تفسير سورة آل عمران

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة آل عمران١
١ في بداية هذه السورة صارت المقابلة مقتصرة على نسخة الظاهرية المسماة أصلا ونسخة دار الكتب المصرية المرموز لها بـ: و.

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)
قوله: (الم (١) اللَّهُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: تفسيره ما وصل به من قوله: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ). هو تفسير (الم)، و (الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): تفسير (الم)، و (المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، وجميع ما وصل به الحروف المقطعة فهو تفسيرها، ولله أن يسمي نفسه بما شاء: سمى نفسه مجيدًا؛ كقوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)
وسمى القرآن مجيدًا؛ كقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحروف المقطعة هي مفتاح السورة.
وقال آخرون: إن كل حرف منها اسم من أسماء اللَّه تعالى.
ومنهم من يقول بأنها من المتشابه التي لا يوقف عليها.
ومنهم من يقول: هو على التشبيب؛ إذ من عادة العرب ذلك، وقد مضى الكلام فيه في قوله: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ)، بما يكفي.
وقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)
هو الْحَيُّ بذاته، وكل حي سواه حي بحياة هي غيره، فإذا كان هو حيًّا بذاته لم
297
يوصف بالتغاير والزوال، ولما كان كل حي سواه حيًّا بغيره احتمل التغاير والزوال؛ وكأن الحياة عبارة يوصف بها مَنْ عَظُمَ شَأنُهُ، وشَرُفَ أمره عند الخلق.
ألا ترى أن اللَّه - تعالى - وصف الأرض بالحياة عند نباتِها؛ لما يعظم قدرها ويشرف منزلتها عند الخلق عند النبات؟! وكذلك سمى المؤمن حيا؛ لعلو قدره عند الناس، والكافر ميتا؛ لدون منزلته عند الناس؛ فكذلك اللَّه - سبحانه - سمى نفسه حيًّا؛ لعظمته وجلاله وكبريائه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الشهداء؛ حيث قال: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ)، أي: مكرمون معظمون مشرفون عند ربِّهم.
وقوله: (الْقَيُّومُ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القائم على كل نفس بما كسبت.
وقال آخرون: القيوم: الحافظ.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هو الْحَيُّ الْقَيَّامُ " وكله يرجع إلى واحد: القائم.
والقيوم، والقيام، يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: يحفظه حتى لا يغيب عنه من أمره شيء.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " إنَّ اسمَ اللَّه الأعْظَمَ هُوَ: الْحَيُّ
298
الْقَيُّومُ ".
وقوله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ (٣)
ظاهر.
(بِالْحَقِّ)
قيل فيه بوجوه: يحتمل بالحق، أي: دعاء الخلق إلى الحق، ويحتمل بالحق، أي: هو الحق نفسه حجة مجعولة، وآية معجزة، أيس العرب عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله، وتحقق عند كُلٍّ أنهُ من عند اللَّه، إلا من أعرض عنه، وكابر وعاند.
وقيل: بالحق، أي: بالصدق والعدل.
وقيل: بالحق الذي لله عليهم، وما يكون لبعضهم على بعض.
ثم قال: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ).
أي: موافقًا لما قبله من الكتب السماوية، وهي غير مختلفة ولا متفاوتة، وفيه دلالة نبوة سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف؛ فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من اللَّه، وأن محمدًا رسوله، لكنهم كابروا وعاندوا.
وقوله: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ (٤)
من بعد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هُدًى لِلنَّاسِ).
أي: بيانا لهم، وحجة لمن اهتدى، وحجة على من عمي؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى، وعليه حجة فيه الهلاك؛ إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى، وعليه إن ترك الاهتداء؛ فبان أنه يخالف ما يقوله المعتزلة.
300
وقوله: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ): قد ذكرنا فيما تقدم أنه إنما سمي فرقانًا؛ لوجهين: أحدهما: لما فرق آياته وفرق إنزاله.
والثاني: لما يفرق بين الحق والباطل، وبين الحرام والحلال، وبين ما يتقى ويؤتى؛ فعلى هذا كل كتاب مبيّن فيه الحلال والحرام، وبُيّن ما يتقى ويؤتى. والإنجيل فيه سمي إنجيلًا؛ لما يجلي، وهو الإظهار في اللغة.
وَقِيل: سمي التوراة تَوْراة من أوريت الزند؛ وهو كذلك. واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ...): قيل: بحجج اللَّه.
وقِيل: كفروا بآيات اللَّه، أي: باللَّه؛ لأنهم إذا كفروا بآياته كفروا به، وكذلك الكفر بدينه كفر به، والبراءة من دينه براءة منه، والبراءة من رسوله براءة منه.
301
وقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ).
قيل فيه بوجهين:
قيل: ذو انتقام لأوليائه من أعدائِه.
وقيل: ذو انتقام: ذو انتصار على الأعداء.
وقيل: ذو بطش شديد.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)
هو وعيد؛ كأنه - واللَّه أعلم - قال: لا يخفى عليه ما في السماوات، وأما في، الأرض من الأمور المستورة الخفية على الخلق؛ فكيف يخفى عليه أعمالكم وأفعالكم، التي هي ظاهرة عندكم؟! ويحتمل: إذا لم يخف عليه ما بطن، وخفي في الأصلاب والضمائر والأرحام؛ فكيف يخفى عليه أفعالكم وأقوالكم، وهي ظاهرة؟!.
ألا ترى أنه قال: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ)؛ إذ علم ما في الأرحام وصوَّرها على ما شاء وكيف شاء، وهم (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ).
وقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ (٦)
فيه دليل نقض قول من يقول بالقائف؛ لأنه جعل علم التصور في الأرحام لنفسه، لم يجعل لغيره، كيف عرف بالقائف تصوير الأول، حتى قال اللَّه: إنه على صورته وعلى
الآية ٦ وقوله تعالى :﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ فيه دليل نقض من يقول بالقائف١ لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه، لم يجعله٢ لغيره، كيف عرف القائف تصوير الأول ؟ حين قال الله : إنه على تصويره، وإنه من مأتاته٣.
ثم اختلف في خلق الأشياء : قال بعضهم [ الخلق خلق ]٤ الفروع من الأصول، وهن أسباب للفروع، وقال آخرون : يكون بأسباب وبغير أسباب. فإن كانت بعض الأشياء تكون بأسباب من نحو الإنسان من النطفة ؛ إلا أن النطفة تتلف، فتكون علقة ثم مضغة، فدل أنه يخلق كيف شاء ؟ من شيء بسبب وبغير سبب، وهو القادر على ذلك، وبالله التوفيق.
١ القائف: من يعرف الآثار..
٢ في الأصل وم: يجعل..
٣ مأتاته: جهته..
٤ في الأصل وم: لخلق..
تصويره، وإنه من مائه، ثم اختلف في خلق الأشياء:
قَالَ بَعْضُهُمْ بخلق الفروع من الأصول، وهن أسباب للفروع.
وقال آخرون: يكون بأسباب وبغير أسباب، فإن كان بعض الأشياء يكون بأسباب؛ من نحو الإنسان من النطفة، إلا أن النطفة تتلف؛ فتكون علقة، ثم مضغة؛ فدل أنه يخلق الخلق كيف شاء من شيء ولا من شيء، بسبب وبغير سبب، وهو القادر على ذلك، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (٧)
اختلف فيه: فقيل: المحكمات: هن النَّاسخات المعمولات بهن،
303
والمتشابهات: هن المنسوخات غير معمول بهن، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه.
وقال آخرون: المحكمات: هن ثلاث آيات في آخر سورة الأنعام: قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ...)، إلى قوله: (... تَتَّقُونَ)، وما ذكر في سورة " بني إسرائيل " من قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، إلى آخر هذه الآيات، سميت محكمة؛ لأن فيها توحيدًا وإيمانًا باللَّه وغيره من المتشابه.
ثم قيل بعد هذا بوجوه: قيل: المحكمات: هي التي يعرفها كل أحد إذا نظر فيها، وتأمَّل فيها.
والمتشابه: هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب.
وقيل: المحكمات: ما يوقف ويفهم مراده.
والمتشابه: هو الذي لا يوقف عليه ألبتَّة، بعد ما قضى حوائج الخلق من البيان في
304
المحكم منه، ولكن يلزم الإيمان به، وهو من اللَّه محنة على عباده، ولله أن يمتحن خلقه بما شاء من أنواع المحن؛ لأنها دار محنة. وغيرها لا يفهم مرادها.
ويحتمل أن يكون المحكمات: هن ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام؛ حتى لم يختلفوا فيها.
والمتشابه: هو الذي اشتبه على الناس؛ لاختلاف الألسن فاختلفوا فيها، ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه؛ فتعلق بعضهم بالظاهر فقالوا به، وتعلق آخرون بالباطن؛ لما رأوا ظاهره جورًا وظلمًا أو تشبيهًا، على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه، ويجوز لمن يوقف على المتشابه بمعرفة المحكم.
وقال آخرون: المحكم: هو الواضح المبين، فلو كان على ما قالوا لم يكن لاختلاف الناس فيه، وادعاء كلٌّ أن الذي هو عليه هو المحكم؛ لأنه لو كان ظاهرًا مبيّنًا لتمسكوا به، ولم يقع بينهم اختلاف.
وفيه دليل ونقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدِّين: أنه لا يفعل إلا
305
ذلك، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم، ولو بين كان أصلح لهم في الدِّين؛ فدل أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدِّين؛ امتحانًا وابتلاءً منه لهم، واللَّه أعلم.
لكن لا يخرج من الحكمة، ثم ما قالوه في الأمر حق؛ لأنه لا يأمر إلا أن يفعل بهم ما لهم فيه الأصلح، وقد يفعل ما هو حكمة في حق المحنة وإن كان غير ذلك أصلح لهم في الذين، بمعنى: أقرب وأدعى إليه، واللَّه الموفق.
وَقال قوم: المحكم: ما في العقل بيانه.
والمتشابه: ما لا يدرك في العقل؛ وإنَّمَا يعرف بمعونة السمع.
وقال قوم: لا متشابه فيما فيه أحكام من أمر ونهي وحلال وحرام؛ وإنَّمَا
306
ذلك فيما ليس بالناس حاجة إلى العلم به، نحو: الإنباء عن منتهى الملك، وعن عدد الملوك، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود، ونحو ذلك. ولا قوة إلا باللَّه.
لكن يمكن أن يكون سمي متشابهًا؛ بما تشابه على أُولَئِكَ القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا.
307
وقد بيّنا الحق في أمر المتشابه، وما يجب في ذلك من القول، وباللَّه العصمة والنجاة.
وقوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ): يحتمل وجهين:
يحتمل أم الكتاب، أي: أصل الكتاب.
ويحتمل أم الكتاب، أي: المتقدم على غيرها؛ وعلى هذا يُخَرّجُ: (أُمَّ الْقُرَى) أعني: مكة؛ لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى، ويحتمل هي أصل القرى؛ كما سمى " فاتحة الكتاب ": " أم القرآن "؛ لأنها أصل؛ أو لأنها هي المتقدمة على غيرها من السور، واللَّه أعلم.
308
ويحتمل قوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)، أي: مقصود الكتاب، يعني: المحكمات، والمتشابهات مما فيه شبه من غيره؛ فيتشابه؛ فهو متشابه؛ كقولهم: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا)؛ وكذلك المشكل سمي مشكلًا؛ لما يدخل فيه شكل من غيره فسمي مشكلًا؛ فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره؛ فصار متشابهًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)
قيل: ميل عن الحق.
وقيل: الزيغ: هو الريب والشك.
(فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)
ولو كان ثم اتباع لعذروا؛ إذ الاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد؛ وعلى هذا يقولون في قوله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ): أي يتبعونه حق اتباعه، وكذلك قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). والمتشابه قد أنزل إلينا من ربنا؛ فيحمد متبعه في الحقيقة؛ فثبت أنه لم يكن ثم اتباع في الحقيقة، وأنه لو كان لعذروا، ولكنه كان - واللَّه أعلم - اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة؛ ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمَّة؟! وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب
309
القيامة، وذلك علم لم يُطْلِعِ اللهُ الرسلَ على ذلك، فضلًا أن يطلع عليه غيرهم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم فيما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك، لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية فيما إليهم به حاجة، ولا قوة إلا باللَّه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ): أي: ميل عن الحق، وذلك همتهم، أو كان ذلك اعتقادهم، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأوّل، وإن كان في أصحاب الهوى من الذين يدينون دين الإسلام - فهو الثاني؛ وكذلك نجد كل ذي مذهب في الدِّين - ممن اعتقد حقيقة الأمر في قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الآية، وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...) الآية - يتعلق بظاهر الآية؛ يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق، بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق، ويسوي غير ذلك عليه، فإن كان على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهرًا؛ على ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه أخبر عن تفرق الأمة، ثم أشار إلى التمسُّك بما عليه هو وأصحابه - رضي اللَّه عنهم -، فعلى ذلك أمر المتوارث؛ فيجب جعله محكمًا وبيانًا لما اختلف عليه، ولا قوة إلا باللَّه.
310
ويكون المبتدع في ابتغاء تأويله؛ يريد التلبيس على من لزم تلك الجملة، وكذلك لأهل جمل في الدِّين مرفوع عليه، كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه، لكان متبع المحكم عند الأمة مطيعًا المتشابه، ولا قوة إلا باللَّه.
وإن كان هو الأوَّل فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك هذه الأمة، وأن نهايته الساعة، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلًا عمن دونهم، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك؛ يريدون بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بما ذكر أنه لا يعلمه إلا اللَّه كان ذلك فيما يعلمه غيره أو لا، فإن كان أطلعه فباللَّه علم، لا أن في العقول بلوغ ذلك، ومعنى الاتباع ما قد بين.
وقوله: (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، أي: من القرآن بقول ما اشتبه حسابهم.
(ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ).
وقيل: الفتنة: الكفر، ويحتمل " الفتنة ": المحنة، أي: يمتحنون أهل الإسلام.
وقوله: (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).
منتهى ما كتب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهذه الأمَّة من المدة لهم والوقت، وأصل التأويل: هو المنتهى.
قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ).
311
أي: وما يعلم منتهي تلك الأمة إلا اللَّه.
ثم المتشابه: إن كان ما يوقف فيه فهو، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة، ويعلمه بالواضح - فهو هو، وأصل هذا: أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات -الوقوع في المتشابه، ولنفسه- الوقوع في الواضح، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق؛ فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق، أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح، فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله: بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه.
وقوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ):
قال قوم: موضع الوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، ثم ابتدأ فقال: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): " يقولون "، بمعنى: قالوا، " آمنا به ": بما عرفنا، وذلك جائز في اللغة؛ " يقول " بمعنى: " قال ".
وقال آخرون: موضع الوقف على قوله: (إِلا اللَّهُ)، ثم استأنف الكلام فقال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): المحكم والمتشابه وغيره.
قيل: الراسخون: هم المتدارسون.
312
ْوقيل: المتثابتون؛ رسخ، بمعنى: ثبت.
وقيل: الراسخون: الناتجون.
يقال: رسخ في العلم: نتج فيه.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في إنزال المتشابه؟.
قيل: إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين:
يحتمل: ليعلم فضل العالم على غير العالم.
ويحتمل: أن جعل عليهم طلب المراد فيه، والفحص عما أودع فيه.
وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة؛ امتحنهم في ذلك بالوقف فيه؛ إذ الدار دار محنة، وللَّه أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن.
وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
ْأي: ما يتعظ إلا أولو الحجج والعقل.
* * *
قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)
وقوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)
فيه وجهان على المعتزلة:
أحدهما: أنه أضاف الزيغ إلى نفسه، وهو حرف مذموم عند الخلق، إذا قيل: فلان أزاغ فلانًا عن الحق، فإذا أضاف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى نفسه حرف الزيغ، دل أن فيه معنى سوى ظاهره؛ حتى جاز إضافته إليه، وهو أن خلق منهم فعل الزيغ، وكذلك هذا في الضلال، وأضاف -أيضًا- الهداية إلى نفسه بقوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)، فلو كان الهدى: البيان؛ على ما يقوله المعتزلة، لجاز أن يضاف ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو يملك البيان؛ لأنه بعث مبينًا معلمًا، فإذا لم يجز ذلك دل أن فيه معنى سوى البيان وهو التوفيق والعصمة؛ حتى جاز إضافته إليه، ولا يجوز إلى غيره، واللَّه الموفق.
313
والثاني: أنهم سألوا العصمة عن الزيغ والضلال، فلو كان عليه أن يفعل، وأن يبذل لهم العصمة، لم يكن للسؤال عن ذلك معنى؛ فدل أنه تفضل منه ببذل ذلك لهم، والله أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) الآية: فيه وجهان:
أحدهما: أنه لو لم يكن له إلا الأصلح في الدِّين؛ فتركه جور، فالقول بـ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) - لا يخلو من أن يكون الإزاغة أصلح له، وهو يدعو بأن يجور أو لا يكون أصلح، فهو يدعو بأنه لا يجور، ومُحَالٌ الدعاء على خوف الجور؛ ومن خاف جور الخالق فهو غير عارف به.
والثاني: أن الداعي -فيما جبل عليه الخلق- يدعو على أمر أنه لو أجابه لكان لا يزيغ قلبه، وكذلك سؤال العصمة والهداية؛ ولهذا يؤمر به -أيضًا- ولو كان معه زيغ، لكان الأفضل في الأمر بين الدعاء بالإزاغة، وأن " لا تزغ "؛ إذ الخوف مع الأمرين قائم، واللَّه الموفق.
وفي ذلك -أيضًا- وجهان آخران:
أحدهما: أن الإزاغة إذا أضيفت إلى أحد، خرجت مخرج الشتم له والتعيير؛ فثبت أن فيما أضيفت إلى اللَّه - تبارك وتعالى - معنى ليس فيما أضيفت إلى أحد آخر غيره، وهو - واللَّه أعلم - أن الإزاغة من كل أحد فعل هو زيغ بنفسه فيه ذم، ومن اللَّه ليست بذم؛ فيكون فيه أن خلق فعل الزيغ ليس بزيغ، وإن كان فعله زيغا، واللَّه أعلم.
وفيه أن خلق الشيء ليس هو ذلك، والشيء ذاته يكون من اللَّه ما يوصف بالإزاغة، ويصير لديه الآخر زائغا، ولا شيء يوجد يكون كذلك سوى خلق فعل الإزاغة من العبد، واللَّه الموفق.
والثاني: قوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): ولو لم يكن من اللَّه في الهداية سوى البيان، لكان يصح ذلك لكل كافر، ويجوز الإضافة إلى الرسل؛ فإذ لم يصح ذلك ولم يجز، ثبت أن ثم فضلاً، وهو خلق فعل الهداية، والتوفيق الذي معه الاهتداء لا محالة، وباللَّه التوفيق والمعونة.
314
وقوله: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً):
يحتمل وجوهًا:
يحتمل الهدى والإسلام؛ إذ به يستفاد.
ويحتمل الجنة.
ويحتمل أنهم سألوه كل رحمة.
قال أبو بكر الأصم: الرحمة: السعة في الدنيا، والثواب في الآخرة.
وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ):
فهو -على قول المعتزلة- ليس بوهاب؛ لأن الوهاب هو الْمُفْضِل الذي يهب ويبذل ما ليس عليه، وهو - على قولهم - عليه أن يعطي الخلق كل ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ فالآية تكذبهم، وترد عليهم قولهم الوَخْش في اللَّه، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرًا.
ويحتمل: هب لنا ما يُستوجب به الرحمة، وهو عمل الخير؛ كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
وقوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ (٩)
إقرار بالإيمان والبعث بعد الموت.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
في هذا خاصة: يراد به القيامة والبعث.
ويحتمل: لا يخلف الميعاد في كل شيء، مما يصيب الخلق: من الخير والشر، والفرح والحزن والأسف، يقولون: إنه كان بوعده ووعيده، وإنه كان مكتوبًا عليهم ولهم، وإنه لا يكون على خلاف ما كان مكتوبًا عليهم؛ ليصبروا على الشدائد والمصائب، فلا يجزعوا عليها، ولا يحزنوا، وليشكروا على الآلاء والنعماء ولا يفرحوا عليها، وهو كقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ).
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، وذلك أنهم كانوا يستنصرون بأولادهم وأموالهم في الدنيا، ويستعينون بهما على غيرهم؛ فظنوا أنهم يستنصرون بهم في الآخرة، ويدفعون بهم عن أنفسهم العذاب؛ وهو كقولهم: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)؛ فأخبرهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن أموالكم وأولادكم لا تغني عنكم من عذاب اللَّه شيئًا.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ):
أي: حطب النار؛ فهو - واللَّه أعلم - أن الإنسان إذا وقع في النار في هذه الدنيا لا يحترق احتراق الحطب؛ ولكنه يذوب ويسيل منه الصديد، فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إنهم يحترقون في النار في الآخرة احتراق الحطب، لا احتراق الإنسان في الدنيا؛ لأنها أشد بطشًا، وأسرع أخذًا، وأطول احتراقًا؛ وعلى هذا يخرج قوله: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ): ليس عذاب الدنيا أنه على الانقضاء والنفاد؛ ولكن على الدوام فيها والخلود أبد الآبدين؛ فنعوذ باللَّه منها.
وقوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (١١)
قيل: كأشباه آل فرعون، وقيل: كعمل آل فرعون وكصنيعهم، وكله واحد، ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
يحتمل: صنيع هَؤُلَاءِ وعملهم - كصنيع آل فرعون ومن كان قبلهم بموسى، في التكذيب والتعنت.
ويحتمل بصنيع هَؤُلَاءِ بما يلحقهم من العذاب بالتكذيب والتعنت؛ فألحق أُولَئِكَ من العذاب بتكذيب الرسل، وتعنتهم عليهم.
(وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
قد ذكرناه.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)
وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)
وهذا - واللَّه أعلم - في قوم قد علم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ لذلك قال تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن قل لهم: (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ...) الآية، وإلا فلا يلحقه ذلك الوعيد، واللَّه أعلم؛ لأن من الكفار من يسلم ومن لا يسلم، وإلا فلا يلحق بالوعيد من الكفار من أسلم.
الآية ١٢ وقوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ وهذا، والله أعلم، في قوم قد علم جل وعلا أنهم يؤمنون أبدا. لذلك قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : أن ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ ستغلبون وتحشرون إلى جهنم ﴾ الآية، وإلا فلا يلحقهم١ ذلك الوعيد، والله أعلم، لأن من الكفار من يسلم ومن لا يسلم، [ وإلا فلا يحلق بالوعيد من الكفار من أسلم ]٢.
١ في الأصل وم: يلحقه..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا (١٣)
وفيه: فإن قال قائِل: ما في فئة قليلة، وهي فئة أهل الإسلام، في غلبة فئة كثيرة، وهي فئة المشركين؛ حيث غلبت فئةُ المسلمين -وهم قليل- فئةَ المشركين -وهم كثير- يوم بدر، وقد يكون لأهل الكفر إذا كانوا قليلًا، فغَلَبُوا على أهل الإسلام - آيةٌ.
قيل: ليست الآية في الغلبة خاصة؛ لكن الآية فيها واللَّه أعلم، وفي غيرها من وجوه:
أحدها: أن غلبة المسلمين، مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، وخروجهم لا على وجه الحرب والقتال - المشركين مع قوة أبدانهم، وكثرة عددهم، واستعدادهم للحرب، وخروجهم على ذلك، والقتال - آية، وعلم العدو أنْ ليس لهم فئة، ولا لهم رجاء المدد، وأنْ لا غياث لهم من البشر، وذلك آية الجرأة وعلامة الشجاعة، ومعه آمَنُ، واللَّه أعلم.
والثاني: أن ما روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ كفًّا من تراب، فرماه على وجوههم، وقال: " شَاهَتِ الوُجُوُه "؛ فامتلأت أعينهم من ذلك وعموا؛ حتى أنهزموا؛ فصار آية.
والثالث: ما قيل: إن أبا جهل قام فدعا فقال: " أينا أَحَقُّ دِينًا، وَأوصَلُ رَحِمًا؟
319
فَانْصُرهُ، واجْعَلِ الغَلَبَةَ والْهَزِيمَةَ عَلَى الآخَرِ "، فاستجيبت؛ فكانت الغلبة والهزيمة عليهم؛ فكان آية.
والرابع: ما أعان الملائكةُ المسلمين، وبعثهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مددًا لنصرة المؤمنين على الكافرين يوم بدر؛ فذلك آية.
ووجه آخر: ما ذكرنا أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا خرجوا شبه العير بغير سلاح، غير مستعدين للقتال على علم منهم بذلك، وأُولَئِكَ خرجوا مستعدين لذلك، فكان ما ذكر، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في ذكر القليل في الأعين من الجانبين آيةٌ عظيمة؛ إذ هي حسية، والحواس تؤدي عن المحسوسات حقائقها، فجعلها اللَّه بحيث لا تؤدي؛ لما قال: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)؛ فيحتمل أن يكون المراد مما ذكر من الآية في أمر الفئتين - هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ).
وفي بعض القراءات: " ترونهم " بالتاء: يرى المؤمنون أُولَئِكَ مثلي أنفسهم لا أكثر، وهم كانوا ثلاثة أمثالهم، على ما روي في القصة؛ وهذا لما جعل الحق عليهم قيام الواحد من المسلمين بالاثنين منهم، مع ضعفهم؛ لجهدهم في العبادات، وبلوغهم الغاية من احتمال الشدائد والمشقات.
320
أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بمعرفتهم أمر أهل الحرب، وشدة رغبتهم في تعلمهم ما يحتاجون في الحرب والقتال؛ ولهذا قالوا: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - علم المؤمنين جميع ما يحتاجون في الحرب من الآداب وغيرها في الكتاب؛ كقوله: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا): أمرهم بالتثبت، ثم قال: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)، وقال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا): فجعل التنازع الواقع بينهم - على خلاف بعضهم بعضًا - سببَ الهزيمة؛ ففيه أمر بالاجتماع، وجعل التدبير واحدًا، والطاعة لإمامهم.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ):
وإِنَّمَا كان عبرة؛ لما ذكرنا من خروج المؤمنين بقلة عددهم، وضعف أبدانهم، بلا استعداد للحرب والقتال، إنما هو خروج شبه العير، وخروج أولئِك بالعدة مع قوة أبدانهم، وكثرة عددهم، وطمع المدد لهم، ولم يكن للمسلمين ذلك؛ ففي مثل غلبة المؤمنين الكافرين، والظفر بهم، والنصر لهم عليهم، على الوصف الذي وصفناهم - عبرةٌ، وآية لأولي الأبصار والعبر.
* * *
قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)
وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)
أي: الشهيات.
(مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ)
وما ذكر... إلى آخره.
قال الحسن: واللَّه ما زيَّنها إلا الشيطان؛ إذ لا أحد أذم لها ولأهلها من اللَّه تعالى، وإليه يذهب المعتزلة، لكن الأصل في هذا وفي أمثاله: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - زيَّن هذه الأشياء، والتزيين من اللَّه - سبحانه وتعالى - يقع لوجهين، وكذلك الكراهة -
321
أيضًا- تقع لوجهين:
تزين في الطباع، والطبع يرغب فيما يتلذذ ويُشْتَهى، وإن لم يكن في نفسه حَسَنًا.
وتزين في العقل، فلا يتزين في العقل إلا فيما ثبت حسنه بنفسه، أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك، ثم جعل العقل مانعًا له، رادًّا عما يرغب إليه الطبع ويميل؛ لأن الطبع أبدًا يميل ويرغب إلى ما هو ألذّ وأشهى وأخف عليه، وينفر عما يضره ويؤلمه.
والعقل لا ينفر إلا عما هو القبيح في نفسه، ويرغب فيما هو الحسن في نفسه؛ وعلى ذلك يخرج قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حُفَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَالنَّارُ بِالشَهَوَاتِ ": ليس على كراهة العقل، ولا على شهوة العقل؛ ولكن على كراهة الطبع وشهوته؛ وكذلك قوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ): ليس على كراهة الاختيار، ولكن كراهة الطبع؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار، وكذلك رغبة العقول رغبة الاختيار، وفيها تجري الكلفة -أعني: على اختيار العقل، لا اختيار الطبع- بما يميل ويرغب في الألذ، وينفر عن الضار؛ دليله قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجًا؛ فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما يكون على اختيار العقل وكراهيته، لا على اختيار الطبع؛ لذلك قلنا: إنه يجوز التزيين في الطبع من الله تعالى، وكذلك الكراهة في الطبع تكره من اللَّه تعالى.
فأمّا قولهم: إن الشيطان هو الذي زينها: فإن عنوا أنه يزينها لهم، أي: يرغبهم
322
ويدعوهم إليها، ويريهم زينتها - فنعم. وإن عنوا أنّه يزينها بحيث نَفَّسَهَا لهم - فلا؛ لأن اللَّه - تعالى - وصف الشيطان بالضعف، ونفى عنه هذه القدرة بقوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، فلو جعلنا له التزيين لهم على ما قالوا، لم يكن كيده على ما وصفه - عزّ وجلّ - بالضعف؛ ولكن كان قويا، ولكنه يدعوهم إليها، ويرغبهم فيها، ويريهم المزين لهم، ثم دعاؤه إياهم، وحخثه في ذلك، وقوته من حيث ما لا يطلع عليه بقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، فالعدو الذي يَرَى هو من يعاديه، ولا يُرَى هو - كان يجب أن يكون أحذر منه، وأخوف ممن يرى.
ووجه آخر: أن الشهوات التي أضاف التزيين إليها لا خلاف بينهم في أنها مخلوقة لله تعالى، فما بقي للشيطان إلا الدعاء إليها، والترغيب فيها.
وفيه وجه آخر: أنه لو لم يجعل هذا مزينًا من اللَّه تعالى، زال موضع استدلال الشاهد على الغائب، وبالدنيا على الآخرة. وقد جعل ما في الدنيا نوعين: مستحسنا ومستقبحًا.
وجعل ذلك عيارًا لما أوعد ووعد، فلما لم يكونا منه-لا يصح موضع التعيير، لأنه - جلّ وعلا - بلطفه سخر كل مرغوب في الدنيا، ومدعو إليه من جوهره- في الآخرة، وحسنه؛ ليرغب الناسَ هذا إلى ما في الجنة بحسنه ولطفه وزينته، ويدعوهم إلى ترك ما في الدُّنيَا من الفاني إلى نعيم دائم أبدًا، فلو جعل هذا من تزيين الشيطان - لعنه اللَّه - ومصنوعه لهم، لذهب عظيم موضع الاستدلال الذي ذكرنا؛ فدلّ أنه مزين منه عَزَّ وَجَلَّ، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ثمّ امتحنهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بترك ما زين لهم في الطباع؛ بما ركب لهم من العقول الوافرة؛ ليختاروا ما حسن في العقول وتزين، وعلى ذلك جرت الكلفة والخطاب، لا بما مالت إليه الطباع، ونفرت عنه العقول، وباللَّه التوفيق.
ثم في الآية دلالة وجوب الحق في كل ما ذكر في الآية من المال، وكذلك الخيل،
323
وأمَّا في النساء والبنين: فلما مُتِّعوا بهم - أوجب عليهم النفقة كذلك. وقوله - عز وجل - (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ): أوجب في النساء عليهم النفقة، وكذلك البنين، وأوجب في الذهب والفضة حقا، ثم ذكر الخيل
324
المسومة: إن كان المراد منه جعلها سائمة؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: إِنَّ فِي الخَيلِ صَدَقَةً، ثم اختلف في المسومة؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هي المسيَّبة الراعية.
325
وقال آخرون: هي المعلمة، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الْمُسَوَّمَةُ الراعِيَة ".
وقال غيرهم: الْمُطَهَّمَة، وهي الْمُحَسَّنة.
ثم أخبر أن ما ذكر في الآية (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وأمرهم بترك ذلك، وأخبر أن لهم عنده: (حُسْنُ الْمَآبِ)، إن هم تركوا مما امتُحِنُوا به، ثم قال: إن من اتقى في الدنيا له خير من ذلك بقوله:
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...)
إلى آخره.
ثم اختلف في (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ)؛ منهم من قال: ألف ومائتا أوقية.
326
ومنهم من قال: اثنا عشر ألفًا.
ومنهم من يقول: سبعون ألف دينار.
ومنهم من يقول: هو بلسان الرومية: ملء مَسْكِ ثور ذهبًا أو فضة.
ومنهم من يقول: كل مائةٍ قنطار من كل شيء، وهو اسم المال العظيم الكثير لا يُدرَى ما مقداره، وليس لنا إلى معرفة قدره حاجة ولا فائدة؛ إنما الحاجة إلى معرفة الرغبة فيما كثر من المال؛ إذ ليس قدر أحق بأن يحمل عليه الرغبة من الآخر، واللَّه أعلم.
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (١٥)
قيل: مُطَهَّرَةٌ: من الآفات كلها، من الأخلاق السيئة، والأقذار والعيوب كلها، وقد
ذكرنا فيما تقدم في صدر السورة؛ قال: وكل أهل الجنة مطهر من جميع المعايب؛ لأن العيوب في الأشياء عَلَم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، إلا أن الذكْر جَرَى للنساء؛ لما ظهر في الدنيا فيهن من فضل المعايب والأذى.
وقوله: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا... (١٦)
قد رضي منهم بهذا القول، وفيه تزكية لهم، ولو كان الإيمان: جميعَ الطاعات - لم يرض منهم التزكية بها، وقد أخبر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن للذين اتقوا عند ربهم في الجنة خيرا من هذا الذي زُيِّن، للناس في الدنيا من النساء، وما ذكر إلى آخره.
وقوله: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): يحتمل: اتقوا الشرك. ويحتمل: للذين اتقوا الفواحش والمعاصي كلها.
وقوله: (الصَّابِرِينَ (١٧)
قيل: الصابرين على طاعة اللَّه.
وقيل: الصابرين، على أداء الفرائض.
وقيل: الصَّابرين على المرازئ والمصائب والشدائد.
والصبر: هو حبس النفس عن جميع ما تهوى وتشتهي.
وقوله: (وَالصَّادِقِينَ). قيل: في إيمانهم.
وقيل: الصَّادِقِينَ بما وَعَدوا.
وقيل: الصادقين في جميع ما يقولون ويخبرون.
(وَالْمُنْفِقِينَ). يحتمل الإنفاق: ما لزم من أموالهم من الزكاة والصدقات.
328
ويحتمل: المنفقين المؤدين حقوق بعضهم بعضًا من حق القرابة والصلة.
(وَالْقَانِتِينَ). قيل: القانت: الخاضع.
وقيل: القانت: المطيع.
وقيل: الخاشع، وكله يرجع إلى واحد، وأصله: القيام، وكل من قام لآخر كان مطيعًا وخاشعًا وخاضعًا ومقرًا.
وقيل: القانت: المقر كقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)، أي: مقرون.
وقال قتادة: (الصَّابِرِينَ): الذين صبروا على طاعة اللَّه، وصبروا عن محارمه.
(وَالصَّادِقِينَ): الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا في الشر والعلانية (وَالْقَانِتِينَ): المطيعين. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)، (وَالْمُنْفِقِينَ): يعني: نفقة أموالهم في سبيل الله.
(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ): قيل: المصلين بالأسحار.
وقيل: المصلين في أول الليل، والمستغفرين في آخره.
وأصل الاستغفار: طلب المغفرة مما ارْتُكِب من المآثم، على ندامة القلب، والعزيمة على ترك العود إلى مثله أبدًا، ليس كقول الناس: نستغفر اللَّه، على غير ندامة القلب، وأصل الاستغفار في الحقيقة: طلب المغفرة بأسبابها، ليس أن يقول بلسانه: اغفر لي؛ كقول نوح - عليه السلام -: لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، أمرهم بالتوحيد، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الجنة هي للصابرين والصادقين إلى آخر ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
329
الآية ١٧ وقوله تعالى :﴿ الصابرين ﴾ قيل :﴿ الصابرين ﴾ على المرازي والمصائب والشدائد. والصبر هو حبس النفس عن جميع ما تهوى وتشتهي.
وقوله تعالى :﴿ والصادقين ﴾ قيل : في إيمانهم، وقيل :﴿ والصادقين ﴾ بما وعدوا، وقيل :﴿ والصادقين ﴾ في جميع ما يقولون، ويخبرون.
[ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ والقانتين ﴾ قيل : القانت الخاضع، وقيل : القانت المطيع، وقيل : الخاشع، وكله يرجع إلى واحد. . وأصله : القيام، وكل من قان لآخر كان مطيعا وخاشعا وخاضعا ومقرا، وقيل : القانت المقر كقوله :﴿ كل له قانتون ﴾ [ الروم : ٢٦ ] أي مقرون ]٢.
[ وقوله تعالى ]٣ :﴿ والمنفقين ﴾ يحتمل الأنفاق ما لزم من أموالهم من الزكاة والصدقات، ويحتمل :﴿ والمنفقين ﴾ المؤدين حقوق بعضهم بعض من حق القرابة والصلة.
وقال قتادة :﴿ الصابرين ﴾ الذين صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارمه، ﴿ والصادقين ﴾ الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا في السر والعلانية، ﴿ والقانتين ﴾ المطيعين، ﴿ والمنفقين ﴾ يعني نفقة أموالهم في سبيل الله.
[ وقوله تعالى ]٤ :﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ قيل : المصلين بالأسحار، وقيل : المصلين في أول الليل والمستغفرين في آخره. وأصل الاستغفار طلب المغفرة مما ارتكب من المآثم على ندامة القلب والعزيمة على ترك العود إلى مثله أبدا، ليس كقول الناس : أستغفر الله على غير ندامة القلب. وأصل الاستغفار في الحقيقة طلب المغفرة بأسبابها، ليس أن يقول :[ أستغفر الله بلسانه ]٥، اغفر لي،
[ ولكن ]٦ كقول نوح عليه السلام :﴿ استغفروا ربكم ﴾ أمرهم بالتوحيد. ثم أخبر جل وعلا أن الجنة هي للصابرين والصادقين إلى آخر ما ذكر، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ أدرجت في الأصل وم بعد: وقوله تعالى: ﴿والمنفقين﴾... والصلة..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ من م، في الأصل: لبسانه..
٦ ساقطة من الأصل وم..
قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠)
وقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
وقيل فيه بوجوه:
قيل: شهد اللَّه شهادة ذاتية، أي: هو بذاته، (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)؛ إذ في ذاته ما تليق الشهادة بمثله له من الألوهية والربوبية، وليس ذلك في ذات غيره، وباللَّه العصمة.
وقيل: شهد اللَّه بما خلق من الخلائق أنه لا إله إلا هو، أي: خلق من الخلائق ما يشهد خلقه كل أحد على وحدانيته وإلهيته، لو نظروا في خلقتهم وتدبروا فيها؛ وكذلك الملائكة، وأولو العلم شهدوا أنه لا إله إلا هو، على تأويل الأول. وعلى تأويل الثاني: أن خلقَه الملائكةَ -وأولي العلم- يشهد على وحدانيته؛ فشهدوا على ذلك، إلا الجهّال؛ فإنهم لم يتأمّلوا في أنفسهم، ولا تفكروا في أنفسهم؛ فلم يشهدوا به؛ لأنه أمر الرسل والأنبياء بأن يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فقوله وأمره به - شهادةٌ منه، ويحتمل شهادة القول؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)، وذلك من اللَّه: الربوبية، ومن الخلق: العبودية له؛ فيجب أن تعرف الربوبية من العبودية؛ ففيه دلالة خلق الإيمان؛ فمن قال: إنه غير مخلوق - لم يعرف ذا من ذاك، وباللَّه التوفيق.
وقيل: " شهد اللَّه " أي: علم اللَّه أنه لا إله إلا هو، وكذلك علم الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، فإن قال لنا ملحد: كيف صح، وهو دعوى؟!
قيل: لأن دعوى من ظهر صدقه في شهادته إذا شهد، وهو مقبول، وهو بما ادعى من الألوهية والربوبية؛ إذا لم يَسْتَقِلهُ أحد - ظهر صدقه، وقهر كل مكذب له في دعواه، وبالله النجاة.
وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ):
أي: حافظ ومتولٍّ؛ كقوله: (قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، أي: حافظ لها ومتولٍّ؛ كما يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: حافظ لأمره، ومتعاهد لأسبابه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقيل: هو عادل، أي: لا يجور، لا أن ثم معنى القيام؛ كقوله: (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ): مقسطين، لا أن ثم للقيام فيه معنى يسبق الوهمُ إليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (١٩)
وقال قائلون: إن الدِّين الذي هو حق مِنْ بين الأديان، وهو الإسلام؛ لأن كل أحد منهم ممن دان دينًا يدعي أنَّه هو دين اللَّه الذي أمر به.
وقال قوم: إن الدِّين الذي أمر به الآمر من عند اللَّه هو دين الإسلام؛ لأنهم. كانوا مع اختلافهم مقرين بالإيمان، لكن بعضهم لا يقرون بالإسلام؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذين الذي أمر به وفيه التوحيد هو دين الإسلام، لا غيره؛ ألا ترى أنه قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا...): أخبر عز
331
وجل، أن إبراهيم - عليه السلام - ليس على دين سوى دين الإسلام، والإسلام هو الإخلاص، على ما ذكرنا فيما تقدم، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ: أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَأنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ: هُوَ العَدْلُ فِي جَمِيعِ القُرآنِ ".
وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ):
يحتمل وجهين.
يحتمل الاختلاف: التفرق، أي: تفرقوا في الكفر؛ كقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) الآية. ويحتمل: الاختلاف: نفس الاختلاف في الدِّين؛ كقوله: (وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كفَرَ): أخبر أنهم لم يختلفوا عن جهل؛ ولكن عن علم وبيان؛ كقوله: (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ).
ثم يحتمل قوله: (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) وجهين: أي: لم يختلفوا إلا من بعد ما علموا وعرفوا.
ويحتمل: أي: لم يختلفوا إلا من بعد ما أوتوا أسباب: ما لو تفكروا وتدبروا - لوقع العلم لهم بذلك والبيان، لكنهم تعنتوا وكابروا؛ فاختلفوا.
ثم في الآية دليل ألا يجوز أن يُفسَّر قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وقوله: (إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، ونحوه: بالانتقال من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؛ لأنه ذَكَرَ مجيءَ العلم، والعلم لا يوصف بالمجيء ولا ذهاب، وكذلك قوله: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ): ذكر مجيء الحق وزهق الباطل؛ فهما لا يوصفان بمجيء الأجسام، وذهابهم بالانتقال والتحول من مكان إلى مكان، ولا يعرف ذلك ولا يصرف إليه؛ فعلى ذلك لا جائز أن يصرف قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، (استَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، ونحوه - إلى المعروف من استواء الخلق ومجيئهم؛ لتعاليه عن ذلك، قال: والمجيء لا يكون عن الانتقال خاصة؛ بل يكون مرة ذاك وأخرى غيره،
332
وكذلك الإتيان، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)
قيل: حسدًا بينهم؛ لأنهم طمعوا أن يبعث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بني إسرائيل، على ما بعث سائر الرسل بعد إسرائيل منهم، فلما بعث من غير بني إسرائيل حسدوه، وخالفوا دينه الإسلام، ويحتمل " بغيًا ": من البغي، وهو الجور.
وقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ)
أي: من المختلفين
(فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): كأنه على الإضمار - أنْ قل يا مُحَمَّد: ومن يكفر بآيات اللَّه من بعد ما جاءهم العلم والبيان، فإن اللَّه سريع الحساب.
وله ثلاثة أوجه؛ لأن ظاهر الجواب على غير إضمار أن يكون: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، أي: العذاب - واللَّه أعلم - سمى به؛ لأن بعد الحساب عذاب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ نُوقشَ الحِسَابَ عُذِّبَ "، فجعل الحساب عذابًا.
ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه سريع الحساب، لا كحساب الذي يكون بين الخلق؛ لأن الخلق تشغلهم أسباب، وتمنعهم أشياء يحتاجون إلى التفكر والتدبر، واللَّه يتعالى عن أن يشغله شيء أو يمنعه معنى، جل اللَّه عن ذلك.
333
وقيل: على التقريب حسابه سريع " كَأْن قد جاء لقربه، واللَّه أعلم.
قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): هو شهادة ربوبية، لا يتوهم له كيفية، ولا يخطر بالبال له المائية، ولا يحتمل الوصول إلى حقيقة ذلك بالتفكر، ولا أن يُحتمل بلوغُ العقل الوقوفَ على ذلك؛ إذ هو خَلْق قصر عن الإحاطة بمائية نفسه، وعن إدراك وجه قيامه بالذي ركب أو تجديد من حيث نفسه، وهو تحت جميع ما ذكرت، إذ هو خلق وحَدَث جرى عليه التدبير، ودخل تحت التقدير؛ فالربوبية أحق أن ينحسر عنها الأوهام، وتَكِلُّ عن توهم إدراكها الأفهام؛ وعلى ذلك أمر تكوين اللَّه الأشياءَ، على ما شهدت الأشياء، التي هي تحت التكوين في العبارة، لا على توهمٍ في التكوين معنى تحتمله الأفهام، أو تبلغه العقول؛ وإنما هو عبارة بها جعل لا يقف على العبارات عن المتعالي عن صفات الخلق، المحقق له الجلال عن جهاتهم إلا من حيث المفهوم في الخلق، للتقريب إلى الأفهام دون تحقيق المفهوم، مما عن العبارة عنه -قدرت العبارات في الإخبار عن اللَّه تعالى، عن ذلك وعلى هذا القول اللَّه والرحمن وجميع ما يتعارف الخلق من الأسماء على ما يقرب من الأفهام- المراد بها لا تحقيق الحروف، أو إدخال تحت تركيب الكلام وتأليف العبارة، وهذا معنى معرفة وحدانيته من جهة ضرورات توجب المعرفة، على الوصف بالسبحانية له عن معاني جميع المعروفين، وباللَّه العصمة والمعونة.
ثم قد يحتمل أن يؤذن في العبارة عن ذلك بما هو ألطف وأدفع للتوهم: توهم ما لعل للقلب عند ذكر الشهادة فضل حيرة، ليس عند تلك العبارة، وذلك يخرج على وجوه في الاحتمال؛ لما يسعه عقولنا دون القطع على شيء مما وقع عندنا من الرجوع إليه واللَّه - سبحانه - أعلم من ذلك بشهادة الخلائق كلهم: ما فيها من آثار الصنعة، ودلالة الربوبية، وشهادة الألوهية؛ لتكون شهادة بالذي ذكر: بأن. لا إله إلا هو، إذ في كل شيء سواه هذه الشهادة بالصفة التي جعلها هو فيه له، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون بذاته متعاليًا عن جميع معاني من سواه من المعاني التي أدخلتها
334
اسم مربوب، وظهر كل شيء في الحقيقة له عند توهم المعبود، لا يستحق غيرُه غير آثار الحدثيَّة وجهات المدخلة تحت القدرة والتدبير، وهو بذاته متعالٍ عن كلية الجهات والمعاني، التي كانت بها بعد أن لم تكن، وبها صارت مربوبة عبدًا، وهو متعال أيضًا عن الوصف بالجهات والمعاني؛ بل هو خلق الخلق، ولا قوة إلا باللَّه.
ويحتمل: شهد: علم، وكذلك مَنْ شهد الشيء فقد علم مخبره خلقته بإله العالم، وأنه واحد لا شريك له، إله الكل وخالقهم؛ ليعلموا أنما أعلمهم أنه كما أخبر، وذلك في نقض قول كثير ممن ينفون عن اللَّه - تعالى - أنه عالم وشاهد كل شيء، واللَّه الموفق.
ويحتمل: شهد على الخلائق أن يكون عليهم القول والاعتقاد أنه لا إله غيره؛ بمعنى: قضى وأمر، واللَّه الموفق. ، وليس فيما جمعه اللَّه بشهادة من ذكر توهم معنى لشهادته بما هو بشهادة من ذكر، مع ما قد يحتمل لما جمع إلى شهادته شهادة من ذكر وجهان:
أحدهما: فضل من ذكر بما ذكر شهادته عند ذكر شهادتهم؛ على نحو قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية؛ ذكر ما له، وإن كان له الخلق كله؛ بوجهين:
أحدهما: بما جعل ذلك لوجوه العبادة؛ كما أضاف إليه المساجد على أنها وغيرها له، وذكر في الملائكة الذين عنده في أمر القيامة، وإليه المصير، ونحو ذلك، إما مخصوص لما ذكر من الأوقات في فضل أو غير جعل له، أو لما كان ذلك لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نسب إليه، أو كان لكلية المعاني للعبادة؛ فمثله أمر شهادات من ذكوتها بشهادة اللَّه؛ تفضلًا لأُولَئِكَ وتخصيصًا، من بين الخلائق، واللَّه أعلم.
والثاني: على كون الشهادة من الإخبار بحق الأمر، نسبه إليه؛ كما نسب إليه كتابة الألواح ونفخ جبريل الروح بما كان منه أمر به، فكذا فعله في الإضافة إليه، واللَّه أعلم.
ثم حق ذلك -فيما على التحقيق- أن يفهم ما عن اللَّه ربوبيّة وعن العبد عبودية، على
335
جميع ما يضاف إلى اللَّه أنه يفهم من غير الوجه الذي يضاف إلى لخلق؛ فمثله أمر الشهادة، واللَّه أعلم.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (شَهِدَ اللَّهُ) إلى قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) على معنى جَعْلِ (أَنَّهُ) صِلَة في الكلام، وحقيقته: شهد اللَّه الذي لا إله إلا هو، والملائكة، ومن ذكر: أن الدِّين عند اللَّه الإسلام، والإسلام في -الحقيقة-: جعل كلية الأشياء لله له، لا شريك له فيها: في ملك، ولا إنشاء، ولا تقدير. والإيمان: التصديق بشهادة كلية الأشياء لله تعالى، بأنه ربها وخالقها على ما عليها، جل عن الشركاء.
وقد قيل: الإسلام: خضوع.
وقيل: الإخلاص، وهو يرجع إلى ما بيّنا، وذلك كقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)، والإيمان: هو التصديق لله تعالى، بما أخبر أنه رب كل شيء، وأن له الخلق والأمر.
وقيل: هو التصديق بما جاءت به الرسل، وذلك يرجع إلى ما بينا أيضًا. واللَّه أعلم.
وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ): قيل: هو عادل لا يجور، لا أن للقيام معنى في ذلك؛ كقوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، بمعنى: كونوا عادلين مقسطين، والله أعلم.
وقيل: قيام تولٍّ وحفظ، أو كفاية وتدبير؛ كما يقال: فلان قائم بأمر كذا، لا على توهم انتصاب؛ وعلى ذلك قوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).
وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ (٢٠)
ولم يقل: في ماذا يحاجوك؟ فيحتمل - واللَّه أعلم - أن يكون هذا. ما علم اللَّه أنهم لا يؤمنون ولا يقبلون الحجة - أمره بترك المحاخة بقوله: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ)؛
336
وكذلك: من اتبعني أسلموا أنفسهم لله؛ كقوله: (وَتَوَلَّى عَنْهُم) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، أيأسه عن إيمانهم، وأمره بترك المحاجة معهم.
وقوله: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ):
أي: أخلصت.
ثم يحتمل قوله: (وَجْهِيَ لِلَّهِ)، أي: نفسي لله لا أشرك فيها أحدًا، ولا أجعل لغير الله فيها حقا، على ما جعل الكفار في أنفسهم شركاء وأربابًا.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقيل: الإسلام أن يجعل نفسه بكليتها لله - تعالى - سالمة، لا شركة فيها لأحد؛ كما قال: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)، والإيمان: هو التصديق لشهود الربوبية لله من نفسه وغيره؛ لأنه ما من شيء إلا وفيه شهادة الربوبية.
وقوله: (وَمَنِ اتَّبَعَنِ):
أي: ومن اتبع ديني، فقد أسلموا أنفسهم لله تعالى، أيضًا، لم يشركوا فيها شركاء وأربابًا.
ويحتمل قوله: (وَجْهِيَ لِلَّهِ)، أي: أسلمت أمر ديني وعملي للَّهِ؛ وكذلك من اتبعني واتبع ديني، فقد أسلموا أعمالهم وأمورهم لله؛ كقوله - أتعالى، -: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، " ومن اتبعني " أي: ومن معي.
337
وقوله: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ): قيل: الذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والأميين: العرب الذين لا يقرءون الكتاب، ولا لهم كتاب.
(أَأَسْلَمْتُمْ) أنتم لله؛ كما أسلمت أنا وجهي لله، ومن اتبعني.
(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا): وأخلصوا وجوههم لله وأعمالهم.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ): أي: فإن أبوا أن يسلموا فليس عليك إلا البلاغ كقوله - تعالى -: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وكقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وكقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): هو حرف وعيد.
قيل: (بَصِيرٌ): غير غافل.
وقيل: بصير بجزاء أعمالهم.
وقيل: بصير بما أسروا وأعلنوا، وفي كل وجه وعد ووعيد.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ): ولم يبين في ماذا، فقد يجوز ترك الإخبار عن القصة بوجهين:
أحدهما: بعلم أهله.
338
والثاني: بما في الجواب؛ دليله: قوله: (يَسْتَفتُونَكَ)، (يَسْأَلُونَكَ) في غير موضع، على غير البيان أنه عن ماذا؟ وهو - واللَّه أعلم - داخل تحت ذينك الوجهين.
ثم يحتمل أن تكون المحاجة قد كثرت فيما قال: (فَإِنْ حَاجُّوكَ)، والحجة قد ظهرت فيه؛ فكانوا يعودون إليها مرة بعد مرّة؛ عود تعنت وعناد؛ فأكرم اللَّه رسوله بالإعراض عن محاجتهم، ذلك كما ظهر تعنتهم فقال: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) على الإعراض عن محاجتهم، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك يخرج معنى الأمر بالتولي عنهم في غير موضع.
ويحتمل أن تكون المحاجة في عبادة الواحد القهار والأوثان التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه؛ فبين - جل ثناؤه - في ذلك بالذي يقول لهم هو ومن اتبعه على ذلك؛ نحو قوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) الآية، ونحو ذلك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ): قيل: بآيات اللَّه التي في كتابهم: من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وصفته.
وقيل: (بِآيَاتِ اللَّهِ): بالقرآن، وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
(وَيَقْتُلُونَ): يحتمل قوله: (وَيَقْتُلُونَ) أي. يهمون يريدون قتلهم؛ كقوله: (فَإِنْ قَتَلُوكُمْ (١) فَاقْتُلُوهُمْ)، فلو كان على حقيقة القتل، فإذا قتلونا لم نقدر على قتلهم؛ وكقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ وكقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا) كذا، أي: إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة لم يقدر على الغسل؛ فكذلك الأول.
ويحتمل أن يريد: الرضا بقتل آبائهم الأنبياء، فأضاف ذلك إليهم.
وقيل: إنه أراد آباءهم الذين قتلوا الأنبياء.
(١) هذه قراءة حمزة والكسائي -بغير ألف- واللَّه أعلم.
339
وقيل: جاءَ أنهم كانوا يقتلون ألف نبي كل يوم، قال الشيخ: لا أعرف هذا، فإن صح فهو على أنهم تمنوا ذلك، أو قتلوا نبيا وأنصاره، فسموا أنبياء؛ لما كان ينبئ بعضهم بعضا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ): لو كان أراد آباءَهم كيف يأمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبشارة وهم موتى؟! دل هذا على أن التأويل هو الأول: أنهم هموا بقتلهم، أو ورضوا بصنع آبائهم، واللَّه أعلم.
والبشارة المطلقة إنما تستعمل في الشرور والخيرات خاصة، إلا أن تكون مقيدة؛ فحينئذ تجوز في غيرها؛ كقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) قيدها هنا؛ لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: أن ليست الحقائق أولى من المجاز، ولا الظاهر أولى
340
من الباطن؛ إلا بدليل على ما صرفت أشياء كثيرة عن حقائقها بالعرف؛ من نحو: الإيمان، وغيرها.
وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (٢٢)
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أعمالهم التي فعلوا؛ قبل أن يبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما بعث كفروا به، فبطلت تلك الأعمال.
ويحتمل: ما كان لهم من الأعمال: من صلة المحارم، والقربات، والصدقات، فبطلت لما لا قوام لها إلا بالإيمان، فلما لم يأتوا به - بطلت.
وقوله: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ): أما في الآخرة: فثوابها، وأما في الدنيا: فحمدها وثناؤها.
ويحتمل في الدنيا: ثواب الدنيا؛ كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ): فالآيات أعلام وحجج، وهن أنواع:
منها حسِّيات، نحو: الخلائق؛ في الدلالة على وحدانية اللَّه تعالى. والخارجة منها عن احتمال وسع البشر يظهر عند أداء الرسل الرسالة، يشهد على أن الذي أرسلهم هو الذي تولاها؛ ليعلم بها محجة ويوضح بها رسالتهم.
ومنها: السمعيات: وهي التي جاءت بها الرسل من الأنباء؛ عما لا سبيل إلى الوقوف عليها، إلا بالتعلم بلا تقدم تعليم، أو ما لا يعلم حقيقة ذلك إلا اللَّه؛ ليعلم أن اللَّه هو الذي
341
أطلعهم عليها؛ ليكون آية لهم، واللَّه أعلم.
ومنها العقليات: وهي التي تعرف بالمحن، والبحث عنها مما بها يوصل إلى معرفة التوحيد والرسالة ونحوها، ثم قد جعلها كلها لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فمن يكفر بها يخرج على وجهين:
أحدهما: على الكفران بحقيقة الآيات؛ أن يكون هن آيات لما أقيمت له، وهن من الوجوه التي ذكرت، فقضى اللَّه - تعالى - لمن يكفر بها بما ذكرت؛ لتعنتهم ومعاندتهم، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يريد بالكفر بالآيات: الكفر بمن له الآيات؛ فنسب إلى الآيات؛ لما بها تعلم الحقيقة، كما تنسب الأشياء إلى أسبابها التي بها يوصل إليها، فذلك معنى الكفر بالآيات، ثم كانت الكتب السماوية، وما فيها من النعوت، وما أعجزهم عن إتيان مثل القرآن، وغير ذلك من الحسّيات، واللَّه أعلم.
فعلى ما ذكرنا يخرج معنى الكفر بالآيات؛ لأنها بحيث يأخذها الحواس، ويحيط بها الأوهام والعقول؛ ولكن على أنهن آيات للذي دَلَّكُم عليه، أو على الكفر بالذي له آيات توجب تحقيقه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ)
وقال في ذلك الكتاب: (لا رَيبَ فِيهِ)، وقد ارتاب فيها أكثر أهل الأرض؛ قيل: قوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ) قد يتكلم به على تثبيت المقول به عند قائله، لا على نفي الشك عن كل من سمعه؛ إرادة التأكيد؛ فعلى ذلك أمكن أن يخرج معناه؛ إذ هو مخاطبة على ما عليه كلامهم؛ وكذلك قولهم أبدًا على دوامه وامتداده، لا على حقيقة الأبدية؛ وكذلك يقولون: (هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)، وأمر قديم: لا على حقيقة القدم؛ التي تخرج على الكون بعد أن لم يكن، واللَّه الموفق.
والثاني: على أنه لا يرتاب فيه المتأمّل المنصف بما جعل اللَّه لذلك من الآيات، وعليه من الأدلة التي من تدبر فيها - أظهرته له، حتى يصير كالمعاين، ولا قوة إلا باللَّه.
والثالث: أن يخبر به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قوم مخصوصين مما كانوا ينازعون فيه، بعد علمهم بصدقه؛ ليعرف به تعنتهم، ويؤيسه عن الطمع فيهم، ولا قوة إلا باللَّه.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
342
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ)
قوله: (أَلَمْ تَرَ) إنما يتكلم به لأحد معنيين:
إما للتعجب من الأمر العظيم؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر فلانا يقول كذا، أو يعمل كذا؟! يقول ذلك له؛ لعظيم ما وقع عنده.
وإمّا للتنبيه.
فأيّهما كان ففيه تحذير للمؤمنين؛ ليحذر المؤمنون عن مثل صنيعهم؛ كقوله: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) من قبل الآية؛ حذر المؤمنين أن يكونوا مثل أُولَئِكَ الذين أوتوا الكتاب، ولا يخالفوا كتابهم كما خالفوا هم.
وقوله: (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ):
يحتمل أن يكون أراد بالكتاب: التوراة؛ على ما قيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: " أَسْلِمُوا تَهْتَدُوا، وَلَا تَتَكَبَّرُوا " فقالوا: نحن أهدى وأحق بالهدى منك. وما أرسل الله رسولًا بعد موسى - عليه السلام - فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بَيّنِى وَبَيّنَكُمُ التَورَاةُ وَالإنْجِيلُ؛ فَإِنَهُ مَكْتُوبٌ فِيهِمَا " يعني: وإني رسول اللَّه، فأبوا ذلك خوفًا وإشفاقًا على ظهور كذبهم.
وقيل: أراد بالكتاب: القرآن، دعوا إليه؛ لأنه مصدق لما معهم من الكتاب، فأبوا ذلك.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ (٢٤)
الآية ٢٤ وقوله تعالى :﴿ ذالك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ ؛ الأيام التي عبد آباؤهم العجل، فظنوا أنهم إنما يعذبون في النار
[ بقدر ما عبد آباؤهم العجل، وأنهم لا يخلدون في النار، لأنهم كان ]١ قد ﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾، ثم خوفهم، فقال :﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ﴾ ؟.
١ في م، في الأصل: إلا قدر عبادتنا العجل فأخبر جل وعلا أن..
الآية ٢٥ وقوله تعالى :﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ﴾ وقد ارتاب فيه أكثر أهل الأرض [ بوجوه :
أحدهما ]١ : قيل : قوله :﴿ لا ريب ﴾ قد يتكلم به على تثبيت المقول به عند قائله لا على نفي الشك عن كل من سمعه إرادة التأكيد. فعلى ذلك أمكن أن يخرج معناه إذ هو مخاطبة على ما عليه كلامهم، وكذلك قولهم أبدا على دوامه وامتداده لا على حقيقة الأبدية، وكذلك يقولون :﴿ هذا إفك قديم ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وأمر قديم على حقيقة القدم التي تخرج على الكون بعد أن لم يكن، والله الموفق.
والثاني : على أنه لا يرتاب فيه المتأمل المنصف بما جعل الله لذلك من الآيات وعليه من الأدلة التي من تدبر [ ما فيها ير ما ]٢ أظهرته له حتى يصير كالمعاين، ولا قوة إلا بالله.
والثالث : أنه يخبر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوم مخصوصين ما كانوا ينازعون فيه بعد عملهم بصدقه ليعرف تعنتهم، ويؤنبه عن الطمع فيهم، ولا قوة إلا بالله.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: هافيها..
٣ ساقطة من م..
الأيام التي عبد آباؤهم العجل، فظنوا أنهم إنما يعذبون بقدر ما عبد آباؤهم العجل، وأنهم لا يخلدون في النار؛ لأنهم زعموا أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه.
ويحتمل أن يكون آباؤهم قالوا لهم: إنكم لا تعذبون في النار إلا قدر عبادتنا العجل؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن قد غرهم في دينهم ما كانوا يفترون، ثم خوفهم فقال: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ).
* * *
قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧)
وقوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) يحتمل قوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) وجهين:
أحدهما: مالك ملك كل ملك في الدنيا له حقيقة الملك.
والثاني: أن الملك له، يؤتي من يشاء من ملكه، وينزع ممن يشاء الملك، وهو المالك لذلك، والقادر عليه.
والآية ترد على القدرية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يعطي الكافر الملك، وهو قد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يؤتي من يشاء الملك، وقد يؤتي الكافر به الملك، فإن قالوا: أراد بـ " الملك ": الدِّين، فقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أيضا أنه ينزع، فكيف يستقيم على قولكم في الأصلح هذا.
ثم في الآية تقوية لمن قرأ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، بالألف لأنه أعم وأجمع؛ لأنه قال: (مَالِكَ الْمُلْكِ) وهو أعمّ.
والثاني: أن (الملك) إنما يعبر عن الولاية والسلطان، و " المالك ": إنما يعبر عن حقيقة الملك، ومن له في الشيء حقيقة الملك - فله ولاية التغلب والتصرف فيه ولاية السلطان، ولا كل من له ولاية السلطان يكون له ولاية التغلب فيه؛ لذلك كان بالألف
344
أقرب، ومن قرأ: " ملك يوم الدِّين " بغير ألف ذهب إلى أن هذا كقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، ومن الملك يقال: ملك؛ لا يقال: مالك؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
والمالك -على الإطلاق- لا يقال إلا على اللَّه؛ وكذلك الرب -على الإطلاق- لا يقال إلا على اللَّه، وأما العبد فإنه يقرن الشيء إليه؛ فيقال ربّ الدار ومالكها، ورب الدابة ومالكها، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ):
قال قائلون: الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة.
وقال آخرون: الخطاب بذلك لكل عاقل؛ وهو كقوله: (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخر الآية، ذلك الخطاب لكل أحد لا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة.
وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: ليس هو خطاب؛ ولكنه أمر بالبلاغ ليقوله كل أحد؛ لأنه لو خوطب به لم يذكر " قل " عند قراءته.
وقوله: (اللَّهُمَّ): قال قائلون: " اللهم ": يعني: يا آلهتهم.
وقال آخرون: (الله) - على القطع - " أمِّنَّا " اقصدنا بالخير، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الآية: فكأنه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن من رغب في الملك، أو نال حظًّا منه - أن يصرفوا وجه الرغبة إليه، أو يروا حقيقة ما نالوه منه؛ فيوجهون إليه الشكر، ويخضعون له بالعبادة والطاعة فيما أمرهم به؛ لينالوا شرفه ويدوم له عزه؛ وذلك كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، ليريهم أن الذي يملك هذا النوع الذي رغبت فيه أنفسكم، ومنعتكم عن القيام بحقهِ - هو الذي يملك ذلك؛ فإليه فاصرفوا سعيكم، وبشكره استديموا، الذي له اخترتم جل كدحكم؛ فإنه يملك ذلك دون غيره؛ وجملة ذلك في قوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ومعقول فيما عليه طبع البشر، وإليه دعاهم عقولهم: أن كل شيء تؤثره أنفسهم - كان الذي يحق عليهم طلبه عند من به
345
يوصل إليه، واختيارهم ما به يبلغون ما يأملون من أنواع الحيل التي تقربهم إلى ذلك، فمثله يلزم أمر الملك ولذات الدنيا، وتقرر في قلوبهم وجود ذلك لقوم؛ لو كان ينال بالتدبير أو بحسن السياسة، وطلب ذلك من الوجوه التي يطلب بها البشر - لم يكن الدِّين لهم ذلك بأحق من غيرهم؛ بل كان فيمن حرموا مَنْ هم أولى بذلك، وأحق أن يكون في ذلك متبوعًا لا تابعًا من الذين نالوه؛ ليعلم أن الذي يملك دفع ذلك إلى أحد أو تمليكه أحدًا، غير الذين صرفوا كدحهم، وجعلوا له سعيهم؛ فيكون لله في كل أمر مما عليه أمر البشر آية عظيمة، وعلامة لطيفة على تفرده بملك ذلك، وتوحُّدِهِ بالتدبير فيه لمن له بصيرة ولمن به يمتحن عباده.
وعلى ذلك إذ ثبتت في ذلك أدلة التوحيد، ولزوم الاعتبار به؛ ليعرف من له الحق ثبت القول ببطلان ما ينكره كثير من المعتزلة؛ أن الملك الذي ناله الجبابرة، والسعة التي تصل إلى الكَفَرَة- لم يكن نالوه بتقدير اللَّه، ولا وصلوا إليه بتدبيره؛ إذ حقه ما ذكرت من عظيم ما فيه من النعم؛ ليلزمهم به أرفع المحن وأعلى الشكر، وله أن يبلو بالحسنات والسيئات؛ كما وعد عَزَّ وَجَلَّ؛ وجملته: أن الدنيا إذ هي دار محنة ومكان ابتلاء، فليس الذي يعطى منه على الاستحقاق، ولا ما يمنع على العقوبة -وإن احتمل الدفع والمنع لذلك- ولكن له وللمحن، والمحنة أكثرها على مخالفة الأهواء، وتحمل المكاره، ويكون ذلك على إعطاء ما يعظم في أنفسهم، أو التمكين ليمتحنوا؛ فيتبين الإيثار والترك لوجه اللَّه، والرغبة فيمن إليه حقيقة ملك كل شيء، أو الميل إلى من إليه أنواع التغرير والمخادعات من غير تحقيق، ولا قوة إلا باللَّه.
وعلى ذلك قوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، يبيِّن ذلك احتجاجه على إبراهيم - عليه السلام -، بالذي ذكر، وإغضاء إبراهيم عنه، ولو كان الذي آتاه اللَّه، الملك إبراهيم - عليه السلام -، لم يكن ليجترئ على تلك المقالة بقوله: (أَنَا أُحْيِي
346
وَأُمِيتُ)، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم على قول المعتزلة: إنّ اللَّه - تعالى - إنما يشاء أن يؤتي الملك أولياءه، وينزع عن أعدائه في الجملة، فكيف ادعى لنفسه هذا السلطان والملك، وكان الوجوب على ضدّ ذلك؟! أيظن المعتزلة أن الملحدة تطعن ما هو يوجب الشبهة في حجج التوحيد بأوضح مما أعطاهم المعتزلة بهذا القول، أو يمكنهم من الطعن في نقض ما ادعت الموحدة من علو الرب وقدرته وجلاله بأبلغ مما لقنتهم المعتزلة بما لبست ثوب التوحيد، واستترت بستره في الظاهر، ثم أعطت للملحدة هذا؛ ليظنوا أنهم بلغوا ما به نقض التوحيد، ودفع حجج أهله، جل اللَّه عما وصفته الملحدة، وتعالى، فبه العصمة والنجاة.
ولما أعطتهم المعتزلة في الجملة سبقهم به إبليس، حتى كانوا بمثله يحتجون؛ فيظنون أنهم أحق بالنبوة منهم، بما أعطوا من الملك والثروة في الدنيا؛ فظنوا أنهم أجل عند اللَّه - تعالى - وأرفع في المنزلة منهم، من لم يكن ليؤثرهم بالرسالة عليهم، لكن أُولَئِكَ حققوا حقائق النعم لله، ونيل ما نالوا من الملك والشرف به، والمعتزلة رامت إزالة ذلك عن اللَّه؛ ليزيلوا عنهم ما لزمهم من الشكر له، والطاعة لمن بعثه اللَّه، وأسأل اللَّه تمام نعمه في الدِّين والدنيا.
وقوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ونحو ذلك: وجوه من الأدلة:
أحدها: أن يعلم أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيما يخلق - لا يخلق على معونة الأسباب، وتوليد الطبائع؛ لأن الأسباب تكون بموضع الإشكال؛ وكذلك الطباع تولد الذي في جوهره؛ نحو: الحار يولد الحرارة، والبارد يولد البرودة؛ فبين اللَّه - تعالى - الإنشاء على أحوال التضاد؛ ليعلم أنه القادر على اجتماع ما شاء مما شاء بلا معونة من ذلك ولا توليد، ولا قوة إلا باللَّه.
والوجه الثاني: أنه جرى تقدير ذلك على ما لا تفاوت له، ولا اختلاف في اختلاف الأعوام؛ ليعلم أنها مسوَّاة على التدبير، أحكمه على ذلك العزيز الحكيم، الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر؛ وليعلم أن الذي قدر على ذلك واحد؛ إذ لم يختلف ولم
347
يتناقض، ولا قوة إلا باللَّه.
وأيضًا، أنه قد صير كل جوهر بأحداث الآخر؛ كأنه لم يكن قط، ولا كان بقي له أثر، ثم رده بالوصف الذي كان؛ حتى لا يفوت منه شيء، حتى لا سبيل إلى العلم بالتفصيل بينهما؛ ليعلم أن قدرته على البعث، بعد أن يفنى كل الأجزاء والآثار، على ما كان، ولا قوة إلا باللَّه.
وأيضًا، أنه إذ بني الأمر على ما فيه من عظيم الحكمة، وعجيب التدبير - لم يجز أن يكون فعله خارجًا على العبث، ثم في رفع المحنة، وإبطال الرسالة في تعليم ما في ذلك من الحكمة، وما يلزم بمكان ذلك التدبير من الشكر والمعرفة، ثم من الترغيب فيما يملك من النعمة، والترهيب عما عنده من النقمة - إبطال الحكمة، وتقرير العالم مَع ما ذكرت على العبث، وذلك فاسد في العقول، وموجود في الجواهر عظيم حكمة منشئها، ثبت بذلك العبادة والرسالة والجزاء، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) إلى آخره: يحتمل وجهين: يحتمل أن تؤتي ابتداء من غير أن كان آتاهم مرة؛ وكذلك تنزع -أي تمنع- ابتداء من غير أن كان آتاهم، ثم ينزع؛ كقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ)، رفع ابتداء من غير أن كانت موضوعة فرفعها؛ وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، إخراج الابتداء، لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم، فعلى ذلك هذا، وعلى ذلك قوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) إيلاج ابتداء، لا أن كان أحدهما في الآخر؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، و (النَّهَارَ سَرْمَدًا)، أخبر أنه لم يجعل واحدًا منهما مؤبدا؛ وكذلك قوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) إخراج ابتداء؛ أن يخلق الحي من الميت
348
ابتداء، ويخلق الميت من الحي من غير أن كان فيه؛ ويحتمل هذا كله أن كان يؤتي الملك بعد أن لم يكن، ويعزّ بعد الذل، وينزع الملك بعد أن كان، ويذل بعد أن كان العز؛ وكذا قوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (٢٧) أن يدخل بعض هذا في هذا، وهذا في هذا.
وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): قيل: أن يخرج حي الأقوال من ميت الأفعال، وميت الأفعال من حي الأقوال، يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن؛ على ما سمى اللَّه - تعالى - الكافر ميتًا، والمؤمن حيًّا في غير موضع من القرآن.
وقيل: يخرج حي الجوهر من ميت الجوهر، وميت الجوهر من حي الجوهر.
وقيل: يخرج الحي من المني، ويخرج المني من الحي.
وقيل: البيضة من الحي، والحي من البيضة.
وقيل: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
وقوله: (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
قيل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ): يعرف الخلق عدده ومقداره.
وقيل: بغير تبعة ولا طلبة؛ أي: لا يحاسبهم فيما أعطاهم من بعد ما أعطاهم.
ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي: لا يعطيهم بحساب أعمالهم، ولكن بتفضل، خلافًا للمعتزلة.
ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ): في الآخرة.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " بغير هنداز - فارسية معربة ".
وعن مقاتل: " لا يقدر ذلك غيره؛ يقول: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أُعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني ". واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
وقوله: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل وجهين:
يحتمل: (لَا يَتَخِذِ)، أي: لا يكونون أولياء لهم، وإن اتخذوا أولياء؛ بل هم لهم أعداء؛ كقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...)، إلى آخر الآية.
ويحتمل: على النهي، أي: لا تتخذوا أولياء؛ كقوله: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)
350
وكقوله: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ).
وقوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً): اختلف فيه: قيل: إلا أن يكون بينكم وبينهم قرابة ورحم؛ فتصلون أرحامهم من غير أن تتولوهم في دينهم، على ما جاء عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما مات أبوه أبو طالب -: " إِنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ تُوفي "، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " اذْهَبْ فَوَارِهِ ".
ويحتمل قوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) على أنفسكم (مِنْهُمْ تُقَاةً)، إلا أن تخافوا منهم فتظهروا لهم ذلك مخافة الهلاك، وقلوبكم على غير ذلك.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " التَّقِيَّةُ: التكلُّمُ بِاللسَانِ، وَقَلْبُه مُطْمَئِن بِالإيمَانِ ".
وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ):
قيل: عقوبته.
وقيل: نقمته؛ يقول الرجل لآخر: احذر فلانًا، إنما يريد نقمته وبوائقه؛ فعلى
351
ذلك قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) عقوبته. وبوائقه، التي تكون من نفسه لما يكون ذلك به لا بغيره، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ... (٢٩)
يحتمل: ما تخفوا من ولاية الكفار وتبدوه - يعلمه اللَّه، فيه إخبار أن في قلوبهم شيئًا.
ويحتمل: أن يكون أراد جميع ما يخفون ويبدون (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الآية.
* * *
قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)
وقوله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا):
قيل: تجد ثواب ما عملت من خير حاضرًا؛ لأن عمله إنما كان للثواب لا لنفس العمل.
(وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا):
يحتمل: ما عملت من سوء تجده مكتوبًا يتجاوز عنه؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وعد المؤمنين، وأطمع لهم قبول حسناتهم، والتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)؛ فيجد المؤمن ثواب ما عمل من خير حاضرًا، ويتجاوز عن مساوئه. وأمَّا الكافر: فيجد عقاب ما عمل من سوء في ْالدنيا؛ كقوله: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا)، فلا يتجاوز عنهم، ويبطل خيراتهم.
وقوله: (أَمَدًا بَعِيدًا):
قيل: بعيدًا من حيث لا يرى.
وقيل: بعيدًا تودّ: ليت أن لم يكن، ما من نفس مؤمنة ولا كافرة إلا ودّوا البعد عن
الآية ٣٠ وقوله تعالى :﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ﴾ ؛ قيل : تجد ثواب ما عملت من خير حاضرا لأن عمله إنما كان للثواب لا لنفس العمل، ﴿ وما عملت من سوء تود لو أن بينهما وبينه أمدا بعيدا ﴾ ويحتمل ﴿ وما عملت من سوء ﴾ [ تجده مكتوبا، لا ]١ يتجاوز عنه، لأن الله جل وعلا وعد المؤمنين، وأطمع لهم قبول حسناتهم والتجاوز عن سيئاتهم كقوله :﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ﴾ [ الأحقاف : ١٦ ] فيجد المؤمن ثواب ما عمل من خير حاضرا، ويتجاوز عن مساويه، وأما الكافر فيجد عقاب ما عمل من سوء في الدنيا كقوله :﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] فلا يتجاوز عنهم، وتبطل خيراتهم.
وقوله تعالى :﴿ أمدا بعيدا ﴾ قيل : بعيدا من حيث لا يرى، وقيل : بعيدا : تود : ليت أن لم تكن. وما٢ من نفس مؤمنة ولا كافرة إلا تود البعد عن ذنبها٣، وأنه لم يكن. ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ قد ذكرناه.
وقوله تعالى :﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ إن أراد رأفة الآخرة [ فهو ]٤ يعني بالمؤمنين خاصة، وإن أراد رأفة الدنيا فهو بالكل.
قال الشيخ، رحمه الله تعالى : في قوله :﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ فالرحمة من الله، جل ثناؤه، والرأفة نوعان :
أحدهما : في حق الابتداء أن خلق خلقا ركب فيهم، ما يميزون به بين مختلف الأمور، ويجمعون بين المؤتلف، ثم لم يأخذ كلا منهم بما استحق من العقوبة، بل رحم، وأمهل التوبة والرجوع إليه، وهذه الرحمة رحمة عامة، لا يخلو عنها عبد.
والثاني٥ : رحمة في حق الجزاء من التجاوز والمغفرة وإيجاب الثواب للفعل. فهذه لا ينالها أعداؤه لما يوجب التجهيل في التفريق بين الذي جعل في العقول التفريق، ولما يكون وضع الإحسان، في غير أهله والإكرام لمن لا يعرف الكرم به، ولما في الحكمة تعذيبهم تخويفا وزجرا عما يختارون، وينالها من يفرق، واعتقد الموالاة، وكان هو أعظم في قلوبهم وطاعته من جميع لذات الدارين، فإن كانوا يبلون المعاصي على الجهالة أو على رجاء الرحمة والعفو، إذ هو كذلك في شرطهم الذي به والوه وبالغلبة، فهي رحمة خاصة، أي هي بالمؤمنين وبالعباد الذين بذلوا أنفسهم له بالعبودية بحق الاختيار، وإن كانوا يغلبون على ذلك في أحوال، والله الموفق.
١ في الأصل وم: تجد مكتوبا..
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: دنبه..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ فيس الأصل وم: و..
ذنبه، وأنه لم يكن.
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ): قد ذكرناه.
وقوله: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ):
إن أراد رأفة الآخرة -يعني بالمؤمنين خاصة، وإن أراد رأفة الدنيا- فهو بالكل.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ): فالرحمة من اللَّه - جلّ ثناؤه - والرأفة نوعان:
أحَدهما: في حق الابتداء، أن خلق خلقًا ركب فيهم ما يميزون به بين مختلف الأمور، ويجمعون بين المؤتلف، ثم لم يأخذ كلا منهم بما استحق من العقوبة؛ بل رحم وأمهل للتوبة والرجوع إليه، وهذه الرحمة رحمة عامة لا يخلو عنها عبد. ورحمة في حق الجزاء؛ من التجاوز والمغفرة وإيجاب الثواب للفعل، فهذه لا ينالها أعداؤه؛ لما يوجب التجهيل في التفريق بين الذي جعل في العقول التفريق؛ ولما يكون وضع الإحسان في غير أهله، والإكرام لمن لا يصرف الكرم به؛ ولما في الحكمة تعذيبهم تخويفًا وزجرًا عما يختارون، وينالها من تقرب واعتقد الموالاة، وكان هو أعظم في قلوبهم وطاعته من جميع لذَّات الدارين، وإن كانوا يبلون بالمعاصي على الجهالة، أو على رجاء الرحمة والعفو؛ إذ هو كذلك في شرطهم الذي به والوه، وبالغلبة، واللَّه أعلم، فهي رحمة خاصة، أي: هي بالمؤمنين، وبالعباد الذين بذلوا أنفسهم له بالعبودة بحق الاختيار، وإن كانوا يغلبون على ذلك في أحوال، واللَّه الموفق.
وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (٣١) قيل: إن ناسًا كانوا يقولون في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنا نحبُّ اللَّه حبًّا شديدًا؛ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية، وبين فيها لمحبته عَلَمًا.
وقيل: إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه؛ فأنزل اللَّه - تبارك وتعالى -: قل يا مُحَمَّد: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وذلك أن من أَحبَّ ملكًا من الملوك يحبُّ رسوله، ويتبعه في أمره، ويؤثر طاعته لحبِّه، فإذا أظهرتم أنتم بغضكم لرسولي، وتركتم اتباعه في أمره، وإيثار طاعته - ظهر أنكم تكذبون في مقالتكم: نحن أبناء الله وأحباؤه؛ لأن من أَحبَّ آخر يحب المتصلين به ورسله وحشمه، والمحبَّة -هاهنا-: الإيثار بالفعل طاعة من يحبه فيما أحبه وكرهه، والطاعة له في جميع أمره، واللَّه أعلم.
وقوله:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ (٣٢) قد تقدم ذكرها.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ):
اختلف فيه؛ قيل: (اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا) ومن ذكر لرسالته ولنبوته.
وقيل: اختارهم لدينه، وهو الإسلام.
وقيل: اختارهم في النية والعمل الصالح والإخلاص للَّهِ.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الاصطفاء: أن يجعلهم أصفياء من غير تكدر بالدنيا، وغيرهم اختارهم لأمرين: لأمر الآخرة، ولأمر المعاش؛ ألا ترى إلى قوله: " إِنَا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ؛ نَمُوتُ مَوْتَ العَئبدِ لِسَيِّدِه ".
الآية ٣٣ وقوله تعالى ﴿ إن الله اصطفى آدم ﴾ اختلف فيه : قيل :﴿ اصطفى آدم ونوحا ﴾ ومن ذكر لرسالته ولنبوته، وقيل : اختارهم لدينه، وهو الإسلام، وقيل : اختاركم في النية والعمل الصالح والإخلاص.
قال الشيخ، رحمه الله : الاصطفاء أن يجعلهم صافين١ من غير تكدر بالدنيا [ وغيرها، وقيل : اختارهم ]٢ لأمرين لأمر الآخرة ولأمر المعاش، ألا ترى إلى قوله جل وعلا :( إنا معاشر الأنبياء لا نورث، نموت موت العبيد لسيده ؟ ) [ بنحوه مسلم ١٧٥٧/ ٤٩ ] وقال الشيخ، رحمه الله، أيضا : في قوله ]٣ :﴿ إن الله اصطفى ﴾ من ذكر، فهو، والله أعلم، ذكر الله أولياءه وأهل صفوته ثم أعداءه وأهل الشقاء ترغيبا في ما استوجبوا الصفوة وتحذيرا عما به صاروا أهل الشقاء، إذ هما أمران يتولدان عن اختيار البشر، [ ويقوم بأعبائها ]٤ أهل المحن لا بنفس الخلقة والجوهر، فصار الذكر للمعنى الذي ذكرت. وعلى ذلك وجه ذكر عواقب الفريقين في الدنيا، وما إليه يصير أمرهم في المعاد. وعلى هذا ما ضرب الله من الأمثال بأنواع الجواهر الطيبة والخبيثة في العقول والطبائع ترغيبا وترهيبا. وعلى هذا جميع أمور الدنيا أنها كلها عبر ومواعظ، وإن كان فيها شهوات ولذات وآلام وأوجاع ليعلم أنها خلقت لا لها، لكن لأمر عظيم، كان ذلك هو المقصود من مدبر العالم أن بالعواقب يذم أهل الاختيار، ويحمدون، فجعل الله عواقب الحكماء وأهل الإحسان حميدة لذيذة ترغيبا فيها وعواقب السفهاء وأهل الإساءة ذميمة وخيمة ترهيبا فيها، فخرج جميع فضل الله على الحكمة والإحسان، وإن كانت مختلفة في اللذة والكراهة، لأنه كذلك طريق الحكمة في الجزاء، وفي ابتداء المحنة تكون مختلفة، والجزاء نوع لما هو كذلك في الحكمة والإحسان، إذ كذلك سبق من أهله الاختيار والجزاء على ما اختاره من له وعليه حكمة وإحسان ؛ أعني بالإحسان في ما يجوز الامتحان بلا جزاء بحق الشكر لما أولى وأبلى، والحكمة في ما لازما ذلك في التدبير، ولا قوة إلا بالله.
١ في الأصل وم: صافيا..
٢ في الأصل: وغيرهم اختيارهم، في م: وغيرهم اختارهم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل: ويقومان بأعبائهما، في م: ويقومان بأسبابهما..
وقال الشيخ - رحمه اللَّه - أيضًا في قوله: إن اللَّه اصطفى من ذكر: فهو - واللَّه أعلم - ذكر اللَّه أولياءه وأهل صفوته، ثم أعداءه وأهل الشقاء؛ ترغيبًا فيما استوجبوا الصفوة؛ وتحذيرًا عما به صاروا أهل الشقاء؛ إذ هما أمران يتولَّدان عن اختيار البشر، ويقومان بأسبابهما أهل المحن، لا بنفس الخلقة والجوهر؛ فصار الذكر للمعنى الذي ذكرت؛ وعلى ذلك وجه ذكر عواقب الفريقين في الدنيا، وما إليه يصير أمرهم في المعاد؛ وعلى هذا ما ضرب اللَّه من الأمثال بأنواع الجواهر الطيبة والخبيثة في العقول والطبائع ترغيبًا وترهيبًا؛ وعلى هذا جميع أمور الدنيا، أنها كلها عبر ومواعظ، وإن كان فيها شهوات ولذات، وآلام وأوجاع؛ ليعلم أنها خلقت لا لها لكن لأمر عظيم، كان ذلك هو المقصود من مدبر العالم أن بالعواقب يذم أهل الاختبار ويحمدون؛ فجعل الله عواقب الحكماء وأهل الإحسان حميدة لذيذة؛ ترغيبًا فيها، وعواقب السفهاء وأهل الإساءة دميمة وجيفة؛ تزهيذا فيها؛ فخرج جميع فعل اللَّه على الحكمة والإحسان، وإن كانت مختلفة في اللذة والكراهة؛ لأنه كذلك طريق الحكمة في الجزاء، وفي ابتداء المحنة، إلا أن المحنة تكون مختلفة، والجزاء نوع لما هو كذلك في الحكمة والإحسان؛ إذ كذلك سبق من أهله الاختيار والجزاء على ما اختاره من له وعليه حكمة وإحسان؛ أعني: بالإحسان فيما يجوز الامتحان بلا جزاء بحق الشكر لما أولى وأبلى، والحكمة فيما كان لازمًا ذلك في التدبير، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (٣٤)
قيل: بعضها من بعض في النسب من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، عليهم السلام.
وقيل: بعضهم من ذرية بعض.
وقيل: بعضهم من جوهر بعض؛ فلا تتكبروا؛ كقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)، منع الحر عن التعظيم على العبد.
واختلف في الذرية: قَالَ بَعْضُهُمْ: " الذرية ": الأولاد والآباء؛ كقوله: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)، وكانوا الأولاد والآباء، والذرية مأخوذة، وهو الخلقة.
وقِيل: " الذرية: الأولاد خاصة، يقال: ذرية فلان، إنما يراد، أولاده خاصة؛ دليله قوله (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً). وقوله: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ).
واختلف في الآل؛ قيل: آل الرجل: المتصلون به.
وقيل: آل الرجل: أتباعه.
وقيل: أقرباؤه.
وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُل تَقِي فَهُوَ مِنْ آلِي ".
وقيل: إن عمران من ولد سليمان بن داود.
وقوله: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا (٣٥)
لما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه اصطفي آل عمران واختارهم على سائر العالمين، وكان أقل ما في صفوته واختياره أن جعلت امرأة عمران ما في بطنها مُحَرَّرًا.
(والْمُحَرَّر): هو العتيق عن المعاش بالعبادة.
وقيل: " الْمُحَرَّر " هو الذي يعبد اللَّه - نعالى - خالصًا مطيعًا، لا يشغله شيء عن عبادته، فارغًا لذلك، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقيل: " الْمُحَرَّر " هو الذي يكون لله صافيًا.
وقيل: " الْمُحَرَّر " هو مَنْ خَدَمَ المسجد.
وقوله: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)
جعلت ما في بطنها لله خالصًا، لم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - وهكذا الواجب على كل أحد أنه إذا طلب ولدًا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا، حيث قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، وما سأل إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وكقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا...) الآية هكذا الواجب أن يطلب الولد لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم.
وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
أي: تقبل مني قرباني، وما جعلت لك خالصًا، إنك أنت السميع لنذري، العليم بقصدي في التحرير.
وقيل: (السَّمِيعُ): المجيب لدعائي، (العليم) بنيتي.
وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى (٣٦)
ومعنى قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) -مع علمها أن اللَّه عالم بما في بطنها وبما وضعتها- وجهان:
أحدهما: اعتذارًا لما لم يكن يُحَرَّر في ذلك الزمان إلى الذكور من الأولاد؛ فاعتذرت:
إني ما وضعت لا يصلح للوجه الذي جعلت.
والثاني: أن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا قد ينطق بذلك، وإن كان يعلم أن غيره علم ما علم هو، وأنه رأى مثل ما رأى هو.
أو يحتمل أن طلبت ردّها إلى منافعها إذا وضعت الأنثى؛ لما رأت الأنثى لا تصلح لذلك.
ويحتمل قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى): التعريض لإجابة اللَّه - تعالى - لها فيما قصدت من طاعته بالنذور إن لم تكن صلحت لما قصدت، وقد أجيبت في ذلك بقوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) نحو ما يتقبل لو كان ذكرًا في الاختيار والإكرام، وجعلها خير نساء العالمين.
وقوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى). اختلف فيه: قيل: إن ذلك قولها، قالت: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) على إثر قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)؛ لما تحتاج الأنثى إلى فضل حفظ وتعاهد، والقيام بأسبابها ما لا يحتاج الذكر.
وقيل: إن ذلك قول قاله - عَزَّ وَجَلَّ - لما قالت: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)، جوابًا لها، (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) فيما قصدت، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ).
فيه دليل على أن تسمية الأولاد إلى الأمهات في الإناث دون الآباء، ثم التجأت إلى اللَّه تعالى، حيث أعاذتها به -وذريتَها- من الشيطان الرجيم.
وفيه دلالة أن الذكور يكونون من ذرية الإناث؛ لأنه لم يكن منها إلا عيسى، عليه السلام.
وقوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ (٣٧)
يحتمل قوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ): أن أعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم على ما سألت.
358
ويحتمل أن جعلها تصلح للتحرير ولما جعلت، وإن كانت أنثى.
وقوله: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا).
يحتمل -أيضًا- نباتًا حسنًا؛ أن لم يجعل للشيطان إليها سبيلًا.
ويحتمل أن ربَّاها تربية حسنة؛ أن لم يجعل رزقها وكفايتها بيد أحد من الخلق؛ بل هو الذي يتولى ذلك لما يبعث إليها من ألوان الرزق، كقوله: (وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)، وكقوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا).
وقوله: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا).
فيه لغتان: إحداهما: بالتخفيف، والأخرى: بالتشديد؛ فمن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه ضمَّها زكريا إلى نفسه، ومن قرأ بالتشديد؛ فمعناه: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ضمَّها إلى زكريا.
وقوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا).
قيل: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - قال زكريا: (أَنَّى لَكِ هَذَا).
قيل فيه بوجهين:
قيل: استخبار عن موضعه، أو كيف لك هذا، على الاستيصاف؛ إنكارًا عليها واتهامًا؛ لما لا يدخل عليها غيره، ولا يقوم بكفايتها سواه، فوقع في قلبه أنَّ أحدًا من
359
البشر يأتيها بذلك.
وقيل: إنه قال ذلك؛ تعجبًا منه لذلك لما رأى من الفاكهة والطعام في غير حينه غير متغير؛ فقال: (أَنَّى لَكِ هَذَا)؛ تعجبًا منه لذلك.
ثم قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
أي: يرزق من حيث لا يحتسب.
* * *
قوله تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)
وقوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)
قيل: فعند ذلك دعا زكريا ربه لما كانت نفسه الخاشية تحدث بالولدان تهب له، لكنه لم يدعو لما رأى نفسه متغيرة عن الحال التي يطمع منها الولد، فرأى أن السؤال في مثل ذلك لا يصلح؛ فلما رأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف غير متغيرة عن حالها - علم عند ذلك أن السؤال يصلح، وأنه يجاب للدعاء في غير حينه، فذلك معنى قوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)، واللَّه أعلم.
ويحتمل أنه لما رأى ما أكرمت امرأة عمران في قبول دعوتها وتبليغ ابنتها في الكرامة المبلغ الذي رأى فيها مما لعل أطماع الأنفس لا تبلغ ذلك - دعا اللَّه - جل جلاله - أن يكرمه ممن يبقى له الأثر فيه والذكر، وإن كانت تلك الحال حال لا تطمع الأنفس فيما رغب - عليه السلام - مع ما كان يعلم قدرة اللَّه - تعالى - على ما يشاء من غير أن كان يحس على طلب الإكرام بكل ما يبلغه قدره، حتى رأى ما هو في الأعجوبة قريب مما كانت نفسه تتمنى، واللَّه أعلم بالمعنى الذي سأل.
وقوله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).
أي: مجيب الدعاء.
وقوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ (٣٩)
دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة.
(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى).
فيه دلالة لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - أن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلانًا فأرسل إليه غيره يبشره - حنث في يمينه؛ لأنه هو البشير، وإن كان المؤدي غيره؛ ألا ترى أن البشارة -هاهنا- أضيفت إلى اللَّه - تعالى - فكان هو البشير؛ فكذلك هذا.
وقوله: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ).
(بِكَلِمَةٍ) قيل: عيسى - عليه السلام - كان بكلمة من اللَّه، فيحيى صدقه برسالته. وقيل: أول من صدق عيسى - يَحْيَى بن زكريا، ولهذا وقع على النصارى شبهه؛ حيث قالوا: عيسى ابن اللَّه، بقوله: (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)، (وَرُوحٌ مِنْهُ)، ظنوا أنه في معنى (فيه)؛ لكن ذلك إنما يذكر إكرامًا لهم وإجلالا، ولا يوجب ذلك ما قالوا؛ ألا ترى أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ونحو ذلك، لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله: (وَسَيِّدًا):
قيل: سَيِّدًا في العلم والعبادة.
وقيل: السيِّد: الحكيم هاهنا.
361
وقيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه، فكذلك كان صلوات اللَّه عليه.
وقيل: السيد: الحسن الخلق.
وقيل: السيد: التقي.
وقيل: اشتق يَحْيَى من أسماء اللَّه - تعالى - من: " حي "، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الذي سماه يحيى؛ وكذلك عيسى - روح اللَّه - هو الذي سماه مسيحًا؛ بقوله: (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، وذلك إكرامًا لهم وإجلالًا، على ما سمى إبراهيم: خليل اللَّه، ومُحَمَّد: حبيب اللَّه، وموسى: كليم اللَّه؛ إكرامًا لهم وإجلالًا؛ فكذلك الأول.
وجائز أن يكون " يَحْيَى " بما حيي به الدِّين.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (بِيَحْيَى): قيل: سماه به؛ لما حيي به الدِّين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة، والأفعال المرضية؛ ولهذا - واللَّه أعلم - سمي سيدًا؛ لأن السؤدد في الخلق يكتسب بهذا النوع من الأحوال.
وسمي مسيحًا بما مسح بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسحه بيده؛ نحو أن يبرأ به وَيَحْيَى، واللَّه أعلم.
وحقيقة السؤدد أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة، والأفعال المرضية، وجائز أن يكون - عليه السلام - جمعهما فيه؛ فسمي به، واللَّه أعلم.
والأصل في هذا ونحوه: أن الأسماء إن جعلت للمعارف، ليعلم بها المقصود - فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع، دون ما يقبح على المقال، أو على الرغبة في ذكره على ما يختار
362
من كل شيء، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَحَصوُرًا):
قيل: الحصور: الذي لا ماء له ولا شهوة.
وقيل: هو المأخوذ عن النساء، والممنوع منهن.
وقيل: هو الذي لا يشتهي النساء.
وكله واحد، واللَّه أعلم.
(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ):
ذكر أنه من الصالحين، وإن كان كل نبي لا يكون إلّا صالحًا؛ على ما سمي كل نبي صديقا، وإن كان لا يكون إلا صديقًا، ووجه ذكره صالحًا: أنه كان يتحقق فيه ذلك؛ لأن غيره من الخلق، وإن كان يستحق ذلك الاسم - إنما يستحق بجهة، والأنبياء - عليهم السلام - يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها.
والثاني: دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ما ذكر في كل نبي أنه كان من الصالحين - يخرج على أوجه: على جميع الصلاح، وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح، وعلى أنهم منهم؛ لولا النبوة؛ ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدِّين لمن تم لهم وصف الصلاح، وعلى الوصف به أنهم كذلك على ألسن الناس، وأن الذين ردوا عليهم - ردّوا
363
بعد علمهم بصلاحهم، أو على الوصف به كالوصف بالصديق، وإن كان كل نبي كذلك؛ مع ما لعل لذلك حد عند اللَّه؛ لذلك أراد لم يكن أطلع غيره عليه، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون " يَحْيَى " بما حي به الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية؛ ولذلك سمى سيدًا؛ وجملته أن لله أن يسمي من شاء بما شاء، وليس لنا تكلف طلب المعنى، فيما سمى اللَّه الجواهر به؛ إذ الأسماء للتعريف، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل، واللَّه أعلم.
وقوله: وروح اللَّه وكلمته - كقوله: خليل اللَّه وحبيبه، وذبيح اللَّه، وكليم اللَّه، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة، وذلك على ما قيل: من بيوت اللَّه، وعلى ما قيل لدينه: نور اللَّه، وقيل لفرائضه: حدود اللَّه، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله، وذلك كما قال لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، وقال في الجملة: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، لا على ما توهمته النصارى في المسيح، فمثله الأول، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا):
بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلًا.
وفيه وجه آخر: وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل؛ ليعلم أن قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، إلى آخره: إنما هو حقيقة الخضوع لله، والإنباء عنه، لا على خلقه؛ كنطق الجوارح في الآخرة، واللَّه أعلم.
أو لتكون آية له دائمة؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر: من التغيير، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء، نحو العصا فيما تعود إلى حالها، واليد، ونحو ذلك؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام، ولا قوة إلا باللَّه.
364
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ (٤٠)
يحتمل هذا الكلام وجوهًا:
أحَدها: على الإنكار، أي: لا يكون، لكن هاهنا لا يحتمل؛ لأنه كان أعلم باللَّه وقدرته أن ينطق به، أو يخطر بباله.
والثاني: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) أي: كيف وجهه ولسببه، وكذلك قوله: (أَنى لَك هَذَا)، وقوله: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا)، أي: كيف وجهه وما سببه.
والثالث: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) في الحال التي أنا عليها، أو أردّ إلى الشباب؛ فيكون لي الولد.
هذان الوجهان يحتملان، وأمَّا الأول فإنه لا يحتمل.
وقوله: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)
وذكر في سورة مريم: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): ذكر على التقديم والتأخير.
وكذلك قوله: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) أو (ثَلَاثَ لَيَالٍ)، والقصة واحدة؛ ذكر على التقديم والتأخير، وعلى اختلاف الألفاظ واللسان؛ دل أنه ليس على الخلق حفظ اللفظ واللسان؛ وإنما عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها، وبالله التوفيق، ويعلم أنه لم يكن على كلا القولين، ولم يكن بهذا اللسان.
وقوله: (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، وإن اختلف في اللسان.
وقوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً (٤١)
طلب من ربِّه آية؛ لما لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة، أو وساوس؛ فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا بشارة إبليس؛ لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية؛ لأن فيها تغير الخلقة والجوهر، وهم لا يقدرون على،
365
ذلك، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات اللَّه على نبينا وعليه - لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه، حتى قال: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، حتى قالوا: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة، رسل اللَّه، أرسلهم إليه.
وقوله: (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا)
قال بعض أهل التفسير: حبس لسانه عقوبة له بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)؛ لكن ذلك خطأ، والوجه فيه: منعه من تكليم الناس، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربَّه، ويسبح بالعشي والإبكار؛ كقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)؟!.
ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه، فأراه بمنع اللسان عن النطق، وأعلى أحوال الاحتمال؛ ليكون آية للأوّل.
وقيل في قوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً): أنه طلب آية؛ لجهله بعلوق الولد، وجعلها ليعرف متى يأتيها؟.
وقوله: (إِلَّا رَمْزًا): قيل: الرّمز: هو تحريك الشفتين.
وقيل: هو الإيماء بشفتيه.
وقيل: هو الإشارة بالرأس.
وقيل: هو الإشارة باليد، واللَّه أعلم بذلك.
366
الآية ٤١ : وقوله تعالى :﴿ قال رب اجعل لي آية ﴾ طلب من ربه آية لما١ لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة أو وساوس
[ إبليس ]٢، فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من الله جل وعلا لا بشارة إبليس لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية لأن فيها تغير الخلقة والجوهر، وهم لا يقدرون على ذلك، أو٣ لعلهم يقدرون على الافتعال بالبشارة. ألا ترى أن إبراهيم، صلوات الله على نبينا وعليه، لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام، وهابهم٤ حتى ﴿ قال إنكم قوم منكرون ﴾ [ الحجر : ٦٣ ] و٥
﴿ قالوا لا تخلف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ [ هود : ٧٠ ] فذهب ذلك الروع منه بعدما أخبروه أنهم ملائكة، رسل الله، أرسلهم إليه.
وقوله تعالى :﴿ قال آيتك ألا تلكم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ قال بعضهم أهل التفسير : حبس لسانه عقوبة له بقوله :﴿ أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر ﴾ لكن ذلك، خطأ، والوجوه فيه منعه من تكليم الناس، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه. ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربه، ويسبح بالعشي والإبكار بقوله٦ :﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴾ ؟ ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع [ ما كان سؤاله إذا ]٧ كان عن العلم بالولد في غير حينه، فأراه [ أن منع ]٨ اللسان عن النطق هو ٩ أعلى أحوال الاحتمال ليكون آية للأول.
وقيل : في قوله :﴿ رب اجعل لي آية ﴾ إنه طلب آية لجهله بعلوق الولد، وليعرف١٠ متى يأتيها.
وقوله تعالى :﴿ إلا رمزا ﴾ قيل : الرمز تحريك الشفتين، وقيل : هو الإيماء بشفتيه، وقيل : هو الإشارة بالرأس، وقيل : هو الإشارة باليد، والله أعلم بذلك.
١ ساقطة من م..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: علو..
٤ في الأصل وم: وهابوه..
٥ في الأصل وم: حتى..
٦ في الأصل وم: كقوله..
٧ من م..
٨ في الأصل وم: يمنع..
٩ في الأصل وم: و..
١٠ في الأصل وم: وجعلها ليعرف..
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
وقوله: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ):
قال أهل التفسير: هو جبريل - عليه السلام - لكن ذلك لا يعلم إلا بالخبر، فإن صح الخبر - فهو كذلك، وإلا لم يقل من كان مِنَ الملائكة قال ذلك.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ): أن صفاها لعبادة نفسه، وخصها له، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء؛ فيكون ذاك صفوتها.
وقيل: اصطفاها بولادة عيسى - عليه السلام - إذ أخرج منها نبيًّا مباركًا تقيًّا، على خلاف ولادة البشر.
وقوله: (وَطَهَّرَكِ):
قيل: من الآثام والفواحش.
وقيل: وطهرك من مس الذكور، وما قذفت به.
(وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ):
هو ما ذكرنا من صفوتها؛ إذ جعلها لعبادة نفسه خالصا، أو ما قد ولدت من ولد من غير أب، على خلاف سائر البشر.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " خَط رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَربَعَةَ خُطُوط، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ؟ قَالوُا: اللَّه وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنةِ: خَدِيجَةُ، وَفَاطِمَةُ، وَمَريَمُ، وآسيَةُ امْرَأةُ فِرْعَونَ ". وكذلك روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -قال: " خَيرُ نِسَاءِ العَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَريَمُ بِنْتُ عِمرَانَ، وآسيَةُ بِنْتُ مُزَاحِم، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ".
وقوله: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ (٤٣)
يحتمل وجهين:
الأمر بالقنوت: القيام، ثم الأمر بالسجود، أي: الصَّلاة، ثم الأمر بالركوع مع الراكعين؛ وهو الصلاة بجماعة؛ ففيه الأمر بالصلاة بالجماعة، على ما هو علينا؛ لأنه قال: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)؛ وعلى ذلك روي في الخبر: أنه سئل عن أفضل الصَّلاة؟ فقال: " طُولُ القُنُوتُ ".
ويحتمل أنه الأمر بالركوع، ثم بالسجود؛ فيدل أن السجود -وإن كان مقدمًا ذكره على الركوع- فإنه ليس في تقديم ذكر شيء على شيء، ولا تأخير شيء عن شيء في الذكر دلالة وجوب الحكم كذلك.
وقيل: القنوت: هو الخضوع والطاعة؛ كقوله: (وَقُومُوا لِلََّهِ قَانِتِينَ)
أي: خاضعين مطيعين.
فَإِنْ قِيلَ: كيف أُمِرَتْ بالركوع مع الراكعين؟! قيل: كانوا - واللَّه أعلم - ذوي قرابة منها ورحم؛ ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمها وإمساكها، حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه، وأنه الأحق بذلك؟! دل أن بينهم وبينها رحمًا وقرابة.
وقيل في قوله: (اقْنُتِي): أي: أطيلي الركوع في الصَّلاة واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: يحتمل (مَعَ الرَّاكِعِينَ): أي: ممن يركع ويخضع له بالعبادة، لا على الاجتماع - واللَّه أعلم - كيف كان الأمر في ذلك؟.
وقوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (٤٤) أي: من أخبار الغيب لم تشهده أنت يا مُحَمَّد ولم تحضر، بل نحن أخبرناك وذكرناك عن ذلك.
ثم في ذلك وجوه الدلالة:
أحدها: أراد أن يخبره عن صفوة هَؤُلَاءِ وصنيعهم؛ ليكون على علم من ذلك.
والثاني: دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أخبر على ما كان من غير أن اختلف إلى أحد، أو أعلمه أحد من البشر على علم منهم ذلك؛ دل أنه إنما علم ذلك باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -.
والثالث: أن يتأمل وجه الصفوة لهم؛ أنهم بما نالوه؛ فيجتهدوا في ذلك، واللَّه أعلم.
وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أن ظهر ذلك بإلقاء الأقلام.
وقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الآية.
قيل: إنهم ألقوا أقلامهم على جرية الماء، فذهبت الأقلام كلها مع الجرية؛ إلا قلم زكريا؛ فإنه وقف على وجه الماء.
وقِيل: طرحوا أقلامهم في الماء، وكان من شرطهم أن من صعد قلمه عاليًا مع الجرية، فهو أحق بها، ومن سفل قلمه مع الجرية فهو المقروع، فصعد قلم زكريا، وتسفلت أقلامهم؛ فعند ذلك ضمها زكريَّا إلى نفسه.
369
ثم من الناس من احتج بجواز القرعة والعمل بها - بهذه الآية؛ حيث ضمها زكريا -مريم- إلى نفسه، لما خرجت القرعة له؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره؛ لوجهين:
لحق الوحي.
والثاني: لظهور إعلام في نفس القرعة؛ ما يعلم أنه كان باللَّه ذلك لا بنفسه؛ كارتفاع القلم على الماء، ومثل ذلك لا يكون للقلم، والمحق من المبطل، وفيما بين سائر الخلق؛ لدفعهم التهم؛ فهي لا تدفع أبدا.
ويحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك، أو علموا ذلك بالوحي، فليس اليوم وحي؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم، واللَّه أعلم.
أو كان ذلك آية، والآية لا يقاس عليها غيرها؛ نحو: قبول قول قتيل بني إسرائيل -
370
آية، ليس به معتبر في جواز قول قتيل آخر قبل الموت.
وقوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ (٤٥)
يحتمل: (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ): أن قال: " كن " - فكان من غير أب ولا سبب، وسائر البشر لم يكونوا إلا بالآباء والأسباب: من النطفة، ثم من العلقة، ثم من مضغة مخلقة على ما وصف - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه، وكان أمر عيسى - عليه السلام - على خلاف ذلك.
ويحتمل (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ): ما ذكر أنه كلم الناس في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) وذلك مما خص به عيسى، وهو بكلمة من اللَّه قال ذلك.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) والكهل: مما يكلم الناس؟ قيل: لأن كلامه في المهد آية، والآية لا تدوم؛ كقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ) الآية، وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد وتنطق أبدًا، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد - وإن كانت آية - فإنه ليس بالذي لا يدوم، ولا يكون إلا مرّة.
والثاني: أمنٌ من اللَّه لمريم، وبشارةٌ لها عن وفاته إلى وقت كهولته، واللَّه أعلم.
وقوله: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ).
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " المسيح: المبارك "، أي: مسح بالبركة.
وقيل: سمي مسيحًا؛ لأنه كان يمسح عين الأعمى والأعور فيبصر.
وقيل: المسيح: العظيم؛ لكنه - واللَّه أعلم - بلسانهم؛ فيسأل: ما المسيح بلسانهم.
وقوله: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا): بالمنزلة، ومكينًا في الآخرة، (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) في الدرجة
الآية ٤٦ فإن قيل : ما معنى قوله :﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ﴾ والكهل يكلم الناس ؟ قيل [ لوجهين :
الأول ]١ : لأن كلامه في المهد آية، والآية لا تدوم كقوله :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم ﴾ الآية [ النور : ٢٤ ]. وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد، وتنطق أبدا، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد، وإن كان آية، فإنه ليس بالذي يدوم، ولا يكون إلا مرة.
والثاني : أمن من الله لمريم وبشارة بها [ من ولادته ]٢ إلى وقت كهولته، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ اسمه المسيح ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه :( ﴿ المسيح ﴾ المبارك أي مسيح بالبركة ) وقيل : سمي مسيحا لأنه كان يمسح عين الأعمى والأعور، فتبصر، وقيل :﴿ المسيح ﴾ العظيم لكنه، والله أعلم بلسانهم فيسأل : ما ﴿ المسيح ﴾ المسيح بلسانهم ؟
وقوله تعالى :﴿ وجيها في الدنيا ﴾ بالمنزلة ومكينا في الآخرة، ومن المقربين في الدرجة والرفعة٣ ومن كان ﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ﴾ فهو مقرب فيهما.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: عن وفاته..
٣ من م، في الأصل: والرفعة..
والرفعة، ومن كان وجيهًا في الدنيا والآخرة فهو مقرب فيهما.
وقوله: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ (٤٧)
عرفت مريم أن الولد يكون بمس البشر، وعلمت -أيضًا- أنها لا تتزوج، ولا يمسها بشر أبدًا؛ لأنها قالت: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك، فلعله يمسها في حادث الوقت؛ فيكون لها منه الولد، فلما لم يقل لها يمسسك؛ ولكن قال: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبدًا؛ لأنها كانت محررة لله، مخلصة له في العبادة، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ)
أي: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة؛ لأنها بشرت أن يهب لها ولدًا، فقالت: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)؟
ثم قال: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) تأويله: ما ذكر في سورة مريم حيث قالت: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) الآية، ثم قال: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي: خلق الخلق عَلَيَّ هَيِّنٌ: بِأبٍ، وبغير أبٍ، وبمس بشر، وبغير مس، وبسبب، وبغير سبب؛ على ما خلق آدم بغير أب ولا أم؛ فعلى ذلك يخلق بتوالد بعض من بعض، وبغير توالد بعض من بعض؛ كخلق الليل والنهار، يخلق بلا توالد أحدهما من الآخر؛ فكذلك يخلق لك ولدًا من غير أب ولا مس بشر، وباللَّه الحول والقوة.
وقوله: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ):
أي: إذا قضى أمرًا بتكوين أحد، أو بتكوين - فإنما يقول له: كن، لا يثقل عليه، ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم؛ كقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: خلق الخلق كلهم ابتداء، وبعثهم بعد الموت - كخلق نفس واحدة؛ أن يقول: (كُنْ فَيَكُونُ)؛ وإنَّمَا يثقل ذلك على الخلق ويصعب؛ لموانع تمنعهم وأشغال تشغلهم، فاقا اللَّه - سبحانه وتعالى - عن أن بشغله شغل، أو يمنعه مانع، أو يحجب عليه حجاب.
وقوله: (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ):
ذكر - واللَّه أعلم - هذا الحرف؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف أو جزء منه يعبر فيفهم معناه، لا أن كان منه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف أو نون، أو حرف، أو هجاء، أو صفة
يفهم ويعرف حقيقته، أو يوصف هو بمعنى من معاني كلام الخلق أو صفاتهم، أو يكون لتكوينه وقت أو مدة أو حال، أو يكون تكوين بعد تكوين، على ما يكون من الخلق، إنما هو أوجز حرف يفهم معناه، بالعبارة إخبار منه - عَزَّ وَجَلَّ - الخلق عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته.
* * *
قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ): بشارة منه لها -أيضًا-: أنه يعلمه الكتاب، ثم اختلف في (الْكِتَاب)؛ قيل: (الْكِتَاب): الخط هاهنا يخط بيده، ويحتمل (الْكِتَاب): الكتاب نفسه: التوراة والإنجيل، ويحتمل (الْكِتَاب): كتب النبيين.
(وَالْحِكْمَةَ)؛ قيل: الحكم بين الخلق، وقيل: الفقه، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: السنة.
(وَالْحِكْمَةَ): هي الإصابة، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٩) أي: أجعله رسولًا إلى بني إسرائيل، وهذا -أيضًا- بشارة لها منه، وكان عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أوَّل أمره إلى آخره آية؛ لأنه ولد من غير أب،
373
على خلاف ما كان سائر البشر، يكلم الناس في المهد، وأقرَّ بالعبودية له، ولم يكن لأحد من البشر ذلك، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وأنباء ما كانوا يأكلون ويدخرون، وما كان له مأوى يأوى إليه، ولا عيش يتعيش هو به، والبشر لا يخلو عن ذلك، ثم ألقى شبهه على غيره؛ فقتل به، ورفع هو إلى السماء؛ وذلك كله آية، وكانت آياته كلها حسية يعلمها كل أحد، وآيات رسول اللَّه - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - كانت حسية وعقلية:
أمَّا الحسية: فهو انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وكلام الشاة
374
المسمومة، وقطع مسيرة شهر في ليلة، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها؛ هذه كلها كانت حسية.
وَأفَا العقلية: فهذا القرآن الذي نزل عليه، وهو بين أظهرهم، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء، يتلى عليهم: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ...) الآية، وقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
375
ظَهِيرًا)، فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله، لجهدوا كل جهد، وتكلفوا كل تكلف؛ حتى يطفئوا هذا النور؛ ليتخلصوا عن قتلهم، وسبي ذراريهم، واستحياء نسائهم، فلما لم يفعلوا ذلك - دَلَّ أنه كان آية معجزة، عجزوا جميعًا عن إتيان مثله، فأي آية تكون أعظم من هذا؟! وباللَّه المعونة والنجاة.
وقوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ):
أي: بعلامة أني رسول منه إليكم، ثم فسَّر الآية، فقال: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّه)
قوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ)
هو على المجاز، لا على التخليق والتكوين؛ لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق، وإنَّمَا هو من فعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأن التخليق: هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وذلك فعل اللَّه - تعالى - لا يقدر المخلوق على ذلك؛ فهو على المجاز؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، وليس إلى الخلق تحليل شيء أو تحريمه، إنما ذلك إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فمعناه: أني أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم؛ فعلى ذلك قوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي: أظهر لكم بيدي ما خلق اللَّه من الطين طائرًا؛ فيكون آية لرسالتي إليكم؛ وكذلك الآيات ليس مما ينشئ الأنبياء، ولكن تظهر على أيديهم.
وإنَّمَا لم يجز إضافة التخليق إلى الخلق؛ لما ذكرنا: أنه إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وذلك ليس إلى الخلق.
والثاني: أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير اللَّه، لا يخرج على تقديره؛ لذلك لم يجز إضافة ذلك إلى الخلق، إلا على المجاز. واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصَّة، وآيات الأنبياء - عليهم السلام - هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد فيما بينهم، يجريها اللَّه - سبحانه وتعالى - على أيديهم؛ ليعلموا أن ذلك لم يكن بهم، إنما كان ذلك بالمُرسِل الذي أرسلهم؛ ليدل على صدقهم، ولا قوة إلا باللَّه.
376
وإبراء الأكمه والأبرص " هو من آيات النبوة؛ لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم. فَإِنْ قِيلَ: إن إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة؛ لعجزهم عن إتيان مثله، وخروجه عن المعتاد فيما بينهم، ولكن أنباء ما يأكلون وما يدخرون لِمَ كان من آيات النبوة، ويجوز أن يكون ذلك من منجم؟
قيل: له جوابان -إن كان يكون مثل ذلك بالنجوم-:
أحَدهما: أنه مضموم إلى الآيات؛ فصار آية بما ضم إليها.
والثاني: أن هذا -وإن كان يعلم بالنجوم- فعيسى - عليه السلام - لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم، ثم عرف ذلك وأنبأهم بذلك - دل أنه إنما علم ذلك باللَّه؛ فكان آية، وباللَّه التوفيق.
مع ما كان في قومه أطباء وحكماء وبصراء - لم يَدَّعِ أحد شيئًا من هذه الآيات التي جاء بها عيسى - عليه السلام - دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا به.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصة.
وقوله (بِإِذْنِ اللَّهِ).
قيل: بأمر اللَّه.
377
الآية ٤٩ وقوله تعالى :﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل ﴾ أي جعله رسولا إلى بني إسرائيل، وهذا أيضا بشارة لها منه، وكان عيسى، صلوات الله على نبينا وعليه، من أول أمره إلى آخره آية، لأنه ولد من غير أب على خلاف ما كان سائر البشر﴿ ويكلم الناس في المهد ﴾ [ آل عمران : ٤٦ ] وأقر بالعبودية له، ولم يكن لأحد من البشر ذلك، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإنباء ما كانوا يأكلون، ويدخرون، وما كان له مأوى يأوي إليه، ولا عيش /٥٩- ب/ يتعيش هو به، والبشر لا يخلو عن ذلك، ثم ألقي شبهة على غيره، فقتل به، ورفع هو إلى السماء، وذلك كله آية، وكانت آياته كلها حسية يعلمها كل أحد، وآيات رسول الله، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، كانت حسية وعقلية. أما الحسية فهو انشقاق القمر [ ونبع الماء من بين أصابعه ]١ وكلام الشاة المسمومة وقطع مسيرة شهر في ليلة وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها، هذه كلها كانت حسية. وأما العقلية فهذا القرآن الذي ينزل عليه، وهو بين أظهرهم، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء يتلو عليهم
[ قوله ]٢ :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ الآية [ يونس : ٣٨ ] وقوله :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] ؛ فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله لجهدوا كل جهد، وتكلفوا كل تكلف، حتى يطفئوا هذا النور ليتخلصوا من قتلهم وسبي ذراريهم واستحياء نسائهم، فلما لم يفعلوا ذلك دل أنه آية معجزة، عجزوا عن إتيان مثله. فأي آية أعظم من هذا ؟ وبالله النجاة.
وقوله تعالى :﴿ أني جئتكم بآية من ربكم ﴾ أي بعلامة أني رسول منه إليكم. ثم فسر٣ الآية، فقال :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾ وقوله٤ :﴿ أني أخلق لكم ﴾ هو على المجاز لا على التخليق والتكوين [ لوجهين :
الأول ]٥ : لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق، وإنما هو من فعل الله جل وعلا لأن التخليق هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وذلك فعل الله [ سبحانه وتعالى ]٦ لا يقدر المخلوق على ذلك، فهو على المجاز. ألا ترى أنه قال في آخره :﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ ؟ [ آل عمران : ٥٠ ]، وليس إلى الخلق٧ تحليل شيء أو تحريمه، إنما ذلك إلى الله جل وعلا فمعناه أني أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم. فعلى ذلك قوله :﴿ أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ﴾ أي أظهر لكم بيدي ما خلق الله من الطين طائرا، فيكون آية لرسالتي إليكم، وكذلك الآيات ليس مما ينشئ الأنبياء، ولكن تظهر على أيديهم. وإنما لم تجز إضافة التخليق إلى الخلق لما ذكرنا أنه إخراج الشيء من العدم على الوجود، وذلك ليس إلى الخلق.
والثاني : أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير الله لا يخرج على تقديره، كذلك لم تجز إضافة ذلك إلى الخلق إلا على طريق المجاز، والله أعلم.
قال الشيخ، رحمه الله :[ الخلق اسم ]٨ المجاز والحقيقة، والتخليق فعل الحقيقة خاصة، وآيات الأنبياء عليهم السلام هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد بينهم يجزيهم الله جل وعلا على أيديهم. إن ذلك [ لم يكن بهم إنما كان ذلك ]٩ بالرسل الذين أرسلهم ليدل على صدقهم، ولا قوة إلا بالله. وإبراء الأكمه والأبرص هو من آيات النبوة لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم، فإن قيل : إن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة لعجزهم عن إتيان مثله وخروجهم عن المعتاد في ما بينهم، ولكن أنباء ما يأكلون، ويدخرون ما١٠ كان من آيات النبوة ؟ ويجوز أن يكون ذلك من منجم، قيل : له جوابان، إن كان يكن١١ مثل ذلك في النجوم.
أحدهما : أنه مضموم إلى الآيات، فصار آية بما ضم إليها.
والثاني : أن هذا، وإن كان بعلم النجوم، فعيسى، صلوات الله عليه، لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم، ثم عرف ذلك، وأنبأهم بذلك، دل أنه إنما علم ذلك بالله، فكان آية، وبالله التوفيق، مع ما كان في وقومه أطباء وحكماء وبصراء لم يدع أحد شيئا من هذه الآيات التي جاء بها١٢ عيسى عليه السلام دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية، ولكنهم تعاندوا، وكابروا، فلم يؤمنوا به١٣.
وقوله تعالى :﴿ بإذن الله ﴾، قيل : بأمر الله، وقيل : بمشيئة الله. واختلف في الأكمه : عن مجاهد : قال :( الأكمه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل ) وعن ابن عباس رضي الله عنه :( الأكمه الأعمى الممسوح العين ) وقيل : هو الذي ولد من١٤ أمه أعمى، لا يتلكف أحد من الأطباء إبراء مثله، ولا اشتغل به، وإنه دل أنه عرف ذلك بالله تعالى، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة، وأما ما كان خلقه من جبلة فلا.
وقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ قيل : قال إن هذا آية لكم إن كنتم صدقتم أني رسول الله إليكم، وقيل : قال :﴿ إن في ذالك لآية لكم ﴾ في رسالتي ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ بالرسل، ويحتمل : إن كنتم تؤمنون : أي بالآيات أنها تعرف ما جعلت١٥ له، والله أعلم.
١ من م..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، في الأصل: فئة..
٤ الواو ساقطة من الأصل..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في م: تعالى..
٧ من م، في الأصل: التخليق..
٨ من م، ساقطة في الأصل..
٩ من م، ساقطة في الأصل..
١٠ في الأصل وم: لم..
١١ في الأصل وم: يكون..
١٢ في الأصل وم: به..
١٣ تكرر بعدها في الأصل وم العبارة المدرجة آنفا: قال الشيخ.. الخلق اسم.. حقيقة خاصة..
١٤ في الأصل: في..
١٥ في الأصل جعلتهم، في م: جعلن..
وقيل: بمشيئة اللَّه.
واختلف في " الأكمه ":
عن مجاهد، قال: " الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل ".
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الأكمه: الأعمى الممسوح العين "، وقيل: هو الذي ولد من أمه أعمى لا يتكلف أحد من الأطباء إبراء مثله، ولا اشتغل بدوائه، دل أنه عرف ذلك باللَّه تعالى، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة، وأما ما كان خلقة من جِبِلَّة - فلا.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ):
قيل: قال: إن هذا آية لكم؛ إن كنتم صدقتم أني رسول اللَّه إليكم.
وقيل: قال: إن في ذلك لآية لكم في رسالتي؛ إن كنتم مؤمنين بالمُرسِل.
ويحتمل (إن كنتم تُؤمِنُونَ) أي: بالآيات أنها تُعَرِّفُ مَا جُعِلْنَ له، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ... (٥٠)
الآية: ما ذكر.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ):
يحتمل: فاتقوا اللَّه في تكذيبي في الآيات، و (وَأَطِيعُونِ) في تصديقي.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) ظاهر، قد ذكرنا فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
وقوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ): قيل: أَحَسَّ: علم.
378
وقيل: أحسَّ: رأى؛ وهو كقوله: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).
وقيل: أحسَّ، أي: وجد، وهو قول الكيساني، وقيل: عرف؛ وهو كله واحد.
ثم قوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ):
يحتمل - واللَّه أعلم - أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ تكون لهم آية لرسالته وصدقه؛ ففعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من كفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا، فكفروا به؛ فعلم أن العذاب ينزل عليهم؛ فأَحبَّ أن يخرج بمن آمن به؛ لئلا يأخذهم العذاب، فقال: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؛ يؤيد ذلك قوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ...) الآية.
ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد همُّوا على قتله، قال عند ذلك: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؛ أحبَّ أن يكون معه أنصار مع اللَّه ينصرونه؛ فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم اللَّه على أعدائهم؛ ليظهر المؤمنون من غيرهم، وهو قوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
ومن الناس من يقول: إنه لم يكن في سُنَّةِ عيسى - عليه السلام - الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)، أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم؛ فلا يخلو إمَّا أن يكون قتالًا أو غلبة بحجة أو بشيء ما يقهرهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ):
اختلف في الحواريين:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هم القصَّارون الغسَّالون للثياب، ومبيضوها.
379
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إِنَّمَا سُمُّوا الحَوَارِيينَ؛ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِم "، وكانوا يصيدون السَّمك.
وقيل: الحواري: الوزير، والناصر، والخاص؛ على ما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِن لِكُلِّ نَبِي حَوَارِيِّينَ، وَحَوَارِيي فُلان وفُلان "، ذكر نفرًا من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين، - وإنما أراد - واللَّه أعلم - الناصر والوزير.
ويحتمل أن يكونوا سمُّوا بذلك؛ لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى - عليه السلام -. كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللَّه أعلم بهم.
وقوله: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)
إن اللَّه يتعالى عن أن يُنصَر، ولكن يحتمل (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)، أي: أنصار دين اللَّه، أو أنصار نبيه، أو أنصار أوليائه؛ تعظيمًا.
وكذلك قوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ): إن اللَّه لا يُنْصَرُ؛ ولكن يُنْصَرُ دِينُهُ أو رسلُهُ أو أولياؤه؛ وهو كقوله: (يخادعُونَ اللَّهَ): إن اللَّه لا يُخَادَعُ، ولا يمكر، ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه، أضاف ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لما نصروا دين اللَّه ونبيه ووليّه، أضاف ذلك إلى نفسه.
380
الآية ٥١ وقوله تعالى :﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾ ظاهر [ وقد ذكرناه ]١ في ما تقدم.
١ في الأصل وم: قد ذكرنا..
الآية ٥٢ وقوله تعالى :﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾ رأى، وهو كقوله :﴿ هل تحس منهم من أحد ﴾ [ مريم : ٩٨ ] وقيل :﴿ أحس ﴾ أي وجد، وهو قول الكسائي، وقيل : عرف : وهو كله واحد.
ثم قوله :﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾ يحتمل، والله أعلم، أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم ﴿ مائدة من السماء ﴾ [ المائدة : ١١٢ ] تكون لهم آية لرسالته وصدقه، ففعل الله جل وعلا ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من يكفر١ منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا٢، فكفروا به، فعلم أن العذاب ينزل عليهم، فأحب أن يخرج بمن آمن به لئلا يأخذهم العذاب، فقال :
﴿ قال من أنصاري إلى الله ﴾ يؤيد ذلك قوله :﴿ فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم ﴾ الآية [ الصف : ١٤ ]، ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد هموا بقتله٣ قال عند ذلك :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾ أحب أن يكون معه أنصار إلى٤ الله ينصرونه، فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم الله على أعدائهم، ليظهر المؤمنين٥ من غيرهم، وهو قوله :﴿ فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ﴾ [ الصف : ١٤ ].
ومن الناس من يقول : إنه لم يكن في سنة عيسى عليه السلام الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله :﴿ فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ﴾ [ الصف : ١٤ ] أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم فلا يخلو إما أن يكون قتالا وإما غلبة بحجة أو شيء مما يقهرهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ اختلف في الحواريين : قال بعضهم : هم القصارون الغسالون الثياب ومبيضوها. وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]٦ قال :( إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم، وكانوا يصيدون السمك ) وقيل : الحواري الوزير والناصر والخاص على ما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أن لكل نبي حواريين، وحواري فلان وفلان ) [ البخاري ٢٨٤٦ ] وذكر نفرا من الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإنما أراد٧، والله اعلم، الناصر والوزير. ويحتمل أن يكونوا سموا بذلك لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى رضي الله عنه كذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنه والله أعلم بهم.
وقوله تعالى :﴿ نحن أنصار الله ﴾ ؛ إن الله تعالى عن أن ينصر، ولكن يحتمل ﴿ نحن أنصار الله ﴾ أي أنصار دين الله وأنصار نبيه أو أنصار أوليائه تعظيما، وكذلك قوله :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾ [ محمد : ٧ ] [ إن الله لا ينصر ]٨ ولكن ينصر دينه أو رسله أو أولياؤه، وهو كقوله :﴿ يخادعون الله ﴾ [ البقرة : ٩ ] إنه٩ لا يخادع، ولا يمكن [ أن يخادع ]١٠ ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه أضاف ذلك إلى نفسه. فعلى ذلك لما نصروا دين الله ونبيه ووليه أضافه١١ إلى نفسه.
وقوله تعالى :﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾ الآية تنقض من يجعل الإيمان غير الإسلام لأنهم أخبروا أنهم آمنوا وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما /٦٠-أ/، وكذلك قوله :﴿ فأخرجنا من كل فيها من المؤمنين ﴾ ﴿ فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ﴾ [ الذاريات : ٣٥ و ٣٦ ] لم يفصل بينهما، وجعلهما واحدا، وكذلك قول موسى لقومه :﴿ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ﴾ [ يونس : ٨٤ ] لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقا، وهو قوله : إن العمل فيهما واحد، لأن الإيمان بأن تصدق بأنك عبد الله، والإسلام هو١٢ أن تجعل نفسك لله سالما، وقيل : الإيمان اسم [ ما ]١٣ بطن، والإسلام اسم ما ظهر. ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة وفي الإيمان
[ التصديق ]١٤ ؟
١ في الأصل وم: كفر..
٢ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿قال الله إني منزلها غذعليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين﴾ بالمائدة: ١١٥]..
٣ في الأصل وم: على قتله..
٤ في الأصل وم: مع..
٥ في الأصل وم: المؤمنون..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ من م، في الأصل: أرادوا..
٨ من م..
٩ من م، في الأصل: أن..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل وم: أضاف..
١٢ في الأصل وم: و..
١٣ من م..
١٤ من م..
وقوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الآية:
ينقض قول من يجعل الإيمان غير الإسلام؛ لأنهم أخبروا أنهم آمنوا، وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما، وكذلك قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦): لم يفصل بينهما، وجعلهما واحدًا، وكذلك قول موسى لقومه: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ): لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقًا، وهو قولنا: إن العمل فيهما واحد؛ لأن الإيمان: بأن تصدق بأنك عبد اللَّه، والإسلام: أن تجعل نفسك لله سالمًا.
وقيل: الإيمان: اسم ما بطن، والإسلام: اسم ما ظهر؛ ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة، وفي الإيمان التصديق؟!.
وقوله: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ... (٥٣)
يعني - واللَّه أعلم -: بما أنزلت من الكتب السماوية التي أنزلها على الرسل جميعًا، فإن أرادوا بما أنزلت على عيسى - عليه السلام - فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل: إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعًا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
وقوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ).
مكروا بنبي اللَّه عيسى - عليه السلام - حيث كذبوه وهمُّوا بقتله، (وَمَكَرَ اللَّهُ)، أي: يجزيهم جزاء مكرهم؛ وإلا حرف المكر مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يسمى الله به إلا في موضع الجزاء؛ على ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع الجزاء؛ كقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ...)، والاعتداء منهي عنه غير جائز؛ كقوله: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)؛ فكان قوله:
الآية ٥٤ وقوله تعالى :﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ مكروا بنبي الله عيسى عليه السلام حين كذبوه، وهموا بقتله، ﴿ ومكر الله ﴾ أي يجازيهم جزاء مكرهم، وحرف١ المكر مذموم عند الخلق، فلا يجوز أن يسمى الله به إلا في موضع الجزاء على ما ذكره جل وعلا في موضع الجزاء كقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] والاعتداء منهي [ عنه ]٢ غير جائز كقوله :﴿ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾
[ البقرة : ١٩٠ ] فكان قوله :﴿ فاعتدوا عليه ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] هو جزاء الاعتداء، فيجوز. فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء لا يجوز أن يسمى [ الله ]٣ به، فيقال : يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ لأنها حروف مذمومة عند الناس، فيشتم بعضهم بعضا بذلك، لذلك لا يجوز أن يسمى الله به إلا في موضع الجزاء، وبالله العصمة.
وقوله تعالى :﴿ والله خير الماكرين ﴾ أي خير المجيزين، [ يجازي ]٤ أهل الجور بالعدل وأهل الخير بالفضل، وقيل :﴿ ومكروا ﴾ حين كذبوه، وهموا بقتله، ﴿ ومكر الله ﴾ حين رفع الله عيسى عليه السلام، وألقى شبهة على رجل منهم، حتى قتلوه، فذلك خير لعيسى عليه السلام من مكرهم، وقيل :﴿ ومكروا ﴾ أي قالوا ﴿ ومكر الله ﴾ قال الله : قولهم الشرك، وقال لهم : قولوا [ قول ]٥ التوحيد ﴿ والله خير الماكرين ﴾ أي خير القائلين.
قال الشيخ، رحمه الله :﴿ والله خير الماكرين ﴾ بما بالحق يمكر، ويأخذ من استحق الأخذ، وهم لا، والله أعلم. والمكر هو الأخذ بالغفلة، والله يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون، فسمي مكرا لذلك كما يقال : امتحنه الله، وهو الاستظهار، ولكن يراد به هذا في الله.
١ في الأصل وم: والأحرف..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ...) هو جزاء الاعتداء؛ فيجوز؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء: لا يجوز أن يسمى به، فيقال: يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ؛ لأنها حروف مذمومَة عند الناس؛ فيَشْتُمُ بعضهم بعضًا بذلك؛ لذلك لا يجوز أن يسمّى اللَّه - تعالى - به إلا في موضع الجزاء. وباللَّه العصمة.
وقوله: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ):
أي: خير الجازينَ أهل الجور بالعدل، وأهل الخير بالفضل.
وقيل: (وَمَكَرُوا)؛ حيث كذبوه وهمَّوا بقتله، (وَمَكَرَ اللَّهُ)؛ حيث رفع الله عيسى - عليه السلام - وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه؛ فذلك خير لعيسى - عليه السلام - من مكرهم.
وقيل: (وَمَكَرُوا)، أي: قالوا، (وَمَكَرَ اللَّهُ): قال اللَّه. وقولهم الشرك، وقال لهم: قولوا التوحيد.
(وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، أي: خير القائلين.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)؛ بما بالحق يمكر، ويأخذ من استحق الأخذ، وهم لا، واللَّه أعلم.
والمكر: هو الأخذ بالغفلة، واللَّه يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون؛ فسمي مكرًا لذلك؛ كما يقال: امتحنه اللَّه وهو الاستظهار، ولكن لا يراد به هذا في حق اللَّه.
وقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (٥٥)
اختلف فيه: قيل: هو على التقديم والتأخير: ورافعك إليَّ، ثم متوفيك بعد نزولك من السماء، ولكن هو التقديم والتأخير، ولم يكن في الذكر فهو
382
سواء؛ لأنا قد ذكرنا أنْ ليس في تقديم الذكر، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك؛ لأنه كَمْ مِنْ مُقَدَّمٍ في الذكر هو مؤخَّر في الحكم، وكم من مؤخَّر في الذكر هو مقدَّم في الحكم، فإذا كان كذلك: لم يكن في تقديم ذكر الشيء، ولا في تأخيره - ما يدل على إيجاب الحكم كذلك؛ كقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا): فإنما هو قبض الأرواح؛ فيحتمل الأول كذلك، ويحتمل توفي الجسم، أي: متوفيك من الدُّنيا، أي: قابضك، وليس بوفاة موت.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)، أي: مميتك وهو ما ذكرنا؛
383
ليعلم أنه ليس بمعبود.
وقوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ):
هو على تعظيم عيسى - عليه السلام - ليس على ما قالت المشبهة؛ بإثباتها المكان له؛ لأنه لو كان في قوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) يوجب ذلك، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - قال:
(إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)، والكفرة إليه قريب منه؛ كقوله: (ثُمَّ
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)؛ دل هذا أن ما قالوا خيال فاسد - تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا - ولكن على التعظيم والتبجيل، أعني: المضاف إليه.
والأصل في هذا: أن الخاص إذا أضيف إلى اللَّه فإنما يراد به تعظيم ذلك الخاص؛ نحو ما قال: " بيت اللَّه "؛ على تعظيم البيت، (نَاقَةَ اللَّهِ)؛ فهو على تعظيم الناقة، ونحوه مما يكثر وقوعه.
وإذا أضيف الجماعة إليه، فهو على إرادة تعظيم الربِّ - جل ثناؤه - نحو: (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحوه؛ كله على إرادة تعظيم الربِّ، جل ثناؤه.
وقوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا):
قيل فيه بوجوه:
قيل: مطهرك من أذى الكفرة، من بين أظهر المخالفين لك.
وقيل: ومطهرك من الكفر والفواحش، ويحتمل: مطهرك مما قالوا فيك.
وقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
يحتمل: يجعله فوق الذين كفروا بالقهر والغلبة والقتل، ويحتمل: بالحجة، ويحتمل: في المنزلة والدرجة في الآخرة.
384
ويحتمل قوله: (وَمُطَهِّرُكَ) بقتل الكفرة من وجه الأرض؛ على ما ذكر في بعض القصة: أنه ينزل من السماء، فلا يبقى على وجه الأرض كافر إلا وهو يقتله مع الذين اتبعوه؛ فذلك تَطْهِيرُهُ وَجَعْلُ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا.
وقوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)
ذكر هذا - واللَّه أعلم - وإن كان المرجع للكل إليه في كل حال؛ لأنهم يُقِرُّونَ ويعترفون في ذلك اليوم أن المرجع إليه، وكانوا ينكرون ذلك في الدُّنيا؛ وهو كقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، الملك كان في ذلك اليوم وفي غير ذلك اليوم، ولكن معناه: لا ينازعه أحد يومئذ في ملكه، ويقرون له بالملك، وفي الدُّنيا أنكروا ملكه؛ وهو كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، كلهم بارزون لله في كل وقت؛ لكنهم أنكروا بروزهم في الدنيا له؛ فيقرون يومئذ بالبروز له؛ فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
يحتمل: أحكم بينكم مَنِ المحقُّ منكم، ومَنِ المبطلُ.
ويحتمل: أحكم بينكم: أي: أجزيكم على قدر أعمالكم.
ويحتمل: أحكم بينكم أي، أجزي كلا بعمله على ما يستوجبون.
وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآية:
وقوله: (فِي الدُّنْيَا)، قيل: القتل، والجزية، وفي الآخرة: العذاب.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) فقوله: (مُتَوَفِّيكَ):
385
يحتمل تَوَفِّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر؛ تكذيبًا لمن ظن أنه اللَّه، أو ابنه، لا يحتمل أن يموت، وقد ألزمهم هذا أيضًا بوجهين ظاهرين -وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره. ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة- كفاية لمن يعقل الحقائق، وبُلْغَة لمن تأمَّل الأشياء عبرا.
أحدهما: بقوله: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، وقوله: (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) حتى ينطق به لسان كل منهم، ومعلوم إحالة ابن بشر إلهًا أو ولدًا لإله؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه، وكذلك قوله في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ): إلى آخر ما ذكر، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم - عليه السلام - الذي هو الأصل، هو المقدم، وهو الذي لا يعرف له وَالِدَانِ أحق أو هو؟ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير، أو ذلك وصف الأولاد، واللَّه أعلم.
والثاني: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ): فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية. ثم في ذلك حاجة إلى الخلاء، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته، وباللَّه التوفيق.
والثالث: على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه، ورفعه إلى ما به شرفه، وتطهيره مما كان يحسُّ منهم من الكفر وأنواع الفساد، وختمه من بين البشر على وجه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات، وعلى مخالفيه في قطع العذر. ولا قوة إلا باللَّه.
وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناد، وفي تخلفهم عن ذلك دليل
386
علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وُعِدوا بالنزول عليهم، ثم لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد؛ ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة، ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة؛ وإنَّمَا يكون بعد توفير الحجة وقطع الشبهة؛ ففي ذلك بيان أنه كانت ثَمَّ محاجاتٌ، حتى بلغ الأمر هذا، وعلى ذلك أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل؛ وإنما كان عند ظهور معاندتهم، وكثرة سفههم، حتى همّوا بالقتل، وأكثروا الأذى، وأكرهوا أقوامًا على الكفر، وأخرجوا رسول ربِّ العزة من بين أظهرهم بما راموا قتله، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران، فأذن الله تعالى عند ذلك بالقتال، وفتح الفتوح؛ ليكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة في التوحيد والرسالة، لكن على ما قال اللَّه - تعالى -: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، و (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، نهي عن التعمق والخوض فيما تقصر عنه الأفهام، وإن كان معلومًا أن لله حججًا ظاهرة وغامضة، ولا قوة إلا باللَّه.
وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: أنه يكون ذلك باللطف والرفق يرى المقصود به؛ ليقرر به عنده الحجة، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد.
فإن رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، يوعده بما جاء به التعليم من الضرب
387
الآية ٥٧ وقوله تعالى﴿ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ لأنه لا يحب الظلم.
والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا بكف شره عن غيره وتطهير الأرض منه؛ فإنه النهاية في القمع، والغاية فيما يحق من معاملة السفهاء، واللَّه أعلم.
لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية؛ بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير - واللَّه أعلم - لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولًا؛ ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ):
لأنه لا يحب الظلم.
* * *
قوله تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
وقوله: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ)، قيل: ذلك الذي ذكر في هذه الآية: نثلو عليك يا مُحَمَّد.
(مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)
هو المحكم، وقيل: (الْحَكِيم)، أي: من نظر فيه وتفكر يصير حكيمًا؛ كما قال: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، أي: يبصر فيه، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (٥٩)
قيل في القصة: إن نصارى من أهل نجران قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إنك تشتم صاحبنا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد، وهو يُحْيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير، فأرنا فيما خلق اللَّه عبدًا مثله يعمل
388
هذا، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية: وأمَّا التشبيه: فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)؛ ظنوا أن عيسى لما قال: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أنه رب وإله؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - أخبر أن ربه (الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)؛ فسموا عيسى إلهًا بهذا، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام؛ فلولا أنهم عرفوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإلا ما شبهوه به، تعالى اللَّه عن ذلك.
وأمّا القدرية: فلما لم يروا لله في أفعال العباد صنعًا؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة،
389
فلما رأوا ذلك من عيسى - عليه السلام - ظنوا أنه ربٌّ؛ لما لم يروا ذلك من غيره، ولو كانوا عرفوا اللَّه حق المعرفة، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله، ويكون مثله من كل أحد؛ وإنَّمَا الإحياء كان من اللًه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يدي عيسى - عليه السلام - وأظهره، وإنما كان من عيسى تصويره فقط؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يديه آيات لنبوته؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين: لكونه من غير أب، ولآياته.
ثم قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) - يحتمل وجهين - واللَّه أعلم -: أحدهما: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال صار آدم حيًّا من نفسه؛ لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا: إن عيسى لمّا صوَّر ذلك الطير من الطين، صار محييًا له بتصويره إياه دون إحياء اللَّه - تعالى - إياه؟! واللَّه أعلم.
والثاني: أن آدم - عليه السلام - خُلِقَ لا من أب وأم، ثم لم تقولوا: إنه ربٌّ
390
الآية ٥٩ وقوله تعالى :﴿ إن مثل عيس عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ﴾ قيل في القصة : إن نصارى من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أنت١ تشتم صاحبنا عيسى ابن مريم { عليه السلام ]٢ ؛ تزعم أنه عبد، وهو يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين [ طيرا، فأرنا في ما ]٣ خلق الله عبدا مثله يعمل هذا.
والنصارى في الحقيقة مشتبهة وقدرية، وأما التشبيه فإنما علمهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم [ صلوات الله عليه ]٤، حين قال :
﴿ ربي الذي يحي ويميت ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] ظنوا أن عيسى لما قال :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ] أنه رب وإله، لأن إبراهيم عليه السلام أخبر أن ربه ﴿ الذي يحيي ويميت ﴾ فسموا عيسى إلها بهذا، وهم كانوا يرون عيسى يأكل، ويشرب، وينام، فلولا أنهم عرفوا الله جل وعلا [ ما تشبهوه ]٥ به، تعالى الله عن ذلك.
وأما القدرية فلما يروا الله في أفعال العباد، وإنما رأوا ذلك للحق خاصة، فلما رأوا ذلك من عيسى عليه السلام ظنوا أنه رب لما لو يروا ذلك من غيره، ولو كانوا عرفوا الله حق المعرفة لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله، ويكون مثله من كل واحد٦، وإنما الإحياء كان من الله جل وعلا أجراه٧ على يدي عيسى عليه السلام [ إذ له ]٨ تصويره فقط، وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الله جل وعلا أجراه على يديه آيات لنبوته، لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين : لكونه من غير أب، ولآياته.
ثم قوله :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ يحتمل وجهين : والله أعلم :
أحدهما : أن الله جل وعلا صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال : صار آدم حيا من نفسه لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا : إن عيسى لما صور ذلك الطير صار محييا بتصويره إياه دون إحياء الله تعالى إياه، والله أعلم ؟
والثاني : أن آدم عليه السلام خلق من لا أب وأم، ثم لم تقولوا : إنه رب أو إله، كيف قلتم في عيسى : إنه إله ؟ وإنه٩ خلق لا من أب، إذ عدم الأبوة في آدم لم توجب أن يكون ربا، كيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربا وإلها ؟ والله الموفق، وإنما كان عيسى بقوله :﴿ كن ﴾ كما كان آدم أيضا ب ﴿ كن ﴾ من غير أب.
وقوله تعالى :﴿ كن ﴾ قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب، يعبر، فيؤدي المعنى، فيفهم المراد إلا أن كان من الله جل وعلا كاف نون أو وقت أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى الله عن ذلك١٠.
وقوله تعالى :﴿ فيكون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يحتمل ﴿ فيكون ﴾ بمعنى كان، والعرب تستعمل ذلك، ولا تأباه١١.
والثاني : أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد. وأصل ذلك إذا ذكر الله، ووصف، ويذكر بلا ذكر وقت في الأزل، وإذا ذكر الخلق معه، يذكر الوقت، والوقت يكون للخلق بقول خالق لم يزل وخالق في وقت خلقه.
١ في الأصل وم: إن..
٢ ساقطة من م..
٣ في الأصل: فأنار فيها، في م: كهيئة الطير فيطير وفي ما..
٤ في م: عليه السلام..
٥ في الأصل: إلا يشبهوه، في م: إلا ما شبهوه..
٦ في م: أحد..
٧ في الأصل وم: جراه..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ من م، في الأصل: وإن..
١٠ أدرج تفسير هذا القول في تفسير الآية (١١٧) من هذه السورة البقرة والآية (٤٧) من هذه السورة..
١١ في الأصل وم: تأتي..
أو إله، فكيف قلتم في عيسى: إنه إله؛ وإنه خلق لا من أب؟ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربًّا؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربًّا وإلها؟! والله الموفق.
وإنما كان عيسى بقوله: " كن " - كما كان آدم، أيضًا، بـ " كن " - من غير أب.
وقوله: (كُن):
قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى؛ فيفهم المراد، لا أن كان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف، أو نون، أو وقت، أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى اللَّه عن ذلك.
وقوله: (فَيَكُونُ):
يحتمل وجهين:
يحتمل " يكون "، بمعنى: كان، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى.
والثاني: أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد، وأصل ذلك، إذا ذكر اللَّه ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت، والوقت يكون للخلق يقول: خالق لم يزل، وخالقه في وقت خلقه.
وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
يحتمل هذا وجوهًا:
يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد قال في عيسى ما قالوا، أي: لا تكن من الممترين في عيسى أنه عبد اللَّه خالصا، وأنه نبيه ورسوله إليكم.
ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمراد غيره؛ وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا رعيتهم شيئا، يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدرًا عندهم؛ استكبارًا منهم مخاطبة كل وضيع وسفيه؛ فكذلك (ولله المثل الأعلى)، اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خاطب نبيّه؛ إعظامًا له وإجلالًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم أن العصمة لا تمنع الأمر ولا النهي؛ بل تزيد أمرًا ونهيًا،
وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين أبدًا، واللَّه الموفق.
وقوله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ (٦١)
دعاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المباهلة، فالمباهلة في لغة العرب: الملاعنة، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك؛ خوفًا منهم لحوق اللعنة؛ فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاندوا، وكابروا؛ فلم يقروا بالحق.
وقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (٦٢)
يعني: الخبر الحق.
وقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ):
ظاهر، قد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم.
وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)، يحتمل: خبر الحق في أمر عيسى - عليه السلام - أنه كان عبدًا بشرًا نبيَّا، (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، أي: لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم في القول فيه بهذا الوصف على الشك في الخبر الَّذِي جاءك عن اللَّه؛ كقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ
الآية ٦٢ وقوله تعالى :﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾ يعني الخبر الحق. وقوله تعالى :﴿ وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ ظاهر، وقد ذكرناه فيما تقدم، والله أعلم.
الآية ٦٣ وقوله تعالى :﴿ الحق من ربك ﴾ [ آل عمران : ٦٠ ] يحتمل خبر الحق في أمر عيسى عليه السلام أنه كان عبدا بشرا نبيا ﴿ فلا تكن من الممترين ﴾ أي لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم من القول فيه بهذا الوصف على الشك في الخبر الذي جاء عن الله كقوله :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ﴾ [ هود : ١٢ ] إلى آخره على الموعظة، لا على أنه يكون كذلك، أو على ما سبق ذكره، والله أعلم.
يحتمل ﴿ الحق من ربك ﴾ [ آل عمران : ٦٠ ] أي كل حق هو عن الله، جائز إضافته إليه على الوجوه التي تضاف إليه، والباطل من الوجه الذي هو باطل، فلا تكونن في ذلك من الممترين، والله أعلم.
جائز أن يقول : جعل الله ذلك الفعل ممن فعله باطلا، ولا يقال : الباطل من الله.
