهيم وهذا النبي. وقرىء بالجر عطفاً على إبراهيم.﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ ﴾ أجمع المفسرون على أنها نزلت في يهود بني النضير وقريظة وقينقاع قالوا لمعاذ وعمار وحذيفة: تركتم دينكم واتبعتم دين محمد فنزلت: ﴿ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾ يردونكم إلى كفرهم. ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.
﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ قال ابن عباس: هي التوراة والإِنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإِنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم والإِيمان بهم كما بين بقوله:﴿ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ ﴾[الأعراف: ١٥٧].
﴿ لِمَ تَلْبِسُونَ ﴾ تقدم الكلام على النهي عن لبسهم وكتمهم في البقرة. وهنا الإِنكار عليهم في قوله: لم، وفي البحر أجاز الفراء والزجاج في وتكتمون من قوله: لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق. النصب فتسقط النون من حيث العربية على قولك: لم تجمعون ذا وذا فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين وبإِضمار ان في قول البصريين وأنكر ذلك أبو علي فقال: الاستفهام وقع على اللبس فحسب وأما تكتمون فخبر حتماً لا يجوز فيه إلا الرفع يعني أنه ليس معطوفاً على تلبسون بل هو استئناف خبر عنهم إنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق. قال ابن عطية: قال أبو علي: الصرف هاهنا يقبح وكذلك إضمار أنْ لأنّ تكتمون معطوف على موجب مقرر ليس بمستفهم عنه وإنما استفهم عن السبب في اللبس واللبس موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة قولك: أتقوم وأقوم. والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي: وألحق بالحجاز فاستريحا   وقد قال سيبويه في قولك: أسرت حتى تدخلها لا يجوز إلا النصب في تدخل لأن السير مستفهم عنه غير موجب. وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلها رفعت لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره. " انتهى ". ما نقله ابن عطية عن أبي علي. وظاهره تعارض ما نقله مع ما قبله لأن ما قبله فيه ان الإِستفهام وقع على اللبس فحسب وأما تكتمون فخبر حتماً لا يجوز فيه إلا الرفع وفيما نقله ابن عطية أن تكتمون معطوف على موجب مقرر وليس بمستفهم عنه فيدل العطف على اشتراكهما في الإِستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون وتكتمون أخباراً محصناً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الإِستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإِضمار أن في جوابه تبعة في ذلك ابن مالك فقال في التسهيل حين عد ما تضمر أن لزوماً في الجواب فقال: أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل فإِن تضمن وقوع الفعل لم يجز النصب عنده نحو: لم ضربت زيداً فيجازيك، لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي وتبعه فيه ابن مالك في الإِستفهام بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله أما لكونه ليس ثم فعل ولا ما في معناه ينسبك منه وإما لاستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل معنى الفعل فإِنما يقدر فيه مصدر مقدر استقباله مما يدل عليه المعنى فإِذا قال: لم ضربت زيداً فأضربك أي ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا وما رد به أبو علي على أبي اسحاق ليس بمتجه لأن قوله: لم تلبسون، وليس نعتاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله ولو فرضنا أنه ماض حقيقة فلا رد فيه على أبي إسحاق لأنه كما قررنا قبل أنه إذا لم يكن سبق مصدر مستقبل من الجملة سبكناه من لازم الجملة وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل في جواب الاستفهام حيث الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع نحو: أين ذهب زيد فنتبعه، وكذلك في كم مالك فنعرفه، ومن أبوك فنكرمه، لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا وليكن منك إعلام بقدر مالك فمَعرفة منا، وليكن منك إعلام بابيك فاكرام مناله." انتهى ". وقرأ عبيد بن عمير: لم تلبسوا وتكتموا، بحذف النون فيهما قالوا: وذلك جزم قالوا ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في الحاق لِمَ بِلَمْ في عمل الجزم.(قال) السجاوندي ولا وجه له إلا أنّ لم تجزم الفعل عند قوم كلم. " انتهى ". والثابت في لسان العرب أنّ لم لا ينجزم ما بعدها ولم أر أحداً من النحويين ذكر انّ لم تجري مجرى لم في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً وذلك في قراءة أبي عمرو من بعض طرقه قالوا: ساحران تظاهرا بتشديد الظاء أي أنتما ساحران تتظاهران فأدغم التاء في الظاء وحذف النون. وأما في النظم فنحو قول الراجز: أبيت أسرى وتبيتي تدلكي   يريد تبيتين تدلكين. فقال آخر: فإن يك قوم سرهم ما صنعتم   ستحتلبوها لاحقاً غير باهل﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية نص عليهم اللبس والكتم مع علمهم بما يترتب على ذلك من عقاب الله تعالى إياهم.
﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ ﴾ قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد واكفروا في آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس كذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإِذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا: هم أهل الكتاب فهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم. فنزلت. وقال ابن عباس ومجاهد: صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم رجعوا آخر النهار فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنه بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه. فنزلت.﴿ آمَنُواْ ﴾ أظهروا الإِيمان باللسان. ﴿ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لم يصدقوا بأنه أنزل على المؤمنين وإنما معناه أنزل على زعمهم. ﴿ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ ﴾ أوله وانتصب على الظرف الزماني. ﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾ أي لعل الذين آمنوا. ﴿ يَرْجِعُونَ ﴾ عن دينهم إذ رأونا مضطربين في دينهم بفعلنا ذلك. ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ ﴾ أي لا تخلصوا الإِيمان باللسان والإِعتقاد.﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ ﴾ ظاهره أنه جملة مستقلة أمر الله نبيه أن يقول هذا وهدى الله خبر ان وقيل: بدل من الهدى.﴿ أَن يُؤْتَىۤ ﴾ على قراءة من قرأ أن يؤتا بهمزة واحدة خبر إنّ أي أنّ هدى الله إيتاء واحد منكم. ﴿ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ ﴾ من العلم والخطاب بأوتيتم للكفار، ويكون أو يحاجوكم منصوباً بإخمار أن بعد أو بمعنى حتى أي حتى يحاجونكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله ولا يكون أو يحاجوكم معطوفاً على أن يؤتى وعلى أن يكون هدى الله خبر انّ يكون المعنى مخافة أن يؤتى تعليلاً لقوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وتكون الجملة من قوله: قل ان الهدى هدى الله، اعتراضاً بين العلة والمعلول. وقرأ ابن كثير أن يؤتى على الاستفهام الذي معناه الإِنكار عليهم والتقرير والتوبيخ وهو مثبت من حيث المعنى قلتم ذلك وفعلتموه ويكون أو يحاجوكم معطوفاً على يؤتى وأو للتنويع. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: أن يؤتى، بدلاً من قوله: هدى الله، ويكون المعنى قل ان الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ويكون قوله: أو يحاجوكم، بمعنى أو فليحاجوكم فإِنهم يغلبونكم. " انتهى " هذا القول وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلا في الضرورة. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب أن يؤتى بفعل مضمر يدل عليه قوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، كأنه قيل: قل ـ ان الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأن قوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد لأن فيه حذف حرف النفي ومعموله ولم يحفظ ذلك من لسانهم وكون أن نافية بمعنى لا قول مرغوب عنه.﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ ﴾ وهذه كناية عن قدرة التصرف والتمكن فيها والبارىء تعالى منزه عن الجارحة.
﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ ﴾ الآية ظاهرة أن أهل الكتاب منهم أمين ومنهم خائن. قال ابن عباس: من أن تأمنه بقنطار هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهباً فأداها إليه.﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ﴾ وهو فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه. " انتهى ". ولا ينحصر الشرط في ذينك المعنيين بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت من ألا ترى كيف جمع في قوله: ذلك بأنهم قالوا ليس علينا وفي قصة السَمَؤل بن عاديا اليهودي، ووديعة امرىء القيس عنده وطلب الحارث بن أبي شمر الغساني ذلك منه دليل على الوفاء التام منه وإن كان يهودياً حتى ضرب به المثل فقيل أوفى من السمؤل والخطاب في تأمنه ظاهره انه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: و ﴿ بِقِنْطَارٍ ﴾ كناية عن المال الكثير. و ﴿ بِدِينَارٍ ﴾ كناية عن المال القليل. وقرأ أبي تَيْميَة في الحرفين بتاء مكسورة وياء ساكنة. (قال) ابن عطية: وما أراها إلا لغة قرشية وهي كسر النون التي للجماعة كنستعين، وألف المتكلم كقول: ابن عمر لا اخاله وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب. " انتهى ". لم يبين ما تكسر فيه حروف المضارعة بقانون كليّ وما ظنه من أنها لغة قرشية فليس كما ظن وقد بينا ذلك في كتابنا الكبير البحر في قوله: نستعين. وقرىء يؤده بالواو بوالهمزة ووصل الهاء بياء وباختلاس الحركة وبسكون الهاء وقائماً ظاهره القيام وكني به عن قيام الإِنسان على أشغاله واجتهاده والجزم فيها بأن لا تضيع فكأنه قائم على رأس المؤتمن على الدينار.﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ ﴾ الآية روى أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان فلما جاء الإِسلام وأسلم من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد فنزلت. وذلك إشارة إلى عدم أداء ما أؤتمن عليه والخيانة فيه.﴿ فِي ٱلأُمِّيِّينَ ﴾ أي في أخذ أموال الأميين وخيانتهم. ﴿ سَبِيلٌ ﴾ أي اعتراض. ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾ أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم ان ذلك في كتابهم. قال السدي وابن جريج وغيرهما: ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلال الله تعالى لهم أموال الأميين كذباً منهم وهي عالمة بكذبها فيكون الكذب المقول هنا هو الكذب المخصوص في هذا الفصل والظاهر أنه أعم من هذا فيندرج هذا فيه أي هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق.﴿ بَلَىٰ ﴾ جواب لقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، والمعنى بلى عليهم في الأميين سبيل.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ جواب من أوفى فيحتمل أن يكون المتقين عاماً يندرج فيه من أوفى أو كن بالمتيقن عمّن أوفى فكأنه قال: يحبهم، ونبه على الصفة التي يحبهم لأجلها وهي التقوى.﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ﴾ نزلت في اليهود. ﴿ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾ أضاف المصدر إلى الفاعل أي بعهد الله إياهم وهو ما أخذه عليهم من الإِيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم أو مضافاً إلى المفعول أي بعهده الله. وتقدم تفسير شبيه هذه الآية في البقرة.﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ ﴾ أي من أهل الكتاب. ﴿ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ ﴾ أي يفتلون. ﴿ أَلْسِنَتَهُمْ ﴾ بقراءته عن الصحيح إلى المحرف: قاله الزمخشري. وعن ابن عباس أيضاً: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم. وقال ابن عطية: يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها؛ ومثال ذلك قولهم: راعناً واسمع غير مسمع، ونحو ذلك. وليس التبديل المحض. " انتهى ". والذي يظهر أن اللّي وقع:﴿ بِٱلْكِتَابِ ﴾ أي بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس بل التحريف والتبديل وقع في ألفاظ التوراة والمعاني تبع للألفاظ، ومن طالع التوراة علم يقينا أن التبديل في الألفاظ والمعاني لأنها تضمنت أشياء يجزهم العاقل أنها ليست من عند الله ولا ان ذلك يقع في كتاب الهي من كثرة التناقض في الاخبار والاعداد، ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر بالخمر والزنا ببناتهم وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها فضلاً عن منصب النبوة. وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي رحمه الله كتاباً في السؤالات على ألفاظ التوراة ومن طالعه رأى فيه عجائب وغرائب وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها هذا مع خلوها من ذكر الآخرة والبعث والحشر والنشر والعذاب والنعيم الآخرويين والتبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأين هذا من قوله تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ ﴾[الأعراف: ١٥٧] الآية. وقوله تعالى وقد ذكر محمد وأصحابه:﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾[الفتح: ٢٩] وقد نص القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة قال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾[الأنعام: ٩١].
وقال تعالى:﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾[المائدة: ١٥].
فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ودل بمفهوم الصفة ان الذي أبدَوه من الكتاب قليل. وقد صنف الشيخ العلامة أبو نصر السمؤل بن يحيى بن عباس المغربي وكان من الذي هداهم الله الى الإسلام كتاباً جليلاً في الرد على شيعته سماه " إقحام اليهود " وفرغ من تصنيفه في يوم عرفه سنة ثمان وخمسين وخمس مائة وأمعن في الرد على اليهود وذكر مخازيهم وألزمهم اتباع شريعة الإِسلام حسب ما تضمنته التوراة، وبين وجود النص في التوراة، ويسرد فيه ألفاظ التوراة باللسان العبراني، ثم يفسره بالعربي، وكان الباجي طالع كلام هذا الرجل وقد كتبنا كتاب هذا الرجل وكتاب الباجي بخطنا. وقرىء يلوون مضارع لوي ويلوّون مضارع لوى مشدداً ويلون بضم اللام. وقرىء: لتحسبوه بالتاء خطاباً للمسلمين. وقرىء بياء الغيبة، والضمير المنصوب عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرّف ويحتمل أن يكون قوله بالكتاب على حذف مضاف أي يلوون ألسنتهم يشبه الكتاب فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف.﴿ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ ﴾ لم يكتفوا بالحسبان حتى صرحوا أن المحرف هو من عند الله جرأة منهم على الله عز وجل ثم أخبر أن شأنهم وعادتهم قول الكذب على الله.﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ما في ذلك من الذنب العظيم.
﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ ﴾ الآية. روي" أن أبا رافع القرظي اليهودي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعت الأحبار من يهود والريس من نصارى نجران قالا: يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك رباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت. فنزلت "ومعنى ما كان لبشر وما أشبه هذا التركيب النفي للكون، والمراد نفي الخبر وذلك على قسمين: أحدهما أن يكون الإِنتفاء من حيث العقل ويعبر عنه بالنفي التام كقوله تعالى:﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾[النمل: ٦٠].
والثاني: أن يكون الإِنتفاء فيه على سبيل الابتغاء ويعبر عنه بالنفي غير التام كقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه. ونفي الكون هنا من القسم الأول. والبشر هنا قال ابن عباس: وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ذكر أولاً الكتاب وهو جنس وترقي منه الى الحكم وهو الفصل بين الناس بالكتاب ثم إلى النبوة وهي الرتبة العليا.﴿ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ ﴾ أتى بثم التي للمهملة تعظيماً لهذا القول وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كانت انتفاؤه بدونها أولى وأحرى أي ان هذا الاتياء العظيم لا يجامع هذا القول وإن كان بعد مهلة من هذا الانعام العظيم. و ﴿ عِبَاداً ﴾ جمع عبد. وقال ابن عطية: عبدّي وعبيد من جموع عبد أما عبدي فهو اسم جمع وألفه للتأنيث، وأما عبيد فقيل: اسم جمع. وقيل: جمع تكسير. قال ابن عطية: والذي استقرأت أن عباداً جمع عبد يجيء في موضع الترفيع كقوله تعالى:﴿ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾[البقرة: ٢٠٧، آل عمران: ٣٠]، و﴿ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾[الأنبياء: ٢٦]، و﴿ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ ﴾[الزمر: ٥٣].
