تفسير سورة آل عمران

التفسير القيم
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

تضمنت هذه الآية الكريمة : إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع هذه الطوائف - التي فصل عقائدها الباطلة قبل هذا - والشهادة ببطلان أقوالهم، ومذاهبهم. وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية، ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية، والحقائق الإيمانية.
فتضمنت هذه الآية : أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود.
وعبارات السلف في ( شهد ) تدور على : الحكم والقضاء، والإعلام والبيان والإخبار.
قال مجاهد : حكم وقضى، وقال الزجاج : بين، وقالت طائفة : أعلم وأخبر.
وهذه الأقوال كلها حق، لا تنافي بينها. فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد، وخبره وقوله. وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه. فلها أربع مراتب :
فأول مراتبها : علم ومعرفة، واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها : تكلمه بذلك ونطقه به. وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم به مع نفسه، ويذكرها وينطق بها، أو يكتبها.
وثالثها : أن يعلم غيره بما شهد به، ويخبره به، ويبينه له.
ورابعها : أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط، تضمنت هذه المراتب الأربعة : علم الله سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
أما مرتبة العلم : فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال الله تعالى :﴿ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ﴾ [ الزخرف : ٨٦ ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«على مثلها فاشهد » وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر : فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به. وإن لم يتلفظ بالشهادة. قال تعالى :﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ﴾ [ الأنهام : ١٥٠ ]، وقال تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم :«عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ».
وشهادة الزور : هي قول الزور، كما قال تعالى :﴿ واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ﴾ [ الحج : ٣٠. ٣١ ] وعند نزول هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » فسمى قول الزور شهادة.
وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة، قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ﴾ [ النساء : ١٣٥ ].
فشهادة المرء على نفسه : هي إقراره على نفسه. وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز :«فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
وقال تعالى :﴿ قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ].
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة، كما هو مذهب مالك وأهل المدينة، وظاهر كلام أحمد.
ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما «شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس »، ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة، بل قال صلى الله عليه وسلم :«أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة – الحديث ».
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال :( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فقد دخل في الإسلام، وشهد شهادة الحق، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة، وأنه قد دخل في قوله صلى الله عليه وسلم :«حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله »، وفي لفظ آخر :«حتى يقولوا لا إله إلا الله ».
فدل على أن قولهم :( لا إله إلا الله ) شهادة منهم، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار : فنوعان :
( إعلام بالقول، وإعلام بالفعل ). وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر ؛ تارة يعلمه بقوله، وتارة بفعله.
ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها، وأذن بالصلاة فيها - معلما أنها وقف، وإن لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار - معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله. وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه : يكون بقوله تارة، وبفعله تارة أخرى.
فالقول : هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، ومما قد علم بالاضطرار : أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو. وأخبر بذلك. وأمر عباده أن يشهدوا به.
وشهادته سبحانه ( أنه لا إله إلا الله ) معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه.
وأما بيانه وإعلامه بفعله : فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة.
وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة، والإرشاد والبيان، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره. كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ. وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا له وكلاما، لقيامه مقامه، وأدائه مؤداه، كما قيل :
وقالت له العينان : سمعا وطاعة *** وحدرتا بالدر لما يثقب
وقال الآخر :
شكا إلي جملي طول السرى *** صبرا جميلي، فكلانا مبتلى
وقال الآخر
امتلأ الحوض، وقال : قطني *** مهلا رويدا، قد ملأت بطني
ويسمى هذا شهادة أيضا، كما في قوله تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ [ التوبة : ١٧ ] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله، فهي شهادة بكفرهم، وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت بها عليهم.
والمقصود : أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه. فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية، فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل، كما قال تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ [ فصلت : ٥٣ ]. أي أن القرآن حق فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية.
وهذه الشهادة الفعلية : قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير. قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه : أنه لا إله إلا هو.