مَا يُوحَى إِلَيْكَ) إلى آخره: على الموعظة، لا على أنه يكون كذلك، أو على ما سبق ذكره، واللَّه أعلم.
ويحتمل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)، أي: كل حق فهو عن اللَّه جائز إضافته إليه، على الوجوه التي تضاف إليه، الباطل من الوجه الذي هو باطل، (فَلَا تَكُنْ) في ذلك (مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، واللَّه أعلم.
وجائز أن يقول: جعل اللَّه ذلك الفعل ممن فعله باطلًا، ولا يقال: الباطل من اللَّه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ):
يعني: كلمة الإخلاص والتوحيد، (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، أي: عدل، أي: تلك الكلمة عدل بيننا وبينكم؛ لأنهم كانوا يقرون أن خالق السماوات والأرض: اللَّه، بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وكذلك يقرون أن خالقهم اللَّه، بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، لكن منهم من يعبد دون اللَّه أوثانًا، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ومنهم من يجعل له شركاء وأندادًا يشركهم في عبادته، فدعاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ألا يجعلوا عبادتهم لغير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة لا تكون إلا لله الذي أقروا جميعًا أنه خالق السماوات والأرض، وأنه ربهم، وألا يصرفوا عبادتهم إلى غير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة هي لشكر وجزاء ما أنعم عليهم.
(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ لأن العبادة لواحد أهون وأخف من العبادة لعدد، وأن صرف العبادة إلى من أنعم عليكم أولى من صرفها إلى الذي لم ينعم عليكم؛ إذ ذاك جور وظلم في العقل أن ينعم أحد على آخر، فيشكر غيره.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: العدل في اللغة: وضع الشيء في موضعه، وفي إخلاص العبادة لله والتوحيد - ذلكَ وهذا معنى سواء. وجائز أن تكون كلمة يستوي فيها أنها عدل ما شهد لنا بهذا كل أنواع الحجج.
وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا):
يحتمل: تولوا عن طاعة اللَّه وتوحيده، وصرف العبادة إليه.
(فَقُولُوا).
كذا.
ويحتمل: فإن تولوا عن المباهلة والملاعنة - فقولوا (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي: مخلصون العبادة له، صادقون الشكر على ما أنعم علينا، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: فإن تولوا عن قبول ما دعوتهم إليه من الاجتماع على الكلمة.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ).
قيل: وذلك أن اليهود قالوا: إن إبراهيم كان على ديننا اليهودية، والنصارى ادعت أنه كان على دينهم ومذهبهم، ليس على دين الإسلام؛ فنزل قوله: (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) يعني: في دين إبراهيم.
(وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يعني: من بعد إبراهيم، وهو يحتمل وجهين:
يحتمل: أن التوراة والإنجيل إنما نزلا من بعده، وأنتم لم تشهدوه - يعني: إبراهيم - حتى تعلموا أنه كان على دينكم، لم تقولون بالجهل أنه كان على دينكم؟!.
ويحتمل: (وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ)، أي: أن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعد موته، وكان فيهما أنه كان حنيفًا مسلمًا
(أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
وأنه كان حنيفًا مسلمًا؟! ثم أكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقال:
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفي هذه الآية دلالة أنهم علموا أنه كان مسلمًا، لكن ادعوا ما ادعوا متعنتين؛ حيث لم يقابلوا بكتابهم بالذي ادعوا من نعته، وبخلاف ما ادعى عليهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نعته.
وفيه دلالة الرسالة؛ إذ في دعواهم أنّ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعرف نعته بهم، لما ادعوا هم غير الذي ادّعى؛ فثبت أنه عرف باللَّه، وذلك علم الغيب، واللَّه الموفق.
وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (٦٦)
وهو ما ذكرنا، وفيه دلالة جواز المحاجة في الدِّين على العلم به، وإنما نهي هَؤُلَاءِ عن المحاجة فيما لا علم لهم؛ ألا ترى أن الرسل - عليهم السلام - حاجوا قومهم: حاج إبراهيم قومه في اللَّه، وذلك قوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) وموسى - عليه السلام - حاج قومه، وما من نبي إلا وقد حاج قومه في الدِّين؛ فذلك يبطل قول من يأبى المحاجة في الدِّين.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وأيد الحق أنه كذلك - عجزُ البشر عن إيراد مثله، وعجزهم عن المقابلة بما ادعوا أنهم عرفوه باللَّه.
وقوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا (٦٨)
395
وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر وأطاعه؛ فهو أولى به، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذين آمنوا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هم المتبعون له؛ فهم أولى به.
وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)
اختلف فيه؛ قيل: الولي: الحافظ.
وقيل: الولي: الناصر.
وقِيل: هو أولى بالمؤمنين، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقد يكون وليهم: بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم، وأظهر الحق في قولهم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في قوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...) الآية، وفي قوله: (لِمَ تُحَاجُّونَ..)، وفي قوله: (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ...) الآية، ونوع ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها أهل الكتاب - وجوهٌ من المعتبر.
أحدها: أن الذين خوطبوا بهذا الاسم كانوا معروفين، وأنه لم يخطر ببال مسلم أنه قصد به غير أهل التوراة والإنجيل، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس مما تضمنهم قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)؛ لكن بدليل آخر، وهو ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال " " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَاب، غَيرَ نَاكِحِي نِسائِهِم، وَلا آكِلي ذَبَائِحِهِمْ "؛ وعلى ذلك أيَّد قوله: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا)؛ ليعلم أن الكتاب المعروف وأهله: هَؤُلَاءِ، إن كانت ثَمَّ كتب وصحف، واللَّه أعلم.
والثاني: أن اللَّه خص أهل الكتاب بأنواع الحجج، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليوضح أنه -وإن كان مرسلا إلى جميع البشر- كان له التخصيص في المحاجة؛ وعلى ذلك عامة " سورة الأنعام " في محاجة أهل الشرك، على أن أهل المدينة كانوا أهل كتاب، وأهل مكة كانوا أهل شرك، فحاجَّ كلًّا بالذي هو أحق أن يكلم فيه، وإن كانت
396
الحجة تلزم الفريقين؛ لأن محاجة أهل الشرك أكثرها في التوحيد وأمرِ البعث، وعلى وجوده فيه: في أهل الكتاب بعض المشاركة لهم، ومحاجة أهل الكتاب بما في كتبهم، وفيه وجهان:
أحدهما: العلم بما قد غاب عنه السبب الذي يوصل إليه بالكسب؛ ليعلم أنه وصل إليه بالوحي؛ فيكون من ذلك الوجه حجة على الفريقين.
والثاني: ظهور سفه أهل الكتاب بوجه يُسقِطُ عند التأمل الريبةَ والمحلَّ الذي كان يمنعهم ذلك عن اتباعه، وذلك فيما مدح كتبهم، وشهد لها بالصدق والحق، وإظهار الإيمان برسلهم؛ ليعلم أنه ليس بين الرسل والكتب اختلاف في الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، وأن أُولَئِكَ إنما كذبوا؛ لتسلم لهم الرياسة، ثم -مع ذلك- ظاهروا أهل الشرك المكذبين لكتبهم ورسلهم؛ ليعلم كلُّ ذي عقل شبههم وتمردهم في الباطل؛ إذ ظاهروا أعداءهم في الدِّين على مَنْ الذي أظهروا موالاته في الدِّين ولى له؛ فيكون في ذلك أبلغ الزجر لمتعنتيهم، وأعظم الحجة عليهم فيما آثروا من السفه وتركوا الحق، والله أعلم.
وفي ذلك وجه آخر: أن أهل الشرك قد عرفوا حاجاتهم إلى أهل الكتاب في أمور الدِّين، وما عليه أمر السياسة؛ فيصير ما يلزم أُولَئِكَ من الحجة لازمةً لهم في محاجته بالذي في كتبهم - لزومَ الحجة، مع ما عليهم في ذلك بما قد (أقسموا باللَّه جهد أيمانهم) الآية، أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب؛ إذ تمنوا أن يكون منهم نذير فكان، وقد بلغ المبلغ الذي له ظهر بما خصوا من الحجج، وشاركوا أُولَئِكَ في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل، واللَّه أعلم، مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهر كتبهم، أخبر هو جميع ما في كتبهم بغير لسانهم؛ ليعلموا أنه أدرك ذلك ممن له حقيقة كتبهم، واللَّه أعلم.
وفي ذلك وجه آخر: أنه حاجهم بوجهين:
أحدهما: بالموجود في كتابهم، والمعروفِ عند أئمتهم من العلم بالكلمَة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر، وإخبارِ ما في كتبهم من أنواع البشارات به، ومن موافقة الكتب، وعلى ذلك أمر إبراهيم - عليه السلام - وغيرهم؛ ليكون أعظم
397
في الحجة، وأقطع للشغب، واللَّه أعلم.
والثاني: بما قد حرفوا من كتبهم، وبدلوا من أحكامهم، وحرفوا من صفته ونعته ونعت أُمَّته؛ ليعلم كلُّ متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم، والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم دفع دلك، ولا المقابلة في ذلك؛ ليعلم كل الخلائق: من انقاد لهم أو لا، أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سرٍّ ونجوى، ولا قوة إلا باللَّه.
مع ما في ذلك وجهان من المعتبر:
أحدهما: أن ذلك الزمان لم يكن زمان حِجاجٍ ونظرٍ في أمر الدِّين؛ إنما كان ذلك الزمانُ زمانَ تقليدٍ في أمر الدِّين، وتناهٍ في أمر الدنيا، وتفاخرٍ بكثرة الأموال والمواشي؛ فبعث اللَّه - تعالى - رسولًا نشأ من بين أظهرهم، دعاهم إلى ترك التقليد في الدِّين، واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي، وما فيه من حكمة الربوبية؛ فكيف والقوم أصحاب التقليد؟! إمّا ثقة بأئِمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة، وإما ثقة وإيمانًا بآبائهم فيما نشئوا عليه: أن الحق لا يشذ
398
عنهم، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعًا، لكنهم إذا لم يكونوا أهل نظر في الدّين ومحاجةٍ فيه، لم يعرفوا أن ذلك يمنعهم التقليد؛ فأظهر لهم الحجج، وأنبأهم بالمودع من حجاج أنبيائهم في كتبهم، وألزمهم أن في آبائهم من يلزم التقليد، كانوا أحق بذلك بما كان عندهم أن آباءهم كانوا على دينهم بما بيَّن من تغييرهم وتبديلهم، وتركِ الواجب عليهم من حق الاتباع، واللَّه أعلم.
والثاني: أن أظهر فيهم الاختلاف في أئمتهم، على ادعاء كل منهم أن ذلك هو الذي كان عليه الأنبياء والرسل في أهل الكتاب؛ وحاجات غيرهم بما ليس عندهم إلا آراء ليس عندهم فضل على القول، ثم كان معلومًا عند الاختلاف والتفرق؛ فصارت الحاجة قد عمتهم، والعلم بهم في لزوم الأحكام إلى من يدلهم على الحجة ويعرفهم الحق الذي قد تقرر عندهم؛ فبعث اللَّه بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجاج، وأراهم من علمه مما غيروا حِفظ ما كان عليه أوائلهم؛ فكان ذلك أظهر البيان، وأولى ما يعرف من أفضال اللَّه عليهم بالإغاثة، والامتنان عليهم بالفرج مما قد مستهم إليه الحاجة، ودفعهم إلى العلم به الفاقة، واللَّه الموفق.
وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره، وهو أنْ دعاهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها، وإلى الأخوة في الدِّين بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر، وتقابل القبائل، والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدّر عندهم: ما إليه ترجع عواقب أمرهم، وقام بذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل ذلك العصر آية سماوية خارجة عن وسع البشر؛ ليكون أقطع لعذرهم، وأسكن لقلوبهم إليه؛ فلله الحمد على ذلك.
وقوله، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ...) الآية.
قيل فيها بأوجه:
أحدها: أنها العدل، وهي كلمة التوحيد، وكانت عدلًا باتفاق الألسن؛ إذ سئلوا عمن خلق السماوات والأرض في الفزع إليه بالإجابة، وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر، واللَّه أعلم.
399
الآية ٦٧ ثم أكذبهم الله جل وعلا فقال :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ قال الشيخ، رحمه الله : وفي هذه الآية أنهم علموا أنه كان مسلما، لكن ادعوا ما ادعوا متعنتين إذ لم يقابلوا كتابهم١ بالذي ادعوا من نعته، وبخلاف ما ادعى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نعته، وفيه دلالة الرسالة إذ٢ في دعواهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف نعته بهم، لما [ في ]٣ دعواهم غير الذي ادعى، فثبت أنه عرف بالله، وذلك علم الغيب، والله الموفق.
١ في الأصل وم: بكتابهم..
٢ في م: أن..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
الآية ٦٨ وقوله تعالى :﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾ وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر، وأطاعه، فهو أولى به، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا، فأخبر جل وعلا أن الذين آمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم، هم المتبعون له، فهم أولى به.
وقوله تعالى :﴿ والله ولي المؤمنين ﴾ اختلف فيه : الولي الناصر، وقيل : هو أولى بالمؤمنين، وقد ذكرنا هذا في ما تقدم. وقد يكون وليهم١ بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم، وأظهر الحق في قلوبهم.
قال الشيخ، رحمه الله، في قوله تعالى :﴿ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾ [ آل عمران : ٦٤ ] الآية، وفي قوله٢ :﴿ لم تلبسون الحق بالباطل ﴾ [ آل عمران : ٧١ ] الآية، ونوع ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها أهل الكتاب وجوه من المعتبر :
أحدها : أن الذين خوطبوا بهذا الاسم كانوا معروفين، وأنه [ لم يخطر ببال مسلم أنه ]٣ قصد به غير أهل التوراة والإنجيل، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس مما تضمنهم قوله :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] لكن بدليل آخر، وهو ما روي عن نبي الله أنه قال :( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) [ البيهقي في الكبرى : ١٨٩ و ١٩٠ ] وعلى ذلك أيد قوله :﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ﴾ [ الأنعام : ١٥٦ ] ليعلم أن الكتاب المعروف وأهله هؤلاء، وإن كانت ثم كتب وصحف، والله أعلم.
والثاني : أن الله خص أهل الكتاب بأنواع الحجج، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوضح أنه، وإن كان مرسلا إلى جميع البشر كان له التخصيص في المحاجة. وعلى ذلك عامة سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك، [ على أن أهل المدينة كانوا أهل الكتاب، وأهل مكة كانوا أهل شرك، فحاج كلا بالذي فرض أن يتكلم فيه، وإن كانت الحجة تلزم الفريقين، لأن محاجة أهل الشرك ]٤ أكثرها في التوحيد وأمر البعث، وعلى وجوده فيه في أهل الكتب بعض المشاركة لهم، ومحاجة أهل الكتاب بما في كتبهم، وفيه وجهان :
أحدهما : العلم بما قد غاب عن السبب الذي يوصل إليه الكسب ليعلم أنه وصل إليه بالوحي، فيكون من ذلك الوجه حجة على الفريقين.
والثاني : ظهور سنة أهل الكتاب بوجه تسقط عند التأمل الريبة [ في المحل الذي ]٥ كان يمنعهم ذلك [ التأمل فيه ]٦ عن اتباعه، وذلك [ التأمل فيه ]٧ مديح كتبهم والشهادة٨ لها بالصدق والحق وإظهار الإيمان برسلهم ليعلم أنه ليس بين الرسل والكتب اختلاف في الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، وأن أولئك إنما كذبوا لتسلم لهم الرياسة، ثم مع ذلك ظاهروا أهل الشرك المكذبين لكتبهم ورسلهم ليعلم كل ذي عقل سفههم٩ في الباطل، إذ ظاهروا أعداءهم في الدين [ على الذين ]١٠ أظهروا الموالاة ١١في الدين [ ومن هو ]١٢ ولي له، فيكون ذلك أبلغ الزجر لمتعنتيهم وأعظم الحجة عليهم في ما آثروا من السنة، وتركوا الحق، والله أعلم.
وفي ذلك وجه آخر أن أهل الشرك قد عرفوا حاجاتهم إلى أهل الكتاب في أمور الدين وما عليه السياسة، فيصير ما يلزم أولئك من الحجة لازمة لهم في محاجته بالذي في كتبهم لزوم الحجة معا عليهم في ذلك بما أقسموا ﴿ بالله جهد أيمانهم ﴾ الآية [ فاطر : ٤٣ ] أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب إذ تمنوا أن يكون منهم نذير، فكان وقد١٣ بلغ المبلغ الذي ظهر بما خصوا من الحجج، وشاركوا أولئك في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل، والله أعلم. مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهرت١٤ كتبهم لغير لسانهم ليعلموا أنه أدرك١٥ ذلك بمن له حقيقة كتبهم، والله أعلم.
وفي ذلك وجه آخر أنه حاجهم بوجهين :
أحدهما : بالموجود في كتابهم والمعروف عند أئمتهم من العلم بالكلمة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر وإخبار ما في كتبهم من أنواع البشارات به ومن موافقة الكتب. وعلى ذلك أمر إبراهيم عليه السلام وغيره١٦ ليكون أعظم في الحجة وأقطع للشغب، والله أعلم.
والثاني : مما قد حرفوا من كتبهم، وبدلوا من أحكامهم، وحرفوا من صفته ونعت أمته ليعلم كل متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم، إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم /٦١-ب/ دفع ذلك ولا المقابلة في ذلك ليعلم كل الخلائق من انقاد لهم أولا أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سر ونجوى، ولا قوة إلا بالله، مع ما في ذلك وجهان من المعتبر.
أحدهما : أن ذلك زمان لم يكن زمان حجاج ونظر في أمر الدين، إنما كان [ ذلك الزمان تباهيا ]١٧ في أمر الدنيا وتفاخرا١٨ بكثرة الأموال والمواشي، فبعث الله تعالى رسولا صلى الله عليه وسلم١٩ نشأ من بين أظهرهم دعاهم إلى ترك التقليد واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي وما فيه من حكمة الربوبية، فكيف [ كان القوم ]٢٠ أصحاب التقليد : إما ثقة بأئمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة، وإما ثقة وأمنا٢١ بآبائهم في ما نشؤوا عليه أن الحق لا يشذ عنهم، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعا ؟ لكنهم إذا لم يكونوا أهل نظر في الدين ومحاجة فيه لم يعرفوا أن ذلك يمنعهم التقليد، فأظهر لهم الحجج٢٢، وأنبأهم بالمودع من حجاج أنبيائهم في كتبهم، وألزمهم أن في آبائهم [ من يلزم التقليد، كانوا أحق بذلك مما كان عندهم أن آباءهم ]٢٣ كانوا على دينهم بما [ هو ]٢٤ بين من تغييرهم وترك الواجب عليهم من حق الاتباع، والله اعلم.
والثاني : إذا ظهر فيهم الاختلاف في أئمتهم على ادعاء كل منهم ذلك هو الذي كان عليه الأنبياء والرسل٢٥ في أهل الكتاب، وحاجات غيرهم بما ليس عندهم إلا آراء٢٦ إباء إبليس عندهم، فضل على القول.
ثم كان معلوم عند الاختلاف والتقوى، فصارت الحاجة قد عمتهم، والعلم بهم في لزوم الأحكام إلى من يدلهم على الحجة، ويعرفهم الحق، قد تقرر عندهم، فبعث الله بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجج وأراهم من علمه مما غيره، وحفظ، ومما كان عليهم أوائلهم، فكان ذلك أظهر للبيان وأولى ما يعرف من إفضال الله عليهم بالإغاثة والامتنان عليهم بالفرح مما مستهم إليه الحاجة، ودفعتهم إلى العلم به الفاقة، والله الموفق.
وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره، وهو أن دعاءهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها، وإلى الآخرة في الدين، بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر وتقاتل٢٧ القبائل والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدر عندهم ما إليه ترجع عواقب الأمور، وقام ذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل العصر آية٢٨ سماوية خارجة عن وسع البشر ليكون أقطع لعذرهم وأسكن لقلوبهم إليه، فلله الحمد على ذلك.
وقوله تعالى :﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ﴾ الآية : قيل فيها بأوجه.
أحدها : أنها العدل، وهي كلمة التوحيد، وكانت عدلا باتفاق السنن٢٩ إذ سئلوا عمن خلق السموات والأرض في الفزع إليها بالإجابة وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر، والله أعلم. ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق، وإن خص به أهل الكتاب، والله أعلم.
وآخر٣٠ : أن يسوى فيها أنها حق وعدل، وهي عبادة الواحد الذي لم يختلف في أنه معبود، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة، فيرجع إلى حقيقة دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة. وهذا المعنى يلزم الجمع أيضا.
والثالث : أن يكون ﴿ إلى كلمة ﴾ ظهر أنها عدل في كتابهم. بها جاءت رسلهم، ونزلت بها كتبهم، ولا قوة إلا بالله.
١ في الأصل: من وليهم..
٢ في الأصل وم: قولهم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ في الأصل: والمحل، في م: والمحل الذي، والمحل هو منتهك الحرام..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: فيها..
٨ في الأصل وم: وشهد..
٩ في الأصل وم: شبههم..
١٠ في الأصل: من الذي، في م: من الذين..
١١ من م، في الأصل: موالاته..
١٢ ساقطة من الأصل وم..
١٣ من م، الواو ساقطة من الأصل..
١٤ في الأصل وم: ظهر..
١٥ في الأصل وم: أدركه..
١٦ في الأثل وم: وغيرهم..
١٧ في الأصل وم: الزمان في أمر الدين وتناهي..
١٨ في الأصل وم: وتفاخر..
١٩ ساقطة من م..
٢٠ في م: والقوم..
٢١ الواو ساقطة من الأصل وم..
٢٢ من م، في الأصل: الحجاج..
٢٣ من م..
٢٤ ساقطة من الأصل وم..
٢٥ من م، في الأصل: هو الرسل..
٢٦ في م: الأواء..
٢٧ في الأصل وم: وتقابل..
٢٨ من م، في الأصل: انه..
٢٩ من م، في الأصل: السن..
٣٠ في الأصل وم: وأجزي..
ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق، وإن خص به أهل الكتاب، واللَّه أعلم.
وأخرى: أن يستوي فيها أنها حق وعدل، وهي عبادة الواحد الذي لم يُختلَف في أنه معبود، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة يعبده، فيرجع إلى حقيقته دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة، وهذا المعنى يلزم الجمع، أيضًا.
والثالث: أن يكون إلى كلمة ظهر أنها عدل في كتابهم بما جاءت رسلهم، ونزلت بها كتبهم، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
قوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
وقوله: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ):
ذكر في القصة أن المشركين أخذوا عمارًا وحذيفة، فقالوا لهم: ديننا أفضل من دينكم، وأفضل من الأديان كلها؛ فنزل هذا.
والأشبه أن يكون مثل هذا من رؤساء أهل الكتاب، وعلماؤهم هم الذين يتولون مثل هذا العمل، وأمَّا الجهَّال منهم والرذلة، فإنهم لا يفعلون هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ):
الإضلال: قيل فيه بوجوه: قيل: الإضلال هو الإخمال؛ أرادوا أن يَخْمُلَ ذكرُهم، ولا يُذْكَرون بعدهم أبدًا، كما ذكر أُولَئِكَ.
وقيل: الإضلال: الإهلاك.
وقيل: الإضلال: هو التحير، وكل ضال طريقًا فهو متحير تائه، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي: ما يهلكون إلا أنفسهم وما يُخْمِلون إلا ذكر أنفسهم.
(وَمَا يَشْعُرُونَ)
أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم، أو يحيرون، وما يشعرون ماذا عليهم فيما ودّوا من أليم العقاب، واللَّه أعلم.
ويقال: نزلت في عبد اللَّه بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
قوله: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ): يحتمل وجوهًا:
يحتمل: وأنتم تشهدون تلك الآيات، وتعاينونها، وتعلمون أنها آيات، لكن تكابرون وتعاندون، ولا تؤمنون بها.
ويحتمل: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، أي: وأنتم تعلمون ما في التوراة والإنجيل: من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته - أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أفضل المخلوقات، وأنه حق، ولكن لا تتبعونه.
وقيل: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، أي: تعلمون أنها آيات؛ والآيات تحتمل: القرآن، وتحتمل: رسول اللَّه محمدًا. وتحتمل غيرها من الآيات التي جاء بها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم تكفرون بدين اللَّه، وأنتم تعلمون بدلالة الخلقة، وشهادة كتبكم أن دين اللَّه وتوحيده حق؟!.
وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
في الآية دلالة جواز هتك الستر، وإفشاء المكنون والمكتوم من الأمر؛ إذا كان في ذلك تحذير لغيرهم عن مثله، وترغيب لهم في المحمود من الفعل.
ثم فيه دلالة إثبات رسالة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه يخبرهم عما كانوا يكتمون وُيسِرُّون فيما بينهم، وذلك من إطلاع اللَّه إياه على ذلك. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): ذلك؛ ألا ترى أنهم لم يتعرضوا له بشيء من ذلك، فيقولوا: متى كتمنا الحق؟ ومتى لبسنا الحق بالباطل؟! فدل
الآية ٧١ وقوله تعالى :﴿ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ﴾ في الآية دلالة جواز هتك الستر١ وإفشاء المكنون من الأمر إذا كان في ذلك تحذير لغيرهم عن مثله وترغيب لهم في المحمود من الفعل، ثم فيه دلالة إثبات رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يخبرهم عما كانوا يكتمون، ويسرون في ما بينهم، وذلك من إطلاع الله إياه على ذلك٢. ألا ترى أنهم لم يتعرضوا له بشيء من ذلك، فيقولوا٣ : متى لبسنا الحق ؟ فدل أنهم علموا أنه الحق، وأنه رسول الله عليه السلام وذلك قوله :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ ثم علم ذلك يكون بأن كان ذلك في كتابهم، أو علموا بالآيات المعجزة، ويحتمل [ قوله ]٤ :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنكم تلبسون الحق بالباطل.
١ ساقطة من م..
٢ أدرج بعدها في م: ذلك قوله: ﴿وأنتم تعلمون﴾..
٣ في الأصل وم: فيقولون..
٤ ساقطة من الأصل وم..
أنهم علموا أنه حق، وأنه رسول اللَّه، وأن ذلك إنما عُلم بإله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، ثم عِلْمُ ذلك يكون بأن كان ذلك في كتابهم، أو علموا بالآيات المعجزة.
ويحتمل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) - ما جزاء من لَبَسَ الحق بالباطل وكتمه، واللَّه أعلم.
ويحتمل: وأنتم تعلمون أنكم تلبسون الحق بالباطل.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
وقوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)
وقيل فيه بوجوه، قيل: قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)، يعني: بأول أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا النهارَ نفسه، وذلك ما روي في القصّة أن بعضهم كان يقول لبعض: إن محمدًا كان على قبلتنا وقبلته بيت المقدس، ويصلي إليها، فآمنوا أنتم به، (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)، يعني: آخر أمره، يعنون قبلة: البيت الحرام الكعبة، أي: اكفروا بقبلته التي يصلي إليها الآن، وهي الكعبة.
وقيل: إن بعضهم يقول لبعض: آمنوا بمُحَمَّد في أول أمره؛ حتى يؤمن به جميع العرب، ثئم اكفروا به في آخر أمره؛ فيقولون لنا: لم كفرتم به ورجعتم عن دينه؟ فنقول لهم: إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته، فحسبنا أنه هذا؛ فآمنا به، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن نعته ولا صفته؛ فرجعنا عن دينه وكفرنا به؛ حتى يرجعوا جميعًا عن دينه؛ فذلك قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).
وقيل -أيضًا-: إن رءوس اليهود قالوا للسِّفْلة: صدِّقوا بالقرآن وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجه النهار، يعني: أول النهار، يعني: صلاة الغداة، فإذا كان صلاة العصر اكفروا به، فقولوا لهم: إن قبلة بيت المقدس كانت حقا؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ليرجعوا عن
402
دينهم.
فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ويسرون، فذلك من إطلاع اللَّه إياه.
ويحتمل قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ)، أي: أظهروا لهم الإسلام والموافقة، ولا تؤمنوا به في الحقيقة؛ يدل على ذلك قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) في الحقيقة، أي: آمنوا به ظاهرًا، وأمّا في الحقيقة فلا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم.
وقال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الآية -: يحتمل وجهين:
أحدهما: حقيقة النهار، ثم يتوجه وجهين:
أحدهما: أمر القبلة خاصّة، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم فيما خالفوا في ذلك، وإن علموا أن ذلك حق؛ ليشبهوا على الضعفة أنه لا تزال تنتقل من دين إلى دين، ومذهب إلى مذهب، وأن من لزم الدِّين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة، ولما لا يؤمن البقاء على الثاني، وهو كقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)؛ وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفهًا منهم؛ إذ ليس معنى التناسخ إلا اختلاف العبادات، لا اختلاف الأوقات، وذلك المعنى قائم، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ الأحوال في كل، على أن العبادات فيها المصلحة، ومن تعبَّدهم عالم بالذي به الأصلح في كل وقت، فله ذلك.
403
والثاني: أن يكون الذي أول النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق، وتعاهد الدِّين؛ فأمروا بالإيمان بذلك؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذُكر، وأنهم على ذلك، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بذل من أوائلهم وتحريفهم، إلا إن كانوا كذلك؛ ليُلزموهم التقليد في الأمرين، واللَّه أعلم.
وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعًا، ومع ما أن في القرآن وصفًا بتصديق كتبهم، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو ادُّعي عليهم. وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم، المكذبين برسلهم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغيًا وحسدًا، كما أخبر اللَّه - تعالى - عنهم.
والوجه الآخر من تأويل الآية: أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره، لا حقيقة بياض النهار.
ثم ذلك يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يكون دُعاه في أول الأمر إلى التوحيد، والإيمان بالكتب المتقدمة، وهم يدعون إلى ذلك؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم، لما أخذهم البغي وغلبهم الحسد، وخافوا على رياستهم، وأشففوا على ملكهم، وجزاء الشح، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم؛ فكذبوه في هذا، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق، ثم يكفرون به؛ ليكون الأول ذريعة لهم في الثاني؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك، فأطلع اللَّه نبيه - عليه السلام - على ما أسروا؛ ليصير ما ظنوا أنه حجة لهم حجة عليهم، وجملة ذلك: أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسرارًا أطلع اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليه؛ ليكون حجة له، وزجرًا لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله - عليه أفضل الصلوات - بما يهتك عليهم؛ فيفتضحون عند من راموا ستر
404
أمرهم، وتسقط رياستهم، واللَّه الموفق.
وقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ):
اختلف فيه، قيل: هو على التقديم والتأخير؛ قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) - كان على أثر قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ): يقول بعضهم لبعض: ما أنزل اللَّه كتابًا مثل كتابكم، ولا بعث نبيا مثل نبتكم؛ قالوا ذلك حسدًا منهم.
وقيل: إن هذا قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين: لما نزل قوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) - قال لهم: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، يقول: دين اللَّه الإسلام هو الذين (أَنْ يُؤْتَى)، يقول: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والكتاب الذي فيه الحلال والحرام، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قال: لن يؤتى أحد من الأنبياء قبلي من الآيات مثل ما أوتيت أنا؛ لأن آياتهم كانت كلها حسية يفهمها كل أحد، وآيات رسول اللَّه كانت حسية وعقلية لا يفهمها إلا الخواصُّ من الناس وخيرتُهم.
وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ):
راجع إلى قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) فـ (يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أنهم قد آمنوا به مرة وأقروا له؛ وهو كقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ): أنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان، ثم إذا خلوا قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)؛ فقال بعضهم لبعض: لا تظهروا لهم الإسلام؛ فيحاجوكم عند ربكم في الآخرة؟!.
وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)
هذه الآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الفضل ليس بيد اللَّه؛ وكذلك الاختصاص؛ إنما ذلك بيد الخلق؛ لأن من قولهم: إنه ليس على اللَّه أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، ليس له أن يؤتى أحدًا فضلًا، ولا له أن يختص أحدًا برسالة، إلا من هو مستحق لذلك مستوجب له؛ فذلك الفضل والاختصاص إنما استوجبوا بأنفسهم لا باللَّه، على قولهم، ففي الحقيقة الفضل عندهم كان بيدهم لا بيد اللَّه، فأكذبهم
405
اللَّه بذلك؛ إذ الفضل عند الخلق هو فعل ما ليس عليه لا ما عليه؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول، والزيغ عن الرشد.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ (٧٣) يحتمل أن يكون في السرّ، وإن أعطيتم لهم الظاهر.
ويحتمل: أن يكون بعد ما أظهرتم اكفروا آخره.
ويحتمل: لا تؤمنوا بما جاء به، إلا لأجل من تبع دينكم؛ فيكون عندهم قدوة، يتقرر عندهم -بالذي فعلتم- أنكم أهل الحق؛ فيتبعكم كيفما تصيرون إليه.
ويحتمل: (لا تؤمنوا): لا تصدّقوا فيما يخبركم عن أوائلكم، (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على المنع عن تصديق الرسول فيما يخبرهم من التحريف والتبديل، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ): يحتمل وجهين:
أحدهما: البيان هو ما بين اللَّه؛ إذ هو الحق، وكل ما فيه الصرف عنه فهو تلبيس وتمويه.
ويحتمل: أن يكون الدِّين هو الذي دعا إليه بما أوضحه وأنار برهانه، لا الدِّين الذي دعا إليه أُولَئِكَ المنحرفون.
(أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، أي: لن يؤتى - واللَّه أعلم - من الكتاب والحجج.
ويحتمل أن يكون صلة قوله: (إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ)، وهو دينه، أو ما دعا إليه، ثم يقول: (أَنْ يُؤْتَى) بمعنى: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أهل الإسلام من الحجج والبينات، التي توضح أن الحق في أيديكم.
وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ): فإن كان هو صلة الأوّل، و " أَو " بمعنى: " ليحاجوكم "، أو: " حتى يحاجوكم " إذا آمنتم بما دعوا إليه؛ فيحاجوكم بذلك عند ربكم، أي: إنما آمنتم بالذي جاء لكم من عند ربكم؛ فيصير ذلك لهم حجة عليكم.
وإن كان صلة الثاني، فهو على أنهم لا يؤتون مثل ما أوتيتم من الحجج؛ ليحاجوكم بها عند ربّكم في أن الذي هو عليه حق؛ لما قد ظهر تعنتهم وتحريفهم - واللَّه أعلم - ثم بين السبب الذي هو نيل كل خير وفضل، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (٧٤) ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين:
أحدهما: أنهم لا يرون لله أن يختص أحدًا -بشيء فيه صلاح- غيره صرفَهُ عن ذلك الغير، بل إن فعل ذلك كان محابيًا عندهم بخيلًا، بل في الابتداء لم يكن له ذلك؛ وإنما يعطى بالاستحقاق، وذلك حق يلزمه، وقد ذكر بحرف الامتنان.
وعندهم -أيضًا-: ليس له ألا يشاء أو لا يعطى؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك، بيد غيره إذ يلزم ذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: أن الذي يحق عليه - أن يبذل كُلا الأصلح في الدِّين، وأنه إن قَصَرَ أحدًا عن ذلك كان جائزًا، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد: يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء، واللَّه الموفق.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
وقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ):
والقنطار ما تقدم ذكره، (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ):
وصف - جلّ وعز - أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة، وبعضهم بالخيانة، وليس المراد من الآية - واللَّه أعلم - القنطار نفسه أو الدِّينار، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة، قلَّت الخيانة أو عظمت، وكذلك الأمانة؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدِّينار إذا خان، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك؟! دلّ أنه لم يرد به التقدير، ولكن على التمثيل، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
407
يَرَهُ)، ليس على إرادة الذرة؛ ولكن على التمثيل أن لعمل الخير والشر جزاء وإن قل؛ فكذلك الأول.
وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره؛ ولكن لمعنى فيه: بالاجتهاد يعرف لا بالنصوص، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الدِّينار عنده مستكثر يحلف عليه مدعيه عند المنبر، واللَّه - تعالى - جعله مستقلا.
وفيه دلالة -أيضًا- جواز شهادة بعضهم لبعض وعلى بعض، إن كانت فيهم
408
نزلت، على ما قاله بعض أهل التأويل؛ لأنه وصف - عَزَّ وَجَلَّ - بعضهم بالأمانة في المال، وإن كانت الأمانة لهم في الذين والشهادة أمانة، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة؛ على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - مثله في آية أخرى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ): وصف - عَزَّ وَجَلَّ - من آمن منهم بالعدالة والهدى، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن.
ويحتمل أن تكون الآية فيما ائتُمِنوا، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن ولا كفالة؛ وهو كقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ)
409
أمرهم بأداء الأمانة فيما ائتمنوا.
وقوله: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا):
قيل: ملازمًا، مواظبًا، ملحًّا، دائمًا، متقاضيًا. ومن عامل من المسلمين الناس هذه المعاملة يُخافُ دخوله في هذا النهي والوعيد.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلمًا، يقولون: لم يُجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمةُ أموالنا علينا؛ يقولون: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وأرادوا بالأمّيين: العرب؛ إذ ليس لهم كتاب.
وقيل: ذلك الاستحلال بأن قالوا: ليس علينا لله فيهم سبيل، وأرادوا بالأميين: المسلمين؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " نَحْنُ أمَّة أُمَيَّة؛ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ ".
وقيل: قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة؛ فأكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله:
410
الآية ٧٥ وقوله تعالى :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ﴾ والقنطار ما تقدم ذكره ﴿ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ﴾ وصف جل وعلا أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة وبعضهم بالخيانة، وليس المراد من الآية /٦٢-ب/ والله أعلم، القنطار نفسه والدينار، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة، قلت الخيانة، أو عظمت، وكذلك الأمانة. ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدينار إذا خان، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك ؟ دل أنه لم يرد به التقدير، ولكن على التمثيل، وهو كقوله جل وعلا :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾
[ الزلزلة : ٧ ] ليس على إرداة الذرة، ولكن على التمثيل لعمل الخير والشر جزاء وإن قل، فذلك الأول.
وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره، ولكن لمعنى فيه بالاجتهاد يعرف، لا بالنصوص. وعلى الشافعي رضي الله عنه أن الدينار مستكثر يحلف عليه مدعيه عند المنبر، والله تعالى جعله مستقلا. وفيه دلالة أيضا : جواز شهادة بعضهم لبعض وعلى بعض، إن كانت فيهم نزلت على ما قاله بعض أهل التأويل لأنه وصف جل وعلا بعضهم بالأمانة بالمال، وإن كانت الأمانة لهم في الدين، والشهادة أمانة، والله أعلم. ويحتمل في من أسلم منهم وصفه بالأمانة، ومن لم يسلم وصفه بالخيانة في غير آية من غير رهن ولا كفالة، وهو كقوله :﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] أمرهم بأداء الأمانة في ما ائتمنوا.
وقوله تعالى :﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾ قيل : ملازما مواظبا دائما متقايضا، ومن عامل من الناس المسلمين الناس هذه المعاملة يخاف دخلوه في هذا النهي والوعيد.
وقوله تعالى :﴿ ذالك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ قالوا ذلك لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلما، يقولون : لم يجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمة أموالنا علينا، يقولون :﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ [ المائدة : ١٨ ] أراد بالأميين العرب إذ ليس لهم كتاب، وقيل : ذلك الاستحلال بأن قالوا ليس علينا لله فيهم سبيل، وأرادوا بالأميين المسلمين على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ]١ قال :( نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ) [ البخاري : ١٩١٣ ] وقيل : قالوا لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة، فأكذبهم الله جل وعلا بقوله :﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ بأن ليس في كتابهم حرمة أموالهم ولا لهم عليهم سبيل ﴿ وهم يعلمون ﴾ أنهم يكذبون على الله جل وعلا.
١ ساقطة من الأصل وم..
(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ).
بأنْ ليس في كتابهم حرمة أموالهم، ولا لهم عليهم سبيل، وهم يعلمون أنهم يكذبون على اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
يحتمل قوله: " بلى "؛ ردا على قولهم: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)؛ بل عليكم سبيل فيهم، ثم ابتدأ الكلام فقال: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، أي: هَؤُلَاءِ الّذين يحبّهم اللَّه لا أنتم.
ويحتمل قوله: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ): الذي عليه في التوراة أمر بأداء الأمانة، وإظهار نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته التي فيها، واتقاء محارمه وظلم الناس في ترك الوفاء، وفي نقض العهد، وصدق اللَّه ورسوله، ولم يكتم نعته وصفته - فإن اللَّه يحبّهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ):
قيل: عهد اللَّه: أمره ونهيه.
يحتمل هذا العهد فيما عهدوا في التوراة ألا يكتموا نعته وصفته؛ ولكن يظهرون ذلك للناس ويقرون به.
(وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا):
أيمانهم التي حلفوا كذبًا أن ليس نعته وصفته فيه؛ مخافة ذهاب منافعهم.
ويحتمل: أن حلفوا كذبًا، فأخذوا أموال الناس بالباطل والظلم؛ وعلى ذلك روي عن
411
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ لِيَقطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسلِم لَقِيَ اللَّه - تعالى - وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانُ " وتلا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا...) الآية.
والعهد والأيمان سواء؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ...)، الآية.
ويحتمل عهد اللَّه: ما قبلوا عن اللَّه، وما ألزمهم اللَّه، والأيمان: ما حلفوا، والله أعلم.
وقوله: (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ):
أي: لا نصيب لهم في الآخرة مما ذكروا أن لهم عند اللَّه من الخيرات والحسنات؛ كقوله: (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ):
يحتمل وجهين:
يحتمل: أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم؛ كقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤).
وقوله: (لا تكلمهم) الملائكة؛ على ما تكلم المؤمنين، أضاف ذلك إلى نفسه، على ما ذكرنا فيما تقدم من إضافة النصر إليه على إرادة أوليائه؛ فكذلك هذا، أو أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم؛ لأنهم رسله؛ فكان كقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا): صيره ببعث الرسل كأنْ قد كلمهم هو؛ فكذلك الأول.
ويحتمل: أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى في الدنيا؛ فلا يكلمهم كما يكلم المؤمنين.
412
الآية ٧٧ وقوله تعالى :﴿ إن الذين يشترون بعهد الله ﴾ قيل : عهد الله أمره ونهيه، ويحتمل١ هذا العهد في ما عاهدوا٢ في التوراة ألا يكتموا بعثه وصفته، ولكن يظهرون ذلك للناس، ويقرون به ﴿ وأيمانهم ثمنا قليلا ﴾ وأيمانهم التي حلفوا كذبا أن ليس بعثه وصفته فيه مخافة ذهاب منافعهم، ويحتمل أن حلفوا كذبا، فأخذوا أموال الناس بالباطل والظلم. وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ أنه ]٣ قال :( من حلف على يمين [ بإثم ليقتطع بها ]٤ مال امرئ مسلم لقي الله تعالى، وهو عليه غضبان ) [ البخاري : ٤٥٤٩ و ٤٥٥٠ ] وتلا هذه الآية :﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ﴾ الآية، والعهد والأيمان سواء٥، ألا ترى إلى قوله ﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان ﴾ الآية ؟ [ النحل : ٩١ ] ويحتمل عهد الله ما قبلوا عن الله، وما ألزمهم الله، والأيمان ما حلفوا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ﴾ [ أي ]٦ لا نصيب لهم في الآخرة مما ذكروا أن لهم عند الله من الخيرات والحسنات كقوله :﴿ حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾ [ التوبة : ٦٩ ].
وقوله تعالى :﴿ ولا يكلمهم الله ﴾ يحتمل وجوها٧ :
أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم كقوله :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ﴾ ﴿ سلام عليكم بما صبرتم ﴾ [ الرعد : ٢٣ ة ٢٤ ] [ وكقوله ]٨ ﴿ يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ الآية [ النحل : ٣٢ ] وقوله :﴿ ولا يكلمهم ﴾ الملائكة على ما يكلم المؤمنين٩، أضاف ذلك إلى نفسه على ما ذكرنا في ما تقدم من إضافة النصرانية على إرادة أوليائه، فكذلك هذا، أو أن يكون الله جل وعلا كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم لأنهم رسله، فكان كقوله :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا ﴾ [ الشورى : ٥١ ] صيره ببعث الرسل كأن قد كلمهم هو، فكذلك الأول.
ويحتمل أن يكون الله جل وعلا يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى١٠ في الدنيا، فلا يكلمهم كما كلم المؤمنين.
ويحتمل لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم :﴿ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ [ المؤمنين : ١٠٨ ] كقوله١١ :﴿ ولا ينظر إليهم يوم القيامة ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ولا ينظر إليهم ﴾ نظر رحمة كما ينظر إلى المؤمنين بالرحمة، وقوله تعالى :﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي لا يجعل لخيراتهم ثوابا، ويحتمل أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا، فقال :﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي لا يزكي١٢ أعمالهم.
١ الواو ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: عهدوا..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ من م، في الأصل: يكون سواء..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل: وجهين، في م: وجهين يحتمل..
٨ من م، ساقطة ن الأصل..
٩ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿منهم من كلم الله﴾ [البقرة: ٢٠٣] وقوله تعالى: ﴿وما كان لبشر أن كلمه الله إلا وحيا﴾ [الشورى: ٥١]...
١٠ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وكلم الله موسى تكليما﴾ [النساء: ١٦٤]...
١١ في الأصل وم: وكقوله..
١٢ في الأصل وم: يزكو..
ويحتمل: لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)؛ وكقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ).
نظر رحمة، كما ينظر إلى المؤمنين بالرحمة.
وقوله: (وَلَا يُزَكِّيهِمْ):
أي: لا يجعل لخيراتهم ثوابًا.
ويحتمل: أن يكون هذا في قوم علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فقال: لا يزكيهم، أي: لا تزكو أعمالهم.
وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ (٧٨)
أي: كانوا يحرفون ألسنتهم بالكتاب على التعظيم والتبجيل:
(لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ)
أي: كانوا يحرفون نعته -عليه أفضل الصلوات- وصفتَهُ، ثم يتلونه على التعظيم والتبجيل؛ ليحسبوه من الكتاب المنزل من السماء، وما هو من الكتاب الذي أنزل من السماء.
(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
أنهم يكذبون على اللَّه، وأن ذلك ليس هو من عند اللَّه.
وقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
أي: ما كان لبشر اختاره اللَّه للذي قال؛ وتبين أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير اللَّه إلى أنبيائهم كِذْبة، وأن اللَّه يجعل رسالته عند من يعصمه عن مثله بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، لا يجعلها حيث يخان ويكتم، واللَّه الموفق. وهذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يؤتي النفس
413
البشرية الكتاب ولا النبوة؛ إنما يؤتي النفس البسيطة، وهي الروحانية، ليأتي تخيل في قلوب الأنبياء، ويؤيدهم حتى يؤلفوا؛ كقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥).
فإذا ثبت ذلك في قلوب الرسل ألفوا هم الكتب والصحف، لا يقدر غير الرسل على ذلك، ثم الناس يأخذون ذلك منهم؛ فالآية تكذبهم وترد عليهم قولهم؛ حيث أخبر أنه يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ... ) وكذلك قال عيسى - عليه السلام - في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).
وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء - عليهم السلام - عن الكفر بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وخاصّة في عصمة رسولنا - مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا): شرَطَ في المؤمنين اكتسابَ ما يستوجبون به الأذى، ولم يشترط في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ دل أنه لا يكون منه اكتسابُ ما يستوجب به الأذى، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَكِنْ كُونُوا):
معناه، أي: ولكن يقول لهم: كونوا ربّانيين؛ وكأنه على الابتداء والاستئناف ويقول لهم:
(وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).
ثم اختلف في (رَبَّانِيِّينَ)؛ قيل: متعبدين لله بالذي يُعلّمون الكتاب، وبالذي يدرسونه.
وقيل: الربانيون: العلماء الحكماء. وقيل: حكماء علماء. وقيل: علماء فقهاء. وهو واحد.
414
الآية ٧٩ وقوله تعالى :﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ﴾ أي ما كان لبشر اختاره الله للذي قال، وتبين أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير الله إلى أنبيائهم كذبة، وأن الله يجعل رسالته عند من يعصمه من مثله بقوله :﴿ والله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] لا يجعلها حيث يخان، والله الموفق.
وهذه الآية تنقض على الباطنية قولهم، لأنهم يقولون : إن الله لا يؤتي النفس البشرية الكتاب ولا النبوة، إنما يؤتي النفس البساطة١، وهي الروحانية ليأتي تخيل في قلوب الأنبياء، ويؤيدهم حتى يؤلفوا كقوله :﴿ نزل به الروح الأمين ﴾ ﴿ على قلبك لتكون من المنذرين ﴾ ﴿ بلسان عربي مبين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣ و ١٩٤ و ١٩٥ ] فإذا ثبت ذلك في قلوب٢ الرسل ألفوا هم الكتب والصحف، لا يقدر غير الرسل على ذلك. ثم الناس يأخذون ذلك منهم، فالآية تكذبهم، وترد عليهم قولهم حين أخبر : يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله :﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ﴾ وكذلك قال عيسى عليه السلام في المهد ﴿ إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ﴾ [ مريم : ٣٠ ].
وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء عليهم السلام عن الكفر بقوله :﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ﴾ [ وخاصة في عصمة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله :﴿ إن الذين يؤذون الله ]٣ ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ] وقوله٤ :﴿ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ﴾ [ الأحزاب : ٥٨ ] شرط في٥ المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به الأذى، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولكن كونوا ﴾ معناه : أي ولكن يقول لهم ﴿ كونوا ربانيين ﴾ [ وكأنه على الابتداء والاستئناف، ويقول لهم :﴿ كونوا ربانيين ﴾ ]٦ ثم اختلف في ﴿ ربانيين ﴾ قيل : متعبدين لله الذي [ كانوا يعلمون ]٧ وبالذي [ كانوا ]٨ يدرسون، وقيل : الربانيون٩ العلماء الحكماء، وقيل : حكماء علماء، وقيل : علماء فقهاء، وهو واحد.
ثم فيه دلالة أن الرجل قد يدرس، ويعلم آخر بما لا يفقه، ولا يعلم معناه، [ ولا كل ]١٠ من يدرس شيئا أو يعلم آخر١١ يكون فقيها فيه، ويعرف ما أودع فيه من المعنى [ وفيه دلالة جواز الاجتهاد لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى ]١٢ والفقه بالاجتهاد، والله أعلم.
١ في الأصل وم: البسيطة..
٢ من م، في الأصل: قلوبهم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل وم: وقال..
٥ من م، في الأصل: من..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل وم: يعلمون..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ في الأصل وم: الربانيين..
١٠ في الأصل: إلا، في م: إلا كل..
١١ في الأصل وم: آخره..
١٢ من م، ساقطة من الأصل..
ثم فيه دلالة أن الرجل قد يدرس ويعلِّم آخر بما لا يفقه ولا يعلم، معناه: إلا كل من يدرس شيئًا أو يعلِّم آخر يكون فقيهًا فيه، ويعرف ما أودع فيه من المعنى.
وفيه دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى والفقه بالاجتهاد، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
اختلف فيه؛ قيل: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابًا؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه أمرهم بذلك؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).
وقيل: إن عيسى وعزيرًا ومن ذكر لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا من دون اللَّه، وقد عصمهم اللَّه بالنبوة.
وقوله: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ):
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أيأمركم اللَّه بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون له بالخلقة؛ لما يشهد خلقة كل أحد على وحدانيته؛ كقوله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
ويحتمل: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أي: أسلموا له، وأقروا به مرة، ثم كفروا بعد ما كانوا مخلصين له بالتوحيد.
ويحتمل قوله: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): بعد إذ دعاكم إلى الإسلام فأجاب بعضكم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
وقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ (٨١)
قال مجاهد: هذا خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " ميثاق الذين أوتوا الكتاب "؛ على ما ذكر في آية أخرى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)؛ لأن الميثاق لا يؤخذ على النبيين أن يصدقوا، لكنه يجوز هذا.
ثم اختلف فيه، قيل: ميثاق الأوّل من الأنبياء - ليصدقن بما جاء به الآخر منهم، لو أدرك.
وقِيل: أخذ اللَّه ميثاقًا على النبيين أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى قومهم؛ ففعلوا، ثم أخذوا مواثيق قومهم أن يؤمنوا بمحمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصدقوه وينصروه.
وقيل: أخذ اللَّه على النبيين ميثاقًا على أن يبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين اللَّه.
قال الكسائي فيه بوجهين:
أحدهما: يقول: ميثاق الذين منهم النبيّون وهم بنو إسرائيل، وكل ميثاق ذكره اللَّه -
تعالى - في القرآن في أهل الكتاب، فإنما يراد به بنو إسرائيل.
والثاني: ذكره كما ذكرنا من تصديق بعضهم بعضًا، وتبليغ كتب اللَّه إلى قومهم.
وقوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ).
أخذ عليهم الميثاق؛ ليأخذوا على قومهم المواثيق أن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج وينصروه.
وقوله: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ):
قال اللَّه - تعالى - للأنبياء: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، قيل: هو عهدي.
والإصر: قيل: هو العهد.
(قَالُوا أَقْرَرنَا)
بالعهد لنؤمنن به ولننصرنه، وأخذنا على قومنا ليؤمنن به ولينصرنه، وقال اللَّه - تعالى -: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
ويقول اللَّه - تعالى -: وأنا على إقراركم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الشاهدين.
وقيل: قال اللَّه: فاشهدوا أني قد أخذت عليكم بالعهد، وأنا معكم من الشاهدين أنكم قد أقررتم بالعهد.
يقول اللَّه - تعالى -: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ (٨٢)
العهد والإقرار بنقض العهد، والرجوع عن الإقرار
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ (٨٣)
الدِّين كأنه يتوجه إلى وجوه يرجع إلى اعتقاد المذهب في الأصل، ويرجع إلى الحكم والخضوع؛ كقوله - تعالى -: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)، ويرجع إلى الجزاء.
ثم قوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ): كأن كى منهم يبغي دينا هو دين اللَّه، ويدعي أن
417
الدِّين الذي هو عليه دين اللَّه، لكن هذا - واللَّه أعلم - كل منهم في الابتداء يبغي دين الله في نفسه، لكن بَانَ له من بعد وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين اللَّه، وأن دين الله هو الإسلام، فلم يرجع إليه ولا اعتقده، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة؛ فهو باغٍ غيرَ دين اللَّه، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ)، أي: أفغير ما في دين اللَّه من الأحكام والتوحيد.
ويحتمل: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ): يدينون، وليس على الاستفهام؛ ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين اللَّه، كقوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؛ وكقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...) الآية.
وقوله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا):
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أسلم، أي: استسلم، وخضع له بالخلقة؛ إذ في خلقة كُل دلالاتُ وَحدانيته.
ويحتمل: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ)، يعني: الملائكة، (وَالْأَرْضِ) المؤمنين الذين أسلموا طوعًا وكرهًا، يعني: أهل الأديان يقرون أن اللَّه ربهم وهو خلقهم؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون. عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " مَنْ فِي السمَاوَاتِ أَسْلَمُوا طَوْعًا، وَأَمَّا أهْلُ الأرْضِ: فَمِنْهُم مَنْ أَسْلَمَ طَوْعًا، وَمِنْهُم مَنْ أَسْلَمَ كَرْهًا؛ مَخَافَةَ السَّيفِ ".
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيضًا - قال: " طَوْعًا مَنْ وُلِدَ فِي الإسْلَامِ، وَكُل مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُولَدْ فِي الإسْلَامِ فَهُوَ كَرْهٌ ".
وقيل: منهم من أسلم طوعًا، ومنهم من جبروا عليه، والإسلام: هو تسليم النفس
418
الآية ٨٣ وقوله تعالى :﴿ أفغير دين الله تبغون ﴾ ؟ الدين كأنه يتوجه إلى وجوه : يرجع اعتقاد المذهب إلى١ الأصل، ويرجع إلى الحكم والخضوع كقوله :﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ﴾ ؟ [ المائدة : ٥٠ ]، ويرجع إلى الجزاء. ثم قوله تعالى :﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ ؟ كان كل منهم يبغي دينا، وهو دين الله، ويدعي أن الدين الذي هو عليه دين الله، لكن هذا، والله أعلم، كل منهم في الابتداء كان٢ يبغي دين الله في نفسه، لكن بان له من بعد، وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين الله [ الذي ]٣ هو الإسلام فلم يرجع إليه، ولا اعتقده، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة، فهو باغ غير دين الله، والله أعلم.
قال الشيخ، رحمه الله في قوله :﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ ؟ أي أفغير ما في دين الله من الأحكام والتوحيد، ويحتمل ﴿ أفغير دين الله ﴾ يدينون، وليس على الاستفهام، ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين الله كقوله :﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ الآية
[ البقرية : ٣٠ ] وكقوله :﴿ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ﴾ الآية [ النور : ٥٠ ].
وقوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾ يحتمل وجوها :﴿ أسلم ﴾ أي٤ استسلم، وخضع له بالخلقة، إذ في خلقة كل دلالات وحدانية، ويحتمل ﴿ وله أسلم من في السموات ﴾ يعني الملائكة، ﴿ ومن في الأرض ﴾ [ يعني ]٥ المؤمنين الذين أسلموا ﴿ طوعا وكرها ﴾ يعني أهل الأديان يقرون أن الله ربهم، وهو خلقهم كقوله :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون. عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]٦ قال :﴿ من في السماوات ﴾ أسلموا ﴿ طوعا ﴾ وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم ﴿ طوعا ﴾ ومنهم من أسلم ﴿ كرها ﴾ مخافة السيف ). وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]٧ قال :( ﴿ طوعا ﴾ من ولد في الإسلام، وكل من أسلم، ولم يولد في الإسلام، فهو كره ). وقيل : منهم من أسلم ﴿ طوعا ﴾ ومنهم من جبر٨ عليه. والإسلام هو تسليم النفس لله٩ خالصا، لا يشرك فيه غيره كقوله :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل ﴾ الآية [ الزمر : ٢٩ ] دلت الآية أنه ما ذكرنا، والله أعلم. والإسلام هو اسم الخضوع، وكل منهم قد خضع١٠، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه.
١ في الأصل وم: في..
٢ في الأصل وم: أن..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من م..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل وم: جبروا..
٩ ساقطة من م..
١٠ في الأصل وم: خضعوا..
لله خالصًا لا يشرك فيها غيره؛ كقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) الآية.
دلَّت الآية أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
والإسلام: هو اسم الخضوع، وكل منهم قد خضعوا، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)
وقوله: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) والآية.
هذا - واللَّه أعلم - وذلك أن اليهود والنصارى لما آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، كقوله: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) - أمر اللَّه - تعالى - المؤمنين أن يؤمنوا بالرسل جميعًا؛ فآمنوا بهم جميعًا، وقالوا: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ): والإسلام ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (٨٥)
اختلف فيه: يحتمل (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ): حسنات من بغى غيرَ دين الإسلام في الدنيا؛ وهو كقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ)، أي: بالمؤمن به (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).
ويحتمل: من أتى بدين سوى دين الإسلام فلن يقبل منه، (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقيل: إنها نزلت في نفر ارتدوا عن الإسلام بعد ما أسلموا، ثم تاب بعضهم؛ فنزل قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ): يحتمل: " يبتغي ": يطلب، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؛ كأنه نهى عن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى اللَّه - تعالى - فأخبر أن ذلك لا يقبله؛ ليصرف الطلب إلى غير ذلك، وذلك كما دانوا من عبادة الأوثان وغيرها؛ لتقربهم إلى اللَّه زلفى، فأخبر أنه لا يقرب؛ ليصرف الطلب إلى حقيقة ذلك الدِّين على الأديان التي كانت معروفة، تأبى أنفس الكفرة عن قبول اسم
الآية ٨٥ وقوله تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ اختلف فيه :﴿ فلن يقبل منه ﴾ حسنات من بغى غير دين الإسلام في الدنيا، وهو كقوله :﴿ ومن يكفر بالإيمان ﴾ أي بالمؤمن به ﴿ فقد حبط عمله ﴾ [ المائدة : ٥ ] ويحتمل : من أتى بدين سوى دين الإسلام ﴿ فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾.
قال الشيخ، رحمه الله في قوله :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ : يحتمل [ ﴿ يبتغ ﴾ يطلب ﴿ فلن يقبل منه ﴾ ]١ كأنه نهى عن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى الله تعالى، فأخبر أن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى الله تعالى، فأخبر أن ذلك لا يقبله لصرف الطلب إلى غير ذلك، وذلك كما دانوا بعبادة٢ الأوثان وغيرها لقربهم ﴿ إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فأخبر أنه لا يقرب لصرف الطلب إلى
[ غير ]٣ حقيقة ذلك الدين ولأن٤ الأديان كانت معروفة، تأبى أنفس الكفرة قبول٥ اسم الإسلام لدينهم، وادعوا أن دينهم هو دين الله، فأخبر الله تعالى أن دينه، هو الإسلام، وأن من يبتغ الدين به غيره فالله لا يقبل منه، والله أعلم. ويحتمل الابتغاء الإرادة فيكون فيه تحقيق الدين إذ هي تجامع الفعل، فكأنه قال : من دان من غير الإسلام ﴿ فلن يقبل منه ﴾، وإن قصد الله بالدين، والله الموفق، أيد ذلك قوله :﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل: عن عبادة، في م: من عبادة..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: على..
٥ في الأصل وم: عن قبول..
الإسلام لدينهم، وادعوا أن دينهم هو دين اللَّه؛ فأخبر اللَّه - تعالى - أن دينه هو الإسلام، وأن من يبتغي الدِّين؛ ليدين اللَّه به، غيرَهُ -، فاللَّه لا يقبل منه، واللَّه أعلم.
ويحتمل الابتغاء: الإرادة؛ فيكون فيه تحقيق الدِّين؛ إذ هي تجامع الفعل؛ فكأنه قال: من دان غير دين الإسلام، فلن يقبل منه، وإن قصد به اللَّه بالدِّين، واللَّه الموفق.
أيد ذلك قوله: (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ): أنه فيمن أتى بغيره، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
وقوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ...) الآية.
فالآية تحتمل وجوهًا:
تحتمل: ألا يهدي اللَّه قومًا هم معاندون مكابرون فيه، غير خاضعين له ولا متواضعين؛ إنما يهدي من خضع له وتواضع، فأما من عاند وكابر: فلا يهديه.
ويحتمل أن هذا في قوم مخصوصين، علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فأخبر اللَّه - تعالى - أنه لا يهديهم، وأما من علم اللَّه أنه يؤمن وتاب: فإنه يهديهم بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) الآية: أطمع من تاب وأصلح أن يهديه ويغفر له.
ويحتمل: ألا يهديهم طريق الجنة، إذا ماتوا على كفرهم؛ كقوله: (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ).
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويحتمل: لا يهديهم في وقت اختيارهم الضلالة.
وقيل: بما اختاروا من الضلالة لا يهديهم، أي: لا يعينهم: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ودل قوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) - أن دين الإسلام هو الإيمان، وأن الكفر مقابله من الأضداد، وكيف يهدي قبل كفرهم؟!.
وقيل: في وقت اختيارهم.
وقيل: ذلك في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون، وكانت همتهم التعنت والمخالفة،
واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم قالوا: إن الهدى: البيان، والبيان للكل، قالوا: بتقدم الفعل، فلو كان متقدمًا لكان في ذلك إعطاء الهدى للظالم؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّّ - أنه لا يهدي الظالم، وهم يقولون: لا، بل يهدي الظالم؛ فذلك خروج عليه، وأمَّا على قولنا: فإن التوفيق والقدرة إنما تكون معه؛ فكان قولنا موافقًا للآية.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي) من ذكر -: فلو لم يكن الهدى غير البيان، فلقد هداهم إذن؛ على قول المعتزلة، واللَّه أعلم.
وقوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ (٨٧)
قيل: (لَعْنَةَ اللَّهِ)، عذاب اللَّه.
وقيل: لعنة اللَّه: هي الإياس من رحمته وعفوه، واللعن: هو الطرد في اللّغة، ولعنة الملائكة: ما قيل في آية أخرى قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا).
وقيل: لعنة الملائكة قولهم لهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) إلى آخره. وقيل: يدعون عليهم باللعن.
وقيل: لعنة المؤمنين قوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، فذلك لعنهم عليهم.
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) ملحق على قوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ): ذكر الكفر بعد الإيمان، ثم ذكر التوبة فقال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا...) الآية: أطمع لهم المغفرة والرحمة بالتوبة بعد الكفر بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وما قيل في القصّة -أيضًا- أن نفرًا ارتدوا عن دين الإسلام، ثم تاب بعضهم،
الآية ٨٩ وقوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ ملحق على قوله :﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ﴾ [ آل عمران : ٨٦ ] ذكر الكفر بعد الإيمان، ثم ذكر التوبة، فقال :﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾ الآية ؛ أطمع لهم المغفرة والرحمة وبالتوبة بعد الكفر بقوله : فقال :﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾. وما قيل في القصة أيضا : إن نفرا ارتدوا عن الإسلام، ثم تاب بعضهم، ولم يتب البعض، فنزل قوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾ الآية.
وفي الآية دلالة قبول توبة المرتدين لأن قوله :﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك ﴾ الآية.
ولم يتب البعض؛ فنزل قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) الآية.
وفي الآية دلالة قبول توبة المرتدين؛ لأن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) الآية - قيل في القصّة.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) الآية:
اختلف فيه، قيل: قوله: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا)، أي: ماتوا على ذلك، فذلك زيادتهم الكفر.
وقيل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا): بعيسى بعد الإيمان بالرسل جميعًا، ثم ازدادوا كفرًا: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، قيل: لن تقبل توبتهم التي تابوا مرة ثم تركوها.
وقيل: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) التي أظهروا باللسان، وما كان ذلك في قلوبهم، أي:
ليست لهم توبة إلا أن يكون توبة منهم فترد؛ كقوله: (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ).
وقيل: هم قوم علم اللَّه أنهم لا يتوبون أبدًا؛ فأخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
وقيل: لا تقبل توبتهم عند الموت؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، وكقوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)، وكقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ): أخبر أنه لا ينفع الإيمان في ذلك الوقت؛ فعلى ذلك قوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ في ذلك الوقت؛ إذا داموا على الكفر إلى ذلك الوقت.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) -: ذلك في قوم مخصوصين، أي: لا يكون منهم توبة؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)، أي: لا شافع لهم، ويحتمل عند رؤية بأس اللَّه وجزاء فعله عند القيامة أو معاينة الموت؛ يدل على ذلك الآية التي تقدمت.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا (٩١) الآية.
قوله: (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ)، يقول: لو كان معهم لافتدوا به أنفسهم - ما قبل منهم، ولكن لا يكون؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ)، أي: لا يكون لهم شفيع، لا أن كان لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم، ولكن لا يكون لهم؛ فهذا يدل على أن قوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، أي: لا يتوبون، واللَّه أعلم.
ورُويَ عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يُجَاءُ بالكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرأَيْتَ لَو كَانَ لَكَ مِلءُ الأرْضِ ذهبًا، أكُنْتَ مُفْتَديًا به؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا
رَبّ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ! ".
وقوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (٩٢)
يحتمل أن تكون الآية - واللَّه أعلم - في كفار منعهم عن الإسلام الزكاةُ والصدقات التي تجب في الأموال؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا...) الآية، إلى قوله: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - لن تنالوا الإسلام حتى تنفقوا مما تحبون من الأموال؛ وكقوله: (لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).
وتحتمل الآية في المؤمنين؛ رغبهم - عَزَّ وَجَلَّ - في إنفاق ما يحبون؛ كقوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) الآية: أخبر أن البر ما ذكر: من الإيمان به، وإيتاء المال في حبه.
ورُويَ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل قوله - تعالى -: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، قال أبو طلحة: يا رسول اللَّه، حائطي الذي في مكان كذا وكذا فهو لله، ولو استطعت أن أسره ما أعلنته؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اجْعَلْهُ في قَرَابَتِكَ - أو أَقْرِبائِكَ ".
ورُويَ عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما نزل هذا: أعتق جارية.
ثم اختلف في الْبِرّ، قيل: الْبِرّ هو الجنة هاهنا.
وقيل: الْبِرّ هو الإسلام، إن كان في الكافرين.
وقيل: لن تنالوا درجات الجنة، وما عند اللَّه من الثواب إلا بإنفاق ما تحبون.
وقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)
ففيه دليلُ قبول القليل من الصدقة؛ لأنهم كانوا يمتنعون عن قليل التصدق استحقارًا، فأخبر أنه بذلك عليم وإن قلَّ، بعد أن يكون ذلك للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
قوله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) الآية.
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وكان الطعام كله حلالًا، إلا الميتة والدم ولحم الخنزير.
(إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)، يعني: يعقوب، حرم على نفسه لحم الإبل
425
وألبانها، وكان من أحب الطعام إليه، إن ثبت ما ذكر في القصة: أن يعقوب - عليه السلام - أقبل يريد بيت المقدس، فلقيه ملك، فظن يعقوب أنه لص؛ فعالجه يصارعه حتى أضاء له الفجر، فلما أضاء لهما الفجر غمز الملك فخذ يعقوب، فتهيج عليه عرق النسا؛ فكان يبيت الليل ساهرًا من وجعه، فأقسم: لئن شفاه اللَّه ليحرِّمن أحبّ الطعام والشراب إليه على نفسه؛ فشفاه اللَّه من ذلك؛ فحرم لحم الإبل وألبانها؛ لأنها من أحب الطعام والشراب إليه.
فإن ثبت هذا فهو إنما حرم ذلك على نفسه بالإذن من اللَّه - " تعالى - والأمر منه.
ثم إن اليهود قالوا: إنما كان تحريم ذلك من اللَّه في التوراة؛ فأمر اللَّه - تعالى - نبيه أن قل لهم: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أن ذلك التحريم من اللَّه في التوراة.
ويحتمل أن يكون التحريم كان بظلم منهم؛ كقوله - تعالى -: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ...) الآية؛ ثم أنكروا تحريم ذلك بظلمهم، فدُعوا بإحضار التوراة؛ ليظهر كذبهم، فأبوا ذلك.
426
فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه ثبات دلالة رسالة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أخبر عما أسروا، وأظهر ما كتموا.
قال أبو يزيد: إنما قدر أهل الكتاب على تغيير كتابهم، والزيادة فيه والنقصان، ولم يكن لأحد تغيير القرآن عن وجهه، أو زيادةٍ فيه أو نقصان منه؛ لأن كتبهم تشبه كلام غيره من الحكماء؛ فغيروا بغيره من كلام الحكماء، وأمَّا القرآن: فهو آية معجزة، لم يقدروا على تحريفه ولا تبديله، وإن علم أنه كان كما ذكر؛ وإلا فهو - واللَّه أعلم - ليهتك عليهم أستارهم، وليظهر منهم ما كتموا، وفيه إثباث لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)
وقوله: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) الآية:
قد ذكرنا فيما تقدم.
وقوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)
قيل فيه بوجوه؛ قيل: إن أوّل بيت مبارك وضع للناس هو بكة.
وقيل: أوّل مسجد وضع للناس مكة.
وقيل: يريد بـ " بكة " البقعة، أي: أوّل بقعة خلق اللهُ هو بكة، ومنها دحيت
427
الأرض.
وقيل: إن آدم - عليه السلام - لما أمر بالحج فيه، قال جبريل - عليه السلام -: " قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام ".
وقيل: خلق اللَّه البيت قبل الأرض بألفي عام.
ثم اختلف في قوله " بكة "؛ قيل " البكة ": الزحام.
وقيل: " البكة ": موضع البيت، ومكة سائر القرية.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " مكة من فخ إلى التنعيم إلى المنحر، وبكة: من البيت إلى البطحاء ".
وقيل: " بكة ": الكعبة؛ حيث يبك الناس، أي: يزدحم بعضهم بعضًا، بـ " مكة ": ما وراءها.
وقوله: (مُبَارَكًا)، قيل: يغفر فيه الذنوب والخطايا.
428
الآية ٩٦ وقوله تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ﴾ قيل فيه بوجوه : قيل : أول بيت مبارك وضع للناس هو ببكة١، وقيل أول مسجد وضع للناس بمكة٢، وقيل : يريد ببكة البقعة، أي أول بقعة خلق الله، هي٣ بكة، ومنها دحيت الأرض، وقيل : إن آدم عليه السلام لما أمر بالحج قال له جبريل عليه السلام قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام، وقيل : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام.
ثم اختلف في قوله :﴿ ببكة ﴾ [ قيل }٤ الزحام، وقيل : البكة موضع البيت وسائر القرية. وعن ابن عباس رضي الله عنه /٦٤- أ/ [ أنه ]٥ قال :( مكة من فيج٦ إلى التنعيم٧ إلى المنحر٨، وبكة من البيت إلى البطحاء٩ ) وقيل : بكة الكعبة حيث يبك الناس أي يزحم١٠ بعضهم بعضا ما وراءها.
وقوله تعالى :﴿ مباركا ﴾ قيل : تغفر فيه الذنوب والخطايا ﴿ وهدى للعالمين ﴾.
١ في الأصل وم: بكة..
٢ في الأصل وم: مكة..
٣ في الأصل وم: هو..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ موضع بنجد..
٧ موضع قريب نم مكة أقرب أطراف الحل إلى البيت..
٨ من م، في الأصل: المتحرك، وهو موضع نحر العدي..
٩ سي فيه دقاق الحصى..
١٠ في الأصل وم: يزدحم.
(وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ (٩٧)
يحتمل قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) - ما لو تأملوا لهداهم؛ وذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوى إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة، فلولا أن كان ذلك من آيات اللَّه ولطفه؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله.
ويحتمل قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) - ما ذكر: (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، وذلك آياته، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا): ظاهره فيمن يجني، ثم دخل الحرم آمِن؛ لأن من لم يجن فهو آمِن أين دخل من الحرم وغيره، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره.
وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوافق هذا، ورُوي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إذا أصاب الرجل الحدَّ في الحرم، أقيم عليه، وإن
429
أصابه في غير الحرم، ثم لجأ إليه، لا يُحَدَّث، ولا يُجالَس، ولا يُؤَاكَل، ولا يبايع، حتى يخرج منه؛ فيؤخذ، فيقام عليه الحد ".
ورُوي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله "
ورُوي عن الحسن - رحمه اللَّه - أنه قال في قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) -كان هذا في الجاهلية، فأما الإسلام: فلم يزده إلا شدة: من أصاب الحد في غيره، ثم لجأ- إليه أقيم عليه الحد.
يقال للحسن: إن الصيد كان يأمن في الجاهلية، ثم الإسلام لا يرفع ذلك الأمن؛ بل كان أمن الصيد في حال الإسلام. كهو في حال الجاهلية؛ فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باقٍ غير زائل في الإسلام.
وأصحابنا - رحمهم اللَّه - يذهبون إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللَّه - تعالى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَها؛ لم تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبلي ولا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدي، وإنَّما أُحِلَّتْ لِي ساعة مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَي خَلَاهَا، وَلَا يُعْضد شَجَرُها، ولا يُنَفَر صَيدُها، ولا يُحْتَشُّ حَشِيشُها ". أخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن مكة بعد
430
الإسلام حرام؛ كما كانت قبله، وأنها لم تُحَلَّ له إلا ساعة من نهار، فإذا كان الملتجئ آمنًا قبل الإسلام؛ فالواجب أن يكون آمنًا بعد الإسلام، حتى يخرج منها.
وحجة أخرى: وهو أن اللَّه - تعالى - أباح لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل المشركين جميعًا، بل فرض ذلك عليه، إلا أهل مكة؛ فإنه لم يُحِلَّ له قتلهم إلا ساعة من نهار، ففضَّل مكة على غيرها بما خصها به من التحريم؛ فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام؛ إذ كانت جنايته أقل من كفر أهلها، ولم يُحَلَّ قتالُهم إلا ساعة من نهار.