والعبيد يستعمل في معنى التحقير كقول حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لابن وقول امرىء القيس: قولا لدودان عبيد العصا   وقوله تعالى:﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾[فصلت: ٤٦]، لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وانه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك. " انتهى ". ملخصاً وإنما كثرة استعمال عباد دون عبيد لأن فعالاً في جمع فعل قياس مطرد وجمع فعل على فعيل لا يطرد فكثر لفظ عباد وقل لفظ عبيد وأما الآية التي فيها لفظ العبيد فجاء ذلك لتواخي الفواصل لا للتحقير. وأما بيت امرىء القيس فالتحقير انما فهم من إضافة عبيد الى العصا. وكذلك قول حمزة فهم التحقير من الحالة التي كان عليها، وعبيد وعباد بمعنى واحد لكن الفرق بين مجيء عباد كثيراً وعبيد قليلاً هو القياس وعدم القياس. وقرىء ثم يقول برفع اللام أي ثم هو يقول:﴿ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ ﴾ أي ولكن يقول كونوا والرباني. قال ابن عباس: الفقيه. ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة. وقرىء يعلمون وتعلمون بالتاء والياء.﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ ﴾ قرىء برفع الراء على القطع وبالنصب عطفاً على أن يؤتيه والتقدير ولا أن يأمركم. وهذه الجملة على سبيل التوكيد لأنه نفي أن يتخذ لنفسه عباداً من دون الله فنهى أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله، يعني من كان معظماً من العالم العلوي وهم الملائكة، ومن العالم الأرضي وهم النبييون. ويجوز أن يكون ولا يأمركم بالنصب عطفاً على ثم يقول ويكون التقدير ولا له أن يقول ودخلت لا لتأكيد معنى النفي السابق كما تقول: ما كان لزيد قيام ولا قعود على انتفاء كل منهما. وقال ابن عطية في قراءة نصب الراء: هذا خطأ لا يلتئم به المعنى. " انتهى ". لأنه قدر أن قبل لا فصار وان لا يأمركم ونحن قدرناه بعد لأفصح المعنى.﴿ أَيَأْمُرُكُم ﴾ استفهام انكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح وهو لا يأمر بالكفر لا بعد الإِسلام ولا قبله. وجعل قول ذلك البشر أمره كفراً فسوى بين عبادته وبين عبادة الملائكة وهم الذين عبدتهم الصابئة، وبين عبادة النبيين وهم من عبدة اليهود والنصارى.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره ميثاق أتباع النبيين لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾، هو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمانه حين جاء النبيون فتعين أن يكون التقدير ميثاق أتباع النبيين وجاء بالخطاب على سبيل الالتفات وقرىء بفتح اللام ووجهه أن اللام هي الموطئة وما شرطية مفعولة بآتيناكم ومن كتاب تفسير لما. وآتيناكم ماض أريد به المستقبل ثم جاءكم معطوف عليه، وجواب القسم لتؤمنن به وما بعده، وجواب الشرط محذوف. والآية مما اجتمع فيه القسم والشرط فجاء الجواب للسابق منهما وهو القسم. وفي البحر (قال) ابن عطية والزمخشري: ما من لما أتيناكم شرطية إلى آخر كلامهما. وقال مثل ذلك المازني والزجاج والفارسي وفيه خدش لطيف جداً وذلك أنه إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ومتعلقاته متعلقاً به. فإِذا قلت: والله لمن جاءني لأكرمنه فجواب من محذوف التقدير من جاءني أكرمه وفي الآية اسم الشرط ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم. وهو الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بوساطة حرف الجر لا ضمير ما فجواب ما للقدر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك لأنه تعدى والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط وإن كان من غير جنس جواب القسم فكيف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلا إذا كان من جنس جواب القسم ألا ترى انك لو قلت: والله ان ضربني زيد لأضربنه، كيف تقدره إن ضربني زيد أضربه. ولا يجوز أن يكون التقدير والله لئن ضربني زيد أشكه لأضربنه لأن لأضربنه لا يدل على لشكه فهذا ما يرد على قول من خرج ما على انها شرطية (قال) الزمخشري: ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً. " انتهى ". هذا قول ظاهره مخالف لقول من جعل ما شرطية لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه إلا أن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا من حيث تفسير الإِعراب يسد مسدهما فيمكن أن يقال وأما من حيث تفسير الإِعراب فلا يصح لأن كلا منهما أعني الشرط والقسم يطلب جواباً على حدة ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه فيكون في موضع جزم والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه فلا موضع له من الإِعراب ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإِعراب ولا موضع له من الإِعراب وقرىء لما بكسر اللام ووجهه ان اللام للتعليل وما موصولة بمعنى الذي والعائد عليها محذوف من صلتها أي آتينا كموه وعطف على الصلة ثم جاءكم والعائد فيه محذوف تقديره ثم جاءكم به أي بنظيره. وأجاز الزمخشري أن تكون ما مصدرية (قال): ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم بمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به على أن ما مصدرية والفعلان معها أعني آتيناكم وجاءكم في معنى المصدرين. " انتهى ". ويكون تعليلاً لأخذ الميثاق. وفي البحر (قال) الزمخشري: ما في قراءة حمزة لما آتيناكم مصدرية ومعناه لأجل إيتاني إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول الله مصدق لما معكم لتؤمنن به على أن ما مصدرية والفعلان معها أعني آتيناكم وجاءكم في معنى المصدرين واللام داخلة للتعليل على معنى أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة وأن الرسول الذي أمرتكم بالإِيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى هذا التعليل. والتقدير الذي قدره ظاهره أنه تعليل للفعل المقسم عليه فإِن عني هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقه وهو الإِيمان فاللام متعلقة بأخذ وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله: لتؤمنن به، ويمتنع ذلك من حيث أن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول: والله لأضربن زيداً. ولا يجوز والله زيداً لأضربن فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في لما بقوله لتؤمنن به. وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب إذا كان ظرفاً أو مجروراً تقدمه وجعل من ذلك عوض لا نتفرق. وقوله تعالى:﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾[المؤمنون: ٤٠]، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق بقوله: ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾، وفي هذه المسألة تفصيل مذكور في النحو. وقرىء لما بفتح اللام وتشديد الميم وخرج على أن لما هي الطالبة للجواب، وتقديره أخذ عليكم الميثاق، ولما المقتضية للجواب حرف عند سيبويه، وظرف بمعنى مين عند المبرد. وتبعه الزمخشري وابن عطية في لما هذه وهو مذهب فاسد ومن ادعى أن أصلها بمن ما فحذفت منه ميم واحدة فصار لما فقوله في غاية وينزه كلام الله عنه ويلزم أن تكون اللام الموطئة دخلت على حرف الجر نحو أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً، لم يجز لأن الموطئة لا تدخل إلا على أداة شرط. وقرىء آتيناكم بنون العظمة وبالتاء وتناسب قوله احدى. وقدم الايمان بالله لأنه الأصل ثم النصر لأنه من ثمرة الإِيمان.﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾ الضمير عائد على الله في قال. وأأقررتم: استفهام معناه الإِستثبات بعد أخذ الميثاق. ﴿ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ ﴾ أي على الإِيمان والنصرة. ﴿ إِصْرِي ﴾ عهدي وقرىء اصري بضم الهمزة وكسرها. ﴿ قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا ﴾ معناه أقررنا بالإِيمان به وبنصرته وقبلنا ذلك والتزمناه، وثم جملة محذوفة أي أقررنا وأخذنا على ذلك الأمر.﴿ قَالَ فَٱشْهَدُواْ ﴾ أي يشهد بعضكم على بعض والتقدير أقررتم فاشهدوا أتى بالفاء رابطة بين الجملتين ونظير ذلك قولك: ألقيت زيداً؟ قال: لقيته. قال: فأحسن إليه! لتقدير لقيت زيداً فأحسن إليه.﴿ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ استئناف معناه التوكيد. ﴿ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ الإشارة إلى الإِقرار وأخذ الأصر المذكورين بعد الإِيمان والنصرة. ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ ﴾ الهمزة للإِنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإِعراض وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق. وقرىء تبغون بالتاء وبالياء.﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ ﴾ أي انقاد وانتصب طوعاً على المصدرية أو على الحال وقسم الإِسلام الى نوعين: أحدهما طوع كانقياد الملائكة والأنبياء ومن أجاب إلى الدين بغير تلبث ولا فكر كانقياد أبي بكر الصديق. والآخر: كره وهو من انقاد لأجل السيف وكثير من هؤلاء من حسن حاله في الإسلام فانقاد إليه طوعاً. ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ أي إلى جزائه وفي ذلك تهديد.
﴿ قُلْ آمَنَّا ﴾ الآية تقدم الكلام على نظيرها في البقرة. وهنا قل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا أُمر هو بالقول فأمته مأمورون به من حيث المعنى، ولذلك قال في البقرة: قولوا، خطاب للجميع ولذلك جاء الكلام بلفظ الجمع في آمنا، وفي علينا وفي نحن له وهنا جاء بلفظ: على. وفي البقرة بلفظ: إلى، فعبر مرة بالنزول من علو، ومرة بالإِنتهاء. (وقال الراغب: إنما قال هنا على لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية كان لفظ على المختص بالعلو أولى به وهناك لما كان للأمة وقد وصل إليهم بوساطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظ الى المختص بالاتصال أولى. " انتهى ".﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً ﴾ قرىء بإِدغام الغين في الغين، وبالفك. والإِسلام هنا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وانتصب ديناً على التمييز لأنه يأتي بعد غير كقول العرب ان لنا غيرها إبلاً كما ينتصب بعد مثل في قوله: يكفيه مثله صبرا. ولذلك يجوز دخول من عليه ويتعلق في الآخرة بمحذوف يدل عليه الخاسرين أي خاسر في الآخرة وهذا أحسن التخريج.﴿ كَيْفَ ﴾ سؤال معناه التعجب والتعظيم وهي منصوبة بيهدي. وجاء ﴿ قَوْماً ﴾ غير معينين ونقل أهل التفسير تعيينهم واختلافاً فيهم ولفظة قوم تدل على أنهم أكثر من اثنين لأنه اسم جمع فعد منهم طعمة بن أُبيرق والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الاسلت وأبو عامر الراهب وبعض هؤلاء رجع إلى الإِسلام وحسن حاله.﴿ وَشَهِدُوۤاْ ﴾ معطوف على كفروا والواو لا ترتب أو معطوفاً على إيمانهم مراعى فيه الإِنسباك لأن والفعل أي بعد أن آمنوا وشهدوا وأجيز أن يكون حالاً تقديره وقد شهدوا والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم والبينات ما أوتي به عليه السلام من الكتاب المعجز والمعجزات الخارقة. ﴿ أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ ﴾ الآية تقدم الكلام على مثلها في البقرة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ قيل: نزلت في اليهود كفروا بعيسى وبالإِنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم.﴿ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً ﴾ بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا بنعته في التوراة. ﴿ لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ﴾ المعنى لا توبة لهم فتقبل فنفي القبول. والمراد نفي التوبة ويكون ذلك في قوم بأعيانهم ختم الله عليهم بالكفر فيموتون عليه ولذلك لم تدخل الفاء في قوله: لن تقبل، إذ قوله الذين لا عموم فيه.﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ ﴾ لفظ الذين هنا عام فيمن كفر ومات على الكفر فلذلك دخلت الفاء في قوله: فلن يقبل تشبيهاً للموصول باسم الشرط. وقرىء نقبل بالنون ونصب ملء. وقرىء مل بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام. وانتصب ذهباً على التمييز، ولذلك يجوز دخول من عليه في غير القرآن.﴿ وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ ﴾ قال الزمخشري: فإِن قلت: كيف موقع قوله: ولو افتدى به. قلت: هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. " انتهى ". وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله والذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أنّ من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها، ولو في حالة افتدائه من العذاب لأن حالة الإِفتداء هي حالة لا يمتنُّ فيها المفتدي على المفتدي منه، إذ هي حالة قهر من المفتدي منه للمفتدى، وقد قررنا في نحو هذا التركيب ان لو تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن انها لا تندرج فيما قبلها كقوله: اعطوا السائل ولو جاء على فرس مشعر بغناه فلا يناسب أن يعطي. (قال) الزمخشري: ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله:﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ ﴾[الزمر: ٤٧] والمثل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربتُ ضربَ زيد، تريد مثل ضربه، وأبو يوسف أبو حنيفة، تريد مثله. ولا هيثم الليلة للمطي وقضية ولا أبا حسن لها تريد، ولا مثيل هيثم، ولا مثل أبي حسن. كما أنه يزاد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر فكانا في حكم شيء واحد. " انتهى ". لا حاجة إلى تقدير مثل في قوله: ولو افتدي به. وكأنّ الزمخشري تخيّل ان ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به فاحتاج إلى اضمار مثل: حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به وليس كذلك، لأن ذلك كما ذكرنا على سبيل الفرض والتقدير، إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملأ الأرض ذهباً بحيث لو بذله في أية جهة بذله لم يقبل منه بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل لأنه نفي قبوله حتى في حالة الإفتراء وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ولا معنى له ولا في اللفظ ولا المعنى ما يدل عليه فلا يقدر وأما في ما مثل به من: ضرب ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة فبضرورة العقل يعلم أنه لا بد من تقدير مثل إن ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة وأما لا هيثم الليلة مطي، فدل على حذف مثل ما تقرر في اللغة العربية أنّ لا التي لنفي الجنس لا تدخل على الاعلام فتؤثر فيها، فاحتيج الى إضمار مثل لتبقى على ما تقرر فيها إذ تقرر انها لا تعمل إلا في الجنس لأن العلمية تنافي عموم الجنس. وأما قوله: كما انه يزاد في مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت فهنا قول قد قيل ولكن المختار عند حذاق النحويين ان الأسماء لا تزاد ولتقرير ان مثلك لا يفعل كذا ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا. ولو في قوله: ولو افتدى به وفيما قبله على سبيل الفرض لأنه لا يمكنه أن يأتي بملء الأرض ذهباً.﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها انه لما أخبر تعالى عمن مات كافراً أنه لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً على سبيل الفرض لو أتى به حضٌ المؤمنين على الصدقة التي تنفع في الآخرة والبر ما تقرب به الى الله تعالى من أعمال الخير وغيا ذلك بلفظة حتى والإِنفاق مما يحبه المؤمن ولما سمع الصحابة رضوان الله عليهم هذه الآية تصدقوا لما كانوا يحبون، فتصدق أبو طلحة ببئر حاء، وزيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، وأبو ذر بفحل خير أبله. ﴿ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ أي مجاز عليه.
﴿ كُلُّ ٱلطَّعَامِ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها انه تعالى أخبر أنه لا ينال البر إلا بالانفاق من المحبوب فروي أن إسرائيل مرض مرضاَ شديداً فنذر لله تعالى أنه إن شفاه أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه فحرم لحوم الابل وألبانها وكان ذلك أحب المأكول والمشروب إليه تقرباً إلى الله تعالى. وروي أن هذه الآية نزلت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا على ملة إبراهيم فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الابل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان ذلك حلالاً لأبي إبراهيم ونحن نحله. فقالت اليهود: بل كان ذلك حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم وإن إسرائيل حرم ذلك على نفسه قبل نزول التوراة.﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل فأتوا محذوف تقديره هذا الحق لا زعمكم معشر اليهود فأتوا وهذه محاجّة أن يؤمروا بإِحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم فإِنه ليس فيه ما ادعوه بل هو مصدق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أن تلك المطاعم كانت حلالاً لهم في قديم وان التحريم هو حادث ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ خرج مخرج الممكن وهم معلوم كذبهم وذلك على سبيل الهزء بهم.﴿ فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ الإِشارة بذلك إلى التلاوة إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة القاطعة عليهم ويكون افتراء الكذب ان ينسب إلى كتب الله ما ليس فيها.﴿ قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ ﴾ فيما أخبر به تعالى في كتبه المنزلة حتى في قصة إسرائيل وإنّ ما قالوه كذب وانتصب حنيفاً على الحال وتقدم تبيين ذلك في البقرة في قوله:﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾[البقرة: ١٣٥].
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها انه لما أمر باتباع ملة إبراهيم وهو الذي كان ملته حج هذا البيت أخذ في ابتداء أمره من بنائه الى منتهاه وظاهر قوله: أول بيت، وضع للناس هو في بنائه لعبادة الله تعالى فذكر الشريف أبو البركات الجواني النسّابة إن شيث بن آدم عليهما السلام هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة وأول نكرة، فخصّصت بالاضافة وبالصفة فحسن الاخبار عنها بالموصول وهو معرفة وتقديره للبيت الذي ببكة وأكدت النسبة بأن وباللام. وبكة قيل مكة والباء والميم قد يتعاقبان. وقيل: اسم لبطن مكة والباء ظرفية. و ﴿ مُبَارَكاً ﴾ حال في الضمير الذي هو في الحقيقة صلة للموصول تقديره الذي استقر في بكة مباركاً.