فصل


وأما المرتبة الرابعة :( وهي الأمر بذلك والإلزام به )، وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه، وتتضمنه. فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر، وألزم عباده به كما قال تعالى :﴿ وقضى ربك أن ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] وقال تعالى :﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ﴾ [ النحل : ٥١ ] وقال تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ البينة : ٥ ] وقال تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ]، وقال تعالى :﴿ فلا تدع مع الله إلها آخر ﴾ [ الشعراء : ٢١٣ ] والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك : أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر، وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم. فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره. وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها.
وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلا يستفتى أو يستشهد، أو يستطب من ليس أهلا لذلك، ويدع من هو أهل، فتقول له : هذا ليس بمفت، ولا شاهد، ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان. فإن هذا أمر منك ونهي.
وأيضا : فإن الأدلة قد دلت أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده.
وأيضا : فلفظ الحكم والقضاء. يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجملة الخبرية قضية وحكم، وقد حكم فيها بكيت وكيت. قال تعالى :﴿ ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * مالكم كيف تحكمون ﴾ [ الصافات : ١٥١. ١٥٤ ] لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو : متضمن للإلزام. والله سبحانه أعلم.

فصل


تفسير قوله تعالى :﴿ قائما بالقسط ﴾
«القسط » هو العدل. فشهد الله سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله.
والتوحيد والعدل : هما جماع صفات الكمال. فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال، والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه. والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب، وموافقة الحكمة.
فهذا توحيد الرسل وعدلهم، إثبات حقائق الأسماء والصفات على ما يليق بالرب سبحانه، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإثبات القدر، والحكم والغايات المحمودة بفعله وأمره، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية. الذي هو إنكار الصفات، وحقائق الأسماء الحسنى، وعدلهم الذي هو التكذيب بالقدر، أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر.
وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته : يتضمن أمورا.
أحدها : أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق، وإنكارها وجحودها أظلم الظلم على الإطلاق، فلا أعدل من توحيد الرسل. ولا أظلم من الشرك. فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا، حيث شهد بها وأخبر، وأعلم عباده وبين لهم تحقيقها وصحتها، وألزمهم بمقتضاها، وحكم به، وجعل الثواب والعقاب عليها، وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها.
فالدين كله من حقوقها. والثواب كله عليها. والعقاب كله على تركها. وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة.
فأوامره كلها تكميل لها. وأمر بأداء حقوقها.
ونواهيه كلها صيانة لها عما يهدمها ويضادها.
وثوابه كله عليها، وعقابه كله على تركها، وترك حقوقها.
وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها.
وهي الحق الذي خلقت به المخلوقات، وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه، وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض.
قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون ﴾ [ الأحقاف : ١. ٣ ]، وقال تعالى :{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا
اختلف المفسرون : هل هو كلام مستأنف، أو داخل في مضمون هذه الشهادة. فهو بعض المشهود به.
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر «إن » وفتحها، فالأكثرون على كسرها. على الاستئناف وفتحها الكسائي وحده. والوجه : هو الكسر. لأن الكلام الذي قبله قد تم.
فالجملة الثانية : مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها. وهذا أبلغ في التقرير، وأدخل في المدح والثناء. ولهذا كان كسر «إن » من قوله :﴿ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ﴾ [ الطور : ٢٨ ] أحسن من الفتح. وكان الكسر في قول الملبي :«لبيك إن الحمد والنعمة لك » أحسن من الفتح.
وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين، فهي واقعة على ( إن الدين عند الله الإسلام ) وهو المشهود به. ويكون فتح ( إنه ) من قوله ( أنه لا إله إلا هو ) على إسقاط حرف الجر، أي بأنه لا إله إلا هو. وهذا توجيه الفراء. وهو ضعيف جدا. فإن المعنى على خلافه، وأن المشهود به هو نفس قوله ( أنه لا إله إلا هو ) فالمشهود به ( أن ) وما في حيزها. والعناية إلى هذا صرفت، وبه حصلت.
ولكن لهذا القول - مع ضعفه - وجه وهو أن يكون المعنى : شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو توحيده سبحانه.
فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه أنه الإسلام لا غيره.
الوجه الثاني : أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا، كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها. والتقدير : وأن الدين عنده الإسلام فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه، كما وقع الاستغناء عنها في قوله :﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] فيحسن ذكر الواو وحذفها، كما حذفت هاهنا. وذكرت في قوله :﴿ ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ﴾ [ الكهف : ٢٢ ].