وفي الفرق بين من قتل فيها وفي غيرها، ثم لجأ إليه - وجه آخر: قال اللَّه - تعالى: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ): أباح لهم القتل عند المسجد الحرام، إذا قاتلونا؛ فعلى ذلك يقام الحد إذا أصاب وهو فيه، وإذا أصاب - وهو في غيره - ثم لجأ إليه: لم يُقِم؛ كما لم يُقَاتَلُوا إذا لم يُقَاتِلُوا، وهذا فرق حسن واضح بحمد اللَّه وعونه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) -: يحتمل أن يكون خبرًا من الحرم في قديم الدهر: أنه كان على ما بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرم، إذا التجأوا إليه؛ وذلك كقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)؛ فيكون ذلك من عظيم آيات اللَّه - تعالى - أن أهل الجاهلية - على عظيم ما بدلوا من الأمور، وغيروا من الدِّين - منعهم اللَّه - تعالى - عن هذا التغيير؛ حتى بقيت لكل من شهده آية أن اللَّه له هذا السلطان، وبه قام هذا التدبير العظيم، له العلم بحقائق الأشياء، ووضع كل شيء موضعه؛ وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) - إن اللَّه قد جعل - جل ثناؤه - ذلك كالماء في الشرع والطبع، فأمّا الشرع: فما جاءت به الرسل، وأمّا الطبع: فما تنافر الناس، حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ، وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من النبات، لا بأسباب تكتسب؛ ولهذا كره بيع رباع مكة،
431
ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان، واللَّه أعلم.
ودلَّ قوله: و (جَعَلنَا) كذا - على لزوم ذلك الحق؛ لأنه مذكور بحرف الامتنان، والاحتجاج له، ولا يجوز تغير الذي هذا وضْعُهُ، واللَّه أعلم.
ويحتمل: كأنْ صار آمنًا، أي: أوجب له الأمان، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمنا دون دخوله؛ فثبت أن ذلك فيمن لزمه؛ وأَيَّد ذلك قوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فهم قوم قد سبق منهم الكفر وقت شرع القتل بالكفر، لم يأخذهم حق الشرع على ما سبق من الكفر في وقت لم يكن ذلك جزاءه في الدنيا، إلا أن يُحْدِثَ القتال؛ فعلى ذلك من لزمه - لا فيه - فهو يأمن به، إلا أن يكون أحدثه فيه، واللَّه أعلم.
وأصله: أنه أضاف الأمان إلى نفسه بقوله: (كَانَ آمِنًا) فكل حق بِتَلَفِ نَفْسِهِ فله أمان بالدخول فيه، وكل حق في إقامته إحياء ما جعلت الحياة لنفع مثله - فهو يقام؛ ليكون زجرًا له، وتكفيرًا على بقاء الأمن؛ ليقي نفسه، ورده إلى ما لم يدر أنه التجأ إليه؛ للهرب عن حكم اللَّه - تعالى - أو للأمان باللَّه؛ ليصل إلى إقامة أحكام اللَّه - تعالى - آمنًا، وفي إقامته هذا أيضًا، واللَّه أعلم.
وقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
فرض اللَّه - تعالى - الحج بهذه الآية على من استطاع إليه سبيلًا، ولم يبين ما السبيل، وبين ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: حيث سئل عن الاستطاعة؛ فقال: " الزَّاد، والراحِلَةُ "، وهكذا يقول علماؤنا: إن الاستطاعة والسبيل هو الزاد والراحلة؛ كما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
432
وقال بعض الناس: إذا كان بينه وبين الحج بحر، لم يلزمه الحج؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)؛ فجعل البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة؛ فخالف ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الاستطاعة؟ فقال: " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ "؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد والراحلة؛ لأن النبي - عليه السلام - هو المبين عن اللَّه؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذورًا في التأخير، ولا يأثم - إن شاء اللَّه تعالى - إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل، ولا يأثم في ذلك.
ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم؛ لأن المرأة -وإن وجدت الزاد والراحلة- فإنها تحتاج إلى من يُركِبُها ويُنزلها، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها، وهكذا العرف فيهن، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة، واللَّه أعلم.
وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أُعْتِق - لزمه حجة الإسلام؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه
433
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أَيُّمَا عَبدٍ حَجَّ وَلَو عَشْرَ حِجَجٍ؛ فَعَلَيهِ إِذَا أُعْتِقَ حَجَّةُ الإسْلامِ ". وليس كالحر - الفقير يحج، ثم أيسر: جاز ذلك من حجة الإسلام؛ ففرقوا بينهما، وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء؛ وذلك أن الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنيًا، ولزمه الفرض؛ لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة، وأمّا العبد إذا حضر ذلك المكان لم يَعْتِقْ؛ لذلك افترقا.
وفي ذلك حُجة أخرى: ما أجمع أهل العلم أن فقيرًا لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل؛ كما يضرب لمن كان فَرضُ الجهاد لازمًا له، ولو أن عبدًا شهد الوقعة رضخ له، ولم يكمل له سهم الحر؛ فافترقت حال الفقير والعبد في: الجهاد، والضرب في السَّهْمان؛ فعلى ذلك يفترق حالهما في الحج، واللَّه أعلم.
وقال بعض أهل العلم: إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة، إذا وجد غيره يحج عنه - يلزمه فرض الحج؛ فما ينكر من قال في المرأة بمثله، فاحتج بما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " جاء رجل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه، إن أبي
434
شيخ فأدركته فريضة الحج، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة؛ أفيجزئ أن أحج عنه؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَرَأيتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْن فَقَضَيتَهُ عَنْهُ، أكان يُقْبَلُ مِنْكَ "؟ قال: نعم؛ قال: " فاللهُ أَوْلَى بِحَج أَبِيكَ " أو كلام نحوه، ولكن ليس في الخبر أن فريضة الحج إنما أدركته في الحال التي لا يستمسك على الراحلة، فيجوز أن أدركته فريضة الحج قبل ذلك؛ فكذلك يقول علماؤنا: إن الحج إذا وجب فأخر أداءه حتى أعْسَرَ - لم يسقط عنه الحج، وكذلك إن وجب عليه الحج فلم يحج حتى كبر، فصار لا يستمسك على الراحلة، عليه أن يوصي ليُحَجَّ عنه.
ويحتمل -أيضًا- أنه رغبه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الحج عنه تبرعًا، لا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت الذي لا يثبت على الراحلة - وعندنا أنه لا يلزمه؛ لأنه إذا لم يستمسك على الراحلة فلا راحلة له، ثم من قول هذا القائل: إن من لزمه فرض الحج، فله التأخير، وفي التأخير فَوْتٌ أو إدراك المنيّة، ومِنْ قوله: إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقا؛ فإذا مات مات فاسقا، يجعل له رخصة التأخير، ثم يفسقه؛ فكأنه يجعل له الرخصة في الفسق، فذلك قبيح وخش من القول سمج.
وأما عندنا: فإنه لا يسع له التأخير في أوّل أحوال الإمكان على تمام شرط الاختيار؛
435
كغيره من العبادات التي لزمت، من نحو الصلاة، والصيام، وغيرهما؛ لا يسع التأخير؛ فعلى ذلك الحج. ثم مِنْ قول الشافعي - رحمه اللَّه -: إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره، فإذا أسلم سقط ذلك عنه؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين اللَّه - تعالى - غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك.
وفي الآية دلالة أن الحج إنما كان فرضا على المؤمنين خاصة؛ بقوله: (وَمَن كَفَرَ) بالحج (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فلو كان هو على الكافر كما هو على المسلم، لم يكن لقوله معنى؛ دل أنه غير لازم، واللَّه أمر بالعبادات باسم المؤمنين.
ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة، قالت المعتزلة: تكون قبل الفعل؛ لأن اللَّه - تعالى - فرض الحج، وأمر بالخروج إليه، إذا قدر على الزاد والراحلة؛ على ما فسره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يقدر لم يلزمه؛ فدلّ أنها تتقدم.
436
وأمَّا عندنا: فهي على وجهين:
أحدهما: استطاعة الأسباب والأحوال.
والثاني: استطاعة الأفعال.
فأمّا استطاعة الأحوال والأسباب: فيجوز تقدمها، من نحو: الزاد، والراحلة، والجوارح السليمة.
وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه؛ فلا تكون إلا معه، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجيء - لا يلزمه إلا بحضور ذلك، فلا يلزمه الخروج أبدًا؛ إذ الحج غير لازم إلا بالوقت، ولأنه ليس على العبد أن يتكلف في اكتساب إيجاب العبادات، وعليه أن يَجْهَدَ في أداء الواجب عليه.
ثم الأوقات على أقسام ثلاثة:
وقت الإيجاب والأداء جميعًا نحو: الصلاة، والصيام، ونحوهما. ووقت الإيجاب، نحو: الزكاة. ووقت الأداء -وهو الحج- إنما وجوبه بالزاد والراحلة، وأمَّا الوقت: فهو للأداء خاصة، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج؛ لأنه لا يقدر على فعله إذا كان فيما ذكر؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
في الآية دلالة أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أمر عباده بأمر ليس يأمره لحاجة نفسه، ويأمر لحاجة العبد؛ لأنه غني بذاته، لا حاجة تمسه، وأمَّا الأمر فيما بين الخلق: فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض: إمَّا جر منفعة، أو دفع مكروه، فذلك معنى قوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
ثم اختلف في قوله: (وَمَن كَفَرَ): عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَمَن كَفَرَ) قال: من زعم أنه لم ينزل.
437
وعن الحسن: (وَمَن كفَرَ) قال: من زعم أن الحج ليس بواجب.
وقيل: (وَمَن كفَرَ) باللَّه، قال: هو الذي إن حج لم يرج ثوابه، وإن جلس لم يخش عقابه.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، والسبيل أن يصح بدن العبد، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب ".
ثم قال: (وَمَن كفَرَ)، يقول: ومن كفر بالحج فلم ير حجه برًّا، ولا تركه إثمًا.
وفي قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) دلالتان:
إحداهما: في الوجوب بقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ)، وأيد ذلك قولُهُ: (وَمَن كَفَرَ) وما جاء من الأثر واتفاق القول.
والثانية: جعل البيت شرطًا للقيام لما هو في قوله: (عَلَى النَّاسِ) ذلك؛ فيكون فيه دليل لزوم الطواف، تفسيره في قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، وكذلك أيده قوله: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ)، وأيّد -أيضًا- ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في امرأة نَفِسَتْ: " أَحابِسَتُنا هِيَ؟ " قيل: إنها أفاضت. وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف، واللَّه أعلم.
فلما دلّ أن الطواف لازم لم يخل إمَّا أن يكون الطواف المبدأ به في الحج، أو الذي يختم به، والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس -ثبت أن الفرض هو الذي يختم به، وهو
438
قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا): أوجب جعل السبيل إليه والإمكان- شرطًا للوجوب؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل؛ وعلى ذلك جميع العبادات، جعل الإمكان في وجوبها شرطًا بالسمع بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة؛ وكذا حق هذا بالفعل، وذلك يخرج على وجهين:
استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال، أو اشتغال ذلك بالفعل؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته، كفوت العلم به على الإمكان، وإن كان لا يقوم دونه، والذي يؤيد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيأ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل؛ فلذلك لم يجب تكليف بالخروج ولا أمر بالحج؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب -ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة؛ وكذلك يجوز في الكفارات استعمال الأبدال في حال العجز، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل، بل على ظهور ألا يمتد بمضي البدل- ثبت أنْ لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف، واللَّه أعلم.
والثاني: يراد بالاستطاعة: سلامة الأسباب، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل لأنه ممنوع، ومحال أمر الممنوع عن الفعل - به؛ كالأعمى، والمُقْعَدِ، ونحو ذلك، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة، وهو اللازم في العقل؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة، واللَّه أعلم.
439
وعلى ذلك ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " الزادُ والراحِلَةُ ". واللَّه الموفق.
وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجوب الحج: وإن لم يدرك الوقت الذي فيه يقوم الحج على ما لزمه، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام - واللَّه أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر.
وأصله: أن الوقت في الحج جعل لجواز الفعل؛ إذ هو لو فات لا يحتمل في غيره، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز، فإذا لم يجز هذا وجاز في مثله من القابل - ثبت أنه للجواز لا للوجوب؛ وأيد ذلك ما لا يوصف بالقضاء متى أدى، ولو كان في الأول واجبًا لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضيًا، فإذا لم يكن: ثبت أنه ليس لوجوبه وقت، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)
وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ):
وآيات اللَّه، ما ذكرنا فيما تقدم بمحمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالقرآن والحجج.
(وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ):
هو حرف وعيد وتنبيه؛ ينبئهم عن صنيعهم؛ ليكونوا على حذر من ذلك.
وقوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا (٩٩)
يحتمل قوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ) من الأتباع الذين كان إيمانهم إيمانَ تقليدٍ، لا إيمانًا بالعقل؛ لأن من كان إيمانه إيمانا بالعقل فهو لا يصد، ولا يصرف عنه أبدًا؛ لما عرف حسن الإيمان وحقيقته بالعقل، فهو لا يترك أبدًا، وأما من كان إيمانه
الآية ٩٩ وقوله تعالى :﴿ لم تصدون عن سبيل الله من آمن ﴾ من الأتباع الذين كان إيمانهم إيمان تقليد لا إيمانا١ بالعقل، لأن [ من ]٢ كان إيمانه إيمانا٣ بالعقل فهو لا يصد، ولا يعرف عنه أبدا، كما عرف حسن الإيمان وحقيقته بالعقل، فهو لا يتركه٤ أبدا، وأما من كان إيمانه إيمان تقليد، ولم٥ يكن إيمانه إيمان حقيقة، فمثله يصد عنه، إلا أن من يمن الله عليه، فيشرح صدره حتى يكون على نور منه، وذلك أحد وجوه اللطف، والمقلد غير معذور لما معه ما لو استعمله لأوضح له الطريق، وأراه قبح ما آثره من التقليد، والله الموفق. ويحتمل قوله :﴿ لم تصدون عن سبيل الله من آمن ﴾ [ أي لم تقصدون ]٦ صدهم عن سبيل الله، وهم لا يرجعون إلى دينكم إياسا٧ منه إياهم عن أن يرجعوا عن دينهم الذي [ هم ]٨ عليه كقوله :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ﴾ [ المائدة : ٣ ] فيه إياس الكفرة عن رجوع المسلمين إلى دينهم. وقيل : كانوا يصرفون المؤمنين عن الحج.
وقوله تعالى :﴿ تبغونها عوجا ﴾ والعوج هو [ الميل ]٩ عن طريق الحق، وهو الزيغ، والتعوج عن الحق.
وقوله تعالى :﴿ وأنتم شهداء ﴾ [ وقوله ]١٠ ﴿ وأنتم تشهدون ﴾ [ البقرة : ٨٤ وآل عمران : ٧١ ] واحد. وحرف حفصة رضي الله عنه وأنتم شهداء على الناس.
وقوله تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ هو حرف وعيد وتنبيه، لأن من علم [ أن عليه رقيبا وحافظا ]١١ فيكون أحذر وأخوف ممن١٢ لم يكن عليه ذلك.
قال الشيخ، رحمه الله : وفيه أنه لا غفلة [ عن الذي ]١٣ يكون منكم، ولكن على علم لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم بل إظهار الغني والسلطان له، جل جلاله، وعم نواله.
١ في الأصل وم: إيمان..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: إيمانا..
٤ في الأصل وم: يترك..
٥ من م، في الأصل: فلم..
٦ في الأصل: ﴿لم تصدون﴾ قصد، في م: أي: ﴿لم تصدون﴾ قصد..
٧ في الأصل وم: إياس..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل: رقيب وحافظ، في م: أن عليه رقيب وحافظ..
١٢ في الأصل وم: من..
١٣ في الأصل وم: من..
إيمان تقليد: فلم يكن إيمانهُ إيمانَ حقيقة، فمثله يصد عنه، إلا أن من يمن اللَّه عليه فيشرح صدره؛ حتى يكون على نور منه، وذلك أحد وجوه اللطف.
والمقلد غير معذور؛ لما معه ما لو استعمله لأوضح له الطريق، وأراه قبح ما آثر من التقليد، ولا قوة إلا باللَّه.
ويحتمل قوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ)، أي: لم تقصدون قصد صدهم عن سبيل اللَّه، وهم لا يرجعون إلى دينكم، أيأس منه إياهم عن أن يرجعوا عن دينهم الذي عليه؛ كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)، فيه إياس الكفرة عن رجوع المسلمين إلى دينهم.
وقيل: كانوا يصرفون المؤمنين عن الحجج.
وقوله: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا)، والعوج: هو غير طريق الحق، وهو الزيغ والتعوج عن الحق.
وقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَآء)، (وَأَنتُم تَشْهَدُونَ): واحدٌ، وفي حرف حفصة - رضي الله عنها -: " وأنتم شهداء على الناس ".
وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ): هو حرف وعيد وتنبيه؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا وحافظًا، يكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفيه أنه لا غفلة بالذي يكون منكم خلقكم، ولكن على علم؛ لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم؛ بل لإظهار الغنى والسلطان، جك جلاله، وعم نواله.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (١٠٠)
الآية تحتمل وجوهًا:
أحدها: معلوم أن المؤمنين لا يطيعون الكفار بحال في الكفر، ولكن معناه - والله
أعلم - أن يدعوهم إلى شيء لا يعلمون أن في ذلك كفرًا، نهاهم أن يطيعوهم، وفي كل ما يدعوكم إليه كفر وأنتم لا تعلمون.
ويحتمل: النهي عن طاعتهم، نهاهم عن أن يطيعوهم، وإن كان يعلم أنهم لا يطيعونهم؛ كما نهى الرسولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير آي من القرآن، كقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، فكذلك هذا.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويشبه أن تكون الآية في عرض أمور عظام ترغب فيها النفس ليكفر بها؛ فحذر عن ذلك بما بين من الاعتناد والخسار في آية أخرى؛ ليعلموا أن ذلك تجارة مخسرة، وقد كانت لهم ولأهل كل دين ومذهب هذا الاعتناد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
وعلى ذلك قوله: (وَكَيفَ تَكفُرُونَ).
على أن الذي أراكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألذ للعقول، وأروح للأبدان مما وُعِدوه مع سوء ألمآب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ):
وهو على وجه التعجب ظاهر، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم.
(وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)
يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم.
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ):
أي: من جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ملجأ له، ومفزعًا إليه عند الشبه والإشكال.
(فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
أي: يحفظه عن الشبه، ويرشده إلى صراط مسمقيم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ): يتمسك بالذي جاء من القرآن، (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ).
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (١٠٢)
رُوي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " (حَقَّ تُقَاتِهِ): أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى "، وأراد: حق تقاته؛ مما يحتمل وسع الخلق.
ورُوي في حرف حفصة: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: اعبدوا اللَّه حق عبادته، وهذا في اعتقاد التوحيد. وروي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: " لا يتقي اللَّه أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه، ويعد كلامه من عمله ".
وقيل (اتَّقُوا اللَّهَ): أطيعوا اللَّه حق طاعته.
وقيل: إن هذا نسخها قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) الآية؛ لكن لا يحتمل أن يأمر الخلق بشيء ليس في وسعهم القيام به، ثم ينسخ ذلك بما يستطاع، ولكن أصله ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ لله عَلَى عِبَادِهِ حَقًّا، وَلِعِبَادِهِ عَلَيهِ حَقًّا، وَحَقّ اللَّه على عَبدِهِ: أَنْ يَعْبُدَ اللَّه، وَلَا يُشْرِكَ غَيرَهُ فِيهِ. وَحَقُّ العَبدِ عَلَى اللَّه: أَنْ يُدْخِلهُ
الجَنَّةَ؛ إِذَا عَبَدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ غَيرَهُ فِيهِ أَحَدًا " ليكون هذا تأويلًا للآية أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) ولا تكفروه؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي اللَّه حق تقاته في كل العبادة؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم (لَا يَفتُرُونَ)، و (لَا يَسْأَمُونَ)، ثم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك؟!. وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله، وجملته: أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية، فلذلك كان - واللَّه أعلم - الأمر فيه راجع إلى الإسلام، أو في نفي حق الإشراك خاصة، لا في جميع الأحوال والأفعال، دليله ما ختم به الآية، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحدًا في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟!.
وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلمًا، وليس في الموت صنع للخلق، والمعنى - واللَّه أعلم -: أي: كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر، والأمر بالإسلام، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهو مسلم، والله أعلم.
وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت -وإن اشتد أمره- بالذي ليس بإسلام.
وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب ".
ويحتمل قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: احذروا عذاب اللَّه حق حذره، واحذروا نقمته؛ كقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) بمعنى نقمته.
وقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا (١٠٣) اختلف فيه؛ قيل: حبل اللَّه؛ يعني: القرآن، وهو قول ابن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " حبل اللَّه: الجماعة، وإنما هلكت الأمم
444
الخالية بتفرقها "، أمر بالكون مع الجماعة، ونهي عن التفرق؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، وصف أهل دين الإسلام بالجماعة، وأهل أديان غيرها بالتفرق.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أيضًا- قال: حبل اللَّه: الجماعة.
ورُوي في بعض الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ فَارَقَ الجَمَاعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ " يعني: حبل الإسلام.
وروي عنه -أيضًا- قال: " إِن الشيطَانَ ذئب الإنسان، كَذِئْبِ الغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَاذَّةَ والقَاصِيةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِياكم والشعَابَ، وَعَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ وَالعَامَّةِ وَهَذَا المسجِدِ ".
ورُوي عن علي بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " دعاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليلةً ثلاث مرات، ثم قال: " يَكُونُ فِي أُمتِي اخْتِلافٌ "، قلت: كيف نصنع يا رسول اللَّه إذا كان كذلك؟ قال: " عَلَيكمُ بكِتَابِ اللَّه؛ فإنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبلَكُم، وَخَبَرَ مَا بَعْدَكُم، وهُو حَكَمٌ فِيمَا بَينَكُم، مَنْ يَدَعْهُ مِنْ جَبارٍ يَقْصِمهُ اللَّه، وَمَنْ طلب الْهُدَى فِي غَيرِهِ يُضِلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبلُ اللَّه المَتِينُ، وَأَمْرُهُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصرَاطُ الْمُستَقِيمُ، وَهُوَ الذي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الألسِنَةُ،
445
وَلَا يَخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدُ، وَلَا تَنْقَضي عَجَائِبُهُ ".
وقيل: حبل اللَّه: دين اللَّه.
والحبل: هو العهد؛ كأنه أمر بالتمسك بالعهود التي في القرآن، والقيام بوفائها، والحفظ لها، ونهى عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية، واختلفت في الأديان.
وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ): بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: ألّف بين قلوبكم بالإسلام.
وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك للدِّين نفسه، ولكن بلطف من اللَّه منَّ به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة؛ لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل؛ وفي ذلك التفاني.
وعلى قول المعتزلة: ليس من اللَّه على المسلم من النعمة، إلا ومثلها يكون على الكافر؛ لأن الهدى والتوفيق -عندهم- هو البيان، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم؛ وعلى قولهم - لا يكون من اللَّه على أحد نعمة؛ لأنهم لا يجعلون لله في الهداية فعلا، إنما ذلك من الخلق، وأمَّا عندنا: فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه، فذلك من أعظم النعم عليه.
وقوله: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا):
أي: صرتم بنعمته إخوانا.
وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ):
446
أي: كنتم أشفيتم حفرة من النار، وهو القريب منها، لولا أنه من بالإسلام. ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع، لا القرب؛ كقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)، ليس على الرؤية خاصة؛ ولكن على الوقوع فيها؛ وكقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) ليس على البعد منها؛ ولكن على الكون فيها، ومثله كثير يترجم على الوقوع فيها.
وقوله: (حُفْرَةٍ): كأنه قال: كنتم على شفا درك من دركات النار، (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).
وهذا -أيضًا- على المعتزلة؛ لأن على قولهم: هم الذين ينقذون أنفسهم، لا اللَّه، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - نقول: إذا كان اللَّه - تعالى - عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الذين، وليس منه غير ذلك فلا يجيء أن يمن عليهم به يتألف بنعمته، والتي منه موجود مع التفرق؛ بل أُولَئِكَ تألفوا بنعمتهم. وبعد؛ فإنّ النعمة لو كانت دينًا، فما الذي كان منه حتى يمن، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه؟! واللَّه أعلم.
وفي قوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ) الآية: أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا، واللَّه الموفق.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر، متفرقين، وصرتم إخوانًا في الإسلام؛ كلمتكم واحدة.
(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): لكي تعرفوا نعمته ومنته.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقد يكون: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) في حادث الأوقات؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة، والله أعلم.
447
قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ)
يحتمل أن يكون هذا خبرًا في الحقيقة، وإن كان في الظاهر أمرًا؛ فإن كان خبرًا ففيه دلالة أن جماعة منهم إذا قاموا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - سقط ذلك عن الآخرين؛ لأنه ذكر فيه حرف التبعيض، وهو قوله: (مِنْكُمْ أُمَّةٌ...) الآية.
ويحتمل أن يكون على الأمر في الظاهر والحقيقة جميعًا، ويكون قوله: (مِنْكُمْ) - صلة، فإن كان على هذا ففيه أن على كل أحد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وذلك واجب؛ كأنه قال: كونوا أمة (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية؛ لأنه ذكر - جل وعز - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آي كثيرة من كتابه، منها هذا: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ...) الآية، ومنها قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وذم من تركهما بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
ورُوي عن عكرمة أن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال له: " قد أعياني أن أعلم ما
448
يفعل بمن أمسك عن الوعظ، فقلت: أنا أعلمك ذلك، اقرأ الآية الثانية: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ...)، فقال لي: أصبت.
فاستدل ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بهذه الآية على أن اللَّه أهلك من عمل السوء، ومن لم ينه عنه من يعمله، فجعل - واللَّه أعلم - الممسكين عن نهي الظالمين مع الظالمين في العذاب.
وقد رُوي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ، فَلَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ - أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُم اللهُ بِعِقَابٍ ".
وعن جرير قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إن الرجُلَ لَيَكُونُ فِي القَوْمِ، وَيَعْمَلُ فِيهِم بِمَعَاصِي الرحْمَنِ، وَهُم أكْثَرُ مِنْهُ وَأَعَزُّ، وَلَو شَاءُوا أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ لَأَخَذُوا عَلَى يَدِهِ، فَيَرْهَبُوا لَهُ؛ فَيُعَذّبُهُمُ اللهُ بِهِ ".
وعن حذيفة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " والَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَعُمَّكُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُونَهُ ولا يَستَجِيبُ لكُم ".
449
وعن أبي سعيد الخدري يذكر أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِن اللهَ لَيَسأَلُ العَبدَ يَوْمَ القيَامَةِ حَتى يَقُولَ: مَا مَنَعَكَ إِذَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا أَنْ تُنْكِرَهُ؟ فإذَا اللهُ لَقَّنَ عَبدًا حُجتَهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَثِقْتُ بِكَ، وَفَرَقْتُ مِنَ النَّاسِ ".
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اجتمع نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول اللَّه، أرأيت إن قلنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف إلا ما عملنا به، وانتهينا عن المنكر حتى لا يبقى، أيسعنا ألا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؟ فقال: " مُرُوا بالمَعْروفِ، وإنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلهِ، وانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَإنْ لَمْ تُنْهَوُا عَنْهُ ".
ولا ينبغي للرجل أن يقول: لست ممن يعمل بالمعروف كله، وينتهي عن المنكر كله، حتى آمر غيري وأنهاه، فإن فعله المعروف واجب عليه، فلا يجب إذا قصر في واجب أن يقصر في غيره.
وقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: (كُنْتُمْ): أي: صرتم خير أمّة أظهرت للناس؛ بما تدعون الخلق إلى النجاة والخير.
ويحتمل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) في الكتب السالفة؛ بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
ويحتمل: تكونون خير أمة إن أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.
يحتمل: (كُنْتُمْ): صرتم خير أمة، وكانوا كذلك هم خير ممن تقدمهم من الأمم؛
450
بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه، وإظهار كلمته، والإشفاق على رسوله، حتى كان أحب إليهم من أنفسهم؛ ويرونه أولى بهم، واللَّه الموفق.
ثم اختلف في المعروف والمنكر، قيل: المعروف: كل مستحسن في العقل فهو معروف، وكل مستقبح فيه فهو منكر.
ويحتمل الأمر بالمعروف: هو الأمر بالإيمان، والنهي عن المنكر: هو النهي عن الكفر؛ دليله: قوله: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) الآية، يؤمنون هم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، وينهون عن الكفر.
وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا (١٠٥)
لأن التفرق هو سبيل الشيطان بقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ): والبينات: هي الحجج التي أتى بها.
ويحتمل: بيان ما في كتابهم من صفة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته الشريف.
ويحتمل: تفرقوا عما نهج لهم اللَّه، وأوضح لهم الرسل؛ فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء، فحذرنا ذلك، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله اللَّه حجة له، ودليلًا عليه، وداعيا إليه، ولا قوة إلا باللَّه.
(وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ):
دل هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها.
وقوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (١٠٦)
وصف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وجوه أهل الجنة بالبياض؛ لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء؛ لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف - عَزَّ وَجَلَّ - وجوه أهل النار بالسواد؛ لأن السواد هو نهاية ما تكون به الظلمة؛ إذ الألوان لا تظهر في السواد فهو شبيه بالظلمة.
وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد - ليس نفس البياض والسواد؛ ولكنّ البياض هو كناية عن شدّة السرور والفرح، والسّواد كناية عن شدة الحزن والأسف؛
451
كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)، ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك، وليس على حقيقة الضحك؛ ولكن وصف بغاية السرور والفرح؛ وكذلك وجوه أهل النار وصفها بالغبر والقتر؛ وهو وصف بشدة الحزن، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ):
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أكفرتم بألسنتكم بعدما شهدت خلقتكم بوحدانية اللَّه تعالى؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانيته.
ويحتمل: أي: كفرتم بعدما آمنتم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث بوجودكم، نعته وصفته في كتابكم وعلى هذا قال بعض أهل التأويل: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ): أي: على استجابة كثير منهم من الأجلّة والكبراء، الذين لا يعرفون بالتعنت في الدِّين ولا بالتقليد، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: أكفرتم أنتم بعد أن آمن منكم فرق؟!؛ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من كفر، فقال لمن كفر: أكفرتم أنتم وقد آمن منكم نفر؟! ألا ترى أنه قال: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)، واللَّه أعلم؛ وكقوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ).
وقيل: أراد بالإيمان - الذي قالوا حين أخرجوا من ظهر آدم.
وفي الآية ردّ قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار، وإخراجهم إياهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يجعل إلا فريقين: بياض
452
الآيتان ١٠٦ و ١٠٧ وقوله تعالى :﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ﴾ الآية [ وقوله تعالى :﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ﴾ الآية ]١ وصف الله جل وعلا وجوه أهل الجنة بالبياض [ لأن البياض ]٢ هو غاية ما يكون به الصفاء، لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف جل وعلا وجوه أهل النار بالسواد فيها، شبيه بالظلمة، وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد ليس البياض والسواد، ولكن البياض هو كناية عن شدة السرور والفرح، والسواد كناية عن شدة الحزن والأسف كقوله :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ﴾ ﴿ ضاحكة مستبشرة ﴾ [ عبس : ٣٨ و ٣٩ ] ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك /٦٦-أ/ وليس على حقيقة الضحك، ولكن [ هو ]٣ بغاية السرور والفرح، وكذلك وجوه أهل الناس وصفها بالغبر والقتر٤، وهو وصف لشدة الحزن، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ يحتمل وجوها : يحتمل ﴿ أكفرتم بعد ﴾ ما آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بوجودكم بعثه وصفته في كتابكم ؟ وعلى هذا قال بعض أهل التأويل [ في قوله ]٥ :﴿ والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له ﴾ [ الشورى : ١٦ ] أي على استجابة كثير منهم من الأجلة والكبراء الذين لا يعرفون بالتعنت في الدين ولا بالتقليد، والله أعلم، ويحتمل قوله :﴿ أكفرتم ﴾ أنتم بعد [ أن ]٦ آمن منكم فرق ؟ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من قد كفر، فقال لمن كفر :﴿ أكفرتم ﴾ أنتم٧، وقد آمن منكم نفر ؟ ألا ترى أنه قال :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ﴾ ؟ [ الأعراف : ١٥٩ ] والله أعلم، وقال٨ : أراد بالإيمان الذي قالوا حين اخرجوا من ظهر آدم٩.
وفي الآية رد قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار وإخراجهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر لأنه جل وعلا لم يجعل إلا فريقين : بيض١٠ الوجوه وسود١١ الوجوه، فبيض١٢ الوجوه هم المؤمنين وسود١٣ الوجوه هم الكافرون لأنه قال :﴿ أكفرتم ﴾ فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة/ ولم يجعل الله تعالى فرقة ثالثة، وكذلك قال جل وعلا ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ] لم يجعل الخلق إلا فريقين، وهم جعلوا فريقا كقوله١٤ :﴿ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ [ التغابن : ٢ ] فإن قيل : ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان، فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة، فجوابنا ما سبق أن خلقة كل كافر تشهد على وحدانية الله تعالى، لكنهم كفروا بألسنتهم، وذلك كفر بعد الإيمان، فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرا في حكم الكافر، وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ فذوقوا العذاب ﴾ في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو، فكأنه قال : اعلموا أن عليكم العذاب.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ إشارة إلى قوله تعالى ﴿ووجوه يومئذ عليها غبرة﴾ ﴿تزهق قترة﴾ ﴿أولئك هم الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٤٠ و ٤١ و ٤٢]...
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ ساقطة من م..
٨ في الأصل وم: وكقوله..
٩ إشارة إلى قوله تعالى ﴿وإذا أخذ ربك من آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ [الأعراف / ١٩٢]...
١٠ في الأصل وم: بياض..
١١ في الأصل وم: وسواد..
١٢ في الأصل وم: فبياض..
١٣ في الأصل و م: وسواد..
١٤ في الأصل وم: وكقوله..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٦:الآيتان ١٠٦ و ١٠٧ وقوله تعالى :﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ﴾ الآية [ وقوله تعالى :﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ﴾ الآية ]١ وصف الله جل وعلا وجوه أهل الجنة بالبياض [ لأن البياض ]٢ هو غاية ما يكون به الصفاء، لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف جل وعلا وجوه أهل النار بالسواد فيها، شبيه بالظلمة، وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد ليس البياض والسواد، ولكن البياض هو كناية عن شدة السرور والفرح، والسواد كناية عن شدة الحزن والأسف كقوله :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ﴾ ﴿ ضاحكة مستبشرة ﴾ [ عبس : ٣٨ و ٣٩ ] ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك /٦٦-أ/ وليس على حقيقة الضحك، ولكن [ هو ]٣ بغاية السرور والفرح، وكذلك وجوه أهل الناس وصفها بالغبر والقتر٤، وهو وصف لشدة الحزن، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ يحتمل وجوها : يحتمل ﴿ أكفرتم بعد ﴾ ما آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بوجودكم بعثه وصفته في كتابكم ؟ وعلى هذا قال بعض أهل التأويل [ في قوله ]٥ :﴿ والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له ﴾ [ الشورى : ١٦ ] أي على استجابة كثير منهم من الأجلة والكبراء الذين لا يعرفون بالتعنت في الدين ولا بالتقليد، والله أعلم، ويحتمل قوله :﴿ أكفرتم ﴾ أنتم بعد [ أن ]٦ آمن منكم فرق ؟ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من قد كفر، فقال لمن كفر :﴿ أكفرتم ﴾ أنتم٧، وقد آمن منكم نفر ؟ ألا ترى أنه قال :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ﴾ ؟ [ الأعراف : ١٥٩ ] والله أعلم، وقال٨ : أراد بالإيمان الذي قالوا حين اخرجوا من ظهر آدم٩.
وفي الآية رد قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار وإخراجهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر لأنه جل وعلا لم يجعل إلا فريقين : بيض١٠ الوجوه وسود١١ الوجوه، فبيض١٢ الوجوه هم المؤمنين وسود١٣ الوجوه هم الكافرون لأنه قال :﴿ أكفرتم ﴾ فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة/ ولم يجعل الله تعالى فرقة ثالثة، وكذلك قال جل وعلا ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ] لم يجعل الخلق إلا فريقين، وهم جعلوا فريقا كقوله١٤ :﴿ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ [ التغابن : ٢ ] فإن قيل : ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان، فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة، فجوابنا ما سبق أن خلقة كل كافر تشهد على وحدانية الله تعالى، لكنهم كفروا بألسنتهم، وذلك كفر بعد الإيمان، فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرا في حكم الكافر، وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ فذوقوا العذاب ﴾ في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو، فكأنه قال : اعلموا أن عليكم العذاب.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ إشارة إلى قوله تعالى ﴿ووجوه يومئذ عليها غبرة﴾ ﴿تزهق قترة﴾ ﴿أولئك هم الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٤٠ و ٤١ و ٤٢]...
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ ساقطة من م..
٨ في الأصل وم: وكقوله..
٩ إشارة إلى قوله تعالى ﴿وإذا أخذ ربك من آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ [الأعراف / ١٩٢]...
١٠ في الأصل وم: بياض..
١١ في الأصل وم: وسواد..
١٢ في الأصل وم: فبياض..
١٣ في الأصل و م: وسواد..
١٤ في الأصل وم: وكقوله..

الوجوه، وسواد الوجوه، فبياض الوجوه هم المؤمنون، وسواد الوجوه هم الكافرون؛ لأنه قال: (أَكَفَرْتُم) فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة، ولم يجعل اللَّه - تعالى - فرقة ثالثة؛ وهم فرقة ثالثة؛ وكذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) لم يجعل الخلق إلا فريقين، وهم جعلوا فرقًا؛ وكقوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).
فَإِنْ قِيلَ: ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان؛ فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة
فجوابنا ما سبق: أن خلقة كل كافر تشهد على وحدانية اللَّه تعالى، لكنهم كفروا بألسنتهم، وذلك كفر بعد الإيمان؛ فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرًا في حكم الكافر، وباللَّه التوفيق.
وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ)
في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر؛ لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو؛ فكأنه قال: اعلموا أن عليكم العذاب.
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ (١٠٨)
يحتمل: (آيَاتُ اللَّهِ): حجج اللَّه وبراهينه.
ويحتمل: (آيَاتُ اللَّهِ): القرآن.
قوله تعالى: (بِالْحَقِّ): ببيان الحق.
ويحتمل: (بِالْحَقِّ): بالدِّين، والدِّين هو الحق، ويحتمل: أن الآيات هي الحق.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: بالأمر بالدعاء إلى الحق.
ويحتمل: الحق الذي لله على عباده، ولبعضهم على بعض.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ): والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما في السماوات وما في الأرض كله له، ومن وصف في الخلق بالظلم إنما وصف؛ لأنه يضع حق بعض في بعض، ويمنع حق بعض؛ فيجعل لغير المحق، فاللَّه يتعالى عن ذلك.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ)
أي: لا يريد أن يظلمهم، وإن شئت قلت: قلت الإرادة صفة لكل فاعل في الحقيقة؛ فكأنه قال: لا يظلمهم، وكيف يظلم؟! وإنَّمَا يظلم بنفع تسرّه إليه النفس، أو ضرر يدفع به، فالغني بذاته متعال عن ذلك.
وقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
أي: إليه يرجع أمر كل أحد، فلا يحتمل الظلم أوجود الظلم منه.
* * *
قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقال: " خير الناس أنفعهم للناس و (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ): أي: تأمرونهم، أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، والإقرار بما أنزل اللَّه، وتقاتلون عليه، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هو أعظم المعروف،
454
والمنكر: هو التكذيب، فهو أنكر المنكر ".
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ "، قلنا: يا رسول اللَّه، وما هو؟ قال: " نُصِرتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ، وَسُميتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِى طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأُمم ".
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) له وجهان:
أي: (كُنْتُمْ) على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة.
ويحتمل: أي: كنتم صرتم بإيمانكم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واتباعكم ما معه - خير أمّة على وجه الأرض؛ لأنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
وقوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ): يتوجّه إلى وجوه ثلاثة:
المعروف: هو المعروف في العقول، أي: الذي تستحسنه العقول، والمنكر: هو الذي قبحته العقول وأنكرته.
ويحتمل أن يكون المعروف: هو الَّذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن، والمنكر: ما عرف بالحجج؛ أي: أنه قبيح.
ويحتمل أن المعروف: هو الذي جاء على ألسن الرسل أنه حسن، والمنكر: ، هو الذي أنكروه ونهوا عنه.
فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)
لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر، ولكن معناه - واللَّه أعلم - أنهم إنما أبوا الإيمان وتمسكوا بالكفر لوجهين:
أحدهما: أنهم كانوا أهل عزة وشرف فيما بينهم، وأهل دراية؛ ينتاب إليهم الناس، ويختلفون إليهم بحوائجهم، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم إن آمنوا لكان خيرًا، لهم من الذكر والشرف والعز في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر؛ ألا ترى أن من آمن منهم مِنْ دَرَسة الكتاب وعلمائهم - كان لهم من الذكر
455
الآية ١١٠ وقوله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ يحتمل وجوها : يحتمل ﴿ كنتم ﴾ أي صرتم ﴿ خر أمة ﴾ أظهرت للناس بما تدعو الخلق إلى النجاة والخير، ويحتمل ﴿ كنتم خر أمة ﴾ في الكتب السالفة بأنكم ﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ ويحتمل ﴿ كنتم خير أمة ﴾ إذ١ أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، ويحتمل ﴿ كنتم ﴾ صرتم ﴿ خير أمة ﴾ وكانوا كذلك : هم خير أمة، وكانوا كذلك : هم خير ممن تقدمهم من الأمم بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه، وإظهار كلمته والإشفاق على رسوله حتى كان أحب إليهم من أنفسهم، ويرونه أولى، والله الموفق.
ثم اختلف في المعروف والمنكر : قيل : المعروف كل مستحسن في العقل فهو معروف، وكل مستقبح فيه فهو منكر، ويحتمل الأمر بالمعروف، هو الأمر بالإيمان، والنهي عن المنكر، وهو النهي عن الكفر، دليله قوله :﴿ وتؤمنون بالله ﴾ الآية : يؤمنون هم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، وينهون عن الكفر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ [ أنه ]٢ قال :( خير الناس أنفعهم للناس، و﴿ تأمرون بالمعروف ﴾ أي تأمرونهم أن يشهدوا ألا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلون عليه. ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، والمنكر هو التكذيب، فهو أنكر المنكر ).
وعن علي رضي الله عنه أنه قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم :( أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء ) قلنا : يا رسول الله وما هو ؟ قال :( نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت احمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم ) ) [ أحمد : ١/٩٨ ].
قال الشيخ، رحمه الله :[ قوله ]٣ ﴿ كنتم خير أمة أخرجت ﴾ له وجهان : أي كنتم على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة، ويحتمل ﴿ كنتم ﴾ صرتم بإيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعكم ما معه خير أمة على وجه الأرض، [ لأن من قبلكم ]٤ آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
وقوله تعالى :﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ يتوجه إلى وجوه ثلاثة : المعروف، هو المعروف في العقول أي الذي تستحسنه العقول، والمنكر، هو الذي قبحته العقول، وأنكرته، ويحتمل أن يكون المعروف هو الذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن، والمنكر ما عرف بالحجج أنه٥ قبيح، ويحتمل٦ المعروف هو الذي جرى على ألسن الرسل أنه حسن، والمنكر هو الذي أنكروه، ونهوا عنه. فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ﴾ لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر، ولكن معناه، والله أعلم، أنهم أبوا الإيمان، وتمسكوا بالكفر لوجهين :
أحدهما : أنهم كانوا أهل عزة وشرف في ما بينهم وأهل دراية الكتب ينتاب إليهم الناس، ويختلفون إليهم بحوائجهم، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا، فأخبر الله جل وعلا أنهم إن آمنوا كان٧ خيرا لهم من الذكر والشرف والعز في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر. ألا ترى أن من آمن منهم من درية الكتاب وعلمائهم كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد [ منهم مات ]٨ على الكفر، نحو عبد الله بن سلام و[ كعب ]٩ وغيره من الأحبار، وإنما كانوا من علمائهم، لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعز والشرف ما لم ينل أحد منهم، مات على الكفر، بل جمل ذكرهم، وانتشر في أهلهم فضلا في أهل الإيمان والإسلام، والله أعلم.
والثاني : أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم واختاروا المقام على الكفر خوفا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال، يذهب ذلكم عنهم بالإسلام، فأخبر الله جل وعلا أنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم في الآخرة، إذ ذاك ينقطع، ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم لا يزول أبدا، لما كان الذي ينال بالإيمان غيبا١٠، وكذلك ما يحل بالكفار من جزاء [ الكفر غيبا ]١١ اشتد عليهم الكفر والتدبر، فلا يمنعهم عن الشهوات، وينغص عليهم اللذات، فآثروا ما هوته أنفسهم، وتلذذوا به على التدبر مع ما كان إدراك الغائب بالشاهد [ أمرا عسيرا ]١٢ لا يوصل إليه إلا بفضل الله، ولم يكن عليه، ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقا مع ما كان منهم بتقديم الجفاء وإيثار زجرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ﴾ كذلك كانوا : كان المؤمنون أقل، والكفار أكثر، والله أعلم.
١ في الأصل وم: أي..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: لأنهم..
٥ أدرج قبلها في الأصل وم: التي..
٦ أدرج قبلها في الأصل وم العبارة التالية: ويحتمل أن يكون المعروف هو الذي عرف بالحج أنه قبيح، والصواب حذفها..
٧ في الأصل وم: لكان..
٨ في الأصل وم: مات منهم..
٩ في الأصل وم: ومن أسلم منهم نحو كعب..
١٠ في الأصل وم: غيب..
١١ في الأصل: غيب، في م: الكفر عيب..
١٢ في الأصل وم: أمر عسير..
والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر؛ نحو: عبد اللَّه بن سلام، ومن أسلم منهم؛ نحو: كعب، وغيره من الأحبار؟! وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعز والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم؛ فضلًا عن أهل الإيمان والإسلام، والله أعلم.
والثاني: أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واختاروا المقام على الكفر؛ خوفًا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام، فأخبر - عز وجل - أنهم لو آمنوا لكان خيرًا لهم في الآخرة؛ إذ ذاك ينقطع ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم، لا يزول أبدًا؛ لما كان الذي يُنال بالإيمان غيبًا، وكذلك ما يحلُّ بالكفار من جزاء الكفر - غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر، لما يمنعهم عن الشهوات، وينغص عليهم اللذات، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبر، مع ما كان إدرإك الغائب بالشاهد أمر عسير، لا يوصل إليه إلا بفضل اللَّه، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقًا مع ما كان منهم تقديم الجفاء، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، واللَّه أعلم.
وقوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ):
كذلك كانوا: كان المؤمنون أقل، والكفار أكثر، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ (١١١)
فيه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وللمؤمنين، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم، إلا أذى باللسان؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)، وقوله: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ...) الآية، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على
عدوهم.
وفي قوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى...) الآية - دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك باللَّه عزّ وجل.
وقوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ (١١٢)
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ضُربت عليهم المسكنة " وليس فيه الذلة، وفي حرف حفصة: " ضربت عليهم المسكنة والذلة ".
ثم اختلف في (الذِّلَّةُ): قيل: هي الجزية التي ضربت عليهم، وهي ذلة؛ كقوله: (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها.
وقوله: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) أي: وجدوا.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يعني: بعهد من اللَّه، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدون الجزية؛ وكذلك تأوّل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي: بعهد من اللَّه، وعهد من الناس.
وقال مقاتل: و " الناس " في هذا الموضع: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة.
ويحتمل قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) بكفرهم فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم.
(أَيْنَ مَا ثُقِفُوا)
أي؛ لا يوجدون إلا بحبل من اللَّه وحبل من الناس - بالإسلام، أي: لا يظفرون بهم ولا يوجدون؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم.
وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ):
457
قيل: استوجبوا غضبًا من اللَّه بكفرهم.
وقيل: رجعوا.
وقيل: وجب عليهم الغضب.
وقد ذكرنا هذا في غير موضع. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ)؛
وهي الحاجة والفقر، وهو ما ذكرنا: أنهم ظاهروا المشركين على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع قربهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعدهم بالمشركين؛ فأذلهم اللَّه - تعالى - بذلك، وجعلهم أهل حاجة وَضِعة فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم؛ وهو كقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ...) الآية.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم، وهم الذين ذكر اللَّه في قوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ) الآية، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون. يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات.
ويحتمل: أن اللَّه - تعالى - جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى؛ وهي الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة، فهي حاجة، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة.
ويحتمل: أن اللَّه مع ما وسع عليهم الدنيا - جعل في قلوبهم خوف الفقر، وأعظم الحاجات فهي المسكنة.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ):
وآيات اللَّه: ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ):
يحتمل وجوهًا:
يحتمل: أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء بغير حق، وهَؤُلَاءِ رضوا بذلك، وإن كانوا
458
لم يتولوا هم بأنفسهم؛ فأضاف اللَّه - تعالى - ذلك إليهم؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم؛ وهو كقوله: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
ويحتمل: أن يكونوا قصدوا قتل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم، كما ذكرنا في قوله: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا...) الآية.
ويحتمل: أن يكونوا همُّوا بقتل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل: أن يكون عَيَّرَهُم بآبائهم؛ إذ هم قلدوهم في الدِّين، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء - عليهم السلام - ليعرفوا به سفههم وسفه كل من قصد تقليدهم، والله أعلم.
ويحتمل: أن يكونوا قتلوا أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأضاف إليه، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين - إلى نفسه؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه، وإن كان اللَّه لا يخادع ولا ينصر؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه " لقتلهم الأتباع، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ...) الآية:
أي: لا سواء بين من آمن منهم -يعني: من أهل الكتاب- ومن لم يؤمن منهم؛ لأن منهم من قد آمن؛ فصاروا أمّة قائمة؛ قيل: عادلة، كقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
وقيل: أمة قائمة على حدود اللَّه، وفرائضه، وطاعته، وكتابه؛ لم يحرفوه.
وقيل: أمة قائمة مهتدية، وهم الذين آمنوا منهم.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصلون، ولم يكن هذا للأمم السالفة.
وفي حرف حفصة: " ليس أهل الكتاب ليسوا منهم أمة قائمة "؛ كقوله - تعالى -: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ...) كذا: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ...) الآية.
وقوله: (وَهُم يَسْجُدُونَ):
يحتمل قوله: (وَهُم يَسْجُدُونَ): أي: يصلون.
ويحتمل (يَسْجُدُونَ): يخضعون، والسجود: هو الخضوع.
(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
أي: يؤمنون بأنفسهم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، ويدعون إليه، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، يعني: الكفر.
ويحتمل (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ): كل معروف، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ): كل منكر، وقد ذكرنا هذا.
(وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ): في الخيرات كلها.
(وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ): وقيل: مع الصالحين في الجنة.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: ومَنْ ذلك فعله - فهو صالح.
وقوله: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
أي: لن يرد ذلك عليكم؛ بل يقبل؛ بل تجزون به في الآخرة.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: كيف يَكْفُرهُ، وهو الشكور الذي يقبل اليسير، ويعطي الجزيل؟!.
وهو في حرف حفصة: " فلن تتركوه ": أي: لن تتركوه دون أن تُجزوا عليه؛ وإن قل ذلك؛ كقوله: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، معناه - واللَّه أعلم - ما ذكر، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ).
وقيل: لن يظلمكم.
وقيل: لن ينقصكم.
وقيل: فلن يضل عنكم؛ بل يشكر ذلك لهم، يعني: فلن يضيع ذلك عند اللَّه، والله أعلم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ): ظاهر.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا):
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: فهو - واللَّه أعلم - أن بمثله يكون التناصر في الدُّنيا، لكن الذي كان فيها لا ينفع في الآخرة، بل يكون كما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ...) الآية، ثم لا مال له، ثم ولا لو كان فينفع؛ وذلك أنهم ظنوا أن كثرة الأموال والأولاد تمنعهم من عذاب اللَّه؛ كقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلََّّ -: أن كثرة الأموال والأولاد لا تغني عنهم من عذاب اللَّه شيئًا.
وقوله: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ (١١٧)
ضرب مثل نفقة الكفار التي أنفقوها بريح فيها صر أصابت حرث قوم، وذلك - والله أعلم - أنهم كانوا ينفقون ويعملون جميع الأعمال: من عبادة الأصنام والأوثان، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ظنوا أن تلك الأعمال والنفقات
461
التي أنفقوها في صد الناس - تنفعهم في الآخرة، وتقربهم إلى اللَّه، فأخبر أنها لا تنفع، فكان كالريح التي فيها صرّ وبرد، ظنوا أن فيها رحمة، وشيئا ينفع زروعهم، وينمو بها، فإذا فيها نار أحرقت حرثهم؛ كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا - بالآخرة؛ قربة وزلفة إليه، فإذا هي مهلكة لأبدانهم؛ كالريح التي فيها صر كانت مهلكة؛ محرقة لزروعهم وحرثهم، واللَّه أعلم.
والصرّ: هو البرد الشديد. وقيل: الصر: الصوت؛ كقوله: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا).
قيل. هي الصوت.
قيل: مثل ما ينفقون في الصدّ عن سبيل اللَّه، وفي قتال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا...) والآية، أي: يتأسفون على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ): والظلم: ما ذكرنا: هو وضع الشيء في غير موضعه، فهو - واللَّه أعلم - قال: هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لا أن وضع اللَّه أنفسهم ذلك الموضع؛ لأنهم عبدوا غير اللَّه، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين لله، فهم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث أسلموها لغير اللَّه، وعبدوا دونه، فذلك وضعها في غير موضعها؛ لأن وضعها موضعها هو أن يجعلوها خالصة لله، سالمة له.
وقيل: ما ضروا اللَّه بعبادتهم غيره وبكفرهم به، إنما ضروا أنفسهم؛ إذ لا حاجة له إلى عبادتهم، واللَّه الموفق.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: تقديم وتأخير، وأصل ذلك أن اللَّه قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودية، فجعلوها عبدة غيره.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
462
الآية ١١٦ وقوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ قال الشيخ [ رحمه الله عليه ]١ فهو، والله أعلم، أنه٢ بمثله يكون التناصر في الدنيا، لكن الذي كان فيها لا ينفع في الآخرة، بل يكون كما قال الله تعالى٣ :﴿ يوم يفر المرء ﴾ الآية ]عبس : ٣٤ ] ثم لا مال له ثم، ولا من كان ينفع٤، وذلك أنهم ظنوا أن كثرة٥ الأموال والأولاد تمنعهم من عذاب الله كقوله :﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ]، فأخبر جل وعلا أن كثرة الأموال والأولاد لا تغني عنهم من عذاب الله شيئا.
١ في م: رحمه الله..
٢ في الأصل وم: أن..
٣ في م: جل وعلا..
٤ في الأصل وم: فينفع..
٥ من م، في الأصل كثير..
الآية ١١٧ وقوله تعالى :﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم ﴾ ضرب مثل نفقة الكفار التي أنفقوها بريح ﴿ فيها صر أصابت حرث قوم ﴾ ذلك، والله أعلم، أنهم كانوا ينفقون، ويعملون جميع الأعمال من عبادة الأصنام والأوثان، ويقولون :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ظنوا أن تلك الأعمال والنفقات التي أنفقوها [ في الدنيا ]١ تنفقهم في الآخرة، وتقربهم إلى الله، فأخبر أنها لا تنفع، فكانت٢ كالريح التي فيها صر وبرد، ظنوا أن فيها رحمة وشيئا ينفع زروعهم، وتنمو بها، فإذا فيها نار أحرقت، كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا والآخرة٣ قربة وزلفة إليه، فإذا هي مهلكة لأبدانهم كالريح التي فيها صر كانت مهلكة محرقة لزروعهم وحرثهم، والله أعلم.
والصر هو البرد الشديد، وقيل، الصر الصوت كقوله :﴿ فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها ﴾٤ [ الذاريات : ٢٩ ] وقيل :﴿ مثل ما ينفقون ﴾ في الصد عن سبيل الله في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله :﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا ﴾ الآية [ الأنفال : ٣٦ ] أي يتأسون٥ على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وما ظلمهم الله ولكن أنفسكم يظلمون ﴾ والظلم ما ذكرنا، هو وضع الشيء في غير موضعه، فهو، والله أعلم، [ ما ]٦ قال : هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها لا أن [ الله وضع ]٧ أنفسهم ذلك الموضع لأنهم عبدوا غير الله، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين لله، فهم الذين ظلموا أنفسهم حين أسلموها لغير الله، وعبدوا دونه، فذلك وضعها في غير موضعها، لأن موضعها هو أن يجعلوها خالصة لله سالمة له، وقيل : ما ضروا الله بعبادتهم غيره وبكفرهم به، إنما ضروا أنفسهم إذ لا حاجة له إلى عبادتهم، والله الموفق.
قال الشيخ [ رحمه الله عليه : في القول ]٨ : تقديم وتأخير، وأصل ذلك أن الله قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودة، فجعلوها عبدة غيره.
١ في الأصل وم: الناس..
٢ في الأصل وم: فكان..
٣ من م، في الأصل: والآخرة..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: وقيل هي الصوت..
٥ من م، في الأصل: ينافسون..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: وضع الله..
٨ في الأصل: رحمه الله عليه، في م: رحمه الله..
الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ (١١٨)
اختلف فيه:
قيل: نهى اللَّه المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، أو يؤاخوهم، أو يتولوهم دون المؤمنين.
وقيل في حرف حفصة: " لا تتخذوا بطانة من دون أنفسكم "، يعني: من دون المؤمنين.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " نهى اللَّه المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى، والمنافقين - بطانة دون إخوانهم من المؤمنين، فيحدثوهم ويفشوا إليهم سرهم دون المؤمنين ".
والبطانة: قيل: هم الإخوان، ويجعلونهم موضع إفشاء سرهم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: والنهي عن اتخاذ الكافر بطانة لوجهين:
أحدهما: العرف به؛ إذ كل يعرف بمن يصحبه.
والثاني: الميل إليه بما يريه عدوه أنه حسن العشرة وحسن الصحبة، مع ما فيه الإسقاط عما به يستعان على أمر الدِّين، والإغفال عن حقه.
وقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا): يقولون: لا يتركون عهدهم في إفشاء أمركم.
وقوله: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): أي: يودون ويتمنون ما أثمتم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: ودوا أن تشاركوهم في أشياء تؤثمكم ويبعثكم عليه.
وقيل: العنت: الضيق؛ أي: ذلك قصدهم؛ كالآية التي تتلوها. وقوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ):
من قال: إن أول الآية في المنافقين يقول: قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) ما ذكر في آية أخرى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، أنهم كانوا يعرفون المنافق في لحن كلامه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): ما كان من التفريق بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)، وإظهار السرور بنكبتهم، كقوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ...) الآية.
وقوله: (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ): وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لهم، ويضمرون العداوة والخلاف لهم، والسعي في هلاكهم فما كانوا يضمرون أكثر ما كانوا، يظهرون.
ومن قال بأن الآية في الكفار - فهو ظاهر.
وقوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): من الشتيمة والعداوة، ويضمرون أكثر من ذلك من الفساد والشرور، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ):
يحتمل قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) البينات، ويحتمل قوله: إن كنتم تنتفعون بعقولكم؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر في غير آي من القرآن أنهم لا يعقلون، قد كان لهم عقول لكنهم لم ينتفعوا بعقولهم، فإذا لم ينتفعوا نفى عنهم العقل رأسًا.
وقوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (١١٩) من قال: إن أول الآية في المنافقين فهذا يدل له ويشهد؛ لأنه قال: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا..) الآية. يقول: ها أنتم يا هَؤُلَاءِ
المسلمون تحبونهم -يعني: المنافقين- ولا يحبونكم على دينكم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفي الآية بيان أن أُولَئِكَ قوم يحبهم المؤمنون، إمّا بظاهر الإيمان أو بظاهر الحال، منهم من طلب مودتهم، فأطلع اللَّه المؤمنين على سرهم؛ لئلا يغتروا بظاهرهم، وليكون حجة لهم ولرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أطلعه اللَّه على ما أسروا، والله أعلم.
ومن قال: إن أوّل الآية في الكفار - يجعل قوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) على الابتداء، والقطع من الأول؛ لأنه وصفهم بصفة المنافقين، ووسمهم بسمتهم وليس في الأول ذلك.
وقوله: (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)
هو على التمثيل، يقال عند شدة الغضب: فلان يعض أنامله على فلان، وذلك إذا بلغ الغضب غايته.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ): إنما كان يغيظهم ما كان للمسلمين من السعة، والنصر، والتكثر، والعز؛ فيكون في ذلك دعاء لهم بتمام ذلك، حتى لا يروا فيهم الغير، واللَّه أعلم.
وفي حرف حفصة: " قل موتوا بغيظكم لن تضرونا شيئًا إن اللَّه عليم بذات الصدور " على الوعيد.
وقوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ (١٢٠)
قال: ليس هذا وصف المنافقين في الظاهر؛ لأنهم كانوا يطمئنون عند الخيرات، لكنّه يحتمل أنهم كانوا يطمئنون بخيرات تكون لهم لا للمؤمنين: (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) ذكر في القصة أنهم إذا رأوا للمسلمين الظفر على عدوهم والغنيمة -يسوءهم ذلك، وإذا رأوا القتل والهزيمة عليهم- يفرحون به ويُسَرُّون.
وقيل؛ إذا رأوا للمؤمنين الخصب والسعة -ساءهم، وإذا رأوا لهم القحط والجدب وغلاء السعر- فرحوا به، لكن هذا يحتمل في كل خير رأوا لهم -اهتموا لذلك، وفي
كل مصيبة ونكبة رأوا لهم- فرحوا بها.
وقوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)
وعد النصر بشرط: (لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)، أخبر أن المؤمنين إذا اتقوا وصبروا لا يضرهم كيدهم شيئًا، حتى يعلم أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بما كسبت أيديهم.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) على الوعيد.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
وقوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ).
قوله: (تُبَوِّئُ): قيل: تهيئ للمؤمنين أمكنة القتال.
وقيل: (تُبَوِّئُ): تنزل المؤمنين.
وقيل: (تُبَوِّئُ الْمُؤمِنِينَ): تتخذ للمؤمنين مقاعد لقتال المشركين.
وقيل: (تُبَوِّئُ): توطن.
وقيل: تستعد للقتال.
كله يرجع إلى واحد.
ثم اختلف في أي حرب كان، وأي يوم؟ قال أكثر أهل التفسير: كان ذلك يوم أُحد.
وقيل: إنه كان يوم الخندق.
وقيل: كان يوم الأحزاب؛ فلا يعلم ذلك إلا بخبر يصح أنه كان يوم كذا، لكن في ذلك أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر، ويختارون لهم المقاعد، وعليهم تعاهد إخوانهم، ودفع الخلل والضياع عنهم ما احتمل وسعهم، وعليهم طاعة الأئمة، وقبول
الإشارة من الإمام، وذلك في قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ذكر مقاعد القتال في هذه الآية، لكن الذي لزم من ذلك في آية أخرى - ذكر الصف بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، وذكر في آية أخرى الثبات بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، والأصل أنهم أمروا بالثبات، فالأحسن أن يختار لهم أمكنة لهم بها معونة على الثبات، واللَّه أعلم، فيحتمل أن يكون أراد بالمقاعد القعود، وذلك أثبت للقتال وأدفع للعدو، وفيما ذكر الصف ذكر للجيلة عليه بقوله - عز وجل -: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فيه رخصة الحملة على العدو، وباجتهاد إن كان فيها تولي الأدبار.
ويحتمل أن يكون أراد بالمقاعد: الأماكن والمواطن للقتال والحرب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
يحتمل. سميع لمقالتكم؛ عليم بسرائركم.
ويحتمل: سميع بذكركم اللَّه والدعاء له؛ لأنهم أمروا بالذكر لله، والثبات للعدو بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، وعليم بثوابكم.
ويحتمل قوله: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ): البشارة من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالنصر لهم، والأمن من ضرر يلحقهم؛ كقوله - تعالى - لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) أمَّنهما من عدوهما بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْمَعُ وَأَرَى)، فعلى ذلك يحتمل ذا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ويكون سميع: أي: أسمع دعاءكم؛ بمعنى: أجيب، وأعلم ما به نصركم وظفركم، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا (١٢٢)
قوله: (هَمَّتْ):
يحتمل: أن همُّوا هَمَّ خطر.
ويحتمل: أن همّوا همّ عَزم، وكذلك هذا التأويل في قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)، همَّت هي هَمَّ عزم، وهمَّ هو بها همَّ خطر، وهَمُّ الخطر يقع من غير صنع من صاحبه، وهَمُّ العزم يكون بالعزيمة والقصد.
وقوله: (هَمَّت... أَن تَفْشَلَا) والفشل ليس مما ينهى عنه؛ لأنه يقع من غير فعله، لكنه - واللَّه أعلم - هموا أن يفعلوا فعل القتل والجبن وذكر في القصة أن الطائفتين: إحداهما كانت من بني كذا، والأخرى من بني كذا، فلا يجب أن يذكر إلا أن يقروا هم بذلك.
وقيل: إنهم كانوا أقروا بذلك، وقالوا: نحن كنا فعلنا، وما نحب ألا يكون في قوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) ظهر لنا ولاية اللَّه، ولو لم يكن لم يظهر.
وقوله (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا).
قد ذكرنا هذا في غير موضع:
أن " الولي ": قيل: هو الناصر، وقيل: هو الحافظ، وقيل: إنه أولى بهم.
وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: المؤمن من يعلم -علم اليقين- أن من نصره اللَّه لا يغلبه شيء، ومن يخذله اللَّه لا ينصره شيء.
حق على المؤمنين ألا يتوكلوا ولا يثنوا إلا على اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: فتوكل: أي اعتمد على ما وعد، واجتهد في الوفاء بما عهده، وفوض كل أمره إلى اللَّه؛ إذ علم أنه -بكليته- لله، وإليه مرجعه، وبهذه الجملة عهد أن ينصر دينه، ولا يولي عدوَه دبرَه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)
وقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)
يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ألا يتكلوا إلى أنفسهم لكثرتهم ولقوتهم ولعدتهم، ولا يثقوا
بأحد سواه، بل على اللَّه يتوكلون، وإليه يكلون، وبه يثقون؛ لأنه أخبر أنهم كانوا أذلة ضعفاء فنصرهم، وأمد لهم بالملائكة حتى قهر عدوهم -مع ضعفهم، وقلة عددهم- يوم بدر. ويوم أحد: كانوا أقوياء كثيري العدد؛ فوكلوا إلى أنفسهم، فكانت الهزيمة عليهم.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ)
يعني: اتقوا معاصيه
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
وفيه دلالة أن الشكر إنما يكون في طاعته، واتقاء معاصيه، وأن المحنة إنما تكون في الشكر لما أنعم عليه، والتكفير لما سبق منه من الجفاء والغفلة، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
وذكر في سورة الأنفال: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)،
فاختلف فيه:
قيل: كانوا عشرة آلاف؛ لأنه ذكر مرة:
ثلاثة آلاف، ومرة:
خمسة آلاف.
ومرة: ألفا - مردفين؛ فيكون ألفان، فذلك عشرة آلاف.
وقيل: كانوا تسعة آلاف: ثلاثة آلاف وخمسة آلاف، وألف
وقيل: كانوا كلهم خمسة آلاف: ثلاثة آلاف؛ وألفان مدد لهم.
ثم اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان يوم أحد.
وقال آخرون: يوم بدر.
وقوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)، يوم بدر، ولا ندري كيف كانت القصة؟ وليس لنا إلى معرفة القصة حاجة؛ سوى أن فيه بشارة للمؤمنين بالنصر لهم، والمعونة بقوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) جعل في ذلك تسكين قلوب المسلمين.
ثم اختلف في " قتال الملائكة ": قَالَ بَعْضُهُمْ: قاتل الملائكة الكفار.
وقال آخرون: لم يقاتلوا، ولكن جاءوا بتسكين قلوبهم ما ذكر في الآية، ولا يحتمل القتال؛ لأنه ذكر في الآية: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)، ولو كانوا يقاتلون لم يكن لما يقلل معنى؛ ولأن الواحد منهم كاف لجميع المشركين، ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - كيف رفع قريات لوط إلى السماء فقلبها؟! فدلّ لما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقيل: قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم أحد.
فلا ندري كيف كان الأمر؟.
وقوله: (مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
قيل: " منزلين "؛ " ومسوّمين " سواء، وهو من الإرسال؛ ومن التسويم.
وقيل: معلمين بعلامة، وذلك - وألله أعلم - لِيُعْلِمَ المؤمنين حاجتهم إلى العلامة، لا أن الملائكة يحتاجون إلى العلامة؛ وكذلك روي عن نبيّ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأصحابه يوم بدر: " تَسَوَّمُوا؛ فإن المَلائِكةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ).
وقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (١٢٦)
ليعلم أنّ في النصر لطفًا من اللَّه لا يوصل إليه بشيء من خلقه؛ لأنه نفاه عنهم مع مدد الملائكة " ليعلم أن كل منصور على آخر - إنما كان ذلك من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... (١٢٧)
قال قتادة: " كان يوم بدر قتل صناديدهم وقادتهم في الشر ".
وقيل: (طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا): جماعة.
وقيل: (طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ...): يعني: أهل مكة.
وقوله: (أَوْ يَكْبِتَهُمْ):
قيل: يخزيهم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الكبت: الهزيمة ".
وقيل: الكبت: هو الصرع على وجهه.
وقوله: (فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ):
471
والخائب: هو الذي لم يظفر بحاجته، أي: رجعوا ولم يصيبوا ما أمَّلوا.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ما ذكر من حضور الملائكة الحرب فهو - واللَّه أعلم - في حق محنة الملائكة، ولله أن يمتحنهم بما شاء من الحضور والمعونة، والكف عن ذلك، أو الدعاء لأوليائه بالنصر، وبما شاء اللَّه من الوجوه التي يمتحن بها عباده، وفيهم من قد امتحنه على الأرزاق والأرواح، والأمطار والأعمال، وأنواع الأذكار والأفعال؛ إذ هم خلق اصطفاهم واختارهم لعبادته وطاعته في جميع ما يأمرهم؛ ليجل به قدرهم، ويعلي رتبتهم، ثم لو أذن لهم بالمعونة أعانوا المؤمنين على قدر الإذن لهم؛ إذ هم -على ما وصفهم اللَّه-: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).
وقوله: (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ)، وغير ذلك مما وصفهم بالطاعة له، والاتباع لأمره، وما أكرمهم من هيبة جلاله، وخوف عقابه، صلوات اللَّه علمهم أجمعين.
ثم كان للمؤمنين في حضورهم أنواع البشارات فيما لم يكن أذن لهم بالقتال، وأنواع الآيات فيما قد أذن لهم، على ما ذكر من أمر بدر وغيره؛ مما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من إرسال جنوده، وهزيمة أعدائه؛ بمنه وفضله، من ذلك: ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا...) الآية، أن يكون الله يؤيدهم بما به تشجيع قلوب المؤمنين على ما قد أمكن أعداءه من أنواع الوساوس، التي لديها تضطرب قلوبهم، وتزل أقدامهم، فمثله يمكن أولياءه في تشجيع المؤمنين، ليسكن قلوبهم، ويثبت أقدامهم، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون الذي جُبل عليه الخلق أن يكون كل أحد عند معاينة الحاجة إلى دعائه، وما يحتمل وسعه من معونة؛ عليه أقبل وبه أرغب؛ فيكون للمؤمنين بحضورهم رجاء النصر بدعائهم، ويخرج قوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا...) الآية، وقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُم)، واللَّه أعلم.
أو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في عصرهم يبشرهم بحضورهم؛ فيكون لهم بذلك فضل ثبات وقرار حياة منهم بما أعلموا إطلاعهم على ذلك، أو يكون لهم فضل قوة بذلك، وإقبال
472
الآية ١٢٧ وقوله تعالى :﴿ ليقطع طرفا من الذين كفروا ﴾ الآية، قال قتادة :( كان يوم بدر قتل صناديدهم وقادتهم في الشر )، وقيل ﴿ طرفا من الذين كفروا ﴾ يعني أهل مكة، وقوله تعالى :﴿ أو يكبتهم ﴾ قيل : يخزيهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]١ قال :( الكبت الهزيمة ) وقيل : الكبت هو الصرع على وجهه، وقوله تعالى :﴿ فينقلبوا خائبين ﴾ والخائب هو الذي لن يظفر بحاجته، أي رجعوا، ولم يصيبوا ما أملوا.
قال الشيخ، رحمه الله : ما ذكر من حضور الملائكة الحرب، فهو، والله أعلم، في حق محنة الملائكة، ولله أن يمتحنهم بما شاء من الحضور والمعونة والكف عن ذلك أو الدعاء لأوليائه بالنصر وبما شاء الله من الوجوه التي يمتحن بها عباده، وفيهم من قد امتحنه على الأرزاق والأرواح والأمطار والأعمال وأنواع الأذكار والأفعال [ إذ هم خلق اصطفاهم، واختارهم لعبادته وطاعته في جميع ما يأمرهم ليجل به قدرته، ويعلي رتبتهم، لو أذن لهم بالمعونة أعانوا المؤمنين على قدر الإذن لهم ]٢ إذ هم على ما وصفهم الله [ بقوله تعالى ]٣ ﴿ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ﴾ [ الأنبياء : ٢٧ ] وقوله تعالى :﴿ يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾ [ فصلت : ٣٨ ] وغير ذلك ما وصفهم بالطاعة له والاتباع لأمره، وما أكرمهم من هيبته وجلاله وخوف عقابه، صلوات الله عليهم أجمعين، ثم كان للمؤمنين في حضورهم أنواع البشارات في ما لم يكن إذن لهم بالقتال وأنواع الآيات في ما قد أذن لهم بالقتال وأنواع الآيات في ما قد أذن لهم على ذكر من أمر بدر وغيره مما أخبر الله جل وعلا :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنه معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ الآية [ الأنفال : ١٢ ] [ وفيه وجهان :
أحدهما ]٤ : أن يكون الله يؤيدهم بما به تشيع قلوب المؤمنين على ما قد أمكن الأعداء٥ من أنواع الوساوس التي لديها تضطرب قلوبهم، فمثله يمكن أولياؤه في تشجيع المؤمنين ليسكن قلوبهم، ويثبت أقدامهم، والله أعلم.
والثاني : أن يكون الذي جبل عليه الخلق : أن يكون كل واحد [ عند ]٦ معاينة الحاجة إلى رعاية، وما يحتمله وسعه من معونة، عليه أقبل، وبه أرغب، فيكون للمؤمنين بحضورهم رجاء٧ النصر بدعائهم، ويخرج قوله تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا ﴾ الآية [ غافر : ٥١ ] وقوله تعالى :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ﴾ والله أعلم إذ٨ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصرهم٩ يبشرهم بحضورهم، فيكون لهم ذلك فضل ثبات وقرار حياة منهم بما أعملوا١٠ اطلاعهم على ذلك، أو يكون لهم فضل قوة بذلك وإقبال على الأمر على ما جبل الخلق من الإقبال على الأمور المهمة، وإذا كثروا، فعلى١١ ذلك قوله :﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾ [ التوبة : ٢٥ ] ولعلهم أيضا بما يطمعون أنهم لو أطاعوا الله، وثبتوا لأعدائه أن لهم النصر والرفعة١٢، فكان ذلك بعض ما يستشبرون. وعلى ذلك أكثر ما بلي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهزيمة، إنما كان يصرف قلوبهم إلى بعض ما جبل عليه البشر من حب الدنيا والإعجاب بالكثرة ونحو ذلك.
ثم من أعظم الأعلام في ذلك ما قال الله جل وعلا :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ﴾ [ الآية : ١٢٦ ] فتكون البشارة والطمأنينة بالذي جبل عليه البشر على ما يثبت، ويكون النصر من عند الله الذي متى أراد نصر أحد فلن يغلب : قلت أعوانه، أو كثرت. وذلك لطف من الله العزيز العليم يريهم النصر من الوجه الذي لا يعلمه إلا هو، وفي حال الأنفس من أنفسهم أن يقوم لعدوهم ليعلموا عظيم لطفه الذي بمثله ارتفعت درجات الأخيار، وشرفت منازلهم، ولو كان لهم بالإذن على ما ذكر من قوة جبريل عليه السلام في قلب قريات لوط بجناح واحد، لم يكن يقوم لمثله أهل الأرض فضلا من عدد يسير منهم، ولكنهم لا يتقدمون بين يدي الله، والله لم يكن أذن لهم في القتال عند كل مشهد، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: أعداء..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ من م، في الأصل: رجاء..
٨ في الأصل وم: او..
٩ في الأصل وم: عصرهم..
١٠ في الأصل وم: اعملوا..
١١ الفاء ساقطة من الأصل وم..
