تفسير سورة آل عمران

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية

سورة آل عمران
مائتا آية وهي مدنية
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)
الم قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا الله أعلم اللَّهُ يعني، هو الله الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الذي لا يموت ولا يزول أبداً.
ويقال الحي الذي لا بادئ له الْقَيُّومُ يعني القائم على كل نفس بما كسبت. ويقال:
القائم بتدبير الخلق.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحي قبل كل حي، والحي بعد كل حي، الدائم الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، والقائم على العباد بأرزاقهم وآجالهم. ويقال: الحي القيوم هو اسم الله الأعظم. ويقال: أن عيسى ابن مريم عليهما السلام، كان إذا أراد أن يُحيي الموتى، يدعو بهذا الاسم يا حي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان- عليه السلام- دعا بقوله يا حي يا قيوم- ويقال: إن بني إسرائيل، سألوا موسى- عليه السلام- عن اسم الله الأعظم فقال لهم: قولوا اهيا- يعني يا حي- شراهيا- يعني يا قيوم- ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به، ثم قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣ الى ٥]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن بِالْحَقِّ أي بالعدل ويقال لبيان الحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني موافقاً للكتب المتقدمة في التوحيد، وفي بعض الشرائع
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ يعني أنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل هذا الكتاب.
وروي عن الفراء أنه قال: اشتقاق التوراة من وري الزند وهو ما يظهر من النور والضياء، فسمي التوراة بها، لأنه ظهر بها النور والضياء لبني إسرائيل، ومن تابعهم، وإنما سمي الإنجيل، لأنه أظهر الدين بعد ما درس، وقد سمي القرآن إنجيلاً أيضاً لما روي في قصة مناجاة موسى- عليه السلام- أنه قال: يا رب أرى في الألواح أقواماً أناجيلُهم في صدورهم، فاجعلهم أمتي قال الله تعالى: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما أراد بالأناجيل القرآن.
قرأ حمزة والكسائي، وابن عامر التوراة بكسر الراء، والباقون بالفتح ثم قال تعالى:
هُدىً لِلنَّاسِ معناه: وأنزل التَّورَاة على موسى، والإنجيل على عيسى عليهما السلام، بياناً لبني إسرائيل من الضلالة وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ على محمد ﷺ بعد التوراة والإنجيل.
وقال الكلبي الفرقان هو الحلال والحرام، يعني بيان الحلال والحرام. ويقال: المخرج من الشبهات إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، وما أوتي من آيات نبوته لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
قال الكلبي: نزلت هذه الآية في وفد نجران، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجادلوه بالباطل. ويقال: في شأن اليهود. ويقال: في شأن مشركي العرب. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أي منيع بالنقمة ينتقم ممن عصاه إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لا يذهب ولا يغيب عليه شيء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ معناه أنه لا يخفى عليه قول الكفار وعملهم، فيجازيهم يوم القيامة، وهم وفد نجران، وسائر المشركين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
ثم أخبر عن صنعه، ليعتبروا بذلك فقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي يخلقكم كيف يشاء قصيراً أو طويلاً، حسناً أو ذميماً، ذكراً أو أنثى.
ويقال: شقيّاً أو سعيداً. وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سعد في بطن أمه ثم قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الوَلَدُ يَكُونُ في بَطْنِ أُمِّهِ، يكونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ».
وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه، ليسألوا ما عنده من الحديث. فقال لهم: إني مشغول بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث فقيل له: وما ذاك الشغل؟ فقال
أحدها: إني أتفكر في يوم الميثاق. حيث قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. والثاني حيث صوّرني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام: يا رب شقي أم سعيد؟ فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت. والثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول: يا رب أمع الكفار أم مع المؤمنين؟ فلا أدري كيف يخرج الجواب. والرابع حيث يقول: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩]، فلا أدري من أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني لا خالق ولا مصور إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ يعني المنيع بالنقمة لمن جحده الْحَكِيمُ يحكم تصوير الخلق على ما يشاء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني من القرآن آيات واضحات ويقال مبينات بالحلال والحرام. ويقال: ناسخات لم تنسخ قط هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني أصل كل كتاب، وهي ثلاث آيات من سورة الأنعام وهو قوله تعالى:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] وروي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول: فاتحة الكتاب أم الكتاب؟ فقال له ابن عباس: بل أم الكتاب قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] إلى آخر ثلاث آيات الآية.
ثم قال تعالى وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ قال الضحاك أي منسوخات وقال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ألم، والمص ويقال المحكم ما كان واضحاً لا يحتمل التأويل، والمتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ، والمعنى مختلف.
ويقال: المحكم الذي هو حقيقة اللغة، والمتشابه ما كان مجاوزاً. ويقال: المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والمتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه، فإن قيل: إذا أنزل القرآن للبيان، فكيف لم يجعل كله، واضحاً؟ قيل: الحكمة في ذلك، والله أعلم أن يظهر فضل العلماء، لأنه لو كان الكل واضحاً، لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض. وهكذا يفعل
194
كل من يصنف تصنيفاً يجعل بعضه واضحاً، وبعضه مشكلاً، ويترك للحيرة موضعاً، لأن ما هان وجوده، قل بهاؤه.
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني مَيْل عن الحق وهم اليهود فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قال الضحاك: يعني ما نسخ منه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك واستبقاؤه ما هم عليه وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب ثناء هذه الأمة. ويقال: طلب وقت قيام الساعة وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني منتهى ملك هذه الأمة، وذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم حيي بن أخطب وغيره، فقالوا: بلغنا أنه نزل عليك ألم، فإن كنت صادقاً في مقالتك، فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة، لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، يعني: منتهى ملك هذه الأمة، ثم قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال الكلبي ومقاتل: استأنف الكلام يعني لما قال وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فقد تم الكلام ثم استأنف فقال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي البالغون العلم في كتبهم التوراة والإنجيل يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يعني القرآن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال بعضهم:
هو معطوف عليه. يقول: وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يعني يعلمون تأويله.
ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
وروى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ، وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم: آمنا به، وهذا يوافق قول الكلبي ومقاتل. وقال عامر الشعبي: لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير، لأني أحلُّ حلاله، وأحرّم حرامه، وأو من بمتشابهه، وأكل ما لم أعلم منه إلى عالمه.
ثم قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس. ثم قال عبد الله بن سلام وأصحابه، حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم:
رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا يعني لا تُحَوّل قلوبنا عن الهدى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا يعني بعد ما أكرمتنا بالإسلام، وهديتنا لدينك وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يني ثَبِّتْنا على الهدى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أي المعطي المثبت للمؤمنين رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ بعد الموت لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ أي في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائنٌ لا محالة.
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ في البعث ويقال معناه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة.
195

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١١]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود ويقال جميع الكفار لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كثرة أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شيئا يعني من عذاب الله شَيْئاً في الدنيا إذا نزل بهم شدة أو مرض، ولا في الآخرة عند نزول العذاب. ويقال: كل ما لم ينفق في طاعة الله، فهو حسرة له يوم القيامة. ويقال: إنما ذكر الأموال والأولاد، لأن أكثر الناس يدخلون النار، لأجل الأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في الآخرة، لكيلا يفني الناس أعمارهم، لأجل المال والولد، وإنما ذكر الله تعالى الكفار، لكي يعتبر بذلك المؤمنون ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ أي حطب النار.
قرأ بعضهم وُقُودُ النار بضم الواو، يعني إيقاد النار كما قال في آية أخرى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: ٥٦] قالوا: معناه إذا أرادت النار أن تنطفئ، بدلهم الله جلوداً غيرها لتتقد النار كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يعني أن صنيع الكفار معك، كصنيع آل فرعون مع موسى.
وقال مقاتل: كأشباه آل فرعون بالتكذيب بالعذاب في الدنيا. ويقال: إهلاك الله إياهم بالقتل، كإهلاك آل فرعون بالغرق.
ويقال تعاونُهم وتظاهرهم فيما بينهم عليك، كتظاهُر آل فرعون على موسى وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل آل فرعون، مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا وعجائبنا ويقال بكتبي ورسلي كما كذبك قومك يا محمد فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكهم وعاقبهم بشركهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ للكافرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)
قوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قال الضحاك: يعني كفار مكة لما ظهروا يوم أحد، فرحوا بذلك، فنزل قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة سَتُغْلَبُونَ بعد هذا وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وقال الكلبي نزلت في شأن بني قريظة وذلك أن رسول الله ﷺ لما هزم المشركين يوم بدر، قالت اليهود هذا النبي الأمّي الذي بشرنا به موسى الذي نجده في التوراة، فأرادوا تصديقه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى له، فلما كان يوم أحد، ونكب أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: والله ما هو إياه، فقد تغيّرت صفته وحاله، فشكوا فيه ولم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد إلى مدة، فنقضوا
ذلك العهد، فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وقال عكرمة عن عبد الله بن عباس أنه قال، لما أصاب رسول الله ﷺ قريشاً يوم بدر، وقَدِم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا مَعْشَر اليَهُودِ، أَسْلِمَوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِمِثْلِ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً». قالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك. إنك قتلت نفراً من قريش كانوا أَغماراً لا يعرفون القتال فإنك لو قاتلنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ يعني تُهْزمون وتُقْهَرون وتُحْشرون بعد القتل إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني لبئس موضع القرار جهنم. قرأ حمزة والكسائي سَيُغْلبونَ وَيُحشرُون بالياء على معنى الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
ثم قال: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ يعني عبرة فِي فِئَتَيْنِ أي جَمْعَيْن، يعني جَمْع رسول الله ﷺ وأصحابه، وجمع كفار أهل مكة الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرأ نافع ترونهم على معنى المخاطبة، والباقون بالياء على معنى الخبر، وذكر عن الفراء أنه قال كان الكفار ثلاثة أمثال المسلمين، لأن المسلمين كانوا ثلاثمائة ونيفاً، وكان الكفار تسعمائة ونيّفاً. وقوله: مثليهم أي ثلاثة أمثالهم، والمعنى في ذلك عن طريق اللغة أن الإنسان إذا كان عنده ألف درهم يقول احتاج إلى مثليها، فإنه يحتاج إلى ثلاثة آلاف. وقال الزجاج: هذا القول لا يصح في اللغة، ولا في المعنى، ولكن المسلمين يرونهم مثليهم في العدد، لكي لا يجبنوا، لأنه أعلمهم أن المائة تغلب المائتين، فأراهم في رَأْيَ الْعَيْنِ أن المشركين مثليهم في العدد، لكي لا يجبنوا، وهذا كما قال في آية أخرى، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: ٤٤]، وذلك أن المشركين كانوا تسع مائة، فأرى الله المسلمين أنهم ستمائة، لكي لا يجبنوا، وأرى الكفار أن المسلمين أقل من ثلاثمائة، ثم ألقى مع ذلك في قلوبهم الرعب حتى انهزموا، فكان في ذلك دلالة من الدلالات، فمن قرأ بالتاء على معنى المخاطبة لليهود إن لكم آية وعلامة حيث رأيتم غلبة المسلمين على الكفار مع قلة المسلمين، وكثرة الكفار، فإن قيل: إن اليهود لم يكونوا حضوراً في ذلك الوقت، فكيف يرون ذلك؟ قيل له: إذا انتشر الخبر فهموا، وعلموا ذلك صار كالمعاينة، ولأن لهم جواسيس عند المسلمين يخبرون اليهود بذلك، فصار كأن كلهم رأى ذلك، ومن قرأ بالياء معناه أن المسلمين يرون الكفار مثليهم.
ويقال إن المشركين حين خرجوا من مكة، كانوا ألفاً وثلاثمائة رجل، فلما وجدوا العير سالمة رجع مع العير ثلاثمائة وخمسون، وتخلف تسعمائة وخمسون للحرب، وكان أبو سفيان بن حرب في تلك العير، فرجع إلى مكة، وحثّهم على المسير، ولم يكن حاضراً وقت الحرب، وإنما قال الكلبي في كتابه: نزلت في جمع أبي سفيان وأصحابه، لأن أبا سفيان هو الذي حثهم على الخروج، ولم يخرج معهم ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي يقوي بنصرته، وهم أهل بدر، فأرسل إليهم الملائكة، وهزم المشركين إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ يعني من ينصر الحق.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤ الى ١٧]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ حُسِّن وحُبِّب إليهم، وقد يكون التزيين من الله تعالى. كما قال في آية أخرى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل: ٤] كما قال في آية أخرى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: ٢٤] فأما التزيين من الله تعالى، فهو على وجهين: يكون على جهة الامتحان للمؤمنين مع العصمة، وقد يكون للكفار على جهة العقوبة مع الخذلان، وأما التزيين من الشيطان، فهو على جهة الوسوسة. فقال: زين للناس حب الشهوات مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ بدأ بالنساء، لأن فتنة النساء أشد من فتنة جميع الأشياء.
كما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تَرَكْتُ لأُمَّتِي فِتْنَةً أَشَدَّ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ»، ولأن النساء فتنتهن ظاهرة من وقت آدم- عليه السلام- إلى يومنا هذا.
ويقال: في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة: إحداهما أنها تؤدي إلى قطيعة الرحم، لأن المرأة تأمر زوجها بقطيعة الرحم عن الأمهات والأخوات. والثانية يبتلي بجمع المال من الحلال والحرام، وأما البنون، فإن الفتنة فيهم واحدة، وهي ما ابتلي به من جمع المال لأجلهم. فذكر البنين وأراد به الذكور والإناث.
198
وقال بعض الحكماء: أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا، وإن ماتوا أحزنونا.
ثم قال تعالى وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ روي عن الفراء أنه قال: القناطير جمع قنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسع قناطير.
وروي عن أبي عبيدة أنه قال: المقنطرة مُفَعَّلة من الورق. كما يقال: ألف مؤلفة، وبذر مبذرة. ويقال: المقنطرة هي المكيلة، ثم اختلفوا في مقدار القنطار، فروي عن مجاهد أنه قال: القنطار سبعون ألف دينار. وقال أبو هريرة: القنطار اثني عشر ألف أوقية. وقال معاذ بن جبل: ألف ومائتا أوقية. وقال بعضهم: مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ من ذهب. حكاه الكلبي، وقال: هو لغة رومية.
وروي عن الحسن البصري أنه سئل عن القنطار ما هو؟ فقال: هو مثل دية أحدكم.
ثم قال تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ يعني الراعية كما قال في آية أخرى فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون. وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل.
وقال يحيى بن كثير: هي السمينة المصورة. وقال أبو عبيدة المُعْلَمة. وَالْأَنْعامِ يعني الإبل والبقر والغنم وَالْحَرْثِ يعني الزرع، ذكر أربعة أصناف كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس، أما الذهب والفضة، فيتمول به التجار، وأما الخيل المُسَوَّمة، فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام، فيتمول بها أهل البوادي وأما الحرث فيتمول به أهل الرساتيق، فيكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول به، وأما النساء والبنين فهي فتنة للجميع.
ثم زهد في ذلك كله، ورغب في الآخرة فقال تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي منفعة الحياة الدنيا تذهب، ولا تبقى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع في الآخرة الجنة، لا تزول. ولا تفنى. ثم بَيّن أن الذي وعد المؤمنين في الآخرة، خير مما زين للكفار فقال تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي من الذي زين للناس في الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والفواحش والكبائر. ويقال للذين اتقوا الزينة، فلا تشغلهم عن طاعة الله عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني البساتين تجري من تحت شجرها، ومساكنها الأنهار، فهو خير من الزينة الدنيوية وما فيها.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَشِبْرٌ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». قال: خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين فيها أبداً وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ معناه في الخلق والخلق، فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يتمخطن، ولا يأتين الخلاء، وأما الخُلُق، فإنهن لا يَغِرْن ولا يحسدن، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي مع هذه النعم لهم رضوان من الله، وهو من أعظم النعم كما قال في آية أخرى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ
199
أَكْبَرُ
[التوبة: ٧٢] قرأ عاصم في رواية أبي بكر وَرُضْوَان بضم الراء، والباقون بالكسر، وهما لغتان، وتفسيرهما واحد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي عالم بأعمالهم وثوابهم.
ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي صَدَّقْنَا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي: خطايانا التي كانت في الشرك وفي الإسلام وَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني ادفع عنا عذاب النار الصَّابِرِينَ يعني الجنة التي ذكر للذين اتقوا الشرك، وللصابرين الذين يصبرون على طاعة الله، ويصبرون على المعاصي، ويصبرون على ما أصابهم من الشدة والمصيبة. وَالصَّادِقِينَ يعني الصادقين في إيمانهم، وفي قلوبهم، وفي وعدهم بينهم وبين الناس، وبينهم وبين الله تعالى. ثم قال: وَالْقانِتِينَ يعني المطيعين لله تعالى وَالْمُنْفِقِينَ
الذي يتصدقون من أموالهم فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يعني يصلون لله عند الأسحار. ويقال: يصلون لله بالليل، ويستغفرون عند السحر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني أن الله تعالى قَبْل أن يخلق الخلق شهد أن لا إله إلا هو وَالْمَلائِكَةُ ولما خلق الملائكة شهدوا بذلك، ثم لما خلق الله المؤمنين شهدوا بمثل ذلك وهم أُولُوا الْعِلْمِ يعني المؤمنين شهدوا بذلك قائِماً بِالْقِسْطِ يعني الله قائماً بالعَدْل على كل نفس. ويقال: من أقرّ بهذه الشهادة على عقد قلبه، فقد قام بالعدل. وقال مقاتل: سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا لرؤساء اليهود اتبعوا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
فقالت اليهود: ديننا أفضل من دينكم. فقال الله عز وجلّ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ يشهدون بذلك، وأولو العلم بالتوراة يشهدون بذلك، ويشهدون إن الله قائم بالقسط، أي بالعدل، وأن الدين عند الله الإسلام.
قال الكلبي: وفيه وجه آخر وذلك أنه لما ظهر رسول الله ﷺ بالمدينة، قدم عليه حَبْران من أحبار الشام، فلما نظرا إلى المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا عليه قالا له: أنت محمد؟ قال: «نَعَمْ». قالا:
وأنت أحمد؟ قال: «أَنا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ». قالا:
أَخْبِرْنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى، فنزلت هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ الخ. فأسلم الرجلان وصدَّقا أن الدين عند الله الإسلام.
وروي عن أبي عبيدة أنه قال: شَهِدَ الله يعني عَلِم الله وبيّن الله، فالله عز وجل دَلَّ على توحيده بجميع ما خلق، فبيّن أنه لا يقدر أحد أن ينشئ شيئاً واحداً مما أنشأ الله تعالى،
وشَهِدت الملائكة بما علمت من عظيم قدرته، وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم، وتبين من خلقه الذي لا يقدر غيره عليه، وفي هذه الآية بيان فضل أهل العلم، لأنه ذكر شهادة نفسه، ثم ذكر شهادة الملائكة، ثم ذكر شهادة أهل العلم. ثم قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فشهد بمثل ما شهد من قبل، لتأكيد الكلام.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، لكل حي من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية، أصبحت تلك الأصنام كلها قد خرت ساجدة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
ثم قال عز وجل إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قرأ الكسائي إنَّ الدين بالنصب على معنى البناء يعني شهدوا أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام، والباقون بالكسر على معنى الابتداء، ومعناه إن الدين المرضيَّ عند الله الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في هذا الدين إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، فلما بعث الله تعالى محمداً، كفروا حسداً منهم، هكذا قال مقاتل. ويقال: إنهم كانوا مسلمين، وكانا يسمّون بذلك، وكان عيسى- عليه السلام- سمى أصحابه مسلمين، فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيَّروا ذلك الاسم، وسُمُّوا يهوداً، وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس، وسماهم نصارى، فذلك قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني غَيّروا الاسم حسداً منهم ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه قد جاء في آية أخرى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: ٧٧] وقوله: سَرِيعُ الْحِسابِ يعني سريع المجازاة ويقال سريع التعريف للعامل عمله، لأنه عالم بجميع ما عملوا، لا يحتاج إلى إثبات شيء، وتذكر شيء. ويقال: إذا حاسب، فحسابه سريع يحاسب جميع الخلق في وقت واحد، كل واحد منهم يظن أنه يحاسبه خاصة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
ثم قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصموك وجادلوك في الدين فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي أخلصت ديني لله. وقال الزجاج: أن الله تعالى أمر نبيه أن يحتج على أهل الكتاب
والمشركين، بأنه اتبع أمر الله الذي هم أجمعون مقرون. أنه خالقهم ورازقهم، فأراهم الآيات والدلالات بأنه رسوله. وقوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي قصدت بعبادتي الله، وأقررت بأنه لا إله غيره وَكذلك مَنِ اتَّبَعَنِ وقال القتبي: معنى أسلمت وجهي لله، يعني أسلمت لله، والوجه زيادة كما قال: كل شىء هالك إلا وجهه، يعني إلا هو وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أُعْطُوا التَّوْرَاة والإنْجيل وَالْأُمِّيِّينَ يعني مشركي العرب أَأَسْلَمْتُمْ يعني أخلصتم بالتوحيد. ويقال: اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر، فكأنه يقول أَسْلِمُوا، كما قال في آية أخرى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ يعني انتهوا. وقال في آية أخرى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ [المائدة: ٧٤]، أي توبوا إلى الله. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا يعني أخلصوا بالتوحيد وأسلموا وصدقوا بمحمد ﷺ وبالكتاب، فقد اهتدوا من الضلالة وَإِنْ تَوَلَّوْا يقول إن أَبَوا أن يُسلموا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ بالرسالة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني بأعمالهم، ومعناه ليس عليك من عملهم شيء وإنما عليك التبليغ، وقد فَعلتَ ما أُمرت به.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني يجحدون بالقرآن وبمحمد ﷺ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني يتولون آباءهم بالقتل، ويرضون بذلك.
قرأ حمزة يقاتلون بألف من المقاتلة، والباقون بغير ألف، وقرأ نافع النبيئين بالهمزة.
