تفسير سورة آل عمران

جهود القرافي في التفسير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب جهود القرافي في التفسير .
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ

٢٤١- بدأ الله بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالعلماء دون سائر خلقه، فيكون من عداهم دونهم. ( الذخيرة : ١/٤١ )
٢٤٢- وقع التردد لبعض العلماء في قوله تعالى :﴿ شهد الله أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾. هل هو من باب العلم لأن الله يعلم ذلك أو من باب الخير لأن الله تعالى أخبر عباده عن ذلك، فهو محتمل للأمرين. ( الفروق : ١/١٧ )
٢٤٣- وحيثما وقع هذا الاستثناء فهو استثناء من نفي، فيجري على اللغتين في رفعه ونصبه، والمشهور رفعه، وهو مستثنى من الضمير المستتر في اسم الفاعل المحذوف، تقديره : " لا معبود مستحق للعبادة إلا الله ". أو يقال : هو مستثنى من اسم " لا "، لأن الإله معناه المعبود، فيكون المعنى : " لا معبود باستحقاق إلا الله ".
ومن النحاة من يقدر الخبر هكذا : " لا معبود باستحقاق في الوجود إلا الله ". ويقول : قولنا : " في الوجود "، مجرور متعلق بمحذوف تقديره :
" كائن "، وفي " كائن " ضمير هو فاعل، الاستثناء واقع منه. والإمام فخر الدين يقول في تصانيفه في هذا الموضع : لا يجوز أن يكون الخبر قولنا : في الوجود، لأن مفهوم ذلك : أن في العدم في مادة الإمكان معبودا باستحقاق، وذلك كفر، بل يكون الخبر قولنا : في نفس الأمر، ولا نقول : في الوجود. وإذا نفينا المستحق في نفس الأمر لا يضرنا كون اعتقاد الكفار فيه مستحقا بزعمهم، لأنا لم ننف المستحق من الاعتقاد ما لم يكن الإخبار صادقا، لأن الواقع أن في الاعتقاد معبودا بالاستحقاق.
والذي قال الإمام فخر الدين متجه، ولا ينبغي أن يخصص الوجود بالنفي بل يعمم في نفس الأمر، وبهذه الطريقة أيضا تعين أن نقول : لا معبود باستحقاق. فإن نفي المعبود مطلقا ليس بصادق، فإن المعبودات واقعة كثيرا من الشجر والحجر والكواكب وغير ذلك. فلا يصدق الإخبار عن النفي إلا إذا قيد بالاستحقاق. فلا ينبغي أن نهمل هذه الدقائق فإنها متعينة الاعتبار شرعا وعقلا ولغة.
فائدة : رأى بعض أهل الخبر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام- كما قال- وهو جالس في مجلس بمصر، وقد أمر بإحضار الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان حيا يومئذ، فلما حضر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما معنى قوله تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو... ﴾ ؟ فقال له الشيخ عز الدين : يا رسول الله إنما نحن قوم رواة، نروي عن الثقاة عنك عن الله، وأعظم أن يتحدث بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن إجلالا له واحتقارا لنفسه. فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السؤال. فأعاد الشيخ الجواب ثلاث مرات كذلك. فقال الشيخ : يا رسول الله، معنى هذه الآية أن منه هذا الجواب. فحكى المنام في اليقظة للشيخ رحمه الله تعالى، ففرح فرحا كثيرا، وقال : في هذه الآية موضع كان مشكلا علي مازال، وعسر علي فهمه جدا، الآن فهمته، قال له الحاضرون : ما هو ؟ قال أن " شهد " له في لغة العرب ثلاثة معان :
أحدها : حضر، نحو شهد فلان بدرا، وشهدنا صلاة العيد، وشهدت صلاة الجنازة.
ثانيها : بمعنى أخبر، نحو الشهادة عند الحكام، فإذا قال الشاهد : " أشهد عندك "، فمعناه : " أخبرك أني أعتقد أن الحق في جهة زيد "، ومنه قوله تعالى :﴿ ... قالوا : نشهد إنك لرسول الله ﴾١ أي : " نخبرك عن اعتقادنا ذلك "، ولذلك كذبهم الله تعالى بسبب أنهم لا يعتقدون ذلك، لأنهم منافقون.
وثالثها : شهد بمعنى علم، ومنه قوله تعالى :﴿ والله على كل شيء شهيد ﴾٢ أي : عليم بجميع الأشياء.
قال رحمه الله : " وحضر " هاهنا يتعذر، فكان يشكل علي، هل المراد : أخبر الله تعالى أنه لا إله إلا هو، لأنه أخبر عباده بذلك في رسائله، أو معناه، علم ذلك، فإنه تعالى يعلم وحدانيته. ولم أجد في تعيين أحدهما نقلا. فبقي ذلك مشكلا علي، وهذا المنام النبوي يقتضي تعيين أحدهما، لأن الثناء من باب الخبر لا من باب العلم، فقولي في المنام : " أثنى على نفسه بنفسه "، أي : أخبر عن وحدانيته بكلامه النفساني أو اللساني "، فإن المعنيين واقعان. ( الاستغناء : ٣٠٧ إلى ٣١٠ )
١ - سورة المنافقون: آية: ١..
٢ -سورة المجادلة: آية ٦..
تقديره : " ما اختلفوا في زمن من الأزمنة إلا في الزمان المتأخر عن مجيء العلم ".
فإن قلت : بأي شيء يتعلق هذا المجرور ؟
قلت : " من الابتداء الغاية، وأصل الكلام أن تقول : " وما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم ". ويكون " بعد " ظرفا للاختلاف مستثنى من الظروف مقدرا " بقي "، غير انه إذا قيل كذلك احتمل أن يكون الاختلاف وقع في أول هذا الظرف أو وسطه أو آخره.
والواقع أنه وقع في جملته، فجيء لابتداء الغاية لتدل على أنه وقع الاختلاف أول هذا الظرف وابتدئ من هنالك.
ومعنى هذه الآية يقتضي أن ابتداء الغاية داخل في الحكم، وفي ذلك خلاف بين العلماء، هل يدخل ابتداء الغاية وانتهاؤها في الحكم المغيا أم لا ؟
ولا يستقيم هاهنا إلا القول باندراج هذا الابتداء، ويكون العامل في هذا المجرور إما الفعل السابق بواسطة تعدية " إلا " كما نقول : " ما مررت إلا بزيد ". أو فعل مضمر دل عليه الفعل، تقديره : " إلا من بعد ما جاءهم العلم فاختلفوا ".
ويجوز أن يكون العامل صفة للزمان، وهو محذوف تقديره : " إلا في زمان كائن من بعد ما جاءهم هذا العلم "، و " ما " مصدرية، تقديره : " من بعد مجيء العلم إليهم ".
٢٤٤- تقديره : " لا تفعلوا ذلك في حالة من الحالات إلا في حالة الاتقاء ". فهو استثناء من الحالات متصل، والمستثنى منه غير منطوق به. و " أن " مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر في تأويل اسم الفاعل المنصوب على الحال تقديره : " إلا متقين منهم تقاة ". ( الاستغناء : ٥٣٨ )
٢٤٥- قوله تعالى :﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ عائد على النهي الأول دون الخبر الثاني. ( نفسه : ٥٤٧ )
٢٤٦- جعل تعالى اتباع نبيه من لوازم محبتنا لله، ومحبتنا لله تعالى واجبة، ولازم الواجب واجب، فاتباعه عليه السلام واجب. وقوله تعالى :
﴿ فاتبعوني ﴾ والأمر للوجوب. ( شرح تنقيح الفصول : ٢٨٩ )
٢٤٧- أي : ضمها لنفسه، والكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة أخرى. ( الذخيرة : ٩/١٩٠ والفروق : ٣/٣٤ )
٢٤٨- قال مالك : " ولا بأس بأن يقول العبد لسيده : يا سيدي لقوله تعالى :﴿ وسيدا وحصورا ﴾.