الوجه الثالث : وهو مذهب البصريين أن يجعل «إن » الثانية بدلا من الأولى والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، وقوله :«أنه لا إله إلا هو » توطئة للثانية وتمهيد.
ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله، هو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها. ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال. لأن الإسلام يشتمل على التوحيد.
فإن قيل : فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول : إن الدين عند الله الإسلام. لأن المعنى : شهد الله أن الدين عنده الإسلام. فلم عدل إلى لفظ الظاهر ؟
قيل : هذا يرجح قراءة الجمهور، وأنها أفصح وأحسن، ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر، وقد ورد في القرآن، وكلام العرب كثيرا.
قال الله تعالى :﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] وقال :﴿ واعلموا أن الله غفور حليم ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] وقال تعالى :﴿ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ [ الأعراف : ١٧٠ ].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : افتخر المشركون بآبائهم، فقال كل فريق : لا دين إلا دين آبائنا وما كانوا عليه، فأكذبهم الله تعالى فقال :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ يعني الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس لله دين سواه ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
وقد دل قوله :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ على أنه دين أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه.
قال أول الرسل نوح :﴿ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ [ يونس : ٧٢ ] وقال إبراهيم وإسماعيل :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ]، ﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ البقرة : ١٣٢ ] وقال يعقوب لبنيه عند الموت :﴿ ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك - إلى قوله - ونحن له مسلمون ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ]، وقال موسى لقومه :﴿ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ﴾ [ يونس : ٨٤ ] وقال تعالى :
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾ [ آل عمران : ٥٢ ]، وقالت ملكة سبأ :﴿ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾ [ النمل : ٤٤ ].
فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فأديان أهل الأرض ستة : واحد للرحمن وخمسة للشيطان. فدين الرحمن هو الإسلام والتي للشيطان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين.
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآيات العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب
«المنازل ».
لا خلاف أن لفظة «اللهم » معناها : يا الله. ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب. فلا يقال : اللهم غفور رحيم، بل يقال : اللهم اغفر لي وارحمني، واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم.
فقال سيبويه : زيدت عوضا من حرف النداء، ولذلك لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام، فلا يقال :«يا اللهم » إلا فيما ندر، كقول الشاعر :
إني إذا ما حدث ألما *** أقول يا اللهم، يا اللهم
ويسمى ما كان من هذا الضرب عوضا. إذ هو في غير محل المحذوف. فإن كان في محله سمي بدلا، كالألف في «قام، وباع » فإنها بدل عن الواو والياء ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضا. فلا يقال : يا اللهم الرحيم ارحمني، ولا يبدل منه.
والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها. وهذا من خصائص هذا الاسم. كما اختص بالتاء في القسم. وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف، وبقطع همزة وصله في النداء، وبتفخيم لامه وجوبا غير مسبوقة بحرف إطباق، هذا ملخص مذهب الخليل وسيبويه.
وقيل : الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير : يا الله أمنا بخير، أي : اقصدنا، ثم حذف الجار والمجرور، وحذف المفعول فبقي في التقدير : يا الله أم. ثم حذفت الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي :«يا اللهم »، وهذا قول الفراء وصاحب هذا القول يجوز دخول «يا » عليه، ويحتج بقول الشاعر :
يا اللهم ما اردد علينا سحا مسلما ***. . .
وبالبيت المتقدم وغيرهما رد البصريون هذا بوجوه :
أحدها : أن هذه التقادير لا دليل عليها ولا يقتضيها القياس، فلا يصار إليها بغير دليل.
الثاني : أن الأصل عدم الحذف. فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل.
الثالث : أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره، فلا يصح هذا التقدير فيه.
الرابع : أن الاستعمال الشائع الفصيح يدل على أن العرب لم تجمع بين «يا » و«اللهم » ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع. بل كان استعماله فصيحا شائعا. والأمر بخلافه.
الخامس : أنه لا يمتنع أن يقول الداعي : اللهم أمنا بخير، ولو كان التقدير كما ذكره، لم يجز الجمع بينهما، لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه.