١٢ في الأصل وم: والدفع.
على الأمر؛ على ما جبل الخلق من الإقبال على الأمور المهمة، وإذا كثروا على ذلك قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)، ولعلهم -أيضًا- بما يطمعون أنهم لو أطاعوا اللَّه، وثبتوا لأعدائه - أن لهم النصر والدفع، فكان ذلك بعض ما يستبشرون؛ وعلى ذلك أكثر ما بلى أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالهزيمة، إنما كان يصرف قلوبهم إلى بعض ما جبل عليه البشر من حب الدنيا، والإعجاب بالكثرة، ونحو ذلك، ثم من أعظم الأعلام في ذلك ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فتكون البشارة والطمأنينة بالذي جبل عليه البشر على ما بينتُ، ويكون النصر من عند اللَّه، الذي متى أراد نصر أحد لن يغلب، قلَّت أعوانه أو كثرت، وذلك لطف من الله العزيز العليم؛ يريهم النصر من الوجه الذي لا يعلمه إلا هو، وفي حال الأنفس من أنفسهم أن يقوم لعدوهم؛ ليعلموا عظيم لطفه الذي بمثله ارتفعت درجات الأخيار، وشرفت منازلهم، ولو كان لهم بالإذن؛ على ما ذكر من قوة جبريل - عليه السلام - في قلب قريات لوط بجناح واحد، لم يكن يقوم لمثله أهل الأرض، فضلًا عن عدد يسير منهم، ولكنهم لا يتقدمون بين يدي اللَّه، واللَّه لم يكن أذن لهم في القتال عند كل مشهد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
وقوله. (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ...) الآية.
قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ): إنما أنت عبد مأمور؛ فليس لك من الأمر؛ إنما ذلك إلى الواحد القهار، الذي لا شريك له ولا ند؛ كقوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).
وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ...) الآية
فيه: أنه كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معنى قولًا وفعلًا، حتى ترك قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، ولكنا لا نعلم ذلك المعنى، غير أنه قيل في بعض القصة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شج يوم أُحد في وجهه، وكسرت رباعيته، فدعا عليهم؛ فنزل قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)
وقيل: إن سرية من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، خرجوا إلى قتال المشركين يقاتلونهم حتى قتلوا جميعًا، فشق على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه بقتلهم، فدعا عليهم باللعنة - يعني: على المشركين - أربعين يومًا في صلاة الغداة؛ فنزل قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: " اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيان، اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا، حتى لعن نفرًا منهم " فنزل قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ...) الآية.
وقيل: " إن نفرًا من المسلمين انهزموا، فشق ذلك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، فأمره بكف الدعاء عنهم، واللَّه أعلم بالقصة في ذلك.
وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ):
فإن كانت القصة في الكفار فكأنه طلب التوبة والهدى، وأفرط في الشفقة فقال: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فيهديهم لدينه، (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) على كفرهم؛ (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
فإن كان في المؤمنين فقوله: (يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عن ذنبهم الذي ارتكبوا، (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بذنبهم، ولا يعفو عنهم، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (١٢٩)
فيه دلالة ما ذكرنا في قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إنما الأمر إلى اللَّه، الذي له ما في السماوات وما في الأرض، هو الذي يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.
وفي قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وجواز العمل بالاجتهاد؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - عمل بالاجتهاد لا بالأمر، حتى منع عنه، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ويحتمل أن يكون على أثر أمر مما جبل عليه البشر ما رأى في ذلك صلاح الخلق، ومما عليه التدبير بحيث الإطلاق فقيل هذا، وإن كان على ما رأيت فليس لك من أمر هذا شيء، وإنَّمَا الذي إليك الصفح عن ذلك والإعراض، واللَّه أعلم ما كان.
ويحتمل أن يكون يبتدئ القول به من غير أن يسبق منه ما يعاتب عليه أو يمنع منه؛ ليكون -أبدًا- مُتَقبلا الإذن له في كل شيء والأمر، ولا يطمع نفسه في شيء لم يسبق له البشارة به، على أن النهي والوعيد أمران جائزان، وإن كان قد عصم عن ركوب المنهي، ووجوب الوعيد؛ إذ هنالك تظهر رتبة العصمة، ولا قوة إلا باللَّه.
والظاهر أن يكون على إثر أمر استعجل ذلك من: دعاء الإهلاك أو الهداية لقبول الحق والخضوع له؛ فيقول: ليس لك شيء من ذلك في أحد على الإشارة إليه، إنما ذلك إلى اللَّه، يصنع فيهم ما عنده من الثواب أو التعذيب، على قدر ما يعلم من إقبالهم على الطاعة له أو نفاذهم عنها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً).
قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا) - كقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ففيه نهي عن الأخذ؛ كقوله: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)؛ فعلى ذلك قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا)، أي: لا تأخذوا.
وقوله: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى النهي عن المضاعفة وغير المضاعفة حرام؟! لكنه يحتمل هذا وجوهًا:
475
يحتمل: أن يكون هذا قبل تحريم الربا، فنهوا عن أخذ المضاعفة.
ويحتمل قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا): أي: لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة.
ويحتمل: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)، أي: لا تصرّوا على استحلال الربا فتثبتون عليه آخر الأبد.
ويحتمل. (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)؛ تضعيف العذاب.
ويحتمل ما قيل: كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل، وذلك كان ربا الجاهلية.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا).
يحتمل الأكل؛ لأنه نهاية كل كسب.
ويحتمل الأخذ؛ كقوله: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، وقوله: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً): في الأخذ، أي: لا تأخذوا لتُكَثروا أموالكم، أو تقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد؛ وليس فيه أن القليل ليس بمحرم، لكن ذلك هو مقصود أكله؛ فنهوا عن ذلك، وحرمة القليل بغير ذلك من ليُكَثروا أن يكون في نازلة عليها، خرج النهي لا على الإذن بدون ذلك، ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه، وإن كان
476
في ذلك ضيق، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون في الآية إضمار؛ فيقول: لا تأكلوا الربا؛ لأنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم - تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات، وقد جعل اللَّه للربا أعلامًا دلت على ما غلظ شأنها؛ نحو ما وصف من لا يتقيه لا ينفيه بالخروج بحرب اللَّه وحرب رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالتخبط يوم القيامة، وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود، وبتحريم أشياء لمكان ذلك، وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم بتعاطي الربا، واللَّه أعلم، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) ولا تأخذوا الربا ولا تستحلوه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)
فيه دلالة أنها إنما أعدت للكافرين، لم تعد لغيرهم، فذلك يرد على المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، واللَّه - تعالى - يقول: إنها أعدت للكافرين، وهم يقولون: ولغير الكافرين.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ:
يحتمل: للذين اتقوا الشرك؛ كقوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
ويحتمل: للذين اتقوا جميع أنواع المعاصي: فإن كان التأويل هو الأول -فكل من لم يستحق بفعله اسم الكفر- فهو في الآية؛ إذ قال في النار: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، لم يجز أن تكون هي أبدًا لغيرهم؛ لوجهين:
أحدهما: إذ لا يجوز أن تكون الجنة المتخذة للمؤمنين تكون لغيرهم؛ فكذلك النار المعدة للكافرين، وهذا أولى بجواز القول في إيجاب الجنة لمن لا يكون منه الإيمان؛ نحو الذرية، وفساد القول فيهم بالنار، واللَّه أعلم.
والثاني: أنها إذا جعلت لغيرهم أو أعدت لغيرهم -كان لا يكون للكفر فضل هيبة
ولفعله فضل فزع في القلوب بوجود ذلك، ومعلوم أن ذلك بالعواقب لا بنفس الفعل- ثبت أنه لا يجب خلود من ليس بكافر فيها حتى يكون ممن أعدّت له، ولغير أثر وتحذير لا تحقيق ذلك كله، واللَّه أعلم.
وإن التأويل هو الثاني من اتقاء جميع المعاصي؛ فيكون لذلك بعد عبارتان:
إحداهما: أن قد ظهر أهل الجنة وأهل النار، وبينهم قوم لم تبلغ بهم الذنوب الشرك، فيدخلون في الوعيد بالنار المعدة لهم، ولا اتقوا جميع المعاصي؛ فيكونون في الوعد المطلق فيمن أعدت له الجنة؛ فحقه الوقف فيه حتى يظهر ذلك في قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وفي قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، وقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ)، الآية، وغير ذلك من آيات العفو والمغفرة، وما كان ذلك واجبًا في الحكمة، فيكون القائم به يستحق وصف العدل لا العفو والمغفرة - ثبت أن ذلك فيما قد وجب، أو يكون فيمن يجزيهم جزاءهم ويدخلهم الجنة؛ إذ أخبر أنه لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وبالتخليد مضاعفة ذلك من وجهين:
أحدهما: أنه عذاب الكفر، وهذا دونه.
والثاني: منع لذة الحسنة بكليتها، بل حق ذلك أن يكون كقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) الآية، أن يجزي بالأمرين جميعًا، ولا قوة إلا باللَّه.
والثاني: أنه قد جاء بمقابل السيئة من الحسنات، ومقابل كل أنواع من المعاصي من الطاعات، وقد وعد على الحسنة عشر أمثالها؛ فمحال أن يقابل مثل الذي دون الشرك من السيئات - الشرك في إحباط العمل، ولا يقابل مثل الذي دون الإيمان الإيمان في إحباط الذنوب، ويجب له الجنة، ثم مع ذلك الإيمان الذي لا أرفع منه، وهو الذي بعثه على الخوف والرجاء وقت الإساءة، وعلى أنه لو خشي على نفسه كل بلاء ورجا كل نفع في الكفر بربه - لم يؤثر ذلك مع ما وعد على الحسنة عشر أمثالها، ثم يبطل لذة ذلك كله، ويلزم الخلق القول فيه بالكرم والعفو والرحمة، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ... (١٣٢)
ذكر - واللَّه أعلم - طاعة الرسول؛ لأن من الناس من لا يرى طاعة الرسول؛ فأمر - عَزَّ وَجَلَّ - بطاعة رسوله - لئلا يخالفوا أمر اللَّه ولا أمر رسوله، وأن من أطاع اللَّه ولم ير طاعة رسوله فهو لم يطع اللَّه في الحقيقة.
ويحتمل: (وَأَطِيعوا اللَّهَ) في أمره ونهيه، وأطيعوا الرسول فيما بين في سننه أو دعا أو
بلغ، والقصد في الآية إلى فرض طاعة الرسول، وأطيعوا الرسول في أمره ونهيه، كما أطعتم اللَّه في أمره ونهيه.
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)، أي: لا تأخذوا الربا أضعافا مضاعفة فتكثروا أموالكم، وحقيقته: وسارعوا إلى ما فيه وعد المغفرة من ربكم: بالإجابة له إلى ما دعا، والقيام به بحق الوفاء.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في استحلال الربا؛ لأن من استحل محرما فقد كفر، وحقيقته: اتقوا ما أوعدكم ربكم عليه النار.
وأصل الطاعة: الائتمار بأمر المطاع في كل أمر، فمن أطاع اللَّه فيما أمر، وأطاع رسوله - رحمه ربه، وفي الطاعة رحمة الخلق؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا؛ قَالُوا: كُلُّنَا نَرحَمُ يَا رَسُولَ اللهَ؟ قَالَ: لَيسَ رَحْمَةَ الرجُلِ وَلَدَهُ؛ وَلَكِنَّهُ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ ".
قوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) في تحريم الربا، وأطيعوا الرسول: في تبليغه إليكم تحريم الربا والنهي عن أخذه.
(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): أي: ارحموا الناس وترحموهم في ترك أخذ الربا، ترحمون أنتم، وتنجون من النار ومن عذاب اللَّه.
ثم قال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي: بادروا بالتوبة والرجوع عن استحلال الربا والترك عن أخذه، والمغفرة هي فعل اللَّه، لكنه - واللَّه أعلم - كأنه قال: بادروا إلى الأسباب التي بها تستوجبون المغفرة من ربكم، والمغفرة: هي الستر في اللغة.
ثم يحتمل وجهين:
يحتمل: ألا يهتك أستاركم في الآخرة إذا تبتم.
479
ويحتمل: أن ينسى عليكم سيئاتكم في الجنة؛ لأن ذكر المساوئ في الجنة تنقص عليهم نعمه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّّ - أنه ينسيهم مساوئهم في الجنة؛ لئلا ينقص ذلك عليهم، واللَّه أعلم.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ):
وبادروا -أيضًا- بالتوبة عن استحلال الربا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فمعنى ضرب مثل الجنة بضرب السماوات والأرض، وذلك - واللَّه أعلم - ذكر هو أن للسماوات والأرض أحوالًا ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)؛ وذلك أنهما عندهم من أشد الخلائق وأقواها، فقال: إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشد وأقوى وأصلب - لقادر على إنشاء ما هو دونه، وهو هذا العالم الصغير.
ووصف -أيضًا- السماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبعَ سماوَاتٍ) (شِدادًا) وغلاظا، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنها مع غلظها وكثافتها تكاد أن تنشق لعظيم ما قالوا بأن لله ولدًا وشريكًا بقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١)؛ ليعلموا عظيم القول وقبحه؛ لئلا يقولوا في اللَّه ما لا يليق به.
ووصف -أيضًا- السماوات والأرض بالدوام إلى وقت يبعد فناؤهما في أوهام الخلق، وإن كانا فانيان بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) فإذا كان للسماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق، ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ من شدتها وقوتها، وصلابتها وكثافتها وسعتها - شبه عرض جنته وسعتها بسعة السماوات والأرض وعرضهما؛ لما هما عند الخلق ليسا بذوي نهاية، وإن كانا ذوي نهاية وغاية؛ كما وصف أهل الجنة وأهل النار بالدوام فيهما بدوام السماوات والأرض، وإن كانا فيهما غير دائمين أبدًا؛ لبعد فنائهما عن أوهام الخلق؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وفيه دلالة أن الجنة ذو نهاية المكان في العرض، وإن لم تكن بذات نهاية الوقت وغايته؛ لأنه ذكر العرض لها، وكل ذي عرض يحتمل نهاية عرضه - واللَّه أعلم - ولو لم يكن ذا نهاية من حيث العرض، فكأن اللَّه غير موصوف بالقدرة على الزيادة، ومن زال عنه
480
وصف ذلك - انقطع عنه الطمع، واضمحل الرجاء.
وبعد، فإن ثم دارًا أخرى سوى الجنة، فأوجب ذلك نهاية الجنة من حيث العرض.
إذ كان غير الجنة دار أخرى مثلها في ارتفاع نهاية الوقت، وجائز وجود أمرين مختلفين على اتفاق في الوقت، ومحال وجودهما في مكان واحد اتفاق بمكان؛ لذلك لزم نهايتهما، وإن زالت عنهما نهاية الوقت.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ):
والاتقاء: هو من الطاعة في كل أمره ونهيه، وترك مخالفته في ذلك كله، ثم سبب التقوى يكون بوجوه ثلاثة: بذكر عظمته وجلاله ورفعته عن مخالفة أمره ونهيه؛ فيذله ذلك ويحقره، فيمنعه عن مخالفته.
أو بذكر نعمته وإحسانه، فيمنعه ذلك عن ارتكاب ما نهي عنه حياء منهم.
والثالث: بذكر نقمته وعذابه في مخالفة أمره ونهيه؛ فيتقي بذلك عذاب اللَّه ونقمته.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، ثم فسَّرَ الذين يتقون إلى آخر ذلك، فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد: من أعدت له، له من جميع الذي ذكر.
والثاني: أن يريد بـ (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ) اتقوا الشرك بالذي أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). ثم وصفهم بالذي ذكر من الأفعال المحمودة؛ لا أن ذلك بكليته شرط لأن يعد له الجنة حتى يحرم من لم يبلغ ذلك، فإن كان على الأول - فكأنه وصف النهاية لمن أعدّت الجنة، وقد يجوز أن يكون لهم أتباع
481
في الشركة، وإن لم يبلغوا تلك الرتبة بفضل اللَّه، أو بما أعطى من ذكر فيهم من الشفاعة، أو بما شاركوا أُولَئِكَ في أصل الاعتقاد بقبول ذلك، وإن كان منهم تقصير على أنه قد يذكر في كل أمر من الأمور العظيمة، والنهاية في ذلك على مشاركة من دونهم لهم في ذلك، وعلى ذلك ما ذكر من بعث الرسل إلى الفراعنة على دخول من دونه في ذلك، وعلى مخاطبة أهل الجلال في ذلك، ودخول من دونهم في الحق؛ وكذلك ذكر الخطاب في أهل الرفعة والعلو على تضمين من دون ذلك؛ فكذلك الأول؛ وكذلك اللَّه - سبحانه - ذكر في القرآن من الكفرة الذين جمعوا مع الكفر العناد والتمرد، وذكر أهل الإيمان الذين لهم مع ذلك الخيرات منّا منه، إن ذكر هَؤُلَاءِ بأعلى أما استحقوا من الثناء، والأول، بأعلى ما به يصير لمَقْته، من غير تخصيص في أصل له الوعد والوعيد، إلا من حيث التشديد والتفضيل، فمثله الأول؛ أيد ذلك قسمته أهل الجنة قسمين: السابقين، - وَأَصحَابَ اليَمِينِ، ثم قال في الذين من ذكر: الذين (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) وقد بين في آخر ذلك ما يدل على ذلك، وهو من ذكر من الذين يأتون الفواحش والظلم، ثم (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا)، ويكون في ذلك وجهان:
أحدهما: أن اللَّه - تعالى - بمنِّه يوفقه لما يرضيه في آخر أمره؛ ليختمه به؛ إذ كان في وقت ارتكابه ما ارتكب، وتقصيره فيما قصر - معتقدًا جلال ربه، خائفًا عظمته، راجيًا رحمته، متعرضًا لما عرفه من الكرم والعفو، فيكون هو شريك من ذكر في الخاتمة، وإن كان منه تخلف عنه في الابتداء، واللَّه أعلم.
أو أن يكون يجزيه عما قصر وفرط؛ حتى يطهره مما كان من الخلط؛ فيرجع إلى ما وافق الأول في جملة الاعتقاد، فتكون معدة لمن جمع ذلك، والجمع يكون بالذي ذكر، أو بالعفو والجود؛ إذ جعل الجزاء طريقه الجود والكرم، لا الاستحقاق، واللَّه أعلم.
وإن كان على معنى الثاني - فالآية تخرج مخرج الترغيب في جميع تلك الأوصاف، وتكون الجنة في الإطلاق معدّة للمتقين، الذين اتقوا الشركة والدرجات وما فيها من الفضائل والمراتب، على قدر ما يبقى من أنواع الخلاف في الأفعال، ويتوسل إلى اللَّه - تعالى - بالمبادرة والمسارعة إلى ما فيه الرغاثب؛ وعلى ذلك أمر الوعد بتفضيل الذرجات في الجنة، وتفريق الدركات في النار، على ما أعدت النار في الجملة للكفرة، ويتفاوت أهلها بتفاوت الأفعال من الخلاف والتمرد، واللَّه الموفق.
482
ثم السّبب الذي به يستعان على التقوى ثلاثة:
أحدها: أن يذكر المرء عظمته وجلاله وقدرته عليه في كل أحواله؛ فيتقي مخالفته بالهيبة والإجلال.
والثاني: أن يذكر عظم منّته عليه، ونعمه عنده، وأياديه التي فيها يتقلب، وبها يتمتع؛ فيتقيه حياء منه.
والثالث: أن يذكر نفسه عظم نقمته الموعودة، وعذابه المعد لأهل الخلاف له؛ فيتقيه إشفاقًا على نفسه، واللَّه الموفق.
وجملة ذلك: أن من تأمل ما إليه مرجعه، والذي منه بدؤه وما فيه متقلبه، من أول أحواله إلى منتهي آجاله، حتى صير ذلك كله كالعيان لقلبه - سَهُل عليه وجه التقوى؛ لما عند ذلك تذهب شهواته، وتضمحل أمانيه، واللَّه الموفق.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ).
قيل: السراء: الرخاء، والضراء: الشدة.
وقيل: السراء: السعة، والضراء: الضيق؛ وهو واحد.
وقيل: السراء: ما يسرهم الإنفاق؛ من نحو الولد وغيره، يسره الإنفاق عليه، والأجنبي يضره.
وعلى تأويل الأول: أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة - أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح، واللَّه أعلم.
والسبب الذي يُيَسرُ عليه الأمر وجهان:
483
أحدهما: علمه بأن الذي في يديه في الحقيقة في يد اللَّه؛ فهو يصرف ذلك حيث يصرفه، لم يخرجه من يد مَنْ يَدُهُ فِي يَدِهِ، كأنه يعد في يده.
والثاني: بعلمه بجود ربه وقدرته، حيث يكون ذلك فيما به قضاء حاجته، والوصول إلى منفعته مع ما يعلم بالجود، وكثرة الانتفاع بما لا ملك للمنتفع به، وحرمان ذي الملك ذلك فيه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ): يحتمل فيما يسرهم ويضرهم، أو في حال يسر وعسر، أو حال بلاء ونعمة.
ثم السبب الذي يسهل سبيل الإنفاق في تلك الأحوال -وإن كان بالذي ذكر في تسهيل التقوى- هذا وجوه ثلاثة:
أحدها: أن ترى مالك لمن له يد امتحنك بحق ذلك وحفظه، وأنك إذا بذلته ارتفعتْ عنك مئونة الحفظ، ومراعاة الحق على ما لم يكن ذاك عنك نفعه الذي كان له وقت كونه في يدك؛ إذ هو بعد البذل في يد من يدك قبله في يده، فكأنه لم يخرج من يدك بحيث النفع، وإنما سقطت عنك ما ذكرت من المئونة؛ إذ معلوم وجودها لك في الظاهر؛ لا منتفع به، ومن لا ملك له في الشيء منتفع به، على العلم باستواء الأمر على من له بذلت، واللَّه أعلم.
والثاني: أن تشعر قلبك جوده بمن آثره على ما عنده، وقدرته على إعطائه إياه من خزائنه التي لا تنفد، ولا يتعذر عليه، فتيقن بذلك، وتعلم أنه لك على الإيصال إليه؛ فيما لم يكن أوصله، وعلى ذلك فيما أعطاه في القدرة واحد؛ فيهون عليه ذلك؛ واللَّه أعلم.
والثالث: أن تعلم أن الذي عليه جبل وإليه دفع؛ ليس للوقت الذي فيه؛ ولكن ليتزود لمعاده، ويكتسب به الحياة الدائمة، والمنفعة التي لا تنفد، فيصير كبائع الشيء بأضعاف ثمنه، أو كباذل ما فيه فكاك رقبته، أو كمقدم ما يمتهن إلى مكان مهنته، أو كمن يعد الشيء في مسكنه لوقت حاجته، فإن مثله آثَرُ الشيء على الطبيعة، وألذ شيء في العقل. ولا قوة إلا باللَّه.
ثم الأصل في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي: من لم يبلغ بما يرتكب من المعاصي - الكفر، لم يمتنع من احتمال التسمية المتقين على إرادة خصوص التقوى؛ وهو ممتنع
484
عن احتمال التسمية بالكفر على صرف الآية في إعداد النار إلى خصوص أو عموم، فثبت به خروج صاحب الكبائر عن أهل الاسم الذي أعدّت له النار، ولم يثبت خروجه عن أهل الاسم الذي له أعدت الجنة، فالقول فيه، وإنما ذلك في الجنة فاسد بأوجه:
أحدها: مع الإشكال فيما يحرم الجنة، والإحاطة بأن النار لم يذكر أنها أعدت له أدخل فيها، فيكون في ذلك إسقاط شهادة تثبت بيقين بالشك، وإيجاب شهادة لم تجب بالخيال.
والثاني: أن يكون في ذلك إسقاط اسم العفو والرحمة؛ إذ لو لم يجعل لمثله - لبطل أن يكون له موضع لما في غيره استحقاق، واللَّه أعلم.
والثالث: ما فيه إسقاط الموازنة والمقابلة مع مجيء الآيات بالكتب التي تقرأ الموازين التي توزن؛ مع ما في ذلك مخالفته التوهم بالكريم الذي أمرنا أن نسميه بها؛ مع ما قد جاء من التجاوز عن السيئات والتقبل للحسنات من واحد، وفي ذلك قلب ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ).
رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ كَظَمَ غَيظًا - وهُو يَقْدِر عَلَى إِنْفَاذِهِ - مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا ".
والغيظ متردد بين الحزن والغضب، والحزن على من فوقه، والغضب على من دونه، والغيظ بين ذلك، مدحهم - عَزَّ وَجَلَّ - بترديد حزنهم وغيظهم في أجوافهم.
485
ْوقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).
أي: عمّن ظلم.
وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " مَا عَفَا رَجُلٌ عَمَّنْ ظَلَمَهُ إِلا زَادَهُ اللهُ بِهَا عِزًّا " ومن عفا عن الناس عن مظلمة - فقد أحسن بذلك؛ كما يقال: فلان يحسن بكذا؛ ولا يحسن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
والإحسان يحتمل وجهين:
يحتمل: العلم والمعرفة:
ويحتمل: أن يفعل فعلًا ليس عليه من نحو المعروف والأيادي الذي ليس عليه، إنما فعله الإفضال، ذكر -هاهنا- المحسنين وحبه، وأخبر في الآية الأولى أن الجنة أعدت للمتقين بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ثم قال: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، وأخبر أن النار أعدت للكافرين.
ثم اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: من لم يكن من المتقين لم تعدّ الجنة له، فهو ممن أعدّت له النار، وهو قول الخوارج والبغاة.
وقال آخرون: إنه أخبر أن النار أعدت للكافرين، فهو إذا لم يكن كافرًا - ليس ممّن أعدت له النار، فهو ممّن أعدّت له الجنة.
وقال غيرهم: أخبر أن النار أعدت للكافرين وأخبر أن الجنة أعدت للمتقين، فوصف المتقين: فهم الذين اتقوا معاصيه، وتركوا مخالفة أمره ونهيه، فإذا كان قوم لهم مساوئ -
486
لم يدخلوا في إطلاق قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ولا دخلوا في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وفيكون لهم موضعًا بالنار.
وأما عندنا: فإنه يرجى دخول من ارتكب المساوئ من المؤمنين في قوله - عز وجل -: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، ذكر خلط عمل الصالح مع السيئ، ثم وعد لهم التوبة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) والعسى من اللَّه واجب.
والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) فإذا تجاوز لم يبق لهم مساوئ؛ فصاروا من أهل هذه الآية: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
وقوله -أيضًا-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وقالوا: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
أخبر أنهم (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لأي معنى ظلموا أنفسهم، حيث لم يسلموا أنفسهم لله خالصين، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا لم يسلموا له - وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لذلك صاروا ظلمة أنفسهم.
(ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي: طلبوا لذنوبهم مغفرة، وأقروا أنه لا يغفر الذنوب إلا اللَّه.
(وَلَمْ يُصِرُّوا) على ذنوبهم، والإصرار: هو الدوام عليه، ثم أخبر أن جزاء هَؤُلَاءِ المغفرة من ربهم؛ (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا...)، إلى آخر ما ذكر.
دلّت هذه الآيات على تأييد قولنا: إن أهل المساوئ والفواحش إذا تابوا صاروا ممن أعدّت لهم الجنة، وإن لم يكونوا من المتقين من قبل، فمثله إذا تجاوز اللَّه عن سيئاتهم؛ وعفا عنهم بما هو عفو غفور، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ...) والآية:
يحتمل أن يكون الظلم غير الفاحشة.
ويحتمل أن يكون واحدًا في المراد؛ إذ قد يكون في المعنى أن كل عاص ظالم
487
لنفسه، بمعنى ضرّها؛ ونحس لحظها؛ إذا فعل ما ليس له الفعل ووضع اختياره في غير موضعه، وهما معنيا الظلم، وكذلك من تعدى حَدَّ اللَّه أو آثر ما يزجره العقل والشرع -فقد فحش فعله، وذلك معنى الظلم الذي وصفت؛ إذ فعل ما ليس له، واختياره غير الذي له- هو الذي يزجره العقل والشرع، واللَّه أعلم.
ويحتمل وجها آخر غير هذين: وهو أن الظلم يجمع كل وجوه الخلاف؛ عظم أو صغر، ولذلك قد نسب ذلك إلى زلات الأخيار، نحو ما قيل لآدم - عليه السلام - في أكل الشجرة: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقيل في الشرك: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والفواحش: ما أظهر وتبين، قبحه؛ لا ما قل أو كثر في الذنوب، وعلى ذلك النقصان ظلمًا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)، وقد يوصف العيب والنقصان بالفحش؛ لكنه إذا كثر وظهر فمثله في الزلات، ويكون كالطيب في المحللات من المباح ونحوه في الدرجة، واللَّه أعلم.
ثم ليس بنا حاجة إلى معرفة المقصود بالذكر في الآية؛ لما فيها الرجوع عن ذلك، وطلب المغفرة، وكل أنواع المآثم بالتوبة تغفر بما وعد اللَّه في الشرك، والزنا، والقتل؛ فما دونه - بقوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...)، إلى تمام الآية، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً (١٣٥)
يحتمل الفاحشة: ما فحش في العقل وقبح.
وقال آخرون: كل محرم منهيّ فهو فاحشة.
والأول كأنه أقرب؛ لأن الشيء ما لم يبلغ في الفحش والقبح غايته؛ فإنه لا يقال: فاحشة، وإذا بلغ الغاية -فحينئذ كالطيب، أنه إنما يقال ذلك إذا بلغ غايته في الحل واللذة، فأما أن يقال لكل حل في الإطلاق طيبًا- فلا، فعلى ذلك: الفواحش؛ لا يقال لكل محظور محرم، إنما يقال ما بلغ في القبح والفحش غايته، فأما أن يقال ذلك لكل محرم منهي - فلا، وباللَّه التوفيق.
الآية ١٣٦ ثم أخبر أن جزاء هؤلاء ﴿ مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ إلى آخر ما ذكر. دلت هذه الآيات على تأييد قولنا : إن أهل المساوي والفواحش إذا تابوا صاروا ممن أعدت لهم الجنة وإن لم يكونوا من المتقين من قبل، فمثله إذا تجاوز الله عن سيئاتهم ( وعفا عنهم ) ١ بما هو غفور والله أعلم.
قال الشيخ رحمه الله، في قوله :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ﴾ الآية يحتمل أن يكون الظلم غير الفاحشة ويحتمل أن يكونا واحدا في المراد إذ قد يكون في المعنى أن كل عاص٢ ظالم لنفسه بمعنى ضرها بفحش٣ لحظها إذا فعل ما هو ليس له الفعل ووضع اختياره في غير موضعه وهما معنيا٤ الظلم، وكذلك من تعدى حد الله، أو آثر ما يزجره العقل والشرع فقد فحش فعله وذلك معنى الظلم الذي وصفت إذا فعل ما ليس له اختياره غير الذي له هو الذي يزجره العقل والشرع، والله أعلم. ويحتمل التفريق وهو أن الظلم يجمع كل وجوه الخلاف عظم أو صغر ولذلك قد نسب ذلك إلى زلات الأخيار نحو ما قيل لآدم عليه السلام وحواء في أكل الشجرة :﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ ( البقرة ٣٥ والأعراف ١٩ ) وقيل في الشرك : إن الله لا يحب القوم الظالمين والفواحش، ما يظهر ويتبين قبحه /٦٩-ب/ لا ما قل أو كثر في الذنوب، وعلى ذلك النقصان ظلم٥ بقوله :﴿ ولم تظلم منه شيئا ﴾ ( الكهف ٣٣ ) وقد يوصف العيب والنقصان بالفحش ) لكنه إذا كثر، وظهر، فمثله في الزلات ويكون كالطي ب في المحلات من المباح ونحوه في الدرجة، والله أعلم.
ثم ليس بنا حاجة إلى معرفة المقصود بالذكر في الآية لما فيه الرجوع عن ذلك وطلب المغفرة. وكل أنواع المآثم بالتوبة تغفر بما وعد الله في الشرك والزنى والقتل فما دونه بقوله :﴿ يضاعف له العذاب يوم القيامة ﴾ على تمام الآية ( الفرقان ٦٩ ) والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إذا فعلوا فاحشة ﴾ تحتمل الفاحشة ما فحش في العقل وقبح وقال آخرون : كل محرم منهي ( عنه )٦ فهو فاحشة والأول كأنه أقرب لأن الشيء ما لم يبلغ في الفحش والقبح غايته فإنه لا يقال : فاحشة وإذا بلغ الغاية فحينئذ كالطيب : إنه ذلك إذا بلغ غايته في الحل واللذة فإما أن يقال لكل حل في الإطلاق طيبا فلا. فعلى ذلك الفواحش لا يقال لكل محظور محرم، إنما بلغ في القبح والفحش غايته، فأما أن يقال ذلك لكل محرم منهي ( عنه ) ٧ فلا، بالله التوفيق. والطيب ما استطابه الطبع، فإذا بلغ طيبه غايته في الطبع فهو طيب والله أعلم.
١ في الأصل و م: وعفاهم..
٢ من م، في الأصل وم: عالم..
٣ في الأصل و م: ويحسن..
٤ من م، في الأصل: معينات..
٥ في الأصل و م: ظلما..
٦ ساقطة من الأصل و م.
٧ ساقطة من الأصل و م.
والطيب: ما استطابه الطبع؛ فإذا بلغ طيبه غايته في الطبع؛ فهو طيب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُم يعْلَمُونَ) أنها معصية فلا يقيمون عليها، ولكن يتوبون، فمن تاب من ذنبه فجزاؤه ما ذكر.
* * *
قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ).
يحتمل أحكامًا، والأحكام تكون على وجهين: حكم يجب لهم، وهو الثواب عند الطاعة، واتباع الحق، وعذاب يحل بهم عند الخلاف والمعصية.
ويحتمل " السنن ": الأحكام المشروعة.
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حتى تروا آثار من كذب الرسل وما حلَّ بهم من العذاب؛ بالتكذيب.
أو (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ): أي سلوا من يعلم ما الذي حل بهم حتى يخبروكم ما مضى من الهلاك في الأمم الخالية، فهذا تنبيه من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم أنكم إن كذبتم الرسول - فيحل بكم ما قد حل بمن قد كان قبلكم، وإن أطعتم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلكم من الثواب ما لهم، فاعتبروا به كيف كان جزاؤهم بالتكذيب.
وما في القرآن مثل هذا فمعناه: لو سئلت لأخبروك.
وقيل: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ): أي: تفكروا في القرآن يخبركم عن الأمم الماضية؛ فكأنكم سرتم في الأرض، وما في القرآن مثل هذا - فمعناه: لو سألتَ لأخبروك؛ فإن فيه خبر من كان قبلكم من الأمم، وما لهم من الثواب بالتصديق والطاعة، وما عليهم من العقاب بالتكذيب، واللَّه أعلم.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يحتمل في المكذبين بالرسل والمصدقين، (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يحتمل: لو سرتم فيها لرأيتم آثارهم، ولعرفتم بذلك ما إليه ترجع عواقب الفريقين.
ويحتمل: الأمر بالتأمل في آثارهم، والنظر في الأنباء عنهم؛ ليكون لهم به العبر، وعما هم عليه مزدجر.
ويحتمل " السنن ": الموضوع من الأحكام، وبما به امتحن من قبلهم؛ ليعلموا أن الذي بلوا به ليس ببديع؛ بل على ذلك أمر من تقدمهم؛ كقوله. (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)؛ وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ (١٣٨)
يحتمل قوله: (هَذَا بَيَانٌ) يعني: القرآن؛ هو بيان للناس، وهدى من الضلالة.
(وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي: يتعظ به المتقون.
ويحتمل (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ): ما ذكر من السنن التي في الأمم الخالية.
دل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، أن لله في صرف الدوْلة إلى أهل الشرك فعل وتدبير؛ إذ أضاف ذلك إليه ما به الدولة، ثم ذلك معصية وقهر وتذليل، فثبت جواز كون ما هو فعل معصية إلى اللَّه من طريق التخليق والتقدير، واللَّه أعلم؛ إذ ذلك لهم بما هم عصاة به - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تَهِنُوا (١٣٩)
ولا تضعفوا في محاربة العدو، ولا تحزنوا بما يصيبكم من الجراحات والقروح؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)، ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَهِنُوا): في الحرب وأنتم تعملون لله؛ إذ هم لا
الآية ١٣٩ وقوله تعالى :﴿ ولا تهنوا ﴾ ولا تضعفوا في محاربة العدو، ﴿ ولا تحزنوا ﴾ : بما يصيبكم من الجراحات والقروح كقوله تعالى :﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ﴾ ( آل عمران ١٤٠ )، ويحتمل قوله عز وجل :﴿ ولا تهنوا ﴾ في الحرب وأنتم تعملون لله فلا١ تضعفون فيها وهم يعملون للشياطين، وقوله تعالى :﴿ ولا تحزنوا ﴾ على ما فاتكم من إخوانكم الذين قتلوا ويحتمل ما أصابكم من القروح أي تلك القروح والجراحات لا تمنعكم عن قتال العدو ولكم الأجر والشهادة.
وقوله تعالى :﴿ وأنتم الأعلون ﴾ قيل فيه بوجوه : قيل :﴿ وأنتم الأعلون ﴾ المحقون٢ بالحجج، وقيل :﴿ وأنتم الأعلون ﴾ في النصر أي ترجع عاقبة الأمر إليكم ويحتمل أن النصر لكم إن لم تضعفوا في الحرب ولم تعصوا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحتمل ﴿ أنتم الأعلون ﴾ لكم الشهادة إذا قتلتم، وأحياء عند الله وهم أموات. وقوله تعالى٣ :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ليس على الشرط ولكن على الخبر كقوله عز وجل :﴿ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله ﴾ ( البقرة ٢٢٨ ) أي إذ كن يومن بالله، وإذ٤ كنتم مؤمنين بالوعد والخبر.
١ في الأصل و م: إذ هم لا.
٢ في الأصل و م: المحققون في م: للحقوق..
٣ في م: عز وجل..
٤ في الأصل و م: وإن..
يضعفون فيها، وهم يعملون للشيطان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من إخوانكم الذين قتلوا.
ويحتمل: ما أصابكم من القروح؛ أي: تلك القروح والجراحات لا تمنعكم عن قتال العدو؛ ولكم الآخرة والشهادة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
قيل فيه بوجوه:
قيل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الآخرة.
وقيل: (الْأَعْلَوْنَ) المحقون بالحجج.
وقيل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في النصر؛ أي: ترجع عاقبة الأمر إليكم.
ويحتمل أن النصر لكم إن لم تضعفوا في الحرب، ولم تعصوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ):
لكم الشهادة إذا قتلتم؛ وأحياء عند اللَّه، وهم أموات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ليس على الشرط؛ ولكن على الخبر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ)، أي: إذ كن يؤمن باللَّه، وإن كنتم مؤمنين بالوعد والخبر.
* * *
قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
وقوله: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ).
اختلف فيه: قيل: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) في آخر الأمر؛ يعني في أُحد؛ فقد مسَّ المشركين قرح مثله يوم بدر، يذكر هذا - واللَّه أعلم - على التسكين؛ ليعلموا أنهم لم يخصوا بذلك.
491
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
تحتمل الآية وجوهًا: يومًا للمؤمنين ويومًا عليهم، وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من اللَّه - تعالى - إياهم يمتحنهم ويبتليهم؛ مرة بالظفر لهم والنصر على عدوهم، ومرة بالظفر للعدو عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وكقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، يمتحن عباده، بجميع أنواع المحن، بالخير مرة، وبالشر ثانيًا.
ويحتمل المداولة -أيضًا وجهًا آخر: وهو أن الظفر والنصر لو كان أبدًا للمؤمنين- لكان الكفار إذا أسلموا لم يسلموا إسلام اختيار؛ ولكن إنما آمنوا إيمان قهر وكره وجبر؛ لما يخافون على أنفسهم من الهلاك إذا رأوا الدولة والظفر للمؤمنين، وإن كان الظفر والنصر أبدًا للكفار؛ فلعلهم يظنون أنهم المحقون فيمنعهم ذلك عن الإسلام.
ويحتمل أن ما يصيب بمعصية المؤمنين إنما يصيب بمعصية سبقت منهم، أو خلاف كان منهم؛ من ترك أمر أو ارتكاب نهي، واللَّه أعلم.
فإن طعن طاعن من الملاحدة في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ)، أليس وعد أنكم إن نصرتم دينه ينصركم، وأخبر -أيضًا- أنه إن نصركم فلا غالب لكم، فإذا نصرتم دينه فلم ينصركم؛ أليس يكون خلفًا في الوعد؟ أو إن نصركم فغلبتم يكون كذبًا في الخبر.
قيل: لهذا جواب من أوجه:
قيل: يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: إن تنصروا دين اللَّه في الدنيا ينصركم في الآخرة بالحجج؛ كقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا...) الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا).
وقيل: إن تنصروا دين اللَّه ولم تعصوا اللَّه فيه - ينصركم؛ فلا غالب لكم.
وقيل: يحتمل: إن تنصروا دين اللَّه جملةً - ينصركم؛ كقوله - عليه السلام -: " لَنْ يُغْلبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِن قِلَّةٍ، كَلِمَتُهُم وَاحِدَة " وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ
492
مَا سَأَلْتُمُوهُ).
وقيل: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم؛ أي: يجعل الظفر؛ والنصر في العاقبة لكم، وكذلك: وإن كان في ابتداء الأمر الغلبة على المؤمنين؛ فإن العاقبة لهم في الحروب كلها، ومقدار ما كان عليهم إنما كان لأمر سبق منهم: إمَّا إعجابًا بالكثرة؛ كقوله - تعالى -: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)، وإما خلافًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) دلالة أن كان من اللَّه معنى لديه تكون الغلبة لهم؛ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) ولكان هو يجعل أبدًا الدولة لأحد الفريقين، وقد أخبر أنه يجعل لهما، ومعلوم إن كانت الدولة بالغلبة، فثبت أن من اللَّه في صنع العباد - صنع له أضيف إليه صنيعهم، واللَّه أعلم.
ثم معلوم أن الغلبة لو كانت للمسلمين - كان ذلك ألزم للحجة، وأظهر للدعوة، وأدعى إلى الإجابة، وفيها كل صلاح، فثبت أن ليس في المحنة شرط إعطاء الأصلح، واللَّه أعلم.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) رد قول الأصلح؛ حيث قالوا: إن اللَّه لا يفعل إلا الأصلح في الدِّين، يقال لهم: أي صلاح للمؤمنين في مداولة الكافرين على المؤمنين؟!.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا):
أي: ليعلم ما قد علم بالغيب أنه يؤمن بالامتحان مؤمنًا شاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا.
وجائِز أن يراد بالعلم: المعلوم؛ كقوله: الصلاة أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا...) الآية، تخرج على أوجه:
493
أحدها: أن ما وصفت اللَّه به إذا ذكرت معه الخلق - تذكر وقت كون الخلق؛ لئلا يتوهم قدمه، وإذا وصفت اللَّه - تعالى - بلا ذكر الخلق وصفته به في الأزل؛ نحو أن تقول: عالم، قادر، سميع - في الأزل، فإذا ذكرت المسموع والمقدور عليه والمعلوم - ذكرت وقت كونه؛ لتزيل توهم القدم على الآخر؛ وعلى هذا عندنا القول بـ " خالق " " رازق " ونحو ذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: على تسمية محلومة علمًا في مجاز اللغة؛ وذلك كما سمّى عذاب اللَّه في القرآن أمره، وسمى الناس الصلاة -وغيرها من العبادات- أمره، على معنى أنها تفعل بأمره؛ وكذلك ما سميت الجنة رحمته، على أن كان فيها؛ فيكون: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): أي: ليكون الذين آمنوا على ما علمه يكون، واللَّه أعلم.
والثالث: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) في الغيب شهودا؛ إذ هو عالم الغيب والشهادة، وتحقيق ذلك لا يكون بحادث العلم، وذلك نحو من يعلم الغد يكون؛ يعلمه بعد الغد، وإن لم يكن له حدوث العلم قد كان؛ وعلى هذا قيل: ليعلمه كائنًا لوقت كونه ما قد علمه يكون قبل كونه، واللَّه أعلم.
وقال بعض أهل التأويل: ليكون الذي علمه يكون بالمحنة ظاهرًا موجودًا، وهو يرجع إلى ما بيّنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليراه، وهذا من صاحبه ظن أن الكلام في الرؤية لعله أيسر، وعن التشبيه أبعد، وعند من يعرف اللَّه حق المعرفة: هما واحد.
والأصل في هذا ونحوه في الإضافات إلى اللَّه: أنها كانت بالأحرف المجعولة المتعارف في الخلق، ثم هي تؤدي عن كل ما يضاف إليه، ويشار إليه ما كان عرف من حال ذلك قبل الإضافة، لا أن يقدر عند الإضافة معنى لا نعرفه به لولا ذلك، على ما عرف من الاشتراك في اللفظ والاختلاف في المعنى؛ فعلى ذلك أمر الإضافة إلى اللَّه - تعالى - ويوضح ذلك ما لم يفهم أحد من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، ما فهم من إضافة الحدود إلى غيره؛ وكذلك بيوت اللَّه، وعباد اللَّه، وروح
494
اللَّه وكلمته، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه.
وجائز -في الجملة- أن يوصف اللَّه بأنه لم يزل عالمًا بكون كل ما يكون كيف يكون؟ وفي وقت كونه كائنًا؛ وبعد كونه قد مضى كونه؛ على تحقيق التغير في أحوال الذي يكون لا في اللَّه - سبحانه وتعالى - إذ تغير الأحوال واستحالتها من آيات الحدث وأمارات الصنعة.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ): قيل فيه بوجهين:
أحدهما: " ولم يعلم "، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: على إثبات أنه علم أنهم لم يجاهدوا؛ كقول الناس: ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن، أي: شاء ألا يكون، لا يكون.
والثاني: أنه عالم بكل شيء، فلو كان منكم جهاد لكان يعلمه، وإنما لم يعلمه؛ لأنه لم يكن؛ وعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، أي: ليس لهم.
والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا يَعْلَمِ) بمعنى: إلا؛ كقوله: (لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) - بالتشديد - بمعنى: إلا عليها حافظ؛ فيكون معنى الآية: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)؟! لا تدخلوها إلا أن يعلم اللَّه مجاهدتكم، أي: حتى تجاهدوا فيعلم اللَّه ذلك منكم موجودًا، واللَّه أعلم.
وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي: ليعلم ما قد علم أنه يصير صابرًا؛ وكذلك قوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، أي: ليعلمن الذين قد علم أنهم يصدقون - صادقين، وليعلمن الذين قد علم أنهم يكذبون - كاذبين، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ)، أي: حتى يعلم ما قد علم أنهم يجاهدون - مجاهدين، وأصله: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ليعلم شاهدًا ما قد علم غائبًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) أي: يستشهدون في سبيل اللَّه بأيدي عدوهم.
495
ويحتمل: ويتخذ منكم شهداء على الناس؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس، حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا (١٤١) أي: يمحص ذنوبهم وسيئاتهم.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ): أي: يهلكهم ويستأصلهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): ما ذكرنا من تمحيص الذنوب على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " السَّيفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ ".
(وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ): أي: يهلكهم، ولا يكون السيف تمحيصًا لهم من الكفر، بل يهلكهم في النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ (١٤٢)
قيل: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة.
(وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ).
قيل فيه بوجهين:
قيل: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ): أي: ولم يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم؛ أي: لم يجاهدوا.
وقيل: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، و " لما " بمعنى: " إلا يعلم "، بمعنى: لا تدخلون الجنة إلا أن يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ): من قرأ بالتشديد؛ فكان معناه: ، إلا عليها حافظ "، ومن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه: لَعَلَيها حافظ، و " ما " صلة.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، أي: ظننتم ذلك، (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، وقال في موضع آخر: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية.
الآية ١٤٢ وقوله تعالى ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ﴾ قيل : بل ﴿ حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ ( قيل فيه بوجهين :
أحدهما : أي لم يجاهدوا.
والثاني١ ﴿ لما يعلم ﴾ بمعنى إلا أن يعلم يعني ) ٢ لا تدخلوا الجنة إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، وهو كقوله عز وجل :﴿ وإن كل نفس لما عليها حافظ ﴾ ( الطارق ٤ ) من قرأ بالتشديد فمعناه٣ :
إلا عليها حافظ ومن قرأ بالتخفيف فمعناه لعليها حافظ وما صلة٤.
وفي قوله عز وجل أيضا :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ﴾ أي ظننتم ذلك ﴿ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة ﴾ آل عمران ١٦٥ ) بمعنى أَوَلَمْ تجاهدوا أَوَلَم يصبْكم مثل الذي ذكر ففي ذلك وعد أن يصيب أولئك الذين خاطبهم به ما أصاب من تقدمهم، وأن الله قد يعلم أنهم يجاهدون قبل الموت. وعلى هذا قال قوم في تأويل قوله عز وجل :﴿ صدقوا ما عاهدوا الله ﴾ ( الأحزاب ٢٣ ) أن يدخلوا الجنة إذا أصاب مثل قوله عز وجل ﴿ إن كل نفس لما عليها حافظ ﴾ ( الطارق ٤ ) بالتشديد٥ إلا عليها حافظ فيكون بمعنى الإضمار : أي لا تدخلوا إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم وقد بينا ما في العلم في الحرف الأول ( أن له وجهين ) ٦ أيضا :
أحدهما : أن الله لم يعلم بذلك وهو العالم بكل شيء فلو كان لكان يعلم.
والثاني : ان يعلموا أن يكونوا لم يجاهدوا بعد، وسيجاهدون على ما بينا والله اعلم.
١ في الأصل: أي لم يجدوا وقيل، في م: قيل فيه بوجهين أي لم يجدوا وقيل.
٢ في الأصل و م: ولما بمعنى غلا ليعلم بمعنى..
٣ في الأصل و م: فكان معناه..
٤ انظر حجة القراءات ص..
٥ انظر الحاشية السابقة..
٦ في الأصل و م: على أن له وجهان.
بمعنى: ولم تجاهدوا، ولم يصبكم مثل الذي ذكر؛ ففي ذلك وعد أن يصيب أُولَئِكَ الذين خاطبهم به ما أصاب من تقدمهم، وأن اللَّه قد يعلم أنهم يجاهدون قبل الموت؛ وعلى هذا قال قوم في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ): أن يدخلوا الجنة إذا أصابهم مثل الذي أصاب من تقدمهم، واللَّه أعلم. فيكون تأويل (لَمَّا): ولم، والألف صلة.
وقيل: يحتمل بالتشديد منه: إلا؛ كما قيل في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) بالتشديد: " إلا عليها حافظ "؛ فيكون بمعنى الإضمار: لا تدخلوا إلا أن يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم، وقد بينا ما في العلم في الحرف الأول على أنه له وجهان -أيضًا-:
أحدهما: أن اللَّه لم يعلم بذلك، وهو العالم بكل شيء فلو كان: لكان يعلمه.
والثاني: أن يعلموا أن يكونوا لم يجاهدوا بعد، وسيجاهدون على ما بينا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
وقوله: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ):
قيل فيه بوجهين:
قيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: تمنون ما فيه الموت، وهو القتال.
وقيل: تمنون الموت نفس الموت.
ثم يحتمل وجوهًا:
يحتمل: يتمنون إشفاقًا على دينهم الإسلام؛ لئلا يخرجوا من الدنيا على غير دينهم الذي هم عليه، ويحتمل أن يكونوا تمنوا الموت، لينجوا أو يتخلصوا من تعذيب الكفار إياهم وتغييرهم؛ على ما قيل: إن أهل مكة كانوا يعذبونهم، طلبوا النجاة منهم
والخلاص، واللَّه أعلم.
وقيل: يتمنون الموت، أي: يتمنون الشهادة؛ لما سمعوا لها من عظيم الثواب وجزيل الأجر، تمنوا أن يكونوا شهداء لله - عَزَّ وَجَلَّ - أحياء عند ربهم، واللَّه أعلم.
وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ): وذلك حين أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّّ - عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير؛ فتمنوا يومًا مثل يوم بدر؛ فأراهم اللَّه يوم أحد فانهزموا، فعوتبوا على ذلك بقوله: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)، يعني: يوم أحد.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ).
يحتمل أيضًا، وجوهًا:
يحتمل: فقد رأيتم أسباب الموت وأهواله.
ويحتمل: فقد رأيتم أصحابكم الذين قتلوا بين أيديكم، على تأويل من صرف قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) إلى القتال، واللَّه أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).
يحتمل: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)؛ إلى الموت، يعني: إلى موت أصحابكم أو إلى القتال.
ويحتمل: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)، أي: تعلمون أنكم كنتم تمنون الموت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (١٤٤)
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل - واللَّه أعلم -: أن يقول لهم: إنكم لما آمنتم بمحمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث لم تؤمنوا به؛ لأنّه مُحَمَّد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن آمنتم بالذي أرسله إليكم، والمُرسِل حي، وإن كان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل أو مات على زعمكم؛ فكيف انقلبتم على أعقابكم؟!.
498
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في الآية خبر بانقلاب من علم اللَّه أنه يرتد بموت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ).
والشاكرون: الذين جاهدوهم، قد أخبر اللَّه - تعالى - أنه يحبّهم ويحبّونه.
وقال الحسن: إن أبا بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان - واللَّه - إمام الشاكرين.
ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن من كان قبلكم من قوم موسى وعيسى - عليهما السلام - كانوا يكذبون رسلهم ما داموا أحيّاء؛ حتى قال لهم موسى - عليه السلام - (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، وكذلك قال عيسى - عليه السلام -: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا) الآية، فإذا ماتوا ادعوا أنهم على دينهم، وأنهم صدقوهم فيما دعوهم إليه، وإن لم يكونوا على ذلك، فلم ينقلبوا على أعقابهم؛ فكيف تنقلبون أنتم على أعقابكم إن مات مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو قتل؟!.
والانقلاب على الأعقاب: على الكناية والتمثيل، ليس على التصريح، وهو الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل من الدِّين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا):
أي: من ارتد بعد الإسلام فلن يضرّ اللَّه شيئًا؛ لأنه لم يستعملهم لنفسه، ولكن إنما استعملهم لأنفسهم؛ ليستوجبوا بذلك الثواب الجزيل في الآخرة، فإنما يضرون بذلك أنفسهم، لا اللَّه - تعالى.
والثاني: أنه إنما يأمرهم ويكلفهم؛ لحاجة أنفسهم، لا أنه يأمر لحاجة نفسه، ومن أمر آخر في الشاهد: إنما يأمر لحاجة نفس الآمر، فإذا لم يأتمر لَحِق ضرر نَفْس ذلك الآمر، فإذا كان اللَّه - سبحانه - يتعالى عن أن يأمر لحاجته؛ وإنما يأمر لحاجة المأمور، فإذا ترك أمره - ضر نفسه، وباللَّه التوفيق.
(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ):
قيل: الموحّدين لله.
499
وقيل: الذين آمنوا وجاهدوا يجزيهم في الآخرة، وكل متمسك بأمر اللَّه ومؤتمر بأمره فهو شاكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (١٤٥)
يحتمل قوله: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: لا يموت إلا بقبض المسلط على قبض الأرواح - روحه؛ كقوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ): إن مات أو قتل.
ويحتمل: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): إلا بعلم اللَّه.
(كِتَابًا مُؤَجَّلًا):
قيل: وقتًا موقتًا، لا يتقدم ولا يتأخر، مات أو قتل، ما لم تستوف رزقها وأجلها.
وقيل: (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، أي: مبينًا في اللوح المحفوظ، مكتوبًا فيه.
وقوله: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا):
أي: من أراد بمحاسن أعماله الدنيا نؤته منها.
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ):
أي: من يرد بأعماله الصالحات ومحاسنه الآخرة نؤته منها.
[(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)]:
وهو كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) على قدر ما قدر (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)؛ فكذلك هذا -أيضًا- واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ):
500
قيل: فيه لغات:
أحدها: " قاتل معه " بالألف، وتأويله: وكم من نبي قاتل معه ربيون كثير، فقتل؛ على الإضمار.
والثاني: " وكم من نبيّ قُتِل معه ربيون كثير "، برفع القاف.
والثالث: " وكم من نبي [قَاتَلَ] معه ربيون كثير " بالنصب.
ومعنى الآية - واللَّه أعلم -: كم من نبي قتل معه ربيون كثير، فلم ينقلب أتباعه على أعقابهم؛ بل كانوا بعد وفاتهم أشد اتباعًا لهم من حال حياتهم؛ حتى قالوا: لن يبعث الله من بعده رسولا؛ فما بالكم يخطر ببالكم الانقلاب على أعقابكم، إذا أخبرتم أنه قتل نبيكم أو مات؟!.
وفي إنباء هذه الأمة قصصَ الأمم الخالية وأخبارهم - وجهان.
أحدهما: دلالة إثبات رسالة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم علموا أنه لم يختلف إلى أحد منهم ممن يعلم هذا، ثم أخبر بذلك، فكان ما أخبر؛ فدل أنه علم ذلك باللَّه.
والثاني: العمل بشرائعهم وسننهم، إلا ما ظهر نسخه بشريعتنا؛ ألا ترى أنه ذكر محاسنهم وخيراتهم؛ وإنما ذكر لنتبعهم في ذلك ونقتدي بهم، وذكر مساوئهم وما لحقهم بها؛ لننتهي عنها ونكون على حذر مما أصابهم بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ): اختلف فيه - عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " عالم كثير "، وعنه -أيضًا-: " الجموع الكثير ".
وعن الحسن - رحمه اللَّه - مثله.
501
الآية ١٤٦ وقوله تعالى :﴿ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ﴾ قيل فيه لغات١ :
أحدهما : قاتل معه بالألف وتأويله وكم :﴿ من نبي قاتل معه ربيون كثير ﴾ فقيل على الإضمار :( وقاتل ) ٢
والثانية٣ :﴿ وكأين من نبي ﴾ قتل ﴿ معه ربيون كثير ﴾ برفع القاف.
والثالثة٤ :﴿ وكأين من نبي ﴾ قتل ﴿ معه ربيون كثير ﴾ قتل بالنصب ومعنى الآية والله أعلم : وكم ﴿ من نبي ﴾ ( قتل وقتل ) ٥ ﴿ معه ربيون ﴾ فلم ينقلب أتباعه على أعقابهم بل كانوا بعد وفاتهم أشد اتباعا لهم من حال حياتهم قالوا : لن يبعث الله من بعده رسولا فما بالكم يخطر ببالكم الانقلاب على أعقابكم إذا أخبرتم أنه قتل نبيكم أو مات ؟
وفي أنباء هذه الأمة وقصص الأمم الخالية وأخبارهم وجهان :
أحدهما : دلالة إثبات رسالة الله محمد صلى الله عليه وسلم لانهم علموا أنه لم يختلف إلى أحد منهم ممن يعلم هذا، ثم أخبر بذلك، فكان ما أخبر فدل أنه علم ذلك بالله.
والثاني : العمل بشرائعهم وسننهم إلا ما ظهر نسخه بشريعتنا. ألا ترى أنه ذكر محاسنهم وخيراتهم ؟ وإنما ( ذكر ) ٦ ليتبعهم في ذلك ويقتدي بهم، وذكر مساوئهم وما لحقهم بها لينتهي عنها، و يكون على حذر مما أصابهم بذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ربيون كثير ﴾ اختلف فيه : عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :( عالم كثير ) وعنه :( الجموع الكثيرة ) وعن الحسن رحمه الله مثله وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :( الألوف ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ﴾ يقول : قاتل ألا ترى أنه يقول :﴿ فما رهنوا لما أصابهم ﴾ ؟
ثم اختلف في قوله :﴿ فما وهنوا ﴾ ﴿ وما ضعفوا ﴾ قيل :﴿ فما وهنوا ﴾ في الدين ﴿ وما ضعفوا ﴾ في أنفسهم في قتال عدوهم بذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم فما بالكم تضعفون أنتم ؟
ويحتمل قوله :﴿ فما وهنوا لما أصابهم ﴾ يعني فما عجزوا لما نزل بهم من قتل أنبيائهم ﴿ وما ضعفوا ﴾ في أنفسهم لما أصابهم في سبيل الله من البلايا وقيل : قوله عز وجل :﴿ فما وهنوا ﴾ يرجع ﴿ قاتل ﴾ إلى المقاتلين، وقَتَل٧ إلى الباقين.
وقوله تعالى :﴿ وما استكانوا ﴾ قيل : لم يزِلوا في عدو لهم ولم يخضعوا٨ لقتل نبيهم بل قاتلوا ( بعده على ما قاتلوا معه ) ٩ إذا أصيب أنبياؤهم ؟ والله أعلم ﴿ والله يحب الصابرين ﴾ على قتال عدوهم وعلى كل مصيبة تصيبهم.
١ انظر معجم القراءات القرآنية (١/٥٨٩).
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ في الأصل و م: والثاني.
٤ في الأصل و م: والثالث.
٥ في الأصل و م: ﴿قاتل﴾.
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل و م: في قتل..
٨ من م، في الأصل يحفظوا..
٩ في الأصل: معه في م، معه على ما قتلوا عليه..
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الألوف.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، يقول: قاتل؛ ألا ترى أنه يقول: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ).
ثم اختلف في قوله: (فَمَا وَهَنُوا) (وَمَا ضَعُفُوا).
قيل: فما وهنوا في الدِّين، وما ضعفوا في أنفسهم في قتال عدوهم بذهاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بينهم؛ فما بالكم تضعفون أنتم؟! ويحتمل قوله: (فَمَا وَهَنُوا)، يعني: فما عجزوا لما نزل بهم من قتل أنبيائهم، وما ضعفوا في شيء أصابهم في سبيل اللَّه من البلايا.
وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا وَهَنُوا) يرجع إلى: (قَاتَلَ) إلى المقاتلين وفي " قتل " إلى الباقين.
وقوله: (وَمَا اسْتَكَانُوا):
قيل: لم يذلّوا في عدو لهم، ولم يخضعوا لقتل نبيهم؛ بل قاتلوا بعده على ما قاتلوا معه؛ فهلا قاتلتم أنتم على ما قاتل عليه نبيكم؛ كما قاتلت القرون من قبلكم إذا أصيب أنبياؤهم، واللَّه أعلم.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ):
على قتال عدوّهم، وعلى كل مصيبة تصيبهم.
وقوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا (١٤٧)
قيل: وما كان قول الأمم السالفة عند قتل نبيهم - إلا أن قالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) الآية، يقول: يعلِّمُ اللَّه هذه الأمة ويعاتبهم: هلا قلتم أنتم حين نُعِي إليكم نبيكم كما قالوا القوم في الأمم السالفة؟!.
وقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)، قيل: الذنوب: هي المعاصي.
وقوله: (وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا): والإسراف: هي المجاوزة في الحد، والتعدّي عن أمره.
وقيل: هما واحد.
وقوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا).
يحتمل وجهين:
يحتمل: ثبتنا على الإيمان، ودين الإسلام، والقَدمُ كناية؛ كقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) أي: تكفر بعد الإيمان، وكقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)؛ وذكر القدم لما بالقدم يثبت.
ويحتمل قوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) وفي قتال العدو، وفزعوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذهاب نبيّهم من بينهم؛ ليحفظهم على ما كان يحفظهم في حياة نبيهم.
وقوله: (وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ):
يحتمل: النصر عليهم بالحجج والبراهين. ويحتمل: النصر بالغلبة والهزيمة عليهم.
وقوله: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا (١٤٨)
يحتمل ثواب الدنيا: الذكر والثناء الحسن، وهم كذلك اليوم نتبعهم ونقتدي آثارهم وهم موتى.
ويحتمل -: على ما قيل-: النصر والغنيمة.
وقوله: (وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ):
الدائم، وذُكِر في ثواب الآخرة " الحُسْن "، ولم يذكر في ثواب الدنيا الحسن؛ لأن
ثواب الآخرة دائم لا يزول أبدًا، وثواب الدنيا قد يزول، أو أن يشوب في ثواب الدنيا آفاتٌ وأحزان؛ فينقص ذلك، وليس ثواب الآخرة كذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الإحسان يحتمل وجوهًا ثلاثة:
يحتمل: المحسن: العارف، كما يقال: فلان يحسن ولا يحسن.
ويحتمل: المعروف من الفعل -مما ليس عليه- يصنع إلى آخر؛ تفضلًا منه وإحسانًا.
ويحتمل: اختيار الحسن من الفعل على القبيح من الفعل والسوء؛ وكان كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): هذا يختار المحاسن من الأفعال على المساوئ، والله أعلم.
ويحتمل: المحسنين إلى أنفسهم باستعمالها فيما به نجاتها.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ):
يحتمل الطاعة لهم: طاعة الدِّين، أي: يطيعونهم في كفرهم.
ويحتمل: الطاعة لهم في ترك الجهاد مع عدوهم؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً) والآية، وقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).
قد ذكرنا، أي: يردوكم على دينكم الأول، وهو على التمثيل والكناية، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ (١٥٠)
الآية ١٥٠ وقوله تعالى :﴿ بل الله مولاكم ﴾ أي أولى بكم، أو ناصركم أو حافظكم أو وليكم ﴿ وهو خير الناصرين ﴾ أي خير من ينصر من نصره فلا يغلب كقوله ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ ( آل عمران ١٦٠ ).
أي: أولى بكم، أو ناصركم، أو حافظكم، أو وليكم.
(وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ):
أي: خير من ينصر من نصره؛ فلا يغلب، كقوله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ).
وقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (١٥١)
هذه بشارة من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نُصِرتُ بِالرعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ "، وكان ما ذكر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يأتيهم بعد ذلك ويقصدهم، لا أنهم أتوه، وكانوا قبل ذلك يأتون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويقصدونه.
وقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا):
أي: بالشرك ما فذف في قلوبهم من الرعب، من غير أن كان لهم بما أشركوا حجة أو كتاب أو برهان أو عذر؛ قال ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " السلطان في القرآن حجة ".
وقوله (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ):
أي: مقامهم في النار.
(وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ):
أي: النار بئس مقام الظالمين.
وقوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (١٥٢)
أي: أنجز اللَّه وعده؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وقد فعل.
(إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ):
قال أهل التفسير: [إذ تَقْتُلُونَهُمْ] (١).
وقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ):
(١) في الكتاب المطبوع هكذا [إذ تضلونهم]، والصواب من تفسير القرطبي وغيره. ما أثبتناه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
505
هو على التقديم والتأخير: " حتى إذا تنازعتم وفشلتم "؛ إذ التنازع هو سبب الفشل والجبن؛ كقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)
وقيل: في القصّة: إن نفرًا من رماة أمرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكونوا في مكان، وألا يدعوا موقفهم، فتركوه ووقعوا في غنائمه؛ فعوقبوا على ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)، يحتمل: ما أراكم ما تحبون من الهزيمة والغنيمة.
ويحتمل: ما أراكم من النصر لكم على عدوكم، وإنجاز الوعد لكم.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ):
روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " ما كنا نعرف أن أحدًا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد الدنيا، حتى نزل قوله: ، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا).
وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ).
روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - تعالى -: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ)، يعني: هُزِمَ المسلمون، يقول: صرفوا عن المشركين منهزمين، بعد إذ كانوا هزموهم، لكن لما عصوا وتركوا المركز صرفهم اللَّه عن عدوه:
(لِيَبْتَلِيَكُمْ)
أي: ذلك الصرف كان لكم من اللَّه ابتلاء ومحنة.
وقيل: كان ذلك العصيان -الذي منكم كان- من اللَّه ابتلاء؛ ليعلم من قد علم أنه يعصي عاصيًا، واللَّه أعلم.
ودلّ قوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) - وإن كان الانصراف فعلهم -أن الله
506
لفعلهم - على ما عليه فعلهم - خالقٌ، وأن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء؛ إذ ذلك الشيء إذا كان انصرافًا عن العدو معصيّة، وقد تبرأ اللَّه - تعالى - عن أن تضاف إليه المعاصي، وقد أضاف انصرافهم إلى فعله وهو الصرف - ثبت أنه غير فعلهم، واللَّه أعلم.
(وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ):
يحتمل وجهين:
يحتمل: (عَفَا عَنْكُمْ)؛ حيث لم يستأصلكم بالقتل.
ويحتمل: (عَفَا عَنْكُمْ)؛ حيث قبل رجوعكم وتوبتكم عن العصيان.
وهذه الآية قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ)، وقوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) - ترد على المعتزلة؛ وكذلك قوله - تعالى -: (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَليهِمُ القَتلُ)، إلى آخر الآية؛ لأنهم يقولون: هم الذين صرفوا أنفسهم لا اللَّه، وهم الذين كتبوا عليهم القتل لا اللَّه، وهم الذين يداولون لا اللَّه، وقد أضاف - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لا يضيف إليه إلا عن فعل وصنع له فيه؛ ولأنهم يقولون: لا يفعل إلا الأصلح لهم في الدِّين، فأي صلاح كان لهم في صرفه إياهم عن عدوهم؟! وأي صلاح لهم فيما كتب عليهم القتل؟! فدل أن اللَّه قد يفعل بعباده ما ليس ذلك بأصلح لهم في الدِّين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ):
بالعفو عنهم، وقبول التوبة؛ حيث عصوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتركوا أمره، وعلى قول المعتزلة عليه أن يفعل ذلك؛ فعلى قولهم ليس هو بذي فضل على أحد، نعوذ باللَّه من السرف في القول.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الفائدة في تخصيص المؤمنين بالامتنان عليهم دون جملة من بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم ومنهم، مع ما ذكر منته بالبعث من أنفسهم، وقد بيّنا وجه المنة في البعث من جوهر البشر - وجهان:
أحدهما: أن من لم يؤمن به لم يكن عرف نعمة من اللَّه - تعالى - وإن كان - في الحقيقة - نعمة منه لهم، ورحمة لهم وللعالمين، فخص من عرفه ليشكروا له بما ذكرهم؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) أي: هم يقبلون ويعرفون حق الإنذار.
507
الآية ١٥٢ وقوله تعالى :﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ أي أنجز الله وعده حين أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب١ وقد فعل ﴿ إذ تحسونهم بإذنه ﴾ قال أهل التفسير :﴿ إذ تضلونهم ﴾. وقوله تعالى ﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ﴾ وهو على التقديم والتأخير : حتى إذا تنازعتم فشلتم ؛ إذ التنازع هو سبب الفشل والجبن كقوله :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا ﴾ ( الأنفال ٤٦ ) وقوله تعالى :﴿ وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ﴾ قيل في القصة : عن نفر من رماة أمرهم رسول صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في مكان، وألا يدعوا موقفهم فتركوه ووقعوا في غنائمه فعوقبوا على ذلك.
وقوله عز وجل : من بعد ما أراكم ما تحبون } يحتمل ﴿ ما أراكم ما تحبون ﴾ من الهزيمة والغنيمة ويحتمل ﴿ ما أراكم ﴾ من النصر لكم على عدوكم وإنجاز الوعد لكم.
وقوله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ﴾ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :( ما كنا نعرف أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قوله :﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾ وقوله تعالى :﴿ ثم صرفكم عنهم ﴾ روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله ﴿ ثم صرفكم عنهم ﴾ يعني هزم المسلمون يقول : صرفوا عن المشركين منهزمين بعد أن كانوا هزموهم لكن لما عصوا وتركوا المركز صرفهم الله عن عدوهم ﴿ ليبتليكم ﴾ أي ذلك الصرف كان لكم من الله ابتلاء ومحنة ) وقيل كان العصيان الذي منكم كان من الله ابتلاء ليعلم من قد علم أنه يعصي عاصيا، والله أعلم. ودل قوله عز وجل ﴿ ثم صرفكم عنهم ﴾ وإن كان الانصراف فعلهم فإن الله لفعلهم على ما عليه فعلهم خالفهم وإن خلو الشيء ليس هو ذلك الشيء إذ ذلك إذا كان انصرافا عن العدو معصية وقد يسر الله تعالى عن أن يضاف إليه المعاصي وقد أضاف انصرافهم إلى فعله وهو الصرف ثبت أنه على فعلهم والله أعلم.
( وقوله ) ٢ ﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ يحتمل وجهين : يحتمل ﴿ عفا عنكم ﴾ حين لم يستأصلكم بالقتل ويحتمل ﴿ عفا عنكم ﴾ حين قبل رجوعكم وتوبتكم عن العصيان.
وهذه الآية قوله عز وجل :﴿ ثم صرفكم ﴾ وقوله ؛ ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ ( آل عمران ١٤٠ ) يردان٣ على المعتزلة وكذلك قوله تعالى :﴿ لبرز الذين كتب عليهم القتل ﴾ الآية ( آل عمران ١٥٤ ) لأنهم يقولون : هم الذين صرفوا لا الله وهم الذين كتبوا عليهم القتل لا الله وهم الذين يداولون لا الله، وقد أضاف عز وجل ذلك إلى نفسه، فعلى ذلك لا يضيف إليه إلا ( فعلا له صنع ) ٤ فيه، ولأنهم يقولون : لا يفعل إلا الأصلح لهم في الدين فأي صلاح كان لهم في صرفه إياهم عن عدوهم ؟ وأي صلاح لهم في ما كتب عليهم القتل ؟ فدل أن الله قد يفعل بعباده ما ليس ذلك بأصلح لهم في الدين والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾ بالعفو عنهم وقبول التوبة حين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أمره. وعلى قول المعتزلة : عليه أن يفعل ذلك، فعلى قولهم : ليس بذي فضل على أحد، نعوذ بالله من السرف في القول.
قال الشيخ رحمه الله : الفائدة في تخصيص المؤمنين بالامتنان٥ عليهم دون جملة من بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ومنهم مع ما ذكر منته٦ بالبعث من أنفسهم. وقد بينا وجه المنة في البعث من جوهر البشر ( في وجهين ) ٧.
أحدهما : أن من لم يؤمن به لم يكن عرفه نعمة من الله ( تعالى ) ٨ وإن كان في الحقيقة نعمة منه لهم ورحمة للعالمين ؟ فخص من عرفه ليشكروا له بما ذكرهم وهو كقوله عز وجل :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ﴾ ( يس ١١ ) أي هم يقبلون ويعرفون حق الإنذار.
والثاني : أنه صار لهم حجة على جميع الأعداء أنهم لا يطيعونه لمعنى كان منهم إلا ( وهو ) ٩ للمؤمنين عليهم وجه رفع ذلك بما كان عليه مما عرفوه قبل الرسالة كما في لزوم القول بصدقه فيكون ذلك منه لهم سرورا ونعمة عظيمة فاستأداهم الله لشكرها. ولا قوة إلا بالله.
١ من م، في الأصل: في النار..
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ في الأصل و م: يرد.
٤ في الأصل وم عن فعل وضع له..
٥ من م في الأصل الإنسان.
٦ من م، في الأصل منه..
٧ في الأصل وم وجهان..
٨ من م..
٩ من م في الأ صل و..
والثاني: أنه صار لهم حجة على جميع الأعداء: أنهم لا يطيعون لمعنى كان منهم، إلا وللمؤمنين عليهم وجه دفع ذلك بما كان عليه ما عرفوه به قبل الرسالة؛ لما فيه لزوم القول بصدقه؛ فيكون ذلك منة لهم وسرورًا ونعمة عظيمة؛ فاستأداهم اللَّه لشكرها، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ):
فيه لغتان: " تَصْعدون " بفتح التاء، وهو من الصعود أن صعدوا الجبل، " وتُصعدون " بالرفع، وهو أن أصعدوا أصحابهم نحو الوادي؛ لأن المنهزم الأوّل إذا التفت فرأى منهزمًا آخر اشتد.
وقيل: الإصعاد هو الإبعاد في الأرض.
وقيل: تَصْعدون من صعود الجبل، وتُصعدون في الوادى من الجبل.
وقوله: (وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ):
أي: لا تلتفتون على أحد، ولا ترجعون. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ).
508
أي: الرسول يدعوكم وينادي وراءكم: إلَيَّ أنا الرسول.
وقيل: يناديكم من بعدكم: إِلَيَّ أنا رسول اللَّه يا معشر المؤمنين، وكان يصل نداؤه في أخراهم بأولهم بعضهم ببعض، فلم يرجعوا إليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ):
اختلف فيه، قيل: غمّ الأول: الهزيمة والنكبة التي أصابتهم، والغم الآخر: الصوت الذي سمعوا: قُتِل مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - فذلك غم على غم.
ويحتمل: (غَمًّا): بعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اغتموا، والغم الآخر: أن كيف يعتذرون إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتركهم المركز، وعصيانهم إياه والخلاف له.
وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ): أي: مرة بعد المرة الأولى.