قيل له : يقولون : السيد هو الله تعالى. قال : إن هذا في كتاب الله تعالى " ١. ( الذخيرة : ١٣/٢٣٩ )
١ - ن : المنتفى" للباجي : ٧/٣٠٦..
٢٤٩- دليل القرعة قوله تعالى :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ﴾. ( الذخيرة : ٧/١٩٩ و ١١/١٧٢ )
٢٥٠- زعمت النصارى أن الله سبحانه لما خلق السماوات والأرض كان قد قدر في الأزل أن آدم عليه السلام يعصي ربه عز وجل وأن الشيطان يغويه، فلما عصاه وأكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عنها عاقبه وذريته بورود جهنم ولما رحم الله تعالى عباده وأشفق عليهم ألقى كلمته إلى مريم البتول فتجسدت الكلمة في جوفها فخرج منها إله تام من إله تام، نور من نور، قالوا : فخلص سيدهم يسوع المسيح العالم من حبال الشياطين التي كانوا يقودون فيها الآدميين إلى الجحيم. ( أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية : ٢٥ )
٢٥١- وقولكم ( يقصد النصارى ) : ولما رحم الله عباده وأشفق عليهم ألقى كلمته إلى مريم البتول فتجسدت الكلمة في جوفها فخرج منها إله تام، نور من نور ". فنقول : الكلمات والجوهر عندكم وزائد عليه١، فإن قلتم هي الجوهر بلا مزيد، فقولوا : ألقى نفسه إلى مريم البتول ولا تقولوا كلمته لأن ليس عندكم إلا الجوهر بلا مزيد وهذا يؤدي إلى التغير والحدوث، والقديم يستحيل عليه التغير والحدوث فأنتم من طرفي نقيض، إما أن يقولوا : كل متغير حادث وكل منتقل من حال إلى حال حادث، أو يقولوا : إن التغير والانتقال من حال إلى حال لا يدلان على الحدوث فإن قلتم الأول لزمك حدوث القديم، وإن قلتم الثاني لزمك قدم العالم، كلا القولين محال.
وإن قلتم : هي زائدة على الجوهر. فنقول لكم : هل فارقت الجوهر أو لم تفارقه ؟ فإن قلتم : فارقته، لزمكم تغير الجوهر، لأنها إذا فارقته لم يتصف بأقنوم العلم بعدما كان متصفا.
وإن قلتم : لم تفارقه. استحال أن تحل في مريم مع اختصاصها به لأن الواحد لا يحل في اثنين. فإذا كان ذلك يستحيل في الصفة الموجودة القائمة بالموصوف فلأن يستحيل ذلك في الكلمة التي هي أقنوم العلم وهي خاصية الجواهر أولى من غير مزيد.
وقولكم : " تجسدت في جوفها ". فنقول لكم : تجسدت لساعتها أو تجسدت يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، فأيهما قلتم بطلت حجتكم. فإن قلتم : " تجسدت لساعتها ". فهو خلاف الناسوت، فإن الإنسان التام ليس له ذلك، ولا يتصور في العادة استواء الجنين في بطن أمه لساعته. فما كان إنسانا تاما بل كان مخالفا للإنسان، لأن الإنسان يقع عليه هذا الاسم ينمو أو يزيد في كل شهر من التسعة أشهر، وإن قلتم : " لا، بل زاد ونما شيئا بعد شيء ". فليس بإله تام إذ من المحال أن يجوز على الإله النمو والزيادة.
فإذا قلتم : تجسدت في بطن امرأة فقد صارت متجسدة بعدما لم تكن متجسدة، وهذا بعينه هو التغيير، وهو دليل الحدوث. ويؤدي أيضا إلى محال آخر. إذ المعنى لا يصير حسدا لأنه يؤدي إلى انقلاب الحقائق بأن يرجع غير القائم بنفسه قائما بنفسه وهذا محال، فإذا كان ذلك يستحيل في المعنى الموجود فلأن يستحيل في الأقنوم الذي هو خاصية الجوهر أولى.
وقولكم : " إله تام من إله تام " لا يستقيم، لأنكم لا يخلو قولكم من أمرين : إما أن تقولوا بحلول الإلهية فيه بعد ثلاثين سنة. وإما أن تقولوا : خرج من بطن أمه إلها تاما.
فإن قلتم : " إنما حلت الإلهية فيه بعد ثلاثين سنة "، فما خرج من بطنها إلها تام ولا هو إله تام.
وإن قلتم : " خرج من بطن أمه إله تام ". فقد كذبتم إنجيل يوحنا إذ قال في إنجيله : " أنه لما حضرت مريم وابنها يسوع في العشرين في كنا الجليل قالت له مريم : يا بني قد فرغ الخمر، فقال له يسوع : ومالي ولك يا امرأة ما دنا بعد وقتي أن أعمل معجزة " ٢. فهذا دليل على أنه ما كان تاما ولا كان إلها. لأن المعجزة إنما تكون للنبي والإله يفعلها على يده على وقف قوله تصديقا له. ويستحيل أن يجد الإله بوقت.
فقول يسوع : " ما دنا بعد وقتي "، دليل على أنه بشر وليس بإله.
وقولكم : " نور من نور ". فالنور عرض من الأعراض لا يقوم بنفسه. والباري تعالى قائم بنفسه منزه عن الأعراض.. ( نفسه : ٦٥-٦٦ )
١ - كذا في الأصل المطبوع..
٢ - متى : ٢٧/٤٦، مرقس : ١٥/٣٤، وعند لوقا لم يقل ذلك ولا عند يوحنا (محقق كتاب أدلة الوحدانية)..
٢٥٢- قالت النصارى : وافقنا المسلمون على أن المسيح عليه السلام كان يحيي الموتى. وإحياء الموتى مختص بالله تعالى. فيصبح قولنا : إن المسيح هو الله تعالى. ويبطل قول المسلمين أنه عبد من عبيد الله. لأن إحياء الموتى دليل قاطع على ذلك، ولذلك بعث الله النبيين على كثرتهم. ولم يكن فيهم من يحيي الموتى. فدل ذلك على أن الإحياء لا يكون إلا لله. ( ٢٥٢- الأجوبة الفاخرة : ٢١٠ إلى ٢١٣ )
ولذلك فإن النمرود لما تعدى طور العبودية حاجه إبراهيم عليه السلام أن الله يحيي الموتى- ويميت الأحياء- ولولا أن الإماتة والإحياء خاصان بالله تعالى لم يحسن ذلك من إبراهيم عليه السلام. وحيث وافق المسلمون على صحة ذلك قامت الحجة القاطعة على المسلمين بربوبية المسيح عليه السلام. وصحة قول النصارى، وأن المسلمين هم المشركون، لجعلهم مع الله من يشاركه في إحياء الموتى، وأن النصارى هم الموحدون لأنهم لم يشركوا مع الله تعالى غيره في خواص ملكه. وهو سؤال عظيم على المسلمين مثبت لشركهم، ووحدانية النصارى. وأعظم دليل على صحته تصديق القرآن لصحته بقوله تعالى :﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ﴾١ فجعل تعالى الإحياء لمن له الإنشاء. وعيسى عليه السلام أحياها ؛ فيكون أنشأها أول مرة، وهذا هو الله قطعا. والعجيب من المسلمين كيف يغفلون عن مثل هذا وهو صريح القرآن  !