وقرأ الباقون بغير همز وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ يعني بالعدل، وهم مؤمنو بني إسرائيل يأمرونهم بالمعروف، فكانوا يقتلونهم، فعَيَّرهم الله بذلك، وأوعدهم النار فقال:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي وجيع ويقال: أليم يعني مؤلم أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطل ثواب حسناتهم، فلا ثواب لهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من النار.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني أعطوا حظا من علم التوراة قال مقاتل: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة منهم حين قالوا نحن أَهْدَى سبيلاً، وما بعث الله رسولاً بعد موسى- عليه السلام- فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَقْولُ لَكُمْ حَقٌّ فأَخْرِجُوا التَّورَاةَ»، فأَبَوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ وقال الكلبي: نزلت في يهوديين من أهل خيبر زنيا، وكان الحكم في كتابهم الرجم، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى عليهما بالرجم فقالوا: ليس هذا بحكم الله فدعا بالتوراة، ودعا بابن صوريا، وكان يسكن فَدَك، وكان أعور، فحلَّفه بالله، فأقرّ بالقصة، فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الآية. ثم قال: ذلِكَ أي ذلك الجزاء. قال مقاتل فيها تقديم وتأخير، ومعناه فبشرهم بعذاب أليم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ويقال: إنما جزاؤهم خلاف الكتاب، لأنهم قالوا لن تمسنا النار إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ يعني أربعين يوماً على عدد أيام عبادة العجل ويقال على عدد أيام الدنيا.
ويقال: إن مذهبهم كان مذهب جَهْم، لأنهم لا يرون الخلود في النار وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ عَفْوُ الله عنهم بتأخير العذاب مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يكذبون على الله، وهو قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨١]، فذلك قولهم الذي غرهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٥]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
ثم خوفهم فقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فقال فكيف يصنعون وكيف يحتالون إذا جمعناهم؟ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ يعني يوم القيامة، لا شك فيه عند المؤمنين، بأنه كائن وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ أي وفيت وأُعْطِيَتْ كل نفس ثواب ما عملت وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
203
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن المنافقين، وذلك أن رسول الله ﷺ لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين: إن محمداً يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنَّى له ذلك؟ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم سأل النبي ﷺ ربه، أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء، وهو قول مقاتل وقال بعضهم: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما أمر بحفر الخندق، فظهر في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها، فأخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلم المعول، وضرب ضربة، فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان: رأيت شيئاً عجيباً. فقال له النبي: «هَلْ رَأَيْتَ ذلك» ؟
قال: نعم. فقال: رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام، ثم ضرب ضربة أخرى، فظهر أيضاً كذلك. فقال: رأيت قصور أهل فارس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَظْهَرُ لأُمَّتِي مُلْكُ الشَّامِ، وَمُلْكُ فَارِسَ». فقال المنافقون: إن محمداً لا يأمن على نفسه، واضطر إلى حفر الخندق، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس، فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا: إن فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج، فلو كان هو نبياً، كيف ينام على الحصير؟ فنزلت هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وأصل اللهم في اللغة يا الله أمنا بخير، أي اقْصِدْنا بالرحمة، ولكن لما كثر استعمال هذا اللفظ في الناس صارت الكلمتان ككلمة واحدة. فقال: اللَّهُمَّ، يعني اللهم يا مالك الملك، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ يعني تؤتي محمدا ﷺ ومن تبعه وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ من فارس والروم وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ يعني أهل الإسلام وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ يعني أهل الشرك والطغيان بِيَدِكَ الْخَيْرُ يعني النصرة والغنيمة والعز إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الذل والعز وقال الضحاك: تؤتي الملك من تشاء، يعني الإسلام، وتعز من تشاء بالإسلام، وتذل من تشاء بالشرك، بيدك الخير، يعني الهداية والسعادة، إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قدير.
وقال الزَّجَّاج: تؤتى الملك من تشاء، معناه تولي الملك من تشاء أن تؤتيه، وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه، إلا أنه حذف الهاء، لأن في الكلام دليلاً عليه. قال مقاتل: وقد قيل في الملك قولان: أحدهما هو المال والعبيد، والآخر من جهة الغلبة بالدين ثم قال تعالى تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يعني ما نقص من الليل دخل في النهار، حتى يبلغ خمسة عشرة ساعة هو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات، وهو أقصر ما يكون وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعني أن ما نقص من النهار دخل في الليل، حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات.
وهو قول الكلبي. ويقال: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي تذهب بالليل، وتجيء بالنهار، وتذهب بالنهار، وتجيء بالليل، هكذا إلى أن تقوم الساعة. ثم قال وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص المَيِّت بالتشديد، والباقون المَيْت بالتخفيف، وهما لغتان ومعناهما واحد.
204
قال الكلبي: يعني تخرج البيضة، وهي ميتة من الطير، وهو حي، وتخرج الطير الحي من البيضة الميتة، وتخرج النطفة، وهي ميتة من الإنسان الحي، وتخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وتخرج الحبة من السنبلة إلى آخره. وقال الحسن البصري: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. ويقال: يخرج الجاهل من العالم، ويخرج العالم من الجاهل. وروى معمر عن الزهري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال: «مَنْ هذه؟» قالوا إحدى خالاتك. قال: «وَمَنْ هِيَ؟» قالوا هي خالدة بنت الأَسْوَد بن عَبْد يغوث. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ»، وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً. ثم قال تعالى: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يعني من غير أن تحاسب في الإعطاء، فكأنه يقول: ليس فوقه من يحاسبه في الإعطاء. كما قال تعالى: لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] ويقال: من غير أن يحاسبه في الإعطاء. ويقال:
بغير تقتير. ويقال: بغير حساب كما قال وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
ثم قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من أهل النفاق، وكانوا قد أظهروا الإيمان، وكانوا يتولون اليهود في العون والنصرة، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم ظفر على محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وقال مقاتل: نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره، ممن كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ، فهذا نهي بلفظ المغايبة، يعني لا يتخذونهم أولياء في العون والنصرة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يعني ليس في ولاية الله من شيء. ويقال: ليس في دين الله مِن شيء، لأن ولي الكافر يكون راضياً بكفره، ومن كان راضياً بكفره، فهو كافر مثله كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١].
ثم استثنى لما علم أن بعض المسلمين، ربما يُبْتَلون في أيدي الكفار فقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. قرأ يعقوب الحضرمي تقية، وقراءة العامة تقاة، ومعناهما واحد، يعني يرضيهم بلسانه، وقلبه مطمئن الإيمان، فلا إثم عليه كما قال الله تعالى في آية أخرى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦] قرأ حمزة والكسائي تُقاةً بالإمالة. وقرأ الباقون بتفخيم الألف ثم قال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يعني يخوّفكم الله بعقوبته، أي الذي يتخذ الكافر وليّاً بغير ضرورة، وهذا وعيد لهم. ويقال: إذا كان الوعيد مبهماً، فهو أشد ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي مرجعكم في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ يقول: إن تسروا ما فى قلوبكم من النكوث، وولاية الكفار أَوْ تُبْدُوهُ يعني تعلنوه للمؤمنين يَعْلَمْهُ اللَّهُ لأن الله عليم وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من عمل، فليس يخفى عليه شيء وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من السر والعلانية، والعذاب والمغفرة قدير يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يعني تجد ثوابه حاضراً، ولا ينقص من ثواب عمله شيء وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ يعني من شر في الدنيا تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً يعني تتمنى النفس أن تكون بينها، وبين ذلك العمل أجلاً بعيداً، كما بين المشرق والمغرب، ولم تعمل ذلك العمل قط ثم قال:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقوبته في عمل السوء وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قال ابن عباس: يعني بالمؤمنين خاصة، وهو رحيم بهم.
ويقال: رؤوف بالذين يعملون السوء، حيث لم يعجل بعقوبتهم. ويقال: ذكر في أول هذه الآية عدله عز وجل في قوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وفي وسطها تخويف وتهديد وهو قوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
ثم قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا كعب بن الأشرف وأصحابه إلى الإسلام، قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، يعني نحن في المنزلة بمنزلة الأبناء، ولنحن أشدّ حباً لله. فقال الله لنبيه: قل إن كنتم تحبون الله تعالى: فَاتَّبِعُونِي على ديني، فإني رسول الله أؤدي رسالته يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.
قال الزجاج: تحبون الله، أي تقصدون طاعته، فافعلوا ما أمركم الله عز وجل، لأن محبة الإنسان لله وللرسول طاعته له، ورضاه بما أمر، والمحبة من الله عفوه عنهم، وإنعامه عليهم برحمته. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ويقال: الحب من الله عصمته وتوفيقه، والحب من العباد طاعة كما قال القائل:
تَعْصي الإله وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه هَذَا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بديعُ
لَوْ كَانَ حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فلما نزلت هذه الآية قالوا: إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً، كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فنزلت هذه الآية: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فقرن طاعته بطاعة رسوله رغماً لهم، ويقال: أطيعوا الله فيما أنزل، والرسول فيما بَيّن فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني إن أعرضوا عن طاعتهما فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يغفر لهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٣]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ يعني اختاره ويقال: اختار دينه، وهو دين الإسلام.
ويقال: قد اختاره لخمسة أشياء: أولها أنه خلقه بأحسن صورة بقدرته. والثاني أنه علّمه الأسماء كلها. والثالث أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له. والرابع أسكنه الجنة. والخامس جعله أباً للبشر، واختار نوحاً- عليه السلام- بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أباً للبشر، لأن الناس كلهم غرقوا، فصارت ذريته هم الباقين. والثاني أنه أطال عمره. ويقال: طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمرهُ، وحَسُن عَمَلُهُ. والثالث أنه استجاب دعاءه على الكفار والمؤمنين. والرابع أنه حمله على السفينة. والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرم تزوج الخالات والأخوات والعمات، واختار آل إبراهيم- عليه السلام- بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا الأنبياء، لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمان النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثاني أنه اتخذه خليلاً، والثالث أنه أنجاه من النار والرابع أنه جعله للناس إماماً، والخامس أنه ابتلاه الله بخمس كلمات، بكلمات، فوفقه حتى أتمَّهن ثم قال: وَآلَ عِمْرانَ قال مقاتل: يعني به أبا موسى وهارون. وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان النبي- عليه السلام- فإنه أراد به آل موسى وهارون، إنما كان اختارهما على العالمين، حيث بعث على قومه المن والسلوى، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء في العالم، وإن أراد به أبا مريم، فإنه اصطفى آله، يعني مريم بولادة عيسى- عليه السلام- بغير أب، ولم يكن ذلك لأحد في العالم. وقال الكلبي: يعني اختار هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية عَلَى الْعالَمِينَ يعني عالمي زمانهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
207
ثم قال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي بعضهم على إثر بعض. ويقال: بعضهم على دين بعض. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عليم بهم وبدينهم. ويقال: قوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، انصرف إلى ما بعده، أي سميع بقول امرأة عمران إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان، وذلك أنها لما حبلت، قالت: لئن نجَّانِي الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرَّراً، والمحرر من لا يعمل للدنيا، ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة، ويلزم المحراب، فيعبد الله تعالى فيه، وهذا قول مقاتل.
وقال الكلبي: محرراً، أي خادماً لبيت المقدس، ولم يكن محرراً إلا الغلمان. فقال لها زوجها: إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة، فكيف تصنعين؟ فاهتمت بذلك وقالت:
يا رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ وأنت تعلم مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ السميع لدعائي العليم بنيتي، وما في بطني فَلَمَّا وَضَعَتْها أي ولدت فإذا هي أنثى قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى يعني ولدتها جارية وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، والله أعلم بما وَضَعْتُ، بجزم العين، وضم التاء، يعني أن المرأة قالت: والله أعلم بما وَضَعْتُ، والباقون بنصب العين وسكون التاء، فيكون هذا قول الله إنه يعلم بما وضعت تلك المرأة. ثم قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى في الخدمة.
قال بعضهم: هذا قول الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم، وليس الذكر كالأنثى يا محمد. وقال بعضهم:
هي كلمة المرأة، أنها قالت: وليس الذكر كالانثى في الخدمة. وقال مقاتل: فيها تقديم، فكأنه يقول: قالت رب إنى وضعتها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت، ثم قالت:
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ يعني خادم الرب بلغتهم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ يعني أعصمها وأمنعها بك وَذُرِّيَّتَها إن كان لها ذرية مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يعني الملعون. ويقال: المطرود من رحمة الله. ويقال: الرجيم بمعنى المرجوم كما قال: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: ٥].
حدّثنا أبو الليث، قال: حدثنا الخليل بن أحمد القاضي. قال: حدثنا أبو العباس قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مَوُلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَنْخَسُهُ حِينَ يُولَدُ،
208
فَيَسْتَهِلُّ صَارِخَاً مِنْ الشَّيْطَانِ، إلاَّ مَرْيَمَ وَاْبْنَها عِيسَى عَلَيْهِما السَّلامُ»، قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وقال الزجاج: معنى قوله إِذْ يعني إن الله اختار آل عمران، إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ: واصطفاهم، إذ قالت الملائكة. وقال أبو عبيدة: معناه قالت امرأة عمران، وقالت الملائكة و «إذ زيادة. وقال الأخفش: معناه واذكر إذ قالت امرأة عمران، واذكر إذ قالت الملائكة، وقال أهل اللغة: المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد، ثم إن حنة لفتها في خرق، ثم وضعتها في بيت المقدس عند المحراب، فاجتمعت القراء، أي الزهاد فقال زكريا: أنا أحق بها، لأن خالتها عندي. فقال القُرّاء: إن هذه محررة، فلو تركت لخالتها، فكانت أمها أحق بها، ولكن نتساهم، فخرجوا إلى عين سلوان، فأَلْقَوْا أقلامهم في النهر. قال بعضهم: كانت أقلامهم من الشَّبَّة، فغابت أقلامهم في الماء، وبقي قلم زكريا على وجه الماء. وقال بعضهم كانت أقلامهم من قَصَب، فبقيت أقلامهم على وجه الماء، وغاب قلم زكريا في الماء. وقال بعضهم: أَلْقَوْا أَقلامهم في النهر، فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا، فإنه جرى من الجانب الأعلى، فعلموا أن الحق له، فضمّها إلى نفسه فذلك قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي تقبل منها نَذْرها وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وقال مجاهد غذاها غذاء حسناً، ورباها تربية حسنة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتشديد، أي كفلها الله إلى زكريا. وقرأ الباقون بالتخفيف، أي ضمها زكريا إلى نفسه، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية حفص زكريا بغير إعراب، وجزم الألف. وقرأ الباقون بالإعراب والمد، وهما لغتان معروفتان عند العرب، فمن قرأ كفلها بالتشديد، قرأ زكريا بنصب الألف، لأنه يصير مفعولاً، ومن قرأ كفلها بالتخفيف قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل.
وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محراباً في غرفة، وجعل باب الغرفة في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، واستأجر ظئراً، فكان يغلق عليها الباب، وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله، فتكون عند خالتها، وكانت خالتها امرأة زكريا. وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا، وكانت إذا طهرت من حيضها، واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم: كانت لا تحيض، وكانت مطهرة من الحيض، وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء، رأى عندها فاكهة الصيف، وإذا دخل عليها في أيام الصيف، وجد عندها فاكهة الشتاء، وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة، إذا رأى الفاكهة في غير أوانها، وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين، فذلك قوله تعالى:
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ويقال: المحراب في اللغة أشرف المجالس، وهو المكان العالي، وقد قيل: إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب ف قالَ لها زكريا يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا يعني: من أين لك هذا؟ فإنه لا يدخل عليك أحد غيري
209
فَقالَتْ مريم هُوَ أي هذا الرزق مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من فضل الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ في غير حينه. ويقال: من حيث لا يحتسب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٨]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ يقول عند ذلك طمع في الولد، وكان آيساً من ذلك، وكان مفاتيح بيت القربان عند آبائه، وقد صار ذلك بيده، وكان يخشى أن يخرج من أهل بيته إذا مات. فقال عند ذلك: إن الله قادر على أن يأتيها برزق الشتاء في الصيف، وبرزق الصيف في الشتاء، فهو قادر أن يرزق لي الولد بعد الكبر فذلك قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي من عندك تقية مهذبة. ويقال:
مستوي الخلق. ويقال: مسلمة مطيعة. ويقال: تقية إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيب له.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (٤٠)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ قرأ حمزة والكسائي بالياء، أي جبريل- عليه السلام- وإنما صار مذكراً على معنى الجنس، كما يقال: فلان ركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وقرأ الباقون، فنادته على معنى التأنيث، لأن اللفظ لفظ الجماعة، والمراد به أيضاً جبريل أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى قرأ حمزة وابن عامر: إن الله يبشرك، بكسر الألف، ومعناه: فنادته الملائكة. وقالوا له: إن الله يبشرك. وقرأ الباقون بالنصب، ومعناه:
فنادته الملائكة، بأن الله يبشرك بيحيى قال مقاتل: اشتق اسمه من اسم الله تعالى، والله تعالى حي، فسماه الله تعالى يحيى، ويقال: لأنه أحيا به رحم أمه. ويقال: لأنه حي به المجالس. ويقال غير ذلك بِيَحْيى، بأن الله يحييه، فيكون حياً عند الله أبداً، لأنه شهيد قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آل عمران: ١٦٩] ثم قال تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني بعيسى- عليه السلام- وكان يحيى أول من صدق بعيسى عليهما السلام، وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه، فلما شهد بذلك يحيى، عجب بنو إسرائيل لصغره، فلما شهد سمع زكريا شهادته، فقام إلى عيسى، فضمه إليه، وهو في خرقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين. وقال بعضهم صدقه وهو في بطن أمه، كانت أم يحيى عند مريم، إذ سجد يحيى بالتحية لعيسى، وكل واحد منهما كان
في بطن أمه، وذلك قوله مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً يعني حكيماً وَحَصُوراً يعني لا يأتي النساء، وهو قول الكلبي. وقال سعيد بن جبير: السيد الذي يملك غضبه، والحصور الذي لا يأتي النساء.
وقال مقاتل: يعني لا ماء له، يعني أن يحيى لم يكن له ماء في الصلب. وقال بعضهم: هذا لا يصح، لأن العنة عيب بالرجال، والنبي لا يكن معيباً، ولكن معناه أنه كان مانعاً نفسه من الشهوات، لأن الذي يمنع نفسه من الشهوات مع قدرته، كانت فضيلته أكثر من الذي لا قدرة له، ثم قال تعالى: وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ يعني أن يحيى كان نبياً من الصالحين، فلما بشره جبريل بذلك قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ قال ذلك على وجه التعجب، لا على وجه الشك، قال لجبريل: رب أي يا سيِّدي من أين يكون لي غلام؟ يعني ولد، وهذا قول الكلبي.
وقال بعضهم قوله رب، يعني قال: يا الله على وجه الدعاء، يا رب من أين يكون لي ولد؟ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ قال القتبي: هذا من المقلوب، يعني بلغت الكبر. وقال الكلبي:
كان يوم بشر ابن تسعين سنة، وامرأته قريبة في السن منه. وقال الضحاك: كان ابن مائة وعشرين سنة، فذلك قوله، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي الهرم وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد قالَ كَذلِكَ قال بعضهم: تم الكلام عند قوله كذلك، يعني هكذا كما قلت: إنه قد بلغك الكبر، وامرأتك عاقر ثم قال تعالى: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ وقال بعضهم: معناه. قال: كذلك يعني الله تعالى هكذا قال: إِنَّهُ يكون لك ولد، والله يفعل ما يشاء، إن شاء أعطاك الولد في حال الصغر، وإن شاء في حال الكبر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤١]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
ثم قال تعالى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً يعني اجعل لي علامة حين حملت امرأتي أعرف قالَ آيَتُكَ يعني علامة الحبل أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يعني أنك تصبح، فلا تطيق الكلام ثلاثة أيام إِلَّا رَمْزاً أي كلاماً خَفِيّاً. ويقال: الرمز بالشفتين والحاجبين، والإيماء باليد والرأس.
قال بعضهم: كان منع الكلام عقوبة له، لأنه بُشِّر بالولد، فسأل آية فحبس الله لسانه عن الناس ثلاثة أيام، ولم يحسبه عن ذكر الله، وعن الصلاة. وقال بعضهم: لم يكن عقوبة، ولكن كانت كرامة له، حين جعلت له علامة لظهور الحبل، ومعجزة له. وروى أسباط عن السدي أنه
قال: لما بُشِّر بيحيى قال له الشيطان: إن النداء الذي سمعت بالبشارة من الشيطان، ولو كان من الله، لأوحى إليك، كما أوحى إلى سائر الأنبياء. فقال عند ذلك: اجْعَل لي آية، حتى أعلم أن هذه البشارة منك. قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ.
وقال في آية أخرى: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: ١٠]، يعني أنك مستوي الخَلْق، ولا علة بك، ثم أمره بذكر ربه، لأن لسانه لم يمنع عن ذكر الله تعالى فقال:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعني بالغداة والعَشِيِّ ويقال بالليل والنهار.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ يعني اختارك بالإسلام وَطَهَّرَكِ من الذنوب والفواحش. ويقال: من دم الحيض والنفاس وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يعني بولادة عيسى بغير أب.
وقال بعضهم: اصطفاك أي فضلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ يعني أطيعي. ويقال: أطيلي القيام في الصلاة. وقال مجاهد: قامت في الصلاة حتى تورَّمَتْ قدماها، ونحل جسمها. ثم قال تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي مع المسلمين، يعني مع قراء بيت المقدس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٤ الى ٥١]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
212
قوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم من أخبار الغيب، مما غاب عنك خبره، ولم تكن حاضراً، وفي الآية دليل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم، ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك، وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يعني لم تكن عندهم، وإنما تخبر عن الوحي. فقال: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في أمر مريم إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ يعني جبريل- عليه السلام- وحده إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ قرأ نافع وعاصم وابن عامر يُبَشِّرُكِ بالتشديد في جميع القرآن.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في حم، عسق ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ [الشورى: ٢٣] بالتخفيف، وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: ٥٤] ووافقه الكسائي في بعضها، فمن قرأ بالتشديد، فهو من المباشرة، ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه يفرحك، وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض، ودخلت المغتسل كما قال في سورة مَرْيَمَ، إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
[مريم: ١٦]، يعني أرادت أن تغتسل في جنب المشرفة، فلما دخلت المغتسل، رأت بشراً كهيئة الإنسان كما قال فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: ١٧]، فخافت مريم، ثم قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم: ١٨]، لأن التقي يخاف الرحمن. فقال لها جبريل: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: ١٩]، وذكرها هنا بلفظ آخر. ومعناه واحد قال: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: ٤٥]، أي بولد بغير أب يصير مخلوقاً بكلمة من الله، وهو قوله كن فكان اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ويقال إنما سمي المسيح، لأنه يسيح في الأرض. ويقال:
المسيح بمعنى الماسح، كان يمسح وجه الأعمى فيبصر.