وقيل: (غَمًّا بِغَمٍّ)، أي: هزيمة بعد هزيمة: أصابتهم هزيمة بعد هزيمة من قتل إخوانهم، وإصابتهم الجراحات.
وقيل: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا): بعصيانكم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، (بِغَمٍّ): الذي أدخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بترككم المركزَ والطاعةَ له، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) وهو غم الهزيمة والنكبة، بالغم الذي أدخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في عصيانهم إياه، وإهمالهم المَقْعَد الذي أمرهم بالمقام فيه.
وقيل: غمًا بالغم الذي له تركوا المركز، وهو أن غمهم اغتنام أصحابهم.
وقيل: غم الاعتذار إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغم الذي جنوه به؛ حيث مالوا إلى الدنيا، وعصوه فيما أمرهم.
وقيل: غمًا على أثر غم، نحو: القتل، والهزيمة، والإرجاف بقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحقيقته: أن يكون أحد الغمين جزاء، والآخر ابتداء، وفي ذلك تحقيق الزلة والجزاء؛ وذلك كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).
509
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ):
يعني: من الفتح والغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة.
ويحتمل قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من الدنيا، (وَلَا مَا أَصَابَكُمْ): فيها من أنواع الشدائد؛ بما أدخلتم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الغمّ بعصيانكم إيّاه.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ):
على الوعيد.
وقوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ (١٥٤)
قيل فيه بوجهين؛ قيل: الطائفة التي أتاهم النعاس هم المؤمنون، سمعوا بانصراف العدو عنهم فصدقوا الخبر فناموا؛ لأن الخوف إذا غلب يمنع النوم، وأمَّا الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون، لم يصدّقوا الخبر فلم يذهب عنهم الخوف، فلم ينعسوا؛ وذلك كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) الآية.
وقيل: كانت الطائفتان جميعًا من المؤمنين، لكن إحداهما قد أتاها النعاس؛ لما أمنوا من العدو، والأخرى لا؛ بعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وترْكِهم أمره منع ذلك النوم عنهم؛ إذ كيف يلقون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكيف يعتذرون إليه؟ واللَّه أعلم.
وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - قال: " النُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيطَانِ، وَفِي القِتَالِ أَمَنَة مِنَ اللَّه ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ):
قيل: يظنون باللَّه ألا ينصر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ذا في غير المؤمنين.
وقيل: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) [ظنونًا] كاذبة، إنما هم أهل شرك وريبة في أمر اللَّه، يقولون: [(لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)].
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُوُلونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ):
قيل: يقولون بعضهم لبعض: (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)، يعني بالأمر: النصر
510
والغنيمة.
وقيل: قالوا ذلك للمؤمنين.
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
يعني النصر والفتح كلّه بيد اللَّه.
(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ):
والذين يخفون قولهم: لو أقمنا في منازلنا ما قتلنا هاهنا، وقيل: يقولون: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، قالوا: ليس لنا من الأمر من شيء؛ إنما الأمر إلى مُحَمَّد، ولو كان الأمر لنا ما خرجنا إلى هَؤُلَاءِ حتى قتلنا هاهنا.
قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ): قيل: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) كما يقولون: (لَبَرَزَ)، يعني: لخرج من البيوت (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)؛ ليقتلوا.
وقيل: من كتب عليه القتل يظهر الذي كتب عليه حيث كان.
وقيل: إذا كتب على أحد القتل لأتاه، ولو كان في البيت، وكقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، وقيل: متى كتب اللَّه على قوم القتل فلم يموتوا أبدًا؟! وفي هذا بيان أن الآجال المكتوبة هي التي تنقضي بها الأعمار: إن كان قتلًا فقتل، وإن كان موتًا فموت، لا على ما قالت المعتزلة: إن القتل تعجيل عن أجله المكتوب له وعليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ):
والابتلاء هو الاستظهار؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) تبدي وتظهر، وذلك يكون بوجهين: يظهر بالجزاء مرة، ومرة بالكتاب، يعلم الخلق من كانت سريرته حسنة بالجزاء، وكذلك إذا كانت سيئة، أو يعلم ذلك بالكتاب.
511
وقوله - تعالى -: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)، أي: ليظهر اللَّه للخلق ما في صدورهم مما مضى، وليجعله ظاهرًا لهم.
(وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)
من الذنوب.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الابتلاء والتمحيص هما واحد ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ):
يقول: هو عالم بما في صدورهم من سرائرهم، ولكن يجعلها ظاهرًا عندكم.
ويحتمل الابتلاء -هاهنا- الأمر بالجهاد؛ ليعلموا المنافق منهم من المؤمن، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (١٥٥)
يعني: إن الذين انصرفوا عن عدوهم مدبرين منهم منهزمين يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين.
وقوله: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا):
أي: إنما انهزموا ولم يثبتوا خوفًا أن يقتلوا بالئبات؛ فيلقوا اللَّه وعليهم عصيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فكرهوا أن يقتلوا وعليهم معصية رسول اللَّه جمم؛ خوفًا من اللَّه - تعالى -.
(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)
وبما خافوا اللَّه بعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) - أن اللعين لما رآهم أجابوه إلى ما دعاهم من اشتغالهم بالغنيمة، وتركهم المركز، وعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاهم إلى الهزيمة، فانهزموا وتولوا - عدوَّهم.
ويحتمل قوله: (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)، أي: بكسبهم، قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)؛ فكذلك هذا، واللَّه أعلم.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
قَبِلَ توبتكم، وعفا عنكم، (حَلِيمٌ) لم يخزكم وقت عصيانكم، ولا عاقبكم، أو حليم بتأخير العذاب عنكم.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
وقوله - عزّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى) الآية.
اختلف في قوله - تعالى -: (الَّذِينَ كفروا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: نهى المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا في السر والعلانية.
(وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ)، يعني: المنافقين، (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
وقيل: لا تكونوا كالمنافقين قالوا لإخوانهم -يعني: لبعضهم-: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وقيل: قالوا لإخوانهم، يعني: المؤمنين الذين تولوا، وهم كانوا إخوانهم في النسب، وإن لم يكونوا إخوانهم في الدِّين والمذهب.
لا حاجة لنا إلى معرفة قائله من كان، ولكن المعنى ألا يقولوا مثل قولهم لمن قتل.
وقوله: (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ)، يعني: إذا ضربوا في الأرض تجارًا أو " غزى "، أي: غزاة.
وقيل: قوله: (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أو كانوا غزاة على إسقاط الألف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ):
أي: ليجعل اللَّه ذلك القول الذي قالوا حسرة يتردد في أجوافهم.
ويحتمل قوله: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً) يوم القيامة؛ كقوله: (أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ)
أي: واللَّه يحيي من ضرب في الأرض وغزا، ويميت من أقام ولم يخرج غازيًا، أي:
لا يتقدم الموت بالخروج في الغزو، ولا يتأخر بالمقام وترك الخروج، دعاهم إلى التسليم، إنما هي أنفاس معدودة، وأرزاق مقسومة، وآجال مضروبة، ما لم يفناها واستوفاها وانقضى أجلها: لا يأتيها.
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): وعيد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)
أي أن الموت إن كان لا بدّ نازل بكم؛ فقتلكم أو موتكم في طاعة اللَّه وجهاده خير من أن ينزل بكم في غير طاعة اللَّه وسبيله.
(لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون): من الأموال.
(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
أي: إن متم على فراشكم، أو قتلتم في سبيل اللَّه - فإليه تحشرون، فمعناه - والله أعلم - أي: إن لم تقدروا على أن لم تحشروا إليه، كيف تقدرون ألا ينزل على فراشكم بكم الموت، وإن أقمتم في بيوتكم؟! واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ):
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: فبرحمة من اللَّه عليك لنت لهم؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ويحتمل قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ): فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلقه؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا "، فقيل: كلنا نرحم يا رسول اللَّه، فقال: " لَيسَ تَرَاحُمَ الرجُلِ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ، وَلَكِنْ يَتَرَاحَمُ بَعْضُهُم بَعْضًا " أو كلام نحو هذا.
وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرحَم صَغِيرَنَا، وَلَم يُوَقر كَبِيرَنَا - فَلَيسَ مِنَّا "، وما جاء: " مَنْ لَمْ
514
يَرحَمْ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ يَرحَمْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ "؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) الآية، وقد أمر اللَّه عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين، إلا عند المعاندة والمكابرة؛ فحينئذ أمر بالقتال؛ كقوله لموسى وهارون -حيث أرسلهما إلى فرعون- فقال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) وكان اللين في القول أنفذ في القلوب، وأسرع إلى الإجابة، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول، وذلك ظاهر في الناس؛ لذلك أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسله باللين من المعاملة، والرحمة على خلقه، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله:
(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا)
في القول
(غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
أي: لو كنت في الابتداء فظًّا غليظًا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك.
وقوله - عزّ وجل -: (فَاعْفُ عَنْهُمْ) بأذاهم إياك ولا تكافِهِم، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم.
ويحتمل قوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)
بما عصوك ولا تنتصر منهم، وكذلك أمر اللَّه المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم، وألا ينتصروا منهم بقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، وكان أرجى للمؤمنين قوله: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ...) الآية، وقوله -أيضًا-: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ): لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل، وإذا فعل لا يجاب؛ فدل أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وكذلك دعاء إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، ودعاء نوح - عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ
515
دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، لا يجوز أن يدعو هَؤُلَاءِ الأنبياء - عليهم السلام - ثم لا يجاب لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ):
أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمر؛ ففيه وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص، وإنما يأمر بها فيما لا نص فيه؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد.
والثاني: لا يخلو أمره بالمشاورة، إما لعظم قدرهم وعلو منزلتهم عند اللَّه، أو لفضل العقل ورجحان اللب؛ فكيفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم، ولا جائز -أيضًا- أن يأمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورة أصحابه، ثم لا يعمل برأيهم؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال، وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لما أنزل اللَّه - تعالى -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ ورَسُولَهُ غَنيَّانِ عَنْ مُشاوَرَتِكُم "؛ ولكنه أراد أن يكون سُنَّة لأمته "، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقرأ: " وشاورهم في بعض الأمر ".
وقيل: أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القومِ، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضًا فأرادوا بذلك وجه اللَّه - عزم الله لهم على أَرْشدِهِ.
وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم، لا يشاورهم في الأمر شق عليهم؛ فأمر اللَّه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاورهم في الأمر إذا أراد؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم.
وفي بعض الأخبار قيل: " يا رسول اللَّه، ما العزم؟ قال: " أن تستشير ذا الرأي، ثم
516
الآية ١٥٨ ( وقوله تعالى ) ١ :﴿ ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله لإلى الله تحشرون ﴾ أي إن متم على فراشكم أو قتلتم فإليه تحشرون، فمعناه، والله أعلم، أي ( إن ) ٢ لم تقدروا على أن لم تحشروا إليه كيف تقدرون ( على أن )٣ لا ينزل على فراشكم بكم الموت ؟ وإن قمتم في بيوتكم، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ من م..
٣ في الأصل: أي في م أن..
الآية ١٥٩ وقوله تعالى :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾ يحتمل هذا وجهين : يحتمل فبرحمة من الله عليك ﴿ لنت لهم ﴾ فيجب أن يكون الإنسان رحيما على ( خلق الله ) ١ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه " لن تدخلوا الجنة حتى تراحموا " فقيل : كلنا نرحم يا رسول الله فقال : " ليس تراحم الرجل ولده أو أخاه ولكن تراحم بعضهم بعضا " ( بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/١٨٧ وعزاه للطبراني ) أو كلام نحو هذا، وما جاء : " من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا " ( الترمذي ١٩٢١ ) وما جاء : " من لم يرحم أهل الأرض لم يرحمه أهل السماء " ( المنذري في الترغيب ٣٣٣٤ ) كما قال الله تعالى :﴿ قل للذين آمنوا يغفرون للذين لا يرجون أيام الله ﴾ الآية ( الجاثية ١٤ ) وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين إلا عند المعاندة والمكابرة فحينئذ أمر بالقتال كقوله لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون فقال :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾ ( طه ٤٤ ) وكان اللين من القول أنفذ في٢ القلوب وأسرع إلى الإجابة وادعى إلى الطاعة من الخشن من القول وذلك ظاهر في الناس لذلك أمر الله عز وجل رسله٣ باللين من المعاملة والرحمة على خلقه وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله :﴿ ولو كنت فظا ﴾ في القول ﴿ غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ أي لو كنت في الابتداء فظا غليظا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك.
وقوله تعالى :﴿ فاعف عنهم ﴾ بأذاهم إياك ولا تكافئهم ﴿ واستغفر لهم ﴾ / ٧٢- أ/ فيما بينهم وبين ربهم ويحتمل قوله :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم ﴾ بما عصوك وألا تنتصر منهم. وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم وألا ينتصروا منهم بقوله ﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ ( البقرة ١٠٩ ) وكان أرجى آية للمؤمنين بقوله ﴿ واستغفر لهم ﴾ كما قال الله عز وجل :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون ﴾ الآية ( الجاثية ١٤ ) وقوله أيضا ﴿ واستغفر لذنبك ﴾ ( غافر ٥٥ ) وللمؤمنين والمؤمنات لا جائز أن يأمر بالاستغفار لهم، ثم لا يفعل. وإذا فعل الإيجاب فدل أنه ما ذكرنا دعاء إبراهيم صلوات الله عليه ﴿ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ﴾ ( إبراهيم ٤١ ) ودعاء نوح :﴿ رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ ( نوح ٢٨ ) ولا يجوز أن يدعو هؤلاء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ثم لا يجاب لهم.
وقوله تعالى :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمر ففيه ( وجهان اثنان :
أحدهما )٤ : انه لا يجوز أن يأمره بالمشاورة في ما فيه النص وإنما يأمر بها في ما لا نص فيه ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد.
والثاني : لا يخلو أمره بالمشاورة إما لعظم قدرهم وعلو منزلتهم عند الله أو لفضل العقل ورجحان اللب. فكيف ما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم، ولا جائز أن يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه صلى الله عليه وسلم ثم لا يعمل برأيهم. دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم. وقال بعضهم : إنما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال.
وعن الحسن رضي الله عنه لما أنزل الله تعالى قوله :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ورسوله غنيان عن مشاورتكم " ( البيهقي في الشعب ٧٥٤٢ ) ولكنه أن يكون سنة لأمته وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقرأ ﴿ وشاورهم ﴾ في بعض الأمور وهو يأتيه وحي السماء لانه أطيب لأنفس القوم وأن القوم إذا شاورهم : بعضهم بعضا فأرادوا بذلك وجه الله عزم الله لهم على أرشده وقيل : إن العرب في الجاهلية كانوا إذا ( رأوا سيدها )٥ يقطع أمر دونهم لا يشاورهم في الأمر شق عليهم فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم.
في بعض الأخبار قيل : يا رسول اله : ما العزم٦ قال : " أن تستشير ذا الرأي ثم تطيعه " ( البيهقي في الكبرى ١٠/١١٢ ) وكان يقال : ما هلك امرؤ عن مشورة ولا سعد بتور، قيل البتور الذي لا يستشير ويعمل برأيه.
وقوله تعالى٧ ﴿ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾ أي لا تتكلن إلى نفسك ولا تعتمدن على أحد ولكن اعتمد على الله، وكل الأمر إليه. وقيل : فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو والله أعلم : لا تعجبن بالكثرة ولا ترين النصر به، ولكن اعتمد بالنصر على الله كقوله تعالى :﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا ﴾ ( التوبة ٢٥ ) والله أعلم بما أراد بذلك وكقوله٨ :﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ ( آل عمران ١٦٢ ).
١ في الأصل و م: خلقه..
٢ في الأصل و م: من.
٣ في الأصل و م: ارسلهم..
٤ في الأصل و م: وجوه ثلاثة أحدهما..
٥ في الأصل و م: أرادوا سيدها أن..
٦ من م، في الأصل الحزم..
٧ في م: عز وجل..
٨ الواو ساقطة من الأصل و م..
تطيعه ".
وكان يقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد ثبور، قيل: الثبور: الذي لا يستشير ويعمل برأيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ):
أي: لا تتكلن إلى نفسك، ولا تعتمدن على أحد؛ ولكن اعتمد على اللَّه وَكِلِ الأمر إليه.
وقيل: فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو - واللَّه أعلم - لا تعجبن بالكثرة، ولا ترَيَنَ النصر به، ولكن اعتمد بالنصر على اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)، واللَّه أعلم بما أراد، بذلك؛ كقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ (١٦٠)
صدق اللَّه من كان اللَّه ناصره؛ فلا يغلبه العدو من بعد.
(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ)
أي: يترككم
(فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ):
والنصر يحتمل وجهين، يحتمل: المعونة، ويحتمل: المنع:
كقوله - تعالى -: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ)، أي: أعانكم اللَّه؛ فلا يغلبكم العدو، (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ): ولم يعنكم؛ فمن ذا الذي أعانكم سواه؟!
ومن المنع، أي: إن منع اللَّه عنكم العدوَّ، فلا غالب لكم، (وَإن يَخْذُلكُم)، ولم يعنكم، فمن الذي يمنعكم من بعده؟!
والخذلان في الحقيقة هو: ترك المأمول منه ما أُمِّلَ منه، واستعمل في هذا كما استعمل الابتلاء على غير حقيقته.
وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ):
هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال: وعلى اللَّه فتوكلوا أيها المؤمنون. والتوكل: هو الاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، لا بالكثرة والأسباب التي يقوم بها، من نحو: القوة والعدة والنصرة والغلبة، وفي الشاهد إنما يكون عند الخلق بثلاث: إمّا بالكثرة، وإما بفضل قوَّة بطش، وإمَّا بفضل تدبير ورأي في أمر الحرب، وجميع نصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغلبته على عدوه إنما كان لا بذلك؛ ولكن بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه؛ دل أن ذلك كان باللَّه - عزَّ وجلَّ - وذلك من آيات نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)
فيه قراءتان: " يَغُلَّ " بنصب الياء، وبرفع الياء ونصب الغين، ومن قرأه بنصب الياء فذلك يحتمل وجهين: يحتمل: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي: لم يكن نبي من الأنبياء غل قط، وهو أحق من لا تتهمونه؛ لعلمكم به؛ فكيف اتهمتموه هنا بالغلول؟!
وقيل: إن ناسًا من المنافقين خَشوا ألا يقسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الغنيمة بينهم؛ فطلبوا القسمة؛ فنزلت هذه الآية.
وقيل: قالوا: اعدل يا مُحَمَّد في القسمة؛ فنزل هذا.
ويحتمل قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي: قد كنتم عرفتموه من قبل أن يرسل، فما
518
عرفتموه خان قط أَوْ غَلَّ؛ فكيف يحتمل الخيانة بعدما أرسل؟! هذا لا يحتمل.
ومن قرأه بالرفع أي: يُغَلَّ، فهو -أيضًا- يحتمل وجهين، أي: يتهم بالغلول في الغنيمة؛ فهو يرجع إلى تأويل الأول.
ويحتمل قوله: " أن يُغَلَّ " أن يخان في الغنيمة، لا يخون ولا يحل أن يخان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الغنيمة؛ فإنه يطلع على ذلك، يطلع اللَّه [رسوله]، على ما جاء في بعض الأخبار أنه مرَّ بقبر، فقال: إنه في عذاب، قيل: بماذا يا رسول اللَّه؟! فقال: " إِنَّهُ كَانَ أَخَذَ مِنَ الغَنِيمَةِ قَدْرَ دِرْهَمَينِ أَوْ نَحْوَهُ ".
ويحتمل: خصوص الغنيمة بما يتناول الغالَّ حِلُّهُ، بما لا يعرف له صاحب؛ كالمال الذي لا مالك له، وربما يباح التناول منه للحاجة والأخذ بغير البدل بوجه لا يحتمل بتلك أكل الحل من ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ):
أي: يؤخذ به يوم القيامة، وهكذا كل من أخذ من مال غيره بغير إذنه؛ فإنه يؤخذ به.
وقال بعض الناس: وإنما خص الغنيمة بفضل وعيد؛ لأن الغلول فيها يجحف بحق الفقراء وأهل الحاجة، أو يضر ذلك أصناف الخلق، وسائرُ الأموال ليس كذا.
وقيل: إنما جاء الوعيد في هذا أنهم كانوا أهل نفاق، يستحلون الغلول في الغنيمة والأخذ منها، وهذا كأنه أشبه.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جيشًا فغلوا رأس ذهب؛ فنزلت الآية، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ).
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أيضًا- قال: فُقِدَتْ قطيفة حمراء يوم بدر مما
519
أصيب من المشركين؛ فقال الناس: لعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذها لنفسه؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ (١٦٢)
قيل: أفمن لم يغل، ولم يأخذ من الغنيمة شيئًا - كمن غلَّ وأخذ منها؟! ليسا سواء؛ رجع أحدهما برضوان اللَّه، والآخر بسخطه.
ويحتمل: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ): أفمن أطاع اللَّه واتبع أمره، كمن عصى اللَّه واتبع هواه؟! ليسا بسواء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ (١٦٣)
والدرجات - واللَّه أعلم -: ما يقصدها أهلها. والدركات: ما تدركهم من غير أن يقصدوها؛ كالدرك في العقود يدرك من غير قصد.
وقيل: الدرجات: ما يعلو. والدركات: ما يَسْفُل، واللَّه أعلم. فهذا في التسمية المعروفة أنْ سُمِّيَتِ النار دركات والجنة درجات، وحقيقة ذلك واحد، والآية تدل على الأمرين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ (١٦٤)
وجه المنة فيما بعث الرسل عليهم من البشر، ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن - وجوه:
أحدها: أن كل جوهر يألف بجوهره، وينضم إليه ما لم يألف بجوهر غيره، ولا ينضم إلى جنس آخر، فإذا كان كذلك، والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق وجمعهم، والدعاء إلى دين يوجب الجمع بينهم، ويدفع الاختلاف من بينهم - فإذا كان ما وصفنا بُعِثُوا من جوهرهم وجنسهم؛ ليألفوا بهم وينضموا إليهم، واللَّه أعلم.
والثاني: أن الرسل لابد لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم، فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا يظهر لهم الآيات والبراهين؛ لما يقع عندهم أنهم إنما يأتون ذلك بطباعهم دون أن يأتوها بغير إعطائهم إياها ذلك.
والثالث: أن ليس في وسع البشر معرفة غير جوهرهم وغير جنسهم من نحو الملائكة
520
والجن؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم؟! فإذا كان كذلك بُعِثوا منهم؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة، واللَّه أعلم.
ثم المنة الثانية: حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحَسَبهم لم يبعثهم من غيرهم؛ وذلك أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة، فبعثهم منهم؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم، لَمَّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة - لا يكذبون على اللَّه تعالى.
والثاني: أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون: إنما كان ذلك بتعليم من أحد، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا، بعثهم اللَّه منهم؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد، ولا اختلفوا فيه - أنهم إنما علموا ذلك باللَّه - تعالى - لا بأحد من البشر، واللَّه أعلم.
ألا ترى أن ما أتى به موسى - صلوات اللَّه عليه - من الآيات من نحو: العصا، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرًا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته: لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط، وقد نشأ بين أظهرهم، فكيف ولم يكن سحرًا؟! فدل أن لله على خلقه منة عظيمة؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم، وممن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم.
وقيل: قوله؛ (رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، أي: من العرب معروف النسب أميًّا؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويا وَحْيًا، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله، كقوله: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ):
يحتمل: إعلام رسالته ونبوته، ويحتمل الآيات الحجج والبراهين، هما واحد، ويحتمل: آيات القرآن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُزَكِّيهِمْ):
يحتمل: التزكية من الزكاء والنماء، وهو أن أظهر ذكرهم، وأفشى شرفهم ومذاهبهم؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم؛ كقوله - نعالى -: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)
521
الآية ١٦٣ وقوله تعالى :﴿ هم درجات عند الله ﴾ والدرجات والله أعلم ما يقصدها أهلها والدركات ما يدركهم من غير أن يقصدها كالدرك في العقود يدرك من غير قصد وقيل : الدرجات ما يعلو والدركات ما يسفل والله أعلم. فهذا في التسمية المعروفة أن سميت النار دركات والجنة درجات وحقيقة ذلك واحد. والآية تدل على الأمرين.
الآية ١٦٤ وقوله تعالى١ ﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾ وجه المنة في ما بعث الرسل عليهم ( السلام ) ٢ من البشر ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن ( في ) ٣ وجوه :
أحدهما : أن كل جوهر يألف بجوهره وينضم إليه ما لم يألف بجوهره غيره ولا ينضم إلى جنس آخر. فإذا كان كذلك والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق /٧٨-ب/ وجمعهم والدعاء على دين يوجب الجمع٤ بينهم ويدفع الاختلاف من بينهم فإذا كان ( هذا ) ٥ وصفنا بعثوا من جوهرهم ليبالغوا٦ بهم وينضموا إليهم اعلم.
والثاني : أن الرسل لابد لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا تظهر لهم الآيات والبراهين لما يقع عندهم أنهم إنما يأتوا ذلك بطباعهم دون أن يأتوهم بغير إعطائهم إياها ذلك.
والثالث : أن ليس في وسع البشر معرفة غير جنسهم من نحو الملائكة والجن. ألا ترى أن البشر لا يرونهم ؟ فإذا كان كذلك بعثوا منهم ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة والله أعلم.
ثم المنة الثانية حين بعثهم من نسبهم وجنسهم لم يبعثهم من غيرهم ( تحتمل وجهين :
أحدهما ) ٧ : أنهم إذا بعثوا من غير قبيلتهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم في ما ادعوا من الرسالة فبعثهم منهم ليظهر صدقهم وأمانتهم كما ظهر صدقهم وأمانتهم كما ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك فيدل ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة لا يكذبون على الله تعالى.
والثاني : أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون : إنما كان ذلك بتعليم من أحد واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا بعثهم الله منهم ليعلموا ( أنهم لم٨ يتعلموا ) ٩ من أحد ولا اختلفوا إليه١٠ إنهم إنما علموا ذلك بالله تعالى لا بأحد من البشر والله أعلم ألا ترى أن الله تعالى ما أتى به موسى صلوات الله عليه من الآيات من نحو العصا واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته ؟ لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط وقد نشأ بين أظهرهم فكيف و لم يكن سحرا ؟ فدل أن لله على خلقه منة عظيمة في ما بعث الرسل من نسبهم وممن نشأ بين أظهرهم للمعنى الذي وصفنا والله أعلم.
وقيل : قوله :﴿ رسولا من أنفسهم ﴾ أي من العرب معروف النسب أميا ليعلموا أنه إنما أتى بما١١ أتى سماويا وحيا، وألا يرتابوا في رسالته وفي ما يقولوه :﴿ ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ الآية ( العنكبوت ٤٨ ).
وقوله تعالى :﴿ يتلوا عليهم آياته ﴾ يحتمل أعلام رسالته ونبوته وتحتمل الآيات الحجج والبراهين وهما١٢ واحد وتحتمل الآيات١٣ القرآن.
وقوله تعالى :﴿ ويزكيهم ﴾ يحتمل التزكية من الزكاة والنماء وهو أن اظهر ذكرهم وأفشى شرفهم ومذاهبهم حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدى١٤ بهم بعد موتهم كقوله تعالى :﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ ( الشمس ٩ ) أظهرهم١٥ ولم يخمل ذكرهم ألا ترى أنه قال :﴿ وقد خاب من دساها ﴾ ( الشمس ١٠ ) أي أخفاها وأخملها ويحتمل ﴿ ويزكيهم ﴾ أي يطهرهم بالتوحيد وقيل :﴿ يزكيهم ﴾ أي ( يأخذ منهم ) ١٦ الزكاة ليطهرهم.
وقوله تعالى :﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ أن ينصرف إلى وجوه وقد ذكرنا في غير موضع.
وقوله تعالى :﴿ وإن كانوا ﴾ وقد كانوا ﴿ من قبل لفي ضلال ومبين ﴾ وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه على وجوه : إلى الهلاك وإلى الحيرة وإلى خمول الذكر وغيره.
١ في م عز وجل..
٢ و.
٣ ساقطة من الأصل و م..
٤ في الأصل و م نجمع..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ بالغ يبالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد في الأمر انظر اللسان..
٧ في الأصل و م وذلك.
٨ أدرجها قبلها في م: إذ..
٩ من م ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل و م: فيه..
١١ في الأصل و م: به ما..
١٢ الواو ساقطة مم الأصل و م..
١٣ في الأصل و م: آيات..
١٤ في الأصل و م: ويقتدون..
١٥ في الأصل ظهره..
١٦ في الأصل و م: يأخذهم..
أظهره ولم يُخمل ذكرهم؛ ألا ترى أنه قال: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) أي: أخفاها وأخملها؟! ويحتمل: (وَيُزَكِّيهِمْ)، أي: يطهرهم بالتوحيد، وقيل: (وَيُزَكِّيهِمْ)، أي: يأخذ منهم الزكاة؛ ليطهرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
أن ينصرف إلى وجوه، وقد ذكرناه في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ):
وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه إلى وجوه: إلى الهلاك، وإلى الحيرة، وإلى خمول الذكر وغيره.
* * *
قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ):
يوم أحد؛ حيث قتل منكم سبعون.
(قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا)
يوم بدر: قتلتم سبعين وأسرتم سبعين.
وقيل: إن ذلك كله يوم أُحد كانت الدائرة والهزيمة على المشركين في البداية،
ثم هُزِم المؤمنون، يقول: إن أصابكم في آخره ما أصاب، فقد أصابهم -أيضًا- مثلاها؛ يذكر هذا لهم - واللَّه أعلم - على التسلي بما أصيبوا؛ ليتسلى ذلك عنهم، أو يذكرهم نعمَهُ عليهم بما أصيب المشركون مثلي ذلك؛ ليشكروا له عليها، وليعلموا أنهم لم يُخَصُّوا هم بذلك.
522
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) هو:
كأنه يعاتبهم - واللَّه أعلم - بقولهم: (أَنَّى هَذَا)؛ فقال (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ): يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم، والخلافِ لنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئًا عن ارتكاب المنهي والخلافِ لأمره، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء؛ إذ كلهم عبيده، فعاتبهم لما لم يعرفوا محنه، و (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)، ونحن مسلمون نقاتل في سبيل اللَّه، وهم مشركون؟! فقال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، يقول: بمعصيتكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وبتركبهم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره؛ كقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).
قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - تعالى -: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا): يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء، أي: لو كان ما يقول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من النصر له والرسالة حقًّا؛ فمن أين بُلي بهذا؟! وذلك كقولهم: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) وقولهم يوم الخندق: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام، واللَّه أعلم.
وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به، وهم أنصار دين اللَّه، وقد وعد لأنصار دينه النصر، وإن الذي يتصره اللَّه لا يغلبه شيء، وكان قد وُعِدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، أو بما كانوا رأوا الدَّبْرَةَ عليهم والهزيمة من الأعداء، فيقولون: بم انقلب علينا الأمر؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن اللَّه، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم: فجائز ذلك بحق المحنة؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر، وللاجتماع على الطاعة أدعى؛ إذ المحنة بمثله تدعوا كلًّا إلى اتقاء الخلاف، ومنع إخوانه -أيضًا- عن ذلك؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين، واللَّه أعلم
523
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):
من النصر والهزيمة، ولكن ما أصابكم إنما أصاب بمعصيتكم ربكم، وخلافكم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو أصابكم؛ محنة منه إياكم.
وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)
جمع المؤمنين، وجمع المشركين.
(فَبِإِذْنِ اللَّهِ):
قيل: فبمشيئة اللَّه وإرادته، وقيل: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ): فبتخلية اللَّه إياكم لما لعلهم رأوا النصر والغلبة بالكثرة، أو بالقوة والعدة؛ فخلاهم اللَّه بينهم وبين عدوهم؛ ليعلموا أن أمثالهم مع قلتهم وضعفهم لا ينتصرون من أمثال أُولَئِكَ مع كثرة عددهم، وقؤة أبدانهم، وعدتهم في سلاحهم، ولكن باللَّه ينتصرون منهم، ويتغلبون عليهم.
وقيل: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ): بعلم اللَّه، أي: يعلم اللَّه ما يصيبكم من خير أو شر، ليس عن سهو وغفلة منه يصيبكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا (١٦٧)
كما ذكرنا فيما تقدم؛ ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون، ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين؛ وكذلك ليعلم ما قد علم أنهم ينافقون، ويصيرون منافقين، غير صابرين، ولا محتسبين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا):
قوله: (أَوِ ادْفَعُوا): يحتمل: (أَوِ ادْفَعُوا)، أي: كثروا السواد؛ لأن المشركين إذا
524
رأوا سواد المؤمنين كثيرًا، يُرهبهم ذلك ويخوفهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
ويحتمل: أو ادفعوا العدو عن أنفسكم؛ لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين، أو ادفعوا عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك، أو ادفعوا عن دينكم إذا قصدوا دينكم، وقد يقصدون ذلك، أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) - واحدًا، أي: قاتلوا في سبيل اللَّه وادفعوا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)
يعني: المنافقين، قيل: قال المنافقون الذين تخلفوا في المدينة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: قال ذلك غيرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ):
يعني: المنافقين، أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر، كل ذلك لغة، وفي حرف حفصة: هم " إلى الكفر أقرب "، وتأويله - واللَّه أعلم -: أن المنافقين كانوا لا يعرفون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ولا كانوا يعبدونه؛ فإنما هم عباد النعمة، يميلون إلى حيث مالت النعمة: إن كانت مع المؤمنين؛ فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم، وإن كانت مع المشركين فمعهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ...) الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ...) الآية، وأما الكفار: فإنهم كانوا يعرفون اللَّه، لكنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين:
أحدهما: لما اتخذوها أربابًا.
والثاني: يطلبون بذلك تقربهم إلى اللَّه زلفى؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، لكنهم إذا أصابتهم الشدة، ولم يروا فيما عبدوا الفرج عن ذلك - فزعوا إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، كقوله - تعالى -: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
525
الدِّينَ)، فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول، وقوله - عز وجل -: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) الآية، وأمّا المؤمنون: فهم في جميع أحوالهم: في حال الرخاء والشدة، والضراء والسراء - مخلصون لله صابرون على مصائبهم وشدائدهم قائلون: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ): يحتمل هذا وجوهًا: قيل: إنما كانوا كذا؛ لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) وإن كان للكافرين نصيب قالوا: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): ذكروا كونهم مع المؤمنين، وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم، ومنعهم من المؤمنين؛ فذلك آية الأقرب منهم.
ويحتمل: أقرب منهم للإيمان؛ لأن ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب؛ فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب، وهو الكفر.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ)، قال: " هم يومئذ يسرون الكفر، ويظهرون الإيمان، وسرّ العبد أولى من علانيته، وفعله أولى من قوله ".
(يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ):
وهو قولهم، وقيل: وهم منهم أقرب؛ لأنهم كانوا في الحقيقة كفارًا على دينهم.
وفي قوله - تعالى -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) - يحتمل الذم، وقيل: كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا): فيكون الوصف بالقرب على الوقوع والوجوب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، أي: هي لهم - وباللَّه التوفيق - وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق، والكفر لم يكن يفارق قلوبهم، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان، ثم قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، واللَّه أعلم.
وقد يكون على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان؛ إذ حقيقته تصديقٌ عن معرفة، ولم يكن لهم معرفة، والكفر قد يكون بالتكذيب؛ كأن له بما يكذب علم بالكذب أولًا؛ فلذلك كان الكفر أقرب إليهم، ويحتمل: أقرب إليهم: أولى بهم، وهم به أحق أن يعرفوا؛ بما جعل اللَّه لهم من إعلام
526
الآية ١٦٧ وقوله تعالى :﴿ وليعلم المؤمنين ﴾ ﴿ وليعلم الذين نافقوا ﴾ لما ذكرنا في ما تقدم : ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين١ ينافقون ولا يبرون٢ منافقين غير صابرين ولا محتسبين٣.
وقوله تعالى :﴿ قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾ قوله :﴿ أو ادفعوا ﴾ يحتمل ﴿ أو ادفعوا ﴾ أي كثروا السواد لأن المشركين إذا رأوا سواد المؤمنين كثيرا يرهبهم ذلك ويخوفهم كقوله عز وجل :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ ( الأنفال ٦٠ ) ويحتمل ﴿ أو ادفعوا ﴾ العدو عن أنفسكم لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين ﴿ أو ادفعوا ﴾ عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك ﴿ أو ادفعوا ﴾ عن دينكم وقد يقصدون ذلك. أو أن يكون قوله عز وجل ﴿ قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾ واحدا أي قاتلوا في سبيل الله وادفعوا والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ يعني المنافقين أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر، كل ذلك لغة وفي حرف حفصة :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم ﴾ هم على الكفر أقرب. وتأويله والله أعلم أن المنافقين كانوا لا يعرفون الله عز وجل ولا كانوا يميلون إلى حيث مالت النعمة إن كانت مع المؤمنين فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم، وإن كانت مع المشركين فمعهم كقوله عز وجل :﴿ الذين يتربصون / ٧٣- أ/ بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ﴾ الآية ( النساء ١٤١ ) وكقوله عز وجل :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾ الآية ( الحج ١١ ).
وأما الكفار فإنهم كانوا يعرفون الله لكنهم يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين :
أحدهما : لما اتخذوها أربابا.
والثاني : يطلبون بذلك تقربهم إلى الله زلفى كقولهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر ٣ ) لكنهم إذا أصابتهم الشدة ولم يروا في ما عبدوا الفرج عن ذلك فزعوا إلى الله عز وجل كقوله تعالى :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ ( العنكبوت ٦٥ ) فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول وقوله : عز وجل :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ﴾ الآية ( الزمر ٨ ).
وأما المؤمنون فهم في جميع أحوالهم : الرخاء والشدة والضراء والسراء مخلصين لله صابرين على مصائبهم وشدائدهم ﴿ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ ( البقرة ١٥٦ ).
وقوله تعالى :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ يحتمل هذا وجوها : قيل إنما كانوا كذا لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين :﴿ ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ﴾ ( النساء ١٤١ ) ذكروا كونهم مع المؤمنين وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم ومنعهم على المؤمنين فذلك آية الأقرب منهم. ويحتمل ﴿ أقرب منهم للإيمان ﴾ لأن ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب وهو الكفر وعن ابن عباس رضي الله عنه :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ أنه قال :( هم يومئذ أقرب لأنهم كانوا في الحقيقة كفارا على دينهم ) وفي قوله تعالى :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ يحتمل الذم وقيل : كقوله جل وعلا :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾ أي هي لهم وبالله التوفيق.
وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق والكفر لم يكن يفارق قلوبهم، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان ثم قد يفارقها أكثر أوقاتهم والله أعلم. وقد يكونون٤ على القرب من حيث قد كانوا شاكين في أمر الإيمان تاركي٥ الإيمان. إن حقيقته تصديق عن معرفة، ولم يكن لهم معرفة، والكفر قد يكون بالتكذيب، كان لهم بما يكذب علم بالكذب أولا، فلذلك كان الكفر أقرب إليهم.
ويحتمل ﴿ أقرب منهم ﴾ أولى بهم، وهم به أحق أن يعرفوا بما جعل الله لهم من أعلام ذلك في لحن القول ثم في أفعال الخير ثم في ( أحوال )٦ الجهاد ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن والله أعلم.
فإن قيل في قوله :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتهم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ كيف عم هؤلاء بالعقوبة ؟ وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل ؟ قيل : لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء لا مخرج الجزاء لفعلهم ولله أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر وعصيان، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان وخلاف في أمر لم يؤاخذ غير مرتكبها لقوله عز وجل :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم لما ذكرنا أن له ابتداء وإن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم فعمتهم لذلك بذلك كقطاع لاطريق والسراق٧ أن تعمهم العقوبة جميعا : من أخذ ومن لم ياخذ ومن تولى ومن لم يتول فكذلك هذا وكانوا جميعا كنفس واحدة فعمهم بذلك والله أعلم.
١ احتسب بكذا أجرا عند الله: اعتده ينوي به وجه الله..
٢ في م: يبصرون..
٣ من م في الأصل: تحسبين..
٤ في الأصل و م: يكون..
٥ في الأصل و م: تاركو..
٦ من م ساقطة من الأصل....
٧ في الأصل: وكسراق في م: والسارق وفي م: والسارق..
ذلك في لحن القول، ثم في أفعال الخير، ثمّ في أحوال الجهاد، ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن، واللَّه أعلم.
فإدن قيل في قوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) -: كيف عم هَؤُلَاءِ بالعقوبة، وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل، قيل: لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء، لا مخرج الجزاء لفعلهم، ولله أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر أو عصيان، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان أو خلاف في أمر - لم يؤاخذ غيرُ مرتكبها؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم؛ لما ذكرنا أن له ابتداء امتحان، أو إن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم؛ فعمهم لذلك بذلك، كقُطاع الطريق وكسُراق أن تعمهم العقوبة جميعًا: مَنْ أخذ ومن لم يأخذ، ومن تولى ومن لم يتولَّ؛ فكذلك هذا، أو كانوا جميعًا كنفس واحدة؛ فعمهم بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ... (١٦٨)
وقيل: لإخوانهم في الدِّين، ومعارفهم من المنافقين:
(لَو أَطَاعُونَا)
ولم يخرجوا إلى الجهاد
(مَا قتُلُوا).
وقيل: لإخوانهم في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدِّين والولاية؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) ليس بأخيهم في الدِّين ولا في الولاية؛ ولكن كان أخاهم في النسب والقرابة.
قوله تعالى: (لَو أَطَاعُونَا)
وقعدوا عن الخروج في الجهاد (مَا قتُِلُوا) في الغزو.
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ - لنبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن قل لهم: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ)
أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت
(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
بأنهم لو قعدوا في بيوتهم ما قتلوا؛ فمعناه - واللَّه أعلم -: أن من قتل في سبيل الله
فمكتوب ذلك عليه، ومن مات في بيته فمكتوب ذلك عليه، فإذا لم تقدروا دفع ما كتب عليكم من الموت؛ كيف زعمتم أنهم لو قعدوا ما قتلوا، وهو مكتوب عليهم كالموت؟!.
وهذه الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من قتل مات قبل أجله، أو قبل أن يستوفي أجله؛ فهم واليهود فيما أنكر اللَّه عليهم قولهم لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا - سواء بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا):
قيل فيه بوجوه، قيل: إن المنافقين قالوا للذين قتلوا بأُحُدٍ وببَدْرٍ: إنهم ماتوا؛ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وبأحد وبدر (أَمْوَاتًا) كسائر الموتى؛ بل هم أحياء عند ربهم.
وقيل: قالوا: إن من قتل لا يحيا أبدًا ولا يبعث؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: بل يحيون ويبعثون كما يحيا ويبعث غيرهم من الموتى.
وقيل: إن العرب كانت تسمي الميت: مَنْ انقطع ذكره إذا مات ولم يذكر، أي: لم يَبقَ له أحد يُذْكر به؛ فقالوا: إذا قتل هَؤُلَاءِ ماتوا، أي: لا يذكرون؛ فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم مذكورون في الملأ: ملأ الملائكة، وملأ البشر، وهو الظاهر المعروف في الخلق أن الشهداء مذكورون عندهم.
وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ)
أي: يُجْرِي أعمالهم بعد قتلهم، كما كان يُجْري في حال حياتهم، فهم كالأحياء فيما يجري لهم ثواب أعمالهم وجزائهم، ليسوا بأموات.
وقيل: إن حياتهم حياة كلفة؛ وذلك أنهم أمروا بإحياء أنفسهم في الآخرة؛ ففعل المؤمنون ذلك: أحيوا أنفسهم في الآخرة؛ فسموا أحياء لذلك، والكفار لم يحيوا أنفسهم
بل أماتوها؛ فسمى أؤلئك أحياء، والكفار موتى.
وقيل: سمى هَؤُلَاءِ أحياء؛ لأنهم انتفعوا بحياتهم، وسمى الكفار أمواتًا؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم. ألا ترى أنه - عَزَّ وَجَلَّ - سماهم مرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)؛ لما لم ينتفعوا بسمعهم ولا ببصرهم ولا بلسانهم، ولم يسم بذلك المؤمنين؛ لما انتفعوا بذلك كله؟! فعلى ذلك سمى هَؤُلَاءِ أحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، وأُولَئِكَ الكفرةَ موتى؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم، واللَّه أعلم.
وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين يعرضون على الجنان، وأرواح الكفار على النار؛ فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لأرواح غيرهم من المؤمنين ذلك، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم وشدة ما لا يكون لأرواح غيرهم من الكفرة ذلك؛ فاستوجبوا بفضل اللذة على غيرهم اسمَ الحياة. ألا ترى أنه قال - تعالى -: (يُرزَقُونَ): فيها، (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (١٧٠)
وقيل: إن الناس كانوا يقولون فيما بينهم: من قتل بـ " بدر وأحد " مات فلان ومات فلان؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ):
روي عن مسروق، قال: سألت عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذه الآية: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) الآية؛ قال: سألت عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " أرْوَاحُهُم عِنْدَ اللهَ في حَوَاصِلٍ طَيرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَة بِالْعَرشِ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيها شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلِهَا... " والحديث طويل.
529
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ...) الآية:
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " تَنْزِلُ عَلَيهِم صُحُفٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِم مِنَ الشّهَدَاءِ؛ فَبِذَلِك يَسْتَبْشِرُونَ ".
وقيل: " يَسْتَبْشِرُونَ " لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم؛ بما قَدِموا عليه من الكرامة والفضل والنعم، الذي أعطاهم اللَّه. وقيل: " يَسْتَبْشِرُونَ "، يعني: يفرحون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ)، يعني: من بعدهم من إخوانهم في الدنيا: رأوا قتالا؛ استشهدوا " فلحقوا.
وقيل: (لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ):
الذين يدخلون في الإسلام من بعدهم.
والاستبشار: هو الفرح أو طلب البشارة؛ كأنهم طلبوا البشارة لقومهم؛ ليعلموا بكرامتهم عند اللَّه ومنزلتهم؛ كقول من قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧).
وقيل: إن الحياة على ضربين: حياة الطبيعي، وحياة العَرَضِي، وكذلك الموت على وجهين. موت الطبيعي، وموت العرضي، ثم حياة العرضي على وجوه:
أحدها: حياة الدّين والطاعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ). وحياة العلم والبصيرة واليقظة، يسمي العالِم حيًّا، والجاهل ميتًا. وحياة الزينة والشرف، على ما سمى اللَّه - تعالى - الأرض ميتة في حال يبوستها، وحيَّةً: في حال خروج النبات منها بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا). وحياة الذكر واللذة؛ فجائز أن يكون اللَّه - تعالى - لما أخبر أنهم أحياء عند ربهم أن يكون لهم حياة من أحد الوجوه التي ذكرنا: حياة ذكر ولذة، أو حياة زينة وشرف، أو حياة العلم لهم بأهل الدنيا على ما كان لهم قبل ذلك، أو حياة دين وعبادة، أو يُجري عليهم أعمالهم على ما كان لهم قبل الشهادة، وإن كانت أجسادهم في الحقيقة ميتة في أحكام الدنيا عند أهل الدُّنيَا، وهذا يقوي قولنا في المرتد: إنه إذا لحق
530
بدار الحرب يحكم في نفسه وماله بحكم الموتى في قسمة المواريث، وقضاء الديون وغيرها، وإن كان هو في الحقيقة حيًّا على ما حكم في أموال الشهداء وأنفسهم بحكم الموتى في حكم الدنيا؛ لما لا يعودون إلى الدنيا، وإن كانوا عند ربهم أحياء؛ فعلى ذلك يحكم في نفس المرتد وأمواله بحكم الموتى؛ لما لا يعود إلى دارنا، وإن كان هو في الحقيقة حيًّا عند اللَّه لما جاز أن يكون حيًّا عند اللَّه، ميتًا عندنا، وجاز أن يكون ميتًا عندنا حيًّا عند اللَّه، واللَّه أعلم.
وحياة الطبيعي: هو حياة جوهر، وما به يقوم النفس، وموت الطبيعي هو هلاكه، وفوته واللِّه أعلم.
وموت العرضي: هو جهله؛ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ (١٧١)
يحتمل (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) أي: بدين من اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، قيل: بدينه، ويحتمل: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ): الجنة، (وَفَضْلٍ): زيادات لهم وكرامات من اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ):
أي: لا يضيع من حسناتهم وخيراتهم وإن قل وصغر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا)، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، كقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ...) الآية.
* * *
قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ):
قيل: أجابوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ما دعاهم إليه، وأطاعوا فيما أمرهم
الآية ١٧٢ وقوله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾ الآية قيل : أجابوا لله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم على ما دعاهم إليه، وأطاعوا في ما أمرهم به ﴿ من بعد ما أصابهم القرح ﴾ أي الجراحة قيل : دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأحد القروح والجراحات فأجابوه، فذلك قوله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾ الآية.
وقوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا منهم ﴾ في الإجابة بعد ما أصابتهم الجراحة وشهدوا القتال معه ﴿ واتقوا ﴾ الخلاف له وترك الإجابة، ويحتمل اتقوا النار وعقوبته ﴿ أجر عظيم ﴾ في الجنة وثواب جزيل والله أعلم.
به من بعد ما أصابهم القرح، أي: الجراحة.
قيل: دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأُحدٍ القروح والجراحات؛ فأجابوه، فذلك قولهَ تعالى -: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ):
في الإجابة له بعدما أصابتهم الجراحة، وشهدوا القتال معه.
(وَاتَّقَوْا):
الخلاف له، وترك الإجابة، ويحتمل: اتقوا النار وعقوبته.
(أَجْرٌ عَظِيمٌ):
في الجنة وثواب جزيل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ... (١٧٣)
قيل: إن المنافقين قالوا لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ما انهزم كفار مكة وولوا أدبرهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، يخوفونهم؛ حتى لا يتبعوهم على أثرهم، فذلك عادتهم لم تزل؛ كقوله - تعالى -: (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)، أي: فسادًا.
وقيل: إنه إنما قال ذلك لهم رجل يقال لهم: نعيم بن مسعود، ولا ندري كيف كانت القصة؟.
532
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا):
لما وجدوا الأمر على ما قال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووعد لهم، لا على ما قال أُولَئِكَ؛ فزادهم ذلك إيمانًا، أي: تصديقًا.
زادهم: قيل: جراءة وقوة وصلابة على ما كانوا من قبل في الحرب والقتال، ويحتمل؛ زادهم ذلك في إيمانهم قوة وصلابة وتصديقًا.
وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، أي: تصديقًا ويقينًا بجرأتهم على عدوهم، ويقينهم بربهم، واستجابتهم لنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قال قائل: ما معنى قوله - سبحانه وتعالى -: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) على أثر قوله - عز وجلَ: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، وقول ذلك قول لا يحتمل أن يزيد الإيمان، وليس كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)؛ لأنها حجج، والحجج تزيد التصديق، أو تحدث، أو تدعوا إلى الثبات على ذلك؛ فيزيد الإيمان؛ فقولهم: اخشوهم، كيف يزيد؟ قيل: يخرج ذلك - واللَّه أعلم - على وجوه:
أحدها: أنهم إذا علموا أنهم أهل النفاق، وأنهم يخوفون بذلك، وقد كان وعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بصنيعهم، فكذبوهم بذلك، وأقبلوا نحو أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إجابة لأمره؛ وتصديقا بوعده، ومجانبة لاغترارهم بأخبار أعدائه والنزول على قولهم؛ فكان ذلك منهم - عند ذلك - زائدًا في إيمانهم مع ما في تكذيبهم؛ ذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ...)، الآية: إنه إذا زاد بتكذيب آيات الله رجسًا؛ فمثله تكذيب المكذب بالآيات؛ لذلك يزيد إيمانًا، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بتفرق أعداء اللَّه، وتشتت أمرهم، وأخبرهم المنافقون بالاجتماع؛ فصاروا إلى ما نعتهم به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فوجدوا الأمر على ما قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك من أنباء الغيب، والإنباء عن الغيب، من أعظم آيات النبوة؛ فزادهم ذلك إيمانًا، واللَّه أعلم، وذلك، قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ...) الآية.
والثالث: لم لما يغتروا بقول المنافقين، ولا قصدوا لذلك، ولا ضعفوا؛ فأنزل اللَّه -
533
تعالى - سكينته على قلوبهم؛ ليزيد لهم بذلك إيمانًا؛ كقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ...) الآية، وباللَّه التوفيق.
ثم معنى زيادة الإيمان يتخرج على وجوه:
أحدها: بحق الابتداء في حادث الوقت؛ إذ له حكم التجدد في حق الأفعال بما هو للكفر به تارك؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...) الآية، فيكون ذلك بحق الزيادة على ما مضى، وإن كان بحق التجدد في حق الحادث والفرد.
والثاني: أن يكون له الثبات عليه؛ إذ حجج الشيء توجب لزومه، والدوام عليه؛ فسمى ذلك زيادة.
ويحتمل: أن يكون يزداد له في أمره بصيرة، وعلى ما رغب فيه إقبالا، ولحوقه مراعاة؛ فيكون في ذلك زيادة في قوته أو في نوره، أو بزينته وتمامه، وذلك أمر معروف.
ويحتمل: أن يكون ذلك داع إلى محافظة حقوق، والتمسك بأدلته، والوفاء بشرائطه؛ فيزيد ذلك فضله؛ كما عدت صلاة واحدة في التحقيق ألفا؛ بما في ذلك من حفظ الحقوق ومراعاتها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ):
فزعوا إلى اللَّه - تعالى - بما رأوا من صدق وعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم وظهور كذب قول المنافقين: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ...) الآية، أو قالوا ذلك عند قول المنافقين إياهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)؛ فوضوا أمرهم إلى اللَّه تعالى، وسلموا لما رأوا النصر منه؛ رضاء منهم بكل ما يصيبهم، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): مدحهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بما رأوا أنفسهم لله؛ فكذلك هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللََّهُ ذُو فَفحلٍ عَظِيم).
أي: ذو من عظيم، يدفع المشركين عن المؤمنين.
وقرله - عَزَّ وَجَلَّ -. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
يحتمل النعمة: نعمة الدِّين، على ما ذكرنا.
وقيل: انقلبوا بنصر من اللَّه والغنيمة، ويحتمل: النعمة من اللَّه: الأمن من العدو؛ لأن المنافقين كانوا يخوفونهم بقولهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، ويحتمل: النعمة: الجنة، وفضلَ الزيادة على ذلك.
وقيل: انصرفوا بأجر من اللَّه وفضل، وهو ما تشوقوا به من الشوق:
(لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)
ولا قتل، ولا هزيمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)
أي: اتبعوا العمل الذي به رضوان اللَّه، ورضاء رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: اتبعوا طاعته ورضاه.
ويحتمل قوله: (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ): الزيادة في الإيمان، وهو الصلابة والقوة فيه.
وقوله: (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ): مما كانوا يخوفونهم بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ).
ويحتمل قوله - تعالى -: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ)، أي: رجعوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
يخوف أولياءه وأعداءه، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياؤه يخافونه؛ كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ): ومن لم يتبع، لكن من اتبع الذكر كان يقبل إنذاره، ومن لم يتبع الذكر لا؛ وإلا فإنه كان ينذر الفريقين جميعًا؛ فعلى ذلك الشيطان كان يخوف أولياءه وأعداءه جميعًا، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياءه يخافونه.
ويحتمل قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، أي: بأوليائه، وجائز هذا في الكلام؛ كقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: بيوم الجمع؛ ألا ترى أنه قال: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)؛ فعلى ذلك قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، أي: بأوليائه، واللِّه أعلم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يخوفكم أولياءه، وهذا يؤيد تأويل من يتأول: يخوف بأوليائه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
أي: لا تخافوه لمخالفتكم إياه، (وَخَافُونِ)، أي: خافوا مخالفتكم أمري؛ كقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ). أخبر أنْ ليس له سلطان على الذين آمنوا؛ إنما سلطانه على الذين يتولونه؛ لذلك قال: لا تخافوه؛ لما ليس له عليكم سلطان، وخافون؛ لما لي عليكم سلطان، وباللَّه العصمة.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)
يحتمل الآية وجهين:
يحتمل: ولا يحزنك الذين ظاهروا غيرهم من المشركين عليكم، وقد ظاهر أهل مكة غيرهم من المشركين على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقول اللَّه لرسوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) مظاهرتهم عليك؛ فإن اللَّه ينصرك؛ فيخرج هذا مخرج البشارة له بالنصر على أعدائه والغلبة عليهم.
ويحتمل -أيضًا- وجهًا آخر: وهو أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يشتد عليه كفرهم باللَّه، ويحزن لذلك، كقوله - تعالى -: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؛ فيخرج قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) مخرجَ تَسْكينِ الحزن، ودفْعِهِ عنه، والتسلي عن ذلك، لا مخرج النهي؛ إذ الحزن يأخذ الإنسان، ويأتيه من غير تكلف ولا صنع، وكقوله - تعالى -: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): هو على مخرج التسكين والدفع عنه، لا على النهي؛ فكذلك الأول - واللَّه أعلم - وكقوله - تعالى - لأم موسى - عليه السلام -: (وَلَا تَحْزَنِي).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا):
يحتمل قوله: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا)، أي: لن يضروا أولياء اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إنما ضرر ذلك عليهم، كقوله - تعالى -: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
ويحتمل: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا)؛ لأنه ليس لله في فعلهم وعملهم نفع، ولا في ترك ذلك عليه ضرر؛ إنما المنفعة في عملهم لهم، والضرر في ترك عملهم عليهم، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ):
هذه الآية تنقض على المعتزِّلة قولهم؛ لأن اللَّه - تعالى - يقول: أراد ألا يجعل لهم في الآخرة حظًا؛ والمعتزلة يقولون: بل أراد أن يجعل لهم حظا في الآخرة؛ إذ يقولون: أراد لهم الإيمان، وبالإيمان يكون لهم الحظ في الآخرة، فثبت بالآية أنه لم يكن أراد لهم الإيمان، والآية في قوم خاص علم اللَّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فأراد ألا يجعل لهم حطا في الآخرة، ولو كان على ما تقوله المعتزلة: بأنه أراد أن يجعل لهم حظا في الآخرة - لما أراد لهم أن يؤمنوا، ولكن لم يؤمنوا لكان حاصل قولهم: أراد اللَّه ألا يجعل لمن أراد يؤمن في الآخرة، وذلك جور عندهم، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ):
وذكر مرة: (أَلِيم)، ومرة: (شَدِيد)؛ لأن
التعذيب بالنار أشد العذاب في الشاهد وأعظمه؛ لذلك أوعد بها في الغائب، وجعل شرابهم وطعامهم ولباسهم منها، فنعوذ باللَّه من ذلك.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم.
(لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا)
وما ذكرنا أنه على الوجهين اللذين وصفتهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
اختلف في قراءتها، قرأ بعضهم بالياء:
وبعضهم بالتاء: فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: لا تحسبن يا مُحَمَّد أنما نملي لهم خير لهم؛ إنما نملي لهم ليزدادوا شرًّا.
537
ومن قرأ بالياء: صرف الخطاب إلى الكفرة، فقال: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) يكون خيرًا لهم؛ بل إنما نملي لهم ليكون سرّا وإثما لهم؛ فالآية على المعتزلة، لكنهم تأولوا بوجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما؛، إنما نملي لهم خير لأنفسهم "؛ فيقال لهم: لو جاز جعل الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه، جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين، وصرفها إلى الكافرين، وما كان فيها وعيد للكافرين إلى المؤمنين؛ إذ لا فرق بين هذا وبين جعلكم الخير مكان الإثم، والإثمَ مكان الخير، وبين جعل الوعد في موضع الوعيد، والوعيد في موضع الوعد.
والوجه الثاني: قالوا: أخبر اللَّه - تعالى - عما يئول أمرهم في العاقبة، لا أن كان في الابتداء كذلك؛ كقوله - تعالى -: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، ومعلوم أنهم لم يلتقطوا ليكون لهم عدوًا وحزنًا؛ ولكن إخبار عما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدوًا وحزنًا؛ وكذلك يقال للرجل: سرقت لتقطع، وقتلت لتقتل، وهو لم يسرق ليقطع، ولا قتل ليقتل؛ ولكن إخبار عما آل أمره وحاله في العاقبة؛ فكذلك هذا، لكن الإخبار عما يئول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء، فاللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك؛ فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء، لا مخرج الإخبار عما يئول الأمر في العاقبة، وباللَّه التوفيق.
والثاني: أن من أراد أمرًا يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لعبث، فاللَّه - سبحانه - يتعالى عن الجهل بالعواقب، أو العبث في الفعل؛ دل أنه كان على ما أراد، لا ما لم يرد، ولو كان اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين وأَخْيَرُ - لم يكن لنهي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الإعجاب بما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله - سبحانه وتعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ...)، الآية؛ دلّ أنه قد يعطي ما ليس هو بأصلح في الدِّين ولا أَخْيَرَ، واللَّه أعلم.
وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: في قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وقولِهِ - تعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا...) الآية، وقوله - تعالى -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
538
مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) ونحو ذلك من الآيات - فيها وجهان على المعتزلة:
أحدهما: قولهم في الأصلح: إن اللَّه - تعالى - لو فعل بالخلق شيئًا غيرهُ أصلحُ لهم في الدِّين في حال المحنة - كان ذلك جَورًا، ومعلوم أن الفعل بهم؛ ليزدادوا إثمًا لا يبلغ في الصلاح في الدِّين الفعلَ بهم؛ ليزدادوا به برا، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فيقول: لا يعجبك كذا؛ فكأنه قال: لا يعجبك الذي هو صلاح في الذين، ثم يؤكد ذلك بأنه جعل لهم ذلك ليعذبهم بها، ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون؛ فكان ذلك شهادة منه - عَزَّ وَجَلَّ - على كل من وافق رأيُهُ رأيَ أُولَئِكَ الكفرة: أنهم لا يشعرون، ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل اللَّه - تعالى - لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكن ليجترئوا على دعوى الربوبية، ويبلغوا في المآثم ما بلغوا؛ فيكون فوت ذلك أصلح لهم في الدِّين، وقد قال اللَّه - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ...) والآية ثم كان معلومًا أنه إذا كان بما يجعل ذلك للكفرة يكفرون، فلو جعل للمؤمنين يؤمنون، ثم لم يجعل كذلك، واللَّه أعلم. وأيد ذلك قوله - تعالى -: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ليُعَذبَهُم بِهَا...) الآية.
والثاني: أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة، وقد أخبر لأي وجه أعطى؛ ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل أحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون على جهل أو سفه.
فالأول: يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون.
والثاني: إذا علم ألا يكون؛ فيكون له به عابثًا سفيهًا، جلّ اللَّه - تعالى - عن الوجهين؛ ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه؛ وبهما سقوط الربوبية.
ثم وجهت المعتزلة الآية إلى وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير بمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا إنما نملي خير لأنفسهم. وذلك فاسد لوجهين:
أحدهما: لو كان جعل الخير شرًّا والشر خيرًا بالتأويل، وصرف الآية عن سياقها ونظمها - لجاز ذلك في كل وعد ووعيد، وأمر ونهي، وتحليل وتحريم؛ فيصير كل أمور
539
الآية ١٧٨ وقوله تعالى :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾ الآية اختلف في قراءتها١ قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولا تحسبن يا محمد ﴿ أنما نملي لهم خير ﴾ لهم إنما نملي لهم ليزدادوا شرا وإثما لهم. فالآية على المعتزلة لكنهم تأولوا بوجهين :
أحدهما : على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم فيقال لهم : لو جاز حمل٢ الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين وصرفها إلى الكافرين٣ وما كان فيها وعيد للكافرين ( جاز صرفها ) ٤ إلى المؤمنين إذ لا فرق بين هذا وجعلكم الخير مكان الإثم والإثم مكان الخير، وبين جعل الوعد٥ في موضع الوعيد فيس موضع الوعد.
والوجه الثاني :( تأولوه بوجهين أيضا :
الأول ) ٦ : قالوا : أخبر الله تعالى عما يؤول أمرهم في العاقبة لا أن كان في الابتداء كذلك كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ ولكن إخبار عن ما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدوا وحزنا وكذلك يقال للرجل : سرقت لتقطع ( يدك )٧ وقتلت ( نفسا ) ٨ لتقتل وهو لم يسرق لتقطع ( يده ) ٩ ولا قتل ( نفسا ) ١٠ ليقتل ولكن إخبار عن ما آل أمره وحاله في العاقبة فكذلك هذا. لكن الأخبار عما يؤول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء فالله سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء لا مخرج الإخبار عما يؤول الأمر في العاقبة وبالله التوفيق.
والثاني١١ : من أراد أمرا يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لبعث فالله سبحانه يتعالى عن الجهل بالعواقب أو البعث في الفعل دل أنه كان على ( ما ) ١٢ أراد لا ما لم يرد. ولو كان سبحانه وتعالى لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدين وأخير لم يكن لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعجاب ما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله سبحانه وتعالى ﴿ فلا يعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾ الآية ( التوبة ٥٥ و٨٥ ) ( معنى ) ١٣ دل أنه قد يعطي ما ليس هو بأصلح١٤ في الدين ولا أخير والله أعلم.
قال الشيخ، رحمه الله في قوله :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ﴾ وقوله عز وجل :﴿ فلا يعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها ﴾ الآية ( التوبة ٥٥ و٨٥ ) وقوله تعالى :﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ﴾ ﴿ نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾ ( المؤمنون ٥٥ و٥٦ ) ونحو ذلك من الآيات فيها وجهان على المعتزلة :
أحدهما : قولهم في الأصلح : إن الله تعالى لو فعل بالخلق شيئا غيره أصلح لهم في الدين في حال المحنة كان ذلك جورا١٥.
ومعلوم أن الفعل بهم ليزدادوا إثما لا يبلغ في الصلاح في الدين الفعل بهم ليزدادوا به برا، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيقول لا يعجبك كذا فكأنه قال : لا يعجبك الذي هو صلاح في الدين ثم يؤكد ذلك بأنه ( يملي )١٦ لهم ذلك ليعذبهم بها ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون فكان ذلك شهادة منه تعالى عز وجل على كل من وافق رأيه رأي أولئك الكفرة لا يشعرون.
ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل الله تعالى لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكونوا١٧ ليجترئوا على دعوى /٧٤- ب / الربوبية وبلغوا في المآثم ما بلغوا فيكون ذلك أصلح لهم في الدين وقد قال الله تعالى :
﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ﴾ الآية ( الزخرف ٣٣ ) ثم كان معلوما أنه كان بما يجعل ذلك للكفرة يكفرون فلو جعل للمؤمنين يؤمنون ثم لم يجعل كذلك والله أعلم وأيد ذلك قوله تعالى :﴿ إنما يريد ليعذبهم بها ﴾ الآية ( التوبة ٥٥ ).
والثاني١٨ : أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة قد ( أخبر ) ١٩ لأي وجه أعطى ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل واحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون من جهل أو سفه فالأول : يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون، والثاني : إذا علم ألا يكون فيكون له به عابثا سفيها جل الله تعالى عن الوجهين ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه وبهما سقوط الربوبية.
وجهة المعتزلة ( على الآية إلى ) ٢٠ وجهين :
أحدهما : على التقديم والتأخير بمعنى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم ليزدادوا خيرا وذلك فاسد لوجهين :
أحدهما : لو كان جعل الخير شرا والشر خيرا بالتأويل وصف الآية عن سياقها ونظمها جاز في ذلك وعد ووعيد وأمر ونهي وتحليل وتحريم فيصير كل أمور الدنيا مقلوبا.
والثاني٢١ : أنه لو كان كذلك لكان يجب٢٢ أن يعجب به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ( كان ) ٢٣ على ذلك معجبا ولكانوا في ما حسبوا أن ذلك خير٢٤ لهم يشعرون، لا ألا يشعروا مع ما قيل :﴿ ولا يحسبن ﴾ بالياء وفي بعض القراءات ( بالتاء ) ٢٥ ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرا حتى يعاتبوا ؟ والله الموفق.
والثاني٢٦ : قالوا : ذلك خير عما يؤول الأمر إليه كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ ( القصص ٨ ) وهم لا لذلك التقطوا وكمن يقول للسارق : سرقت لتقطع يدك ؟ وكما ي قال : لدوا للموت وابنوا للخراب. والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب.
فأما الله سبحانه وتعالى فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون في ما يذكره ذلك. ألا ترى أن أحدا لا يقول : ولدت للموت أو بنيت للخراب لأنه لا لذلك يفعل وإن كان إليه يؤول، وإنما هو قول الواعظ لهم بما ذكرت، كذلك بطل هذا، أو أمر قوم فرعون لم يقل ليكون لهم عند الله أو بما أراد الله، وكان كذلك، ولا قوة إلا بالله.
وقد بينا ما في الحكمة حقيقة من طريق الاعتبار، ولا قوة إلا بالله، وأصل في ذلك أن الله تعالى عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته، فإرادته ألا تكون منه ( في ) ٢٧ ذلك حاجة إليه في موالاته او إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد جل الله عن هذا الوصف.
١ قرأ حمزة بالتاء وقرأ الباقون بالياء انظر حجة القراءات (١٨٢)..
٢ في الأصل و م: جعل..
٣ من م: في الأصل: الكافر..
٤ ساقطة في الأصل و م..
٥ في الأصل و م: الوعيد..
٦ ساقطة من الأصل و م..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ ساقطة من الأصل و م..
٩ ساقطة من الأصل و م..
١٠ ساقطة من الأصل و م..
١١ من وجهي مآل الأمر في العاقبة..
١٢ من م ساقطة من الأصل..
١٣ ساقطة من الأصل و م..
١٤ في الأصل بما صلح في م: بإصلاح..
١٥ من م في الأصل جوازا..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ في الأصل و م: يكن..
١٨ من وجهي رد الشيخ على المعتزلة..
١٩ من م..
٢٠ في الأصل و م: الآية إلا..
٢١ الثاني: من وجهي فساد رأي المعتزلة في التقديم والتأخير..
٢٢ في الأصل و م: يجيب..
٢٣ ساقطة من الأصل و م..
٢٤ في الأصل و م: خيرا..
٢٥ ساقطة من الأصل و م وقد ذكرت القراءتان في حاشية تفسير الآية ص ١٩٣..
٢٦ الثاني من وجهي جهة المعتزلة في الآية.
٢٧ ساقطة من الأصل و م..
الدنيا مقلوبًا.
والثاني: أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يعجب به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ على كل ذلك معجبًا، ولكانوا فيما حسبوا أن ذلك ضر لهم - يشعرون، لا ألا يشعرون، مع ما قيل: (وَلَا يَحسَبَنَّ) بالياء في بعض القراءة، ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرا حتى يعاتبوا على الحسبان؟! واللَّه الموفق.
والثاني: قالوا ذلك خبر عما يئول الأمر إليه؛ كقوله - تعالى -: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، وهم لا لذلك التقطوا، وكمن يقول للسارق: سرقت لتقطع يدك، وكما يقال: من الوافر
............ لدوا للموت وابنوا للخراب
والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور، فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون فيما يذكره ذلك؛ ألا ترى أن أحدًا لا يقول: ولدت للموت، أو بنيتُ للخراب؛ لأنه لا لذلك يفعل، وإن كان إليه يئول، وإنما هو قول الواعظ لهم بما ذكرت؛ كذلك بطل هذا، وأمر قوم فرعون لم يقل: ليكون لهم عندهم؛ إنما هو ليكون لهم عند اللَّه تعالى، وبما أراد اللَّه، وكان كذلك، ولا قوة إلا باللَّه.
وقد بيّنا ما في الحكمة تحقيقه من طريق الاعتبار - ولا قوة إلا باللَّه - والأصل في ذلك أن اللَّه - تعالى - عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته، فإرادته ألا يكون منه ذلك حاجة إليه في موالاته، أو إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد، جل اللَّه عن هذا الوصف.
قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)
540
قيل فيه بوجوه:
قيل: لا يترك اللَّه المؤمنين على ما أنتم عليه أيها المنافقون؛ ولكن يمتحنكم بالجهاد وبأنواع المحن؛ ليظهر المنافق لهم من المؤمن.
وقيل: ليظهر الكافر لهم من المؤمن المصدق.
وقيل فيه بوجه آخر: وذلك أن المنافقين كانوا يطعنون لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويستهزئون بهم سرًّا؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الطعن فيهم، والاستهزاء بهم؛ ولكن يمتحنكم بأنواع المحن؛ لتفتضحوا وليظهر نفاقكم عندهم.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، أي: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من النفاق والكفر في دار واحدة؛ ولكن يجعل لكم دارًا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب. يجعل الخبيث في النار، والطيب في الجنة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) الآية.
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ):
قيل فيه بوجهين:
قيل: إنهم كانوا يقولون: لا نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي الأنبياء؛ كقولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)؛ ومثل قوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً)؛ فعلى ذلك قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) إلا من اجتباه لوحيه، وجعله موضعا لرسالته، أي: لا يجعلكم رسلًا؛ إذ علم الغيب آية من آيات رسالته، واللَّه أعلم.
وقيل: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء، فيسترفون؛ فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم إن الكهنة يخبرون بها غيرهم من الكفرة؛ فأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ): بعدما بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبيا، كما كنتم تطلعون على أخبار السماء قبل بعثه.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)
أي: يصطفي من يشاء، فيجعله رسولًا، فيوحي إليه ذلك، أي: ليس الوحي من
541
السماء إلى غير الأنبياء، عليهم السلام.
ويحتمل قوله - تعالى -: (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)، أي. لا يُطْلِعُ أحدًا منكم على الغيب إلا من اجتباه منكم لرسالته.
ويحتمل قوله: (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)، أي: لا ينسخ شرائعه وأحكامه برسول آخر؛ نحو ما بَيْن موسى إلى عيسى - عليهما السلام - ولكنه إن كان فيما بينهما نبي لم يجعل له أحكامًا سوى أحكام موسى - عليه السلام - أبقى تلك الأحكام والشرائع؛ وكذلك ما بين عيسى إلى مُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - فاجتبى هَؤُلَاءِ؛ لإبقاء شرائعهم وأحكامهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ):
ظاهر
(وَإِنْ تُؤْمِنُوا): برسله كلهم.
(وَتَتَّقُوا): المعاصي.
(فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
ويحتمل: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) الشرك (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
* * *
قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
542
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ... (١٨٠)
أوتوا العلم بالكتاب أن ما يؤتون من المال، وينالون من النيل بكتمان بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته وتحريفهما - أن ذلك، خير لهم.
(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)
وفي الدنيا والآخرة، ولو لم يكتموا كان خيرًا لهم في الدنيا ذكرًا وشرفًا، وفي الآخرة ثوابًا وجزاء.
وقيل: نزلت في مانعي الزكاة؛ بخلًا منهم وشحًا؛ فذلك وعيد لهم. والأوّل أشبه، واللَّه أعلم. وإن كان في الزكاة - قيل: الجحود بها؛ كقوله - تعالى -: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ):
فإن كان على التأويل الأول من كتمان نعته وصفته؛ فهو - واللَّه أعلم - يطوق ذلك في عنقه يوم القيامة؛ ليعرفه كل أحد؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ).