﴿ فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ ﴾ أي علامات واضحات منها مقام إبراهيم الحجر الذي قام عليه والحجر الأسود والحطيم وزمزم وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس وأمر الفيل ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل وكف الجبابرة على وجه الدهر وإذ عان نفوس العرب لتوقير هذه البقعة دون ناه ولا زاجر وجباية الأرزاق إليه وهو بواد غير ذي زرع وحمايته من السيول ودلالة عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض فإِن كان المطر من جانب أخصب الأنف الذي يليه وارتفع آيات على الفاعلية بالجار والمجرور التقدير كائناً فيه آيات والضمير في فيه عائد على البيت وذلك على سبيل الاتساع إذ الآيات التي تقدم ذكرها كائنة في البيت وفي الحرم الذي فيه البيت. قال الزمخشري: فإِن قلت كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم دالاً من عطف بيان الآيات وقوله: ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ جملة مستأنفة اما ابتدائية وإما شرطية قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى لأن قوله: ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ دل على أمن داخله فكأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله ألا ترى أنك لو قلت فيه آية بينة كان في معنى قولك فيه آية بينة أمن من دخله " انتهى ". وليس ما ذكره بواضح لأن تقديره وأمن داخله هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم وفسر بهما الأيات والجملة من قوله: ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ لا موضع لها من الإِعراب فتدافعا إلا أن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف يدل عليه ما بعده فيمكن التوجيه، فلا يجعل قوله: ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ في معنى وأمن داخله إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير اللفظ والإِعراف ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله: ﴿ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ ﴾ ورد عليه ذلك لأن آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان وقوله: مخالف لإِجماع الكوفيين والبصريين فلا يتلتف إليه وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت فتتبع النكرة والمعرفة المعرفة وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أن يكونا مقرنين ولا يجوز أن يكونا نكرتين وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله أعربه البصريون بدلاً ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة وكل من وقفنا على كلامه جعل مقام إبراهيم تابعاً لآيات على توضيح كثرتها في المقام منها تأثير قدميه في حجر صلد وغوصه فيه إلى الكعبين وإلانة بعض الحجر دون بعض وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين ألوف سنين، والذي اخترناه في إعرابه في الكتاب الكبير البحر الذي هو مختصره أن يكون ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أحدها مقام إبراهيم أو يكون ارتفاعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها مقام إبراهيم والذي اختاره الآن أنه ليس متعلقاً بقوله: آيات بينات، ولا تفسيراً لها لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بل هو عندي بدل أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر ان وكأنه قيل: ان أول بيت موضع للناس لمقام إبراهيم.﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ من شرطية أو موصولة وتكلفوا عطف هذه الجملة على قوله مقام إبراهيم تكلفاً بعيداً والذي أذهب إليه أنه إخبار من الله تعالى بفضل هذا البيت والحرم وأمن من دخله كما قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾[العنكبوت: ٦٧] فذكر تعالى امتنانه عليهم بأمن من دخل هذا الحرم الشريف، وظاهر الآية أنها مذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت وأمن من دخله من ذوي الجرائر وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم.﴿ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ ﴾ هذه الآية دليل على فرض الحج وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم ثم بلفظ الخصوص بقوله: من استطاع، وقرىء: حج بكسر الحاء وفتحها.﴿ وَمَن ﴾ بدل من الناس وقيل: شرطية، والجواب محذوف تقديره فعليه الحج وإعراب من فاعلة بالمصدر تقديره أن يحج البيت المستطيع إعراب فاسد.﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ عام في كل كافر باعتقاد عدم فرض الحج وغيره ومن شرطية وجوابه.﴿ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾ واندرج هو في لفظ العالمين كأنه قيل غني عنه وعن سائر العالم.﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الآية، لما فرع من ذكر البيت وحجه، وكان أهل الكتاب لا يحجون عاد إلى الكلام مع أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم قبل هذه الآية، فنعي عليهم أولاً أعظم مساويهم وهي الكفر بآيات الله مع شهادتهم إياها ثم ثانياً صدهم من آمن عن سبيل الله وسبب نزول هذه الآية وما بعدها" أن رجلاً من اليهود حاول الإِغراء بين الأوس والخزرج واسمه شاس بن قيس وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين فرأى إئتلاف الأوس والخزرج، فقال: ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملا بني قبله فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر فيفعل فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً "هذا ملخص ما ذكره مطولاً.﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ التي هي التوراة دالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته للناس جميعاً.﴿ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ ﴾ جملة في موضع الحال دالة على آبائهم وكفرهم بآيات الله مع شهادة الله على أعمالهم وأتى لفظ شهيد الدال على المبالغة." وتصدون " هنا متعد ومفعوله.﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ والسبيل يذكر ويؤنث والضمير في:﴿ تَبْغُونَهَا ﴾ عائد على السبيل وأصله تبغون لها عوجاً فاتسع في الفعل وحذف اللام والجملة حالية أي باغين عوجا وذو الحال الضمير في تصدون وقيل حال من سبيل الله، وقرىء: تصدون مضارع أصد والهمزة فيه من صد عن كذا باللازم وقال ذو الرمة: أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم   ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ الآية، لما أنكر تعالى على أهل الكتاب صدهم عن الإِسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف الإِيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ولم يأت بلفظ: قل، ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية لأنه لم تقع طاعتهم له والإِشارة بيا أيها الذين آمنوا. إلى الأوس والخزرج بسبب ثائرة شاس بن قيس وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل أن يصدر منكم طواعية ما في أي شيء يحاولونه من إضلالكم ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول والرد هنا التصيير أي يصيرونكم فتعدت إلى اثنين والثاني كافرين. وقال الشاعر: فرد شعورهن السود بيضا   ورد وجوههن البيض سوداً﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ﴾ استفهام استبعاد وقوع الجملتين حالاً يقتضي انتفاء الكفر عمن يتلى عليه كتاب الله وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآتية الآيات والمعجزات على يديه.﴿ وَمَن يَعْتَصِم ﴾ يستمسك.﴿ بِٱللَّهِ ﴾ أي بآيات الله ورسوله.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الآية، لما حذرهم الله من إضلال من يريد إضلالهم أمرهم بمجامع الطاعات فرهبهم أولاً بقوله: اتقوا الله إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله ثم أردف الرهبة بالرغبة. وهي قوله: واذكروا نعمة الله عليكم. وأعقب الأمر بالتقوى بنهي هو من تمام التقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر وهو من تمام الاعتصام وانتصب حق على أنه مصدر لإضافته إلى المصدر والمعنى حق اتقائه. قال ابن عطية: ويصح أن يكون الثقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة والمعنى على هذا اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى " انتهى كلامه ". وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ إذ الظاهر أن قوله: حق تقاته من باب إضافة الصفة إلى موصوفها كما تقول: ضربت زيداً شديد الضرب، تريد الضرب الشديد، فكذلك هذا، أي: اتقوا الله الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت. أما إذا جعلت التقاة جمعاً، فإِن التركيب يصير مثل اضرب زيداً حق ضرابه فلا يدل هذا التركيب على معنى أضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه حتى لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى والتقرير أضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه ولا حاجة تدعوا إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقاديره معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ ﴾ الآية، تقدم الكلام عليها في البقرة.﴿ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ جملة حالية.﴿ بِحَبْلِ ٱللَّهِ ﴾ هو كتاب الله تعالى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" القرآن حبل الله المتين ".﴿ وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ نهي عن التفرق في الدين، كتفرق اليهود والنصارى.﴿ فَأَصْبَحْتُمْ ﴾ أي صرتم ولا يراد به اتصاف الموصوف بالأخوة وقت الصباح، قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي المبتدأ النهار وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسبها المرء في نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ومنه قوله: الربيع بن ضبعأصبحت لا أحمل السلاح   ولا أملك رأس البعير ان نقرا" انتهى ". وهذا الذي ذكره من أن أصبح للاستمرار وعلله بما ذكره لا أعلم أحد من النحويين ذهب إليه إنما ذكروا أن أصبح المقتضية للخبر تكون بمعنى الصيرورة وبمعنى تقييد الخبر بوقت الصباح والباء في بنعمته للسبب أي بسبب نعمة الله التي أنعم بها عليكم من التأليف بعد التفرق والمودة بعد العداوة.﴿ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ ﴾ جملة مستأنفة أخبر تعالى بما كانوا عليه من الإِشراف على الهلاك ويجوز أن تكون حالاً أي وقد كنتم والشفا الطرف والضمير في منها عائد على النار ويجوز أن يعود على الشفا لإِضافته إلى المؤنث لأن طرف الشيء من الشيء كما أنت في قوله: كما أشرقت صدر القناة من الدم. قال ابن عطية: راداً على من أجاز عود الضمير على الشفا لأنه ليس لنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، " انتهى ". وأقول: لا يحسن عوده إلا على الشفا لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزئي الإِسناد فالضمير لا يعود إلا عليه. وأما ذكر الحفرة فإِنما جاءت على سبيل الإِضافة إليها ألا ترى أنك إذا قلت كان زيد غلام جعفر لم يكن جعفر محدثاً عنه وليس أحد جزيء الإِسناد وكذلك لو قلت: ضربت زيد غلام هند لم تحدث عن هند بشيء وإنما ذكرت جعفراً وهذا مخصصاً للمحدث عنه. وأما ذكر النار فإِنما جني بها لتخصيص الحفرة وليست أيضاً أحد جزئي الإِسناد ولا تحدثا عنها وأيضاً فالانقاذ من الشفا أبلغ من الإِنقاذ من الحفرة ومن النار لأن الإِنقاذ من الحفرة ومن النار والإِنقاذ منهما يستلزم الإِنقاذ من الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، ومثلث حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها.
﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ ﴾ الظاهر أنه خطاب للمخاطبين قبله ومنكم يقتضي التبعيض ويندرج في الخطاب جميع المؤمنين والمراد بالأمة الآمرة والناهية من يتعين لصلاحية ذلك ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا لمن علم المعروف والمنكر وكيف يترتب الأمر في إقامته وكيف يباشره فإِن الجاهل ربما أمر بمنكر ونهى عن معروف. وقد رأينا من ينتمي للصلاح يأمر أصحابه بالاجتماع لمغن شاب يغني لهم بالتغزلات والمحون وينافخ في قصبة يخرج منها أصوات فيتلذذون بذلك ويرقصون ويدور أحدهم مائة دورة وأكثر منها ويجعل أذنه عند القصبة والمغني ويتفتل في رقصه ويمشي على جنبه ملاصقاً إلى الأرض من أول الإِيوان إلى آخره ويشهد ذلك الجم الغفير والجمع الكثير ممن ينتمي إلى الإِسلام فلا ينكر أحد منهم شيئاً من ذلك وهو من أعظم المنكرات.﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ ﴾ قال ابن عباس: هم الأمم السالفة التي تفرقت في الدين و:﴿ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾ قال ابن عباس: آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة.﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى الذين تفرقوا.﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ البياض عبارة عن إشراقها ونورها وبشرها برحمة الله والسواد عبارة عن ظلمتها وكمدها وخص الوجه لأنه أشرف ما في الإِنسان وإن كان البياض والسواد يعمان جميع البدن ويجوز أن يراد بالبياض والسواد حقيقتهما ويوم ظرف والعامل فيه العامل في لهم أي كائن لهم عذاب عظيم يوم تبيض.﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسود وابتدأ بالذين اسودت للاهتمام بالتحذير من حالهم ولمجاورة قوله وتسود وجوه والابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم وللعرب في مثل هذا طريقان أحدهما: انه إذا فصل شيء بشيء أو حكم بحكم وإن لم يكن تفصيلياً يجعل الآخر للأول والآخر أن يجعل الأول من السابقين للأول من الآخرين، والثاني للثاني كقوله تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾[هود: ١٠٥] ثم قال:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ ﴾[هود: ١٠٦] وقال بعد:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ ﴾[هود: ١٠٨] وفي البحر فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم الخبر محذوف للعلم به والتقدير فيقال لهم.﴿ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ تقديره فيقال لهم: أكفرتم كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله تعالى:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد: ٢٣ـ٢٤] ولما حذف الخبر حذفت الفاء وإن كان حذفها في غير هذا لا يجوز، إلا في الشعر، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم " نهاية التأميل في أسرار التنزيل ": قد اعترض على النحاة في قولهم لما حذف يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[الجاثية: ٣١] تقديره فيقال لهم أفلم تكن آياته تتلى عليكم فحذف فيقال ولم تحذف الفاء فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب.﴿ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ فوقع ذلك جواباً له ولقوله: أكفرتم؟ ومن نظم العرب إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً كما في قوله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾[البقرة: ٣٨].
فقوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. جواب الشرطين معاً وليس أفلم جواب أما بل الفاء عاطفية على مقدر والتقدير أأهملتكم فلم أتل عليكم آياتي، " انتهى " ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي. أما قوله: قد اعترض. على النحاة فيكفي في بطلان هذا اعتراض على جميع النحاة لأنه ما في نحوي إلا خرج الآية على إضمار، فيقال لهم: أكفرتم؟ وقالوا: لا يستغني المعنى عنه، والقول بخلافه مخالف للإِجماع فلا التفات إليه فأما ما اعترض به من قوله:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[الجاثية: ٣١] وان تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آيات فحذف فيقال ولهم ولم تحذف الفاء مذل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء فيقال: التي هي جواب. أما حتى يقال: حذف. فيقال: وبقيت الفاء بل الفاء هي جواب، أما ويقال بعدها محذوف، وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون زائدة وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر: يموت أناس أو يشيب فتاهم   ويحدث ناس والصغير فيكبروقول الآخر: لما اتقى بيد عظيم جرمها   فتركت ضاحي جلدها يتذبذبيريد تركت. وقال الزهر: أراني إذ ما بت على هوى   فثم إذا أصبحت غاديايريد ثم وقال الأخفش: وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوجد يريد أخوك وجد والثاني أن تكون الفاء تفسيرية وتقدير الكلام فيقال لهم ما يسؤهم فألم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت على الفاء التفسيرية كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله تعالى:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[يوسف: ١٠٩، الحج: ٤٦] وهذا على مذهب من يثبت ان الفاء تكون تفسيرية نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء فالفاء هنا ليست مرتبة. وإنما هي مفسرة للوضوء وكذلك تكون في أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، مفسرة للقول الذي يسؤهم وقول هذا الرجل فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان ما قدره النحويون من قوله: فيقال لهم لوجود هذه الفاء في أفلم تكن وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فالجواب: اما هو فيقال ومعنى الكلام عليه وأما تقديره أأهملتكم فلم تكن آياتي فهذه نزعة زمخشرية تقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ولا يعتقدان الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على لكن اعتنى بالاستفهام فقد على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك وبطلان قوله الأول مذكور في النحو. وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك وعلى تقدير قول هذا الرجل أأهملتكم فلا بد من إضمار القول وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ والفاء جواب أما، وهو الذي يدل عليه الكلام ويقتضيه ضرورة. وقول هذا للرجل فوقع ذلك جواباً له ولقوله: " أكفرتم " يعني: ان فذوقوا العذاب جواب لا ما ولقوله: " أكفرتم ". والاستفهام هنا لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والارذال بهم، وأما قول هذا الرجل ومن نظم العرب إلى آخره فليس كلام العرب على ما زعم بل يجعل لكل جواب ان لا يكن ظاهر أفمقل ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾[البقرة: ٣٨]، الآية، وزعمه أن قوله تعالى:﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾[البقرة: ٣٨] جواب للشرطين فقول روي عن الكسائي وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره فاتبعوه والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾[البقرة: ٣٨] الآية، وهذا سؤال توبيخ وتعنيف بعد إيمانكم ظاهره ان كفرهم كان بعد حصول إيمانهم وليس كل كافر كذلك والمراد والله أعلم، بعد أن ولدتم على الفطرة المتهيئة لقبول الإِيمان أو الإِيمان المراد به في قوله:﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾[الأعراف: ١٧٢].
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ أنظر تفاوت ما بين القسمين هناك جمع لمن اسودت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عناية بهم وان العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأن جانب الرحمة أغلب وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه بل قال: فذوقوا العذاب، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة وهو توكيد لقوله: الذين، وفيها توكيد لقوله: ففي رحمة الله. وقرىء: اسوادت وابياضت بألف.﴿ تِلْكَ ﴾ إشارة إلى الآية التي نزلت في أمر الأوس والخزرج وما قبلها. و ﴿ نَتْلُوهَا ﴾ خبر ثان أو جملة في موضع الحال وقرىء: يتلوها بالياء.﴿ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ونكر ظلماً وهو في سياق النفي يعم وهو مصدر حذف تقديره ظلمه للعالمين وللعالمين في موضع المفعول.
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ هي من تمام الخطاب الأول في قوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾[آل عمران: ١٠٢] وتوالت جعل هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواه وكان قد استطرد من ذلك لذكر من يبيض وجهه ويسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾.
تحريضاً بهذا الاخبار على الانقياد والطواعية والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من يجيء بعدهم ممن يتصف بأوصافهم واللام في الناس متعلقة بأخرجت وقيل بخير وهو الأحسن. و ﴿ تَأْمُرُونَ ﴾ ما بعده تفسير للخيرية التي في قوله: خير أمة، قال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارىء ومنه قوله تعالى:﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾[النساء: ٩٦].