والجواب : أنكم لم تفهموا قول الله تعالى في القرآن، ولا قول المسلمين : أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى. فإن المسلمين من أولهم إلى آخرهم متفقون على أن الإحياء والإماتة لا يكونان إلا لله تعالى. ويستحيل أن يجعل ذلك لأحد من الخلق كائنا من كان، وأن عيسى عليه السلام لم يحي قط ميتا ولا أبرأ أكمه ولا أبرص، وإنما الفاعل لهذه الأمور هو الله تعالى عند إرادة المسيح عليه السلام، لا أن المسيح عليه السلام كان يفعل ذلك. كما أن موسى عليه السلام لم يكن يقلب لون يده٢.
ولم يحول جمادية عصاه٣، بل الله تعالى هو الفاعل لذلك عند إرادة المعجزة في اقتران إرادتهما بهذه الآثار، لا أنها الفاعلان لها. فهذا معنى قوله تعالى وقول المسلمين أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى والأكمه والأبرص. ومن جملة جهالات النصارى اعتقادهم أنه عليه السلام كان هو الفاعل لنفس الإحياء والإبراء ولا عجب في ذلك فإن جهلهم أعظم من هذا.
فالذي حاج به إبراهيم عليه السلام النمرود إنما هو نفس الإماتة والإحياء اللتين هما بالله تعالى فليعلم ذلك.
ولذلك حسن احتجاجه عليه السلام.
وكذلك المراد نفس الإحياء في قوله تعالى :﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ﴾٤ فلا يحيي على الحقيقة إلا المنشئ فاندفع الإشكال واجتمعت النصوص من غير تناقض وصح مذهب أهل الإسلام، وأنهم هم الموحدون حقا، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. ( الأجوبة الفاخرة : ٢١٠ إلى ٢١٣ )
١ - سورة يس : ٧٩..
٢ - لعله يقصد قوله تعالى لموسى :﴿واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى﴾ طه : ٢١..
٣ - لعله يقصد قوله تعالى لموسى :﴿قال ألقها يا موسى فإذا هي حيى تسعى﴾ طه : ١٨-١٩..
٤ - سورة : يس : ٧٩..
٢٥٣- قوله تعالى :﴿ إلى الله ﴾ أي : مع الله. ( الذخيرة : ١/٢٥٥ )
٢٥٤- إن الذين اتبعوه ليسوا النصارى الذين اعتقدوا فيه أنه ابن الله، وسلكوا مسلك المتأخرين، فإن اتباع الإنسان موافقته فيما جاء به. وكون هؤلاء المتأخرين اتبعوه محل نزاع. بل متبوعوه هم الحواريون، ومن تابعهم قبل ظهور القول بالتثليث، وأولئك هم الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة. ونحن منهم وهم منا، ونحن إنما نطلب هؤلاء بالرجوع إلى ما كان عليه أولئك، فإنهم قدس الله أرواحهم، آمنوا بعيسى وبجملة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
وكان عيسى عليه السلام بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا ينتظرون ظهوره ليؤمنوا به عليه السلام، وكذلك لما ظهر عليه السلام جاءه أربعون راهبا من نجران، فتأملوه، فوجدوه هو الموعود به، فهؤلاء هم الذين اتبعوه، وهم المرفوعون المعظمون. وأما هؤلاء النصارى فهم الذين كفروا به مع من كفر١ وجعلوه سببا لانتهاك حرمة الربوبية، بنسبة واجب الوجود المقدس عن صفات البشر إلى الصاحبة والولد٢، الذي ينفر منها أقل رهبانهم، حتى أنه قد ورد أن الله تعالى إذا قال لعيسى عليه السلام يوم القيامة :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾٣ يسكت أربعين سنة خجلا من الله تعالى حيث جعل سببا للكفر به وانتهاك حرمة جلاله٤.
فخواص الله تعالى يألمون ويخجلون من اطلاعهم على انتهاك حرمة الله تعالى وإن لم يكن لهم فيها مدخل ولا لهم فيها تعلق. ( الأجوبة الفاخرة : ٩١ إلى ٩٣ )
١ - لعله يشير إلى قوله تعالى :﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم...﴾ المائدة : ١٩..
٢ - لعله يشير إلى قوله تعالى :﴿وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله التوبة : ٣١.﴾.
٣ - سورة المائدة : ١١٦..
٤ - لم أعثر على هذه الرواية فيما اطلعت عليه من التفاسير..
٢٥٨- دل على أمانته فيما دون القنطار بطريق الأولى، وأما ما دون القنطار، وإن كان منحصرا في رتب محصورة بين القنطار وأدنى الأوزان إلى الجوهر الفرد، والمحصور بين حاصرين متناه، فلا يكون مسمى العموم، فإن من شرط العموم أن يكون متناهيا، وهذا غير متناه فلا يكون مسمى العموم من هذا الوجه، غير أنه غير متناه من وجه آخر، فإن كان ما دون القنطار في الحقارة يعرض لأنواع من الموزونات غير متناهية، وكلها يشملها وصف الحقارة الذي هو أدنى في القنطار فيتصور وجوده في المعادن السبعة وأنواع جميع الجمادات والنباتات والحيوانات، وغير ذلك من مواد الممكنات. فما هو موصوف بأنه دون القنطار وإن كان وصفا محصورا غير أن معروضاته غير متناهية، وكلها تقتضي المفهوم بثبوت الأمانة فيها، فيكون هذا المفهوم يدل بطريق الالتزام على العموم في حكم الأمانة زائدا فيها في أفراد لا نهاية لها، وهذا هو مسمى العموم. ( العقد المنظوم : ١/٣٧٩ )
٢٥٩- قوله تعالى :﴿ لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ﴾. تقديره : " لا يؤده إليك إلا في زمان دوام قيامك عليه وملازمتك له ". فإمكان القيام عام في جميع أزمنة مداومتك له. ( نفسه : ١/٤٨٧ )
٢٦٠- تقديره : " لا يؤده في حالة من الحالات إلا في حالة ملازمتك له بالمداومة ". فإن قلت : ما معنى " ما " هاهنا ؟.
قلت : يحتمل أن تكون مصدرية، وهي مع ما بعدها من الفعل بتأويل المصدر، والمصدر مؤول باسم الفاعل المنصوب على الحال تقديره : " إلا دائما في ملازمته ".