وإن كان على التأويل الثاني - قيل: إن الزكاة التي منعها تصير حية ذكرًا شجاعًا أقرع ذو ذنبتين، يعني: نابين؛ فيطوق بها في عنقه، فتنهشه بنابيها؛ فيتقيها بذراعيه، حتى يُقضَى بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ):
في الآية دلالة أن أهل السماوات يموتون، ليس على ما يقوله القرامطة: إنهم لا يموتون؛ لأنه أخبر أن له ميراث السماوات والأرض، والوارث هو الذي يخلف المورَث؛ دلّ أنه ما ذكرنا، وإن كانوا هم وجميع ما في أيديهم لله - عَزَّ وَجَلَّ - ملكًا له وعبيدًا؛ ألا ترى أنه روي في الخبر: " لَا يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسلِمَ، وَلَا الْمُسلِمُ الكَافِرَ، إِلا المَوْلَى مِنْ عبدهِ " سمى ما يكون للمولى من عبده ميراثا، وإن كان العبد وما في يده ملكا للمولى:
543
فعلى ذلك الأول: سمى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك ميراثًا له، وإن كان عبيده وما في أيديهم ملكًا له، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقوله - تعالى، -: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): وكانت له لا بحق الميراث؛ لوجهين:
أحدهما: على الإخبار عن ذهاب أهلها، وبقائه - عَزَّ وَجَلَّ - دائمًا؛ إذ ذلك وصف المواريث أن تكون لمن له البقاء بعد فناء من تقدم، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الباقي بعد فناء الكل، مما يجوز القول بما هو له في الحقيقة من قبله بالميراث؛ من حيث مَلَّكَ غيره الانتفاع بذلك؛ وعلى ذلك المرُوي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسلِمَ، وَلَا الْمُسلِمُ الكَافِرَ، إِلا المَوْلَى مِنْ عَبدِهِ "، وليس ذلك في الحقيقة ميراثًا، إذ كان له في حال حياته؛ ولكن كان ولاية الانتفاع به فزال؛ وعلى مثل هذا وراثة المسلمين الجنة، لا على انتقال من غيرهم إليهم، ولكن على بقائهم فيها، وحصول أمرها لهم، أو على وراثة ما لو كان من لم يؤمن آمن، وما ادعوا أنها لهم بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فصارت ميراثًا لغيرهم ما ادعوا أنها لهم، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يعلم كل بالموت حقيقتها أنها له فأضيفت إليه بالميراث عنهم؛ كما قال - تعالى -: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جمَيعًا)، (وَإليهِ المَصِيُر)، والمرجع ونحو ذلك من غير غيبة عنه، ولكن ما يعلم كل إذ ذاك ذلك؛ وكذلك قوله - عز وجل -: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، وهو في الحقيقة كل يوم له، ولا قوة إلا باللَّه.
وفي الذكر والإخبار أنها له ميراث - تحريض على الإنفاق والتزود؛ إذ هي في الحقيقة لغير أهلها؛ وإنما لهم ما ينفقون ويتزودون دون ما يمسكون، وفيه منع الإمساك؛ وذلك كقوله - تعالى -: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآية
544
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): وعيد منه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (١٨١) قيل: لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا...) الآية، قالت اليهود: ربكم يستقرض منكم ونحن أغنياء. وليس في الآية بيان أن ذلك القول إنما قاله اليهود أو غيرهم من الكفرة، ولكن فيه أنهم قالوا ذلك؛ فلا ندري من قال ذلك، ولا يجوز أن يشار إلى أحد بعينه إلا ببيان، ثم يحتمل ذلك القول منهم وجوهًا:
يحتمل أن يكون قال ذلك أوائلهم؛ على ما قال في قتل الأنبياء - عليهم السلام - وهَؤُلَاءِ لم يَقْتُلُوا؛ ولكن إنما قتلهم أوائلهم، أضيف ذلك إليهم؛ رضاء منهم بصنيعهم؛ فعلى ذلك القول الذي قالوا يحتمل ما ذكرنا.
ويحتمل أن يكون هَؤُلَاءِ قالوا ذلك بحضرة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبمشهدهم، أو قالوا ذلك في سر.
فإن قال ذلك أوائلهم؛ فإنه يحتمل وجهين:
يحتمل أن يكون اللَّه - تعالى - أعلم ذلك رسولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ تصبيرًا منه إياه وتسكينًا؛ ليصبر على أذى الكفار؛ حيث قالوا في اللَّه ما قالوا فكيف فيه؟! واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون ذلك ليكون ذلك آية من آيات رسالته.
وإن كانوا قالوا ذلك بحضرة أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ففيه -أيضًا- وجهان:
أحدهما: ما ذكرنا من التسكين والتصبير على أذاهم.
والثاني: ليعلموا أن جميع ما يقولون محفوظ عليهم، ليس بغائب عنه، ولا غافل عنه؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ...) الآية، لكنه يؤخر ذلك إلى وقت.
وإن كانوا قالوا ذلك سرًا؛ ففيه -أيضًا- وجهان:
أحدهما: ما ذكرنا أن يكون آية من آيات النبوة؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه، على علم منهم أنه لم يكن فيما بينهم من يُنْهِي الخبرَ إليه.
والثاني: خرج على التعزية له والتصبير على أذاهم.
545
ثم معنى قوله - تعالى -: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، و (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) - يحتمل وجهين:
أحدهما: لئلا يمنوا على الفقراء بما يتصدقون عليهم؛ إذ يعلمون أنه ليس بفقير ولا محتاج ليستقرض لفقره ولحاجته، وكل من أقرض آخر لا لحاجة له في ذلك القرض ولا فقر؛ ولكن ليكون ماله عنده محفوظًا في الشاهد - فإنه لا يَمُن الْمُقْرِضُ عليه؛ بل تكون المنة للذي عنده القرض على الْمُقْرِض؛ حيث يحفظ ماله في السفاتج؛ فعلى ذلك المال الذي يقرضون ويتصدقون على الفقراء، يكون محفوظًا عند اللَّه ليوم حاجتهم إليه؛ فلا منة تكون على الفقير، واللَّه أعلم.
والثاني: إنباء عن جوده وكرمه؛ لأن العبد وما في يده له، فلو أراد أن يأخذ جميع ما في يده لكان له ذلك، ثم يطلب منه ببدل يضاعف على ذلك.
والثالث: أن المولى في الشاهد إذا طلب من عبده القرض؛ يكون في ذلك شرف للعبد وعظم؛ فعلى ذلك اللَّه - تعالى - إذا طلب من عبده القرض، على علم منه في أنه غني بذاته، لا يجب أن يبخل عليه، وفي ذلك شرفه وعظمه، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ)، قال أهل التفسير: قالت اليهود، وذلك تنبيه بصنيعهم وشدة سفههم؛ حتى زعموا أن يد اللَّه مغلولة، لكن ليس في الآية بيان القائلين، ولا في النسبة إلى أحد تقع سوى خوف الكذب؛ لو لم يكن ذلك منه، لكنهم قالوه، والأغلب على مثله أن يكونوا قالوه سرا، يكون في إظهاره آية الرسالة، أو كانت الأوائل يقولون فيكون في ذلك ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يُصْبَرَ لمثله: يقال بحضرة الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - إلا أن يكون في وقت أمروا بالكف؛ فيكون في ذلك بيان قدر طاعتهم لله، مع عظيم ما سمعوا من القول، وجملة ذلك أن في ذكر ذلك دعاء إلى الصبر على أذاهم وسوء قولهم؛ إذ هم مع تقلبهم في نعم اللَّه - تعالى - وعلمهم بأنهم لم ينالوا خيرًا إلا باللَّه - تعالى - اجترءوا عليه بمثل هذا القول، وبلغ عُتُوُّهُم هذا،
546
واللَّه - جل ثناؤه - مع قدرته وسلطانه يَحْلمُ عنهم ليوم وعدهم فيه الجزاء؛ فمن ليس منه إليهم نعمة ولا تقدم عليهم منه كثير منة - أحق بالصبر لأذاهم، وإعراضٍ عن مكافأتهم؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ...) الآية، وقال اللَّه تعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَكتُبُ مَا قَالُوا):
قيل: سنجزيهم جزاء ما قالوا، وقيل: سنحفظ ما قالوا، وسنثبت، وسألزم، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ):
قد ذكرنا هذا فيما تقدم أنه يحتمل: إذ قتل أوائِلُهم؛ فأضيف إليهم لرضائهم بفعلهم؛ كقوله - تعالى - (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)؛ لرضاه بقتله.
547
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في قوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، والأنبياء - عليهم السلام - لا يرتكبون ما يجب به قتلُهم؛ كقوله - تعالى - (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ...) الآية، أطلق القول فيه من غير ذكر اكتساب شيء يستوجب به ذلك، وشرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به؛ كقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا...) الآية، فكيف ذكر هاهنا - القتل بغير حق، وهم لا يكتسبون ما يستوجبون به القتل؟! قيل: يحتمل قوله: بغير حق، أي: بغير حاجة؛ لأنهم كانوا يقتلون بلا منفعة تكون لهم في قتلهم؛ على ما قيل: إنهم كانوا يقتلون كذا كذا نبيا، ثم يهيج لهم سوق؛ فإذا كان كذلك يحتمل قوله: (بِغَيْرِ حَقٍّ)، أي: بغير حاجة؛ كقول لوط - عليه السلام -: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فقالوا: (مَا لنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)، أي: من حاجة، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ)، أي: قصدوا قصد قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكأنْ قد قتلوه، أو قتلوا أصحابه - رضي اللَّه عنهم - فأضيف إليهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ):
أي: الْمُحْرِق، وقد ذكرنا هذا.
وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ (١٨٢)
ذكر الأيدي؛ لما بالأيدي يقدم، وإن لم يكن هذا مقدمًا باليد في الحقيقة؛ وكذلك (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، لما باليد يكتسب، واللَّه أعلم.
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ):
قيل: إنهم لما دعوا إلى الإسلام - يعني: اليهود - قالوا: (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)، وكان ذلك آية في بني إسرائيل؛ فسأل اليهود منْ نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك.
وقيل: كان مِنْ قبلنا، في الأمم الخالية ذلك؛ فسألوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولكن لم يكن القربان من آيات النبوة والرسالة إن كان؛ فهو من آيات التقوى؛ كقوله - عز وجل -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ): كان القربان من آيات التقوى؛ ألا ترى أنه قال: يا مُحَمَّد (قُل قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني: القربان؛ (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
أي: إن كان ذلك من آيات النبوة، لم قتلتم الأنبياء الذين أتوا به؟! أو لِمَ قَتَلَ أوائِلُكُم الأنبياءَ؛ إذ أتوا بالقربان، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أنه من آيات النبوة، أو (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أنه عهد إليكم ألا تؤمنوا به حتى يأتي بقربان، واللَّه أعلم.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا-: (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) - فهو، واللَّه أعلم، ادعَوا أن أوائلهم ادَّعَوُا الذي ذكروا من العهد، وهم تبِعُوا أُولَئِكَ، فعرَّفهم صُنْعَ من بدعواهم احتجوا؛ ليكون لهم فيه آيةٌ، أما تكذيبهم بما احتجوا بوصية المتقدمين في ذلك، فَبَطَل عذرهم؛ إذ هم قتلوهم؛ فلا يجوز تصديقهم على العهد الذي ادعوا وذلك صنيعهم، أو يقروا أنهم أُخْبِروا بالعهد من غير أن كان كذبًا وباطلًا؛ فبطل حجاجهم.
على أن في الآية: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، فجعل ذلك آية التُّقَى لا آية النبوة. والأصل فيه: أنا لما عرفنا آيات الرسل - عليهم السلام - لا يُذكر فيها
القرابين؛ ثبت أن هذا الذي ادعوا ليس هو بعهد جاء به الرسل - عليهم السلام - ولكنه حِيَلُ السفهاء بتلقين الشياطين وَوَحْيِهِم؛ لذلك لم يجب الذي ذكروا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ (١٨٤)
يا مُحَمَّد في القول، وما جئت من آيات تدل وَتُوَضحُ أنك رسول اللَّه، وأنك صادق في قولك
(فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ)
يعزي نبيه - عليه الصلاة والسلام - ويصبره؛ ليصبر على أذاهم وتكذيبهم إياه؛ كما صبر أُولَئِكَ على أذاهم وتكذيبهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...) الآية.
وفي قوله - تعالى -أيضًا-: (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وجوه:
أحدها: أن يصبره على ذلك بما له فيه أجر أن صبروا، على عظم ذلك عليهم؛ وذلك قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
والثاني: على رفع العذر عنه في ترك الإبلاغ؛ فإن ذلك لم يمنع من تقدمه.
والثالث: على الأنبياء أنهم أصحاب تقليد في التكذيب، لا أن يكذبوا من محنة وظهور؛ فذلك أقل للتأذي، ولتوهم الارتياب في الأنبياء؛ ليستيقن من حضره، وصدقه - أن ذلك منهم على الاعتناد والتقليد دون المحنة والظهور، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْبَيِّنَاتِ):
قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالزُّبُرِ):
قيل: أحاديث الأنبياء - عليهم السلام - من قبلهم بالنبوة على ما يكون.
وقيل: الزبر: هي الكتب، أي: جاءوا بالبينات والزبر، يعني: الكتب.
(وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ):
قيل: الزبر والكتاب واحد.
وقيل: (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): هو الذي فيه الحلال والحرام، والأحكام المكتوبة عليهم. والمنير: هو الذي أنار قلب كل من تمسك بالهدى؛ كما قيل في الفرقان أنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل، واللَّه أعلم.
وتسمي كتب اللَّه كلها فرقانًا ومنيرًا؛ بما تفرق بين الحق والباطل، وتبين السبيلين
جميعًا، واللَّه أعلم.
قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ):
فيه دلائل:
أحدها: دليل إثبات الرسالة؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبدًا، ولا تدوم، ولا فيه آثار فنائها وموتها، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت، والتسليم له، والإقرار منهم أن كل نفس تموت - يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي، واللَّه أعلم.
ثم إن كل حي يتلذذ بحياته، وحُبِّب ذلك إليه، ويتكره الموت ويبغضه؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع، ولكن كان بغيره؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة، ويتكره بالموت ويتنغص به؛ إذ لو كان به: لكان يختار ما يتلذذ به، ولدفع ما يتكره به؛ فدل أن غيرًا فَعَلَ ذلك وخلق؛ لما ذكر: (خلق الموتَ وَالحيَاةَ) الآية؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع.
وأيضًا: أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة، التي من طبعها التنافر - لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع؛ دل أن له جامعًا. وأيضا: إن كان العالَم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كل لنفسه أحوالاً: أحسنَ الأحوال وألذها؛ فيبطل به الشرور والقبائح؛ فدل وجود ذلك على كونه بغيره. ثم فيه أن ذلك الغير -الذي كان به العالم- واحدٌ لا عدد؛ إذ لو كان بعدد لم يحتمل وجود العالم على الطبائع المختلفة والهمم المتفرقة: لما جَمَعَ هذا فَرَّقَ الآخر، وما أثبت هذا نفي الآخر، وفي ذلك فساد الربوبية؛ فدل وجوده على ما ذكرنا: أنه واحد لا عدد؛ فاتسق تدبيره ونفذ أمره، مع ما كان الأمر المعتمد بين الملوك في الشاهد: أن من فعل هذا نقض الآخر، وما رام هذا إيجادَهُ يريد الآخر إعاقتهُ، وما أبقى هذا أراد الآخر إفناءه؛ وفي ذلك تناقض وتناف؛ فدل الوجود على. أن الذي به كان - واحد لا عدد، ثم يحتمل على الاصطلاح منهم؛ لأنه يدل على العجز والجهل: أن العجز والجهل هو الذي حملهم على الاصطلاح، والعاجز والجاهل لا يصلح أن يكون إلهًا وربًّا، وباللَّه التوفيق.
551
ثم الدلالة على حكمته وعلمه: ما لم يُعَايَنْ شَيءَ وَلَا يُشَاهَدْ إلا وفيه حكمة عجيبة، ودلالة بديعة مما يَعْجَزُ الحكماء عن إدراك مائيته، وكيفية خروجه على ما خرج، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة، والعلم عن إدراك كُنْهِ ذلك فيما ذكرنا، وخروجُ الفعل متقنًا محكمًا - دلالةُ حكمةِ مبدعه وخالقه، وباللَّه التوفيق.
ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصَّة؛ ولكن خلق للعواقب: يتأمل ويرجى ويخاف ويحذر - خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بنى للفناء والنقض، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يُخرج فعلَهُ عن الحكمة؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصَّة، فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة، واللَّه الموفق.
قال: دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس، وترك حكماء البشر الاحتيال - في دفعه، على ما ليس في الجوهر دليله، ولا في العقل امتناعه - أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم، وبغض الموت عندهم - على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم، وفي خروجهم خروج الأموات؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء.
ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالةُ التدبير للواحد؛ إذ لو كان لأكثر لَجُوز التمانع وإبطال الوارد من الحي؛ وفي ذلك ارتياب، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبرها هيأها على ذلك وطَبَعَهَا، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها، وعلى ذلك جبلها؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير، أو المعونة في التقدير.
ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كُل - أنه كان للموت أنشأ لا لغير؛ إذ تدبيرُ فعلٍ واحد للفناء خاصَّة من حكماء البشر - يُخْرِج عن معنى الحكمة، ويدل على قصور صاحب ذلك وسفهه؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءًا منها، وعقل العقلاء بعضًا منها - أحق وأولى؛ فثبت أنها أُنْشِئَتْ (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، وذلك قوله - تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
لما ذكرنا أنهم لها خلقوا -أعني: الآخرة- للجزاء والثواب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ):
552
قيل: بُعِّدَ ونُحِّيَ عنها.
(وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ):
قيل: فاز: نجا، وقيل: سَعِدَ، وقيل: الفائز: السابق، وقيل: فاز: غنم.
وأصل الفوز: النجاة، أي: نجا مما يخاف ويحذر، ويظفر بما يتأمَّل ويرجو.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ): حياة الدنيا للدنيا غرور؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، حياة الدنيا للدنيا لعب ولهو وغرور، وللآخرة: ليست بلعب ولا لهو ولا غرور. وأصل الغرور: هو أن يتراءى الشيء في ظاهره حسنا مموهًا؛ يغتر بها كل ناظر إليها ظاهرًا، فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة، نعوذ باللَّه من الاغترار بها.
وقيل: الحياة الدنيا -على ما عند أُولَئِكَ الكفرة- لعب ولهو، وعند المؤمنين حكمة.
* * *
قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ):
يحتمل الابتلاء في الأموال والأنفس: أن يُبلَوْا بالنقصان فيها؛ كقوله - عز وجَل -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ...) الآية.
ويحتمل: أن يُبلَوْا بما جعل فيها من العبادات، من نحو: الزكاة في الأموال والصدقات والحقوق التي جعل فيها، وفي الأنفس: من العبادات: من الصلاة والجهاد والحج، وغيرها من العبادات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ):
يعني: الذين لهم علم بالكتاب ومن غيرهم.
(أَذًى كَثِيرًا)
أي: تسمعون أنتم من هَؤُلَاءِ أذى كثيرًا، على ما سمع إخوانكم الذين كانوا من قبلكم من أقوأمهم أذى كثيرًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَصْبِرُوا):
على أذاهم.
(وَتَتَّقُوا):
مكافأتهم، على ما صبر أُولَئِكَ واتقوا مكافأتهم.
(فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ):
قيل: من خير الأمور؛ هذا يحتمل.
وقيل: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)
ومن قولهم: عزير ابن اللَّه، والمسيح ابن اللَّه، (وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكوُا)، يعني: العرب، (أَذًى كَثِيرًا)، يعني: نصب الحروب فيما بينهم، والقتال، والسب وغير ذلك، (وَإِنْ تَصْبِرُوا): على ذلك والطاعة له، (وَتَتَّقُوا): معاصي الرب، (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ): ، يعني. من حزم الأمور.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (١٨٧)
أي: الذين أوتوا العلم بالكتاب، وأَخَذَ الميثاق؛ ليبينوا، أي: يُبَيِّنُوا للناس ما في الكتاب من الأمر والنهي، وما يحل وما يحرم، وغير ذلك من الأحكام، ولا يكتموا ذلك.
ويحتمل: أن أخذ عليهم الميثاق: أنْ بَيّنُوا للناس بَعْثَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفَتَهُ، ولا تكتموه بالتحريف وبترك البيان.
وقوله: (فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهورِهِم)
أي: لم يعملوا بما فيه، ولا بينوا للناس؛ فهو كالمنبوذ وراء ظهورهم.
(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا...) الآية:
قد ذكرنا معناه في غير موضع.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " ما أخذ اللَّه ميثاقًا على أهل الجهل بطلب العلم، حتى أخذ ميثاقًا من أهل العلم ببيان العلم؛ لأن العلم كان قبل الجهل ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا (١٨٨)
قيل: بما غيَّروا من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته في كتابهم وكتموه، وتبديلهم الكتاب، وإعجاب الناس ذلك وحمدهم على ذلك.
وقيل: إن اليهود دخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك - وليس ذلك في قلوبهم - فلما خرجوا من عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ فيقولون: عرفناه وصدقناه؛ فيقول المسلمون: أحسنتم، بارك اللَّه فيكم: يحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان، وهم يحبون أن يحمدوا على ذلك؛ فذلك تأويل قوله: (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا).
وقيل: إنهم قالوا: نحن أهل الكتاب الأول والعلم، وأهل الصلاة والزكاة. ولم يكونوا كذلك، وأحبُّوا أن يحمدوا على ذلك، واللَّه أعلم بالقصَّة.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا...) والآية - دلّ ما ذم اللَّه عباده، وأوعدهم عليه أليم عقابه فيما أحبُّوا الحمد على ما لم يفعلوا - على تعالى الرب عن قول المعتزلة في قولهم: ليس لله في الإيمان
555
تدبير سوى الأمر، ولا صُنْع، وقد أحث أن يحمد عليه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، وبقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)، وقولهِ - تعالى -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)، في غير موضع من القرآن، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
قال اللَّه - تعالى -: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):
امتدح - جل ثناؤه - بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته، وبه خَوَّفَ من عاند نعمته، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته، لاضمحل الخوفُ عما خوَّفَهُ، والرجاءُ فيما أطمعه؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه، أو يزول به قدرته؛ لما فيه ما ذكرت؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة اللَّه، وامتناعه عن تدبيره، ولا قوة إلا باللَّه.
قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)..) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)
نقول - وباللَّه نستعين -: أخبر اللَّه - تعالى - أن فيما ذكر آيات لمن ذكر، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس، يوصل إليها بالتأمل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة، التي يغني من له اللب دخولها تحت الحواس - عن تكلف العلم بها بالتدبير، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم؛ فيلزم طلب ذلك؛ فيبطل به قول من قال: العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب، ولا يلزم الخطاب دون تولى الرب إنشاءَ العلم في القلوب بحقيقه ما فيه الخطاب؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب، ويستوفي فيه الموصوف باللبِّ وغير الموصوف، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر، وقد قال اللَّه - تعالى -: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآية، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر، إذ لزم التفكر بالذي أظهر؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعلمه، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهرًا مستغنيا بظهوره عن الطلب، وخفيًّا يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل،
556
واللَّه أعلم.
وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبِّ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك، وأوَّل درجات الآيات أن يُعَرف منشئها وجاعلها آيات، واللَّه أعلم.
ثم دلَّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما، حتى قام بها وحي جميع من دب على وجه الأرض وانتفع بشيء، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضاد ما بينهما؛ حتى صارا كالشكيلين، والسماء والأرض كالقرينين - على أن منشئ ذلك كله واحد، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير، وبَطَلَ وجوه النفع، وأن الذي أنشأ ذلك علم كيف يدبر لاتصال المنافع واجتماعها بغيرها، على اختلافِ ما بينها، وأنه حكيم وضع كل شيء على ما لو تدبر الحكماء فيه -لم يكن يُعْرَفُ اتصال أقرب في المنافع، على اختلاف في الجواهر، وتضاد في الأحوال- أبلغَ من ذلك؛ بل تقصر حكمتهم عن الإحاطة بوجه الحكمة، أو الظفر بطرف منها، إلا بمعونة مَنْ دَبَّرَ ذلك سبحانه، - وذلك هو الدليل على قدرته وعلو سلطانه؛ إذ سخر ذلك كلها لبذل ما فيها من المنافع لمن جعلها له، وجعل لبعض على بعض سلطانًا وقهرا؛ ليُعْلَمَ أن التدبير يرجع إلى غير ذلك، ويُعْلَمَ أن من قَدَرَ على ذلك، وعلم قبل خلق المنتفعين بما خلق على أي تدبير يخلق ذلك، وبأي وجه يصل كل خلق في ذلك إلى منافعه بها، وما الذي سوى معاشهم، وعلى أي تدبير، دلهم عليه - لقادر على إعادة مثله، والزيادة منه على أنواع ذلك؛ إذ كل أمر له حق الابتداء - كان ذلك أبعد عن التدبير مما له حق الاحتذاء بغيره أو الإعادة، مع ما كان في إعادة الليل والنهار، وجعل كُل من ذلك كالذي، مضى، وإن كان الذي مضى -مرة- دلالة كافية للبعث والقدرة عليه، واللَّه الموفق.
ومنها: أنها جعلت على تدبير يُعَرِّفُ صَاحِبَهَا ومُنْشِئَهَا، وأنه دبرها على ما فيها من وجوه الحكمة التي صارت الحكمة جزءًا منها، وفنون العلم التي تنال بالتأمل فيها، مما يوضح أن الذي أبرمها حكيم عليم، مع ما فيها من آثار الإحكام والإتقان الكافية في الإنباء عن الإنشاء للحكمة، وأن الذي أبدع ذلك ليس بعابث ولا سفيه.
557
ثم معلوم أن الفعل للهلاك والفناء غيرُ داخل في الحكمة؛ ثبت أن ذلك غير مقصودا فصار المقصود من ذلك وجهًا يبقى؛ فثبت أن مع هذه دارًا أخرى تبقى، فهي المقصود، وجعلت بحق الجزاء؛ وفي ذلك لزوم المحنة والقول بالرسالة؛ ليعلم بالوحي كيفية وجوه المحنة مع ما لم يخل شيء من أن يكون فيه آثار النعمة، من غير أن كان منه ما يستحق ذلك؛ فثبت أنه في حق الابتداء، ولازمٌ شكر المنعم في العقول؛ فيجب به وجهان:
أحدهما: القول بالرسل؛ لبيان وجوه الشكر؛ إذ النعم مختلفة، وأصل الشكر يتفاضل على قدر المنعمين؛ وكذلك النعم تتفاضل على قدر تفاضل متوليها، لابد من بيان ذلك ممن يعرف حقيقة مقادير النعم، وجلالة حق المنعم، وباللَّه التوفيق.
فكان فيها آيات الرسالة والتوحيد، وحكمته وقدرته وعلمه وجلاله عن الأشباه والشركاء، وبها جل عن احتمال الشرك في صنعه، أو الشبه في فعله على أن كليةَ كُلّ مَنْ سواه تحت القدرة، وهو المتعالي عن ذلك.
وفيه دلالة البعث؛ لما ذكرت، ولما إذ لزم الشكر بما ذكرت -لزمت عقوبة الكفران، وقد يخرج المعروف به سليمًا غريقًا في النعم، وفي الحكمة والعقل عقوبته- لزم أن يكون ثَمَّ دارٌ أخرى، مع ما كان خلق الخلق، لا لين يعرف الحكمة من السفه، والولاية من العداوة، والخير من الشر، والرغبة من الرهبة، لا معنى له بما فيه تضييع الحكمة، وجمع بين الذي حقه التفريق في الحكمة والعقل، وذلك آية السفه، ومحال كونه ممن الحكمة صفته والعدل نعته؛ فلزم به خلق الممتحن بالذي ذكرت؛ فصار
جميع الخلائق للمحن.
ثم لابدَّ من ترغيب وترهيب؛ إذ على مثله جُبِل محتملو المحن؛ فلزم به القول بالدار الأخرى، وهو البعث؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم، والأخرى: بحق استحقاق الجزاء، وإن كان لله التكليف بلا جزاء سابق النعم، ولا قوة إلا باللَّه.
والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ)
وقيل: بمفازة، أي: بنجاة من العذاب، وهو ما ذكرنا من الفوز أنه نجاة على ما
558
يخاف ويحذر، أي: ليسوا هم بنجاة، من العذاب، بل لهم عذاب أليم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
يشبه - واللَّه أعلم - أن يكون هذا جوابًا لقولهم: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) أي: كيف جاز نسبة الفقر إليه والحاجة، وله ملك ما في السماوات وما الأرض؟! ونسبة الغنى إلى أنفسكم، وأنتم عبيده وإماؤه، وما في يد العبد يكون لمولاه؟!.
أو أن يكون جوابًا لقولهم: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، أي: كيف يجوز أن يتخذ ولدًا، وله ملك ما في السماوات وما في الأرض، كلهم عبيده وإماؤه؟! والولد في الشاهد إنما يُتَّخَذُ لأحد وجوه ثلاثة: إمَّا لوحشة أصابته فيستأنس به، أو لحاجة تبدو له فيُدْفع به، أو لقهر وغلبة يخاف من عدوٍّ؛ فيستنصر به على أعدائه، ويرث ملكه إذا مات. فإذا كان اللَّه له ملك السماوات والأرض وتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك؛ كيف جاز لكم أن تقولوا: اتخذ ولدًا؟! وإن كان الخلق كلهم عبيده وإماءه، وأنتم لا تتخذون الأولاد من عبيدكم وإمائكم؛ كيف زعمتم أنه اتخذ ولدًا من عبيده؟!.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): وهذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لا يقدر على خلق فعل العبد، وعلى قولهم: غير قادر على أكثر الأشياء، وهو قد أخبر أنه على كل شيء قدير.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)
في الآية وجوه.
أحدها: أنه خلق السماوات والأرض للبشر ولمنافعهم، لا أنه خلقهما لأنفسهما: لا منفعة لهما بخلقه إياهما؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة - عَبَث، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما - دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر، وسخرهما لهم، ثم جعل منافع السماء مع بُعْدِها من الأرض متصلة بمنافع الأرض؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر؛ فيصيرهما كالمتصلين؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد.
وكذلك: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ): هما مختلفان: أحدهما ظلام والآخر نور، يُفْنِيان الأعمار ويقربان الآجال، وليس بينهما في رأي العين تشابُه ولا تشاكل؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام، وهما متضادان، لكن خلقهما لمنافع البثر، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسُهُم، على ما ذكرنا أنْ لا منفعة لهم في خلقهم، ثم صيرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين؛ لاتصال منافع بعضها ببعض؛ دل أن منشئهما واحد، وأنه عليم حكيم؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيرهما كالشكلين؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك.
وفيهما دلالة البعث؛ لأنهما يَفنيان حتى لا يبقى من الليل أثر حتى يجيء النهار، فيذهب النهار أيضا حتى لا يبقى من النهار أثر، فيجيء آخر، لا يزالان كذلك، فإذا كان قادرًا على خلق الليل وإنشائه من غير أثر بقي من النهار؛ وكذلك قادر على إنشاء النهار من غير أن بقي من الليل أثر ظلام - لقادر على أن ينشئ الخلق ثانيا ويحييهم، وإن فَنوا وهلكوا ولم يبق منهم أثر؛ فإذا كان ما ذكرنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما لمنافع البشر، وهو المقصود من خلقهما لا غيرهم من الخلائق؛ لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار، وبين الخبيث والطيب، وبين الحسن والقبيح، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق - لابد من أمر ونهي: يأمر بأشياء، وينهى عن أشياء؛ يمتحنهم على ذلك؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر؛ فإذا كان ما ذكرنا، لابد -أيضًا- من دار أخرى للجزاء، يُكْرَمُ المطيع له فيها والولي، ويُعَاقَبُ العدو فيها والعاصي، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (١٩١)
الآية ١٩١ وقوله تعالى ﴿ الذين يذكرون الله قيما وقعودا وعلى جنوبهم ﴾ يحتمل هذا لما جعل الله تعالى على العبد في كل حال نعمة ليست تلك في غ يرها من الأحوال نحو أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال وجعل القعود راحة له عند الإعياء كذلك الاضطجاع فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على كل حال من تلك الأحوال ومدحهم على ذلك إذا فعلوا.
ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم أن يذكروه في كل حال :( في حال ) ١ الرخاء ( والشدة وفي حال ) ٢ الضراء والسراء لا في ( حال ) ٣ دون حال على ما يفعله بعض خلقه يذكرونه في حال الشدة والضراء ولا يذكرونه في حال الرخاء واليسر ولا يذكرونه في حال ( الرخاء ويذكرونه في حال )٤ الشدة والبلاء فمدح المؤمنين أنهم يذكرونه في كل حال لا على ما فعله أهل الشرك على إرادة نفس القيام ونفس القعود والاضطجاع ولكن على كل ( حال ) ٥ وفي كل وقت والله أعلم.
وقيل : إنه جاء في رخصة صلاة المريض يصلي قائما إن استطاع وإلا فقاعدا إن لم يستطع وإلا فمضطجعا وكذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال ذلك.
وقوله تعالى :﴿ ويتفكرون في خلق السموات والأرض ﴾ إن في / ٧٧ –أ / خلقها دليل وحدانيته ﴿ ربنا ما خلقت هذا بطلانا ﴾ أي عبثا ولكن خلقتهما دليلا على وحدانيته وشاهدا على ربوبيتك وقوله تعالى :﴿ سبحانك ﴾ هو التنزيه والتنزيه هو إبعاده عن العيب وتبرئته منه وتطهيره مما يقول الكفار وهو حرف يقدم٦ عند حاجات ترفع إليه ودعوات يدعى بها.
١ من م ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل: وفي في م: و..
٣ ساقطة من الأصل..
٤ من م ساقطة من الأصل..
٥ من م ساقطة من الأصل..
٦ في الأصل و م: تقدم..
يحتمل هذا لما جعل اللَّه - تعالى - على العبد في كل حالٍ نعمةً ليست تلك في غيرها من الأحوال، نحو: أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال، وجعل القعود راحة له عند الإعياء، وكذلك الاضطجاع؛ فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على حال من تلك الأحوال، ومدحهم على ذلك إذا فعلوا.
ويحتمل: أن يكون - تعالى - أمرهم أن يذكروه في كل حال: في حال الرخاء والشدة، وفي الضراء والسراء، لا في حال دون حال، على ما يفعله بعض خلقه: يذكرونه في حال الشدة والضراء، ولا يذكرونه في حال الرخاء واليسر، ويذكرونه في حال الرخاء واليسر، ولا يذكرونه في حال الشدة والبلاء، فمدح المؤمنين أنهم يذكرونه في كل حال، لا على ما يفعله أهل الشرك على إرادة نفس القيام، ونفس القعود والاضطجاع؛ ولكن على كل حال وفي كل وقت، واللَّه أعلم.
وقيل: إنه جاء في رخصة صلاة المريض: يصلِّي قائمًا إن استطاع، وإلا فقاعدًا إن لم يستطع، وإلا فمضطجعًا، وكذلك روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
إذ في خلقهما دليل وحدانيته، وشهادة ربوبيته.
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا):
أي: عبثًا، ولكنَّ خَلْقَهُم دَلِيل على وحدانيتك، وشاهد على ربوبيتك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَكَ):
هو للتبرئة، والتنزيه: هو إبعاده عن العيب، وتبريئه منه، وتطهيره عما يقول الكفار، وهو حرف يقدم عند حاجات ترفع إليه، ودعوات يدعى بها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (١٩٢)
قيل: أَذْلَلْتَهُ وفضحتَهُ وأهنتَه.
(وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ):
أي: مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع، ويحتمل الأنصار: الأعوان، أي: ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ (١٩٣)
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: على حقيقة السمع أن سمعوا مناديًا يدعوهم إلى الإيمان، وهو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو القرآن، كلاهما يدعوان الخلق إلى الإيمان باللَّه.
ويحتمل قوله: (سَمِعنَا)، أي: عقلنا، وعَقْلُ كُل أحد يدعو إلى التوحيد والإيمان به.
وقيل: سمعوا دعوة اللَّه فأجابوها، وصبروا عليها.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المنادي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قرأ: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ...) هو الآية.
وعن غيره: المنادى هو الترآن، يدعوهم (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنَّا رَبَّنَا)
وفيه دلالة أن الإيمان ليس هو جميع الطاعات، على ما يقول بعض الناس؛ ولكنه فرد تصديق؛ لأنه لما قال لهم: آمنوا بربكم لم يطلبوا التفسير، ولا قالوا: كم أشياء تكون؟!، ولكن أجابوه إجابة موجزة، فقالوا: (فَآمَنَّا رَبَّنَا). ثم فيه دلالة أن لا ثُنَيَّا في الإيمان؛ لأنهم أطلقوا القول في الإخبار عن إيمانهم من غير ذكر حرف الثنيا؛ دلَّ أن
الإيمان مما لا يحتمل الثنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا):
قيل: قولهم: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): التي كانت فيما مضى من عمرنا، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)، أي: اعصمنا فيما بقي من عمرنا، أو: وفقنا للحسنات التي تكفر سيئاتنا؛ لما قد يلزم العبدَ التكفيرُ لما أساء.
وقيل: المغفرة والتكفير كلاهما سواء؛ لأن المغفرة هي الستر، وكذلك التكفير " ولذلك سُمِّي الحراثون: كفارًا؛ لسترهم البذر في الأرض؛ وكذلك الكافر سمى كافرًا؛ لستره الحق بالباطل، ولستره جميع ما أنعم اللَّه عليه بتوجيه الشكر إلى غيره، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ):
يحتمل قوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)، أي: توفنا واجعلنا مع الأبرار. ويحتمل: وتوفنا من الأبرار وفي الأبرار.
ثم اختلف في البَرِّ: قيل: هو الذي لا يؤذى أحدًا، وقيل: الأبرار: الأخيار.
ويحتمل: توفنا على ما عليه توفيت الأبرار، وتوفنا وإنَّا أبرارٌ. والبر: الطاعة، والتقوى: ترك المعصية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ (١٩٤)
قيل فيه بوجهين:
قيل: وآتنا ما وعدتنا على ألسن رسلك، على إضمار " ألسن " كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا).
وقيل: (مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، أي: ما جعلت عليهم من الاستغفار للمؤمنين؛ كقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وكقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، وكقول نوح - عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
ثم بيننا وبين المعتزلة كلام في الآية: قالت المعتزلة: يجوز الدعاء والسؤال عنه بما قد أعطى، وما عليه أن يعطي نحو ما ذكر من السؤال بما وعد، وما وعد لا شك أنه يعطي،
وأنه لا يخلف الميعاد، ونحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، وهو لا يحكم بالجور.
وأما عندنا: أن السؤال عما عليه أن يعطي - يخرج مخرج الدعاء له ربنا لا تَجُر ولا تَظْلم، إن هذا لا يقال إلا لمن يخاف الجور منه والظلم؛ إذ يعلم أن ذلك عليه، والسؤال عما قد أعطى محال؛ لأنه يخرج مخرج كتمان ما أعطى، أو ليس عنده ما يعطيهم؛ فيخرج مخرج السخرية به؛ لذلك بطل السؤال، واللَّه أعلم.
ثم تأويل الآية عندنا على وجوه:
أحدها: قوله: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، يحتمل أن يكون الوعد منه لرسله باستغفار الرسل، إذا كان من المؤمنين استغفار وسؤال؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ...) الآية: وعد لهم المغفرة لهم باستغفار الرسول؛ إذا كان منهم استغفار وسؤال، يقول: اجعل دعائي دعاء من جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستغفرًا فاستغفر له، وكقوله -أيضًا-: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا).
والثاني: يحتمل أن يكون الوعد لهم؛ إذا ماتوا على ذلك، فالدعاء كان منهم، والسؤال: أنه إذا أماتهم يميتهم على الإيمان، على ما كانوا أحياء، والمغفرة والرحمة حينئذ تكون لهم؛ ألا ترى أنه قال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ)، فله كذا، ولم يقل: من عمل بها فله كذا، ولكن ذكر مجيئه بها، فعلى ذلك الأوَّل، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وفيما ذكر من تأويل الآية في الابتداء كفاية من ذلك، واللَّه أعلم.
والثالث: يدعو؛ ليجعلهم من الجملة الذين كان لهم الوعد؛ إذ الوعد غير مُبَيّنٍ لمن هو؛ فسألوا أن يجعلهم في تلك الجملة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)
هذا يدل أن الوعد لهم كان مقرونًا بشرط السؤال؛ لأنه قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ)،
والاستجابة تكون على أثر السؤال؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...) الآية.
وقوله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
قيل: من الخلق كلهم، لكن جعل جزاء أعمال الكفرة في الدنيا؛ كقوله تعالى: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، وأما المؤمنون: في الدنيا والآخرة، وأما الكفار فإنما يعطيهم ابتداء ليس بجزاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ)، أي: نردها عليهم، وهم لا يبخسون أرزاقهم.
وقيل: قوله: (مِنْكُمْ) - إشارة إلى المؤمنين خاصَّة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي...) الآية:
الذين هاجروا: إلى اللَّه تعالى ورسوله طوعًا، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)، أي: اضطروهم حتى خرجوا من ديارهم فهاجروا، (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي)، أي: في طاعتي، (وَقَاتَلُوا): حتى (قُتِلُوا).
ويحتمل هذا كله أنْ هاجر بَعْضٌ طوعًا، وبعض أُخرجوا من ديارهم حتى هاجروا، وقاتل بعضٌ حتى قتلوا، وقاتل بعض ولم يُقْتلوا، وقُتِل بعض.
وقوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) الآية
تأويلها ظاهر.
* * *
قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ): يحتمل تقلبهم وجوهًا.
وذلك نعمة من اللَّه عليهم؛ لترْكِهِم يَتَّجِرون في البلدان مع كفرهم بربهم.
والثاني: أعطاهم أموالًا يتنعمون فيها ويتلذذون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٦:الآيتان ١٩٦- ١٩٧ وقوله تعالى :﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ﴾ ﴿ متاع قليل ﴾ يحتمل تقلبهم وجوها :
( أحدهما : ذلك ) ١ نعمة من الله عليهم لتركهم يتجرون في البلدان مع كف رهم بربهم.
والثاني : أعطاهم أموالا يتنعمون فيها ويتلذذون.
والثالث : ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت. يقول : لا يغرنك يا محمد ذلك غنما متاع يسير مصيرهم إلى النار كقوله تعالى :﴿ فلا يعجبنك أموالهم ولا أولادهم ﴾ الآية ﴿ التوبة ٥٥- ٥٨ ) وكقوله تعالى :{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ﴾ الآية ( آل عمران ١٧٨ ) قال : وليس الاغترار في نفس التقلب لأنه جهد ومشقة ولكن لما فيه من الأمن والسعة والقوة دليله قوله تعالى ﴿ متاع قليل ﴾ ثم قوله٢ :﴿ ولكن الذين اتقوا ﴾ منهم : سعيهم٣ للآخرة متاع لا ينقطع.
١ قي الأصل و م: وذلك.
٢ في الأصل و م: قال.
٣ في الأصل و م: وسعيهم..

والثالث: ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت.
يقول: لا يغرنك يا مُحَمَّد ذلك؛ إنما هو متاع يسير، ومصيرهم إلى النار؛ كقوله - تعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ...) والآية؛ وكقوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا...) الآية.
قال: وليس الاغترار في نفس التقلب؛ لأنه جهد ومشقة؛ ولكن لما فيه من الأمن والسعة والقوة؛ دليله قوله - تعالى -: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ)، ثم قال: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)، وسعيهم للآخرة متاع لا ينقطع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ (١٩٨)
يعني: الشرك
(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) إلى آخر ما ذكر (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ).
يحتمل أن يكون الأمر ما ذكر في بعض القصة: أن بعض المؤمنين قالوا: إن الكفار في خصب ورخاء، ونحن في جهد وشدة؛ فنزل: لا يغرنك تقلبهم في ذلك؛ إنما هو متاع قليل، وذلك ثوابهم في الدنيا، وأما ثواب الذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار... إلى آخر ما ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (١٩٩)
ويعني: القرآن.
(وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ)
ويعني: التوراة.
ثم اختلف في نزوله: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في شأن عبد اللَّه بن سَلام وأصحابه: أقرُّوا بأنه واحد لا شريك له، وصدقوا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه... ".
وقيل: نزل في شأن النجاشي، وروي عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
الآية ١٩٩ وقوله تعالى :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل / ٧٧- ب/ إليكم ﴾ يعني القرآن ﴿ وما أنزل إليهم ﴾ يعني التوراة ثم اختلف في نزوله قال بعضهم : نزل في شأن عبد الله بن سلام وأصحابه ( الذين ) ١ أقروا بأنه واحد لا شريك له وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما انزل عليه٢ وقيل : نزل في شأن النجاشي وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى ( على ) ٣ النجاشي قال أناس من المنافقين : يصلي على حبشي مات في أرض الحبشة ؟ فأنزل الله تعالى ﴿ وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله ﴾ الآية ).
( وعن )٤ الحسن أنه قال :( لما مات النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استغفروا لأخيكم " قالوا : يا رسول الله : لذلك العلج ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن آمن بالله ﴾ ( البخاري ١٣٢٧ الآية ) وقيل : لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المنافقون : صلى على من ليس من أهل دينه فأنزل الله تعالى الآية.
وعن الزهري عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن نبي الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر أربع تكبيرات وصفنا في المصلى خلفه وكان مات في الحبشة قال : والنوازل على وجهين من ترك بسببه خيرا وسعة فله فيه فضل لأنه كان مفتاح الخير ومن ترك بسببه ضيقا فعليه ( ضيق يوم لأنه كان ) ٥ مفتاح الضيق وأما الأحكام فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشرك فيه الخلق ولا يجوز أن يقال : نزل في شأن فلان لا في شأنه ) ( بمعناه : الطبري في تفسيره : ٤/٢٢٠ ).
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ أدرج بعدها في الأصل و م: الآية..
٣ من م ساقطة من الأصل..
٤ الواو من الأصل و م..
٥ في الأصل و م: فضل يوم كأنه..

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وجعله قيمًا لا عوج فيه مستقيمًا، ودعا إلى اتباعه، والسير على منهاجه.
وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، القائل: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وأشهد أن محمدا عبد اللَّه ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وعلم الأمة القرآن، وقال: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (١)، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
فالتفسير من أجل العلوم قدرًا، وأعلاها شرفًا وذكرا، وأعظمها أجرا، وأسناها منقبة، يملأ العيون نورًا، والقلوب سرورًا، والصدور انشراحًا، ويفيد الأمور اتساعًا وانفتاحًا، لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه، ولا يبلى على طول الزمان عزهُ، به تتعلق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ لذا كان أولى بالالتفات إليه، وأجدر بالاعتماد عليه؛ وكيف لا؟ وهو يتعلق بتفسير أعظم كتاب، وأضبط كتاب، وأهدى كتاب؛ القرآن الكريم الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢).
ولقد قام سلفنا الصالح من كبار العلماء العاملين بجهود عظيمة في مجال تفسير القرآن الكريم، فعبدوا طرقه، ويسروا صعبه، وبينوا مسائله، راجين مرضاة اللَّه، طالبين رضاه، ملتمسين عفوه ومغفرته.
ومما لا شك فيهه أن دراسة التراث التفسيري متمثلا في تحقيق أمهات كتب التفسير، والعناية بها، والاطلاع عليها - يسهم كل ذلك بحظ وافر في التعرف على كتاب الله العظيم، وتفهم آياته، ومعرفة تعاليمه؛ مما ييسر العمل به. أضف إلى ذلك: التعرف على هذا التراث الضخم، والثروة التفسيرية الهائلة الكاشفة عن جهود علمائنا الأجلاء في خدمة القرآن الكويم.
لكل هذا آثرنا تحقيق كتاب " تأويلات أهل السنة " لأبي منصور الماتريدي؛ وذلك لأهمية هذا الكتاب في استخلاص مسائل العقيدة من آي الذكر الحكيم، وأيضًا لأن هذا
_______
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٦٩٢) في كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (٥٠٢٧) (٥٠٢٨)، وأخرجه أبو داود برقم (١٤٢٥)، والترمذي برقم (٩٠٧، ٩٠٨، ٩٠٩)، وابن ماجة برقم (٢١١)، والدارمي (٢//٤٣٧)، وأحمد في المسند (١/ ٥٨، ٦٩).
3
الكتاب غير معروف عند كثير من الناس رغم أهميته، ومؤلفه أيضًا عالم فذ يحتاج من المحققين والدارسين الالتفات إليه، ومن ثم حاولنا أن نسهم بجهد متواضع بتحقيق هذا الكتاب؛ للوصول إلى هدفنا المنشود.
ويشتمل تحقيق الكتاب على: مقدمة وتمهيد، وبابين، وخاتمة، وفهارس مفصلة.
فأما المقدمة فتشتمل على: المنهج المتبع في تحقيق الكتاب.
وأما التمهيد فيشتمل على:
أولا: التعريف بعصر الماتريدي من الناحية: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والعلمية، والثقافية.
ثانيا: التعريف بالماتريدي: مولده ونشأته، ونسبه، ووفاته.
ثالثا: التعريف بشيوخ الماتريدي وتلاميذه.
رابعا: قيمة الماتريدي العلمية من خلال بيان أبرز مصنفاته.
خامسا: منزلة تفسير " تأويلات أهل السنة " بين مصنفات الماتريدي.
الباب الأول: القسم الدراسي، ويشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: نشأة التفسير وتطوره.
الفصل الثاني: المدارس التفسيرية.
الفصل الثالث: المناهج التفسيرية القديمة والحديثة.
الفصل الرابع: انتماء الماتريدي التفسيري.
الفصل الخامس: بذور التجديد في تفسير الماتريدي.
الفصل السادس: منهج الماتريدي في التفسير.
الفصل السابع: تأثر الماتريدي بمن سبقوه من خلال تفسيره:
- في التفسير.
- في العقيدة.
- في الفقه.
- في علوم اللغة.
الفصل الثامن: تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده إلى العصر الحاضر من خلال تفسيره.
4
- في التفسير.
- في العقيدة.
- في الفقه.
- في علوم اللغة.
الفصل التاسع: القضايا العلمية التي تناولها الماتريدي في تفسيره.
- القضايا العقدية والكلامية.
- القضايا الفقهية.
- القضايا اللغوية والبلاغية.
الباب الثاني: القسم التحقيقي.
وعملي فيه على النحو التالي:
١ - نسخ المخطوط مع الالتزام بالإملاء والترقيم الحديث.
٢ - مقابلة النسخة التي ستكون أصلا بالنسخ الخطية الأخرى للكتاب مع إثبات الفروق في هامش الكتاب.
٣ - ضبط النص وسد ما فيه من خلل.
٤ - تشكيل الأحاديث النبوية تشكيلاً حرفيا.
٥ - تشكيل الكلمات الغريبة في النص.
٦ - وضع الآيات التي يفسرها المؤلف وضعًا إجماليا في بداية التفسير مع ترقيمها هكذا: قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣).
٧ - ترقيم الآيات القرآنية المستشهد بها في تفسير الآية مع تخريجها.
٨ - تخريج الأحاديث النبوية واتبعنا فيها المنهج التالي:
أولاً: إذا كان الحديث في الكتب التسعة قمت بتخريجه منها، مع بيان الحكم على الحديث.
5
ثانيًا: إذا لم يكن الحديث في البخاري ومسلم أشرت إلى الحديث من حيث الصحة والضعف نقلاً عن أئمة هذا الفن.
ثالثا: إذا لم يكن الحديث في الكتب التسعة خرجته من باقي كتب السنة مع بيان الصحة والضعف.
٩ - تخريج الآثار وعزوها إلى مظانها مع بيان الراجح منها.
١٥ - توثيق الأقوال والنقول الواردة في الكتاب.
١١ - توضيح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الحديث وغريب القرآن.
١٢ - تراجم الأعلام الوادة في الكتاب مع توثيق الترجمة بمصدرين أو أكثر.
١٣ - التعريف بالأماكن والقبائل والبلدان.
١٤ - شرح المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في الكتاب، مع بيان الاصطلاحات المشهورة في كل فن.
١٥ - الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ وتوثيق ما يحتاج إلى توثيق.
١٦ - الرجوع إلى كتب معاني القرآن.
١٧ - الرجوع إلى كتب البلاغة.
١٨ - الرجوع إلى كتب القراءات المتواترة والشاذة وتوثيق القراءات الواردة في النص مع ضبطها.
١٩ - التعليق على بعض المسائل الفقهية، مع بيان الراجح من المرجوح، وأدلة كل فريق مع الترجيح.
٢٠ - التعليق على بعض المسائل الأصولية، وبيان أدلة كل فريق، مع التوثيق.
٢١ - التعليق على بعض المسائل العقائدية وبيان مذهب السلف الصالح.
٢٢ - تتبع الدخيل الموجود في تفسير المؤلف، مع بيان وجه ضعفه.
وبهذا نكون قد وضعنا القارئ على بينة من المنهج المتبع في تحقيق الكتاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
6
الباب الأول
عصر الماتريدي
ويشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: قيام الدولة العباسية.
الفصل الثاني: أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية.
الفصل الثالث: ظاهرة الدولة المستقلة في الشرق الإسلامي.
الفصل الرابع: نظام الحكم في الدولة العباسية.
الفصل الخامس: الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي.
الفصل السادس: الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي.
7
الفصل الأول
قيام الدولة العباسية
تمخضت الأحداث المتلاحقة التي اعتورت المسلمين منذ عهد الشهيد عثمان - رضي اللَّه عنه - عن مذاهب سياسية عدة، كان أعظمها خطرًا في التاريخ السياسي للدولتين الأموية والعباسية الحزب الشيعي، فهو أقدم الأحزاب الإسلامية على الإطلاق، حيث ظهر في آخر عصر عثمان، ونما واشتد عوده منذ عهد علي بن أبي طالب، وغدا ذا أثر كبير في توجيه مسار الحياة السياسية في الدولة الإسلامية.
وقد أجمع الشيعة على أن علي بن أبي طالب هو الخليفة المختار من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنه أفضل الصحابة، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
كما رأى الشيعة في مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان بالخلافة افتئاتًا على حق علي في الخلافة، كما ساءهم جدًّا أن يستوي معاوية على كرسيها، وعدُّوا ذلك جورًا وظلمًا حاق بعلي وآله ولابد من رفعه.
وتباينت مواقف الشيعة من علي، واختلفت آراؤهم فيه، فالمقتصدون منهم قدَّموه على جميع الصحابة دون تكفير أحد منهم، ودون السمو به إلى مرتبة النبوة، أما المغالون فرفعوه إلى درجة النبوة والتقديس.
على أن المغالين والمقتصدين جمع بينهم الإيمان بحق علي وبنيه في الخلافة، وعملوا منذ بداية العصر الأموي على تحويل الخلافة إلى البيت العلوي.
وبعد أن استشهد الحسين في كربلاء، انتشر التشيع في أنحاء الدولة الإسلامية ونادى فريق الشيعة بعلي زين العابدين بن الحسين بن علي إمامًا، وعرف هَؤُلَاءِ بالشيعة الإمامية، بينما قام فريق آخر يتزعمه المختار بن عبيد الثقفي، وقائد حرسه أبو عمرو بن كيسان -وكان من موالي الفرس- بالدعوة لمُحَمَّد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية - نسبة إلى أمه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفي- مؤلفًا فرقة من غلاة الشيعة نسبت إلى المختار بن عبيد الثقفي مرة وعرفت بالمختارية، وإلى صاحب شرطته وحرسه مرة ثانية
9
وعرفت بالكيسانية، وإلى أبي هاشم عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن الحنفية مرة ثالثة، وعرفت بالهاشمية.
وإذا كان مُحَمَّد بن الحنفية زاهدًا في الخلافة معرضًا عنها، بدليل أنه بايع عبد الملك ابن مروان راضيًا، فإن ولده أبا هاشم عبد اللَّه رأى أن لآل علي حقًّا فيها؛ فجعل يسعى للدعوة سرًّا إلى الخلافة.
وأحس سليمان بن عبد الملك بما يدبره أبو هاشم، وبتطلعه إلى الخلافة لا سيما بعد أن آنس منه علمًا واسعًا وذكاءً متقدًا، فأرسل من دس له السم عند عودته من الشام، فلما أحس أبو هاشم بدنو أجله آثر أن يتوجه إلى الحميمة للإقامة لدى علي بن عبد الله ابن عَبَّاسٍ، فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده، وأعلمه كيف يصنع ثم مات عنده.
ولا ريب أن أبا هاشم قد أبلغ شيعته ودعاته قبل وفاته أن أمر الخلافة مصروف إلى مُحَمَّد بن علي العباسي، وأمرهم بطاعته والإذعان له.
وكذلك فإن أبا هاشم قد أمد مُحَمَّد بن علي بأسماء الدعاة للشيعة في الكوفة وخراسان وسلمه كتبًا إليهم حتى يطمئنوا له.
" وعلى أساس هذه الوصية ورث مُحَمَّد بن علي العباسي حق الكيسانية في الإمامة، فما كاد أبو هاشم يموت حتى قصده الشيعة وبايعوه ثم عادوا إلى مراكزهم، وبدءوا في نشر الدعوة لمُحَمَّد بن علي العباسي عن طريق الدعاة ".
وخليق بنا أن نتساءل: لماذا عدل أبو هاشم عن أهل بيته من العلويين، وحَوَّل حقهم في الخلافة إلى بني عمه من العباسيين؟
يقول د / حسن إبراهيم حسن: " لكي نجيب على هذا السؤال نرجع إلى الوراء قليلاً فنقول: إنه منذ وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يرشح المسلمون للخلافة أحدًا من بني هاشم إلا علي بن أبي طالب وأولاده، ولم تتجه الأنظار إلى العباس عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته؛ لأنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام؛ ومن ثم لم يرشَّح للخلافة هو ولا أولاده من بعده، وقد
10
قيل: إن أبا سفيان جاء العباس بعد بيعة أبي بكر فقال له: ابسط يدك أبايعك، فأَبى العباس. وكانت العلاقة بين بني -هاشم علويين وعباسيين- تقوم على الود والصفاء، وكان البيتان متحدين على العدو المشترك من بني أمية، إلى أن انتقل حق الإمامة من العلويين إلى العباسيين بنزول أبي هاشم بن مُحَمَّد ابن الحنفية.
ويظهر أن العباسيين كانوا في أواخر القرن الأول الهجري أكثر كفاية ونشاطًا في الناحية السياسية من العلويين، وأكثر تطلعًا منهم إلى النفوذ والسلطان.
وقد قيل: إن أبا هاشم إنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بين أفراد البيت العلوي من يستطيع النهوض بأعباء إمامة المسلمين، أضف إلى ذلك اختلاف اعتقاد الشيعة الكيسانية (أنصار أبي هاشم) عن اعتقاد الشيعة الإمامية (أنصار أولاد فاطمة).
على أن هناك مسألة جديرة بالملاحظة، وهي أن نزول أبي هاشم بن مُحَمَّد ابن الحنفية عن حقه في الخلافة لا يمكن أن يعتبر نزولاً من العلويين جميعًا؛ لأن فريقًا كبيرًا منهم ظل متمسكًا بعقائد الشيعة الإمامية بدليل قيامهم في وجه العباسيين بعد قيام دولتهم ".
تنظيم الدعوة العباسية:
أدرك مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه العباسي أن تحويل الدعوة إلى الخلافة من البيت العلوي إلى البيت العباسي على هذا النحو المفاجئ قد يقضي على الدعوة قضاء لا قيام لها بعده، فآثر أن يمهد لذلك بتهيئة النفوس والعقول، بأن اختار لدعوته شعارًا تتستر وراءه، ويضمن انضمام العباسيين والعلويين جميعًا إليه، وهو " الرضا من آل مُحَمَّد "، ويقصد به أي شخص من آل البيت النبوي يتفق عليه في الوقت المناسب؛ درءًا وتقية لما قد يصيب الدعوة من أخطار إذا ما اكتشفت السلطات الأموية سرها، وفي الوقت نفسه كسبًا لأنصار جدد من شيعة فارس الذين كانوا يميلون -سواء عن إيمان عقائدي راسخ أو بدافع من الشعور القومي- للعلويين، وزيادة في تعمية الأمر على الأمويين والعلويين وتجنبًا لإثارة الشبهات في نواياه الحقيقية.
مراكز الدعوة العباسية:
اتخذ مُحَمَّد بن علي العباسي الكوفة وخراسان مركزين لنشر الدعوة العباسية وبث مبادئها وأهدافها، أما الكوفة فلأنها مهد التشيع ومستقر أنصار آل البيت، وأما خراسان
11
فلما كان يعانيه الموالي الفرس من عسف الأمويين وجورهم، بالإضافة إلى اعتقادهم في نظرية الحق الملكي المقدس التي سادت الفكر الفارسي منذ أمد بعيد.
يقول الإمام مُحَمَّد بن علي العباسي مصورًا طبيعة الأمصار الإسلامية ونوع الأهواء والأفكار السائدة بها آنذاك: " أما الكوفة فشيعة علي، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية، وأعراب لأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية وطاعة بني أمية، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجسام منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.
ولم يكد القرن الهجري الأول ينتهي حتى انطلقت الدعوة السرية للبيت العباسي من الحميمة وأخذ مُحَمَّد بن علي العباسي يوجه الدعاة في الآفاق فكان للعراق دعاة على التوالي هم: ميسرة العبدي (١٠٢) - (١٠٥ هـ)، وبكير بن ماهان (١٠٥) - (١٢٧ هـ) ثم أبو سلمة الخلال (١٢٧ - ١٣٢ هـ). كما وجه الدعاة إلى خراسَان وكان أولهم أبو عكرمة السراج.
" ويلي طبقة الدعاة في المرتبة طائفة النقباء الذين يأتمرون بأمرهم، ويجهلون إمام الوقت، وكان لكل داعية اثنا عشر نقيبًا، ولكل نقيب سبعون عاملا يديرون الوحدات المتفرعة، ويشرفون على الخلايا السرية المنبثة في مختلف الأقاليم، وكان الدعاة والنقباء يتميزون بإخلاصهم الشديد للدعوة وتفانيهم في خدمتها، كما كانوا يتصفون ببعد النظر والقدرة على فهم تقسيمات الناس، وتمييز عناصرهم؛ تمهيدًا لاجتذابهم إلى دعوتهم، وبالبراعة في التخفي والتنكر، مع حظ كبير من الثقافة والعلوم الدِّينية واللغوية ".
نجاح الدعوة في العراق:
لعب بكير بن ماهان الذي ولي أمر الدعوة العباسية في العراق دورًا كبيرًا في تاريخ الدعوة العباسية على مدار اثنين وعشرين عامًا، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الدعوة في
12
إطار من السرية الشديدة والحيطة الحذِرة.
ثم خلفه أبو سلمة الخلال وكان سمحًا كريمًا فصيحًا عالمًا بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير، وقد نهض بأمر الدعوة في طورها العسكري العنيف.
ودرج المؤرخون على تقسيم الدعوة العباسية إلى طورين متعاقبين مرت بهما.
أما الأولى: فتبدأ مع مطلع القرن الثاني الهجري وتنتهي بانضمام أبي مسلم الخراساني إليها، ولم تصطنع الدعوة العباسية في هذا الطور أسلوب العنف والشدة، وإنما جنحت إلى الدعوة السلمية التي امتازت بشيء غير قليل من السرية والكتمان؛ إذ كان الدعاة يجوبون البلاد الإسلامية متظاهرين بالتجارة أو أداء فريضة الحج.
أما الطور الثاني: فيبدأ بانضمام أبي مسلم الخراساني إلى الدعوة العباسية، وهو الطور الذي نشبت فيه الحروب بين بني أمية وبني عباس، والتي أفضت إلى زوال السيادة الأموية وقيام الدولة العباسية.
الدعوة في خراسان:
لقيت الدعوة العباسية في خراسان شيئًا غير قليل من العنت والمحن إبان ولاية أسد بن عبد اللَّه القسري، على الرغم مما حرص عليه الدعاة من إضفاء السرية عليها.
ولم يكتب للدعوة في خراسان الذيوع والانتشار إلا بعد وفاة أسد بن عبد اللَّه سنة ١٢٠ هـ، وعمد الدعاة في خراسان إلى جملة مبادئ وشعارات، وجدوا أن إذاعتها وترديدها جدير بأن يجذب العرب والموالي الفرس جميعًا إلى الدعوة العباسية كتحقيق مبدأ المساواة الذي كانت تتستر وراءه نزعات متباينة، والذي أيده جماعات كبيرة من الشعوبيين العجم؛ لأنه يحقق لهم مكاسب تهدف إلى إحياء المجد الفارسي القديم، كما أيده آخرون من العرب على أساس تسوية الموالي بالعرب؛ استنادًا إلى مبدأ الفقهاء في
13
الإصلاح ومحاربة الظلم والتعسف، كذلك طالب الدعاة بالدعوة إلى الإصلاح، ويقصد به الدعوة إلى الكتاب والسنة. وقد أدت هذه الشعارات إلى ازدياد عدد المؤيدين للدعوة في خراسان للرضا من آل مُحَمَّد، وانتشارها في بلاد فارس وخراسان وخوارزم وبلاد ما وراء النهر ".
سقوط الدولة الأموية:
توفي الإمام مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه حامل لواء الدعوة العباسية سنة ١٢٥ هـ بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه إبراهيم.
وفي عهد إبراهيم دخلت الدعوة العباسية طور الصدام الحربي مع الأمويين، وقيض لها شخصيّتان بارزتان يرجع إليهما الفضل الأكبر في نجاح الدعوة العباسية، هما: أبو سلمة الخلال الذي تولى رئاسة الدعوة خلفًا لبكير بن ماهان، وأبو مسلم الخراساني الذي قاد الجيوش العباسية إلى النصر والقضاء على الدولة الأموية.
إذ لم تدم السرية التي أسبغها العباسيون على دعوتهم، بل أميط عنها اللثام في عهد مروان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أمية (١٢٧ - ١٣٢ هـ) حيث وقَعَ على رسالة لإبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني، فقبض مروان على إبراهيم، وسجنه ثم قتله.
وكان إبراهيم قد عهد إلى أخيه أبي العباس السفاح وأوصاه بمواصلة الدعوة والمسير إلى الكوفة، فلما قتل إبراهيم الإمام سار رسوله إلى الحميمة وسلم وصيته إلى أبي العباس الذي توجه إلى الكوفة ومعه كبار بني هاشم من ولد العباس، وفيهم أخوه أبو جعفر المنصور حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال داعي الدعاة في دارٍ لأحد أتباعه وكتم أمرهم نحوًا من أربعين ليلة، وحاول أن يصرف الأمر إلى آل علي بن أبي طالب عندما بلغه نبأ وفاة إبراهيم الإمام ولكنه أخفق في هذه المحاولة، واضطر إلى مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة.
ولم يستطع والي الكوفة آنذاك مُحَمَّد بن خالد بن عبد اللَّه القسري مواجهة العباسيين
14
والقضاء على دعوتهم في الكوفة؛ فاضطر إلى تسليمها والإذعان لأصحاب الدولة الجديدة.
وفي الجامع الأموي بويع لأبي العباس بالخلافة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة ١٣٢ هـ.
ثم خطب خطبة مدح فيها آل البيت وقرر حق العباسيين في الخلافة، ثم سب الأمويين الذين استأثروا بالأمر دون أهله وذويه، ثم أثنى على أهل الكوفة قائلاً: " يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم اللَّه بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير ".
ثم خرج العباس بعد الخطبة إلى معسكر أبي سلمة حيث أقام شهرًا، ثم ارتحل من هناك، فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة.
وعلى هذا النحو خرجت الدولة العباسية إلى الوجود السياسي الإسلامي، وقضي على الأمويين قضاءً سوف نعرف طرفًا منه في الفصل القادم.
* * *
15
الفصل الثاني
أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية حتى دخول البويهيين بغداد
إن الناظر في تاريخ الدولة العباسية منذ قيامها وحتى سقوطها يجده مشحونًا بأحداث جسام يحتاج درسها واستيعابها مجلدات تند عن الحصر.
لذلك آثرنا أن نجتزئ في هذا الفصل ببعض هذه الأحداث التي نرى أنها تهب القارئ الكريم تصورًا عامًا عن الدولة العباسية من الناحية السياسية.
القضاء على الأمويين واستئصال شأفتهم:
لم يكد لواء الخلافة يتحول إلى أبي العباس السفاح حتى عمد إلى الانتقام من بني أمية جزاء ابتزازهم الخلافة، واستئثارهم بها دون أهلها من آل البيت، وعقابًا لهم على إيذاء العلويين والعباسيين جميعًا.
وذهب نفر من المؤرخين إلى أن سياسة العباسيين تلك إن هي إلا امتداد للعداء المستحكمة حلقاته بين بني أمية وبني هاشم منذ الجاهلية، وهو عداء لم تنجح مبادئ الإسلام في العدل والإخاء والمساواة في استئصال جذوره من النفوس والضمائر، بل لعل الإسلام زاده شدة وضراوة؛ نظرًا لما كان بينهما من منافسة قوية على الظفر بمنصب الخلافة.
ومهما يكن من أمر فقد بالغ أبو العباس السفاح في التنكيل ببني أمية وافتن في إنزال ألوان الأذى وضروب القتل بهم، فقتل عبد اللَّه بن علي عم السفاح ثلاثمائة من بني أمية منهم: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وعبد الجبار بن يزيد ابن عبد الملك، ومروان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أمية.
وروي عن أبي العباس السفاح أنه لما أُتي برأس مروان بن مُحَمَّد ووضع بين يديه، سجد فأطال السجود، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قِبَلَكَ وقِبَلَ رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت؛ فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل بقول الشاعر:
16
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ولا دماؤهم للغيظ ترويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواطع في أيماننا تقطر الدما
تورثن من أشياخ صدق تقربوا بهن إلى يوم الوغى فتقدما
إذا خالطت هام الرجال تركتها كبيض نعام في الوغى متحطما
والحق أن الشعراء قد أذكوا لدى بني العباس نيران العداوة ضد بني أمية، وزادوها اشتعالاً، فروي أن السفاح كان جالسًا في مجلس الخلافة، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه السفاح، فدخل عليه سديف الشاعر فأنشده:
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داءً دويًّا
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويًّا
فالتفت سليمان وقال: قتلتني يا شيخ، ثم دخل السفاح وأخذ سليمان فقتل.
وقد أسرف العباسيون في التنكيل بالأمويين إسرافًا لا يراعي للموت حقًّا ولا يعرف له جلاله وحرمته، فنبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطًا مثل الهباء، ونبشوا قبر يزيد بن معاوية، فوجدوا فيه حطامًا كأنه الرماد.
ولم تكن سياسة الانتقام التي اصطنعها أبو العباس السفاح ضرورة طارئة ألجأه إليها إشباع روحه النزاعة إلى الانتقام، أو تثبيت أركان دولته الناشئة، بل كانت سياسة مضطردة توشك أن تسم العصر العباسي الأول كله بميسمها؛ يقول ابن دأب - وقد كان من خواص الخليفة الهادي: " دعاني الخليفة الهادي في وقت من الليل لم تجر العادة أنه يدعوني في مثله، فدخلت إليه، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي وقدامه جزء ينظر فيه، فقال لي: يا عيسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني أرقت في هذه الليلة وتداعت إِلَيَّ الخواطر واشتملت عَلَيَّ الهموم وهاج لي ما جرت إليه بني أمية من بني حرب وبني مروان في سفك دمائنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا عبد اللَّه بن علي قد قتل منهم على نهر أبي فطرس فلانًا وفلانًا، حتى أتيت على تسمية من قتل منهم، وهذا عبد الصمد بن علي قد
17
قتل منهم بالحجاز في وقت واحد نحو ما قتل عبد اللَّه بن علي... ".
قال ابن دأب: فسر واللَّه الهادي.
الصعوبات التي واجهت أبا جعفر المنصور في سبيل إرساء دعائم الدولة العباسية وتثبيت أركانها:
توفي أبو العباس السفاح سنة ١٣٦ هـ بعد أن عهد بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور على أن يليه في ولاية العهد عيسى بن موسى بن مُحَمَّد العباسي.
وقد أنفق أبو جعفر سني خلافته في تثبيث دعائم الملك العباسي وتوطيد أركان الخلافة الجديدة، وأبدى من الحزم والفطنة والكفاية ما هو خليق بعظماء الرجال، حتى عده المؤرخون بحق المؤسس الحقيقي للدولة العباسية؛ إذ استطاع أبو جعفر بفضل ما أتيح له من مواهب سياسية جماعها الحزم والشجاعة وسداد الرأي أن يقضي على الأخطار المحدقة بالدولة العباسية في طورها الباكر، ولا غرو فهو على حد قول السيوطي:
" فحل بني عباس هيبة وشجاعة وحزمًا، ورأيًا وجبروتًا، جَمَّاعًا للمال تاركًا اللهو واللعب، كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه ".
وقد تمثلت هذه الأخطار التي واجهت أبا جعفر فيما يلي:
١ - ثورة عبد اللَّه بن علي العباسي.
٢ - تضخم نفوذ أبي مسلم الخراساني وإدلاله على الخلفاء العباسيين.
٣ - ثورات العلويين.
أولا: ثورة عبد اللَّه بن علي العباسي:
أبي عبد اللَّه بن علي العباسي أن يبايع أبا جعفر المنصور، ورأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه، فادعى أن أبا العباس لما أراد توجيه الجند لقتال مروان بن مُحَمَّد قال لهم: " من انتدب منكم للمسير إليه فهو ولي عهدي، وإنه لم ينتدب لهذا الأمر أحدًا غيري "، فبايعه الجند والقواد بالخلافة. ولم تكد هذه الأخبار تنتهي إلى مسامع أبي جعفر حتى وجه إليه أبا مسلم الخراساني الذي قال له: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء اللَّه، فإن عامة جنده من
18
أهل خراسان وهم لا يعصونني.
وتمكن أبو مسلم الخراساني من إلحاق الهزيمة بجند عبد اللَّه بن علي في بلاد الشام، وفر عبد اللَّه من ميدان القتال حتى وصل إلى البصرة، واختفى عند أخيه سليمان بن علي، وكان قد وليها من قبل المنصور، واستولى أبو مسلم على ما في معسكر عبد اللَّه من مال وعتاد.
وثمة خطآن وقع فيهما عبد اللَّه بن علي تسببا في هزيمته:
أولهما: احتياله على قتل حميد بن قحطبة، والذي كان يعد من أعظم قواد الدولة العباسية، وكان قد انضم إلى عبد اللَّه، فلما وقف على مؤامرته للفتك به انضم إلى أبي مسلم الخراساني.
ثانيهما: قتله من كان في جيشه من الخراسانيين، مما أضعف قوته وأثار حفيظة من بقي معه من الجند، فلم يخلصوا له ولدعوته.
وذكر الطبري أن عبد اللَّه بن علي بايع أبا جعفر المنصور سنة ١٣٨ هـ حين كان أخوه سليمان لا يزال على ولاية البصرة، وأن سليمان لما عزل اختفى عبد اللَّه خوفًا على حياته، ثم ألح المنصور على سليمان بن علي وعيسى بن موسى بإحضار عبد الله وأعطاهما الأمان على ألا يسيء إليه، ولكنه أمر بحبسه، وقتل بعض أصحابه، ثم قتله سنة ١٤٩ هـ بعد أن حبسه تسع سنوات.
وهكذا قضى أبو جعفر على فتنة كانت خليقة أن تعصف بالدولة العباسية في مهدها، أو على أقل تقدير تفرق بين أفراد البيت العباسي وتشتت شمله.
القضاء على أبي مسلم الخراساني:
لعل من نافلة القول أن نذكر ما أنفقه أبو مسلم الخراساني من مجهود كبير في سبيل الدعوة العباسية، وإخراجها من رحم الظلم والاضطهاد إلى نور الخلافة والملك، وحسن بلائه في الحروب التي خاضها العباسيون ضد الأمويين، فذاك أمر يحتاج بسط القول فيه وإقامة الأدلة والشواهد عليه صفحات كثيرة تضيق عنها هذه الدراسة الموجزة.
وأحسب أن أبا جعفر المنصور قد أدرك أن رسوخ قدمه في الملك والحكم منوط بالقضاء على أبي مسلم الخراساني الذي مثل نفوذه المتزايد وإعجابه بما قدم للدولة
19
العباسية وإدلاله على رجالها خطرًا كبيرًا جديرًا بأن يحيل الخلافة العباسية ألعوبة في يد أبي مسلم يحولها كيف شاء.
والحق أن روح العداء بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني قديمة، تسبق من غير شك ولاية المنصور للخلافة العباسية.
وهو عداء قد تلون في أكثر جوانبه بالمنافسة والتسابق في مضمار السياسة، ثم غدا حقدًا خالصًا وكرهًا مستحكمًا.
ولا مراء في أن تصرفات أبي مسلم الخراساني قد أوغرت صدر المنصور عليه، وحملته على أن يتربص به الدوائر ويغتنم الفرصة تسنح كي يتخلص منه. ولا بأس أن نذكر طرفًا من العداوة بين الرجلين حتى يتبين القارئ صدق كلامنا:
- تقدم أبي مسلم الخراساني على المنصور في طريق الحج، وعدم انتظاره إياه في طريق العودة عندما بلغه نبأ وفاة أبي العباس السفاح.
- بعد وفاة السفاح أرسل أبو مسلم إلى المنصور رسالة يعزيه فيها دون أن يهنئه بالخلافة.