السادس : أن الداعي بهذا الاسم لا يخطر ذلك بباله، وإنما تكون غايته مجردة إلى المطلوب بعد ذكر الاسم.
السابع : أنه لو كان التقدير ذلك لكان «اللهم » جملة تامة، يحسن السكوت عليها. لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب. وذلك باطل.
الثامن : أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده، ولم يوصل باسم المنادى، كما يقال : يا الله قه، ويا زيد عه، ويا عمرو فِهْ. لأن الفعل لا يوصل بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة، هذا لا نظير له في الخط وفي الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل.
التاسع : أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد : اللهم أمني بكذا بل هذا مستكره اللفظ والمعنى فإنه لا يقال اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط والنسيان، فيقول له : اقصدني. وأما من لا يفعل إلا بإرادته، ولا يضل ولا ينسى فلا يقال له : اقصد كذا.
العاشر : أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء، كقوله : صلى الله عليه وسلم في الدعاء :«اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله » وقوله :«اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك وجميع خلقك : أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك »، وقوله تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ]، وقوله :﴿ قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ [ الزمر : ٤٦ ]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده :«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ».
فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه. والله أعلم.
وقيل : زيدت الميم للتعظيم والتفخيم، كزيادتها في «زرقم »، لشديد الزرقة، و«ابنم » في الابن.
وهذا القول صحيح : لكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظ معنى صحيحا، لا بد من بيانه :
وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك. وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى. كما هو مذهب أساطين العربية. وعقد له أبو الفتح بن جنى بابا في «الخصائص ». وذكره عن سيبويه، واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى.
ثم قال : ولقد مكثت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه، فأجد معناه من قوة لفظه، ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى، ثم أكشفه فأجده كما فهمته، أو قريبا منه. فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جنى، فقال : وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك. ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى. ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى. والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط. فيقولون :«عز يعَز » بفتح العين - إذا صلب، و«أرض عَزار » صلبة، ويقولون :«عز يعِز » بكسرها إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب، فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره. ثم يقولون : عزه يعزه. إذا غلبه، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام
﴿ وعزني في الخطاب ﴾ [ ص : ٢٣ ] والغلبة أقوى من الامتناع، إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه، متحصنا عن عدوه، ولا يغلب غيره، فالغالب أقوى من الممتنع، فأعطوه أقوى الحركات وهو الضمة والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات وهو الفتحة، والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط.
ونظير هذا قولهم «ذِبْح » - بكسر أوله - للمحل الذبوح، و«ذَبْح » بفتح أوله لنفس الفعل. ولا ريب أن الجسم أقوى من العرض، فأعطوا الحركة القوية للقوي، والضعيفة للضعيف، وهو مثل قولهم ( نِهْب، ونَهْب ) بالكسر للمنهوب وبالفتح للفعل.
وكقولهم :«مِلْء ومَلْء » بالكسر : لما يملأ الشيء، وبالفتح للمصدر، الذي هو الفعل.
وكقولهم :«حِمْل وحَمْل » فبالكسر لما كان قويا مثقلا لحامله على ظهره أو رأسه، أو غيرهما من أعضائه، والحمل بالفتح، لما كان خفيفا غير مثقل، كحمل الحيوان وحمل الشجرة به أشبه ففتحوه.
وتأمل هذا «الحِب والحُب » فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب، ومضمومه للمصدر، إيذانا بخفة المحبوب على قلوبهم، ولطف موقعه في أنفسهم وحلاوته عندهم، وثقل حمل الحب ولزومه، كما يلزم الغريم غريمه، ولهذا يسمى غراما. ولهذا كثر وصفهم لتحمله بالشدة والصعوبة، وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو حمله لذاب من حمله، ولم يستقل به، كما هو كثير في أشعار المتقدين والمتأخرين وكلامهم، فكان الأحسن أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية، والمحبوب الحركة التي هي أخف منها.
ومن هذا : قولهم «قبْض » بسكون وسطه للفعل، و«قبَض » بتحريكه للمقبوض. والحركة أقوى من السكون. والمقبوض أقوى من المصدر.