ويحتمل أن تكون زمانية، ويكون الاستثناء واقعا من الأزمنة لا من الأحوال، فيكون حينئذ من هذا الباب، والتقدير : " لا يؤده إليك في زمن من الأزمنة إلا في زمان مداومتك له ". ( الاستغناء : ٥٣٩ )
٢٦١- قوله تعالى :﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ تقديره : أخبرنا تعالى أنهم يستحلون مالنا. ( الذخيرة : ١٠/٢٢٦ )
٢٦٢- إن معنى الآية أن لا يتعمد اليمين الكاذبة ليقطع بها مال الغير. ( الذخيرة : ١١/٧٨ )
٢٦٣- هذه المادة وهي : الإقرار والقرار والقر والقارورة ونحو ذلك : من السكون والثبوت، وأن الإقرار يثبت الحق والمقر أثبت الحق على نفسه. ( نفسه : ٩/٢٥٧ )
٢٦٤- يستحب أن تكون – الصدقة- من أنفس المال لقوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾. ( نفسه : ٦/٢٥٩ )
٢٦٥- فيه من الأسئلة : كيف جمع بين " كل " و " لام التعريف ". وكلاهما للعموم، والعموم لا يعمم مرة أخرى، وإلا لزم الجمع بين المثلين أو تحصيل الحاصل ؟ والطعام هل هو مصدر أو اسم المطعوم ؟ وكيف ينتظم اسم كان وخبرها، والطعام لا يصدق عليه أنه حل، لأن الحل مصدر، فلا يكون غير المصدر المتقدم إن كان الطعام مصدرا، ولا يكون عم الطعام إن كان المراد المطعوم ؟ وما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ وكيف له أن يحرم ما لم يحرمه الله تعالى وينشئ شرعا من قبل نفسه ؟ وهل ذلك يجوز في شرعنا أم لا ؟ وهل الاستثناء متصل أم لا ؟
والجواب : الأصل في " كل " أن تدخل على النكرات من أسماء الأجناس، نحو : " كل رجل، وكل درهم " لتقييد العموم في ذلك الجنس ودخولها على المعرف باللام مجاز في التركيب، ودخلت لتوكيد العموم المستفاد من لام التعريف والتأكد من مقاصد العرب، وإنما يلزم اجتماع المثلين أو تحصيل الحاصل أن لو تجدد بها تعريف غير التعريف الأول أو أنشأت تعريفا حتى يلزم ذلك، بل أكدت التعريف الحاصل فقط.
وأما الطعام فأصله اسم للشيء المطعوم، وهو ما يوجد طعمه في حاسة الذوق على وجه يكون ملائما لمزاج الإنسان احترازا مما يستطعم من الأدوية والعقاقير ونحوها، فإنها لها طعوم في حاسة الذوق ولا يطلق عليها أنها طعام في عرف الاستعمال.
ويحتمل أن يكون الطعام مصدرا محذوف الزوائد، أصله : إطعام، نحو النبات في قوله تعالى :﴿ والله أنبتكم من الأرض نباتا ﴾١، وأصله : إثباتا، وهو كثير في اللغة، وهو وإن كان جائزا أن يراد، لكن الأصل عدم الحذف.
وأما انتظام اسم " كان " وخبرها، فإن أصل الحل أن يكون مصدرا، تقول : " حل الشيء يحل، حلا، وأحله الله تعالى يحله إحلالا ". فالحل مصدر الفعل القاصر، والإحلال مصدر الفعل المتعدي. والمراد هاهنا أحد الأمرين :
- إما أن يكون تقدير الكلام : " كان الطعام محللا ". فعبر بالمصدر عن المفعول.
- وإما أن يكون على حذف مضاف تقديره : " كل الطعام كان ذا حل ". فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. فبهذا الطريق ينتظم اسم كان وخبرها.
وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فاختلف فيه، فقال ابن عباس : " أصابت إسرائيل عليه الصلاة والسلام الإنسى، فجعل الله تعالى إن شفاه الله تعالى من ذلك أن لا يطعم عرقا، فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم " ٢ وقاله قتادة ومجاهد وغيرهم.
وعن ابن عباس أيضا وجماعة كثيرة معه، أن الذي حرم إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها٣ ولم يختلفوا أن سبب التحريم مرض أصابه.
وفي الحديث : " أن رسول الله عليه السلام ناظر اليهود وقالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال لهم : " أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه، فنذر لله تعالى نذرا إن أعفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب ألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم " ٤. وظاهر الأحاديث والتفاسير ذلك، وأنه عليه السلام فعل ذلك تقريبا بترك الرفاهية والتنعم والتزام الزهد في الدنيا، كما نهى عمر بن الخطاب عن التردد للمجازر، : فقال : " إياكم وهذه المجازر فإنها لها ضراوة كضراوة الخمر ". وأما تحريمه العروق فبغضه لها لما أصيب بعرق النسا، كما يعتري البشر في كل شيء يتأذون منه لا على وجه القربة.
وأما أن له أن يحرم ذلك، أما بالنذر كما تقدم في الإبل فهو سبب شرعي، ويحتمل أن يكون النذر عندهم سببا ملزما كما في الشريعة المحمدية، فقد نذرت أم مريم ما في بطنها محررا لله تعالى كما ورد ذلك عنها في القرآن الكريم٥.
وأما العروق فيتخرج الأمر فيها على قاعدة مختلف فيها بين علماء الإسلام، وتسمى قاعدة العصمة، وهي أن الله تعالى هل يجعل للنبي أو العالم أنه يجتهد في المصالح ووجوه النظر لا في القواعد الشرعية، فأي شيء رآه مصلحة يكون حكما لله تعالى، ويقول الله له : احكم بأي شيء شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب، كما وردت الأدلة في مجموع الأمة أنهم أي شيء حكموا به يكون حقا لا خطأ فيه، فيجوز أن يكون ذلك وقع ليعقوب عليه السلام من الله تعالى :
- إما في شرعه، وإما باعتبار شرع تقدمه فتناوله، فلما حرم ذلك نظرا من نفسه بغير مدرك شرعي كان ذلك حكم الله تعالى بناء على هذه القاعدة.
- وإما أن ذلك يجري في شرعنا، إما بالنذر فيما هو مندوب إليه، كالزهد والتنفل من الشهوات المبطرة للنفوس والموجب لاستصلاحها، فذلك يلزم عندنا، ويصير واجبا.
وأما مجرد ترك المشتهي من غير أن يترتب عليه لا قمع هوى مذموم ولا بعد عن اكتساب مأمور بتركه، ولا مطلوب شرعي أصلا، فلا يلزم عندنا إلا على تلك القاعدة التي حكاها الأصوليون. والمشهور عدم اعتبارها. وقد حكاها الإمام فخر الدين في آخر المحصول٦ فهذا تلخيص ما يجوز في شرعنا وما لا يجوز.
وأما الاستثناء فاختلف فيه، فالمشهور أنه متصل، وتقدير الكلام : " إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فإنه ليس يحل لبني إسرائيل، وإن إسرائيل عليه السلام لما حرم ذلك جاءت التوراة بتحريمه على بني إسرائيل ". فقد حكم بنقيض ما تقدم قبل " إلا " وعلى جثه٧. وقيل : إلا ما حرم إسرائيل على نفسه كان حراما عليه خاصة " فلم يحكم على هذا بالنقيض، فكان منقطعا وهو ضعيف، بل ما حرم إسرائيل على نفسه حرمه الله تعالى على بني إسرائيل. وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، اسمان لمسمى واحد. ( الاستغناء في الاستثناء : ٣١٠ إلى ٣١٣ )
١ - سورة نوح : ١٧..
٢ - ن : الدر المنثور : ٢/٩١-٩٢..
٣ - ن : تفسير ابن كثير : ١/٥٧١..
٤ - أخرجه أحمد في مسنده : ١/٣٧٣-٣٧٨..
٥ - قوله تعالى :﴿إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم﴾ آل عمران : ٣٥..
٦ - قال الإمام الرازي :"اختلفوا في انه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أو للعالم : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب" ثم أفاض في ذكر مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة، ن: المحصول: ٦/١٣٧. وما بعدها..
٧ - كذا في المصدر المطبوع..