ومنه قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ كأنه قيل وجدتم خير أمة، " انتهى ". فقوله: انها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار فإِذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق، فإذا قلت: كان زيد عالماً بمعنى صار دلنا على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم وقوله: ولا على انقطاع طارىء الصحيح انها كسائر الأفعال، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال ألا ترى أنك تقول هذا اللفظ يدل على العموم، ثم يستعمل حيث لا يراد العموم بل المراد الخصوص. وقول الزمخشري كأنه قال: وجدتم خير أمة هذا يعارض أنها مثل قوله: وكان الله غفوراً رحيماً لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة وان خير أمة حال، وقوله: وكان الله غفوراً، لا شك أنها هنا الناقصة، فتعارضا وخير مضاف للنكرة وهي أفضل، فيجب أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها وإن كانت جارية على جمع والمعنى أن الأمم إذا فضلوا أمة كانت هذه الأمة خيرها وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبن جهة الخيرية في اللفظ وهي سبقهم إلى الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبدارهم إلى نصرته ونقلهم عن علم الشريعة وافتتاحهم البلاد وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها لأنهم سبب في إيجادها إذ هم الذين سنوها وأوضحوا طريقها من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً.﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ أي ولو آمن من عامتهم وسائرهم، ويعني الإِيمان التام النافع واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن من كما تقول من صدق كان خيراً له، أي: لكان هو أي الإِيمان وعلق كينونة الإِيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم. إذا لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله وخيراً هنا أفضل التفضيل والمعنى: لكان خيراً لهم مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإِسلام حب في الرياسة واستتباع العوام فلهم في هذا حظ دنيوي، وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإِسلام، والحظ الاخروي الجزيل بما وعدوه على الإِيمان في إيتائهم أجرهم مرتين.﴿ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعيد ومن أسلم من اليهود كالنجاشي وبحيرا من أسلم في النصارى إذ كانوا مصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده وعلى هذا يكون أهل الكتاب ليس عاماً إذ قد وجد الإِيمان من بعضهم.﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ﴾ هاتان الجملتان تضمنتا الاخبار بمعنيين مستقبلين وهو أن ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى أي شيئاً تتأذون منه لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال ولذلك ان قاتلوكم خذلوا وبصرتم، وكلا هذين الامرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ولا قصدوا جهة كافر إلا كان النصر لهم والغلبة عليهم إلا أذى استثناء متصل وهو يفرغ من المصدر المحذوف والتقدير لمن يضروكم إلا ضرراً يسيراً لا نكاية فيه ولا إجحاف.﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ هذا استئناف إخبار انهم لا ينصرون أبداً ولم يشرك في الجزاء فيجزم لأنه ليس مترقباً على الشرط بل التولية مترتبة على المقاتلة والنصر منفي عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا إذ تبع النصر سببه الكفر فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على أن يضروكم إلا أذى وليس امتناع الجزم لأجل ثم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط، قال: وثم للتراخي فلذلك لم تصلح لجواب الشرط والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح الكلام. قال تعالى:﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾[محمد: ٣٨] ثم لا يكونوا أمثالكم فحزم المعطوف ثم على جواب الشرط وثم هنا ليست للمهلة في الزمان وإنما هي للتراخي في الاخبار، فالإِخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسر للنفس ثم أخبر تعالى بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً.﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ ﴾ عام في الأمكنة وهو شرط وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله ومن أجاز تقديم جواب الشرط، قال: ضربت جواب الشرط.﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ ظاهره انه استثناء منقطع قاله الفراء والزجاج، واختاره ابن عطية، وقال: لأن بادىء الرأي يعطي أن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضربت الذلة وليس الأمر كذلك وإنما في الكلام مذوق يدركه فهم السامع الناظر في الأمور وتقديره في آيتنا فلا نجاة من الموت إلا بحبل، " انتهى ". وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً لأن مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت وهو معتل عتل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً في الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال: وهو استثناء من أعم عام الأموال والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية، " انتهى كلامه ". وهو متجه وشبه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقدم كما يفعل حبل في الإِجرام والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان وفسر حبل الله بالإِسلام وميل الناس بالعهد والذمة وقيل حبل الله هو الذي نص الله تعالى عليه من أخذ الخبرية والثاني هو هو الذي فوض إلى رأي الإِمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد وفي هذه الآية توكيد بعموم الظرف في قوله: ﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ ﴾ وبتكرار ضرب.﴿ وَبَآءُوا ﴾ الآية، تقدم تفسير نظيرها في البقرة وهنا الأنبياء جمع تكسير وهناك جمع سلامة وهنا بغير حق نكرة وهناك بغير الحق معرفة، وذلك من التفنن في الكلام.
﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً ﴾ سبب نزولها إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود وقول الكفار من احبارهم ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا أخياراً ما تركوا دين آبائهم، قاله ابن عباس: والضمير في ليسوا عائد على أهل الكتاب وسواء خبر ليس بخبرية عن الاثنين وعن الجمع، وقد سمع تثنيته، قالوا: هما سواء ان ثم بين تعالى عدم التسوية بقوله تعالى:﴿ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ إلى ما وصفهم به.﴿ قَآئِمَةٌ ﴾ أي مستقيمة. و ﴿ آنَآءَ ٱللَّيْلِ ﴾ ساعاته واحدها أنى كمعي وأنى كفتى، وأنى كنحن، وأنى كظبي، وأنو كجرد ووصو أمة بقوله: " قائمة " وهو إسم فاعل يدل على الثبوت ثم بالمضارعات من قوله: يتلون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون وهي تدل على التجدد والتكرار والمسارعة والمبادرة والخيرات عامة تشمل هذه الأوصاف السابقة وغيرها.﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف السابقة، فانظر إلى حسن مساق هذه الصفات حبّ توسط الأعيان وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإِنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل وتأخرت عنه الصفتان المتعديتان والصفة المشتركة وكلها نتائج عن الإيمان.﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ ﴾ قرىء: بالياء فيها جرياً على نسق الغيبة وبالتاء فيهما. الظاهر انه التفات إلى قوله: أمة قائمة وصفهم بأوصاف جليلة أقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم فخاطبهم بأن ما يفعلونه من الخير فلا يمنعون ثوابه ولذلك اقتصر على قوله: من خير. لأنه موضع عطف عليهم وترحم ولم يتعرض لذكر الشر ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده ويؤيد هذا الالتفات أنه راجع إلى أمة قائمة قرارة الياء.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، وهو أنه لما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبلتين.
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ الآية، قال الزمخشري: شبه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس، لا يبتغون به وجه الله تعالى بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاماً وقيل هو كما كانوا يتقربون به إلى الله تعالى مع كفرهم وقيل ما انفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضاع عنهم لأنهم لم يبلغوا بإِنفاق ما أنفقوه لأجله، " انتهى ". وقال ابن عطية: معناه المثال القائم في النفس في إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباءً منثوراً وذهابه كالمثال القائم في النفس من زرع قوم ينبت وأخضر وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح منها صر محرث فأهلكته، " انتهى ". والظاهر أن ما في قوله: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ ﴾، موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح والمعنى على تشبيهه بالحرث فقيل هو من التشبيه المركب وهو اختيار الزمخشري وقيل: وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي توازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ودل المذكور ان على المتروكين وهو اختيار ابن عطية وهذه غاية البلادة والإِعجاز، " انتهى ". ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره مثل جهلك ما ينفقون أو من الثاني تقديره كمثل مهلك ريح وقيل يجوز أن تكون ما مصدرية أي مثل إنفاقهم فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس إذ شبه الريح بالانفاق وظاهر قوله: ينفقون أنه من نفقة المال وأفرد الريح لأنه أكثر ما يأتي في العذاب والجمع في الرحمة كقوله: أي صرصراً والرياح مبشرات والصر البرد الشديد المحرق، وقيل: البارود بمعنى الصرصر وقد استعملته العرب صفة كقول الشاعر: نكباء حر بأصحاب المحلات   وقوله: أصابت حرث قوم هو على حذف مضاف التقدير زرع حرث قوم أو أطلق الحرث على الزرع مجازاً والضمير في ظلموا عائد على قوم وأبعد الزمخشري في تجويز جعله عائداً على الذين ينفقون.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلق والرضاع قاله ابن عباس: وقال أيضاً هو وقتادة والسدى والربيع نزلت في المنافقين نهى الله المؤمنين عنهم البطانة في الثوب بإِزاء الظهار وتستعار لمن يختصه الإِنسان كالشعار والدثار. ألوت في الأمر قصرت فيه   والخبل الفساد والعنت المشقة وقوله: ﴿ مِّن دُونِكُمْ ﴾ في موضع الصفة لبطانة أو متعلقاً بلا تتخذوا ودون أصله ظرف مكان ثم اتسع فيه حتى صار بمعنى غير فكأنه قيل من غيركم. ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستتابة إليهم وقد عتب عمر رضي الله عنه أبا موسى على استكتابه ذمياً وتلا عليه هذه الآية. وقد قيل لعمر في كاتب محبل من نصارى الحيرة ألا يكتب عنك فقال: إذن اتخذ بطانة والجملة من قوله: لا يألونكم خبالاً موضع لها من الإِعراب، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال لما تعلقت به من تبعيد عن فهم الكلام الفصيح لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الفوائل للمؤمنين وودادة مشقتهم وظهور بعضهم والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهم وبألو فعل لازم وهنا جاء بعده منصوبان فخرج على ان خبالاً حال منقول من المفعول أي لا يألون خبالكم وأصله في خبالكم أو على أنه مصدر في موضع الحال أو على أنه تعدى للضمير على إسقاط اللام وللخبال على إسقاط في والأحسن تخريجه على التضمين أي لا يمنعونكم فساداً كقولك: ما آلوك نصحاً أي ما منعك نصحاً وما في قوله: ما عنتم مصدرية تقديره وأعنتكم أي مشقتكم.﴿ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم وذكر الأفواه دون الألسنة، إشعار إبان ما يلفظون به يملأ أفواههم كما يقال، قال: كلمة تملأ الفم إذا تشدق بها.﴿ هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ ﴾ تقدم الكلام على نظير هذا في قوله:﴿ هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ ﴾[آل عمران: ٦٦]، قال الزمخشري: وتؤمنون بالكتاب كله، الواو في وتؤمنون للحال وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال انكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه.﴿ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾[النساء: ١٠٤] " انتهى كلامه ". وهو حسن إلا أن فيه من صناعة النحو ما يخدشه وهو أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال وأنها منتصبة في لا يحبونكم والمضارع المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك، وأما قولها: قمت وأصل عينه نفي فآية الشذوذ وقد أول على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه فتصير الجملة إسمية ويحتمل هذا التأويل هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف قال ابن عطية وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي ان الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب ويعترضها ان منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن كما كان المنافقون في العرب إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم آمنا معناه صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي: فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم لا نضمر لكم إلا المودة ولهذا كان البعض المؤمنين يتخذهم بطانة وهذا منزع قد حفظ ان كثيراً من اليهود كان يذهب إليه ويدل على هذا التأويل ان المعادل لقولهم: آمنا بمعنى الانامل من الغيظ وليس فيه ما يقتضي الاقدار كما في قوله:﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ ﴾[البقرة: ١٤].
بل هو ما يقتضي البعض وعدم المودة وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الأباضية وهذه الصفة قد ترتبت في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة، " انتهى " ما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلا ما روي من أمر زيد فيه نظر فإِنه قد روي أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ذكره البيهقي وغيره. ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك هدنة لهم بذلك إذ قد وجد ذلك في جنسهم وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى:﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ ﴾[آل عمران: ٧٢].
﴿ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ ﴾ الظاهر فعل ذلك وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون ويحتمل أن لا يكون بمعنى الأنامل ويكون ذلك من مجاز التمثيل خبر بذلك عن شدة الغيظ والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم.﴿ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾ ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يواجههم بهذا الأمر على سبيل الدعاء والمباينة لهم والباء في بغيظكم للحال أي ملتبسين بغيظكم.﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾ ذكر تعالى المس في الحسنة ليبين ان بأدنى مس الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإِصابة وهي عبارة عن التمكن لأن الشيء المصبب شيئاً هو متمكن منه أو فيه فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة إذ هو حقد لا يذهب عنه الشدائد بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين وقابل الحسنة بالسيئة بالفرح وهي مقابلة بديعة وقرىء: لا يضركم من ضار يضير وقرىء: بضم الضاد والراء مرفوعة مشدودة من ضر يضر وخرج على أن حركة الراء حركة اتباع لحركة الضاد وقيل هي حركة إعراب وذلك على أن البنية التقديم لا على أنه جواب الشرط وهذا ضعيف والذي نختاره أنه أجرى حركة الكاف بجري حركة الهاء فضم ما قبل الكاف، كما قالت العرب: لم يرده وهذا توجيه شذوذ في هذه القراءة، وقرأ الضحاك لا يضركم كيدهم بضم الضاد وكسر الراء المشددة على أضل التقاء الساكنين، قال ابن عطية: فأما الكسر يعني في الراء فلا أعرفه قراءة وعبارة الزجاج في ذلك وتجوز فيها إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، " انتهى ". وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك.
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها، أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانة من الكفار ووعدهم أنهم إن صبروا واتقوا فلا يضرهم كيدهم ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية واتباع لبعض المنافقين وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي سلول حين انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من منافق وغيرهم من المؤمنين، وان ذلك كله كان في غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها، ومعنى غزوة خروجه من عند أهله وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة رضي الله عنها يوم الجمعة غدوة.﴿ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ أي مواطن للقتال وعبر بالقعود لأنه الدال على الثبوت للشيء، قال الزمخشري وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار، " انتهى ". أما إجراء قعد مجرى صار، فقال: أصحابنا إنما صار في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى وهي في قولهم: شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة أي صارت وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى: ﴿ فَتَقْعُدَ ﴾ ملوماً على أن معناه فتصير لأن ذلك عند النحويين لا يطرد وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهي، قال ابن الأعرابي: القعد الصيرورة والعرب تقول: قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار وأما إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدها في أخوات كان ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الخضراوي فإِنه قال في قول الشاعر: على ما قام يشتمني لئيم   انها من أفعال المقاربة قال الزمخشري: أو عمل فيه بمعنى سميع عليم، " انتهى ". يعني في إذ همت وهذا غير محرر لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين فتحريره أن يقول أو عمل فيه معنى سميع أو عليم وتكون المسألة من باب التنازع وجواز أن يكون معمولاً لتبوىء ولغدوت.﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ﴾ الطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان، قاله ابن عباس: وكان خروجه عليه السلام في ألف، والمشركون في ثلاثة آلاف، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس.﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ فيه ثناء عليهما، إذ لم ينفذوا إليهم بل حضرا القتال وقرىء: وليهم على الجمع.﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾ لما أمرهم بالتوكل عليه ذكرهم بما يوجب التوكل عليه وهو ما سنى لهم وما يسر من الفتح والنصر يوم بدر وهم في حال قلة وذلة إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به.﴿ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ في أعين أعدائكم من القلة وان كانوا أعزاء في نفوسهم والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى يوم بدر انبنى الإِسلام وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان الثمانية عشر شهراً من الهجرة.﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الآية، ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها وانها من قصة بدر هو قول الجمهور فيكون إذ معمولاً لنصركم وقيل هذا من تمام قصة أحد فيكون قوله: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾ معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف وهنا بثلاثة آلاف والكفار يوم بدر كانوا ألفاً والمسلمون على الثلث فكان عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكة ويوم أحد كان المسلمون ألفاً والكفار ثلاثة آلاف توعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة، وقال: ويأتوكم من فورهم، أي: الأعداء ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم، قال الزمخشري: فإن تلت كيف يصح أن يقوله لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتموا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك لم تنزل الملائكة ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت وإنما قدم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله، " انتهى ". وقوله: لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعاً عليه بل قال مجاهد: حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال، وقوله قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا إلى آخره، المشرط بالصبر والتقوى هو الإِمداد بخمسة آلاف أما الإِمداد الأول هو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لقوات شرطة ان لا تنزل ثلاثة آلاف ولا شيء منها، قال ابن عطية: وقرأ الحسن بثلاثة آلاف يقف على الهاء وكذلك بخمسة آلاف ووجه هذه القراءة ضعيف لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان لاتصال إذ هما كالاسم الواحد وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي إمارة وقف فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون أكلت لحماً شاة يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف كما قالوا في الوقف قالا: يريدون، قال: ثم مطلوا الفتحة في القوا في ونحوها من مواضع الروية والتثبت. ومن ذلك في الشعر قوله: ينباع من زفري غصوب جسرة   زيانة مثل العتيق المكرميريد ينبع فمطل. ومنه قول الآخر: أقول إذا حزت على الكلكال   يا ناقتا ما جلت من مجاليريد الكلكل. ومنه قول الآخر: فأنت من الغوائل حين ترمي   ومن ذم الرجال بمنتزاحيريد بمنتزح قال أبو الفتح: فإِذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه هما في حقيقة اثنان، " انتهى كلامه ". وهذا تكثير وتنظير بغير ما يناسب والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة انها من إجراء الوصل مجرى الوقف أبدلها هاء في الوصل كما أبدلو ما في الوقت وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف وإجراء الوقف مجرى الوصل وأما قوله: لكن قد جاء في مواضع وجمع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل وإنما هو نظير قولهم: ثلاثة أربعة بدل التاء، هاء ثم نقل حركة همزة أربعة إليها وحذف الهمزة، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإِبدال ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل الشر في الوصل، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ألا يكفيكم جواب الصحابة. حين قالوا هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألن يكفيكم قال ابن عيسى والكفاية مقدار سد الخلة والامداد اعطاء الشيء حالاً بعد مال، " انتهى ". ومعنى من فورهم من سفرهم هذا قاله ابن عباس، أوجههم هذا قاله الحسن وقتادة السدي، قيل: وهي لغة هذيل وقيس بن غيلان وكنانة أو من غضبهم هذا قاله مجاهد وعكرمة والضحاك وأبو صالح المولى لعم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله ابن عطية أو المعنى من ساعتهم هذه، قاله الزمخشري: ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة تقول: افعل هذا على الفور لا على التراضي ومنه الفوز في الحج والوضوء وفي إسناد الإمداد إلى لفظه ربكم دون غيره من أسماء الله اشعار بحسن النظر لهم واللطف بهم وقرىء: مسوّمين بفتح الواو وكسرها واشتقاقه من السومة وهي العلامة وفي تعيين الاعلام خلاف الله أعلم بالصحيح من ذلك.
﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ ﴾ الضمير عائد على المصدر المفهوم من يمددكم وهو الامداد. و ﴿ بُشْرَىٰ ﴾ مصدر وهو مفعول من أجله ولما وجدت فيه الشروط من اتحاد الفاعل والزمان لم تدخل عليه اللام ولما اختل فيما بعده شرط وهو عدم اتحاد الفاعل أتى باللام في قوله: ولتطمئن. ولام ﴿ لِيَقْطَعَ ﴾ هذه لام كي متعلقة. بمحذوف تقديره نصركم ليقطع يدل عليه ما قبله من قوله: وما النصر إلا من عند الله.﴿ طَرَفاً ﴾ أي جانباً من الكفار بقتل أو أسر أو فرار.﴿ أَوْ يَكْبِتَهُمْ ﴾ أي يهزمهم، قاله ابن عباس. وقرىء بالدال مكان التاء أي يصيب كبدهم بالحزن وعدم الظفر. يقال: كبده أي أصاب كبده.﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ جملة اعتراض بين المعطوفين منبهة على أن الأمر لله وحده لا يشركه في ذلك أحد.﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ مناسبتها لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة أنه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم واستطرد لذكر قصة أحد وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا، قطعا لمخالطة الكفار ومودتهم واتخاذ إخلاء منهم لا سيما والمؤمنون في أول حال الاسلام ذوو إعسار والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: أن الله لا يستجيب لمن مطعمه حرام وملبسه حرام إذا دعى، وإن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك، فيقول الله له: لا لبيك. ولا سعديك وحجك مردود عليك. فناسب ذكر هذه الآية هنا. وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والامداد مقروناً بالصبر والتقوى فبدأ بالأهم منها وهو ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى ثم بالطاعة. وقيل: لما قال: ولله ما في السماوات وما في الأرض، بين أن ما فيهما من الموجودات ملك له ولا يجوز أن يتصرف في شيء منها إلا بإِذنه على الوجه الذي شرعه، وأكل الربا متصرف في ماله أي الله، بغير الوجه الذي أمر، نبّه تعالى على ذلك ونهى عما كانوا في الاسلام مستمرين عليه من حكم الجاهلية التضعيف عاماً بعد عام والربا محرم جميع أنواعه فهذه الحال لا مفهوم لها وليست قيداً في النهي، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة، وقد تقدم الكلام في نسبة الأكل إلى الربا في البقرة. وقيل: المضاعفة منصرفة إلى الأموال فإِن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباع، وهكذا إلى فوق. وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين فإِن لم يوفهما فأربعمائة، والاضعاف جمع ضعف، وهو من جموع القلة فلذلك أردفه بالمضاعفة. وقرىء ﴿ سَارِعُوۤاْ ﴾ بغير واو وسارعوا بالواو.
و ﴿ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ ﴾ فيه حذفان كاف التشبيه ومضاف تقديره كعرض السماوات، يدل على ذلك قوله تعالى في الحديد:﴿ كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ ﴾[الآية: ٢١]، والسماء يراد به الجنس لا الأفراد يدل على ذلك قوله: عرضها السماوات جمعاً، والعرض يستعمل في السعة وبالمعنى الذي يقابل الطول وقد فسر العرض هنا بهذين بوجهين.﴿ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ ﴾ قال ابن عباس: السراء. اليسر، والضراء العسر.﴿ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ ﴾ أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر فلا يظهر له تأثير في الخارج.﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ﴾ الآية نزلت بسبب نبهان التمار أتته امرأة تشتري منه تمراً فقبلها وضمّها، ثم ندم وقيل: ضرب على عجزها، قال ابن عباس: الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة.﴿ وَلَمْ يُصِرُّواْ ﴾ معطوف على فاستغفروا لذنوبهم والاصرار على الذنب المداومة عليه.﴿ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ جملة اعتراض بين المتعاطفين. وتقدم إعراب نظيرها في قوله تعالى:﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾[البقرة: ١٣٠]، وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترقيق للنفس وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه واختصاصه فغفران الذنوب.
﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ﴾" لما انهزم من انهزم من المؤمنين أقبل خالد يريد أن يعلو الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك "فنزلت، قاله ابن عباس. ولا تهنوا أي لا لا تضعفوا عن الحرب ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار.﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ﴾ المعنى ان نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ثم لم يضعفوا إن قاتلوكم بعد ذلك فلا تضعفوا أنتم أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين. والتأتي فيه أعظم مسلاة. وقرىء أن تمسسكم بالتاء وبالياء فبالتاء على تأنيث القرح بمعنى الجراحة. وقرىء قرح بفتح القاف وضمّها مع سكون الراء. وقرىء قرح بفتح القاف والراء وهما لغتان. وبفتح القاف وضمّها مع سكون الراء. كالطرد والطرد.﴿ وَلِيُمَحِّصَ ﴾ التمحيص التطهير من الذنوب وقيل الابتلاء والاختبال.﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ ﴾ هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد واستفهم على سبيل الانكار أن يظن أحد أنه يدخل الجنة وهو فحل بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه.﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾ جملة حالية. والمعنى: ولما يكن جهاد يعلمه الله تعالى. وقال الزمخشري: ولما بمعنى لم إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل، وتقول: وعدني أن يفعل كذا ولما تريد ولم يفعل وأنا متوقع فعله. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله في لمّا انها تدل على توقع الفعل المنفيّ بها فيما يستقبل لا أعلم أحداً من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار أما أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا. وقرىء ولما يعلم الله بفتح الميم وخرّج على أنه اتباع لفتحة اللام أو على أنه دخلته النون الخفيفة وحذفت كما حذفت في قوله: لا تهين الفقير فأصله يعلمْن وتهينن أو على أنه نصب بالجازم وهي لغيّة كما جزموا بالناصب في قوله: لن يخب الآن من رجائك من   حرك من دون بابك الحلقْهوقرأ الجمهور ويعلم بفتح الميم فقيل: هو مجزوم واتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخاريج. وقيل: هو منصوب فعلى مذهب البصريين بإِضمار إنْ بعد واو مع نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف. وقرىء ويعلم بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم. وقرىء ويعلم برفع الميم. قال الزمخشري على أن الواو للحال كأنه قيل: ولما تجاهد واو وأنتم صابرون. انتهى. ولا يصح ما قال لأن واو الحال لا تدخل على المضارع المثبت لا يجوز: جاء زيد ويضحك، وأنت تريد جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل فكما لا يجوز: جاء زيد وضاحكاً، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك، فإِن أوّل على أن المضارع خبر مبتدأ محذوف أمكن ذلك التقدير وهو يعلم الصابرين.
﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ ﴾ الآية الخطاب للمؤمنين وظاهره العموم والمراد الخصوص وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج مبادراً يريد عبر القريش فلم يظنوا حرباً وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة فتمنوا لقاء العدو ليكون لهم يوم كيوم بدر وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد، فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاناً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قتلت محمداً وصرخ صارخ وفشا ذلك في الناس انكفوا فآرين، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليَ عباد الله حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا في انكفائهم بأنه أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فنزلت هذه الآية بلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا مع أنفسهم من تمني الموت. وقرأ البزي: كنتم تمنون بشدّ التاء في حروف محصورة ذكرها القراء في كتبهم.﴿ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره أن تلقوا أسبابه.﴿ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ﴾ أي رأيتم أسبابه وقرأ الجمهور الرسل. وقرىء رسل بالتنكير.﴿ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ﴾ لما صُرح بأن محمداً قد قتل تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار وكانوا ثلاث فرق فرقة قالوا ما نصنع بالحياة بعد رسول الله قاتلوا على ما قاتل عليه فقاتلوا حتى قتلوا منهم أنس بن النضر، وفرقة قالوا: نلقي إليهم بأيدينا فإِنهم قومنا وبنو عمّنا. وفرقة أظهرت النفاق وقالوا ارجعوا إلى دينكم الأول فلو كان محمداً نبياً ما قتل وقد اجتمع الاستفهام والشرط. ومذهب سيبويه ان انقلبتم جواب للشرط. ومذهب يونس ان لاستفهام داخل على انقلبتم، وجواب الشرط محذوف وهي مسألة ذكرت في النحو، وعلى أعقابكم معناه الارتداد وقيل الفرار وتقدم في البقرة تفسير نظيره. قال ابن عطية: كتاباً مؤجلاً كتاباً نصب على التمييز. انتهى. هذا لا يظهر فإِن التمييز: كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول وأقسامه في النوعين محصورة وليس هذا واحداً منها. انتهى. قرأ الأعمش: ومن يرد ثواب الدنيا يؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها بالياء فيهما. قال ابن عطية: وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه. انتهى. وهذا وهم وصوابه وذلك على إضمار الفاعل والضمير عائد على الله تعالى.﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ﴾ الآية لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب الله عليهم ما صدر منهم في الآيات التي تقدمت أخبرهم بأن الأمم السالفة قتلت أنبياء كثيرين أو قتل ربيون كثير معهم فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف ولا تناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم أو قتل ربّيّيهم بل مضوا قدماً في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم إذ قتل نبي أو أتباعه من أعظم المصائب، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة هذا وأنتم خير الأمم ونبيكم خير الأنبياء. وفي هذه الآية من العتب لمن فر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى وكاين بمعنى للتكثير وهي مركبة من كاف التشبيه ومن أي وبعض القراء وقف على الياء وبعضهم على التنوين لثبوتها في رسم المصحف وفيها لغات منها وكائن. وقرىء بهذه الثلاث في الشواذ وكأين مبتدأ خبره قتل وفي نبي تمييز وتكثير زيادة من فيه وزعم ابن عصفور انها لازمة فيه والصحيح أنه يجوز حذف من ونصب التمييز نص عليه سيبويه وغيره، والضمير في قتل عائد على كأين، والجملة من قوله: معه ربيون في موضع الحال وجوز أن يكون المرفوع بقتل ربّيون والرّبيّ منسوب إلى الرب، وكسر الراء فيه شذوذ كما نسبوا إلى أمس امسى وهو عابد الرب لما أصابهم من قتل كان الضمير قتل يراد به النبي وإن كان المقتول الربيين فالضمير في وهنوا لا يعود على الربيين بل يعود على من بقي. قال ابن عطية: قراءة من قرأ قاتل أعم في المدح لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي. " انتهى ". ويظهر أن قتل أمدح وهو أبلغ في مقصود الخطاب لأنها نص في وقوع القتل ويستلزم المقاتلة، وقاتل لا يدل على القتل إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل إذ قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر حسنه بل القرآتان يحتملان الوجهين. قرأ قتادة: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير. قال أبو الفتح بن جني: لا يحسن في هذه القراءة أن يستند الفعل إلا إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد (فإِن قيل) يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كم فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الافراد في قوله: من نبي، ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد فخرج الكلام عن معنى كم قال ابو الفتح: وهذه القراءة تقوى قول من قال: ان قتل وقاتل إنما يستند إلى الربيين. انتهى كلامه. وليس بظاهر لأن كاين هي مثل كم وأنت إذا قلت كم من عان فككته فأفردت راعيت لفظ كم ومعناه الجمع فإِذا قلت كم من عان فككتم راعيت معنى كابن لا لفظها وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير والمراد به الجمع فلا مفرق من حيث المعنى بين فككته. وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون وقتل معه ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ومراعاة المعنى تارة، لأن مدلول كم وكأين كثير والمعنى جمع كثير وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارة تفرد مراعاة للفظ وتارة تجمع مراعاة للمعنى، كما قال تعالى:﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ ﴾[القمر: ٤٤-٤٥]، فقال: منتصر، وقال: ويولون، فأفرد في منتصره وجمع في يولون. وقول أبي الفتح في جواب السؤال الذي فرضه: إن اللفظ قد جرى على جهة الافراد في قوله من نبي أي روعي لفظ كأين لكون تمييزها جاء مفرداً فناسب لما ميّزت بمفرد أن يراعي لفظها، والمعنى على الجمع. وقوله: ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير أو يجمع لأن الضمير المفرد ليس معناه هنا إفراد مدلوله بل لا فرق بينه مفرد أو مجموعاً من حيث المعنى فاذن لا فرق فدلالته عليه وهي دلالته على كل فرد فرد وقوله: فخرج الكلام من معنى كم لم يخرج الكلام عن معنى كم، إنما خرج عن جمع الضمير على معنى كم دون لفظها لأنه إذا أفرد لفظاً لم يكن مدلوله مفرداً إنما يكون جمعاً كما قالوا: هو أحسن الفتيان وأجمله معناه وأجملهم. وقرىء وهنوا بفتح الهاء وبكسرها وبسكونها.﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ظاهره العموم. وقال علي وابن عباس: هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم.
﴿ سَنُلْقِي ﴾ أتى بالسين التي هي أقرب في الاستقبال من سوف، وقرىء الرعب بسكون العين وضمها والباء في بما للسبب وما مصدرية أي بإِشراكهم بالله. وقرىء سيلقي بالياء وهو ضمير الله تعالى.﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ يريد إلهاً أو معبوداً لم ينزل به سلطاناً وليس المعنى أن ثم سلطاناً لم ينزل الله وإنما المعنى على نفي السلطان فينتفي الإِنزال كما قال الشاعر: على لاحب لا يهتدي بمناره   أي لا منار له فيهتدي به فانتفى السلطان والانزال كما انتفى المنار والهداية به.﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين، قالوا: وعدنا الله بالنصر والامداد بالملائكة فمن أي وجه آتينا فنزلت اعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً وكان الامداد مشروطاً بالصبر والتقوى فاتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله تعالى في كتابه وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات وإن كانوا لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز، وفي ذلك إبقاء على من فعل وستر إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل وصدق الوعد هو أنهم هزموا المشركين أولاً، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح رضي الله عنهم في ذلك اليوم بلاء عظيم وهو مذكور في السير وكان المشركون في ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس والمسلمون في سبعمائة رجل وتعدت صدق هنا إلى اثنين ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر تقول: صدقت زيداً الحديث وصدقت زيداً في الحديث وذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين وأصلها أن يكون الثاني بحرف الجر فيكون من باب استغفر واختار والعامل في إذ صدقكم ومعنى تحسونهم تقتلونهم وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً وقرأ أبو عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الاحساس أي تذهبون حسهم بالقتل وغيا القتل بوقت الفشل وهو الجبن والضعف والتنازع هو التجاذب في الأمر التنازع صدر من الرماة" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رتب الرماة على فم الوادي وقال: أثبتوا مكانكم وإن رأيتمونا هزمنا فأنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وعدهم بالنصر إن ثبتوا أو انتهوا إلى أمره "، فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة: قد انهزموا فما موقفنا هنا الغنيمة الغنيمة الحقوا بنا بالمسلمين، وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا: وقيل: التنازع هو ما صدر من المسلمين في الاختلاف حين صيح ان محمداً قد قتل والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة عن مكانه طلباً للنهب والغنيمة وكان خالد بن الوليد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على من بقي من الرماة فقتلهم وحمل في عسكر المسلمين فتراجع المشركون فأصيب من المسلمين يومئذٍ سبعون رجلاً وإذا بعد حتى في موضع جر بحتى مزالاً عنها معنى الشرطة، قال الأخفش وغيره. وقيل: تدخل حتى على إذا الشرطية وجواب إذا المختار أنه محذوف لا عصيتم على زيادة الواو ولا على زيادة ثم، وقدره ابن عطية: انهزمتهم، والزمخشري: منعكم نصره، وغيرهما: امتُحنتم. ويظهر لي أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو انقسمتم إلى قسمين ويدل عليه ما بعده وهو نظير فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد التقدير انقسموا قسمين فمنهم مقتصد. لا يقال: كيف، يقال: انقسموا فيمن قتل وتنازع وعصى، لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ﴾ قال ابن عباس: هي الغنيمة كالرماة الذين خالفوا أمر الرسول عليه السلام في الثبات في مكانهم ومنكم من يرد الآخرة، أي ثواب الآخرة كالرماة الذين ثبتوا في مكانهم. وقاتلوا حتى قتلوا في نفر دون العشرة منهم أنس بن النضر.﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ ﴾ قرىء رباعياً من أصعد، والاصعاد ابتداء السفر. وقرىء تصعدون مضارع صعد الجبل أي ارتقى فيه. وقرىء تصّعّدون بشد الصاد وأصله تتصعدون وماضيه تصعّد أي ارتقى في السلم وقرأ الحسن.﴿ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ ﴾ وخرجوها على قراءة همزة الواو ونقل الحركة إلى اللام وحذف الهمزة ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدى بعلى على التضمين أي ولا تعطفون على احد، قال ابن عطية: وحذفت إحدى الواوين الساكنتين وكان قد قال في هذه القراءة وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام. انتهى. وهذا الكلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنتان احداهما الواو التي هي عين الكلمة والأخرى واو الضمير وحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان، وهذا قول من لم يمعن النظر في صناعة النحو لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام فإِن الهمزة إذ ذاك تحذف ولا يلتقي واوان ساكنتان، ولو قال: استثقلت الضمة على الواو لأن الضمة كأنها واو فصار ذلك كأنه جمع بين ثلاث واوات فنقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان فحذفت الأولى منهما ولم يبهم في قوله: إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة اما أن يبني ذلك على لغة من همز على زعمه فلا يتصور ذلك.﴿ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ﴾ أي يقول إليّ عباد الله.﴿ فَأَثَـٰبَكُمْ ﴾ كني به عن المعاقبة على فرارهم عن الرسول عليه السلام كما قال: تحية بينهم وجميع.﴿ غَمّاًً بِغَمٍّ ﴾ أي ملتبساً بغم ويريد بذلك كثرة الغم الذي حصل لهم. وقال ابن عباس: هما غمان الأول هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني إشراف خالد بخيل المشركين عليهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير في فأثابكم للرسول أي فأساءكم في الاغتمام وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمّه ما نزل بكم فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يتبكم على عصيانكم ومخالفتكم وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم.﴿ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ ﴾ من نصر الله.﴿ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ ﴾ من غلبة العدو. انتهى. هذا خلاف الظاهر لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى وذلك في قوله: ولقد صدقكم الله وعده. وقوله: ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم. فيكون قوله: فأثابكم، مسنداً إلى الله تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعي عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يديه يدعوهم فلم يجيىء مقصود الآن يحدّث عنه إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. قال الزمخشري: فأثابكم عطف على صرفكم. انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون لأنه مضارع في معنى الماضي لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي إذ هي ظرف لما مضى، والمعنى: إذ صعد ثم وما لويتم على أحد فأثابكم لكيلا تحزنوا ليست لا زائدة وتقديره لكي تحزنوا كما ذهب إليه أبو البقاء. وقيل: لا باقية على النفي. فقال الزمخشري: لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم وتضروا باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار. انتهى. فجعل العلة في الحقيقة تبوتية وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ورتب على ذلك انتفاء الحزن وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق له بقصة أحد بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم هو بجنايتكم فأنتم آذيتم أنفسكم وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه. " انتهى ". والذي يظهر أن الغم الكثير الذي عاقبهم الله به غلب على قلوبهم حتى لم يقع منهم حزن على ما فاتهم ولا ما أصابهم فشغلهم الغم عن ذلك.