وقال الكلبي: المسيح الملك. ثم قال وَجِيهاً أي ذا جاه فِي الدُّنْيا وَله منزلة فِى الْآخِرَةِ وقال مقاتل: فيها تقديم يعني وجيهاً في الدنيا وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ في الآخرة عند ربه. وقال الكلبي: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا يعني في أهل الدنيا بالمنزلة، وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
213
الْمُقَرَّبِينَ
في جنة عدن وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي في حال صغره، وهو طفل في حجر أمه طفلاً وكهلاً، يعني إذا اجتمع عقله وكبر، فإن قيل: ما معنى قوله كهلاً؟ والكلام من الكهل لا يكون عجباً. قيل له: المراد منه كلام الحكمة والعبرة. ويقال: كهلاً بعد نزوله من السماء، وهو قول الكلبي وَمِنَ الصَّالِحِينَ مع آبائه في الجنة قالَتْ مريم رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ يعني من أين يكون لي ولد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وهو كناية عن الجماع ف قالَ جبريل كَذلِكِ يعني هكذا كما قلت إنه لم يمسسك بشر ولكن اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً يعني إذا أراد أن يخلق خلقا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فنفخ جبريل في جيبها، يعني في نفسها قال بعضهم: وقع نفخ جبريل في رحمها، فعلقت بذلك. وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل، لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة، وبعضه من الإنس، ولكن سبب ذلك إن الله تعالى لما خلق آدم- عليه السلام- وأخذ الميثاق من ذريته، فجعل بعضهم في أصلاب الآباء، وبعضهم في أرحام الأمهات، فإذا اجتمع الماءان صار ولداً، وإن الله تعالى جعل المَاءَيْن جميعاً في مريم، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها، لأن المرأة ما لم تهج شهوتها، لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل، وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها، فاختلط الماءان فعلقت بذلك، فذلك قوله: إِذا قَضى أَمْراً، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً سبحانه، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بغير أب، ثم قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ قرأ نافع وعاصم وَيُعَلِّمُهُ بالياء يعني أن الله يعلمه، وقرأ الباقون بالنون، ومعناه أن الله يقول ونعلمه الْكِتابَ يعني كتب الأنبياء. وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل: يعني الخط والكتابة، فعلّمه الله بالوحي والإلهام وَالْحِكْمَةَ يعني الفقه وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه. وقال بعضهم: وهو عالم بالتوراة.
وقال بعضهم: ألهمه الله بعد ما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة.
ثم قال: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ نصب رسولاً لمعنيين: أحدهما يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، والثاني ويكلم الناس ورسولاً. أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وذكر الزجاج- فالمعنى والله أعلم- ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم. ثم أخبر عن أداء رسالته بعد ما أوحى إليه في حال الكبر، حيث قال لقومه: أنى قد جئتكم بآية من ربكم، يعني علامة لنبوتي، ثم بيّن العلامة فقال: أَنِّي أَخْلُقُ أي أقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ويقال: إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له: اخلق لنا خفَّاشاً، واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك، فأخذ طيناً، وجعل منه خفاشاً، ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، فكأن تسوية الطين، والنفخ من عيسى- عليه السلام- والخلق من الله- عز وجل- كما أن النفخ من جبريل- عليه السلام- والخلق من الله- عَزَّ وَجَلَّ- ويقال: إنما طلبوا منه خلق خفاش، لأنه
214
أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان، ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور، ويكون له ضرع يخرج منه لبن، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة، فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا. وقالوا: هذا سِحْر.
ثم قال تعالى: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ الأكمه الذي ولد أعمى فقالوا: إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا، فذهبوا إلى جالينوس، وأخبروه بذلك فقال جالينوس: إذا ولد أعمى، لا يبصر بالعلاج، والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة فيه لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج، فرجعوا إلى عيسى- عليه السلام- وجاءوا بالأكمه والأبرص، فمسح يده عليهما، فأبصر الأعمى، وبرأ الأبرص، فآمن به بعضهم، وجَحَد بعضهم. وقالوا: هذا سِحْر. ثم قال تعالى: وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فأَخْبَروا بذلك جالينوس. فقال: الميت لا يعيش، ولا يحيى بالعلاج، فإن كان هو يحيي الموتى، فهو نبي، وليس بطبيب، فطلبوا منه أن يحيي الموتى، فأحيا أربعة نفر، أحدهم عازر، وكان صديقاً له، فبلغه أنه مات، فذهب مع أصحابه، وقد دفن، وأتى عليه أيام، فدعا الله، فقام بإذن الله تعالى وَوَدَكُه يقطر، فعاش وَوُلد له. والثاني ابن العجوز، مَرّ به وهو يحمل على سرير، فدعا الله، فقام بإذن الله تعالى، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه، ورجع إلى أهله. والثالث ابنة من بنات العاشر ماتت، وأتى عليها ليلة، فدعا الله تعالى، فعاشت بعد ذلك، وولد لها. والرابع سام بن نوح، لأن القوم قالوا له: إنك تحيي من كان موته قريباً، فلعلهم لم يموتوا، وأصابتهم سكتة، فأحيي لنا سام بن نوح. فقال: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره، فدعا الله تعالى، فأحياه وخرج من قبره قد شابت رأسه. فقال له عيسى: كيف شابت رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله إنك لما دعوتني، سمعت صوتاً يقول أَجِبْ روحَ الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن ذلك الهول شابت رأسي، فسأله عن النَّزْع. فقال له: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، ثم قال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله، فآمن به بعضهم، وكذب به بعضهم. وقالوا: هذا ساحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق، فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وما نَدَّخر للغد، فأخبرهم. فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا، وادّخرت كذا وكذا، فذلك قوله عز وجل: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر.
ويقال إن الله بعث كل نبي إلى قومه، وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه، فكان في زمن موسى- عليه السلام- الغالب عليهم السحر، فبيَّن لهم من جنس ذلك، ليعرفوا أن ذلك ليس
215
بِسِحْر، وأنه من الله تعالى، وكان الغالب في زمن عيسى- عليه السلام- علم الطب، فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه، فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب، وكان في زمن نبينا- عليه السلام- الفصاحة والشعر، فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ يعني فيما صنع عيسى- عليه السلام- علامة لنبوته إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين أنه نبي، قرأ نافع: فيكون طائراً، وكذلك في سورة المائدة. وقرأ الباقون بغير ألف، ومعناهما واحد. ويقال: الطائر واحد، والطير جماعة. ثم قال: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومعناه جئتكم مصدقاً، يعني الكتاب الذي أنزل عليّ، وهو الإنجيل مُصَدِّقاً، أي موافقاً لما بين يدي من التوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ يعني أرخص لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مثل الشحوم، ولحوم الإبل، ولحم كل ذي ظفر، وأما الميت، ولحم الخنزير، فهو حرام أبداً. قوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني أني لم أحل لكم شيئاً بغير برهان، فحقيق عليكم اتباعي، لأني أتيتكم ببرهان، وأتيتكم بتحليل الطيبات فَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم ونهاكم وَأَطِيعُونِ فيما آمركم وأنهاكم، وأنصح لكم إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا: إن الله هو المسيح. وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فاعترف عيسى أنه عبد الله، وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أي خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم، فاعبدوه، أي وحدوه ولا تشركوا به شيئا هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم، لا عوج فيه، وهو طريق الجنة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قال الكلبي: فلما عرف منهم الكفر بالله. ويقال: فلما سمع منهم كلمة الكفر. وقال الزجاج: أحس في اللغة علم، ووجد. ويقال هل أحسست الخبر؟ أي هل عرفته وعلمته؟.
وقال مقاتل: فلما رأى من بني إسرائيل الكفر. كقوله عز وجل: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم: ٩٨] يعني هل ترى؟ ويقال: إنه لما علم عيسى أنهم أرادوا قتله قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يقول: من أعواني مع الله؟ قال القتبي: إلى هاهنا بمعنى مع مثل قوله، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢]، أي مع أموالكم، كما يقال: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود.
فقال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ أي مع الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ قال الكلبي:
الحواريون هم أصفياء عيسى- عليه السلام- وكانوا اثني عشر رجلاً. وقال مقاتل: كانوا قَصَّارين، فمر بهم عيسى- عليه السلام- وقال: مَنْ أنصارى إِلَى الله؟ قالوا: نحن أنصار الله.
ويقال: إنه مر بهم، وهم يغسلون الثياب. فقال لهم: إيش تصنعون قالوا: نطهر الثياب.
فقال: ألا أدلكم بطهارة أنفع من هذا؟ قالوا: نعم. فقال: تَعَالَوْا حتى نطهرَ أنفسنا من الذنوب، فبايعوه. ويقال: إنهم كانوا صيادين، فمرَّ بهم. وقال: ألا أدلُّكم على اصطياد أنفعَ لكم من هذا؟ قالوا: نعم. فقال: تَعَالَوْا حتى نصطاد أنفسنا من شر إبليس، فبايعوه. وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إنما سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَوارِيَّ من أُمَّتِي»، يعني به الخالص، فهذا يكون دليلاً لقول الكلبي: إنهم خواصه وأصفياؤه، ومعنى آخر نَحْنُ أَنْصَارُ الله، يعني أنصار دين الله آمَنَّا بِاللَّهِ أي صدقنا بتوحيد الله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يعني أشهدنا، على ذلك، فاشهد يا عيسى بأنا مسلمون ثم قالوا: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الإنجيل على عيسى وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي عيسى- عليه السلام- عَلَى دينه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني اجعلنا مع من أسلم قبلنا، وشهدوا بوحدانيتك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٤]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
ثم قال تعالى حكاية عن كفار قومه: وَمَكَرُوا يعني أرادوا قتل عيسى- عليه السلام- وَمَكَرَ اللَّهُ تعالى، أي جازاهم جزاء المكر وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ لأن مكرهم جَوْرٌ ومكر الله عَدْل. قال الكلبي: وذلك أن اليهود اجتمعوا على قتل عيسى، فدخل عيسى- عليه السلام- البيت هارباً منهم، فرفعه جبريل من الكوَّة إلى السماء. كما قال في آية أخرى، وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: ٨٧، ٢٥٣] فقال ملكهم لرجل خبيث يقال له يهوذا: ادخل عليه، فاقتله، فدخل الرجل الخوخة، فلم يجد هناك عيسى، وألقى الله عليه شبه عيسى- عليه السلام- فلما خرج رأوه على شبه عيسى، فأخذوه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى، فوقع بينهم قتال، فقتل بعضهم بعضاً، فلما خرجوا رأوه على بيت، فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ قال الضحاك: وكانت القصة أن اليهود خذلهم الله تعالى لما أرادوا قتل عيسى- عليه السلام- اجتمع الحواريون في غرفة، وهم اثنا عشر رجلاً، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود، فركب منهم أربعة آلاف رجل، فأحدقوا بالغرفة. فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج فَيُقْتَلُ وهو معي في الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوف، وناوله عكازه، فألقي عليه شبه عيسى- عليه السلام- فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما المسيح، فكساه الله الريش، وألبسه النور،
وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال: إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعد ما يقتل الدجال، وتلد له ابنة، فتموت ابنته، ثم يموت هو بعد ما يعيش سنين، لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة، فاستجاب الله دعاه.
وروي عن أبي هريرة أنه جاء إلى الكتاب، وقال للمعلم: قل للصبيان حتى يسكتوا، فلما سكتوا قال لهم: أيها الصبيان من عاش منكم إلى وقت نزول عيسى- عليه السلام- فليقرئه مني السلام، وإني كنت أرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أراه هذا كناية عن قرب الساعة.
ثم قال: وَمُطَهِّرُكَ أي منجيك مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ على دينك فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحجة والغلبة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال: الذين اتبعوه هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنهم هم الذين صدّقوه.
ثم قال ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ يعني الذين اتبعوك، والذين كفروا كلهم مرجعهم إلي.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يعني بين المؤمنين والكفار فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدين، ثم أخبر عن حال الفريقين في الآخرة فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ في الدنيا بالقتل والجزية، وفي الآخرة بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانع يمنعهم من عذاب الله وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال مقاتل هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلم «فَيوفيهم أجورهم».
قرأ عاصم في رواية حفص، فيوفيهم بالياء، يعني يوفيهم أجورهم، وأما الباقون بالنون، يعني أن الله قال فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وهذا لفظ الملوك، إنهم يتكلمون بلفظ الجماعة، ويقولون: نحن نفعل كذا وكذا، ونكتب إلى فلان، ونأمر بكذا، فالله تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع إِنَّا أُرْسِلْنا [القمر: ١٩] إِنَّا أَنْزَلْنا [النساء: ١٠٥]
وكذلك هاهنا قال: «فنوفيهم أجورهم» أي نعطيهم ثواب عملهم وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يرضى دين الكافرين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ يقول هذه الآيات، وهذه القصص بينات في القرآن.
وأنزلنا عليك جبريل، ليقرأ عليك من الآيات يعني من البيان وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ يعني القرآن كله. وقال الكلبي: الذكر الحكيم الذي عند رب العالمين في درة بيضاء، وهو اللوح المحفوظ. ويقال هو القرآن، لأنه محكم ليس فيه تناقص، ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله.
ويقال: هو الشرف كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤].
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٩]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
ثم قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ نزلت في وفد نجران، السيد والعاقب، والأسقف، وجماعة من علمائهم وأحبارهم، قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وناظروه في أمر عيسى- عليه السلام- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ»، فقالوا: أرنا خلقاً من خلق الله تعالى بغير أب، وَكَانَ يُحيي الموتى، وكان فيه دليل على ما قلنا، وكانوا يقولون: إنه اتخذه ابناً، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «أسْلِمُوا» فقالوا: قد أسلمنا قبلك، فقال لهم: «كَذَبْتُمْ، إنَّمَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإسْلامِ ثَلاثٌ، أَكْلُ لَحْمِ الخَنْزِيرِ، وَعِبَادَةُ الصَّلِيبِ، وَقَوْلُكُمْ: لله وَلَدٌ»، فقالوا له: من أبو عيسى؟ فنزل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ يعني: شبه خلق عيسى عند الله كشبه خلق آدم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يعني: صوّره من غير أب ولا أم ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فكان بشراً بغير أب، كذلك عيسى كان بشراً بغير أب، وفي هذه الآية دليل علمي أن الشيء يشبه بالشيء، وإن كان بينهما فرق كبير، بعد أن يجتمعا في وصف واحد، كما أن هاهنا خلق آدم من تراب، ولم يخلق عيسى من تراب، وكان بينهما فرق من هذا الوجه، ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب، ولأن أصل خلقهما جميعاً كان من تراب، لأن آدم لم يخلق من نفس التراب، ولكنه جعل التراب طيناً، ثم جعله صلصالاً، ثم خلقه منه، فكذلك عيسى- عليه السلام- حوله من حال إلى حال، ثم خلقه بشراً من غير أب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
ثم قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يعني خبر عيسى، كما أخبرتك وأنبأتك في القرآن فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين. ويقال: المثل الذي ذكر في عيسى، هُوَ الحق مِن رَّبّكَ، وهذا الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، والمراد منه جميع من اتبعه، ومعناه فلا تكونوا من الممترين، أي من المشركين، يعني أن مثله كمثل آدم- عليهما السلام- فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ وذلك أن النصارى لما أخبرهم بالمثل في حق عيسى- عليه السلام- قالوا ليس كما تقول، وهذا ليس بمثل، فنزلت هذه الآية فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ يعني خاصمك في أمر عيسى- عليه السلام- مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من البيان في أمره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي نخرج أبناءنا وأبناءكم وَنخرج نِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ يعني نحن بأنفسنا، ويقال:
إخواننا ونجتمع في موضع ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نلتعن. وقال مقاتل: يعني نخلص في الدعاء.
ويقال: هي المبالغة في الدعاء والتضرع فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فواعدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن يخرجوا للملاعنة، فجعلوا وقتاً للخروج، وتفرقوا على ذلك، ثم ندموا، فلما كان ذلك اليوم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخذ بيد الحسن والحسين، وخرج معه علي بن أبي طالب، وفاطمة، فلما اجتمعوا في الموضع الذي واعدهم، طلب منهم الملاعنة، فقالوا نعوذ بالله، فقال لهم: «إِمَّا أَنْ تُلْعَنُوا، وَإِمَّا أَنْ تُسْلِمُوا، وَإِمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ»، فقبلوا الجزية، وصالحوه بأن يؤدوا كل سنة ألفي حلة، ألف حلة في المُحَرَّم، وألف حلة في رجب، وأَمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح، ورجعوا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّهُمُ الْتَعَنُوا لَهَلَكُوا كُلُّهُمْ حَتَّى العَصَافِيرُ فِي سقوف الحيطان».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٦٦)
ثم قال الله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ يعني ما أُخْبِرُوا من أمر عيسى- عليه السلام- هو الخبر الحق يعني أنه كان عبد الله ورسوله. ويقال: هذا القرآن هو الحق وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ لا شريك له وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ العزيز في ملكه، الحكيم في أمره حكم
بخلق عيسى في بطن أمه من غير أب. فَإِنْ تَوَلَّوْا يقول: أَبَوْا، ولم يسْلموا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ يجازيهم بذلك، وهذه كلمة تهديد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ يعني كلمة عدل بيننا وبينكم.. ويقال في قراءة عبد الله بن مسعود: إلى كلمة عدل بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ، يعني لا إله إِلاَّ الله، وهي كلمة الإخلاص ويقال إلى كلمة تسوي بيننا وبينكم، فتصير دماؤكم كدمائنا، وأموالكم كأموالنا أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ يعني ألا نُوَحِّد إِلا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من خلقه وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ لأنهم اتخذوا عيسى رباً مِن دُونِ الله.
ويقال: لا يطيع بعضنا بعضاً في المعصية. كما قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة التوبة: ٣١] أي أطاعوهم في المعصية. ويقال: لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا. كما قالت النصارى: إن الله ثالثُ ثلاثة فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني أبوا عن التوحيد فَقُولُوا لهم يا معشر المسلمين اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مخلصون لله بالعبادة والتوحيد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا اجتمعوا في بيت مدرسة اليهود، وكل فريق يقول كان إبراهيم منا، وكان على ديننا فنزل يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي لِمَ تخاصمون في دين إبراهيم وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد إبراهيم- عليه السلام- ولكن اليهودية والنصرانية إنما سميت بهذا الاسم بعد نزول التوراة والإنجيل. وقال الكلبي: نزلت في شأن النفر الذين كانوا بالحبشة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فهم جعفر الطيار وغيره. كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً أي أطاعوهم في المعصية، وكانت بينهم، وبين أحبار الحبشة مناظرة في ذلك الوقت، فنزلت هذه الآية.
وقال الزجاج: هذه الآية أبين الحجج على اليهود والنصارى، بأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب، وهو قوله: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ يقول: أليس لكم ذهن الإنسانية أن تنظروا فيما تقولون ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ يقول أنتم يا هؤلاء خاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ في صفة محمد صلّى الله عليه وسلم- فتجدونه في كتبكم- فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يقول: ما ليس في كتابكم، وهو أمر إبراهيم- عليه السلام- اللَّهُ يَعْلَمُ أن إبراهيم كان على دين الإسلام وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٧]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يقول: لم يكن إبراهيم- عليه السلام- على دين
اليهودية ولا النصرانية وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً أي مخلصاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني ما كان أي لم يكن على دينهم. وقال الزجاج: الحنف في اللغة إقبال صدر القدمين إقبالاً لا رجوع فيها أبداً، فمعنى الحنيفية في الإسلام، الإقبال والميل إليه، والإقامة على ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٨]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
ثم قال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ يقول: أحق الناس بدين إبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ واقتدوا به وآمنوا به وَهذَا النَّبِيُّ يعني هو على دينه ومنهاجه وَالَّذِينَ آمَنُوا هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم على دينه، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ في العَوْن والنُّصرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني أرادت، وتمنت جماعة مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أي يصرفونكم عن دين الإسلام وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي وَبَالُ ذلك يرجع إلى أنفسهم. ويقال: وما يضلون إلا أنفسهم، أمثالهم كقوله عزّ وجلّ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة: ٥٤] أي بعضكم بعضاً وَما يَشْعُرُونَ قال مقاتل: أي وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم.
وقال الكلبي: وما يشعرون أن الله يَدُلُّ نبيَّه- عليه السلام- على ضلالتهم أي يطلعه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
ثم قال: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يقول لم تجحدون بالقرآن وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنه نبيّ الله، لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال: بآيات الله، يعني بعجائبه ودلائله. ويقال: بآية الرجم ثم قال: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ يقول لِمَ تخلطون الكفر بالإيمان؟ لأنهم آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني بعث محمد صلّى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق، وأنه في التوراة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
222
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ قال الكلبي: وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قَدِمَ المدينة، صلى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، أو ثمانية عشر شهراً، فلما صرف الله نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، وقد كان صلى صلاة الصبح إلى بيت المقدس، وصلّى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة. فقال رؤساء اليهود منهم:
كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وغيرهما للسفلة منهم، آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، صدقوه بالقبلة التي صلّى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به، وإنه الحق، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني اكفروا بالقبلة التي صلى إليها آخر النهار لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى قبلتكم ودينكم. وقال مقاتل: معناه أنهم جاءوا إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أول النهار، ورجعوا من عنده، وقالوا للسفلة: هو حق فاتبعوه، ثم قالوا: حتى ننظر في التوراة، ثم رجعوا في آخر النهار. فقالوا:
قد نظرنا في التوراة، فليس هو إياه، يعنون أنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة، وأن يشككوا فيه فذلك قوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ يعني قالوا: لهم في أول النهار آمنوا به وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني قالوا: في آخر النهار، واكفروا به لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي يشكون فيه فيرجعون.