ونظيره :«سَبْق » بالسكون للفعل، و«سَبَق » بالفتح : للمال المأخوذ في هذا العقد.
وتأمل قولهم :«دار، دورانا » و«فارت القدر، فورانا » و«غلت، غليانا » كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى. فطابق اللفظ المعنى.
وتأمل قولهم :«حجر » و«هواء » كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد هذه الحروف الشديدة، ووضعوا للمعنى الخفيف الهواية، التي هي من أخف الحروف.
وهذا أكثر من أن يحاط به، وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى.
ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن، ورقة طبع. ولا تتأتى مع غلظ القلوب، والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف، دون تأملها وتدبرها، والنظر إلى حكمة الواضع، ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه :
﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ [ النور : ٤٠ ].
وانظر في تسميتهم الغليظ الجافي ب«العتل والجعظري، والجواظ »، كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني.
وانظر إلى تسميتهم الطويل ب«العشنق »، وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل، وتسميتهم القصير ب«البحتر »، وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل، وهو العشنق، وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البحتر، كيف يقتضي اللفظ الأول : انفتاح الفم، وانفراج آلات النطق، وامتدادها وعدم ركوب بعضها بعضا، وفي اسم البحتر الأمر بالضد.
وتأمل قولهم : طال الشيء فهو طويل، وكبر فهو كبير. فإن زاد طوله قالوا : طوالا، وكبارا، فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا، وأطول من الياء في المعنى الأطول. فإن زاد كبر الشيء، وثقل موقعه من النفوس ثقلوا اسمه، فقالوا :«كبَّارًا » بتشديد الباء.
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه، واستعصى على الضبط. فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول :
الميم حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه، فوضعته العرب علما على الجمع، فقالوا للواحد :«أنت » فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا :«أنتم ».
وقالوا للواحد الغائب :«هو »، فإذا جاوزوه إلى الجمع، قالوا :«هم ». وكذلك في المتصل يقولون :«ضربت، وضربتم »، و«إياك، وإياكم »،
و«إياه، وإياهم » ونظائره، نحو :«به وبهم ». ويقولون للشيء الأزرق، أزرق، فإذا اشتدت زرقته واجتمعت واستحكمت قالوا :«زرقم »، ويقولون للكبير الاست :«سُتهُم » بوزن : قنفذ.
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم، كيف تجد الجمع معقودا بها، مثل لم الشيء يلمه، إذا جمعه ومنه :«لَمّ الله شَعَثَه »، أي : جمع ما تفرق من أموره.
ومنه قوله :«دار لمومة ». أي : تلم الناس وتجمعهم.
ومنه :«الأكل اللَّمُّ »، كما جاء في تفسيرها، يأكل نصيبه ونصيب صاحبه. وأصله من «اللم »، وهو الجمع، كما يقال :«لفه يلُفُّه ».
ومنه :«ألم بالشيء »، إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه.
ومنه :«اللم » وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر.
ومنه :«الملمة » وهي النازلة التي تصيب العبد.
ومنه :«اللمة »، وهي الشعر الذي قد اجتمع، وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن ومنه :«لم الشيء »، وما تصرف منها.
ومنه :«بدر التم » : إذا كمل واجتمع نوره.
ومنه :«التوأم » للولدين المجتمعين في بطن.
ومنه :«الأم ». و«أم الشيء » : أصله الذي تفرع منه. فهو الجامع له، وبه سميت مكة :«أم القرى »، والفاتحة :«أم القرآن ». واللوح المحفوظ :
«أم الكتاب ».
قال الجوهري :«أم الشيء » أصله، ومكة «أم القرى » : و«أم مثواك »، صاحبة منزلك. يعني التي تأوي إليها وتجتمع معها، و«أم الدماغ » : الجلدة التي تجمع الدماغ ويقال لها :«أم الرأس »، وقوله تعالى في الآيات المحكمات :﴿ هن أم الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٧ ].