٢٦٦- نزل سنة تسع. ( الذخيرة : ٣/١٨١ )
٢٦٧- يتناول الناس ويعمهم أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ويكون حقيقة لأنهم متعلق الحكم لا أن صفاتهم محكوم بها. ( العقد المنظوم : ٢/٩١ )
٢٦٨- هو عام، فيتناول الكافر الأمر بالحج، وإذا تناوله الأمر تناوله النهي. ( شرح تنقيح الفصول : ١٦٤ )
٢٦٩- في الصحاح : " الحج في اللغة : القصد، ورجل محجوج : مقصود. وحج فلان فلانا أي : أطال الاختلاف إليه. والحج بالكسر : الاسم. والحجة بالفتح : المرة الواحدة، وهو شاذ، لأن القياس الفتح، وهي أيضا شحمة الأذن " ١ قال سند : الحج : التردد للقصد. قال الخليل : هو كثرة القصد، وسمية الطريق محجة لكثرة التردد، ووافقه صاحب المقدمات. وقيل : إنما سمي الحاج حاجا لأنه يتكرر للبيت لطواف القدوم والإفاضة والوداع. والمصدر : حج. بفتح الحاء وكسرها. وقرئ بهما في قوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾. والحجيج والحجاج : جمع حاج، ثم نقل الحج في الشرع إلى قصد مخصوص كسائر الأسماء الشرعية. ( الذخيرة : ٣/١٧٣ )
٢٧٠- ترتيب الحكم على الوصف يدل على سببية ذلك الوصف لذلك الحكم كقولنا : زنا فرجم، وسها فسجد، وسرق فقطعت يده، وقد رتب الله تعالى الوجوب بحرف " على " مع الاستطاعة. فتكون سببا لهم. ( نفسه : ٣/١٧٦ )
٢٧١- مثال البيان بالفعل تبيينه عليه السلام قوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ بحجه عليه السلام. ( شرح تنقيح الفصول : ٢٧٨ )
١ - الصحاح الجوهري : ١/٣٠٣-٣٠٤..
٢٧٢- لما كان الخطاب فرض الكفاية يقتضي من حيث اللغة خطاب غير المعين كقوله تعالى :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ وقوله :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ﴾١ ونحو ذلك مما يقتضي مخاطبا غير معين جعل صاحب الشرع الوجوب في فروض الكفايات متعلقا بالكل ابتداء على سبيل الجمع، فإذا فعل البعض سقط عن الكل وسبب تعلقه بالكل ابتداء لئلا يتعلق الخطاب بغير معين مجهول فيؤدي ذلك إلى تعذر الامتثال، فإذا وجب على الكل ابتداء انبعث داعية كل واحد للفعل ليخلص عن العقاب. ( الفروق : ٢/١٧ )
١ - سورة التوبة : ١٢٢..
٢٧٣- لا يقول المورقون١ في الحلى : أبيض، لأن البياض على زعمهم هو البرص، وليس كما قالوا، قال الله تعالى :﴿ يوم تبيض وجوه ﴾، وليس المراد البرص، وإلا لانعكس المدح، وقال الشاعر٢ :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه*** شمال٣ اليتامى عصمة للأرامل
( الذخيرة : ١٠/٤٢٦-٤٢٧ )
١ - يقال رجل مورق ووراق : صاحب ورق. أي : المال. ن : اللسان : ١٠/٣٧٦..
٢ - هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم. والبيت من قصيدة لامية طويلة أوردها ابن هاشم في السيرة : ١/٢٧٢. مطبعة مصطفى الحلبي..
٣ - نملهم نملا : أطعمهم وسقاهم وقام بأمرهم. ن : اللسان : ١١/٩٤..
٢٧٤- نص الله تعالى في هذه الرسالة العظيمة على تفضيلنا على جميع الأمم فلو لم ينزل الله تعالى هذه الآية في القرآن لكنا مفضلين بها لا فيها، فلما أنزلها صرنا مفضلين بها وفيها.
ومعنى فضلنا بها : أن مخاطبة الله تعالى لعباده تشريف لهم، فنحن مفضلون بها، أي بالمخاطبة بها ومعنى فيها : أي أنزل فيها قوله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾. ( شرح تنقيح الفصول : ٣ )
٢٧٥- ذكرهم في سياق المدح يدل على أنهم على الصواب، والصواب يجب إتباعه، فيجب إتباعهم ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، واللام للعموم، فيأمرون بكل معروف فلا يفوتهم حق لأنه من جملة المعروف، ولقوله تعالى :﴿ وينهون عن المنكر ﴾، والمنكر " باللام " يفيد أنهم ينهون عن كل منكر فلا يقع الخطأ بينهم ويوافق عليه لأنه منكر. ( نفسه : ٣٢٤ )
٢٧٦- هذه الباء تحتمل أيضا المصاحبة كما تقدم١، وتحتمل السببية، وهو الظاهر. وتقدير الكلام : " الذلة لازمة لهم مع كل الأسباب المتخيلة إلا هذا السبب. فإن الذلة تنتفي عنهم بسببه ".
فإن قلتم : هل الحبلان المذكوران واحد أو متعددان ؟ وما معنى الحبل في هذه الآية ؟ قلت : قال الزجاج٢ : " الحبل هاهنا : العهد " ٣ أي : هم مقتولون مذلون مهانون إلا أن يحصل هذا السبب.
قلت : ويحتمل أن يكون هذان الحبلان واحدا، فإن العهد واحد في نفسه، وله نسبة إلى الله تعالى بالمشروعية وإلى الخلق بالمباشرة، فلذلك حسن التعدد في الإضافة في اللفظ.
ويحتمل أن يكون حبلين، ويكون حبل الله تعالى : إذنه للناس في المعاهدة، وحبل الناس : المباشرة والمعاهدة، فإذا أذن الله تعالى وعقد المؤمنون لهم العهد عصمت دماؤهم وأموالهم وذهبت ذلة وخوف الموت.
وسمي العهد حبلا مجازا، من باب مجاز التشبيه، لأن الحبل شأنه أن يصل بين الشيئين، وهذا العهد وصل بين المؤمنين واليهود حتى صاروا كالملة الواحدة من جهة عدم القتل والقتال، وهذا هو شأن الملة الواحدة، ووقع الأمن والأمان. ( الاستغناء : ٤٩٦-٤٩٧ )
١ - يقصد الآية ٢٥٤ من سورة البقرة : انظر : ص : ٦٧. من التفسير المجموع من هذه الرسالة..
٢ - هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو واللغة (ت : ٣١١ هج) من مصنفاته :"معاني القرآن" و"الاشتقاق" و"الأمالي" و"إعراب القرآن" ن : معجم الأدباء : ١/٤٧. الأعلام : ١/٤٠. إنباه الرواة : ١/١٥٩..
٣ - معاني الزجاج : ١/٤٥٧..
٢٧٧- قال عمر رضي الله عنه : سموا أهل الكتاب ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم، ونهى أن يتخذ منهم كاتبا١ قال الله تعالى :﴿ لا تتخذوا بطانة من دونكم ﴾ ونهى عنه عثمان رضي الله عنه. ( الذخيرة : ٣/٤٩٧-٤٩٨ )
١ - تفسير ابن كثير : ١/٥٩٦..
٢٧٨- في هذه الآية من المسائل : الضمير في " جعله " على أي شيء يعود ؟ وما معنى " البشرى " ؟ وكيف صح الانتظام منها ومن الضمير ؟ فإن من شرط مفعولي " جعل " أن يكونا لعين واحدة. وكيف تصحيح هذا الاستثناء ؟
والجواب : الضمير عائد على ما تقدم من إمداد الملائكة، أي : " ما جعل الله تعالى ذلك الإمداد إلا بشرى ". والبشرى مصدر مؤنث مثل الذكرى ولنا في انتظامه طريقان :
- أحدهما : أن تضمر مضافا محذوفا في الضمير، تقديره : " ما جعل الله تعالى ذكره ". أي : " الإعلام به إلا بشرى ". فأخبر عن المصدر الذي هو الذكر بأنه بشرى. والبشرى قول والذكر قول، فانتظم الكلام.