ثم قال للسفلة: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه ولا تؤمنوا، أي لا تصدقوا، إلا لمن تبع دينكم، فإنه لن يؤتى أحد مثل ما أُوتيتُمْ من التوراة، والمَنّ والسَّلوى، ولا تخبروهم بأمر محمد صلّى الله عليه وسلم، فيحاجوكم عند ربكم، أي يخاصموكم، ويجعلوه حجة عليكم. فقالوا ذلك حسداً حيث كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم من غيرهم قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله، وهو قول مقاتل.
وقال الكلبي: بغير تقديم وتأخير، يقول: وَلا تُؤْمِنُوا، أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية، وصلى إلى قبلتكم، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ يقول: دين الله هو الإسلام.
أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يقول لن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والقرآن الذي فيه الحلال والحرام أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي: لن يخاصمكم اليهود عند ربكم يوم القيامة، ثم قال قُلْ يا محمد إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني النبوة، والكتاب والهدى، بيد الله، أي: بتوفيق الله، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني يوفق من يَشَآءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يقول: واسع الفضل عَلِيمٌ بمن يؤتيه الفضل يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يعني بدينه يعطيه من يشاء من عباده وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي ذو المنّ العظيم، لمن اختصه بالإسلام.
223

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قرأ أبو عمرو وحمزة يُؤَدِّهْ بجزم الهاء، وهي لغة لبعض العرب، واللغة المعروفة هي بإظهار الكسرة. قال مقاتل: يعني عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الله تعالى ذكر أن أهل الكتاب فيهم أمانة، وفيهم خيانة وقال الضحاك: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يعني به عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقيّة من الذهب، فأداها إليه، فمدحه الله تعالى ويقال: إن نعت محمد صلّى الله عليه وسلم أمانة، فمن كتمه، دخل تحت قوله لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، ومن لم يكتمه دخل تحت قوله يُؤَدِّهِ، ثم قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وهو فنْخاص بن عازورا اليهودي، أودعه رجل ديناراً، فخانه. ويقال: يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، يعني النصارى كانوا أَلْيَنَ قُلوباً، يؤدون الأمانة، واليهود لا يؤدون الأمانة، فكانوا إذا أخذوا أمانات الناس، أو مال اليتامى، فكانوا يغتنمون ذلك، كما يفعل بعض أهل الإسلام إذا وقع في يده شيء من أموال المسلمين جعله كالغنيمة.
ثم قال تعالى: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي ملحّا متقاضيا وذلِكَ يعني الاستحلال بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم.
ويقال: من لم يكن على ديننا، فَمَالُه لنا حلال، بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهم يعلمون، لأنهم كانوا يقولون إن ذلك حلال في التوراة، فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون على الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الله أمرهم بأداء الأمانة، وأخذ على ذلك ميثاقهم، فهذا قوله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أي بعهد الله الذي أخذ عليهم بأداء الأمانة، وهي نعت محمد صلّى الله عليه وسلم وَاتَّقى محارمه، هذا قول مقاتل وقال الكلبي: واتقى ظلم الناس فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ عن نقض العهد.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في شأن عبدان بن الأشوع، وامرئ القيس بن عابس، ادّعى أحدهما على صاحبه حقاً، فأراد المدَّعى عليه أن يحلف بالكذب، فنزلت هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في شأن رؤساء اليهود، كتموا نعت محمد صلّى الله عليه وسلم، لأجل منافع الدنيا. ويقال: إن جماعة من علماء اليهود، قَدِموا المدينة من الشام ليُسلموا، فلقيهم كَعْب بن الأشرف فقال لهم: تعلمون أنه نبي؟ قالوا: نعم. فقال لهم كعب: حَرَّمْتُمْ على أنفسكم خيراً كثيراً، لأني كنت أردت أن أَبْعث لكم الهدايا. فقالوا: حتى ننظر في ذلك، فنظروا ثم رجعوا. فقالوا: ليس هو الذي وجدنا صفته، فأخذ منهم إقرارهم وخطوطهم وأَيْمَانهم على ذلك، ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية أذرع من الكرباس، وخمسة أصوع من الشعير، فنزل في شأنهم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أي عرضا يسيراً أُولئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم في الآخرة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وقال الزجاج: قوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، يحتمل معنيين أحدهما إسماع كلام الله تعالى أولياءه، خصوصاً لهم، كما كلم موسى خصوصية له دون البشر، ويجوز أن يكون تأويله للغضب عليهم، كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً، ولا ينظر إليه، أي هو غضبان عليه، وإن كان هو يكلمه بكلام السوء، فذلك معنى قوله لا يكلمهم، أي بكلام الرحمة وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالرحمة وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم قال وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يعني طائفة من اليهود، وهذه اللام لزيادة تأكيد على تأكيد يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يحرفون ألسنتهم بالكتاب، يعني بنعت محمد صلّى الله عليه وسلم ويغيرونه، ويقال: يغيرونه في التلاوة فيقرؤونه على خلاف ما في التوراة. ويقال: يحرفون تأويله على خلاف ما فيه لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي من التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي من التوراة، بل هم كتبوا وهم تأوَّلوا وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ليس هو من عند الله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه كذب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ أي التوراة والإنجيل وَالْحُكْمَ يعني الفهم
وَالنُّبُوَّةَ وهو عيسى ابن مريم- عليهما السلام- ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ ما جاز له أن يقول للناس: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ويقال: إن اليهودَ والنصارى اختلفوا فيما بينهم، فجاء الفريقان جميعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال كل فريق: نحن أولى بإبراهيم- عليه السلام- فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ عَلَى الخَطَأ» فغضبوا. وقالوا: والله ما تريد إِلاَّ أَن نتخذك حَنَّاناً، أي معبوداً، فأنزل الله تعالى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ، يعني القرآن والحكم، يعني الحلال والحرام والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله وَلكِنْ يقول لهم كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي متعبدين ويقال كونوا علماء فقهاء.
قال الزجاج: الربانيون أرباب العلم، والبيان، أي كانوا علماء بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أي كونوا عاملين بما كنتم تعلمون، لأن العالم إنما يقال له عالم إذا عمل بما علم، وإن لم يعمل بعلمه، فليس بعالم، لأن من ليس له من علمه منفعة، فهو والجاهل سواء ثم قال: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ يقول بما كنتم تقرؤون يعني كونوا علماء بذلك عاملين به. قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو «بما كنتم تَعْلَمُون» بنصب التاء والتخفيف، يعني يُعَلِّمكم الكتاب ودراستكم والباقون بضم التاء والتشديد يعني تُعَلِّمُون غيركم فإنما يأمركم بذلك وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً يعني عيسى وعُزَيراً والملائكة- صلوات الله عليهم-، ولو أمركم بذلك لَكَفَر، وتنزع النبوة منه أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ يعني بعبادة الملائكة بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون بالتوحيد لله. قرأ عاصم وحمزة وابن عامر: ولا يَأْمُرَ بنصب الراء ينصرف إلى قوله مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ، فيصير نصباً بأن، والباقون ولا يأمرُكم بضم الراء على معنى الابتداء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
ثم قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ يعني الميثاق حيث أخرجهم من صلب آدم- عليه السلام- وَأَخَذَ عليهم الميثاق العهد أن يبلغ الأول الآخر، وأن يصدق الآخر الأول، فذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ يعني إقرار النَّبِيِّين لَما آتَيْتُكُمْ قرأ حمزة لِمَا آتيتكم بكسر اللام والتخفيف، يعني بما آتيتكم، والباقون بنصب اللام، ومعناه فما آتيتكم يعني، أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به. وقرأ بعضهم بنصب اللام والتشديد، أي حين آتيتكم مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ يعني بيان الحلال والحرام. وقرأ نافع آتيناكم بلفظ الجماعة، وهو لفظ
الملوك، والباقون آتيتكم بلفظ الوحدان. ويقال: أخذ الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبيّاً، إلا ذكر له محمداً صلّى الله عليه وسلم ونعته، وأخذ عليه ميثاقه أن يبينه لقومه، وأن يأخذ منهم ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم، ولا يكتمونه ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني به أهل الكتاب، الذين كانوا في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ في التوحيد وبعض الشرائع، وذلك أن الله تعالى لما أخذ ميثاق الأنبياء، وأخذ الأنبياء الميثاق من قومهم بأن يبينوه، فلما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، فكذبوه فذكرهم الله تعالى ما أتاهم به أنبياؤهم فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني محمد صلّى الله عليه وسلم مصدق لما معكم من التوراة لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ يعني قال لهم في الميثاق: لتؤمنن به أي لتصدقنه إذا بُعث وَلَتَنْصُرُنَّهُ إذا خرج قالَ لهم أَأَقْرَرْتُمْ بتصديقه، يعني: هل أقررتم بما أخذ عليكم من الميثاق بتصديقه ونصره؟ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي يعني: هل قبلتم على ذلك عهدي الذي أخذت عليكم على إيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلم؟
قالُوا أَقْرَرْنا قالَ الله تعالى فَاشْهَدُوا بعضكم على بعض بأني قد أخذت عليكم العهد وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ على إقراركم.
قال الزجاج: قوله فاشهدوا، أي فاثبتوا، لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وشهادة الله للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآيات المعجزات. وقال القتبي: أصل الإصر الثقل، فسمي العهد إصراً، لأنه يمنع صاحبه عن مخالفة الأمر الذي أخذ عليه فثقل.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
قوله تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أي أعرض عن الإيمان، وعن البيان بعد ذلك الإقرار والعهد قوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الناقضون للعهد، ويقال: هم العاصون، وأصل الفسق الخروج من الطاعة كقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف: ٥٩] أي خرج عن طاعة ربه وقوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ قال الكلبي: وذلك أن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فقالوا: أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كِلاَ الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِ» فقالوا: ما نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزل قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ أي يطلبون، قرأ عاصم في رواية حفص يَبْغُونَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كلاهما بالياء. وقرأ أبو عمرو يبغون بالياء، وإليه ترجعون بالتاء، وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة، فمن قرأ بالياء، يعني أفغير دين الله يطلبون من عندك، ومن قرأ بالتاء يعني أفغير دين الله تطلبون، وَلَهُ أَسْلَمَ، أي أخلص وخضع مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً.
قال الكلبي: أما أهل السموات، فأسلموا لله طائعين، وأما أهل الأرض، فمن ولد في الإسلام أسلم طوعاً، ومن أبى قُوتِل حتى دخل في الإسلام كرهاً، وما أفاء الله عليهم مما يسبون، فيجاء بهم في السلاسل، فيكرهون على الإسلام. وقال مجاهد: يسجد ظل المسلم ووجهه طائع، ويسجد ظل الكافر، وهو كاره. وقال مقاتل: وله أسلم من في السموات، يعني الملائكة والأرض، يعني المؤمنين طوعاً وكرهاً، يعني أهل الأديان يقولون الله ربكم وخالقكم، فذلك إسلامهم، وهم مشركون معنى قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم، لا يمتنع ممتنع من جبلة ما جبل عليها، ولا يقدر على تغيير ما خلق عليها طوعاً وكرهاً. ثم قال: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كما خلقكم، أي كما بدأكم فلا تقدرون على الامتناع، كذلك يبعثكم كما بدأكم. قرأ عاصم في رواية حفص يرجعون، وقرأ الباقون بالتاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٤]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
ثم قال: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأراد به أمته فقال: قل للمؤمنين إن لم يؤمن أهل الكتاب فقولوا أنتم آمنا بالله وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وقد ذكرناه في سورة البقرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٥]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
قوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً قال الكلبي: نزلت في شأن مرثد بن أبي مرثد، وطُعْمَة بن أَبَيْرق، ومقيس بن صبابة، والحارث بن سُوَيد، وكانوا عشرة. وقال مقاتل: كانوا اثني عشر. وقال الضحاك: يعني لا يقبل من جميع الخلق من أهل الأديان ديناً غير دين الإسلام، ومن يتدين غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي من المغبونين، لأنه ترك منزله في الجنة، واختار منزله في النار.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٩١]

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي بعد ما ظهر لهم العلامات وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه، لا يهديه الله، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين، أسلموا وهداهم الله، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم. قيل له: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم، ولا يُقْبِلُون إلى الإسلام، فأما إذا جاهدوا، وقصدوا الرجوع، وفقهم الله لذلك لقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت: ٦٩] وتأويل آخر: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ يقول: كيف يرشدهم إلى الجنة؟ كما قال في آية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [سورة النساء: ١٦٨، ١٦٩] ويقال: كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة؟ ويقال: كيف يغفر الله لهم؟ وقالت المعتزلة: كَيْفَ يَهْدِي الله؟ معناه: كيف يكونون مهتدين، لأنهم لا يرون الهداية، والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء، ويرون ذلك من كسب العبد. ثم قال: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ يعني أهل هذه الصفة التي ذكر أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
أي سخط الله. ويقال: الطرد والتبعيد من رحمة الله والخذلان.
ويقال: يلعنهم بالقول: وَالْمَلائِكَةِ يعني عليهم لعنة الله والملائكة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إذا لعن رجل رجلاً، فإن لم يكن أهلاً لذلك، رجعت اللعنة إلى الكفار، ويقال: من لم يكن على دينهم، يلعنهم في الدنيا، ومن كان على دينهم، يلعنهم في الآخرة. لقوله تعالى: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [سورة العنكبوت: ٢٥] فذلك قوله تعالى:
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
ثم قال تعالى: خالِدِينَ فِيها يعني في اللعنة فيما توجبه اللعنة، وهو عذاب النار خالدين فيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يهون عليهم العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤجلون. ثم استثنى التوبة فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا يقول: من
بعد الكفر، وأصلحوا أعمالهم بالتوبة. ويقال: أصلحوا لمن أفسدوا من الناس فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما كان منهم في الكفر رَّحِيمٌ بهم بعد التوبة. قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية، أي الرخصة بالتوبة، كتب أخو الحارث بن سُوَيْد، إلى الحارث: إن الله قد عرض عليكم التوبة، فرجع وتاب. وبلغ ذلك إلى أصحابه الذين بمكة، فقالوا: إن محمداً تتربص به ريب المنون. فقالوا: نقيم بمكة على الكفر، متى بدا لنا الرجعة رجعنا، فينزل فينا ما نزل في الحارث، فتقبل توبتنا فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي ثبتوا على كفرهم بقولهم: نقيم بمكة ما بدا لنا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ما أقاموا على الكفر.
قال الزجاج: كانوا كلما نزلت آية كفروا بها، فكان ذلك زيادة كفرهم. وقوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، أي توبتهم الأولى، وحبط أجر عملهم. ويقال: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، معناه أنهم لن يتوبوا. كما قال: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [سورة البقرة: ٤٨]، أي لا يشفع لها أحد، ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عن الإسلام، وهم الذين لم يتوبوا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال الكلبي: يعني وزن الأرض ذهباً.
وقال مقاتل: إن الكافر إذا عاين النار في الآخرة، يتمنى أن يكون له الأرض ذهباً، فيقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب، لافتدى به ولو افتدى به ما تقبل منه، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، ونظيرها في سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ [المائدة: ٣٦].
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ الآية.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه قال لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، أي حتى تخرجوا أموالكم طيبة بها أنفسكم. وقال مقاتل: يعني لن تنالوا التقوى، حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ يعني الصدقة وصلة الرحم فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه، فيثيبكم عليه. ويقال: لن تنالوا البر حتى تستكملوا التقوى. ويقال:
لا تكونوا بارين، حتى تنفقوا مما تحبون، أي من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يشتري أعدالاً من السُّكَّر، ويتصدق بها. فقيل له: هلا تصدقت بثمنه؟ فقال: لأنَّ السُّكَّر أَحبّ إِليَّ، فأردت أن أتصدق مما أحب.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه اشترى جارية جميلة، وكان يحبها، فمكثت عنده أياماً، ثم أعتقها وزوجها من رجل، فَوُلِد لها ولد، فكان يأخذ ولدها، ويضمّه إلى نفسه. ويقول:
أشم منك ريح أمك. فقيل له: قد رزقك الله من حلال، وأنت تحبها، فلم تركتها؟ فقال: ألم
تسمع هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ في مصحف مذهب، فلما انتهت إلى هذه الآية باعته، وتصدقت بثمنه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ قال في رواية الكلبي: خرج يعقوب إلى بيت المقدس، فلقيه ملك في الطريق، فظن يعقوب أنه لص، فعالجه، فغمز الملك رجل يعقوب، فهاج به عرق النساء، فنذر أن يحرم أحب الطعام إليه إن برأ من ذلك لما رأى فيه من الجهد. فلما برأ كان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها، فحرمها على نفسه. فقالت اليهود:
هذا التحريم من الله تعالى في التوراة، فنزل قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي كان حلالاً، إلا الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير ثم قال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ وليس تحريمها في التوراة ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لليهود فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها يعني اقرءوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأن تحريمها في التوراة، لأنهم كانوا يقولون: إن ذلك حرام من وقت نوح، وأنت وأصحابك تستحلونها. وقال الضحاك: إن يعقوب لما أصابه عرق النساء، أمره الأطباء أن يتجنب لحوم الإبل، فحرم على نفسه لحوم الإبل. فقالت اليهود: حرَّمْناها على أنفسنا، لأن يعقوب حرّمها على نفسه، فنزل تحريمها في التوراة، فنزلت الآية ويقال معناه كل طعام هو حلال لأمتك، مثل ما كان حلالاً لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، وبعضها حُرّم عليهم بذنوبهم. وقال الزجاج: هذه الآية أعظم دليل لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه أخبرهم بأنه ليس في كتابهم، وأمرهم بأن يأتوا بالتوراة، فأبوا وعرفوا أنه قال ذلك بالوحي.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
ثم قال تعالى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
يعني اختلق على الله الكذب مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
البيان في كتابهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
يعني يظلمون أنفسهم قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أن تحريمه ليس في التوراة. ويقال: قُلْ صَدَقَ الله، حين قال: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا [آل عمران: ٦٧] فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مخلصا مستقيماً، وكلوا لحوم الإبل وألبانها، كما أكلها إبراهيم، ولا تحرموا على أنفسكم شيئاً بأهوائكم وَما كانَ إبراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني على دينهم.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مقاتل يعني أول مسجد وضع للناس، أي للمؤمنين.
ويقال: أول موضع خلق، هو موضع الكعبة للناس، أي قبلة للناس لَلَّذِي بِبَكَّةَ قال الكلبي: إنما سمي بكة، لأن الناس يبك بعضهم بعضاً، أي يزدحم.
وقال الزجاج: بكة موضع البيت، وسائر ما حواليه مكة. وقال القتبي: بكة ومكة شيء واحد، والباء تبدل من الميم. كما يقال سمد رأسه وسبده إذا استأصله، أي قلع بأصله.
ويقال: بكة موضع المسجد، ومكة البلد حوله. ثم قال تعالى: مُبارَكاً أي فيها بركة ومغفرة للذنوب وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يعني قبلة لمن صلّى إليها، وذلك أن اليهود قالوا للمؤمنين: لم عمدتم إلى الحجارة تطوفون بها وتصلون إليها؟ وجعلوا يعظمون بيت المقدس، فنزلت هذه الآية.
وروى الكلبي إن آدم- عليه السلام- بنى البيت، فلما كان زمان الطوفان، رفع إلى السماء السادسة بحيال الكعبة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لم يدخلوه قط قبله. ويقال:
أنزل من السماء، وهو من ياقوتة حمراء، فلما كان زمان الطوفان، رفع إلى السماء الرابعة. ثم قال تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يعني علامات واضحات كالحجر الأسود والحطيم مَقامُ إِبْراهِيمَ.
وروي عن عبد الله بن عباس أنه كان يقرأ فيه آية بينة مقام إبراهيم. وقرأ غيره آيات بينات مقام إبراهيم، ومعناه من تلك الآيات مقام إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ يعني الحرم كانَ آمِناً يعني أن من دخل فيه، فإنه لا يهاج منه إذا وجب عليه القتل خارج الحرم وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حِجُّ بكسر الحاء، والباقون بالنصب، وهما لغتان ومعناهما واحد. مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي بلاغاً والاستطاعة هي الزاد والراحلة وتخلية الطريق. ويقال: ولله على الناس فريضة حج البيت. ثم قال: وَمَنْ كَفَرَ يعني ومن لم يرَ الحج واجباً فقد كفر، فذلك قوله وَمَنْ كَفَرَ. فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يعني غني عمن حج، وعمن لم يحج.
قال الفقيه: حدّثني أبي قال: حدّثني أبو بكر المعلم قال: حدثنا أبو عمران الفارابي قال:
حدّثنا عبد الرحمن بن حبيب قال: حدثنا داود بن المحبر قال: حدّثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته: «أَيُّها النَّاسُ إنَّ الله تَعَالَى فَرَضَ
الحَجَّ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سَبِيلاً، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالِ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً أوْ مَجُوسِيّاً، إلاَّ أنْ يَكُونَ بهِ مَرَضٌ أوْ مَنْعٌ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، ألا لا نَصِيبَ لَهُ مِنْ شَفَاعَتِي، وَلا يَرِدُ حَوْضِي».
وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «السَّبِيلُ الزَّادُ والرَّاحِلَةُ». وكذلك روي عن ابن عباس. وقال مجاهد: مقام إبراهيم أثر قدميه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
ثم قال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني لم تكفرون بالحج والقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ من الجحود والكفر قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ يقول: لم تصرفون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الله الإسلام والحج تَبْغُونَها عِوَجاً أي تطلبونها تغيراً وزيناً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أن ذلك في التوراة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من كتمان صفة محمد صلّى الله عليه وسلم ونعته. ويقال في اللغة ما كان ينتصب انتصاب العود والحائط يقال: عوج بالنصب، وما لم ينتصب مثل الأرض والكلام. ويقال:
عوج كما قال تعالى: لاَّ تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٧] وقال تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: ١، ٢].
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً يقول طائفة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم رؤساء اليهود يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن، لأنهم كانوا يدعون إلى الكفر، واتباع مذهبهم، وكان يتبعهم بعض المنافقين، فنهى الله تعالى المؤمنين عن متابعتهم. ثم قال تعالى على وجه التعجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ يقول: كيف تجحدون بوحدانية الله تعالى وبمحمد صلّى الله عليه وسلم والقرآن؟ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ يقول: يُقْرَأُ عَليكم القرآن، وفيه دلائله وعجائبه، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يعني معكم محمد صلّى الله عليه وسلم.