﴿ أَمَنَةً ﴾ الامنة: إلا من. وقرىء بسكون الميم والظاهر أن أمنة مفعول أنزل. و ﴿ نُّعَاساً ﴾ بدل منه ويجوز أن يكون أمنة مفعولاً من أجله ونعاساً مفعول من أنزل أي أنزل النعاس لأجل أمنكم لأن النعاس لا يكون معه خوف ولهذا قال في الأنفال:﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾[الآية: ١١]، أي ليؤمنكم به.﴿ يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ ﴾ هم المؤمنون وعليكم عام مخصوص به والنعاس الذي غشيهم كان حين ارتحل أبو سفيان وتركوا ركوب الخيل وجنبوها ركبوا الابل تاركين للقتال.﴿ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ هم المنافقون لم يلق الله عليهم النعاس، وطائفة مبتدأ وجاز الابتداء به لأنه نكرة والمكان مكان تفصيل، والواو للحال وهي من مسوغات الابتداء بالنكرة قد أهمتهم يقال: أهمني الشيء أي كان من همي وقصدي أي مما أهم به وأقصده وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم. و ﴿ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ﴾ لم يتعد إلى اثنين والباء في بالله ظرفية بمعنى في كما قال: فقلت لهم ظنوا بالفي مذحج. والمعنى يوقعون ظنهم في الله أي في حكم الله وما قدره ظناً.﴿ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ﴾ فغير صفة لمصدر محذوف. و ﴿ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ﴾ بدل منه. ومعنى الجاهلية: الملة التي كانت قبل ملة الاسلام كما قال: حميّة الجاهلية.﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ ﴾ معناه النفي ومعنى أن الأمر أي من الخروج إلى القتال والرأي.﴿ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ ﴾ أي أن تصاريف الوجود وما يجري فيه لله تعالى لا لغيره. وقرىء كله توكيداً لقوله: الأمر. ولله خبر انّ. وقرىء كله بالرفع مبتدأ وخبره لله والجملة في موضع رفع خبر انّ.﴿ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم ﴾ قال الزبير: والله لكأنّي أسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ومعتب هذا شهد بدراً وكان مغموصاً عليه بالنفاق.﴿ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ قارّين وأراد الله قتل من قتل منكم.﴿ لَبَرَزَ ﴾ والمضجع مكان قتله.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾ قرأها عمر على المنبر فقال: لما كان يوم أحد وهزمنا ففرت حتى صعدت الجبل فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي والناس يقولون: قتل محمد، فقلت: لا أجد أحداً يقول قتل محمد إلا قتلته حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت هذه الآية كلها.﴿ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ﴾ أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه هكذا قالوه ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله. فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى [افعل فيكون المعنى] أزلهم الشيطان فيدل على حصول الزلل ويكون استزل وأزل بمعنى واحد كاستبان وأبان واستبلّ وأبلّ. ﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي قال بعضهم لبعض.﴿ لإِخْوَانِهِمْ ﴾ أي لأجل إخوانهم.﴿ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ والاخوان هنا إخوان النسب أو إخوان التأليف. وإذا ظرف مستقبل لا يمكن أن يعمل فيه قالوا لمضيّه. قال الزمخشري: فإِن قلت: كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا؟ قلت: هو حكاية الحال الماضية كقولك: حين يضربون في الأرض، وقال ابن عطية: دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ومن يقول في المستقبل ومن حيث هذه النازلة فتصور في مستقبل الزمان وهذان القولان ضعيفان والذي يظهر أن العامل في إذا مضاف محذوف يدل عليه المعنى تقديره لأجل فراق إخوانهم إذا ضربوا في الأرض لتجارة وغيرها فماتوا.﴿ أَوْ كَانُواْ غُزًّى ﴾ فقتلوا. ويدل على المحذوف قوله: ﴿ لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا ﴾ أي لو كانوا مقيمين عندنا ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا جعلوا الضرب في الأرض سبباً للموت والغزو سبباً للقتل. وغزا جمع غاز غزاة وعفاة وقرىء غزا جمع على فعل شذوذا وأصله غزو، كما قالوا: عاف وعُفّا، والقياس بتخفيف الزاي ووجّه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً. وقيل: حذفت التاء وأصله غزاة. وقال ابن عطية: هذا الحذف كثير في كلامهم وأورد من ذلك الابّو والبنوّ جمع أب وابن، كما قالوا: عم وعمومة ثم حذفوا التاء فقالوا: عموم. " انتهى ". ملخصاً وليس أبو وبنو مما حذفت منه التاء لأنهما مصدران لا جمعان وأبو وبنو جمعان على وزن فعول، كما قالوا: بُهُوٌ ونُهُوٌ وكان القياس الاعتلال فيقال: ابيّ وبُنيّ وبهيّ، كما قالوا: عصاً وعصيٌ وأما الحذف الذي ادعاه في عموم من ان أصله عمومة فقول لم يذهب إليه نحوي وكذا ما ادعاه في غزا وان أصله غزاة عنده، فلا يجوز أن يقال في رماة رمى ولا في قضاة قضى ولا في ماش مشى.﴿ لِيَجْعَلَ ﴾ لا يصح أن يكون ذلك تعليلاً لقولهم وإنما قالوا ذلك تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد، ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو لا تكونوا كالذين كفروا لأن جَعْلَ الله ذلك حسرة في قلوبهم لا يكون سبباً لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار، قاله الزمخشري. وقد أورد سؤالاً عما يتعلق به ليجعل قال أو لا تكون بمعنى ولا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. انتهى كلامه وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم توافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فلا يضربوا في الأرض ولا يغزوا فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة. وقال ابن عيسى وغيره: اللام متعلقة بالكون أي لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم." انتهى ". ومنه أخذ الزمخشري قوله لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام وهو لم ينص وقد بينا فساد هذ القول وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا والمعنى أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة إنما قالوا ذلك لعلة فصار مآل ذلك الحسرة والندامة ونظر بقوله:﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾[القصص: ٨]، ولم يلتقطوه لذلك إنما آل أمره إلى ذلك، والإِشارة بذلك فيه اختلاف كثير مذكور في البحر، والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإِشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا وإن اللام للصيرورة والمعنى أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والأبعاد في الأرض سواء كانوا معتقدين صحتها أم لم يكونوا معتقديها إذ كثير من الكفار قائل بأجل واحد فخاب هذا القصد وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد. والحسرة: الغم الذي يلحق على ما فات من بلوغ المقصد. وقرىء بما تعملون بالتاء وبالياء.
﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ﴾ قدم القتل على الموت لقرب قوله: وما قتلوا. وقرىء متّم بكسر الميم من مات يمات، كخاف يخاف، وبضمها من مات يموت ووزن الأول فعل، والثاني فعل. واللام في قوله: ﴿ لَمَغْفِرَةٌ ﴾ جواب القسم المحذوف قبل لام التوطئة أي والله لئن قتلتم ومغفرة نكرة وُصلت بقوله: من الله، وخير خبر، والمعنى خير لكم مما تجمعون من حطام الدنيا. والخطاب للمؤمنين.﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ ﴾ قدم الموت لمقاربة قوله: أو متم، والخطاب عام للمؤمن والكافر. واللام في ﴿ لإِلَى ٱلله ﴾ جواب القسم المحذوف، وإلى الله متعلق بقوله: ﴿ تُحْشَرُونَ ﴾ ولا تدخل نون التوكيد فيه للفصل بينه وبين اللام ولو لم يفصل لكان الكلام لتحشرن إلى الله وقيل هو خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ولذلك قدره الزمخشري لآلي الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون، قال: ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن ليس بالخفي. " انتهى ". يشير بذلك إلى مذهبه من أن التقديم يؤذن بالاختصاص فكان المعنى عنده فإِلى الله لا غيره تحشرون وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره كما قال سيبويه: وزاده حسناً هنا أن تأخير الفعل هنا فاصلة فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض.﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ ﴾ ما زائدة والمجرور متعلق بلنت. قال الرازي: قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة، ثم إنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ولا خشونة في الكلام علموا أنّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك. انتهى كلامه. وما قاله المحققون صحيح لكن زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية فضلاً عمن يتعاطى تفسير كلام الله وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن تكون استفهاماً للتعجب، ثم أن تقديره ذلك فبأي رحمة دليل على أنه جعل ما مضافة للرحمة وما ذهب إليه خطأ من وجهين: احدهما أنه لا تضاف ما الاستفهامية ولا أسماء الاستفهام غيْر أي بلا خلاف وكم على مذهب أبي إسحاق. والثاني: أنه إذا لم تصحّ الإِضافة فيكون إعرابه بدلاً وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه، والتسور عليه قول الزجاج في ما هذه: أنها صلة فيها معنى التوكيد بإِجماع النحويين والرحمة هي لين القلب ودماثته وتحننه على المرحوم. والفظاظة: الجفوة قولاً وفعلاً. وغلظ القلب: صلابته وشدته بحيث لا يلين. والانفضاض: التفرق.﴿ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ من جهتك. ﴿ فَٱعْفُ عَنْهُمْ ﴾ أي عما اجترحوه من العصيان لك حيث فروا. ﴿ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ أي أطلب الغفران لهم من الله. ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ ﴾ تنبيه على رضاه عليه السلام عنهم، وجعلهم أهلاً للمشاورة. وهذا الترتيب في غاية الحسن أمره تعالى بعفوه عنهم وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم فيما هو مختص بحق الله تعالى ثم بالمشاورة وفيها فوائد تطييب نفوسهم والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم حيث أهلهم للمشاورة واختبار عقولهم واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح، وجرى على مناهج العرب وعادتهم في الاستشارة في الأمور وإذا لم يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء. ولذلك عزّ على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. (قال) ابن عطية: أمر بتدريج بليغ أمر بالعفو عنهم فيما يخصه، وإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستغفار فيما لله تعالى فإِذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستشارة في الأمور إذا صاروا أهلاً لها. " انتهى ". وفيه بعض تلخيص ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض، أمر أولاً بالعفو عنهم إذا عفوه عنهم مسقط لحقه ودليل على رضاه عليه السلام ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ويحصل لهم رضاه عليه السلام ورضى الله تعالى عنهم فلما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة، إذ لا يستشير الانسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة، ومن غريب المنقول والقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم ان قوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ ﴾، من المقلوب أي وليشاوروك في الأمر. وذكر ابن عطية أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا مما لا خلاف فيه. والمستشار في الدين عالم دين وقل ما يكون إلا في عاقل. انتهى ملخصاً.﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ ﴾ أي فإِذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى الله فإِنه العالم بالأصلح لك والأرشد لأمرك لا يعلمه من أشار عليك. وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والفكر فيه وإن ذلك مطلوب شرعاً.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ حث على التوكل على الله إذ أخبر أنه يحب لمن يتوكل عليه، والمرء ساع فيما يحصّل له محبة الله تعالى.
﴿ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾ هذا التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ولما أمره تعالى بمشاورتهم وبالتوكل عليه أوضح أنّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع إلى ما يشاء، وإنه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم، فما وقع لكم من النصر كيوم بدر أو من الخذلان كيوم أحد بمشيئته سبحانه وتعالى، ثم أمرهم بالتوكل وناط الأمر بالمؤمنين فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإِيمان، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان، والتوكل على الله من فروض الإِيمان ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والحزامة بغاية الجهد ومعاطاة أسباب التحرز وليس الإِلقاء باليد والإِهمال لما تجب مراعاته بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: قيّدها وتوكل. والضمير في من بعده عائد على الله تعالى أما على حذف مضاف أي من بعد خذلانه وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف؛ بل يكون المعنى إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك. وجاء جواب أن ينصركم الله بصريح النفي العام وجواب أن يخذلكم بمتضمن النفي وهو الاستفهام وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر؛ وإن كان المعنى على نفي الناصر لكن الفرق بين الصريح والمتضمّن فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذين نص عليهم أنه لا ناصر لهم كقوله تعالى:﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ﴾[محمد: ١٣].
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾ قال ابن عباس: فقد قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض: من كان مع النبي لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت. وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجاً. وقيل: منافق. والغلول: أخذ المال من الغنيمة في خفاء. وقرىء أن يغل مبنياً للفاعل ويكون على حذف مضاف تقديره وما كان لتابع نبي أن يغل. وقرىء أن يغل مبنياً للمفعول من غل أو من أغل.﴿ يَأْتِ بِمَا غَلَّ ﴾ ظاهره أنه يأتي بعين الشيء الذي غله كما جاء في ظاهر الحديث أنه إن كان بعيراً جاء له رغاء أو بقرة لها خواراً أو شاة بَيْعر، وقيل يأتي حاملاً أثم ما غل.﴿ أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ ﴾ هذه استعادة بديعة جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً فنكص عن اتباعه ورجع مصحوباً بما يخالف الاتباع وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه.﴿ هُمْ دَرَجَٰتٌ ﴾ الضمير في هم عائد على من اتبع على المعنى لأنه المحدث عنه. والتقدير وهم ذو درجات، والدرجة: ما يتوصل به إلى مكان علو وأكثر ما يستعمل في الشيء الذي يتوصل منه إلى العلو الحسيّ ولذلك جاء﴿ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾[الأنفال: ٨٣، يوسف: ٧٦].
وقوله﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾[التوبة: ٢٠، الحديد: ١٠]؛ وعند الله لا يكاد يكون هذا إلا عند التشريف لقوله:﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ ﴾[النور: ١٣]، ولما ذكر مآل من باء بسخط من الله ذكر مآل من اتبع رضوان الله. ويبعد قول من قال إن لفظ هم عائد على من اتبع ومن باء، وإن الدرجات مشتركة بينهما ويبعد أن يقال: إن للكافر درجة عند الله. وقرىء درجة بالتوحيد.﴿ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه فصّل في هذه الآية وما بعدها. وقوله: على المؤمنين، لم يكونوا حالة البعث مؤمنين فاحتمل أن يسموا مؤمنين باعتبار ما آل أمرهم إليه من الإِيمان، أو سماهم مؤمنين بالنسبة إلى علمه تعالى. وإذ ظرف العامل فيه منّ. والمنة هنا: الانعام.﴿ رَسُولاً ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ قالوا: أي من جنس بني آدم لأن تلقي الوحي منه إليهم يسهل، ولم يكن من الملائكة لتفاوت بين الجنسين وصعوبة التلقي منهم ولأن إعجاز القرآن إنما يظهر عند بني آدم حجة عليهم. والأظهر أنه أراد بقوله: من أنفسهم، من العرب، كما قال:﴿ هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾[الجمعة: ٢].