- أو تضمر " ذا " التي ليست في " بشرى "، تقديره : " ما جعله الله إلا ذا بشرى "، فيقع الاتحاد والانتظام بين الإمداد و " ذا " الذي بمعنى : صاحب. وينتظم الكلام. ولا يستقيم أن نجعل البشرى بمعنى مبشرا به بتأويل المصدر باسم الفاعل لأن المعنى يأباه، لأن مقصود الآية : " أن تستبشروا في أنفسكم أيها المؤمنون وتقوى قلوبكم بأن الله ناصركم على عدوكم فتنهضوا للقتال ".
فالمراد الاستبشار لا نفس البشرى من حيث هي مخبر عنها، فالمبشر به قد لا يقع به استبشار، فلذلك عدلت عن اسم الفاعل والتقدير به.
تقدير الآية : " ما جعل الله الإمداد إلا استبشارا لكم، وإلا فالله تعالى لا يحتاج في نصركم للملائكة، وما النصر إلا من عند الله. إن فعله تعالى فلا حاجة إلى سبب عادي، وإن لم يفعله تعالى لا تفيد الأسباب العادية شيئا ". فيصير المعنى : " أما الجعل فلم يفعل لسبب من الأسباب إلا لحصول تقوية قلوب المؤمنين ووثوقها بالنصر وحسن العاقبة، وأن الله مولاهم وناصرهم على عدوهم، ولم يحمل الإمداد لسبب آخر مما جرت به عوائد الملوك من الاستعانة بجندهم ولا غير ذلك من الأسباب ". ( الاستغناء : ٤٩٧-٤٩٨ )
٢٧٩- قوله تعالى :﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ هذا الاستثناء مفرغ لتوسطه بين المبتدأ والخبر، وهو في الحقيقة يرجع إلى الاستثناء من الأسباب. والتقدير : " ما النصر بسبب من الأسباب ولا بمؤثر موجب إلا من قدرة الله تعالى ". فالمستثنى منه أسباب، والمستثنى سبب مثبت وغيره منفي.
وفيه أسئلة، وهي بالألف واللام في " النصر " هل هي العهد أو استغراق الجنس ؟ وهل اللام في قوله تعالى :﴿ ليقطع ﴾ يتعلق بالنصر على التقديرين أو على أحدهما ؟ أو يتعلق بغير النصر ؟ ولم سميت الطائفة طرفا ؟
الجواب : إن هذه الآية في أمر بدر ووقعتها، فإن كان اللام للعهد فينصرف لنصر المسلمين بدر ليقطع طرف من كفار قريش، ويصعقوا من قتال المسلمين، ويضطروا للإسلام قهرا أو اختيارا.
وإن كانت اللام للاستغراق والعموم، يتعين حمل قطع الطرف على العموم من المسلمين والكافرين، فإن الحرب سجالا والنصر في الجميع من عند الله تعالى، ويقطع تارة طرفا مؤمنا لنقله لدار الكرامة بدرجة الشهادة، وتارة طرفا كافرا لدار الشقاوة والمهانة.. ( نفسه : ١٦٩-١٧٠-١٧١ )
٢٨٠- الكبت : الخزي، وأصله : الصرع لليدين. ثم استعمل في مطلق الخزي والذلة. وقيل : التاء بدلا من الدال.
وأصل كبته : " كبده، أي : فعل به ما يؤذي كبده. وإذا هزم الله تعالى الكفار فلابد من القتل والهزيمة والمذلة.
وسميت الطائفة طرفا من باب مجاز التشبيه، كأن الكفار كلهم رقعة واحدة أو شقة، والذي يقاتل المسلمين طرفها، فإذا قتلوهم فقد قطعوا ذلك الطرف من تلك الشقة الخبيثة. ( الاستغناء : ١٧٠-١٧١ )
٢٨١- كان رسول الله عليه السلام يدعو على مضر، إذ جاء جبريل عليه السلام فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت، فسكت. فقال : " إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا، وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا :﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾ ثم علمه القنوت " ١. ( الذخيرة : ٢/٢٣١-٢٣٢ )
١ - ورد في سبب نزول هذه الآية روايات أخرى للبخاري ومسلم وأحمد وابن إسحاق حسب ما ذكره السيوطي في "لباب النقول" : ٤٦-٤٧..
٢٨٢- إذا غضبت من شيء من أمر الدنيا فاذكر ثواب الله تعالى على كظم الغيظ :﴿ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾. ( ٢٨٢- نفسه : ١٣/٣٦١ )
٢٨٣- يقال فلان مصر على العداوة أي : مصمم بقلبه عليها وعلى مصاحبتها ومداومتها ولا يفهم في عرف الاستعمال من الإصرار إلا العزم والتصميم على الشيء. والأصل عدم النقل والتغير فوجب أن يكون ذلك معناه لغة وشرعا، هذا هو الذي ترجح عندي١. ( الفروق : ٤/٦٧-٦٨ )
١ - قال الإمام القرافي :"ما حقيقة الإصرار الذي يصير الصغيرة كبيرة؟ وقع البحث فيه مع جماعة من الفضلاء. فقال بعضهم : هو أن يتكرر الذنب منه سواء كان يعزم على العود أم لا. وقال بعضهم : إن تكرر من غير عزم لم يكن إصرار بأن يفعل الذنب أول مرة وهو لا يخطر له معاودته لداعية متجددة فيفعله كذلك مرارا فهذا ليس إصرارا. وتارة يفعل الذنب وهو عازم على معاودته فيعاوده بناء على ذلك العزم السابق. فهذا هو الإصرار الناقل للصغيرة لدرجة الكبيرة". ن : الفروق : ٤/٦٧..
٢٨٤- أي : الصابرين على آلام المجاهدات. ( الذخيرة : ٥/٢٩٨ )
٢٨٥- إنما رأوا القتال وهو الذي كانوا يتمنونه فجعله موتا لوجود مظنته. ( نفسه : ٧/١٣٠ )
الاستثناء مفرغ لتوسطه بين المبتدأ والخبر، لم يتم الكلام قبله، وهذا هو معنى المفرغ، والاستثناء فيه في المعنى من الأحوال والصفات.
والتقدير : " ما محمد في صفة ولا حالة إلا في حالة الرسالة المتعقبة بالفناء أسوة بغيره من الرسل "، فالمستثنى والمستثنى منه من صفات وأحوال، وهو متصل.
ومثل هذا يدهش السامع عند قول السائل : هنا استثناء، فما المستثنى والمستثنى منه ؟ فتجيب بهذا. فكأن الصفات كلها قد نفيت باللفظ إلا هذه الصفة، وهي الرسالة المتعقبة بالموت حتى تقوم الحجة على الكفار بأن موت الرسول صلى الله عليه وسلم لا يوجب خللا في شريعته عليه السلام.
و " خلت " معناها : ذهبت، وأصله : الدخول في الخلاء من الأرض، وهو الفارغ، فالمعدوم يشبه الداخل في أرض هذا شأنها في أن كل واحد منهما غاب عن الأبصار.