قال الزَّجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم خاصة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فيهم، وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة، لأن آثاره وعلاماته، والقرآن الذي أتى به فينا فكأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فينا، وإن لم نشاهده. ثم قال عز وجل: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ يقول: يتمسك بدين الله فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول وفق وأرشد من الضلالة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني الطريق الذي يسلك به إلى الجنة، وهو دين الإسلام.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ يقول: أطيعوا الله حق طاعته، وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين، وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] فنسخت هذه الآية. هكذا قال الكلبي والضحاك ومقاتل، وغيرهم من المفسرين: أن هذه الآية منسوخة.
وقال بعضهم: لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا يطيقونه، ولكن الجواب أن يقال عن هذا إنهم يطيقونه، ولكن تلحقهم مشقة شديدة، ولأن ذلك مجهود الطاقة، ولا يستطيعون الدوام عليه، والله تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقون، فخفَّف عنهم بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] ولم ينسخ آخر الآية أولها، وهو قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني اثبتوا على الإسلام، وكونوا بحال يلحقكم الموت، وأنتم على الإسلام وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً يقول: تمسَّكوا بدين الله وبالقرآن.
234
ويقال: تمسكوا بسبيل السنة والهدى، وَلا تَفَرَّقُوا. يقول: ولا تختلفوا في الدين، كاختلاف اليهود والنصارى. ويقال: لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً يعني: اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة. ويقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، يعني ما اشتبه عليكم، فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩] وقال بعض الحكماء: إن مثل من في الدنيا، كمثل من وقع في بئر، فيها من كل نوع من الآفات، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق، فكذلك الدنيا دار محنة، وفيها كل نوع من الآفات، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق، وهو كتاب الله تعالى.
ثم ذكَّرهُم نعمته فقال تعالى: اذْكُرُوا نعمتي واحفظوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الإسلام إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً في الجاهلية فَأَلَّفَ الله بَيْنَ قُلُوبِكُمْ يعني جمع بين قلوبكم بالإسلام تودُّداً فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً يقول: فصرتم بنعمة الإسلام إِخْواناً في الدين، وكل ما ذكر في القرآن أصبحتم، معناه صِرْتم، كقوله: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً [الكهف: ٤١] أي صار ماؤكم غوراً، وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاماً، حتى كادوا أن يتفانوا، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم بمكة آمن به الأوس والخزرج، وهم بالمدينة، ثم خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلاً، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومعه عمه العباس حتى أتى إلى العقبة إلى سبعين رجلاً من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة، وهاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم بعد الحولين، فوقعت بين الأوس والخزرج أُلْفَةٌ، وزالت عنهم العداوة التي كانت بينهم في الجاهلية بالإسلام، وهذا كما ذكر في آية أخرى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: ٦٣].
وروي عن جابر بن عبد الله أن رجلين من الأنصار: أحدهما من الأوس، والآخر من الخزرج، تفاخرا فيما بينهما، واقتتلا، فاستعان كل واحد منهما بقومه، فاجتمعت الأوس والخزرج، وأخذوا السلاح، وخرجوا للحرب، فبلغ الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين، وهو راكب على حمار له قال جابر: فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا، فأومأ إلينا بيده، فكففنا، ووقف بيننا على حمار له فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ إلى قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ فَأَلْقوا السلاح وأطفؤوا الحرب التي كانت بينهم، وعاتق بعضهم بعضاً يبكون، فما رأيت الناس أكثر باكياً من يومئذ، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية.
235
ثم قال تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ قال القتبي: أشفى على كذا إذا أشرف عليه شَفا حُفْرَةٍ، أي حرف حفرة، ومعناه وكنتم في الجاهلية على هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بعد ما كنتم على حرف من النار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني علاماته حيث كنتم أعداء في الجاهلية إخواناً في الإسلام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة، وتعرفوا علامته بهذه النعمة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ فهذه لام الأمر كقوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً [الكهف: ١١٠] يعني لتكن منكم أمة.
قال الكلبي: يعني جماعة. وقال مقاتل: يعني عصبة وقال الزجاج ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير ومن هاهنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس، وهي مؤكدة كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] وقوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ يعني إلى الإسلام. ويقال: إلى جميع الخيرات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ قال الكلبي: يعني باتباع محمد صلّى الله عليه وسلم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني الجبت والطاغوت. ويقال: المنكر، يعني العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة. ويقال: ما لا يصلح في العقل.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلاً يخرج عن الاختلاف، أي اختلاف العلماء. ويقال: إنما أمر بعض الناس بقوله، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ، ولم يأمر جميع الناس، لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف، وإنما يجب على من يعلم. ويقال: إن الأمراء، يجب عليهم الأمر والنهي باليد، والعلماء باللسان، والعوام بالقلب، وهنا كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا رَأَى أَحَدٌ مُنْكَراً، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ».
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بحسب امرئ إذا رأى منكراً، لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: أن الرجل إذا رأى منكراً، لا يستطيع النكير عليه، فليقل ثلاث مرات: اللهم إِنَّ هذا منكر، فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه.
ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون. ويقال: فازوا بالنعيم. ثم قال: وَلا تَكُونُوا في الاختلاف كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وهم اليهود والنصارى وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ فافترقت اليهود فرقاً والنصارى فرقاً، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، ثم خوفهم فقال: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني دائم لا يرفع عنهم أبداً، يعني الذين اختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات، أي العلامات في أمر محمد صلّى الله عليه وسلم، وبيان الطريق.
ثم بَيَّن منازل الذين تفرقوا، والذين لم يتفرقوا فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم. ويقال: إن ذلك عند قوله تعالى: وَامْتازُوا
236
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ
[يس، ٥٩] تكون وجوه المؤمنين مُبْيَضّة، ووجوه الكفار مُسْوَدَّة.
ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذا قرأ المؤمن كتابه، فرأى في كتابه حسناته، استبشر وابيضّ وجهه، وإذا قرأ المنافق والكافر كتابه، فرأى فيه سيئاته، اسودّ وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسودّ وجهه. ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم، فإذا انتهوا إليه حزنوا، واسودّت وجوههم، فيبقى المؤمنون، وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين: من ربكم؟
فيقولون: ربنا الله عزّ وجلّ. فيقول لهم: أتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: سبحانه إذا عرفنا، عرفناه فيرونه كما شاء الله، فيخر المؤمنون سجداً لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً، وبقي المنافقون وأهل الكتاب، لا يقدرون على السجود، فحزنوا واسودّت وجوههم، فذلك قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعني يقال لهم: أكفرتم؟ ولكن حُذِفَ القول، لأن في الكلام دليلاً عليه بعد إيمانكم، يعني يوم الميثاق. قالوا: بَلَى، يعني المرتدين والمنافقين. ويقال هذا لليهود، وكانوا مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلم، قبل أن يُبْعث، فلما بُعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين خاصة.
يقول: أكفرتم في السرّ بعد إيمانكم، أي مع إقراركم في العلانية فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن. حدثنا الخليل بن أحمد. قال:
حدّثنا عباد بن الوليد قال: حدّثنا محمد بن عباد البنائي قال: حدّثنا حميد بن الخياط قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فقال: حدّثنا أبو أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّهُمُ الخَوَارِجُ» وسألته عن قوله: لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: ١١٨] قال: إنهم الخوارج قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي في جنة الله قال الزجاج: يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة الله تعالى، لأن الجنة تُنَالُ برحمته، ولا تُنَال بالجهد، وإن اجتهد المجتهد، لأن نعمة الله تعالى لا يكافئها عمل، ففي رحمة الله أي في ثواب الله وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني القرآن نَتْلُوها عَلَيْكَ يعني ننزل جبريل فيقرأ عليك بِالْحَقِّ أي بالصدق. وقال الزجاج: تلك آيات الله أي تلك التي جرى ذكرها، حجج الله وعلاماته نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي نعرّفك إياها وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ يعني لا يعذبهم بغير ذنب وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قال بعضهم: هذا معطوف على الأول، كأنه يقول: وَمَا اللَّهُ
يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ
لأنهم كلهم عبيده ومخلوقه ومرزوقه، فلا يريد ظلمهم. وقال بعضهم:
هذا ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السَّموات وَمَا فِي الارض لَهُ، حتى يسألوه ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره. ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يقول: تصير أمور العباد إلى الله في الآخرة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال الكلبي: أخبر الله تعالى أن خير الدين عند الله دين أهل الإسلام، ووصفهم بالوفاء فقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... يقول: كنتم خير أهل دين كان الناس لا يظلمون من خالطهم منهم، أو من غيرهم، فجعلهم الله خير الناس للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويقال: خير أمة أُخْرِجَت للناس، تأمرون بالمعروف، فتقاتلون الكفار ليسلموا، فترجع منفعتهم إلى غيرهم.
كما قال صلّى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاس». ويقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ يعني: كنتم عند الله في اللوح المحفوظ. ويقال: كنتم مذ أنتم خير أُمَّة. ويقال: هذا الخطاب لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، يعني أنتم خير الأمة. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خير القرون أصحابي، ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ثُمَّ وَصَفَهُمْ، فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد والإسلام. وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي تصدقون بتوحيد الله، وتثبتون على ذلك. وقال الزجاج:
تؤمنون بالله، معناه تقرون أن محمدا صلّى الله عليه وسلم نبيّ الله، لأن من كفر بمحمد صلّى الله عليه وسلم لم يوحد الله، لأنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها من ذات نفسه.
ثم قال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ وهم اليهود والنصارى لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من الإقامة على دينهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وهم مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، ومن آمن من اليهود والنصارى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وهم كعب بن الأشرف وأصحابه، والذين لم يؤمنوا منهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني باللسان بالسب وغيره، وليس لهم قوة القتال وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يعني إن أعانوكم في القتال، فلا منفعة لكم منهم لأنهم يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ وينهزمون ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ يقول لا يُمْنَعون من الهزيمة، فكأنه يحكي ضعفهم عن القتال.
يقول: لو كانوا عليكم لا يضرونكم، ولو كانوا معكم لا ينفعونكم، وهذا حالهم إلى يوم القيامة وَهُمْ اليهود ليس لهم شوكة، ولا قوة القتال في موضع من المواضع. ويقال: وَإِنْ
يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ
يعني إن خرجوا إلى قتالكم، وأرادوا قتالكم يولون الأدبار، أي ينهزمون منكم. ويقال: يُوَلُّوكم الأَدْبَار، يعني منهزمين، ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ يقول: لا يُمْنَعون منكم، وهو قول الكلبي.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
ثم قال ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يقول جُعِلَتْ عليهم الجزية ويقال أَلْزِم عليهم القتال أَيْنَما ثُقِفُوا أي وُجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أي بعهد من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني تحت قوم يؤدون إليهم الجزية، فإن لم يكن لهم عهد قتلوا وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يقول:
استوجبوا الغضب من الله تعالى. ويقال: رجعوا بغضب من الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ يعني جعل عليهم زي الفقر.
قال الكلبي: فترى الرجل منهم غنياً، وعليه من البؤس والفقر والمسكنة. ويقال: إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر، لكيلا تضاعف عليهم الجزية ذلِكَ الذي يصيبهم بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ومحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني رضوا بما فعل آباؤهم، فكأنهم قتلوهم ذلِكَ الغضب بِما عَصَوْا الله وَكانُوا يَعْتَدُونَ بأفعالهم كلما ذكر الله عقوبة قوم في كتابه بيّن المعنى الذي يعاقبهم لذلك، لكيلا يظن أحد أنه عذَّبهم بغير جُرْم. ثم بيَّن فضيلة من آمن من أهل الكتاب على من لم يؤمن فقال تعالى: لَيْسُوا سَواءً قال بعضهم: هذا معطوف على الأول منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، ليسوا سواء في الثواب، فيكون هاهنا وقف. وقال بعضهم: هذا ابتداء، ويكون فيه مضمر، فكأنه يقول: ليس من آمن منهم ويتلون آيات الله كمن هو كافر. كقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: ٩] معناه: ليس كالذي هو من أهل النار، فكذلك هاهنا قال: ليس من آمن مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كمن لم يؤمن، فبين الذين آمنوا فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يعني مُهَذَّبة عاملة بكتاب الله تعالى. ويقال: مستقيمة.
وروى الزجاج عن الأخفش قال: ذو أمة قائمة، يعني ذو طريقة قائمة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن في الصلاة آناءَ اللَّيْلِ يعني في ساعات الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يصلون لله.
قوله: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني يقرون بالله وبمحمد صلّى الله عليه وسلم وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي باتباعه وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الطاعات، والأعمال الصالحة وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في الجنة. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يعني لن تجحدوه ولن تنسوه يقول تجزون به، وتثابون عليه في الآخرة، وهذا كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «البرُّ لا يَبْلَى وَالإثْمُ لا يُنْسَى».
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي عليم بثوابهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، ومن كان بمثل حالهم. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ كلاهما بالياء، والباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ قال مقاتل: ذكر قبل هذا مؤمني أهل الكتاب، ثم ذكر كفار أهل الكتاب، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...
وأما الكلبي فقال: هذا ابتداء إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كثرة أَمْوالُهُمْ وَلا كثرة أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى، وجميع الكفار، وكل من خالف دين الإسلام، وذلك أنهم تفاخروا بالأموال والأولاد وَقَالُواْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا، وَمَا نَحْنُ بمعذَّبين، فأخبر الله تعالى أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من عذاب الله شيئا وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
َلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
قال الكلبي: يعني ما ينفقون في غير طاعة الله مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
أي برد شديدصابَتْ
الريح الباردةرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بمنع حق الله تعالى منه أَهْلَكَتْهُ
يقول: أحرقته، فلم ينتفعوا منه بشيء، فكذلك نفقة من أنفق في غير طاعة الله، لا تنفعه في الآخرة، كما لا ينفع هذا الزرع في الدنيا. وقال مقاتل:
يعني نفقة السفلة على رؤساء اليهود. وقال الضحاك: مثل نفقة الكفار من أموالهم في أعيادهم
وعلى أضيافهم وما يعطي بعضهم بعضا على الضلالةمَثَلِ رِيحٍ
الآية، ثم قال ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
يعني أصحاب الزرع هم ظلموا أنفسهم بمنع حق الله تعالى، فكذلك الكفار أبطلوا ثواب أعمالهم بالشرك بالله تعالى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ يعني خلّة وصداقة من غير أهل دينكم، وإنما سميت بطانةً لقربها من البدن مِنْ دُونِكُمْ، أي من دون المؤمنين نزلت الآية في شأن جماعة من الأنصار، كانت بينهم وبين اليهود مواصلة وخاصية، وكانوا على ذلك بعد الإسلام، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبه ودينه لا ينبغي له أن يحادثه، لأنه يقال في المثل:
عن المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قرينه فَإِنَّ القَرِينَ بالمقارن يَقْتَدِي
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ». وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بأخدانهم. ثم بيّن الله المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال تعالى: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي فساداً، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم لا يتركون- وإن لم يقاتلوكم في الظاهر- فإنهم لا يتركون جهدهم في المكر والخديعة وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ما أَثِمْتُم بربكم. وقال الزّجاج: الخَبَالُ في اللغة ذِهَابُ الشيء، والعَنَتُ في الأصل المشقة. وقال القتبي: الخَبَال الفساد. وقال أيضاً: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، أي ما أعنتكم وهو ما نزل بكم من مكروه.
ثم قال: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ أي ظهرت العداوة والتكذيب لكم مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أي والذي في صدورهم من العداوة أكثر مما أظهروا بأفواههم. ويقال: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، أي قصدهم قتل محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يضمرون ذلك قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يعني أخبرناكم بما أخفوا، وبما أبدوا بالدلالات والعلامات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتصدقون ها أَنْتُمْ أُولاءِ يعني ها أنتم يا هؤلاء تُحِبُّونَهُمْ لمظاهرتكم إياهم وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنهم ليسوا على دينكم.
وقال الضحاك: معناه كيف تحبون الكفار وهم لا يحبونكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني بالتوراة والإنجيل وسائر الكتب، ولا يؤمنون بذلك كله، وقد فضلكم الله عليهم بذلك، لأنهم لا يؤمنون إلا بكتابهم وَإِذا لَقُوكُمْ يعني المنافقين منهم قالُوا آمَنَّا بمحمد صلّى الله عليه وسلم إنه رسول الله وَإِذا خَلَوْا فيما بينهم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ يعني أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء قد ظهروا وكثروا. قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لهم يا محمد مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ يقول موتوا بحنقكم على وجه الدعاء، والطرد واللعن، لا على وجه الأمر والإيجاب، لأنه لو كان على وجه الإيجاب، لماتوا من ساعتهم. كما قال في موضع آخر: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة: ٢٤٣]، فماتوا من ساعتهم، فهاهنا لم يرد به الإيجاب.
وقال الضحاك: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، يعني أنكم تخرجون من الدنيا بهذه الحسرة، والغيظ يعني اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني أنكم تموتون بغيظكم ثم قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بما في قلوبكم من العداوة للمؤمنين، إن الله يجازيكم بذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٠]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
ثم قال للمؤمنين: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ يعني الظفر والغنيمة، كما أصابكم يوم بدر تَسُؤْهُمْ أي يسوؤهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يعني الهزيمة، كما أصابكم يوم أحد، ويقال:
الشدة في العيش والقحط يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذى المنافقين واليهود وَتَتَّقُوا المعصية والشرك. وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل وَإِنْ تَصْبِرُوا على أمر الله وَتَتَّقُوا معاصيه. لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً يقول: لا تضركم عداوتهم شيئاً. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: لاَ يَضِرْكُمْ بكسر الضاد وجزم الراء، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء، ومعناهما قريب في التفسير، يعني لا ضير عليكم من كيدهم إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أحاط علمه بأعمالهم، والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٢]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ يعني خرجت من منزلك بالصباح. ويقال: من عند أهلك، وهي عائشة رضي الله عنه تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ يعني تهيء للمؤمنين مَقاعِدَ لِلْقِتالِ يعني مواضع للحرب. قال الكلبي: هو يوم أحد. وقال مقاتل: هو يوم الخندق وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائك عَلِيمٌ بأمر الكفار إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ يعني أرادت وأضمرت طائفتان من المسلمين. وهما: حيا بني حارثة، وبني سلمة من الأنصار أَنْ تَفْشَلا يعني أن تَجْبُنَا عن القتال مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم وترجعا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي ناصرهما وحافظهما حيث لم يرجعا، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج من المدينة يوم أُحد، ومعه ألف رجل، فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول مع ثلاثمائة من المنافقين، ومن تابعهم، فدخل الفشل في قبيلتين من الأنصار، وهم المؤمنون، فأرادوا أن يرجعوا، فحفظ الله تعالى قلوبهم، فلم يرجعوا، فذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي حافظ قلوبهما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله وهذه كلها مِنَنٌ ذكرها الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلم، ليعرف ويشكر الله تعالى، ويصبر على ما يصيبه من الأذى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٥]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
ثم ذكَّرهم أمر بَدْر فقال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ أي أعانكم الله ببدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ يعني قليلة، فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني: اعرفوا هذه النعمة، واتقوا الله ولا تعصوه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا الله. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني يوم أُحد أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ من السماء. يقول الله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا مع نبيّكم، وَتَتَّقُوا معصيته بالهزيمة وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يعني العدو، يأتوكم من وجوههم يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ يعني مُعلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيل، وفي أذنابها عليهم البياض، قد أَرْخَوْا أطراف العمائم بين أكتفهم فأنزل الله تعالى عليهم يوم بدر ثلاثة آلاف، ووعد لهم يوم أُحد خمسة آلاف. ولكنهم لما عصوا وتركوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجعوا عنهم، ولو أنهم صبروا لنزلت عليهم.
قرأ عاصم، وابن كثير، وأبو عمرو: مُسَوِّمِينَ بكسر الواو والباقون بالنصب ومعناهم قريب. وهو: إرخاء أطراف العمائم بين الأكتاف وهذا كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «تَسَوّمُوا فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ قَدْ تسوّمت».

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٦]

وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
ثم قال تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يعني: المدد من الملائكة. قال بعضهم:
إن الملائكة لم تقاتل، وإنما بعثهم للبشارة وتسكين قلوب المؤمنين، لأن في قتال الملائكة لم يكن للمؤمنين فضيلة، وإنما كانت الفضيلة للمؤمنين إذ كانوا هم الذين يقاتلون ويهزمون الكفار، ولو كان ذلك لأجل الإعانة لكان ملك واحد يكفيهم كما فعل بقوم لوط. ألا ترى أنه قال تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: ٤٤] فجعل الفضيلة في قلتهم في أعين الكفار ونصرتهم بالغلبة، وهذا معنى قوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ.
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ يعني تطمئن إليه قلوبكم. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون، وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى أن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت ما قتلتني، إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنْبك فرسه وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكن قلوب المؤمنين، ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، وكل عسكر من المسلمين صبروا واحتسبوا تأتيهم تلك الملائكة ويقاتلون معهم ويقال: الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، وثواب ذلك للذين يقاتلون يومئذ. وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى. ثم قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يعني.
ليس بكثرة العدد ولا بقلته، ولكن النصر من الله تعالى كما قال في آية أخرى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً [التوبة: ٢٥].
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
ثم قال: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أرسل الملائكة ونصر المؤمنين لكي يقطع طرفاً، أي يستأصل جماعة من الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ قال الكلبي: أي يهزمهم. وقال مقاتل: يعني يخزيهم كقوله كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: ٥] ويقال: يقنطهم فَيَنْقَلِبُوا إلى مكة خائِبِينَ لم يصيبوا ظفراً ولا خيراً، وقد قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون. ويقال معناه وما جعله الله إلا بشرى لكم، ولتطمئن قلوبكم به، وليقطع طرفاً من الذين كفروا.