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾[البقرة: ١٢٩].
ولذلك قال عليه السلام: أنا دعوة أبي إبراهيم. وشرف العرب تم بظهوره عليه السلام وليس في العرب قبيلة إلا وله فيها نسب من جهة الأمهات الأنصاري بني تغلب. وقرىء شاذاً لمن منَّ الله بمن الجارة، ومنّ: مجرور بها بدل قد منّ. (قال) الزمخشري: وفيه وجهان أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه إذ فيهم فحذف لقيام الدلالة أو يكون إذ في محل الرفع كإِذا في قولك أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً بمعنى لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه. " انتهى ". أما الوجه الأول فهو سائغ وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾[النساء: ١٥٩]﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾[الصافات: ١٦٤]﴿ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾[الجن: ١١] على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة البتة إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان ومفعوله ما ذكر على قول أما ان تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ليس في كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل، وأنت تريد وقت قيامه زيد طويل. وقد قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين مبتدأين. انتهى كلامه. وأما قوله: في محل الرفع كإِذا فهذا التشبيه فاسد لأن المشبه مرفوع بالابتداء والمشبه به ليس مبتدأ إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك وليس في الحقيقة في موضع رفع بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف، وذاك العامل مرفوع. فإِذا قال النحاة: هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً فهذا في غاية الفساد لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب لا يجيز أن ينطق به إنما هو أمر تقديري. ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإِعراب أخطب مبتدأ، ان هذه الحال سدت مسد الخبر وانه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده وفي تقدير هذا الخبر أربعة مذاهب ذكرت في مبسوطات النحو. وقرىء من أنفسهم بفتح الفاء من النفاسة. وعن عليّ كرم الله وجهه عنه عليه السلام: انا أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً ولا في آبائي مذ آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله.﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل بعثه. ﴿ لَفِي ضَلالٍ ﴾ جعل الضلال ظرفاً لهم وهم فيه لأن العرب لم يكونوا أهل كتاب إنما عباد أصنام مشركون، وتقدم الكلام على أن وهذه اللام في قوله:﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾[البقرة: ١٤٣].
وقال الزمخشري: إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وتقديره وإنّ الشأن والحديث " انتهى ". وقال مكي: قال سيبويه: إن مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا، فظهر من كلام الزمخشري انها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث، ومن كلام مكي انها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه.
﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ ﴾ الهمزة للإِستفهام الذي معناه الإِنكار. قال الزمخشري: ولما نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجر بإِضافة لما إليه، وتقدير أقلتم حين أصابتكم. و ﴿ أَنَّىٰ هَـٰذَا ﴾ نصب لأنه مقول والهمزة للتقدير والتقريع. فإِن قلت: علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت: على ما مضى من قصة أحد من قوله:﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾[آل عمران: ١٥٢].
ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف كأنه قال: أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ كذا. " انتهى ". أما العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله:﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾[آل عمران: ١٥٢]، ففيه بعد وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأما العطف على محذوف فهذا جار على ما نقرر في غير موضع من مذهبه وقد رددناه عليه، وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها التقديم. وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأما قوله: ولمّا نصب إلى آخره وتقديره وقلتم حينئذٍ كذا فجعل لما بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه إنما هو مذهب أبي عليّ، وأما مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف وهو حرف وجوب لوجوب، ومذهب سيبويه هو الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى " بالتكميل ". والمصيبة هي: ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم والمثلان. قال ابن عباس: قتلهم يوم بدر سبعين وأسرهم سبعين والمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال.﴿ قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ﴾ هو استفهام على جهة الإِنكار والتعجب والمعنى كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله وقد وعدنا بالنصر وامداد الملائكة، وأنى سؤال عن الحال والمناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى، لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا إنما الإِستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك سألوا عنها على سبيل التعجُب. وقال الزمخشري: أنى هذا: من أين هذا، كقوله:﴿ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ﴾[آل عمران: ٣٧]، لقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله. " انتهى " كلامه. والظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في أما ان يقدر داخلاً عليه من فلا لأنه إنما انتصب على إسقاط في ولذلك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به. فتقدير الزمخشري أنى هذا: من أين هذا، تقدير غير سائغ واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأما على ما قررناه فإِن الجواب جاء على مراعاة المعنى لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ ومراعي فيه المعنى لا اللفظ والسؤال يأتي سؤال عن تعيين كيفية. حصول هذا الأمر. والجواب بقوله: من عند أنفسكم، يتضمن تعيين الكيفية لأنه بتعيّن السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى لو قبل على سبيل التعجب والإِنكار: كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب عن ذلك بأن يقال: لعدم استطاعته، حصل الجواب وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيع.﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ قال الزمخشري: المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة أو لتخليتكم المركز. وعن علي رضي الله عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم. " انتهى ". وهو كلام ملفق من أقوال المفسرين. ﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾ ما: شرطية أو موصولة. وجواب الشرط أو خبر المبتدأ قوله: ﴿ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ وهو على إضمار أي فهو بإِذن الله ونصوا على أن فعل الشرط وصلة الموصول لا تكون ماضية هنا. وفي قوله تعالى:﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ ﴾[الحشر: ٦] معلوم، أن هذه الاصابة وتلك الافاءة معلوم مضيتها فتأويلها على معنى التبيين أي أن تتبين إصابتكم أو أن تتبين الافاءة.﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾ قالوا: متعلق بمحذوف، أي وفعل ذلك ليعلم. والمختار أن يكون معطوفاً على بإِذن الله والباء واللام كلاهما للسبب تقدم الكلام في تفسير علم الله المسند إليه مني هذا التركيب في قوله:﴿ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ ﴾[البقرة: ١٤٣].
فـ ﴿ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾ هنا هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ﴾ القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: عبد الله أبو جابر بن عبد الله تبعهم لما انخذلوا عن المسلمين ووعظهم وذكرهم فلما لم يجيبوه لما سأل منهم قال: اذهبوا أعداء الله، ثم رجع عنهم وقاتل حتى قتل شهيداً رضي الله عنه.﴿ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب أنهم كانوا يظهرون الإِيمان ولم تكن إمارة تدل على الكفر فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زاد وأقر بالكفر وتباعدوا عن الإِيمان واللامان يتعلقان بأقرب. ويومئذٍ: منصوب بأقرب، والتنوين في إذ: للعوض من الجملة المحذوفة تقديره يوم. إذ قالوا ذلك لإِخوانهم: أي لأجل إخوانهم كما تقدم في قوله:﴿ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ ﴾[آل عمران: ١٥٦].
قال ابن عطية: بأفواههم توكيد مثل يطير بجناحيه. " انتهى ". ولا يظهر أنه توكيد إذ القول ينطلق على اللسان والنفساني فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا أن قلنا أن إطلاقه على النفساني مجاز فيكون إذ ذاك توكيداً لحقيقة القول.﴿ وَقَعَدُواْ ﴾ جملة حالية. ﴿ لَوْ أَطَاعُونَا ﴾ يعني مني القعود. وقرىء ﴿ مَا قُتِلُوا ﴾ بتشديد التاء وتخفيفها. ﴿ قُلْ فَادْرَءُوا ﴾ أي ادفعوا ومنه فادارأتم ويدرأ عنها العذاب.
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ بالتاء خطاب للسامع وبالياء أي ولا يحسبن وهو أي حاسب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً ويكون التقدير ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإِن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء، والمعنى هم أحياء الدلالة الكلام عليها. " انتهى " كلامه. أما تقديره فلا يحسبنهم الذين قتلوا ففيه تفسير الضمير بالفاعل الظاهر وهو لا يجوز فلا تقول حسبه زيد منطلقاً تريد حسب نفسه ولا ضربه زيد تريد ضرب نفسه زيد، وقد ذكرنا في البحر المواضع التي يفسر الضمير الاسم المتأخر أو الجملة اتفاقاً واختلافاً وليس منها الضمير الاذي يفسره الظاهر الفاعل وأما تجويزه حذف المفعول الأول في باب حسب. فقال الفارسي: حذفه اختصاراً عزيز جداً. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز حذفه البتة وما كان هكذا فلا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى وأما من حيث المعنى فيبعد ما قاله جداً لأن من كان حياً عند ربه مرزوقاً فرحاً مستبشراً لا ينهي أن يحسب نفسه ميتة فيجب أن تحمل قراءة الياء على أن الحاسب مضمر كما قررناه لتتفق القراءتان في كون الذين مفعولاً وإن اختلفتا من جهة الخطاب والغيبة. وإحياء بالرفع على تقدير بل هم احياء. وقرىء احياء بالنصب على تقدير بل تحسبهم احياء والظاهر ان فرحين حال من الضمير في يرزقون.﴿ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم ﴾ هم الشهداء الذين يأتوا بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله. وجعل ابن عطية استبشر بمعنى الفعل المجرد لأنه يقال بشر كما قالوا استمجد المرغ والعفار بمعنى مجد، والأحسن أن يكون استبشر مطاوع أبشر كقولهم أكأنه فاستكان ومطاوعه استفعل لأفعل كثير لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلاً عن غيره فحصلت له البشرى بإِبشار الله له بذلك وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية بلا وان وما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين فيكون هو المستبشر به في الحقيقة أو منصوب على أنه مفعول من أجله فيكون علة الاستبشار والمستبشر به غيره التقدير لأنه لا خوف عليهم والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب، والظاهر أن قوله: يستبشرون، استئناف إخبار. وليس بتوكيد للأول لاختلاف متعلق الفعلين الأول بانتفاء الخوف والحزن عن الذين لم يلحقوا بهم، والثاني قوله: بنعمة من الله وفضل، وذهب الزمخشري وابن عطية إلى أنه توكيد للأول. قال الزمخشري: وكرر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله: ﴿ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ من ذكر النعمة والفضل وان ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل الله وحكمته ان يحصل لهم ولا يضيع. " انتهى ". وهو على طريقة الاعتزال في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال: أكد استبشارهم بقوله: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ ثم بين بقوله: وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد. وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر انها على قدر الأعمال " انتهى ". وقرىء وإن بكسر الهمزة وفتحها.﴿ ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ ﴾ الاستجابة كانت اثر الانصراف من أحد استنفر الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب الكفار فاستجاب له تسعون. وقيل: لما كان اليوم الثاني من أحد وهو يوم الأحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين. وقال: لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام.﴿ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ ﴾ الظاهر أن القائل هم ناس وليس واحداً، كما قال بعضهم: إنه نعيم بن مسعود الأشجعي. وقيل: الناس ركب من عبد القيس مروا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة فجعل لهم جعلاً وهو حمل إبلهم زبيباً على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين فأخبروا بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد: حسبنا الله ونعم الوكيل، والناس الثاني: قريش.﴿ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي السلامة وحذر العدوّ إياهم. ﴿ وَفَضْلٍ ﴾ وهو الربح في التجارة كقوله:﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾[البقرة: ١٩٨] هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ولم يذكر غيره وهو قول مجاهد. قال ابن عطية: والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة يريدون في السلامة والظهور وفي اتباع العدو وحماية الحوزة وبفضل في الأجر الذي حازوه والفخر الذي تخللوه وانها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد. والجملة من قوله: لم يمسسهم في موضع الحال، وبنعمة في موضع الحال.
﴿ ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ ظاهره الإِشارة إلى مفرد ويكون على حذف مضاف إي فعل الشيطان. وإنما نسب إليه وأضيف لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه.﴿ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ فيه محذوفان مفعول وحرف جر والتقدير يخوفكم بأوليائه كما جاء ذلك المحذوفان مصرحاً بهما في قوله:﴿ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ﴾[الزمر: ١٦].
قال الزمخشري: الشيطان خبر ذلكم، بمعنى إنما ذلكم التثبيط هو الشيطان ويخوف أولياءه جملة مستأنفة بيان لشيطنته أن الشيطان صفة لاسم الاشارة ويخوف الخبر والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان. " انتهى " فعلى تقدير القول تكون الجملة لا موضع لها من الاعراب، وإنما قال والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان لأنه لا يكون صفة، والمراد به إبليس لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة إذ أصله صفة كالعيوق ثم غلب على إبليس كما غلب العيّوق على النجم الذي ينطلق عليه. قال ابن عطية: وذلكم في الإِعراب ابتداء، والشيطان مبتدأ آخر، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأول، وهذا الاعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة. " انتهى ". هذا الذي اختاره إعراب لا يجوز إذا كان الضمير من أولياءه عائداً على الشيطان لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله: ذلكم، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم: هجير أبي بكر لا إله إلا الله، وإن كان عائداً على ذلكم ويكون ذلكم خبراً عن الشيطان جاز وصار نظير إنما هند زيد يضرب غلامها، والمعنى إذا ذاك إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه أي أولياء الركب أو أبي سفيان.﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ ﴾ الآية. قرىء يحزنك مضارع حزن ويحزنك ومضارع أحزن. والذين كفروا عام في كل من يسارع في الكفر. وقرىء يسرعون مضارع أسرع.﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية إنما احتملت ما أن تكون موصولة اسم ان والخبر خبر، واحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون ذلك المصدر اسم ان وخبر ان خبر فعلي، التقدير الأول: يكون معناه أن الذي نمليه خير وحذف الضمير من نمليه وهو عائد على الذي، وعلى التقدير الثاني: يكون انّ املأنا خير وسدت انّ مسد مفعولي يحسبن. ومعنى نملي: نمهل ونمد في العمر. والملاوة: المدة من الدهر. والملوان: الليل والنهار. وقراءة الجمهور: ولا يحسبن بالياء فيكون الذين كفروا فاعلاً وعلى هذه القراءة يخرج ذانّك الاعرابان. وقرأ حمزة ولا تحسبن بالتاء، والذين كفروا مفعول أول ولا يكون ما بعده مفعولاً ثانياً لأن المعنى لا يكون الذات فخرّج على أن يكون الذين على حذف مضاف تقديره ولا تحسبن شأن الذين كفروا ان كان الحذف في الأول وعلى حذف بعد الذين كفروا تقديره أصحاب إنما نملي لهم. وخرّج ابن الباذش هذه القراءة على إنما نملي بدل من الذين ويكون المفعول الثاني محذوفاً وتقديره ولا تحسبن الذين كفروا خيريّة املائنا لهم كائنة أو واقعة وعلى البدل خرجه الزمخشري وتقدمها إلى ذلك الكسائي والفراء. وقرىء خيراً بالنصب، فيكون إنما نملي لهم بدلاً من الذين والتقدير ولا تحسبن املاءنا للكفار خيراً لأنفسهم. وقرأ يحيى بن وثاب ولا يحسبن بالياء وإنما نملي بالكسر فإِن كان الفعل مسنداً للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون المفعول الأول الذين كفروا ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني وإن كان مسنداً للذين كفروا فيحتاج تحسبن إلى مفعولين فلو كانت إنما مفتوحة سد مسدّ المفعولين، ولكن يحيى قرأ بالكسر فخرج ذلك على التعليق فكسرت انّ وان لم تكن اللام في خبرها والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعوليّ يحسبن وهو بعيد لحذف اللام ونظير تعليق الفعل عن العمل مع حذف اللام من المبتدأ قول الشاعر: اني وجدت ملاك الشيمة الأدب   أي لملاك: والذين كفروا ليس عاماً بل هو خاص فيمن علم الله أنه لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله: ﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾.
﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ واللام مني ليذر المؤمنين لام الجحود وهي تأتي بعد كون ماض لفظاً أو معنى بحرف نفي وهو ما أو لم، وخبر كان محذوف عند البصريين تتعلق به اللام وانْ مضرة بعد اللام والتقدير عندهم ما كان الله مزيداً لأن يذر ومذهب الكوفيين ان اللام زائدة ناصبة للفعل والخبر هو نفس يذر ولولا اللام كان الفعل يذر والخطاب في قوله: على ما أنتم عليه، للمؤمنين وغيرهم من الكفار أي لا يترك الله أمر الجميع مشتبهاً حتى يميّز الخبيث من الطيب بامتثال تكاليفه تعالى فيمتثله الطيب وهو المؤمن ويجتنبه الخبيث وهو الكافر، وهو العليم بالأحوال وما ينتهي إليه كل واحد منهما، ولذلك قال:﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ ﴾ والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس.﴿ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي ﴾ أي يصطفي: ﴿ مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ فيطلعه على ما يشاء من غيبه.