و«الأمة » : الجماعة المتساوية في الخلقة، أو الزما
هذا مما قدم بالفضل، لأن السجود أفضل وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فإن قيل : فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة، لأنه انتقال من علو إلى انخفاض والعلو بالطلع قبل الانخفاض، فهلا قدم الركوع ؟
الجواب أن يقال :
انتبه لمعنى الآية من قوله ﴿ اركعي مع الراكعين ﴾ ولم يقل :«اسجدي مع الساجدين »، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها. لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثم قال لها ﴿ اركعي مع الراكعين ﴾ أي صلي مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضا الركوع وحده، دون أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة، كما نقول : ركعت ركعتين وأربع ركعات، يريد الصلاة لا الركوع بمجرده.
فصارت الآية متضمنة لصلاتين : صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود. لأن السجود أفضل حالات العبد. وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع. لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين، دون صلاتها في بيتها وحدها في محرابها، وهذا نظم بديع وفقه دقيق.
قال قتادة : كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم. فتشاح عليها بنو إسرائيل فاقترعوا عليها بسهامهم، أيهم يكفلها، فقرع زكريا عليه السلام. وكان زوج أختها، فضمها إليه. ونحوه عن مجاهد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير.
تضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ. فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل تتنزل التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه. ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده، إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل. وهذا محض النسخ.
وقوله تعالى :﴿ من قبل أن تنزل التوراة ﴾ أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى :﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم، أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم، وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة ؟ وإذا كان إنما حرم هذا وحده، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا منه : ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى في نسخها.
فتأمل هذا الوضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين، وما وردوه، وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام، عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح، والأفعال والأقوال. وذلك نسخ بحكم البراءة الأصلية. فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا. فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب. إذ هذا شأن كل الشرائع. وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى، فيجعله حراما، أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا. وأما رفع البراءة والاستصحاب. فلم ينكره أحد من أهل الملل.
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعة ربه ومرضاته. فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء، وحسن الذكر، لا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله - بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا، يحرق بردها ما يمر عليه. من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
واختلف في «الصر » فقيل البرد الشديد وقيل النار قاله ابن عباس.
وقال ابن الأنباري : وإنما وصفت النار بأنها «صر » لتصريتها عند الالتهاب.
وقيل :«الصر » : الصوت الذي صحب الريح من شدة هبوبها.
والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق يبسه للحرث، كما تحرقه النار وفيه صوت شديد.
وفي قوله :﴿ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ﴾ تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم. فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة. حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
وأصل الخذلان : الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها : خذول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية : إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي : لا تترك أمري للناس، وارفض الناس لأمري.
والخذلان : أن يخلي الله تعالى وبين العبد وبين نفسه ويكله إليها. والتوفيق ضده : أن لا يدعه ونفسه، ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به ويعينه، ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :«يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك ».
فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه. وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان، كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل : فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه ؟
قيل : لعمر الله، إن الشيطان ذئب الإنسان - كما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا، مع ضعفها، فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم، فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة ؟ فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها ؟ وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب.
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب «المجالسة » : سمعت ابن أبي الدنيا يقول : أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه : أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر، فيقول : أتدرون ما تقول هؤلاء ؟ فيقولون : لا، فيقول : تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب ؟ إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغوا، فقال : أتدرون ما تقول هذه الشاة ؟ قلنا : لا، قال : تقول للسخلة : الحقي، لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان. قال : فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له : ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا ؟ قال : نعم ولدت سخلة عام أول، فأكلها الذئب بهذا المكان، ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو، ويحنو عنقه إليها. فقال : أتدرون ما يقول هذا البعير ؟ قلنا : لا قال : فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه. قال : فانتهينا إليهم. فقلنا : يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، وأنه في سنامه، قال فأناخوا البعير وحطوا عنه، فإذا هو كما قال.
فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت. وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ].
فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه.
و«المصابرة » : مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنها مفاعلة، تستدعي وقوفها بين اثنين، كالمشاتمة والمضاربة - فهي حال المؤمن في الصبر مع خصمه.
و«المرابطة » : وهى الثبات واللزوم، والإقامة على الصبر والمصابرة.
فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط. وقد يصبر ولا يصابر، ويرابط من غير تعبد بالتقوى.
فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله : التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها. فقال :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان، فيزيله عن مملكته.
Icon