ثم قال عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ روى جويبر عن الضحاك قال: لما كان يوم أحد، كسرت رباعية النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأدمي ساقه، وقتل سبعون رجلاً من الصحابة، فَهَمَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي ليس لك من الحكم شيء، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يعني كفار قريش يهديهم إلى الإسلام. وقال الكلبي: فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يلعن الذين انهزموا من الصحابة يوم أحد، فنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يعني الذين انهزموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قال: فلما نزلت هذه الآية، كفّ ولم يلعن المشركين، ولا الذين انهزموا من الصحابة، لعلم الله فيهم أنهم سيتوبون، وأن المشركين سيؤمن كثير منهم. وقد آمن كثير منهم فمنهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
قال مقاتل: وكان سبعون رجلاً من أصحاب الصُّفَّة، خرجوا إلى الغزو محتسبين، فقتل السبعون جميعاً، فشقّ ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلم، فدعا الله عليهم أربعين يوماً في صلاة الغداة، فنزل قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ويقال: معنى قوله أو يتوب عليهم، أو يعذبهم إن لم يكونوا من أهل التوبة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٩]
وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
ثم عظم نفسه فقال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: إن جميع الخلق في ملكه وعبيده يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وقال الضحاك: يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ على الذنب الصغير إذا أصرَّ على ذلك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ في تأخير العذاب عنهم، حيث لم يعاقبهم قبل توبتهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً قال الزَّجاج: يعني لا تضاعفوا أموالكم بالربا. وقال القتبي: هو ما يضاعف منها شيء بعد شيء، ويقال أضعافاً مضاعفة عند البيع، ببيعه بأكثر من قيمته مضاعفة بعد العقد، أن يزيده في الأجل ويزيد في المال. ويقال:
المضاعفة هي نعت الأضعاف كما قال تعالى: حَلالًا طَيِّباً [البقرة: ١٦٨ وغيرها] والطيب هو نعت الحلال.
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ في الربا فلا تستحلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تنجوا من العذاب. ثم خَوّفهم فقال: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعني خُلقت وهيئت للكافرين.
وقالت المعتزلة: من أتى بالكبيرة ومات عليها فإنه يخلد في النار كالكافر، فإنه وعد لأكل الربا النار كما وعد الكفار. وقال أكثر أهل العلم والتفسير: هذا الوعيد لمن استحل الربا ومن استحل الربا فإنه يكفر ويصير إلى النار. ويقال: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبوا النار، لأن من الذنوب ما يستوجب به نزع الإيمان ويخاف عليه، فمن ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر أن رجلاً كان عاقاً لوالدته يقال له علقمة، فقيل له عند الموت:
قُلْ لا إله إِلا الله فلم يقدر على ذلك، حتى جاءت أمه فرضيت منه. ومن ذلك قطيعة الرحم، وأكل الربا، والخيانة في الأمانة. وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال: أكبر ما في الذنوب الذي ينزع الإيمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان من العبد، فلم نجد شيئاً أسرع نزعاً للإيمان من ظلم العباد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
ثم قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني أطيعوا الله في الفرائض، والرسول في السنن. ويقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ في تحريم الربا، وَالرَّسُولَ فيما بلغكم من التحريم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولا تُعَذَّبُونَ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة، وابن عامر ومن تابعه من أهل الشام: سارعوا بغير الواو على معنى الابتداء. وقرأ الباقون بالواو على معنى العطف. قال الكلبي: معناه وسارعوا إلى التوبة من الربا. وقال مقاتل: وسارعوا بالأعمال الصالحة التي هي مغفرة لذنوبكم وإلى الجنة. وقال الضحاك: يعني سارعوا إلى النجاء الأكبر إلى الصف المقدم في الصلاة، وإلى الصف المقدم في القتال. ويقال: وسارعوا حتى لا تفوتكم تكبيرة الافتتاح.
ثم قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال القتبي: أي سعتها، ولم يرد به العَرْض الذي هو خلاف الطول. والعرب تقول: بلاد عريضة أي واسعة. ويقال: عَرْضُ الجنة كعرض سبع سموات، وكعرض سبع أرضين، لو ألزق بعضها إلى بعض. وإنما ذكر العرض ولم يذكر الطول، لأن طولها لا يعرف ولا يدرك. وقال الكلبي: الجنان أربع: جنة عدن وهي الدرجة العليا، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض. ويقال: لم يرد بهذا التقدير، ولكنه أراد بذلك إنها أوسع شيء رأيتموه. وقال السدي: لو كسرت السموات وصرن خردلاً، فبكل خردلة لله جنة عرضها كعرض السموات والأرض.
حدثنا محمد بن داود، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال:
حدثنا يعقوب عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد قال إن أدنى أهل الجنة يقال له: تَمَنَّ.
فيقول: أعطني كذا أعطني كذا، حتى إذا لم يجد شيئاً يتمنى لُقِّن فيقال له: تَمَنَّ، قل كذا قل كذا، فيقول. فيقال له: هو لك ولك مثله معه. وفي رواية أبي سعيد الخدري لك هذا وعشرة أمثاله معه. ثم قال تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ يعني الجنة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
ثم نَعَتَ المتقين فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ الخ الآية. نعت للمتقين.
ويقال إن كل نعت من ذلك هو نعت على حدة، فكأنه يقول: أعدت للمتقين الذين ينفقون من السراء... الخ. قوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي ينفقون أموالهم في حال اليسر وفي حال العسر، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل والضحاك: في حال السعة والشدة. ويقال: في حال الصحة والمرض. ويقال: فِي السَّرَّاءِ، يعني في حال الحياة. وفي الضراء، يعني بعد الموت. ويقال في سراء المسلمين في عرسهم وولائمهم، والضراء في نوائبهم ومآتمهم.
ويقال فِي السَّرَّاءِ يعني النفقة التي تسرّكم، مثل النفقة التي على الأولاد والأقربين وَالضَّرَّاءِ النفقة على الأعداء والكاشحين. ويقال فِي السَّرَّاءِ يعني على الأنبياء يضيفهم ويهدي إليهم وَالضَّرَّاءِ يعني على أهل الضر يتصدق عليهم.
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يعني المرددين الغيظ في أجوافهم، وأصله في اللغة: كظم البعير إذا رَدَّد جِرَّتَه. ومعناه: الذين إذا أصابهم الغيظ تجاوزوا ولم يعاقبوا. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال الكلبي: يعني عن المملوكين. ويقال: والعافين عن الناس بعد قدرتهم عليهم فيعفوا عنهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ من الأحرار والمملوكين، ويقال: الذين يحسنون بعد العفو ويزيدون عليه إحساناً وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ ينفذَهُ ثُمَّ لَمْ يُنفِذْهُ زَوَّجَهُ الله مِنَ الحُورِ العينِ حَيْثُ يَشَاءُ»، وفي خبر آخر: عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلمَةٍ قَطّ إِلاّ زَادَهُ الله بِهَا عزّا».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٧]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً نزلت في شأن رجل تَمَّار، جاءت امرأة تشتري منه تمراً، فأدخلها في حانوته وقبلها ثم ندم على ذلك، فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت هذه الآية في رجل مَسّ امرأة أخيه في الله، وكان أخوه خرج غازياً، ثم ندم وتاب. ويقال: إنها نزلت في شأن بهلول النباش، تاب عن صنيعه فنزلت هذه الآية. فقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني الزّنى. أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني القُبْلَة واللمس. ويقال: الفاحشة كل فعل يستوجب به الحد في الدنيا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ما دون ذلك. ويقال: الفاحشة ما استوجب به النار، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ما استوجب به الحساب والحبس. وقال إبراهيم النخعي: الظلم هاهنا تفسير الفاحشة فكأنه يقول: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ أي خافوا الله، ويقال ذكروا مقامهم بين يدي الله. ويقال: ذكروا عذاب الله.
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يعني الاستغفار باللسان والندامة بالقلب. ويقال: الاستغفار باللسان بغير ندامة القلب توبة الكذابين. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار الكثير.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ يعني لا يغفر الذنوب إلا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يعني: لم يقيموا على ما فعلوا من المعصية وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنها معصية فلا يرجعون. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه يقول: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة جَزاؤُهُمْ يعني ثوابهم مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ يعني: نعم ثواب العاملين الجنة، وهو قول الكلبي. وقال مقاتل: نعم ثواب التائبين من الذنوب الجنة قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج، فإذا اتبعوها رضي الله عنهم. قال الكلبي:
قد مضت سنة بالهلاك فيمن كان قبلكم، فَانْظُروا: أي فاعتبروا كَيْفَ كان جزاء المكذبين.
وقال مقاتل نحو هذا، وقال: يخوف الله هذه الأمة بمثل عذاب الأمم السابقة. وقال السدي:
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي اقرءوا القرآن فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأن من لم يسافر فإنه لا يعرف ذلك، وأما من قرأ القرآن فإنه يعرف ذلك. وقال الحسن: اقرءوا القرآن وتدبروا فيه، فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٨ الى ١٤٠]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
248
ثم قال: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ يعني القرآن، بيان للناس من الضلالة وَهُدىً من العمى وَمَوْعِظَةٌ من الجهل، ويقال: هُدىً وَمَوْعِظَةٌ أي كرامة ورحمة لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا ولا تجبنوا، ويقال: ولا تَعْجزوا عن عدوكم وَلا تَحْزَنُوا على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني: الغالبون يقول آخر الأمر لكم. ويقال:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في الجنة. ويقال: هذا وعد لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في المستأنف وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي الغالبون على الأعداء بعد أحد، فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت. ويقال: في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام:
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: ٦٨] وقال لهذه الأمة: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ويقال اشتُقَّت هذه اللفظة من اسم الله تعالى، لأن اسمه العلي الأعلى. وقال للمؤمنين: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: إن كنتم مصدقين بوعد الله. ويقال: معناه إذ كنتم مؤمنين. ويقال: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون.
ويقال: إن هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا، فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغَلَبُوا كما غَلَبوا يوم بدر، ولكنهم تركوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجع الأمر عليهم. وكانت القصة في ذلك أنهم لما غَلَبُوا المشركين يوم بدر، وأصابوا منهم ما أصابوا- وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى- فرجع أبو سفيان بن حرب إلى مكة بالعير، وانهزم المشركون، وذهب عكرمة بن أبي جهل، ورجال أُصِيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب- وهو رئيس مكة- فكلموه، وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال، فقالوا: إن محمداً قد قتل خياركم، فاستعينوا بهذه الأموال على حربه ففعلوا. قال الضحاك: فأعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من الزاد والسلاح، فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل، وعليهم أبو سفيان بن حرب، وكان في القوم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وذلك قبل دخولهم في الإسلام، فلم يبق أحد من قريش إلا وخرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم.
249
فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب الناس، وقال في خطبته: «إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ فِي سَيْفِي ثلمَةُ فَأَوَّلْتُهَا مصِيبَةً فِي نَفْسِي، وَرَأَيْتُ بُقُوراً قَدْ ذُبِحَتْ، فَأَوَّلْتُهَا قَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا المَدِينَةَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ». وكره الخروج إليهم، فكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن لا يخرج إليهم، ولكنه كان منافقاً فقال: يا رسول الله لا تخرج إليهم فأنا ما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه. فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر: اخرج لهم يا رسول الله، لكي لا يرى أعداء الله أنا قد جَبُنَّا عنهم وضعفنا عن قتالهم. فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته، ثم خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم إليهم وقد خرج الناس فقالوا: استكرهنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: قد استكرهناك وما كان لنا ذلك، فإن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا يَنْبَغِي لِلنَّبِيِّ أَنْ يَضَعَ سِلاَحَهُ إِذَا لَبِسَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ». فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسار إلى أُحدٍ، فانخذل عبد الله بن أبي ابن سلول. قال في رواية الكلبي: فرجع معه ثلاثمائة من الناس، وبقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحو سبعمائة رجل.
وقال في رواية الضحاك: فانخذل في ستمائة رجل من اليهود، وبقي مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف رجل من المؤمنين الطيبين. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى نزل بالشِّعب من أحد، وأمر عبد الله بن جبير على الرُّمَاة وقال لهم: «لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هَذَا المَوْضِعِ، وَاثْبُتُوا هاهنا إِنْ كَانَ الأَمْرُ عَلَيْنَا أَوْ لَنَا». وقال في رواية الكلبي: كان الرماةُ خمسين رجلاً. وقَال في رواية الضحاك: كانوا سبعين رجلاً. فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظهره إلى أُحد، ودنا المشركون وأخذوا في الحرب، فقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب، يضربن بالدُّفوف خلف قريش ويقلن:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِق نَمْشِي على النَّمَارق
إِن تُقْبِلُوا نُعَانِق أَو تُدْبِرُوا نفارق
فِرَاقَ غَيْرَ وَامِق فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالاً شديداً، وقاتل علي بن أبي طالب حتى انكسر سيفه، وقاتل سعد بن أبي وقاص، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول لسعد: «ارْمِ فَداكَ أَبِي وَأُمِّي» فقتلوا جماعة من المشركين، وَصَدَقَهم الله وعده وأنزل نصره، حتى كانت هزيمة القوم لا شكّ.
فكشفوهم عن عسكرهم قال الزبير: رأيت هنداً وصواحبتها هوارب، فلما نظر الرماة إلى القوم وانهزموا، أقبلوا على النهب فقال لهم عبد الله بن جُبَيْر: لا تَبْرحوا عن هذا الموضع، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عَهِدَ إليكم. فلم يلتفتوا إلى قوله، وظنوا أن المشركين قد انهزموا فبقي عبد الله بن جبير مع ثمانية نفر، فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قِبَل الشِّعب، فقتلوا من بقي من الرماة، ودخلوا خلف أقفية المسلمين، وتفرق المسلمون ورجع
250
المشركون، وحملوا حملةً واحدة، فصار المسلمون ثلاثة أنواع: بعضهم جريح، وبعضهم قتيل، وبعضهم منهزم.
وكان مصعب بن عمير يَذُبُّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ دونه، ثم قاد زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قُتِلَ، وخلص الحرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه، وأصيبت رباعيَتُه، وكُلِمَتْ شفته، وأدمي ساقه. فقال سفيان بن عيينة: لقد أصيب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحو ثلاثين رجلاً، كلهم جثوا بين يديه. أو قال: كلهم يتقدم بين يديه. ثم يقول: وجهي لوجهك الوفاء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك سلام الله غير مودع.
فرجع الذي قتل مصعب بن عمير، فظن أنه قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال للمشركين: قتلت محمداً. فصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قُتل. ويقال: كان ذلك إبليس لعنه الله، فولى المسلمون هاربين متحيّرين، وجاء إبليس لعنه الله ونادى بأعلى صوته في المدينة: ألا إن محمداً قد قتل وأَخَذَت النسوة في البكاء في البيوت، فأقبل أَنَس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رِجَالٍ من المهاجرين والأنصار، فقال: ما يُجْلسكم؟ قالوا: قتل محمد. فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا كراماً عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ نبيُّكم. ثم أقبل نحو العدو، فقاتل حتى قتل.
قال كعب بن مالك: فأوّل من كنت عرفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المسلمين، عرفت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأشار إليَّ أَن اسكت. وقال أنس بن مالك: قد شجّ وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلم بِالدَّمِ» وهو يدعوهم إلى ربهم. ويقال: إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا: يا رسول الله، لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَمْ أُبْعَثْ طَعَّاناً وَلاَ لَعَّاناً، وَلَكِن بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» فجاءه أبي بن خلف الجمحي، فقال: يا محمد لا نَجوتُ إن نجوتَ مني. فهمَّ المسلمون بقتله، فقال لهم. «دَعُوهُ» حتى دنا منه، فتناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ورماه بها، فخدشه في عنقه خدشاً غير كبير، وقد كان ذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة وقال: عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة، أقتلك عليه. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ الله». فلما خدشه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول: قتلني محمد. فقالوا له: ما بك من طعن. فقال: بلى، لقد قال لي أنا أقتلك، والله لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني. فمات قبل أن يصل إلى مكة في طريقها.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واقفاً عند أحد، وقد اجتمع عليه بعض أصحابه، فعلت عليه فرقة من قريش في الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا». فأقبل عمر ورهط من
251
المهاجرين، فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل. وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له- يقال له وحشي-: إن أنت قتلت محمداً جعلت لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حرٌّ. فقال وَحْشي:
أما محمد فعليه حافظ من الله تعالى لا يخلص إليه أحد، وأما عَلَيُّ فما برز إليه رجل إلا قتله وأما حمزة فرجل شجاع، فعسى أن أُصَادفه في غِرَّته فاقتله مكانه. وكانت هند كلما مرّ بها وَحْشي أو مرّت به هند قالت له: إيهاً أبا دسمة اشف واستشف. فكمن وحشي خلف صخرة، وكان حمزة حمل على قوم من المشركين، فلما رجع من حملته مرّ بوحشي وهو خلف الصخرة، فزرقه بمزراق فأصابه فسقط، فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنوف، وشَقَّت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته، ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها: نَحْنُ جَزَيْنَاكم بيوم بَدْر. وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته: اعلُ هبل يوماً بيوم بدر. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم لعمر: «أَجِبْهُ يَا عُمَرَ». فأجابه عمر: الله أعلى وأجل لا سواه، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم ركب النبيّ صلّى الله عليه وسلم بغلته، وظاهر بين درعيه، وأخرج يده من جيب الدرع، وسلّ سيفه ذا الفقار، وباشر القتال بنفسه، وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فأعانوه، وهزم الله جمع المشركين، وقُتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلاً: أربعة نفر من المهاجرين، وستة وستون من الأنصار. وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلاً أو أكثر، وكثرت القروح في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعزَّاهم الله تعالى: في ذلك بقوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي وحمزة: قُرْحٌ بضم القاف والباقون بالنصب. قال الفراء:
القَرْح والقُرْح واحد. ويقال: القَرْح بالنصب مصدر، والقُرح بالضم اسم. ويقال: القَرْحُ بالنصب الجراحة، وبالضم ألم الجراحة. يعني إن أصابكم الجراحات يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يقول: قد أصاب المشركين جراحات مثلها يوم بدر. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ يقول: يوم لكم ويوم عليكم، وهذا كما يقال في الأمثال: الأيام دُوَل والحرب سِجَال.
ثم بين المعنى الذي تداول مرة لهم ومرة عليهم، فقال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني يتبين المؤمن من المنافق أنهم يشكون في دينهم أم لا، لأن المؤمن المخلص يتبين حالُه عند الشدة والبلايا. وهذا كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: إن الذهب والفضة يختبران بالنار، والمؤمن يختبر بالبلايا، والاختبار من الله تعالى إظهار ما علم منه من قبل فذلك قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ليبين لهم الله الذي يعلم إيمانه، لأنه يعطى الثواب بما يظهر منه لا بما يعلم منه، وكذلك العقوبة. أَلاَ ترى أنه عَلِم من إبليس المعصية في المستقبل ثم لم يلعنه ما لم يظهر منه. ثم قال تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يعني لكي يتخذ
252
منكم شهداء، وإنما كان لأجل ذلك لا لأجل حب الكفار وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي الجاحدين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤١]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: لكي يُظْهر المؤمنين ويكفر ذنوبهم. والتمحيص في اللغة الاختبار والتطهير. والله بَيّن أنه يُداول الأيام بين الناس لكي يَظْهر المؤمن من المنافق، ويكرم بعض المؤمنين بالشهادة لينالوا ثواب الشهداء، وقد ذكر ثوابهم بعد هذا في هذه الصورة وليكفر ذنوبهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يهلكهم ويستأصلهم لأنهم يجترءون فيخرجون مرة أخرى فيستأصلهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ قال مقاتل: بيّن للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله لكي يصبروا ويحتسبوا. فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ يقول: أَظننتم أن تدخلوا الجنة بغير شيء قبل أن يصيبكم من الشدة في ذات الله، فذلك قوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ قال مقاتل: أي ولما يرى الله الذين جاهدوا مِنكُمْ. ويقال: ولما يظهر جهاد الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ الذين يصبرون عند البلاء. ويقال: ويعلم الكارّين أي غير الفارين عن القتال.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وذلك أنه لما وصف الله لهم ما نزل بشهداء بدر من الكرامة، فقالوا: ليتنا نجد قتالاً فنقتل فيه لكي نصيب مثل ما أصابوا، فلما لقوا القتال يوم أُحد هربوا، فعاقبهم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي القتال والشهادة من قبل أن تلقوه، لأن القتال سبب الموت فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يوم أحد وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى السيوف فيها الموت. وقال الزجاج: معناه ولقد كنتم تمنون القتال لأن القتال سبب الموت، فقد رأيتموه، يعني وأنتم بصراء كقولك: رأيت كذا وكذا ولم يكن في عينيك علّة.
ويقال: وأنتم تنظرون إلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال القتبي: فقد رأيتموه، يعني أسبابه وهو السيف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
ثم قال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ لأنهم هربوا حيث سمعوا بقتله، فقال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ كسائر الرسل أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي رجعتم إلى دينكم الشرك. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرجع إلى الشرك بعد الإسلام فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً يقول: لن ينتقص من ملكه وسلطانه شيئاً، وإنما يضرّ نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ يعني الموحدين الله تعالى في الآخرة الجنة. ويقال: وسيجزي الله المؤمنين المجاهدين الجنة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ قبل أجلها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا يقول: في موتها كتاباً مؤجلاً في اللوح، فلا يسبق أجله. وقال الزجاج: قوله كتاباً مؤجلاً، أي كتب كتاباً ذا أجل، وهو الوقت المعلوم، وذكر الكتاب على معنى التأكيد كقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤] أي أن المحرمات مفروضة عليكم على معنى التأكيد. وفي هذه الآية إبطال قول المعتزلة، لأنهم يقولون: إن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكل ما ذبح من الحيوان كان هالكاً قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدية. وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها قال الكلبي: يعني يرد ثواب الدنيا بالعمل الذي افترض الله عليه نُؤْتِهِ مِنْها يعني أعطاه الله ما يحب، وَمَا لَهُ فِى الاخرة من نصيب وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ في الآخرة. ومن الناس من قال: إن الرياء يدخل في النوافل، ولا يدخل في الفرائض، لأن الفرائض واجبة على جميع الناس. وقال بعضهم:
يدخل في الفرائض ولا يدخل في النوافل، لأنه لو لم يأتِ بها لا يؤاخذ بها، فإذا أتى بهذا القدر ليس عليه غير ذلك. وقال بعضهم: كلاهما سواء، فالرياء يدخل في الفرائض والنوافل جميعاً. وهذا القول أصح لقوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ
[النساء: ١٤٢].