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بلغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب. وقرىء ولا تحسبن بالتاء فيكون الذين أول مفعولين لتحسبن وهو على حذف مضاف أي بخل الذين. وقرىء بالياء والفعل مسند إلى ضمير أحد فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره بخلهم وحذف لدلالة يبخلون عليه وحذفه عزيز جداً عند الجمهور فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف وهو فصل، وخيراً المفعول الثاني ليحسبن، ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية وهو أن تكون المسألة من باب الأعمال إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين وذلك أن يحسبن يطلب مفعولين ويبخلون بيطلب مفعولاً بحرف جر فقوله: ما آتاهم بطلبه يحسبن على أن يكون المفعول الأول ويكون هو فصلاً وخيراً المفعول الثاني، ويطلبه يبخلون متوسط حرف الجر. فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون فعدى بحرف الجر وأخذ معموله وحذف معمول يحسبن الأول ونفى معموله الثاني لأنه لم يتنازع فيه إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول وساغ حذفه وحده كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه متى رأيت أو قلت زيد منطلق لأن رأيت. وقلت في هذه المسألة: تنازعاً زيد منطلق وفي الآية لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد وتقدير المعنى ولا يحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ظن هذا الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة فالذي تنزعه الفعلان هو الاسم الأول فاعمل الثاني وبقي الأول يطلبه محذوفاً ويطلب المفعول الثاني مثبتاً إذ لم يقع فيه التنازع، ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم وكان تحت الانتفاء قسمان: أحدهما أن لا خير ولا شر، والآخر: إثبات الشر، أتى بالجملة التي تعني أحد القسمين وهو إثبات كونه شراً لهم.﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ هذا تفسير لقوله: ﴿ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ﴾.
والظاهر حمله على المجاز أي سليزمون عقابه الزام الطوق.﴿ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ ﴾ الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء حاوره أبو بكر في الاسلام وأن يقرض الله قرضاً حسناً، فقال: هذه المقالة، فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد. فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر. ما قال فنزلت تكذيباً لفنحاص وتصديقاً للصديق رضي الله عنه. قال ابن عباس: وشمل قوله: الذين قالوا فنحاصاً، ومن قال بمقالته كحيّ بن أخطب والياس بن عمرو.﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ ﴾ الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة فتكتب الأعمال في صحف وان تلك الصحف هي التي توزن ويحدث الله الثقل فيها والخفة. وقيل: الكتابة مجاز ومعناها الاحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله مثبتاً محفوظاً لا ينسى كما يكتب المكتوب. وقرىء سنكتب بالنون وقتلهم نصباً ونقول بالنون. وقرىء سيكتب مبنياً للمفعول وقتلهم رفعاً ويقول بالياء، ولما كان الصادر منهم قولاً وفعلاً ناسب أن يكتب الجزاء قولاً وفعلاً فتضمن القول والفعل، قوله: ونقول ذوقوا عذاب الحريق وفي الجمع لهم بين القول والفعل أعظم انتقام ويقال للمنتقم فيه أخْسَ وذق.﴿ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ الإِشارة إلى ما تقدم من عقابهم ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال فكان كل عمل واقع بها. وهذه الجملة داخلة في المقول وبّخوا بذلك وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب.﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ هذا معطوف على قوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم وعدل الله فيكم وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير وهذا تكثير بسبب المتعلق.
﴿ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ﴾ نزلت في جماعة من اليهود فيهم كعب بن الأشرف وعهد بمعنى أوصى. والظاهر أن القربان هو ما يتقرب به إلى الله تعالى، وزعموا أن هذا العهد في التوراة. وقيل: هو من كذبهم على الله. قال ابن عطية: وقرأ عيسى بن عمر بقربان بضم الراء اتباعاً لضم القاف. وليس بلغة لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين. وحكى سيبويه السلطان بضم اللام وقال: إن ذلك على الاتباع. " انتهى ". لم يقل سيبويه ان ذلك على الاتباع بل قال: ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ولا شيئاً من النحو لم نذكره ولكنه جاء فعلان وهو قليل قالوا السلطان وهو اسم. " انتهى ". وقال الشارح صاحب هذه اللغة لا يسكن ولا يتبع. " انتهى ". والظاهر من هذه الآية والتي قبلها ان ذلك من فعل أسلافهم ألا ترى إلى قوله:﴿ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ ﴾[آل عمران: ١٨١].
وقوله: ﴿ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ... ﴾ إلى آخر الآية، والمعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود لم يقتلوا الأنبياء ولا جاءتهم رسل غير محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر ما قلناه في قوله تعالى: ﴿ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ﴾ وإنما هذا كله من فعل أسلافهم فُوُبّخوا بذلك لرضاهم بما صدر من أسلافهم. ﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجواب الشرط محذوف تقديره فتسل بما صدر للرسل من تكذيبهم قبلك وما وجد من كلام المعربين أن جواب الشرط هو قوله: فقد كذب، إنما هو صلى سبيل المجاز لأن الماضي حقيقة لا يكون جواباً للشرط المستقبل، ومعنى بالبينات: بالمعجزات الواضحة.﴿ وَٱلزُّبُرِ ﴾ جمع زبور وهو الكتاب. يقال: زبره أي كتبه وقد يكون مشتقاً من الزبر وهو الزجر. والجمع يدل على الكثرة، ويعني به الكتب الإِلهية.﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ ﴾ القرآن. الظاهر أنه التوراة إذ هو أكبر الكتب المنزلة على بني إسرائيل وفيه تبيين شريعتهم. وقرىء وبالزبر وبالكتاب بالباء فيهما. وقرىء بتركهما.﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾ تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وأهلها والوعد بالنجاة في الآخرة إذ بذكر الموت والفكرة فيه يهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره. ولما تقدم ذكر المكذبين الكاذبين على الله تعالى من اليهود والمنافقين وذكر المؤمنين نبهوا كلهم على أنهم ميتون وما لهم إلى الآخرة، ففيها يظهر الناجي والهالك، وإن ما تعلقوا به في الدنيا في مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الانسان فهو يوفاه في الآخرة يوفى على طاعته ومعصيته. وقال محمد بن عمر الفخر الرازي: في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن وعلى أن النفس غير البدن. " انتهى ". وهذه مكابرة في الدلالة فإِن ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت. وقال أيضاً: لفظ النفس مختص بالأجسام. " انتهى ". وقرىء ذائقة منوناً، الموت نصباً. وقرىء بغير تنوين، والموت نصباً. ونظيره قول الشاعر: ولا ذاكر الله إلا قليلاً   حذف التنوين لإِلتقاء الساكنين. وقراءة الجمهور على الاضافة وكل إذا أضيفت إلى نكرة كان الحكم في الخبر والاضمار لتلك النكرة، كقوله: ﴿ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾، وقوله:﴿ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ﴾[الطور: ٢١]، وكل رجلين قاما، وكل امرأتين قامتا، وقوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾[الإسراء: ٧١]، وقول الشاعر: وكل أناس سوف تدخل بينهم   دويهية تصفر منها الأناملفالتذكير والتأنيث والافراد والتثنية والجمع بحسب النكرة التي أضيف إليها كل.﴿ فَمَن زُحْزِحَ ﴾ الزحزحة التنحية والابعاد.
﴿ لَتُبْلَوُنَّ ﴾ قيل نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين. قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ عليهم الرسول القرآن: إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا. ورد عليه عبد الله بن رواحة فقال: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله. والابتلاء: الاختبار، والضمير في لتبلون للمؤمنين خاطبهم بذلك ليستعدوا لما يرد عليهم من الابتلاء فيصبروا بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فيشق عليه ما يرد بخلاف من استعد للشيء فإِنه يوطن نفسه على وقوعه، وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف أو على سبيل الكثرة لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس، والأذى اسم جمع في معنى الضرر ليشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه وفي الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام والمطاعن في الدين وتخطئة من آمن وهجاء كعب وتشبيبه بنساء المؤمنين.﴿ فَإِنَّ ذٰلِكَ ﴾ الإِشارة إلى الصبر والتقوى الدال عليهما فعلهما وعبر بالمفرد عن المثنى كما قال الشاعر: إن للخير وللشر مدى   وكلا ذلك وجه وقبليريد وكلا ذينك.﴿ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ﴾ العزم إمضاء الأمر المروي المنقح. ﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ ﴾ الآية هم اليهود أخذ الله عليهم الميثاق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتموه ونبذوه: قاله ابن عباس وغيره. ﴿ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ﴾ الضمير عائد على الميثاق. وكذا في قوله: فنبذوه، والثمن القليل: هو ما أخذوه من الرشا على تبيين الميثاق وكتمه. ﴿ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ تقدم الكلام في ما بعد بئسما في البقرة:﴿ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾[الآية: ٩٠].
﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ ﴾ الآية نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو فإِذا جاء استعذروا له فيظهر القبول ويستغفر لهم ففضحهم الله بهذه الآية: قاله أبو سعيد الخدري وغيره. وقرىء ولا يحسبن بياء الغيبة، وفلا يحسبنهم بالياء وضم الباء. والذين: فاعل ومفعولاً يحسبن محذوفاً لدلالة مفعولي يحسبنهم عليهما والتقدير أنفسهم ناجين وفلا يحسبنهم توكيد لما سبق ولا يصح أن يكون بدلاً كما قال ابن عطية الوجود الفاء، فإِنها تمنع من البدل. وقول الفارسي في أن لا يحسبن لغو لم يقع على شيء قول ضعيف جداً. وتقدير الزمخشري لا يحسبنهم الذين فيفسر الضمير الفاعل قد رددناه عليه في تقديره ولا يحسبنهم الذين كفروا إنما نملي لهم فيطالع هناك. وتعدى يحسبنهم المضموم الباء إلى الضمير المنصوب والفعل مسند إلى الضمير المرفوع وهو الواو المحذوفة وذلك مختص بباب ظن وفقه وعلم وبمفازة هو المفعول الثاني. وقرىء لا لا تحسبن وفلا تحسبنهم، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام. والذين المفعول الأول والثاني محذوف تقديره فاحبي. وقرىء لا يحسبن بياء الغيبة، والذين فاعل والمفعولان ليحسبن محذوفان وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب وفتح الباء.﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية روى عن ابن عباس أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى وعيسى فنزلت هذه الآية.﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ منصوب بحال محذوفة تقديره يقولون ربنا. والإشارة بقوله: هذا، إلى الخلق بمعنى المخلوق أو إلى السماوات والأرض بما فيهما من عجائب الصنعة وانتصب باطلاً على أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقاً باطلاً. قال بعضهم: هو منصوب على أنه مفعول ثان لخلق وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى مفعولين. " انتهى ". وهذا عكس المنقول في النحو وهو ان جعل تكون بمعنى خلق فتتعدى لواحد أما ان خلق تكون بمعنى جعل فتتعدى لاثنين فلا أعلم أحداً ممن له معرفة ذهب إلى ذلك.﴿ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ أي فضحته. من خزى الرجل يخزي خزياً. إذا افتضح، وخزاية إذا استحيا الفعل واحد. واختلف في المصدرين فمن الافتضاح خزي ومن الاستحياء خزاية ومن ذلك ولا تخزني في ضيفي أي لا تفضحوني.
﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا ﴾ سمع تعدت هنا إلى واحد: وينادى: صفة له. وإن آمنوا: تفسيره التقدير أي آمنوا، وقيل: مصدرية على تقدير إسقاط حرف الجر تقديره بأن آمنوا وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبيب الإِيمان عن السماع من غير تراخ والمعنى فامنا بك أو بربنا. و ﴿ ٱلأَبْرَارِ ﴾ جمع بار أو جمع بر. ﴿ عَلَىٰ رُسُلِكَ ﴾ أي على ألسنة رسلك. وانظر إلى حسن مجاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين فإِنهم خاطبوا الله بلفظة ربنا وهي إشارة إلى أنه ربهم، وأصلحهم وهيأهم للعبادة، فأخبروا أولاً بنتيجة الفكر وهو قولهم: ربنا ما خلقت هذا باطلاً، ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله ولا يتفكرون في مصنوعاته، ثم ذكروا أيضاً ما أنتج لهم التفكر من إجابة الداعي إلى الإِيمان إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلاً، ثم سألوه غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإِيمان الذي أخبروا به في قولهم: فآمنا، ثم سألوا الله الجنة وأن لا يفضحهم يوم القيامة وذلك هو غاية ما سألوه. وتكرر لفظ ربنا خمس مرات كل ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والاصلاح ولذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإِلحاح في المسألة واعتماد كثرة الطلب من الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث ألظوا بيا ذا الجلال والإِكرام. وقال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم.﴿ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ استجاب بمعنى أجاب تقدم الكلام عليه في البقرة عند قوله:﴿ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾[الآية: ١٨٦] ولما كان تقدم قولهم: ربنا ربنا، جاء هنا ربهم ولم يأت اسم غيره ليكون المدعو هو المستجيب لهم.﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ ﴾ أي باني لا أضيع. وقرىء بأني بالباء. وقرىء اني بكسر الهمزة على إضمار القول كأنه قائلاً: اني على مذهب البصريين أو على تضمين استجاب معنى قال على مذهب الكوفيين. وقرىء أضيع مضارع أضاع. وقرىء أضيّع مضارع ضيّع. ومنكم في موضع الصفة لعامل ومن ذكر بدل من الضمير بدل بعضٍ من كل. وقوله: أو أنثى معطوف عليه ولا يجوز أن يكون بدلاً تفصيلياً لوجود أوْ لأنه لا يعطف فيه إلاّ بالواو. وكقول الشاعر: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة   ورجل رمى فيها الزمان فشلتفإِن جعلت أو بمعنى الواو جاز.﴿ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ﴾ معناه تبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين.﴿ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ روى أن أم سلمة قالت: يا رسول الله قد ذكر الله الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك. فنزلت هذه الآية. والذين: مبتدأ خبره جملة القسم المحذوفة التي جوابها لأكفرن وفي هذا حجة على إبطال مذهب ثعلب في زعمه إن جملة القسم لا تكون خبراً للمبتدأ وبدأ أولاً بالخاص وهي الهجرة وهي أشق شيء على النفس إذ فيها مفارقة الوطن الذي نشأ فيه حيث لم يمكنه إقامة دين الله فهاجر إلى المكان الذي يمكن فيه ذلك وهي المدينة وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعلم من الهجرة وهو الإِخراج من الديار وقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها، كخروج من خرج إلى الحبشة، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة. وأتى ثالثاً بذكر الاذاية وهي أعم من أن يكون بإِخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية الى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في سبيل الله، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنغيص أحواله في الحياة لأجل دين الله بالمهاجرة وإخراجه من داره وإذايته في الله ومآله أخيراً إلى افنائه بالقتل في سبيل الله والظاهر الاخبار عمن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد ويجوز أن يكون ذلك من باب عطف الصلات والمعنى اختلاف الموصول لاتحاده فكأنه قيل: فالذين هاجروا، والذين أخرجوا، والذين أوذوا، والذين قاتلوا، والذين قوتلوا، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء. وقرىء وقاتلوا مبنياً للفاعل وقتلوا مبنياً للمفعول. وقرىء بالعكس.﴿ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ ﴾ انتصب ثواباً على المصدر المؤكد وإن كان الثواب هو المثاب به كما كان العطاء هو المعطي واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإِعطاء فوضع ثواباً موضع إثابة أو موضع تثويباً لأن ما قبله في معنى لأثيبنهم ونظيره صنع الله ووعد الله. وفي قوله: من عند الله التفات وهو خروج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب.﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ ﴾ الخطاب للسامع والذين كفروا عام وتقلبهم في البلاد سعيهم فيها لكسب الأموال والجاه والرتب. وقرىء بتشديد النون وتخفيفها.﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي ذلك متاع قليل أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره متاع قليل تقلبهم وتصرفهم والمأوى مفعل يراد به المكان الذي يأوي إليه ويرجع يعني في الآخرة. والمخصوص بالذم محذوف تقديره وبئس المهاد جهنم. قيل: ونزلت هذه الآية في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال: قاله ابن عباس.﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ ﴾ قابل جهنم بالجنات وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن أحسن مواقعها لأنه آل معنى الجملتين إلى تعذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين، فهي واقعة بين الضدين، النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى. ويجوز تسكين زايه. وقرىء به وانتصب نزلاً على أنه حال من جنات وهي موصوفة بقوله: تجري وخيراً فعل تفضيل أي خير لهم مما كانوا فيه في الدنيا. وفي قوله: وما عند الله حوالة على ما أعد لهم في الآخرة.﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ لما مات أصحمة النجاشي ملك الحبشة صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قائل يصلي على هذا العِلج النصرانيّ وهو في أرضه، فنزلت: قاله جابر وابن عباس. ومن أهل الكتاب عام فيمن آمن منهم كعبد الله بن سلام ومن آمن من نصارى بحران ونصارى الحبشة.﴿ لَمَن ﴾ موصولة وهي اسم إنْ دخلت عليها اللام كما دخلت في قوله: إن لك لأجر أو حمل على لفظ في فأفرد الضمير في قوله: يؤمن، ثم حمل على المعنى فجمع في قوله: وما أنزل إليهم وفي خاشعين وما بعده.﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ﴾ أمر أولاً بمطلق الصبر، ثم بخاصّ من الصبر وهو المصابرة على الجهاد في سبيل الله تعالى وقتال أعدائه ثم بالرباط وهو الإِقامة في الثغور رابطين الخيل مستعدين للغزو. وفي البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها "وفي مسلم:" رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان "وفي سنن أبي داود قال:" كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإِنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتاني القبر "والله الموفق.
Icon