٢٨٦- الباء فيه للسببية. والتقدير : " وما كان لنفس أن تموت بسبب من الأسباب إلا بإذن الله " أي : بقدرة الله تعالى، فهو السبب الموجب لموتها لا لسبب آخر غيره، فهو استثناء من غير مذكور، وهو استثناء من أعم العام من الأسباب. ( الاستغناء : ٤٩٨ )
٢٨٧- فيه أسئلة : " إن كان " هل هي ناقصة أو تامة أو زائدة ؟ وهل تقبل هذه الأقسام كلها أم لا تقبل إلا الناقصة ؟ وهل يتعين أن تكون " إن " وما بعدها خبرا، أم يجوز أن تكون اسما ؟ وهل أحدهما أرجح أم لا ؟ وما المستثنى وما المستثنى منه في المعنى ؟ وما الفرق بين الذنب والإسراف ؟ وما الفرق بين تثبيت القدم والنصر على الكفار ؟ وهل ذلك تأكيد أم إنشاء ؟.
الجواب : أما " كان " فعلى قراءة الجمهور بنصب " قولهم " الأول، فيتعين أن تكون ناقصة، وخبرها مقدم على اسمها.
وقرأ جماعة من القراء بالرفع في " قولهم "، فعلى القراءة يحتمل أن تكون " كان " تامة، ويكون " قولهم " المرفوع فاعلا بها، ويكون " أن قالوا " في موضع نصب على الحال تقديره : " ما وجد قولهم إلا في هذه المقالة ". أي : " ما وجد قولهم إلا كائنا في أن قالوا "، ثم حذف حرف الجر من " أن ".
ويختلف النحاة في " أن " بعد حذف " من " منها، هل هي في موضع نصب على قاعدة حذف حرف الجر في مثل قوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا ﴾١ ومنهم من يقول : هي في موضع جر، وأن هذا من خصائص " أن " و " أن ".
ويحتمل أن تكون " كان " على هذه القراءة أيضا ناقصة، و " أن " وصلتها في موضع نصب على خبر " كان "، ويجوز على هذه القراءة أن تكون زائدة أيضا، ويكون التقدير : " ما قولهم إلا أن قالوا ".
فهذه الاحتمالات إنما تأتي على هذه القراءة.
أما مع النصب فيتعذر إلا الناقصة، لأن الحال لا تتقدم على " أن " والزائدة يتعين معها الرفع، والتقدير النصب. وأما إضمار اسمها فيها بمعنى الشأن أو القصة فيتعذر لأجل " إلا "، فإن ما بعد ضمير الشأن يتعين تفسيره بجملة، ومتى كان ما بعدها جملة مفسرة لذلك الضمير بطل معنى " إلا "، فلا يتصور ضمير الشأن.
والمختار عند النحاة نصب الأول على الخبر وهي قراءة الجمهور بسبب قاعدة، وهي أن اسم " كان " ينبغي، أن يكون أعرف من خبرها، ولا يكون الخبر أعرف من الاسم. قالوا : و " قولهم " الأول يمكن أن ينعت، فنقول : " ما كان قولهم السابق أو الأول أو الحسن إلا أن قالوا ".
و " أن " وما بعدها لا يقبل النعت فأشبه المضمرات من هذا الوجه، والضمير أعرف من المضاف للمضمر، والمشابه للأعراف مقدم على غيره فقدم " أن " وما بعدها للاسمية على " قولهم "، وجعل " قولهم " هو الخبر.
هذا توجيه قراءة الجمهور، وأما القراءة الأخرى أن " أن " وما بعدها في تأويل المصدر المضاف تقديره : " ما كان " قولهم " ألا " قولهم : " ربنا ". فقد استويا وبطل رجحان الأول، بل يترجح أن يكون الأول أعرف ؛ لأنه اسم معرفة بالإضافة بغير مراء.
وأما " أن " وما بعدها فهي اسم بالتأويل والتقدير. وهو في اللفظ جملة فعلية. والأصل في الجملة أن تكون نكرة، بدليل أنا ننعت بها النكرة، وتقع حالا بعد المعرفة.
وأما المستثنى والمستثنى منه : فإن الاستثناء هاهنا من المحال، وتقريره : أن القول أمر كلي يتصور أن يقع في الخير والشر، والطاعة والمعصية ويتشخص في مجال من جزئيات القول لا تتناهى، كما يتشخص مفهوم الإنسان الكلي في زيد وعمر، وغيرهما من الأشخاص التي لا نهاية لها.
والقاعدة : أن كل أخص فهو محل لأعمه، والأعم الكلي حال في جميع جزئيات الأقوال إلا في هذا القول الجزئي. فاستثني هذا المحل الجزئي من جميع المحال الجزئية، وحكم على ما عداه بالنفي وعليه بالثبوت.
فالمستثنى والمستثنى منه كلها محال " القول " المضاف إليهم، غير أن بعضها منفي، وبعضها ثابت، كقولك : " ما قام أحد عاقل إلا زيد "، فالجميع عقلاء، غير أن زيدا هو القائم وحده وما عداه نفي القيام عنه. كذلك هاهنا، ويكون الاستثناء متصلا من الجنس. فاعلم ذلك فإن هذه أغوار يعز تحريكها وتلخيصها.
والفرق بين الذنب والإسراف : أن الإسراف أعظم جناية من الذنب، فيكون الإسراف يتناول الكبيرة والذنب الصغيرة، فسألوا مغفرة الأمرين. قال الضحاك٢ وابن عباس : هما مترادفان للتأكيد وأما قولهم :﴿ ثبت أقدامنا ﴾ فيحتمل أن يكون مرادفا لما قبله من طلب المغفرة، فيصير معناه : " ثبت أقدامنا على طاعتك "، ويكون تثبيت القدم على هذا التقدير مجازا على سبيل الاستعارة كقوله تعالى :﴿ لهم قدم صدق عند ربهم ﴾٣.
ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من النصر على الكفار، فيلزم معناه : ثبت أقدامنا في الحرب حتى لا ننهزم، ورتب لنا على ذلك النصر. فإن ثبوت القدم سبب للنصر عادة، كما أن الهزيمة سبب للخذلان عادة. وعلى هذا التقدير يكون إنشاء لا تأكيدا. ( نفسه : ١٧١ إلى ١٧٤ )
١ - سورة الأعراف : ١٥٥..
٢ - هو الضحاك بن مزاحم البلخي الخراساني، أبو القاسم: مفسر (ت : ١٠٠ هج) ن : ميزان الاعتدال : ١/٤٧١. الأعلام : ٣/٢١٥. تهذيب التهذيب : ٤/٤٥٣..
٣ - سورة يونس : ٢..
٢٨٨- تقديره : " فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، مرتين " ١. ( العقد المنظوم : ٢/١١٦ )
١ - قال القرافي ك "قد نص ابن جني في كتابه :"الخصائص" أن العرب متى زادت في كلامها حرفا فهو مؤكد. ومقو وقائم مقام إعادة تلك الجملة مرة أخرى (ن : الخصائص : ٢/٢٨٢). وأضاف :"ومعنى زيادة الحرف أنه لم يستعمل في معنى يخصه لا حقيقة ولا مجازا، لا أنه لا يفيد فائدة، بل يفيد فائدة هي التقوية والتأكيد". ن : العقد : ٣/٩٠٥..
٢٨٩- قيل : إن القائل واحد. ( نفسه : ٢/١٢١ )
٢٩٠- قيل : الجماع أبو سفيان، وهو المراد بالناس١. ( شرح التنقيح : ٢٢٥ )
١ - "الناس" الأول هم ركب عبد القيس، كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه من أحد إلى حمراء الأسد. و"الناس" الثاني هم : أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأحد. ن : جامع البيان للطبري : ٤/١٤٨. والمحرر الوجيز لابن عطية : ٣/٢٩٧. .