ثم إن الله تعالى أخبرهم بما لَقِيَتِ الأنبياءُ والمؤمنون قبلهم فعزَّاهم ليصبروا فقال تعالى
سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قرأ ابن كثير وَكَأَيِّنْ بعد الألف والهمزة، وقرأ الباقون بغير مد، ومعناهما واحد. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: وكأيِّن من نبي قُتِل، بضم القاف وكسر التاء. وقرأ الباقون: قاتَلَ، فمن قرأ قاتل فمعناه كم من نبيّ قاتل معه جموع كثيرة. ومن قرأ قتل معناه: وكم من نبي قتل مَعَهُ جماعة كثيرة. وقوله: رِبِّيُّونَ قال الكلبي: الربية الواحدة من عشرة آلاف. وقال الزجاج: هاهنا قراءتان رُبِّيُّون بضم الراء، ورِبِّيّون بكسرها، فأما بالضم فهي الجماعة الكثيرة عشرة آلاف، وأما الرِّبّيُّون بالكسر العلماء الأتقياء الصبراء على ما يصيبهم في الله تعالى. ويقال: وكأين من نبي قتل يعني: كم من نبيّ قتل وكان معه ربيون كثير. فَما وَهَنُوا بعد قَتْلِهِ عن القتال، وما عجزوا بما نزل بهم من قتل أنبيائهم وأنفسهم لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا لَعدُوِّهم، ويقال: وما جبنوا.
ثم قال وَمَا اسْتَكانُوا يقول: وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ فكأنه يقول للمؤمنين: فهلا قاتلتم مع نبيكم صلّى الله عليه وسلم وبعد قتله وإن قتل، كما قاتلت القرون الماضية من قبلكم إذا أصيبت أنبياؤهم. ثم أخبر عن قول الذين قاتلوا مع النبيين فقال تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل أنبيائهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي هي دون الكبائر وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي العظائم من الذنوب وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عند القتال وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ معناه: هلاّ قلتم كما قالوا وقاتلتم كما قاتلوا. وقرأ بعضهم قولهم بالضم، والمعنى في ذلك أنه جعل القول اسم كان، فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا. ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان، وجعل الاسم ما بعده.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٨]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا أي أعطاهم الله ثواب الدنيا بالغنيمة والنصرة وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي الجنة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المؤمنين المجاهدين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ كفاراً بعد إيمانكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ إلى دينكم الأول بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي أطيعوا الله فيما يأمركم، هو مولاكم يعني: وليكم وناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ أي المانعين من كفار مكة.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥١]

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة: الرعب بتسكين العين. وقرأ ابن عامر، والكسائي: الرعب بالضم. وأصله الضم، إلا أنه إذا اجتمع ضمتان حذفت إحداهما عند من قرأ بالجزم. ومعنى الآية سنلقي الهيبة في قلوب المشركين، وذلك بعد هزيمة المؤمنين، قذف الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فانهزموا إلى مكة. ويقال: حين صعد خالد بن الوليد الجبل، قصد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجع خالد منهزماً. ويقال: عنى به يوم الأحزاب، ألقي في قلوبهم الرعب فانهزموا بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ يعني بأنهم أشركوا بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني كتاباً فيه عذر وحجة لهم بالشرك وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: مصيرهم إلى النار في الآخرة وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ يعني أن مثوى المشركين النار.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٤]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
256
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وذلك أنهم لما أخذوا في الحرب انهزم المشركون، فلما أَخَذَ بعض المسلمين في النهب والغارة رجع الأمر عليهم وانهزم المسلمون، فذلك قوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ يقول: تقتلونهم بأمره. وقال القتبي: تحسونهم يعني تستأصلونهم بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد. حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني: جَبُنْتُمْ من عدوكم، واختلفتم في الأمر وَعَصَيْتُمْ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ يعني أراكم الله مَّا تُحِبُّونَ يعني من النصر على عدوكم، وهزيمة الكفار والغنيمة.
ثم قال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي يطلب الغنيمة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا عند المشركين حتى قتلوا. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: كنا لا نعرف أن أحداً منا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية، فَعَلِمْنا أن فينا من يريد الدنيا ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بالهزيمة من بعد أن أَظْفَركم عليهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بمعصية الرسول بالقتل والهزيمة وَلَقَدْ عَفا الله عَنْكُمْ ولم يعاقبكم عند ذلك، فلم تقتلوا جميعاً وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ في عفوه وإنعامه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بالعفو والإنعام إِذْ تُصْعِدُونَ يعني: إلى الجبل هاربين، حيث صعدوا الجبل منهزمين من العدو، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعوهم: «يَا معْشرَ المُسْلِمينَ أَنَا رَسُولُ الله» فلم يلتفت إليه أحد، حتى أتوا على الجبل. فذلك قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ يعني الجبل.
وهذا قول الكلبي وقال الضحاك: إذ تصعدون في الوادي منهزمين. وقال القتبي: يعني تبعدون في الهزيمة، يقال: أصعد في الأرض إذا أمعن في الهزيمة. وقرأ الحسن: تَصْعَدُون بنصب التاء، أي تَصْعَدُون الجبل. وقرأ العامة بالضم وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ يقول: ولا تقيمون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويقال: لا يقيم بعضكم على بعض وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ يقول:
مِنْ خَلْفِكم فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ يقول: جعل ثوابكم غماً على أثر الغم، ويقال: جزاكم غماً على أثر الغم، ويقال غماً متصلاً بالغم. فأما الغم الأول: فإشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين وهم في ذلك الجبل قاله الكلبي. وقال مقاتل: الغم الأول ما فاتهم من الفتح والغنيمة، فاجتمعوا وكانوا يذكرون فيما بينهم ما أصابهم في ذلك اليوم. والغم الثاني: إذ صعد خالد بن الوليد، فلما عاينوه أَذْعَرهُم ذلك أي خوفهم، فأنساهم ما كانوا فيه من الحزن، فذلك قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا مَا أَصابَكُمْ من القتل والهزيمة. ويقال: الغم الأول الجُرح والقتل، والغم الثاني أنهم سمعوا بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغم الأول. قال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجازيكم بها.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الأمنة في اللغة الأمن. قال الكلبي: إذا أَمِنَ القوم نعسوا. وقال الضحاك: النعاس عند القتال أمنة من الله تعالى. ويقال: الذي يصيبه الغم
257
والهزيمة لا يكون له شيء أحسن من النعاس، فيذهب عنه همه، فأصاب القومَ النعاسُ فذهب عنهم الغم وأمنوا. قوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ يعني النعاسَ يغشى ويعلو طائفة منكم، من كان من أهل الصدق واليقين. قرأ حمزة والكسائي: تغشى بالتاء. وقرأ الباقون بالياء. فمن قرأ بالتاء انصرف إلى قوله أمنة، ومن قرأ بالياء يكون نعتاً للنعاس.
ثم قال: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني أهل النفاق. وقال الكلبي: هو معتب بن قُشَيْر وأصحابه يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني: أنهم يظنون أن لن ينصر الله محمداً وأصحابه ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قال الكلبي: يعني كظنهم في الجاهلية. وقال مقاتل: ظن الجاهلية كظن الجهال المشركين، مثل أبي سفيان وأصحابه يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني:
النصرة والفتح قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني النصرة والغنيمة كله من الله يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي يُسِرُّونَ في أنفسهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي يقولون ما لا يظهرون لك يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا أي يقولون لو كان ديننا حقا ما قتلنا هاهُنا قال الكلبي: وفي الآية تقديم وتأخير، ومعناه يقولون: هل لنا من الامر من شيء، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، يقولون: لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا هاهنا قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وقال الضحاك:
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ يعني القدر خيره وشره من الله. قرأ أبو عمرو: قل إن الامر كله لله بضم اللام، والباقون بالنصب. فمن قرأ بالرفع جعله اسماً مستأنفاً، ومن نصب جعله نعتاً للأمر.
ثم قال تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ يقول: لظهر. ويقال: لخرج الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أي قُضِيَ عَلَيهم القتل إِلى مَضاجِعِهِمْ أي إلى مواضع مصارعهم.
معناه: أنهم وإن لم يخرجوا إلى العدو وقد قضى الله عليهم بالقتل، لخرجوا إلى مواضع قتلهم لا محالة، حتى ينفذ فيهم القضاء. قال تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني ليختبر ويظهر ما في قلوبكم وَلِيُمَحِّصَ يعني: ليظهر ويكفر مَا فِي قُلُوبِكُمْ من الذنوب وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: بما في القلوب من الخير والشر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
258
ثم نزل في المنهزمين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أي الذين انهزموا منكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جمع المسلمين، وجمع المشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ قال القتبي:
استزلهم أي طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت فلاناً أي طلبت عجلته واستعملته أي طلبت عمله. ويقال: زَيَّنَ لهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا يعني: الذي أصابهم كان بأعمالهم كما قال في آية أخرى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠]. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ حيث لم يستأصلهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم حَلِيمٌ إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة.
قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو بكر عن غيلان بن جرير، أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن: أتسبُّني وقد شهدت بدراً ولم تشهدها؟ وبايعتُ تحت الشجرة ولم تُبَايع؟ وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع- أي يوم أحد- فردّ عليه عثمان وقال: أما قولك إنك شهدت بدراً ولم أشهدها، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا أن ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت مريضة فكنت معها أُمرِّضها، وضرب لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهم في سهام المسلمين. وأما بيعة الشجرة، فبعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم رداً على المشركين بمكة فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمينه على شماله قال: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فيمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليّ خير من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ فكنت فيمن عفى الله عنهم. فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف.
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني منافقي أهل الكتاب وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ من المنافقين: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يعني إذا ساروا في الأرض تجاراً مسافرين، فماتوا في سفرهم أَوْ كانُوا غُزًّى يعني: خرجوا في الغزو فقتلوا. قال القتبي:
غزّاً جمع غاز، مثل صائم وصُوَّم، ونائم ونوم لَوْ كانُوا عِنْدَنا بالمدينة مَا ماتُوا في سفرهم وَما قُتِلُوا في الغزو لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الظن حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ويقال: جعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم. وقال الضحاك: ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين، لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت. وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سُودٍ تسرح في الجحيم.
259
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي في السفر ويميت في الحضر، ويحيي في الحضر ويميت في السفر. ويقال: والله يحيي قلوب المؤمنين ويميت قلوب الكافرين، يحيي قلوب المؤمنين بالنصرة والخروج إلى الغزو، ويميت قلوب المنافقين بالتخلف وظن السوء. وقال الضحاك: يعني يحيي من أحيى من نطفة بقدرته، ويميت من أمات بعزته وسلطانه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قرأ عبد الله بن كثير وحمزة والكسائي: يَعْمَلُونَ بالياء على معنى المغايبة. وقرأ الباقون: بالتاء. ومعناه قل لهم: والله بما تعملون بصير وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ يعني: إن متم في إقامتكم، أو قتلتم في سبيل الله وأنتُم مُؤْمنون لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لذنوبكم وَرَحْمَةٌ يعني: ونعمة وجنة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ في الدنيا من الأموال يا معشر المنافقين. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم: متم بضم الميم في جميع القرآن، والباقون بكسرها. وهما لغتان ومعناهما واحد.
ثم قال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ في الغزو لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ بعد الموت. قرأ عاصم في رواية حفص: خير مما يَجْمَعون بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يقول: فبرحمة من الله وما صلة، فالله ذكر منه أن جعل رسوله رحيماً رؤوفاً بالمؤمنين، حيث قال: فبرحمة مِّنَ الله لِنْتَ لَهُمْ يا محمد أني لينت لهم جانبك، وكنت رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ أي خشناً في القول غليظ القول لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا من عندك، ولكن الله جعلك سهلاً سَمْحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رحيماً، وهكذا قال الضحاك.
ثم قال: فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: فتجاوز عنهم، ولا تعاقبهم بما يكون منهم من الزلة والذنب وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ من ذلك الذنب وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يقول: إذا أردت أن تعمل عملاً فاعمل بتدبيرهم ومشاورتهم، ويقال: ناظرهم في الأمر. ويقال: ناظرهم عند القتال.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: وشاوِرْهُمْ في بَعْضِ الأمر، لأنه كان يشاورهم فيما لم ينزل عليه الوحي فيه، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم عاقلاً ذا رأي، ولكنه أمر بالمشورة ليَقْتَدي به غيره، ولأن في المشاورة تودُّداً لأصحابه، لأنه إذا شَاوَرهم تَوَدَّد قلوبهم. وفي المشورة أيضاً ترك الملامة، لأنه يقال: فعلت كذا بمشاورتكم. وروى سهل بن سعيد الساعدي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا شَقِيَ عَبْدٌ قَطّ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ عَبْدٌ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ». ثم قال تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي لا تتوكل على المشورة، ولكن توكل على الله بعد المشورة لا على الأصحاب إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الذين يتوكلون على الله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
ثم أخبر عزّ وجلّ أن النصرة من عند الله كلها، فقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يقول إن يمنعكم الله فَلا غالِبَ لَكُمْ من العدو يعني يوم بدر وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يعني يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي: يمنعكم من عدوكم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: فليتّق الواثقون في النصرة ويقال: على المؤمنين أن يتوكلوا على الله، لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦١ الى ١٦٣]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: يَغُل بنصب الياء. وقرأ الباقون: يُغَل بضم الياء ونصب الغين. فمن قرأ بالنصب معناه: وما كان لنبي أن يخون في الغنيمة، ومن قرأ بالضم فمعناه: لا ينسب إلى الغلول. وذلك أنه لما كان يوم أحد أخذوا في النهب والغارة وتركوا القتال، وخافوا أن تفوتهم الغنيمة، وظنوا أن من أخذ شيئاً يكون له، وأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لا يقسم لهم، فنزلت هذه الآية: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يقول: ما جاز لنبيّ أن يخون في الغنيمة، وما جاز لأصحابه أن ينسبوه إلى الخيانة وَمَنْ يَغْلُلْ أي يخن في الغنيمة يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني يحمله على ظهره. وهذا كما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لأَعرِفَنّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى عُنقِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً» يريد أن من غل شاة أو بقرة، أتى بها يوم القيامة يحملها.
ويقال: من غلّ شيئاً في الدنيا، يمثل له يوم القيامة في النار، ثم يقال له: انزل إليه فَخُذْه، فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله، فكلما انتهى به إلى الباب سقط منه إلى أسفل جهنم، فيرجع فيأخذه فلا يزال كذلك ما شاء الله. ويقال: يَأْتِ بِما غَلَّ يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول، ويقال هذا على سبيل التمثيل يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بوباله، فيكون وباله على عنقه كما قال في آية أخرى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الأنعام: ٣١].
ثم قال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي توفى وتجازى كل نفس ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ قال الكلبي: يعني أفمن أخذ الحلال من الغنيمة كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يعني: كمن استوجب سخطاً من الله بأخذ الغلول من الغنائم. ثم بيّن مستقر كل من غل يوم القيامة ومن أخذ من الحلال، فقال لمن غل: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الذي صاروا إليه يعني النار.
وقال في حق من أخذ الحلال: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يعني لهم درجات في الجنة عند الله، ويقال: هم ذوو درجات عند الله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بمن غلّ وبمن لم يغل. وقال القتبي: هي طبقات عند الله في الفضل، فبعضهم أرفع من بعض. وقال أبو عبيدة والكسائي:
لهم درجات عند الله، ويقال لمن لم يغل درجات في الجنة، ولمن غل درجات في النار.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٤ الى ١٦٨]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنعم الله عليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: من أصلهم ونسبهم من العرب، يعرفون نسبه. ويقال: من أنفسهم، يعني من جنسهم من بني آدم، ولم يجعله من الملائكة. وإنما خاطب بذلك المؤمنين خاصة لأن المؤمنين هم الذين صدقوه فكأنه منهم. وقرئ في الشاذ: من أَنفسكم بنصب الفاء، أي من أشرفهم. وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء: أحدها: أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل، ثم من العرب قريش، ثم من قريش بنو هاشم، فجعله من بني هاشم. والثاني: إنه كان أميناً فيهم قبل الوحي. والثالث: أنه كان أمياً لكي لا يرتاب فيه الافتعال.
ثم قال: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يعرض عليهم القرآن وَيُزَكِّيهِمْ يعني يأخذ منهم الزكاة ليطهر أموالهم، ويقال: ويزكيهم يعني يطهرهم من الذنوب والشرك. ويقال: ويزكيهم أي يأمرهم بكلمة الإخلاص، وهي قول لا إله إلا الله، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني القرآن، والحكمة أي الفقه وبيان الحلال والحرام وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: وقد كانوا مِن قَبْلُ مجيء محمد صلّى الله عليه وسلم لفي خطأ بَيِّن.
262
ثم رجع إلى قصة أُحد وذكر التعزية للمؤمنين بما أصابهم من الجراحات، فقال:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعني يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر، لأن المسلمين يوم بدر قتلوا سبعين نفساً من صناديد قريش وأسروا سبعين، وقتل من المسلمين يوم أُحد سبعين ولم يؤسر منهم أحد، فذلك قوله تعالى: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها وقوله: أَوَلَمَّا فالألف للاستفهام والواو للعطف وما صلة، فكأنه قال: ولئن متم أو قتلتم أو أصابتكم مصيبة يوم أحد، قد أصبتم مثليها يوم بدر قُلْتُمْ أَنَّى هذا يعني قلتم: فمن أين لنا هذا؟ وكيف أصابنا هذا ونحن مسلمون؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي من عند قومكم بمعصية الرماة، بتركهم ما أمرهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال الضحاك: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، يعني بذنوبكم التي سلفت منكم قبل القتال، يعني إن في ذلك تطهيراً لما سلف من ذنوبكم وهو قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠]. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النصرة والهزيمة وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فبإذن الله، أي جمع المسلمين وجمع المشركين فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فبإرادة الله أصابكم وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا يعني أصابتكم المصيبة لكي يظهر المؤمن من المنافق.
ثم بيّن أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد، فقال: وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا يعني: إن لم تقاتلوا لوجه الله، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وحريمكم. قال الكلبي: ويقال ادفعوا يعني: كثروا. وقال القتبي: ادفعوا، أي كثروا لأنكم إذا كثرتم ثم دفعتم القوم بكثرتكم قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يعني: أن ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان. وقوله: لَاتَّبَعْناكُمْ أي لجئنا معكم. قال الضحاك: وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما خرج يوم أحد، أبصر كتيبة خثناء وفيها كبكبة من الناس، فقال: «مَنْ هَؤُلاءِ» ؟ فقيل: يا نبيّ الله، هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي. فقال:
«إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالكُفَّارِ» فرجع عبد الله مع حلفائه من اليهود. فقال له عمر: أقم مع المؤمنين.
فقال: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. ويقال: إن عونهم للكفار أكثر من عونهم للمؤمنين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ذكر الأفواه على معنى التأكيد، لأن الرجل يقول بالمجاز بالإشارة، وهذا كما قال: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩] ويَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: ١١] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق والكفر.
ونزل فيهم أيضاً: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ من المنافقين وَقَعَدُوا عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا في القعود عن الجهاد مَا قُتِلُوا في الغزو قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ في حال حضور الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالتكم. قال الفقيه: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت هذه الآية: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ مات يومئذ سبعون نفساً من المنافقين.
263

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٠]

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
ثم نزل في شأن الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ من التحف وذلك أن المسلمين كانوا يقولون مات فلان ومات فلان، فنزلت هذه الآية: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وهذا قول الكلبي. ويقال: ولا تظنن الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتاً كسائر الأموات بل أحياء، يعني: هم كالأحياء عند ربهم، لأنه يُكْتب لهم أجرهم إلى يوم القيامة، فكأنهم أحياء في الآخرة. ويقال: لا تظن كما يظن الكفار بهم أنهم لا يبعثون، بل يبعثهم الله ويقال: أرواحهم في المنزلة والكرامة بمنزلة الشهداء الأحياء وروي عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ الله أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ طَيْرِ خُضْرٍ، تَردُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مُنْقَلَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ، وَرَأَوْا مَا عِنْدَ الله لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، قَالُوا: يَا لَيْتَ إخْوَانِنَا عَلِمُوا مَا أَعدَّ الله لَنَا مِنَ الكَرَامَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، فَلَمْ يَنكلُوا عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَجْبُنُوا عِنْدَ القِتَالِ، فَقَالَ الله تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ أي معجبين بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه في الجنة وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ من إخوانهم من بعدهم أن يأتوهم.
ثم رجع إلى الشهداء فقال تعالى: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من الدنيا. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: ولا تَحْسَبَنَّ بنصب السين في جميع القرآن. وقرأ الباقون: بالكسر. وقرأ ابن عامر: قُتِّلُوا بتشديد التاء على معنى التكثير، يعني أنهم يقتلون واحداً فواحداً. وقرأ الباقون بالتخفيف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧١]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ يقول: بجنة من الله، ويقال: بمغفرة من الله وَفَضْلٍ يعني: الكرامات في الجنة. وروي عن مجاهد أنه كان يقول: السيوف مفاتيح الجنة. وروت عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشَّهِيدُ يَشفعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ»
قال الفقيه: أروي هذا الحديث بمعناه لا بلفظه، إن الله تعالى أكرم الشهداء بخمس
كرامات، لم يكرم بها أحد من الأنبياء ولا أنا، إحداها: أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي، وأما الشهداء فالله تعالى هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء، ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت. والثانية: أن جميع الأنبياء قد غُسِّلوا بعد الموت، وأنا أَغسَّل بعد الموت، وأما الشهداء فلا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا.
والثالثة: أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن أيضاً، والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم.
والرابعة: أن جميع الأنبياء لما ماتوا فقد سُمُّوا أمواتاً، وإذا مت أنا يقال: قد مات والشهداء لا يُسمون موتى. والخامسة: أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة، وشفاعتي أيضاً يوم القيامة، وأما الشهداء فيشفع لهم في كل يوم فيمن يستشفعون.
ثم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قرأ الكسائي: وإنَّ بكسر الألف، والباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله، ويستبشرون بأن الله لا يضيع ثواب المؤمنين الموحدين. ومن قرأ بالكسر على معنى الابتداء: إن الله لا يبطل ثواب عمل الموحدين، وهذا الخبر للترغيب في الجهاد. وأما الشهداء والأولياء، فيشفع لهم لا يبلغون إلى درجة الأنبياء. ومن قال: إنهم يبلغون إلى درجة الإباحة، ومن أنكر كرامات الأولياء فهو معتزلي.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٥]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قال في رواية الكلبي: وذلك أن أبا سفيان حين رجع من أُحد، نادى فقال: يا محمد، إن الموعد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى.
فقال ﷺ لعمر: «قُلْ لَهُ ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى». ثم ندم أبو سفيان، فقال لنعيم بن مسعود- وكان يخرج إلى المدينة للتجارة-: إذا أتيت المدينة، فخوّفهم لكيلا يخرجوا. فلما قدم نعيم المدينة قال: إن أبا سفيان قد جمع خلقاً كثيرة، فكره أصحاب رسول الله ﷺ الخروج إليهم وتثاقلوا، فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ منهم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ» قال: فمضى رسول الله ﷺ للميعاد، ومعه نحواً من
سبعين رجلاً، حتى انتهوا إلى ذلك الموضع، وكان هنالك سوق فلم يخرج أحد من أهل مكة، فتسوقوا من السوق حاجتهم وانصرفوا، فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعني أصابتهم الجراحات يوم أُحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ أي الذين أوفوا الميعاد وَاتَّقَوْا السخط في معصية رسول الله ﷺ لهم أَجْرٌ عَظِيمٌ أي ثواب كثير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني نعيم بن مسعود، وإنما أراد به جنس الناس وكان رجلاً واحداً إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه فَاخْشَوْهُمْ ولا تخرجوا إليهم فَزادَهُمْ إِيماناً أي تصديقاً، ويقيناً، وجرأة على القتال وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي ثقتنا بالله، وأيقنوا أن الله لا يخذل محمدا ﷺ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي نعم الثقة لنا.
فَانْقَلَبُوا انصرفوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بأجر من الله وَفَضْلٍ يعني ما تسوقوا به من السوق، واشتروا الأشياء بسعر رخيص لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ يعني قتال وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ أي ذو مَنِّ عظيم. وقال في رواية الضحاك: كان ذلك يوم أُحد، لما انهزمت قريش، ونزلت في مواضع، وكثرت الجراحات في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهمّ رسول الله ﷺ بالخروج إليهم فأجابه سبعون رجلاً، فنزلت هذه الآية قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يعني نعيم بن مسعود، لأن كل عات متمرد شيطان يخوف أولياءه، يعني بأوليائه الكفار. ويقال: يخوف أشكاله. وقال الزجاج: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ أي ذلك التخويف عمل الشيطان، يخوفكم من أوليائه. وقال القتبي: يخوف أولياءه أي بأوليائه، أي كما.
قال تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: ٢] يعني لينذركم ببأس شديد.
ثم قال تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ في الخروج وَخافُونِ في القعود إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين. قال الزجاج: معناه إن كنتم مصدقين، فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٦]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قال الكلبي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود، كتموا صفة محمد ﷺ في الكتاب فنزل: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. ويقال: إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا، شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون:
إنهم أهل الكتاب، فلو كان قوله حقاً لا تبعوه. فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت في مشركي قريش، لأنهم كانوا أقرباءه، والناس يقولون: لو كان قوله حقا لا تبعه أقرباؤه، فشق ذلك عليه
فنزلت وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون في الكفر ولا يصدقونك إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي لا ينقصوا من ملك الله شيئاً وسلطانه شيئاً بكفرهم وهذا كما روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله ﷺ أنه قال: «قَالَ الله لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذلك فِي مُلْكِ الله شَيْئاً وَلَوْ كَانَ أوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ وَجِنُّكُمْ وَإنْسُكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ مِنْ مُلْكِ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ».
ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أي نصيباً في الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة. قرأ نافع: ولا يُحْزِنْك بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك ما كان نحو هذا في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي، وهما لغتان وتفسيرهما واحد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا يعني اختاروا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يقول لن ينقصوا من ملك الله شيئاً، وإنما أضروا بأنفسهم حيث استوجبوا لأنفسهم العذاب، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ يعني: لا يظن الكفار أن الذي نملي لهم ونمهلهم خير لهم، ويقال: ما نعطيهم من المال والولد لا يظنن أن ذلك خير لهم في الآخرة، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ في الآخرة إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي نعطي لهم المال والولد، يهانون به من العذاب. ويقال: إنما نملي لهم، أي بما أصابوا من الظفر يوم أُحد لم يكن ذلك خيراً لأنفسهم، وإنما كان ليزدادوا عقوبة. ويقال: إنما نملي لهم ونؤخر العذاب عنهم ليزدادوا إثماً، أي جرأة على المعاصي. وإنما كان ذلك مجازاة لكفرهم وخبث نياتهم. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من بر وفاجر إلا والموت خير له، لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران: ١٩٨] وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً قرأ ابن عامر وعاصم: لا يَحْسَبَنَّ بالياء ونصب السين. قرأ الباقون بالتاء وكسر السين، وكذلك الذي بعد هذا.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]

مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
ثم قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قال الكلبي: وذلك أن قريشاً من أهل مكة قالوا: يا رسول الله إنك تزعم أن الرجل منا في النار، وإذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فأخبرنا عن هذا من أين هو؟ وأخبرنا مَن يأتيك منا ومن لا يأتيك؟ فأنزل الله تعالى: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الكفر والنفاق.
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يقول: حتى يخلص الكافر من المؤمن وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي ليبين لكم المؤمن من الكافر قبل أن يؤمن. وقال الفراء: لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يقول يصطفي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ للنبوة والرسالة من خلقه، فيوحي إليه بإذنه. قال في رواية الضحاك: إن المنافقين أعلنوا الإسلام وأسروا الكفر، وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين، فأحب الله أن يميز بين الفريقين، وأن يدل رسوله على سرائر المنافقين فقال تعالى: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يعني المنافق من المؤمن وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله، يعني: أن المؤمنين لا يعلمون سر المنافقين، ولكن الله يبين ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ، أي ليترك من علم أنه من أهل الإيمان على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ من الكفر حتى يوفقه للإيمان، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله بالوحي، حتى يكون ذلك علامة لنبوتهم.
ثم قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا بالله ورسله وَتَتَّقُوا الشرك والمعصية فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي ثواب عظيم في الجنة. ويقال: إن الكفار لما سألوا رسول الله ﷺ أن يبيّن لهم من يؤمن منهم، فنزل قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني ولا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم، فآمنوا بالله ورسله فإنكم إن فعلتم ذلك فلكم أجر عظيم. قرأ حمزة والكسائي: حتى يُميز مع التشديد بضم الياء ونصب الميم. وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الميم بغير تشديد، وتفسيرهما واحد إلا انك إذا قرأت بالتشديد قد يكون عبارة عن الكثرة والمبالغة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٠ الى ١٨١]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
268
ثم قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي بما أعطاهم الله من المال، يبخلون ويمنعون الزكاة والصدقة وصلة الأرحام، فلا يظنوا أن ذلك هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ يعني: أن البخل شر لهم. ويقال: الفضل شر لهم سَيُطَوَّقُونَ يقول سيوثقون مَا بَخِلُوا بِهِ من الزكاة كهيئة الطوق. وروي عن ابن عباس أنه قال: يأتي كنز أحدهم، شجاع أقرع له زبيبتان طوقاً في عنقه، يلدغ خديه ويقول: أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا وروي عن رسول الله ﷺ نحو هذا فذلك قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويقال: هو طوق من نار في عنقه. ويقال: هو على وجه المثل، يعني وبال ذلك في عنقهم كما قال في آية أخرى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: ١٣].
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة، وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق، ويبقى رب العالمين ثم يقول:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ١٦]. فلا يجيب أحد فيرد على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [يوسف: ٣٩ وغيرها] فذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك. وإنما سمي ميراثاً على وجه المجاز، لأن القرآن بلغة العرب، وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثاً على وجه المجاز، وأما في الحقيقة فليس بميراث، لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن يملكه من قبل، والله عز وجل مالكهما، وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له، وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها، فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل. ومعنى الآية أن الله تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا، قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراث الله لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم بمن يؤدي الزكاة وبمن يمنعها، فيجازي كل نفس بما عملت. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بِمَا يَعْمَلُونَ بالياء، والباقون بالتاء على وجه المخاطبة لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. وقال في رواية الضحاك: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: ٢٤٥ والحديد: ١١] قالت الفجرة من كفرة اليهود: أفقير ربنا فيستقرضنا؟ قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، فنزلت هذه الآية. ويقال إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى اليهود ليأمرهم بالإسلام، وأن يعطوا الصدقة ويؤمنوا، فلما انتهى إليهم أبو بكر قال فنحاص بن عازورا: أيسأل الله منا
269
الصدقة؟ فهو فقير ونحن أغنياء. فنزلت هذه الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا أي حفظ قولهم ونجازيهم ويقال: سنكتب ما قالوا، يعني:
يكتب عليهم الكرام الكاتبون ويؤاخذون به في الآخرة وَقَتْلَهُمُ أي ونكتب قتلهم الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني بلا جرم وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة ذلك. قرأ حمزة: سيُكتَب بضم الياء ونصب التاء، وقتلُهم الأنبياء بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله، يعني يكتب قتلهم الأنبياء، ويقول بالياء. والباقون سنكتب بالنون، وقتلهم بنصب اللام، ونقول بالنون. وقوله: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ روي عن النبي ﷺ أنه قال: «لو أن شَرَارَةً وَقَعَتْ بِالمَشْرِقِ لَغَلَتْ مِنْهَا جَمَاجِمُ قَوْمٍ بِالمَغْرِبِ، وَلَوْ أنَّ حَلقَةً مِنْ سَلاَسِلِ النَّارِ وُضِعَتْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لاحْتَرَقَ إلى سَبْعِ أَرَضِين» فهذا معنى قوله: عَذابَ الْحَرِيقِ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٢]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
ثم قال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يعني يقال لهم: ذلك العذاب بما قدمت أَيْدِيكُمْ من الكفر والتكذيب، أي بما قدمتم. وذكر الأيدي على معنى الكتابة وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي لا يعذب أحداً بغير ذنب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا يعني كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف وغيرهما من رؤساء اليهود: قالوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا يعني أمرنا في التوراة أَلَّا نُؤْمِنَ يعني أن لا نصدق لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ يعني تجيء نار من السماء فتأكل القربان بالبينات، فإن جئتنا بها صدقناك قال الله تعالى: قُلْ يا محمد قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ يعني: بالآيات والعلامات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ يعني قد جاءكم الرسل بالذي قلتم من أمر القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعني زكريا ويحيى وغيرهما إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٤]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ بما تقول لهم فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فالله تعالى يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم، فقد جاؤُ بِالْبَيِّناتِ يعني الرسل جاءوا بالبينات، أي من قبلك، وقد جاءوا بالآيات والعلامات وَالزُّبُرِ قال الكلبي: يعني بأحاديث الأنبياء من قبلهم بالنبوة على ما يكون وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ يعني: الحلال والحرام. وقال الزجاج: الزبر جماعة الزبور وهو الكتاب يقال: زَبَرْتُ أي كتبت، ويقال: زَبَرْتُ أي قرأت، والكتاب المنير يعني المعنيّ بالحلال والحرام. قرأ أبو عمرو بالزبر مع الباء، وقرأ الباقون والزبر بالواو.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
ثم قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قال الكلبي: لما نزل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: ٢٦] قالت الملائكة هلك أهل الأرض، فلما نزل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أيقنت الملائكة أنها هلكت معهم. ثم قال وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أي توفون ثواب أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ يقول بَعُد وَنُحِّي عنها وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ يعني: نجا وسعد في الجنة. حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا المسيب عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْيَأت إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْه». وقوله: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال ابن عباس: متاع الغرور مثل القدر والقارورة والسكرجة ونحو ذلك، لأن ذلك لا يدوم، وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى. ويقال: هو مثل الزجاج الذي يسرع إليه الكسر، ولا يصلحه الجبر. ويقال: كزاد المسافر، يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ يقول: لتختبرن في أموالكم بالنقصان والذهاب، ويقال بوجوب الحقوق فيها وفي أنفسكم، بالأمراض والأوجاع والقتل وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ حين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: ١٨١] وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب أَذىً كَثِيراً باللسان والفعل، ويقال: نزلت الآية
في شأن أبي بكر رضي الله عنه، كانوا أهل الجاهلية يهددونه ويشتمونه ويقولون: إن ما يفعله محمد ﷺ بمشاورته، فأمره الله تعالى بأن يصبر على أذاهم. فقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا المكافأة ويقال وتتقوا معاصيه فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني من حقائق الأمور. ويقال: إن ذلك الصبر من خير الأمور.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٩٥]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني: أخذ عليهم الميثاق حين أخذ ذرية آدم من ظهورهم. ويقال: أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني: نعت محمد ﷺ وصفته وَلا تَكْتُمُونَهُ عنهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: ليبيننه للناس ولا يكتمونه، كلاهما بالياء. وقرأ الباقون بالتاء، فمن قرأ بالياء
272
فمعناه أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ومن قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق، وقال لهم: لتبيننه للناس ولا تكتمونه. ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي طرحوه خلف ظهورهم، يعني أنهم تركوا الميثاق ولم يعملوا به وَاشْتَرَوْا بِهِ أي بكتمان نعت محمد ﷺ وصفته ثَمَناً قَلِيلًا أي عَرضاً يسيراً من متاع الدنيا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ يعني: بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة لاَ تَحْسَبَنَّ يقول: لا تظنن يا محمد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا يقول: يعجبون بما أوتوا، يعني بما غيرّوا من نعته وصفته، وهذا قول الكلبي. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك:
إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبياً في آخر الزمان يختم به النبوة، فلما بعثه الله سألهم الملوك:
أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالت اليهود طمعاً في أموال الملوك: هو غير هذا.
فأعطاهم الملوك مالاً فقال الله تعالى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي بما أعطاهم الملوك وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا لأنهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه. ويقال: كانوا يقولون نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب، ويريدون أن يحمدوا بذلك. قال الله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يقول فلا تظنهم بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ
معناه لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي دائم لا يخرجون منه أبدا.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات.
ويقال: جميع من فى السموات والارض عبيده وفي ملكه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النبات وغيره. ويقال: هذا معطوف على أول الكلام أنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء لأنه على كل شىء قدير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يأتيهم بآية لصحة دعواه، لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فنزل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقين عظيمين. ويقال: فيما خلق في السموات من الشمس والقمر والنجوم، وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يقول: وذهاب الليل ومجيء النهار، ويقال اختلاف لونيهما لَآياتٍ أي لعبرات لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً أي يصلون لله قياماً إن استطاعوا على القيام، وقعوداً إن لم يستطيعوا القيام وَعَلى جُنُوبِهِمْ إن لم يستطيعوا القعود لزمانة.
ويقال: معناه الذين يذكرون الله في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع، كما قال في آية أخرى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: ٤١] ثم قال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يعتبرون في خلقهما. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال:
حدثنا قتيبة، قال: حدثنا ابن زرارة الحلبي، عن أبي حباب، عن عطاء بن أبي رباح قال:
دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة، فسلمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟ فقلت:
عبد الله بن عمر، وعبيد بن عمير. فقالت: مرحباً بك يا عبيد بن عمير، ما لك لا تزورنا؟
273
فقال عبيد: زر غبّاً تَزْدَدْ حُبّاً فقال ابن عمر: دعونا من هذا، حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت بكاء شديداً ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي، فقال: «يَا عَائِشَةُ أَتَأْذَنِينَ لِي أنْ أَعْبُدَ رَبِّي» فقلت: والله إني لأحب قربك، والله إني لأحب هواك. فقام إلى قربة ماء فتوضأ، ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره، ثم اتكأ على شقه الأيمن، ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، فبكى حتى روت الدموع الأرض. ثم أتاه بلال بعد ما أذن للفجر، فلما رآه يبكي قال: أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخر؟ فقال: «يَا بِلالُ أفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً، وَمَا لِي لا أبْكِي وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... - إِلَى قَوْلُهُ- فَقِنا عَذابَ النَّارِ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَها وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا». وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ وَلا تَتَفَكَّرُوا فِي الخالق». وقال صلى الله عليه وسلم: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ».
ثم قال تعالى عز وجل: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي يتفكرون ويقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلاً عبثاً بغير شيء، ولكن خلقتهما لأمر هو كائن سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني ادفع عذاب النار. وقال الزجاج: معنى سُبْحانَكَ أي تنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلاً فَقِنا عَذابَ النَّارِ أي صدَّقْنا رسلك، وسلَّمنا أن لك جنة وناراً فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وفضحته وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يعني: ما للمشركين من مانع من العذاب إذ نزل بهم، ويقولون أيضاً: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ يعني محمداً يدعو إلى التصديق أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي صدقوا بتوحيد ربكم، فآمنا أي صدقنا بتوحيد ربنا. وقال محمد بن كعب القرظي: ليس كل الناس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المنادي هو كتاب الله يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن آمنوا بربكم فآمنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وقال الكلبي: الذنوب الكبائر ودون الكبائر، والسيئات الشرك. وقال الضحاك: ذنوبنا يعني ما عملوا في حال الجاهلية، وكفر عنا سيئاتنا، يعني: ما عملوا في حال الإسلام. ويقال: الذنوب والسيئات بمعنى واحد. ويقال: الذنوب هي الكبائر، والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي مع المطيعين، ويقال: اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين والصالحين. ويقولون أيضا: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك. ويقال: هو ما ذكر من استغفار الملائكة والأنبياء للمؤمنين، وهو قوله: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٥] وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم- عليهم السلام- للمؤمنين.
ثم قال تعالى: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني لا تعذبنا، ويقال: لا تخذلنا إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فأخبر الله
274
عن فعلهم، وذكر ما أجابهم به وأنجز لهم موعده، وبيّن لهم ثوابه وهو قوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من دعا بهذه الدعوات فإنه يستجاب له، لأنه قال تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ يعني ثواب عمل عامل في طاعتي مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى يعني رجلاً أو امرأة. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الديبلي، قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة يقال له سلمة بن الأكوع، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إني أسمع الله ذكر الهجرة، فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النَّسَاءِ فأنزل الله تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قال الكلبي: أي بعضكم أولياء بعض في الدين. وقال الضحاك: يعني يشبه بعضكم بعضاً في الطاعة. ويقال: بعضكم على إثر بعض، ويقال بعضكم على دين بعض. فَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: إن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي عُذّبوا في طاعتي وَقاتَلُوا مع رسول الله ﷺ المشركين وَقُتِلُوا أي قتلهم المشركون. قرأ حمزة والكسائي: وقتلوا وقاتلوا على معنى التقديم والتأخير كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ [آل عمران: ٥٥] وقرأ الباقون: وقاتلوا وقتلوا، إلا ابن كثير وابن عامر قرءا وقتّلوا بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة، فذكر الله فعلهم، ثم ذكر ثوابهم فقال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لأمحون عنهم ذنوبهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أي تجري يعني من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني أن الجنات جزاء لأعمالهم من عند الله.
وقال الزجاج: إنما صار نصباً لأنه مصدر مؤكد، معناه: لأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ولأثيبنهم ثواباً. وروي عن الفراء أنه قال: إنما صار نصباً على التفسير. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي حسن الجزاء وهو الجنة. ويقال: حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ يقول: لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض. ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين، ومعناه: لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم في البلاد، لأن ذلك مَتاعٌ قَلِيلٌ لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش، وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف، وكان المؤمنون في ضيق وشدة، فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة، وبمرجع المؤمنين فقال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ما هم فيه من العيش والسعة، فإنما هو متاع أي يفنى بعد وقت قريب. قوله: ثُمَّ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ
أي مصيرهم إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ بئس موضع القراء في النار، وبئس المصير إليها، فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
ثم ذكر مرجع المؤمنين ومصيرهم فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي اتقوا الشرك والفواحش، ووحّدوا ربهم لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تحتها الانهار خالدين فيها أبداً لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها أبداً نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يقول: ثواباً من عند الله للمؤمنين الموحدين خاصة وَما عِنْدَ اللَّهِ الجنة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من الدنيا للمؤمنين المطيعين وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يعني مؤمني أهل الكتاب، معناه مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن آمن بالله فصدق بقوله وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن وصدق وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة والإنجيل، يعني على أنبيائهم، فذكر حالهم وبيّن ثوابهم لكي يرغب غيرهم من أهل الكتاب ليؤمنوا إذا علموا بثوابهم.
ثم نعتهم فقال تعالى: خاشِعِينَ لِلَّهِ أي متواضعين لله، والخشوع أصله التذلل وكذلك الخضوع، وقد فرّق بعض أهل اللغة بين الخشوع والخضوع، فقال الخضوع في البدن خاصة، والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت والقلب. كما قال الله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ [طه: ١٠٨] وقال: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [القلم: ٤٣ المعارج: ٤٤].
ثم قال تعالى: لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني عرضاً يسيراً كفعل اليهود أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ الجنة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي شديد العقوبة، ويقال: سريع الحفظ والتعريف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا أي اصبروا على البلاء والجهاد وأداء الفرائض، وعن المعاصي وَصابِرُوا مع نبيكم ﷺ على عدوكم حتى يدعوا دينهم إلى دينكم، يعني يتركوا الشرك ويدخلوا في الإيمان وَرابِطُوا مع عدوكم ما أقاموا، وهذا قول الكلبي. وقال عكرمة: اصبروا على البلاء وعلى طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا الخيول. وقال الزجاج: اصبروا على دينكم وصابروا على عدوكم، ورابطوا أي أقيموا
276
على جهادكم بالحرب وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع ما أمركم ونهاكم. وقال القتبي: أصل المرابطة أن يربطوا خيولهم في الثغر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول: تفوزون وتأمنون النار وتنجون منها.
ويقال: أصل الفلاح البقاء بالنعمة، ويقال: الفلاح أن يبلغ الإنسان نهاية ما يؤمل، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين.
277
Icon