٢٩١- إن تكذيب من قبله لا يتوقف على هذا الشرط، بل سبق وتقدم، وتقدير الجواب : " وإن يكذبوك فتسل، فقد كذبت رسل من قبلك ". فتكذيب من قبله دليل على تسليته. وسبب تسليته قائم مقامه وإلا فالماضي لا يعلق على المستقبل. ( الفروق : ١/١٠٥ )
٢٩٢- قوله تعالى :﴿ جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ﴾ : اعلم أن اللام في لسان العرب تكون لاستغراق الجنس، نحو : " حرم الله الخنزير والظلم "، وللعهد، نحو قولك لمن رآك أهنت رجلا : " أكرمت الرجل بعد إهانته ".
ولها محامل كثيرة ليس هذا موضعها، فيحتمل في كل مكان على حسب ما يليق بها، فهي في قوله تعالى :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾١ للعهد، لأنه موعود به مذكور على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، فصار معلوما، فأشير إليه بلام العهد ؛ وهي في قوله تعالى :﴿ بالبينات والزبر والكتاب ﴾ للجنس، إشارة إلى جميع الكتب المنزلة المتقدمة فليس المراد هاهنا المراد ثمة. ولا يمكن أن يفهم القرآن الكريم إلا من فهم لسان العرب فهما متقنا. ( الأجوبة الفاخرة : ٢٠١ )
١ - سورة البقرة : ١..
٢٩٣- قوله تعالى :﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ : الاستثناء مفرغ لتوسطه بين المبتدأ وخبره.
وفيه أسئلة : كيف صح الإخبار عن الحياة الدنيا بالغرور ؟ والحياة عرض خاص مضاد للموت مباين لحقيقته للغرور، وأحد المتباينين لا يكون خبرا عن الآخر، إذ من شرط المبتدأ والخبر أن يكونا لعين واحة. و " الدنيا " مشتقة من أي شيء ؟ وكيف صح حصر الدنيا في الغرور ؟ وذلك يقتضي أنها لا تتصف بذلك مع أنها مزرعة الآخرة ومعدن لحصول النبوة والرسالة ؛ واكتساب الولاية والسيادة، وفيها تكتسب الدرجات العليا والأحوال السميات والمعاملات والدينيات والأخرويات. وهي دار التشريف بالتكليف، وبذل الأموال والنفس في طاعة الرب سبحانه وتعالى إلى غير ذلك من المزايا الحميدة والآثار الجميلة، وهذا كله يأبى الحصر في الغرور. وما هو المتاع ؟ وما هو الغرور ؟ وما هو المستثنى وما هو المستثنى منه ؟ وفيه ستة أسئلة.
الجواب : أما صحة الإخبار عن الحياة بالمتاع مع تباين الحقائق فلا يصح إلا بأحد أنواع من المجاز أو الحذف، إما نقول : " وما الحياة الدنيا إلا ذات غرور "، فتحذف مضافا من الخبر، أو تحذف من المبتدإ مضافا، تقديره : " وما انتفاع الحياة الدنيا إلا متاع الغرور "، فيتحد المبتدأ والخبر حينئذ. أو نقول : " ما الحياة الدنيا ممتعة غارة "، فتؤول الخبر باسم الفاعل.
والاشتقاق قد يكون من غير المصادر، نحو : " سوف به "، إذا قال له : " سوف- وحاشاه، إذا قال له : حاشاك، واسود الثوب فهو مسود ".
وهذه الأمور ليست مصادر، أو تجعلها نفس الغرور ونفس المتاع الغار على وجه المبالغة، كأنها لغلبة ذلك عليها صارت نفسه. ومنه قولهم : " ما هي إلا إقبال وإدبار " على أحد هذه التأويلات. فهذه طرق أربعة في تصحيح هذا لهذا المبتدأ.
وأما اشتقاق الدنيا : فمن الدنو الذي هو القرب، لأنها الحياة القريبة، وحياة الآخرة هي البعيدة بالنسبة إلينا، وتقدم هذه على تلك، هذا هو المشهور.
ورأيت بعض الفضلاء قال : يحتمل أن يكون مشتقة من الدون الذي هو الرديء الدنيء، ووزنها من الأول أو الثاني : فعلى. أما " دنيا أو دنوى، فهي من الأول من ذوات الياء، ومن الثاني من ذوات الواو " دنوي، ثم أعلت وقلبت واوها ياء.
وأما حصر الدنيا في متاع الغرور فهو مبني على قاعدة، وهي أن الحصر له حالتان : تارة يقع مطلقا لا يلاحظ فيه بعض المتعلقات وبعض الاعتبارات، وتارة نلاحظ فيه بعض الاعتبارات.
وأما المتاع في اللغة فهو ما ينتفع به ويستمتع من أي نوع كان، كما قال الشاعر لما زار غير صاحبه في الفلاة :
وقفت على قبر غريب بقفرة*** متاع قليل من حبيب مفارق
فجعل حصول مقصده من تلك الزيارة متاعا.
وأما الغرور في اللغة، فله معنيان : أحدهما : الخداع، والرجاء الباطل، وما ظهر مبدؤه وخفيت عاقبته الردية. والحياة الدنيا كذلك، فإن أموالها وجاهها وما فيها آيل إلى الزوال، وعاقبته في الغالب الوبال والنكال، ومبدؤه مزخرف مزين يستميل النفوس ويعجبها، وهذا هو التفسير المشهور في الآية عند الجمهور.
وقال عبد الرحمن بن باسط : المعنى الثاني، وهو زاد للراعي، يزود الكف من التمر أو الشيء الحقير من الدقيق أو غيره، يشرب عليه الماء أو اللبن.
وهذا المعنى أيضا مشهود في كلام العرب ومنه قولهم في المثل : " عش ولا تغتر " أي : " لا تجتز بما لا يكفيك ". والحياة الدنيا كذلك شيء حقير بالنسبة إلى الآخرة.
وأما المستثنى والمستثنى منه فجوابه : أن " إلا " لا تنفك بدا عن الإخراج المحقق أو المتوهم كيف كانت في المفرغ أو المشغول أو المتصل أو المنقطع، كما أن " غير " لا تنفك عن الغاية نصبت أو عطفت أو ابتدئ بعدها الكلام، وهاهنا الاستثناء من الصفات والأحوال في المعنى لا في اللفظ، تقديره : " إن الدنيا يتوهم أنه توجد غارة ومسعدة ومبلغة لدار الكرامة ومقربة من الله تعالى إلى غير ذلك من الأحوال المتوهمة والواقعة أيضا ". فقضى على جميع تلك الأحوال بالنفي باعتبار من آثرها، واستثنيت له هذه الحال من أحوالها ومن صفاتها، وإنما سبق هذا الاستثناء هاهنا من جهة أنه مفرغ. ( الاستغناء : ١٧٤ إلى ١٧٨ )
٢٩٤- إن قلت : فقد قال تعالى عن قوم في سياق المدح : " ربنا وآتنا ما وعدتنا... الآية " ووعد الله سبحانه لابد من وقوعه، فقد طلب تحصيل الحاصل، وهو عين ما نحن فيه، ومدحهم الله تعالى، فدل على جواز ذلك، وأنت تمنعه١، قلت : إنما جاز لهم سؤال ما وعدهم به لأن حصوله لهم مشروط بالوفاة على الإيمان، وهذا شرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط فما طلبوا إلا مشكوكا في حصوله لا معلوم الحصول. ( الفروق : ٤/ ٢٧٦-٢٧٧ )
١ - ينظر ما قاله القرافي في الآية : ٢٨٥ من سورة البقرة..
Icon