- كان المنصور قد أمر الحسن بن قحطبة، والي الجزيرة، أن يلحق بأبي مسلم عند توجهه لمقاتلة عبد اللَّه بن علي في الشام، فكتب ابن قحطبة إلى وزير المنصور يقول: " إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم، فيقرأه ويضحكان استهزاء ".
- تجرأ أبو مسلم وقتل سليمان بن كثير الخزاعي أحد شيوخ الدعوة العباسية دون استشارة الخليفة.
- تحديه لأمر المنصور عندما صرفه عن ولاية خراسان وولاه الشام ومصر وقوله: " هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي "، واستمراره في السير إلى خراسان.
- تقديمه لاسمه على اسم الخليفة في رسائله.
20
- ادعى أبو مسلم أنه ينتسب إلى سليط بن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ.
وهكذا اجتمعت لدى أبي جعفر المنصور الأدلة المقنعة للفتك بأبي مسلم، وطفق يدبر أمر اغتياله، فولى هشام بن عمر العقيلي مكان أبي مسلم، فانصرف أبو مسلم، وأقبل يريد خراسان مغاضبًا لأبي جعفر؛ حتى يثير أهل خراسان عليه ويجعل العباسيين دائمًا في قبضة يده، فمر بالمدائن، وأبو جعفر ينزل برومية على مقربة منها، فلم يسع إلى لقائه، ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان، فسير إليه المنصور نفرًا من أصحابه فلحقوه وعظموا عليه الخطب، وحذروه عاقبة البغي ونصحوه بالرجوع إلى المنصور، فأقبل إلى العراق وقدم على أبي جعفر، فأمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس، فدخل على المنصور فقبل يده، وأمره المنصور بأن ينصرف ويروح نفسه ويدخل الحمام، فانصرف، فلما كان الغد دعا المنصور عددًا من الحرس وأمرهم بالجلوس وراء الرواق فإذا صفق بيديه وثبوا على أبي مسلم فقتلوه، ثم أرسل إلى أبي مسلم يستدعيه، ثم أخذ يعاتبه على مخالفته له، فلما طال عتاب المنصور قال أبو مسلم: " لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني ".
فقال له المنصور: " يا ابن الخبيثة، واللَّه لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا وبريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا "، فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: " ما رأيتك اليوم، واللَّه ما زدتني إلا غضبًا "، قال أبو مسلم: " دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا اللَّه تعالى "، فغضب المنصور وشتمه، ثم صفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس فأخذوه بسيوفهم حتى قتلوه، وتم ذلك في شعبان سنة مائة وستة وثلاثين هجرية.
ثم خطب المنصور في الناس بعد أن قتله فقال: " أيها الناس، لا تخرجوا عن أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإن من أسر غش إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه وسقطات أفعاله، وأبداها اللَّه لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء حقه بفلجه، إنا لم نبخسكم حقوقكم، ولم نبخس الدِّين حقه عليكم، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه، ثم نكث بيعته هو، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه ".
ثم اضطرب أصحاب أبي مسلم بعد قتله، ففرقت فيهم الأموال، فأمسكوا رغبة ورهبة.
21
ويرى الدكتور حسن إبراهيم حسن أن أبا جعفر المنصور كان مدفوعًا إلى ذلك بما كان بينه وبين أبي مسلم من حزازات شخصية قديمة، وقد زاد أبو مسلم النار اشتعالاً بتماديه في زهوه وإعجابه بنفسه وإسرافه في قتل النفوس البريئة بغير شفقة ولا رحمة.
كما يرى د/ حسن أن إخلاص أبي مسلم وتفانيه في نصرة العباسيين أمر لم يقم الدليل بعد على إضعافه أو دحضه.
ومهما يكن من أمر فقد كان القضاء على أبي مسلم ضرورة ألجأ المنصور إليها سطوة أبي مسلم وازدياد نفوذه، مع ما ينطوي عليه ذلك من مناوأة له وتهديد لحكمه.
ثورات العلويَّين: مُحَمَّد النفس الزكية وأخوه إبراهيم:
أشرنا من قبل إلى أن الدعوة العباسية قد رفعت شعار: " الرضا من آل مُحَمَّد " حتى تأمن مناوأة العلويين لهم، وخروجهم عليهم إن هم كشفوا عن نواياهم الحقيقية في الاستئثار بمنصب الخلافة، " فلما ظفر العباسيون بالخلافة وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة بني أمية، لم يرق ذلك في نظر العلويين ولم تطب بذلك نفوسهم، على الرغم من أن الجميع من أولاد هاشم، وعلى الرغم من كونهم يدًا واحدة على بني أمية، واشتراكهم في العمل على إزالة دولتهم؛ إذ أدركوا أن العباسيين قد خدعوهم واستأثروا بالخلافة دونهم مع أنهم أحق بها منهم، فنابذوهم العداء ونظروا إليهم كما كانوا ينظرون إلى الأمويين من قبل، فظلوا يناضلون ويكافحون ابتغاء الوصول إلى حقهم في الخلافة ".
ولا تمر سنوات كثيرة من عمر الخلافة العباسية حتى يخرج على أبي جعفر المنصور مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم.
ولم تنجح محاولات العباسيين في استرضاء العلويين من القول اللين حتى العطاء الجزيل؛ فقد كان النفس الزكية يرى أنه أحق بالخلافة وأن أبا جعفر المنصور قد اغتصبها واستأثر بها من دونه، فامتنع في أول الأمر عن مبايعة السفاح ثم تخلف هو وأخوه إبراهيم عن بيعة المنصور، فلم يجد المنصور بدًّا من العمل على التخلص منهما حتى يستقيم له أمر الملك.
وكان أن عهد المنصور بولاية المدينة إلى رباح بن عثمان بن حيان ابن عم مسلمة بن
22
عقبة قائد الحرة في عهد يزيد بن معاوية، فقدم عثمان المدينة سنة ١٤١ هـ وخطب أهلها خطبة سداها ولحمتها التهديد والتخويف، فكان مما قال فيها: " يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى عثمان بن حيان وابن عم مسلمة بن عقبة، المبيد خضراءكم المفني رجالكم، واللَّه لأدعنها بلقعًا لا ينبح فيها كلب ".
بيد أن أهل المدينة قد هوت أفئدتهم إلى مُحَمَّد النفس الزكية، وتدفقت نفوسهم حماسة لآل بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلم يحفلوا بتهديد عثمان، بل أغلظوا له القول وهموا بالفتك به.
فكتب إليهم المنصور قائلاً: " يا أهل المدينة، فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنتهوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفًا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام ".
ولم يزحزح كتاب المنصور أهل المدينة عن موقفهم، بل لعله زادهم إصرارًا على الانتصار للعلويين، فقبض عامله على عبد اللَّه بن الحسن أبي مُحَمَّد النفس الزكية وإخوته وذوي قرباه.
بيد أن عبد اللَّه لم يكن بالرجل الذي تلين قناته، بل كان يعتقد في أحقية ابنه بالخلافة دون المنصور والسفاح من قبله. فطلب إلى ابنه أن يواصل مناجزة العباسيين، وألا يحفل بما يعوقه في سبيل الحق من صعوبات.
واشتد إيذاء المنصور لأشياع النفس الزكية، وعظم البلاء النازل بهم حتى اضطروا محمدًا إلى الخروج، ولما تتهيأ الظروف بعد لخروجه وذلك في سنة ١٤٥ هـ، وقد شجعه على ذلك ظنه إجماع الناس على نصرته وشدة ميلهم إليه، وتلك الفتوى التي أفتى بها الإمام مالك بن أنس؛ حيث أفتى بجواز نقض بيعة المنصور حين قال لأهل المدينة: " إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين ".
23
خرج مُحَمَّد النفس الزكية في مائتين وخمسين من أصحابه، فتوجه إلى السجن وأطلق سراح من فيه، ثم قبض على عامل أبي جعفر المنصور في المدينة وأمر بحبسه.
وفي الوقت الذي خرج فيه النفس الزكية في المدينة كان أخوه إبراهيم يدعو له في البصرة ويأخذ من أهلها البيعة له.
والحق أن أبا منصور لم يدع وسيلة تمكنه من الظهور على خصمه إلا اصطنعها، فكانت سياسته تجاه هذه الثورة مزيجًا من الحزم والدهاء، وقد ندب المنصور ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى للقضاء على النفس الزكية، فنهض بما أمر به خير نهوض لاسيما وقد تفرق عن النفس الزكية جل أنصاره وشيعته، فبقي في نفر قليل من خاصته، لم يغنه في مواجهة جيش مدرب منظم كجيش عيسى بن موسى، وقتل النفس الزكية واحتز رأسه وذلك في رمضان سنة ١٤٥ هـ.
وبعد أن فرغ عيسى من النفس الزكية في المدينة أمره المنصور بالتوجه إلى العراق للقضاء على أخيه إبراهيم، وكان قد تغلب على البصرة والأهواز وفارس، ودارت رحى الحرب وحمي وطيسها في باخمري بين الكوفة وواسط، وانجلى غبارها عن هزيمة إبراهيم وجنده، ولم يزل يناضل العباسيين في فئة قليلة حتى قتل فاحتز ابن قحطبة رأسه.
وهكذا استطاع المنصور بما أتيح له من حزم وذكاء أن يقضي على أول ثورة يحمل لواءها العلويون، فوطد دعائم خلافته ومكن لها من البقاء والاستمرار.
أبرز الأحداث السياسية في عهد الخليفة المهدي:
ولي الخلافة العباسية بعد أبي جعفر المنصور ابنه المهدي، ولبث في منصب
24
الخلافة عشر سنوات (١٥٨ - ١٦٩ هـ)، وامتازت ولايته بالاعتدال والرفق بالرعية، بعد أن أرهقها المنصور إبان خلافته من أمرها عُسرًا، " فرد الأموال التي صادرها أبوه إلى أهلها، وأطلق العلويين الذين حبسهم أبوه، وعفا عنهم وأجرى عليهم الأرزاق ".
ومن الثورات والفتن التي وقعت في عهد المهدي:
خرج عبد السلام بن هاشم من الخوارج في الجزيرة، واشتدت شوكته وكثرت شيعته وأنصاره فعاث في الأرض فسادًا، فأرسل إليه المهدي عدة قواد هزم بعضهم، لكنه في النهاية هزم وفر إلى قنسرين حتى قتل بها.
كما خرج عبد اللَّه بن مروان الأموي ببلاد الشام، فأرسل إليه المهدي من هزمه وأسره، فحبسمه المهدي ثم عفا عنه وأجزل له العطاء.
بيد أن أكثر هذه الثورات أهمية وأعظمها خطرًا على سياسة الدولة واستقرار المجتمع، تلك التي حمل لواءها الزنادقة، فقد أذاعوا في المجتمع مبادئ فاسدة تخالف أصول الإسلام أشد المخالفة، وهي مبادئ تقوم على نوع من الديمقراطية الفاسدة التي تبيح المحرمات وتعبث بالآداب الاجتماعية والزوجية المرعية، وتعرض الحياة السياسية والدِّينية للخطر.
والحق أن المهدي قد اشتد على الزنادقة ونكل بهم وحمى المجتمع من فسادهم وانحلالهم، وقد حذا ابنه الهادي من بعده نفس السياسة التي لزمها أبوه تجاه الزنادقة، فتعقبهم وقتل من ظفر به منهم.
هارون الرشيد: (١٧٠ - ١٩٣ هـ):
إن عصر هارون الرشيد يعد -بحق- العصر الذهبي للخلافة العباسية؛ إذ بلغت أوج
25
عظمتها وذروة قوتها في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة جميعًا.
لقد كانت الدولة الإسلامية في تلك الفترة الدولة الكبرى والأولى والأقوى في العالم كله، وقد ازداد اختلاط عناصر السكان فيها بعضهم ببعض، وظهرت في الحياة العامة أخصب النزعات الاجتماعية والفكرية والدِّينية على صعيد واحد.. وزادت في الوقت نفسه أعداد المسلمين في الدولة مقابل الأديان الأخرى، وغدا المسلمون بصورة عامة أكثر من نصف السكان.
وبلغ اقتصاد الدولة ذروة قوته وازدهاره، حتى بلغت الأموال في خزائن الرشيد ما يقرب من ٧٢ مليون دينار، عدا الضريبة العينية التي كانت تؤخذ مما تنتجه الأرض من الحبوب، وحق للرشيد أن يخاطب السحابة قائلاً:
اذهبي حيث شئت يأتيني خراجك.
ومع ذلك، فإن عهد هارون الرشيد لم يخل من الفتن والأزمات:
فقد خرج في زمنه يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن العلوي بـ " الديلم " يدعو لنفسه، فقويت شوكته، والتف حوله الشيعة، فبعث إليه الرشيد، ففت في عضده، فطلب الصلح من الرشيد، فصالحه، ثم أمنه، ثم حبسه حتى مات.
وخرج الوليد بن مطرف الشاري وحقق انتصارات على جيوش الرشيد، وأفسد في الأرض، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فهزم الوليد وقتله.
وفي عهد الرشيد لم تكف حركات البربر في إفريقية؛ رغبة في الخروج عن الحكم العباسي، ولكن الرشيد بعث إليهم هرثمة بن أعين فقضى على هذه الحركات، وعمل الرشيد على قيام دولة الأغالبة لصد هجمات البربر والوقوف في وجه دولة الأدارسة، لكن
26
ما لبثت هذه الدولة أن استقلت عن الدولة العباسية.
وفي مصر ثار أهل الحوف مرتين: الأولى سنة ١٧٨ هـ، فأرسل الرشيد هرثمة بن أعين فأخمدهم. والثانية سنة ١٨٩ هـ بقيادة أبي النداء الذي خرج في مائة ألف رجل، وكان في أيلة، وأفسد مفسدة عظيمة، فأرسل إليه الرشيد جيشًا، وأرسل والي مصر جيشًا آخر، فانهزم أبو النداء، فأعلن أهل الحوف الإذعان والطاعة لما رأوه من انهزام قائدهم.
ولما ولي الأمين الخلافة وقع الخلاف بينه وبين أخيه المأمون، ووقع بينهما القتال، خاصة عندما خلع الأمين أخاه المأمون وعهد بالأمر لابنه موسى، فدار القتال، وحاصر طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون بغداد أربعة عشر شهرًا وقطع عنها الأقوات، حتى وقع الناس في عنت شديد، وانتصر طاهر، وقتل الأمين، وتمت البيعة للمأمون سنة مائة وثمانية وتسعين.
وقيل: إن الأمين كان غير مهتم بشئون دولته؛ حيث كان يحب اللهو والمجون، ومن ثم كثرت الفتن في عهده، وازدادت الثورات، فاشتعلت نار الفتنة في الشام، فقام علي بن عبد اللَّه بن خالد بن يزيد بن معاوية، يدعو لنفسه، فعظم أمره، واشتد خطره حتى احتل دمشق، وكاد يستقر له الأمر لولا النزاع الذي وقع بين اليمنيين والمضريين من أتباعه، وبعث الأمين جيشًا يعيد الاستقرار إلى بلاد الشام، لكنه لم يفعل شيئًا، ومن ثم بقيت بلاد الشام في اضطراب وقلاقل قيل: سنتين، أو أكثر.
وفي ولاية المأمون: كان خروج بعض العلويين، فخرج عليه أبو السرايا سنة ١٩٩ هـ بالكوفة، وأوقع بجيوش الحسن بن سهل، ولم يستطع المأمون إخماد حركته إلا بعد عناء شديد؛ فقد هزمه هرثمة بن أعين.
وأراد المأمون استمالة العلويين فعين ولي عهده منهم، فولى علي بن موسى الكاظم وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد، فاستثار بذلك حفيظة العباسيين وثاروا عليه في عدة مناطق.
27
كما شق عصا الطاعة نصر بن شبث الذي كان يتعصب للأمين؛ فبعث له المأمون من يقاتله، واستمرت المناوشات بينهم خمس سنين، طلب بعدها نصر الأمان.
كما ثار المصريون، فبعث لهم عبد اللَّه بن طاهر؛ لإخماد الثورة، فاستولى على الفسطاط، وأقر الأمن، وأصلح البلاد.
ومن أخطر الأحداث التي ظهرت في عهد المأمون فتنة القول بخلق القرآن، فقد أمر بامتحان القضاة والمحدثين في الولآيات، وابْتُليَ الإمام أحمد بن حنبل فيها ابتلاء شديدًا.
ولما تولى المعتصم وقعت في عهده أحداث كثيرة، ففي عهده أغار الزط على الدولة العباسية، واستولوا على طريق البصرة، فحالوا دون وصول المئونة والأقوات إلى بغداد، فقاتلهم وأرغمهم على طلب الأمان، وكثر في عهده الترك وازداد نفوذهم.
وقد أغار الروم على بلاد الإسلام، فاستغاث الناس بالمعتصم، وكان ذلك في سنة ٢٢٣ هـ؛ فسير إليهم المعتصم جيشًا، وخرج على رأسه، فحارب الروم وهزمهم، وفتح حصونا كثيرة، وفتح عمورية.
وفي هذا يقول الشاعر العباسي أبو تمام:
يا يوم وقعة عمورية انصرفت منك المنى حفلاً معسولة الحلب
أبقيت جدَّ بني الإسلام في صعد والمشركين ودار الشرك في صبب
وقبلَ وفاة المعتصم: خرج المبرقع اليماني الذي أشعل نار الفتنة بـ " فلسطين "، فأرسل إليه المعتصم رجاء بن أيوب، فلم يقدر على المبرقع الذي تجمع حوله الفلاحون، فانتظر حتى ذهب عنه الفلاحون إلى زراعتهم، وبقي المبرقع في نفر قليل، فأغار عليه رجاء وأنزل به الهزيمة هو ومن معه.
وتوفي المعتصم وتولى الواثق باللَّه سنة ٢٢٧ هـ، وسار الواثق على سيرة أبيه المعتصم، فاعتمد على الأتراك الذين شغلوا أعلى المناصب في كل ولايات الدولة.
28
ولم يمكث الواثق في الخلافة كثيرًا فقد توفي سنة ٢٣٢ هـ، وتولى بعده المتوكل.
الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل حتى سيطرة البويهيين عليها، أهم الأحداث السياسية:
غدا مقررًا بين المؤرخين أن عهد الخليفة المتوكل العباسي يعتبر بدء عصر انحلال الخلافة العباسية الذي انتهى بسقوطها تحت أقدام التتار سنة ٦٥٦ هـ.
ويسيرٌ على الباحث الوقوف على علة هذا الضعف المطبق الذي اتسم به تاريخ الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل الذي كانت ولايته حدًّا يفرق بين عهدين من زمانها، كان الأول منهما عهد ازدهار واستقرار وقوة بينما كان الثاني على النقيض من ذلك.
وهذه العلة إنما هي اعتماد العباسيين على الفرس ثم على الأتراك وإيثارهم إياهم بالمناصب المدنية والعسكرية على العرب الذين كانوا مادة الإسلام وقوام الدولة الإسلامية فضعفت عصبتهم وانحطت منزلتهم وانصرفت قلوبهم عن تأييد الدولة.
وكان اعتماد العباسيين على العنصر التركي منذ عهد المعتصم (٢١٨ - ٢٢٧ هـ) إرهاصًا ببدء عصر جديد في تاريخ الدولة العباسية محرف بعصر نفوذ الأتراك يبدأ بولاية المتوكل وينتهي بدخول البويهيين بغداد (٢٣٢ - ٣٣٤ هـ).
وقد استبد الأتراك بمقاليد الأمور وتغلغل نفوذهم في الدولة بحيث أصبح الخليفة العباسي " مسلوب السلطة مهيض الجانب ضعيف الإرادة ".
ولم يتورع الأتراك عن قتل الخلفاء العباسيين الذين وقفوا ضد أطماعهم واستبدادهم فدبروا مؤامرة لاغتيال الخليفة المتوكل " ٢٤٧ هـ " اشترك فيها ابنه المنتصر الذي طوعت له نفسه قتل أبيه، فذاق وبال أمره، فلم يمكث في الخلافة ستة أشهر إلا وقد أغرى الأتراك طبيبه ابن طيفور بقتله وأعطوه ثلاثين ألف دينار، ففصده بريشة مسمومة سنة ٢٤٨ هـ.
29
ومنذ ذلك التاريخ غدت تولية الخلفاء وعزلهم منوطة بإرادة الأتراك، فقد كانوا يعملون على تولية الخلافة من يطمئنون إليه من أمراء البيت العباسي، وما أدق عبارة الفخري صاحب الآداب السلطانية في بيان هذه الحالة التي آل إليها أمر خلفاء بني العباس حيث قال: " كان الأتراك منذ قتل المتوكل قد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه ".
ونتج عن ضعف الخلافة العباسية استقلال أكثر الولايات الإسلامية في مشرق الدولة ومغربها، فانفرد الطولونيون بحكم مصر (٢٥٤ - ٢٩٢ هـ) ثم الإخشيديون (٣٢٣ - ٣٥٨ هـ) وأخيرًا الفاطميون (٣٥٨ - ٥٦٧ هـ).
أما في المشرق فقد قامت الدولة الطاهرية (٢٠٥ - ٢٥٩ هـ) في خراسان، ومنهم انتقلت السلطة إلى أسرة جديدة هي الدولة الصفارية (٢٥٤ - ٢٩٥ هـ) التي قامت على يد يعقوب ابن الليث الصفار، والدولة السامانية (٢٦٦ - ٣٨٩ هـ) التي تفرعت عنها الدولة الغزنوية (٣٥١ - ٥٨٢ هـ).
البويهيون:
وإزاء استبداد الأتراك بشئون الدولة تطلع الخلفاء العباسيون إلى قوة جديدة تقيل الخلافة من عثرتها وتستأصل شأفة الأتراك، فوجدوا في دولة بني بويه الفتية ضالتهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
برز البويهيون إلى رحاب التاريخ الإسلامي في مطلع القرن الرابع الهجري وسرعان ما ترقوا في معارج القوة والنفوذ، فدانت لعلي بن بويه بلاد فارس بالطاعة (٣٢٣ هـ) وانتزع من الخليفة الراضي العباسي اعترافًا بسلطانه.
وتوجوا انتصاراتهم بدخول بغداد حاضرة الخلافة العباسية عام ٣٣٤ هـ في عهد أحمد ابن بويه (٣٣٤ - ٣٥٦ هـ) فقابله الخليفة المستكفي واحتفى به وخلع عليه ولقبه معز الدولة، ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة، وضرب ألقابهم على السكة، ولقب المستكفي إمام الحق وضرب ذلك على السكة، على أن البويهيين استأثروا بالسلطة دون الخلفاء كما صنع أسلافهم من الترك.
30
فعمل معز الدولة على توطيد مركزه وتقوية نفوذه في بلاد العراق التي أذعنت لحكمه إذعانًا كاملاً، ولم يلبث أن استبد بالسلطان دون الخليفة وعمل على إضعاف الخلافة العباسية وفكر في القضاء عليها وإقامة خلافة شيعية على أنقاضها، " ولكنه عدل عن هذه السياسة لما قد يتعرض له سلطانه من خطر بسبب وجود خلافة علوية يطيعها الجند، ويعترف بها الديلم، ويكونون أداة في يد الخليفة يستغلها لمصلحته متى شاء ".
وبلغ من إهانة معز الدولة البويهي للخلافة العباسية وانتقاصه من قدر خلفائها أن قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وحبسه إلى أن مات، وأجلس المطيع (٣٣٤ - ٣٦٣ هـ) على كرسي الخلافة وحدد له راتبًا مائة دينار في اليوم، ثم قطع ذلك الراتب وحدد له إقطاعات يسيرة يعيش منها كما عين له كاتبًا يتصرف في شئونها.
ثورة البساسيري: ذروة الضعف العباسي، ودخول السلاجقة بغداد:
بلغ ضعف الخلافة العباسية غايته وعجزها منتهاه في عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي الذي تحقق من خيانة البساسيري ذي الميول الشيعية، وتأكد من مكاتبته الخلافة الفاطمية في مصر.
فطلب إلى الملك الرحيم البويهي إبعاده عن العراق، فسار البساسيري إلى الرحبة بلد نور الدولة لمصاهرة بينهما، وعندئذ أدرك القائم بأمر اللَّه أن نجم البويهيين قد أفل وأنهم أمسوا عاجزين عن حماية الخلافة العباسية ودرء خطر البساسيري عنها، وأنه لا مناص من الاستعانة بالسلاجقة الذين طوى ملكهم بلاد الفرس والجزيرة وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بغداد.
وكان أن أرسل طغرلبك إلى الخليفة العباسي القائم رسولاً يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، فانتهز الخليفة ذلك وأمر بقطع الخطبة للملك الرحيم، والخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد في رمضان سنة ٤٤٧ هـ " ثم أرسل طغرلبك يستأذن الخليفة العباسي في دخول بغداد، فأذن له فوصل إلى النهروان، وخرج الوزير إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة والنقباء والأشراف والشهود والخدم وأعيان الدولة، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم ".
31
واستغل البساسيري خروج طغرلبك من العراق وانشغاله بحصار الموصل ونصيبين فكاتب إبراهيم ينال أخا طغرلبك وأخذ يعده ويمنيه ويطمعه في ملك أخيه حتى أصغى إليه وحالف أخاه، فترك الموصل إلى الري، فتقدم البساسيري إلى الموصل وحاصرها وتمكن من إخضاعها سنة ٤٥٠ هـ وتهيأ لدخول بغداد، أما طغرلبك فقد انصرف إلى القضاء على عصيان أخيه إبراهيم ينال وتمكن من الظفر به وقتله بالقرب من الري سنة ٤٥٠ هـ.
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك فعفا عنه، وإنما قتله في هذه المرة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه.
قدم البساسيري بغداد سنة ٤٥٠ هـ بالرايات المصرية، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر، وجرى القتال بينه وبين الخليفة القائم الذي انضم إليه نفر من أهل السنة وقاتلوا معه، بيد أن الخليفة لم يقو على صد البساسيري عن دار الخلافة فاستولى عليها بعد قتال دام شهرًا، وأقيمت الخطبة للمستنصر الفاطمي وزيد في الآذان: حي على خير العمل.
ثم قبض البساسيري على الخليفة وحمله إلى مدينة عانة حيث حبسه بها.
ولما فرغ السلطان طغرلبك من أمر أخيه إبراهيم ينال، عمل على إعادة الخليفة إلى بغداد، فكتب إلى قريش بن بدران يأمره أن يعيد الخليفة إلى داره ويتوعده إن لم يفعل ذلك، فكتب قريش إلى مهارش بن مجلي يخبره بذلك، فتولى مهارش أمر إعادة الخليفة إلى بغداد.
ثم جهز طغرلبك جيشًا لقتال البساسيري الذي لحق بواسط يتهيأ لقتال السلاجقة ليمنعه من الدخول إلى بلاد الشام، فظفر به جيش طغرلبك فقتل وحملت رأسه إلى بغداد.
وهكذا كانت فتنة البساسيري -كما ذكر ابن الأثير- أهم الأسباب التي حملت الخلافة العباسية على الاستعانة بالسلاجقة لتخليصهم من استبداد البويهيين ذوي الميول الشيعية والتي مثل البساسيري شكلاً من أشكالها.
32
الفصل الثالث
ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي
تميز تاريخ الدولة العباسية بظاهرة فريدة لم يشهدها تاريخ الخلافتين الراشدة والأموية، وهي ظاهرة الدول المستقلة في المشرق والمغرب جميعًا.
وإذا كان ظهور النزعات الاستقلالية في العالم الإسلامي يرجع إلى أواخر العصر الأموي، فإن هذه الظاهرة قد اتسعت على نحو كبير منذ مطلع الدولة العباسية، فقامت الدولة الأموية بالأندلس (١٣٨ - ٣٩٧ هـ) على يد عبد الرحمن الداخل، وأسس إدريس بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن علي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى (١٧٢ - ٣١١ هـ) وقامت دولة الأغالبة في تونس (١٨٤ - ٢٦٩ هـ) على يد إبراهيم بن الأغلب، وفي مصر ظهر الطولونيون (٢٥٤ - ٢٩٢ هـ) ثم الإخشيديون (٣٢٣ - ٣٥٨ هـ) ثم الخلافة الفاطمية (٣٥٨ - ٥٦٧ هـ).
أما في الشرق فثمة دول استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية، فقد قامت الدولة الطاهرية في خراسان -نسبة إلى طاهر بن الحسين (٢٠٥ - ٢٥٩ هـ) - وعلى أنقاضها نشأت الدولة الصفارية (٢٥٤ - ٢٩٠ هـ) على يد يعقوب بن الليث الصفار، كما ظهرت الدولة السامانية (٢٦٦ - ٣٨٩ هـ).
ونستطيع أن نرد أسباب هذ الظاهرة -وهي نشأة الدول المستقلة- إلى تضخم نفوذ الأتراك في الدولة العباسية، واستبدادهم بتصريف الشئون السياسية دون الخلفاء، فأحدث الأتراك كثيرًا من القلاقل والاضطرابات، وغدت الدولة العباسية مسرحًا للفوضى والاضطرابات السياسية، الأمر الذي ترتب عليه ضعف السلطة المركزية في بغداد وما ارتبط به من استقلال أكثر الولايات الإسلامية.
وثمة أمر آخر هو أن انحسار نفوذ العرب والفرس وضعف مكانتهم وهوان شأنهم في الدولة العباسية، دفعهم دفعًا إلى الاستقلال ببعض بلدان الدولة العباسية في المشرق الإسلامي، قكانت الدولتان: الصفارية والسامانية.
وهاتان الدولتان تقع في إطارهما مدينة سمرقند التي ولد فيها الماتريدي؛ ولذلك
33
سنتعرض لكل واحدة منهما بشيء من التفصيل.
أولًا: الدولة الصفارية (٢٥٤ - ٢٩٠ هـ):
قامت الدولة الصفارية على أنقاض الدولة الطاهرية ويرجع تأسيسها إلى يعقوب بن الليث الصفار (٢٥٤ - ٢٦٥ هـ)، الذي اتخذ من سجستان مركزًا لانطلاقها. وتقع سجستان في أقصى الشرق من إيران وتسمى أيضا " نيمروز " وهي كلمة فارسية تعني " نصف يوم " أي أنها بخيراتها وثرواتها تساوي نصف ما تطلع عليه الشمس، وهذا على سبيل المبالغة لا الحقيقة.
وقد انضم يعقوب إلى أحد قادة المطوعة ويدعى صالح بن النضر في ثورته على والي سجستان إبراهيم القوسي؛ لظلمه واستبداده، فتمكنوا من خلعه والاستيلاء على سجستان سنة ٢٣٧ هـ.
والمطوعة جماعات عسكرية تعمل على حماية سجستان وفارس وكرمان من الفوضى التي تعرضت لها إثر ثورات الخوارج.
لم يكن صالح بن النضر أحسن حالاً من الوالي السابق من قبل الطاهريين، فبغى على الرعية ولم يسر فيهم سيرة العدل التي كانوا يرجونها منه، فشكوه إلى يعقوب وأغروه بأن يتولى عليهم بدلاً منه، فاستجاب لهم واستطاع أن يتخلص من صالح بن النضر، وأخذ يعمل على توطيد ملكه وتدعيم مركزه بالقضاء على المتمردين والمنشقين عليه، فحارب الخوارج الذين رفضوا الدخول في طاعته وقتل كثيرًا منهم حتى كاد أن يفنيهم، وأذاع أنه يحارب الخوارج عن أمر الخليفة العباسي.
ولم يكتف يعقوب بحكم سجستان بل مد نفوذه إلى بوشنج وهراة وما والاها، واحتل نيسابور التي كان يحكمها الطاهريون، وضم إليه بلاد فارس وخراسان، وكرمان، والسند، وطبرستان، والري، وقزوين وأذربيجان وجنديسابور، والأهواز، حتى لقد هدد بغداد نفسها سنة ٢٥٧ هـ، فأسس بذلك ملكًا عريضًا في شرق الدولة الإسلامية.
34
والحق أن الملكات السياسية والمواهب الشخصية التي اتسم بها يعقوب بن الليث هي التي أتاحت له ما حقق من نجاح كبير في تأسيس دولته الجديدة، فقد امتاز باليقظة وحسن التدبير، والتفكير العميق في عواقب الأمور ونتائجها، والقدرة على اختيار رجاله وإعداد جيوشه الإعداد السليم؛ فلا عجب أن قال عنه المسعودي: " كانت سياسة يعقوب لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها ممن سلف من الملوك من الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف، وحسن انقيادهم لأمره، واستقامتهم على طاعته؛ لما قد شملهم من إحسانه، وغمرهم من بره، وملأ قلوبهم من هيبته ".
لا ريب أن الخلافة العباسية أوجست خيفة من يعقوب بن الليث الصفار، ورأت في اتساع ملكه تهديدًا خطيرًا لنفوذها، وكسرًا للقاعدة التي جرت عليها في تولية حكام الأطراف بناء على تفويض منها، فاعتبرت يعقوب متمردًا، وجمع الخليفة الحجاج القادمين من المشرق من خراسان والري وطبرستان وجرجان سنة ٢٦١ هـ وأعلمهم أنه لم يفوض يعقوب، وأن دخوله خراسان وقضاءه على الطاهريين لم يكن بأمره، ورد يعقوب على ذلك بمزيد من التحدي وقصد إقليم فارس فاستولى عليه سنة ٢٦١ هـ.
وبدأ يعقوب يفكر في الاستيلاء على بغداد فتحرك صوبها سنة ٢٦٢ هـ، مستغلًا انشغال الخلافة العباسية بالقضاء على ثورة الزنج، فرأت الخلافة استمالته وإرضاءه ريثما تفرغ من أمر الزنج، فأبي يعقوب مهادنة العباسيين وقال: إنه لا يرضيه إلا أن يسير إلى باب المعتمد.
والتقت جيوش العباسيين بجيش يعقوب في قرية " اصطر بند " على مقربة من واسط في رجب سنة ٢٦٢ هـ، وكان الخليفة العباسي المعتمد يقود الجيش بنفسه، ومعه أخوه طلحة في القلب.
وانجلى غبار المعركة عن هزيمة منكرة للصفار وجنده، وغنم جند الخليفة معسكره وتراجع يعقوب في فلوله، وتوفي بعد ذلك بقليل في سنة ٢٦٥ هـ.
خلف يعقوب بن الليث أخوه عمرو بن الليث، فبادر إلى استرضاء العباسيين
35
ومهادنتهم، فوثق به الخلفاء العباسيون حتى عهدوا إليه بولاية شرطة بغداد بالإضافة إلى حكم ولايات خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان، فقوي نفوذه واستقر ملكه.
وقد اتبع عمرو بن الليث نظامًا دقيقًا في مراقبة عماله وقواده، ورتب موارد دولته وعمل على تنميتها وزيادتها.
ولم يقنع عمرو بما استقام له من ملك ونفوذ على كثير من الولايات والممالك، فطمع في بلاد ما وراء النهر التي كانت تحت حكم الدولة السامانية.
والحق أن الخلافة العباسية هي التي أغرت عمرو بحرب السامانيين؛ إذ أرسلت إليه تفويضًا بحكم بلاد ما وراء النهر، وفي الوقت نفسه كتبت إلى الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني سرًّا تدعوه إلى حرب الصفار وتعده بتوليته على ما تحت يديه من بلاد.
ويقول ابن الفقيه موضحًا هذه الخطة: " كتب المعتضد إلى الصفار يأمره أن يطلب إسماعيل بن أحمد، وأنه قد ولاه عمله، وكتب إلى إسماعيل بمثل ذلك ".
وكان أن رفض الأمير إسماعيل الساماني تسليم بلاد ما وراء النهر، وكتب إلى عمرو بن الليث قائلاً: " إنك قد وليت دنيا عريضة، وأنا في يدي ما وراء النهر، وأنا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيمًا بهذا الثغر ".
وأسفر الصراع بين الجانبين عن هزيمة عمرو بن الليث الصفار ووقوعه في الأسر سنة ٢٨٧ هـ، وعامله الأمير الساماني معاملة كريمة، وخيره بين البقاء عنده أو إرساله إلى الخليفة فاختار السير إلى المعتضد، ولكن الخليفة أمر أن يشهر به ويلقى في السجن ثم قتله سنة ٢٨٩ هـ.
وقد تولى إمارة الدولة الصفارية -بعد عمرو بن الليث- طاهر بن مُحَمَّد بن عمرو بن الليث وكان صغيرًا لاهيًا عابثًا، فغلب عليه السبكري -غلام عمرو بن الليث- فاستبد
36
بالسلطة دونه، ولم يكن لهذا الأمير الصغير حول ولا طول، بل إن السبكري قبض عليه وعلى أخيه يعقوب، وأرسل بهما إلى بغداد سنة ٢٩٦ هـ، وبذلك خلا له حكم الدولة الصفارية.
ولم تكد الأمور تستقيم للسبكري حتى سار إليه الليث بن علي بن الليث وهزمه وطرده من فارس، وذلك سنة ٢٩٧ هـ، فاستنجد السبكري بالخليفة فسير جيشًا إلى الليث أوقع به الهزيمة، وعاد السبكري إلى ولاية الدولة الصفارية، لكنه تمرد على الخلافة العباسية، ورفض أداء الأموال إليها، فعملت على التخلص منه، فانتزعت منه فارس سنة ٢٩٨ هـ، فلجأ إلى سجستان، فسار إليه الأمير أحمد بن إسماعيل الساماني، فاستولى على سجستان وقبض على السبكري وعلى مُحَمَّد بن علي بن الليث الصفار وبعث بهما إلى بغداد سنة ٢٩٨ هـ، وبذلك قُضي على الدولة الصفارية قضاء لا قيام لها بعده.
ويسعنا -بعد هذا العرض الموجز- أن نرجع سقوط الدولة الصفارية إلى سببين اثنين:
الأول: جهود الدولة العباسية وحرصها على التخلص منها.
الثاني: الهزائم المتكررة التي ألمت بجيوشها، هذا بالإضافة إلى تمرد قوادها، وما ترتب على ذلك من ضعف للدولة وانهيارها في النهاية.
الدولة السامانية
قامت الدولة السامانية في " منطقة ما وراء النهر "، وتشمل جغرافيا المناطق الواقعة على جانبي نهر جيحون مباشرة وإلى الشمال منه قليلا، وينتسب سكان هذه الأقاليم إلى الجنس الفارسي، الآري -لغة ودمًا وثقافة- أما المناطق التي تقع إلى أقصى الشمال والشرق، فهي مناطق خاصة بالترك، وهم عنصر آخر يعرف بالعنصر الطوراني، وتسمى بلادهم تركستان.
ويرتبط هذا الإقليم بخراسان وسجستان جغرافيًّا وسياسيًّا؛ ولذلك اعتبر المقدسي هذه الأقاليم الثلاثة إقليمًا واحدًا أسماه بالمشرق.
ويشمل إقليم ما وراء النهر عدة كور منها: بخارى وأشروسنة والشاش وفرغانة وكش
37
ونسف والصغانيان والختل وخوارزم والترمذ.
أما الدولة السامانية فتنتسب إلى أسرة فارسية عريقة في المجد يرجع أصلها إلى بهران ابن جور.
ودخلت هذه الأسرة في الإسلام في العهد الأموي، في ولاية خالد القسري الذي كان مهتمًّا بأبناء الأسر الفارسية العريقة، وأدنى إليه سامان وأكرمه، فأسلم على يديه وولاه بلخ، فلما رزقه اللَّه بولده سماه أسدًا تيمنًا باسم هذا الوالي الكريم.
وظهر أبناء سامان الأربعة على مسرح الأحداث السياسية في عهد الخليفة المأمون فولي نوح بن أسد سمرقند في سنة ٢٠٤ هـ، وأحمد بن أسد فرغانة، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة، وإلياس بن أسد هراة، ولما ولي طاهر بن الحسين بلاد خراسان أقرهم في هذه الأعمال.
واشتهر من أبناء أحمد بن أسد إسماعيل ونصر. فخلف نصر أباه على سمرقند وما يليها من قبل الطاهريين حتى ولاه الخليفة العباسي المعتمد بلاد ما وراء النهر سنة ٢٦١ هـ.
ومن ثم تأسست الدولة السامانية، وولَّى نصر أخاه إسماعيل على بخارى.
ولم يلبث العداء أن أنشب أظفاره بين الأخوين إسماعيل ونصر، وكان إسماعيل -كما مر- ينوب عن أخيه في حكم بخارى، فآنس منه نصر طمعًا في المال واستئثارًا بالسلطة، فوقعت حروب بين الأخوين انتهت بانتصار إسماعيل سنة ٢٧٥ هـ، ولكنه أبدى إيثارًا وتعظيمًا كبيرًا لأخيه، فترجل عن جواده، وقبل ركابه وقال: إني مقر بأني أخطأت والذنب كله ذنبي، فبكى نصر لوفاء أخيه ورجع إلى سمرقند تاركًا إياه نائبًا عنه في بخارى.
وآل أمر الدولة السامانية بعد وفاة نصر بن أحمد الساماني إلى أخيه إسماعيل بن أحمد سنة ٢٧٩ هـ، ويمكننا أن نعتبر إسماعيل المؤسس الحقيقي للدولة السامانية، ففي عهده ظهرت الدولة بمظهر القوة، وقامت بدور كبير في إزالة الدولة الصفارية.
واستطاع إسماعيل بفضل كفايته السياسية والحربية أن يخضع لسلطانه بلاد ما وراء
38
النهر كلها، ونجح في أن يضم إلى دولته خراسان وبعض المناطق الإيرانية الأخرى، واتخذ من بخارى عاصمة لدولته.
وقد وصف ابن الأثير إسماعيل بن أحمد الساماني فقال: " إنه كان خَيِّرًا يحب أهل العلم والدِّين، ويكرمهم ".
وقال في موضع آخر: " إنه كان عاقلاً عادلاً حسن السيرة في رعيته، حليمًا. وحكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه، فمر به الأمير إسماعيل يومًا، والمؤدب لا يعلم به، فسمعه وهو يسب ابنه ويقول له: لا بارك اللَّه فيك ولا فيمن ولدك، فدخل إليه، فقال له: يا هذا، نحن لم نذنب ذنبًا لتسبنا فهل ترى أن تعفينا من سبك، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب، فخرج إسماعيل من عنده وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه ".
علاقة السامانيين بالخلافة:
تختلف الدولة السامانية في علاقتها بالخلافة العباسية عن الدولة الصفارية إلى حد كبير؛ فالصفاريون لم يعترفوا بسلطان الخليفة العباسي عليهم وتمردوا على نفوذه الروحي، بل سعوا إلى الاستيلاء على بغداد نفسها.
أما الدولة السامانية فنعمت بالاستقلال في ظل الولاء الإسمي للخلافة العباسية، بعد أن أثبتت تجربة الصفاريين فشل الحركات المناوئة للخلافة المتحدية لسلطانها، وتأكد أن الخلافة -حتى في أحلك ظروفها- كانت تتمتع بنفوذ روحي لا يستهان به، وأنها قادرة على تحريك الأحداث والإسهام فيها بالتدخل المباشر أو بالاستعانة بحلفائها. فوعى السامانيون هذا الدرس، واعترفوا بالنفوذ الروحي للخلافة، ورفعوا راية الجهاد في الثغور، وأبدوا تعاونًا مخلصًا مع الخلافة في مواجهة أعدائها.
ومن أمارات هذا الولاء الذي أبداه السامانيون للخلافة العباسية:
- تمسكهم بالمذهب السني الذي تدين به الدولة العباسية، ورفضهم إقامة علاقات مع الفاطميين عندما حاولوا استمالتهم إليهم.
- كما أقام السامانيون الخطبة للعباسيين ونقشوا أسماءهم على السكة، وحرصوا على إكساب حكمهم صفة شرعية بالحصول على تفويض منهم.
39
وفي المقابل بدأت الخلافة العباسية تثق في السامانيين وتطمئن إلى صدق ولائهم، فاتخذت منهم أنصارًا لها في المشرق خلفًا للطاهريين، وقد أشرنا قبل قليل إلى نجاح التحالف " العباسي الساماني " في القضاء على الدولة الصفارية التي هددت العباسيين تهديدًا مباشرًا.
كما أدى السامانيون دورًا آخر لصالح الخلافة العباسية، وهو التصدي للزيدية في طبرستان، وتمكنوا من إسقاط دولة الحسن بن زيد سنة ٢٨٧ هـ، ونجحوا في استمالة القائد الديلمي أسفار بن شيرويه فتخلى عن ولائه للزيدية، وانضم إليهم، وتكفل بإسقاط الدولة الزيدية الثانية سنة ٣١٦ هـ.
وكانت بخارى حاضرة الدولة السامانية في عهد الأمير إسماعيل، فقد شيدت فيها القصور المنيفة، والمنشآت الكبيرة، والمدارس الدِّينية، ووفد عليها العلماء من كل حدب وصوب؛ لما وجدوه من التشجيع والحفاوة.
وقد حكم إسماعيل أكثر من ثلاثين سنة، سار فيها سيرة حسنة في الرعية، فأرسى قواعد العدل والإحسان؛ ولذلك كان لا يتهاون مع عماله إذا ظلموا الرعية.
وكانت خراسان تنقسم إلى أربعة أقسام: قسم عاصمته نيسابور، وقسم عاصمته مرو، وثالث عاصمته هراة، والأخير عاصمته بلخ.
وأما بلاد ما وراء النهر فكانت تنقسم خمسة أقسام:
الأول: الصغد، ولها عاصمتان هما بخارى وسمرقند.
والثاني: خوارزم.
والثالثة صغانيان.
والرابع: فرغانة.
والخامس: الشاش.
وقد كان لعمال إسماعيل على هذه الولايات سلطات واسعة.
وقد توفي الأمير إسماعيل عام ٢٩٥ هـ، وبعد وفاته بدأت الدولة السامانية في الضعف والانحلال، وكان ذلك لعدة عوامل:
40
أولها: انقسام البيت الساماني على نفسه طمعًا في السيادة.
ثانيها: رجال الدولة السامانية الذين كانت لهم مطامع خاصة، فسعوا إلى تحقيق هذه المطامع على حساب الدولة.
ثالثها: ضعف أمراء آل سامان حتى أصبحوا ألعوبة في أيدي كبار رجال الدولة.
وترتب على ضعف الدولة السامانية ازدياد نفوذ الترك الذين كانوا مجرد خدم وأتباع، فتمكنوا من القضاء على الدولة السامانية وبسطوا نفوذهم كذلك على كثير من البلدان الإسلامية.
وبرغم ضعف الدولة السامانية بعد الأمير إسماعيل، فإنها ظلت قائمة حتى منتصف القرن الرابع الهجري، فقد تولى الأمير أحمد بن إسماعيل الحكم بعد أبيه، وحاول المحافظة على ملك الدولة السامانية قدر جهده، لكنه لم يستطع تخليص طبرستان من الأمير الحسن بن علي الزيدي الملقب بالأطرش الذي تغلب عليها وعلى بلاد الديلم، وهدى اللَّه على يديه نفرًا كثيرًا ممن لم يدخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد، فالتفوا حوله، وطردوا والي السامانيين من بلادهم.
وتُوُفيَ أحمد بن إسماعيل سنة ٣٠١ هـ إثر مؤامرة دبرت له، وولي من بعده ابنه نصر، وكان صغيرًا فتنافس أمراء البيت الساماني على الوصول إلى الحكم، فشق عليه عمه إسحاق بن أحمد عصا الطاعة، فاستقل بسمرقند، واستقل أبو صالح منصور بن إسحاق في نيسابور، ولكن نصرًا عاجلهم وقضى على ثورتهم. كما هزم العلويين الذين زاد خطرهم في طبرستان وقتل قائدهم، فاستطاع الأمير نصر بسبب هذه الانتصارات استعادة نفوذ الدولة السامانية على بلاد ما وراء النهر.
وتوفي الأمير نصر، فبدأ الانهيار الكامل للدولة السامانية، فاستقل الأمراء، كلٌّ بجهة معينة، فواجه الأمير نوح بن نصر الذي خلف والده مصاعب كثيرة، منها خروج أبي إسحاق أحمد في بخارى، وأبو علي الأصفهاني في نيسابور.
وأخطر ما واجهه غزو ركن الدولة البويهي لبلاد الري واستيلاؤه عليها، ولكن القائد الساماني أبا علي طرد منها البويهيين، لكنه انقلب على سادته واستقل بها، بل طمع في
41
إقليم خراسان. ومن ثم بدأ انحسار النفوذ الساماني فما عاد يتجاوز بلاد ما وراء النهر.
ومع ازدياد نفوذ البويهيين وضعف أمراء الدولة السامانية ازداد الانحسار، فألقى الأمراء السامانيون بأنفسهم في أحضان الدولة الغزنوية الناشئة، حتى آل أمر دولتهم جميعه إلى هذه الدولة، فسقطت بذلك الدولة السامانية بعدما حكمت بلاد ما وراء النهر وما جاورها قرابة قرن ونصف.
على أنه ينبغي أن نسجل للدولة السامانية عدة أمور تعد في ميزان فضائل هذه الدولة وأمرائها:
أولها: أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في عهد الدولة السامانية؛ حتى كانت بخارى، وسمرقند، وبلخ تحت حكمهم منارات للعلوم الدِّينية، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب.
ثانيها: انتشار الرخاء في عهدهم، واتباعهم سبيل الحق في حكمهم؛ حتى مدحهم المقدسي الذي رحل إلى بلادهم، فقال: إنهم أحسن سيرة، وهذا فضلاً عما عرف عنهم من إجلال للعلم وأهله، فقد كان من رسومهم ألا يكلفوا أهل العلم تقبيل الأرض بين أيديهم.
وقال في وصف أهل خراسان في العهد الساماني: إنهم من أشد الناس تمسكًا بالحق، وهم بالخير والشر أعلم.
كما أقر بعلمهم الكثير، وحفظهم العجيب، واستقرار الأمور في خراسان، وانتشار الرخاء فيها.
ثالثها: عدم قصر عنايتهم على العلوم الدِّينية، بل اهتم أمراء الدولة السامانية بالعلوم الطبيعية والأدبية، فقد نبغ علماء وشعراء في بلاط هذه الدولة، فنبغ الرودكي، أول شاعر غنائي في فارس، ومؤسس الملحمة التعليمية التي تعد من أخصب فروع الأدب الفارسي.
وابن سينا الفيلسوف الطبيب الذي بدأ يظهر إنتاجه في عصر منصور بن نوح الساماني ٣٥٠ هـ وبخاصة كتابه القانون في الطب.
42
ونسجل أيضًا في هذا المقام أن الماتريدي صاحب التفسير المحقق بين أيدينا عاش في سمرقند، ويمكننا القول: إنه عاش عمره كله في ظل الدولة السامانية، وما من شك في أنه تأثر بأحداثها، ونعم بخيرها، واستقرارها الفكري والعلمي، برغم ما حصل فيها من أحداث سياسية مضطربة في بعض المراحل، فكان ذلك من عوامل نبوغه في العلوم الدِّينية المختلفة، كما سنعرف في الباب الثاني من هذه الدراسة.
* * *
43
الفصل الرابع
نظام الحكم في الدولة العباسية
يقصد بنظام الحكم: أجهزة الدولة المختلفة التي تصرف أمورها، وتدبر شئونها، وتكون بمثابة حلقة الوصل بين الرعية وبين الحكام، وذلك حتى تنضبط حركة الحياة ويتمكن الناس من القيام بالوظائف المنوطة بهم على نحوٍ تتحقق به خلافة الإنسان في الأرض على الوجه المرضي.
والحديث عن نظام الحكم في أي عصر من عصور التاريخ ذو شعب ثلاث:
١ - النظام السياسي.
٢ - النظام الإداري.
٣ - النظام القضائي.
ولإعطاء القارئ صورة عن نظام الحكم في الدولة العباسية في الفترة محل الدراسة نعرض لهذه الأنظمة الثلاثة في شيء من الإيجاز:
أولاً: النظام السياسي:
ويتمثل هذا النظام فيما يلي:
أ - الخلافة:
عرف صاحب الأحكام السلطانية الخلافة بقوله: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا ".
كما عرفها ابن خلدون بأنها " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به ".
ومن البين أن التعريفين ينطويان على معنى الجمع بين السلطتين الدِّينية والدنيوية.
44
وقد كانت الخلافة في الدولة العباسية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
والخلفاء العباسيون يقتفون في ذلك أثر الأمويين الذين ابتدعوا مبدأ توريث الخلافة، بعد أن كانت شورى يتداولها المسلمون فيما بينهم دون قصرها على بيت دون بيت أو أسرة دون أسرة.
وامتاز نظام الحكم في العصر العباسي الأول بغلبة النزعة الاستبدادية عليه، فالخليفة العباسي يملك السلطات كلها في يده، على الرغم من أن أصحاب الدواوين أو البارزين من أصحاب البيت العباسي كانوا بمثابة مستشارين غير رسميين.
ودرج الخلفاء العباسيون على نظام تولية العهد أكثر من واحد، فقد عهد السفاح بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور ثم إلى أخيه عيسى بن موسى، وكذلك فإن المهدي عهد بالخلافة إلى ولديه الهادي ثم لهارون الرشيد، وأما هارون الرشيد فولى عهده أولاده الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، وقسم البلاد بينهم.
ولا ريب أن هذا النظام في ولاية العهد قد أثمر العداوة والبغضاء بين أبناء البيت العباسي بدافع المنافسة والرغبة في الظفر بمنصب الخلافة.
وقد آل أمر الخلافة العباسية منذ عهد المتوكل " ٢٣٢ - ٢٤٧ هـ " إلى حالة من الوهن والضعف، بسبب ازدياد نفوذ الأتراك ثم البويهيين والسلاجقة، وغدا الخلفاء العباسيون ألعوبة في يد هَؤُلَاءِ، وهو ما أشرنا إليه في المبحث الثاني من هذه الدراسة.
وعلى الرغم من ضعف الخلافة في عصر إمرة الأمراء وبني بويه، فقد استمر الخلفاء العباسيون يولون العهد أبناءهم، غير أن الأتراك والبويهيين من بعدهم كانوا لا يحفلون بهذا النظام إذ كان لا يتفق مع مصالحهم.
ب - الوزارة:
اقتبس العباسيون نظام الوزارة من الفرس، والحق أن الوزارة كاختصاص ومهام ولقب قد استحدثت في العصر العباسي، وإن عرفت كاختصاص فقط دون اللقب في العصر الأموي، فكان عبد الحميد بن يحيى بن سعيد كاتب مروان بن مُحَمَّد يقوم في الخلافة مقام الوزير من حيث تقريب الخليفة له واعتماده عليه في المشورة والرأي.
45
ولم تتضح مهام الوزارة وأعمال الوزير في صدر الدولة العباسية، ولكنها لم تلبث أن تحددت وصيغت الصياغة النهائية في أواخر العهد العباسي.
وكان أكثر وزراء الدولة العباسية من الفرس أو الترك، واشتهر من وزراء العصر الأول البرامكة وبنو سهل، ومن وزراء العصر الثاني بنو الفرات وبنو وهب وبنو الجراح.
وأرهبت قوة الدولة العباسية وحزم خلفائها الوزراء، فلم يستبدوا بأمر دون الخليفة، ولم ينفردوا برأي دون الرجوع إليه، بل كان الواحد منهم يتجنب أن يسمى وزيرًا بعد أن مات أبو الجهم على يد المنصور، فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ويأبى أن يسمى وزيرًا على الرغم من منزلته عند الخلفاء.
ولم يتردد الخلفاء العباسيون الأوائل في البطش بأي وزير يرون في تضخم نفوذه خطرًا على كرسي الخلافة، ومقتل أبي سلمة الخلال على يد السفاح، وأبي الجهم على يد المنصور، ونكبة البرامكة في عهد الرشيد أمثلة صادقة على قوة الخلافة، وتضاؤل نفوذ الوزراء إلى جوار الخلفاء.
ولقد عرف العصر العباسي شكلين من أشكال الوزارة:
الأول: وزارة تنفيذ: وهي التي تقتصر مهمة الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة وعدم التصرف في شئون الدولة من تلقاء نفسه.
الثاني: وزارة تفويض: وهي أن يكل الخليفة الوزارة إلى شخص يثق فيه، ويفوض إليه النظر في أمور الدولة والتصرف في شئونها دون الرجوع إليه.
ومن أشهر وزراء التفويض: آل برمك وآل سهل والفضل بن الربيع.
ولما ضعفت الخلافة العباسية ودب الوهن في أوصالها، تزايد نفوذ الوزراء وتعاظم خطرهم، وقويت المنافسة على كرسي الوزارة.
ولم يكد البويهيون يستولون على بغداد سنة ٣٣٤ هـ حتى استبدوا بالسلطة دون الخلفاء العباسيين وقضوا على نفوذ الوزراء وحلوا محلهم، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء اشتهر بعضهم كأبي الفضل مُحَمَّد بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه.
46
ج - الكتابة:
اقتضى تطور منصب الوزارة وتشعب أعماله استحداث نظام جديد يعاون موظفوه الوزير في الإشراف على الدواوين وإدارة شئونها، وهو نظام الكتابة.
ووجد في هذا العصر كاتب للرسائل، وكاتب للخراج، وكاتب للجند، وكاتب للشرطة.
ومهمة كاتب الرسائل: إذاعة المراسيم والبراءات وتحرير الرسائل السياسية وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في الصيغة النهائية وختمها بخاتمه، كما كان يجلس مع الخليفة في مجلس القضاء للنظر في المظالم وختم الأحكام بخاتم الخليفة.
واشتهر من كتاب الدولة العباسية: يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع والفضل بن سهل والحسن بن سهل، وأحمد بن يوسف ومُحَمَّد بن عبد الملك بن الزيات.
د - الحجابة:
استحدث الأمويون وظيفة سياسية جديدة في بلاطهم هي الحجابة، ومهمة الحاجب: حجب الخليفة عن الناس، وتنظيم دخول الرعية عليه وفقًا لمنازلهم الاجتماعية، ومراتبهم في الدولة.
ولعل الأمويين قد خافوا على أنفسهم من الرعية بعد حادثة الخوارج مع علي ومعاوية وعمرو بن العاص.
وقد حذا العباسيون حذو الأمويين في اتخاذ الحجاب، بيد أن مرتبة الحاجب قد ارتقت وزادت مكانته في بلاط العباسيين، فأصبح يستشار في كثير من أمور الدولة، ويستبد بالنفوذ دون الوزير ويلزم أصحاب الدواوين بالرجوع إليه.
ثانيًا: النظام الإداري:
أ - تعيين الولاة:
امتاز النظام الإداري في العصر العباسي الأول بالمركزية التي غدا معها ولاة الأقاليم
47
مجرد عمال لا ولاة ينفردون بالسلطة المطلقة، وهو ما يفرق بين النظام الإداري العباسي والأموي، حيث كان ولاة الدولة الأموية يتمتعون بنفوذ كبير وسلطة لا يغلها استبداد الخليفة، فلا غرو أن اقتصرت وظيفة الوالي في بداية تاريخ الدولة العباسية على الصلاة وقيادة الجند.
ودرج الخلفاء العباسيون على اختيار العمال أو الولاة من بيت أفراد البيت العباسي أو من بين كبار القادة، " غير أن هَؤُلَاءِ وأُولَئِكَ آثروا البقاء في بغداد أو في سامراء، وأنابوا عنهم نوابًا يحكمون هذه الولايات باسمهم. ولم يكن هذا التقليد شديد الخطر على الدولة العباسية وهي في قوتها، على أنه لما ضعفت السلطة المركزية ساءت الحالة في هذه الولايات، وجنح بعض نواب الولاة إلى الاستقلال، فظهرت في مصر الدولتان الطولونية والإخشيدية، وظهرت في المشرق الدول: الطاهرية، والصفارية والسامانية ".
ب - الدواوين:
كلمة الديوان كلمة فارسية تعني السجل يكتب فيه ما يختص بشئون الإدارة. ثم أصبحت تدل على المكان الذي يعمل فيه الكُتَّاب على اختلاف مهامهم.
وتشبه الدواوين في نظامها وأعمالها الوزارات في العصر الحاضر.
وأول من دون الدواوين في الدولة الإسلامية هو عبد الملك بن مروان. ثم كثرت الدواوين في العصر العباسي لتنظيم شئون الدولة، ومنها: ديوان الخراج، وديوان الجند، وديوان الموالي والغلمان، وديوان البريد، وديوان زمام النفقات، وديوان الدية، وديوان الرسائل، وديوان الحوائج، وديوان المنح، وديوان الأكرة للإشراف على الترع والجسور وشئون الري.
ويرجع الفضل في تنظيم إدارة الدواوين في العصر العباسي الأول إلى خالد بن برمك، كما يرجع الفضل في إنشاء ديوان الزمام إلى المهدي لجمع ضرائب العراق، وهو أول من أحدث هذا الديوان.
48
ج - البريد:
أَوْلَى الخلفاء العباسيون نظام البريد عناية كبيرة وحفاوة بالغة تتلاءم مع ما عسى أن يقدمه صاحب البريد من معلومات عن الأمصار والولاة، فهو بمثابة جهاز المخابرات في الدول الحديثة.
وكان لديوان البريد محطات على طول الطريق، وظل الحمام الزاجل مستخدمًا في نقل الرسائل حتى عهد الخليفة المعتصم.
وكان البريد خاصًّا بأعمال الدولة لا لنقل رسائل الجمهور، ومن ثم كان مصلحة من مصالح الدولة الخاصة، فكان صاحب البريد يراقب العمال، ويتجسس على الأعداء، ويقوم بالأعمال التي يقوم بها رئيس قلم المخابرات في وزارة الدفاع الآن، وكانت مهمة صاحب البريد أول الأمر توصيل الأخبار إلى الخليفة من عماله في الأقاليم، ثم توسعوا فيه حتى جعلوا صاحبه عينًا للخليفة ينقل أوامره إلى ولاته كما ينقل أخبار ولاته إليه.
٤ - الشرطة:
اعتمد الخلقاء على الشرطة في حفظ الأمن، ونشر الاستقرار والضرب على أيدي المجرمين والمفسدين.
وألحقت الشرطة في أول الأمر بالقضاء؛ لأنها تقوم على تنفيذ الأحكام القضائية وصاحبها يتولى إقامة الحدود، ثم لم تلبث أن غدت نظامًا مستقلاً.
وكان صاحب الشرطة يُختار من علية القوم وذوي العصبية والناس؛ حتى يكون قادرًا على ضبط المجرمين وإقامة الحدود، وتنفيذ العقوبات.
وصاحب الشرطة يختار له مساعدين يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه.
ثالثًا: النظام القضائي:
ويشتمل على: القضاة، والنظر في المظالم، والحسبة.
أ - القضاة:
عرف منصب القضاء في الدولة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية. وكان القاضي يصدر في أحكامه عن كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم عن رأيه
49
واجتهاده.
فلما كانت الدولة العباسية، وتقررت المذاهب الفقهية المختلفة، غدا كل قاض يصدر في أحكامه عن مذهب منها، ويُعَوِّل في الفصل بين الناس عليه. كما استحدثت الدولة العباسية منصب " قاضي القضاة "، وأول من تلقب بهذا اللقب أبو يوسف في عهد هارون الرشيد.
وكان القضاة في العصر العباسي ينظرون في القضايا المدنية والدعاوى والأوقاف، وتنصيب الأوصياء، وأحيانًا المظالم والقصاص وبيت المال.
ب - النظر في المظالم:
ويختص صاحب المظالم بالنظر في القضايا التي عجز القضاة عن الفصل فيها، وكان يتولى النظر في المظالم -أحيانًا- الخلفاء أنفسهم، فكان بعض خلفاء بني العباس يجلس لهذا الأمر؛ ليحكم في المظالم.
كما كان يرأس محكمة المظالم -إن لم يكن رئيسها هو الخليفة- الوالي أو من ينوب عنه.
وكان صاحب المظالم يعين للناس يومًا يقصدونه فيه، أو أسبوعًا كاملاً يفرغ لهم فيه.
وتنعقد محكمة المظالم في الأعم الأغلب في المسجد، وكان يحضرها خمس جماعات لابد من حضورهم هم:
أ - جماعة الحماة أو الأعوان: ومهمتهم التغلب على من يلجأ إلى العنف أو يحاول الفرار.
ب - جماعة الحكام: ومهمتهم الإحاطة بما يصدر من الأحكام لرد الحقوق إلى أهلها، والعلم بما يجري بين الخصموم.
ج - جماعة الفقهاء: الذين يرجع إليهم صاحب المظالم فيما أشكل عليه.
د - جماعة الكتاب: ويقومون بتدوين أقوال الخصوم.
هـ - الشهود.
ويختلف اختصاص صاحب المظالم عن اختصاص القاضي في عدة أمور:
أولها: صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يقيمها الأفراد على الولاة وعمال
50
الخراج.
ثانيها: صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يعجز عنها القاضي.
ثالثها: صاحب المظالم يحكم في القضايا التي تتعلق بإقامة العبادات كالحج والأعياد والجمع والجهاد.
ج - الحسبة:
وضع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب نظام الحسبة في الإسلام، ويعني هذا النظام: النظر فيما يتعلق بالنظام العام من أمور تقتضي الفصل فيها على وجه السرعة.
ومن وظائف المحتسب أنه: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحافظ على الآداب العامة، ويشرف على نظام السوق، ويستوفي الديون ويراقب المكاييل والموازين تجنبًا للتطفيف، ويعاقب العابثين... إلخ.
بيد أن مصطلح الحسبة لم يستخدم أو يتداول في العصر العباسي بالرغم من تطبيق مفهومه.
* * *
51
الفصل الخامس
الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي
لا مرية في أن الأوضاع الاجتماعية في عصر من العصور تؤثر تأثيرًا كبيرًا في أفراد المجتمع عامتهم وخاصتهم على السواء، ولعل أكثر الطبقات الاجتماعية تأثرًا بهذه الأوضاع هم العلماء؛ فهم أكثر اتصالاً بحياة الناس وأشد اهتمامًا بشئونهم ورغبة في معرفة مشاكلهم والقضاء عليها.
ومرادنا من دراسة الحالة الاجتماعية: بيان طبقات المجتمع من حيث: الجنس، والدِّين، وما يربط هذه الطبقات بعضها ببعض من صلات وأواصر دينية أو اقتصادية أو اجتماعية.
كما تُعني دراسة الأوضاع الاجتماعية عناية فائقة بمظاهر الحياة في المجتمع.
وتنتظم دراستنا للحالة الاجتماعية للفترة التاريخية التي نحن بصددها مبحثين اثنين هما:
المبحث الأول: سكان الدولة العباسية.
المبحث الثاني: مظاهر الحياة الاجتماعية.
* * *
52
المبحث الأول
عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي
تنوع سكان الدولة العباسية تنوعًا كبيرًا، واختلفت عناصرهم وطبقاتهم أشد ما يكون الاختلاف، وانصهرت جميعها في بوتقة المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي.
وهذه العناصر هي:
١ - العنصر العربي:
وقد أفاضت الدولة الأموية على العرب تميزًا في المكانة الاجتماعية والاقتصادية، حيث آثرتهم بالمناصب السياسية وقصرتها عليهم، ونظرت بعين الازدراء للعناصر الأخرى، وحرمتها من المشاركة السياسية الفاعلة.
أما الدولة العباسية فقامت على أكتاف الموالي من الفرس، وبرزت إلى الوجود بفضل مناصرتهم وتأييدهم، فلا غرو أن قدمهم العباسيون وآثروهم بالمناصب وأجروا عليهم الأعطيات السخية، وفي المقابل تأخر العرب وصارت منزلتهم دون منزلة الفرس بكثير، وحسبك دليلاً على صحة ذلك أن المعتصم " ٢١٨ - ٢٢٥ هـ " أخرج العرب من ديوان العطاء.
ولقد عبر الجاحظ عن هذه الحالة في عبارة موجزة فقال:
" دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية ".
٢ - العنصر الفارسي:
وقد أشرنا قبل قليل إلى تميز مكانة الفرس لدى الخلفاء العباسيين، فأسندوا إليهم المناصب الهامة، واعتمدوا عليهم اعتمادًا كبيرًا في تصريف شئون دولتهم.
وتخبرنا المصادر التاريخية أن أول من استعملهم هو الخليفة أبو جعفر المنصور، فاستن بسنته في استعمالهم الخلفاء العباسيون من بعده حتى بلغ نفوذهم ذروته في عهد هارون الرشيد، فكان مدبر أمر دولته آل برمك وأصولهم ساسانية.
وكذلك انتصر المأمون للفرس وأدناهم إليه واعتمد عليهم في حرب أخيه الأمين، فلما انتصر على أخيه وآل أمر الملك إليه بفضل نصرة الفرس له قربهم أكثر، فازدادوا نفوذًا وتدخلاً في شئون الخلافة العباسية.
53
٣ - العنصر التركي:
ازداد نفوذ الفرس في الدولة العباسية، وأصبحوا يمثلون خطرًا كبيرًا على سلطة الخلفاء العباسيين، فلم يجد العباسيون مناصًا من الاعتماد على عنصر جديد يثقون في ولائه ومناصرته لهم، فاستعان المعتصم بالعنصر التركي وأدخله إلى المجتمع العباسي. غير أن هذا العنصر استبد بالأمور دون الخلفاء منذ عصر المتوكل " ٢٣٢ - ٢٤٧ هـ "، وغدا الترك أصحاب السلطان الحقيقي في الدولة، والخلفاء ألعوبة في أيديهم.
٤ - المولدون:
نشأ نتيجة الاختلاط بين العناصر السابقة عنصر جديد لم يكن موجودًا من قبل، وهذا العنصر هو المولدون، وكان لهَؤُلَاءِ مميزات وصفات مختلفة في أجسامهم وعقولهم وأفكارهم، وأثر لا ينكر في الحياة الاجتماعية والعلمية.
٥ - اليهود والنصارى:
وعلى الرغم من أن هَؤُلَاءِ كانوا قلة في المجتمع العباسي إلا أنهم تمتعوا بكافة الحقوق في ظل التسامح الدِّيني الذي دعا إليه الإسلام، فكانوا يقيمون شعائرهم الدِّينية في حرية كاملة، ويعيشون في طوائف منفصلة عن بعضها مختلطين مع المسلمين، فلم يكن لهم في المدن الإسلامية أحياء مخصصة إلا إذا آثروا الحياة في أحياء خاصة بهم، فتتكون تلقائيًّا لهم أحياء خاصة.
طبقة الرقيق:
كثرت هذه الطبقة في المجتمع العباسي كثرة ظاهرة، فنشأت أسواق خاصة بهم في بغداد، وامتلأت قصور الخلفاء والأغنياء والحكام بالجواري. كما عني العباسيون بتهذيبهن وتعليمهن ضروبًا من الفنون لا سيما الشعر والغناء.
ونَعِمَ الرقيق في ظل الدولة العباسية بكافة حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها سائر طبقات المجتمع من الأحرار، وحسبك دليلاً على صدق ما نقول أن كثيرًا من أمهات الخلفاء العباسيين كن من الرقيق.
وكان ذلك بفضل ما أرساه الإسلام من مبادئ العدل والمساواة دون تمييز بين عربي وعجمي أو حر وعبد، فالكل سواء في الحقوق الإنسانية.
54
هذا عن العناصر السكانية في المجتمع العباسي عامة أما بلاد وراء النهر -مسقط رأس الماتريدي- فإن غالبية السكان فيها كانوا من الفرس والترك، وثمة طوائف عربية استوطنت هذه البلاد على أثر الفتوحات الإسلامية، فاندمجوا مع سكان البلاد الأصليين، الذين دخل منهم في الإسلام من دخل، وبقي منهم على دينه بقي، متمتعًا في ظل الإسلام بكافة الحقوق الإنسانية.
* * *
55
المبحث الثاني
مظاهر الحياة الاجتماعية
امتازت الحياة الاجتماعية في عصر الماتريدي بمظاهر عدة، لعل أبرزها:
- ظهور حركة الشعوبية.
- ظاهرة الزندقة.
- غلبة اللهو والترف على المجتمع.
أولاً: الشعوبية:
نشأت ظاهرة الشعوبية كنتيجة طبيعية للصدام السياسي والحضاري بين العرب والموالي، فتعصب العرب لجنسهم واحتقروا الموالي، وتعصب الموالي -الفرس والترك- لأرومتهم، ورأي الفرس أنهم ذوو سابقة في الحضارة والمدنية وأن العرب طارئون على هذه الحضارة.
وغلبت هذه النزعة من العصبية على الدولة العباسية وأذكى نيرانها مساندة العباسيين للموالي وتقديمهم إياهم على العرب.
وبلغت الشعوبية ذروة خطورتها في القرن الثالث الهجري، حيث نشط الفرس في الهجوم على العرب والتفتيش عن مثالبهم، وتجريدهم من كل ميزة وفضيلة، وربما ساعد على ذلك أن الخلفاء العباسيين لم يتعصبوا للعرب كجنس بقدر ما تعصبوا للإسلام كدين يسوي بين الناس في الحقوق والواجبات، ولا يرى للعرب فضلاً على سائر الأجناس إلا بالتقوى.
وثمة نزعات ثلاث تألفت ظاهرة الشعوبية من مجموعها:
النزعة الأولى: وتذهب إلى أن العرب خير الأمم؛ لأنهم ظلوا ينعمون بالاستقلال والحرية، بالرغم من أنهم كانوا يتاخمون أكبر دولتين: الفرس والروم، كما أنهم يتمتعون بصفات أخلاقية امتازوا بها عن غيرهم، كالكرم والوفاء والنجدة، بالإضافة إلى أن الإسلام -وهذا هو العامل الأهم- نزل بأرضهم، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منهم، وهم حاملو لواء دعوته إلى الناس، فكل من أسلم ففي عنقه للعرب منَّة لا تقدر.
النزعة الثانية: ترى أن العرب ليسوا بأفضل الأمم، فالأمم كلها متساوية، يؤيد ذلك قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
56
ويمثل هذه النزعة وينتصر لها العلماء والصالحون من العرب العجم جميعًا.
النزعة الثالثة: يؤمن أصحاب هذه النزعة بأفضلية العجم على العرب، ويفندون الحجج التي ارتكز عليها أصحاب النزعة الأولى في تفضيل العرب، فيقولون: إن الإسلام ليس دينًا عربيًّا أنزله اللَّه لهداية العرب وحدهم، بل هو دين عام للناس أجمعين، ودعوته موجهة لكل الأجناس، وليس للعرب ما يمتازون به عن غيرهم.
وما افتخروا به من سجايا كريمة وشيم نبيلة كالكرم والوفاء والنجدة وغيرها، ليست قصرًا عليهم بل يشاركهم فيها سائر الأمم.
وقد أطلقت الشعوبية على هذه النزعة الأخيرة حتى غدت مرادفة لها، فصنف العجم كتبًا في مثالب العرب ومناقب العجم، بل تجرأ الشعوبيون فوضعوا الأحاديث ونسبوها زورًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، إثباتًا لفضيلة العجم.
ثانيًا: الزندقة:
لعل من الأسباب التي أدت إلى شيوع الزندقة وقوة تيارها في العصر العباسي: نشاط الحركة العلمية العقلية في هذا العصر؛ إذ لم يقتصر البحث على العلوم الدِّينية النقلية من جمع أحاديث وتفسير للقرآن، واستنباط للأحكام الشرعية، بل تعداها إلى دراسة المنطق والكلام والفلسفة وغيرها من العلوم التي تثير في النفس والعقل من الحيرة والشك أكثر مما تثبت فيهما من الإيمان واليقين.
وكذلك فإن كثيرًا من الفرس ساءهم ألا يحققوا ما يطمحون إليه من مطامع، ورأوا أن الإسلام ما دام قويًا، فلن يتحقق لهم ما يرنون إليه؛ ولذلك عملوا على هدم الإسلام من داخله عن طريق نشر المبادئ المانوية والزرادشتية والمزدكية، فكان ذلك عاملاً مباشرًا أسهم في ذيوع الزندقة وانتشار أفكارها الهدامة.
وتعني الزندقة اعتناق الإسلام ظاهرًا، واعتناق أديان الفرس باطنًا، وخاصة مذهب ماني، وإنما أظهروا الإسلام رغبة في إفساده وهدم تعاليمه، أو لنيل الجاه والظفر بالسلطان.
واجتهد الخلفاء العباسيون في تعقب الزنادقة ومحاكمتهم، كما شجعوا المتكلمين وأهل الجدل على تأليف الكتب للرد على الزنادقة، وأمر الخلفاء بمناظرتهم واستتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا.
57
وأوصى الخليفة المهدي ابنه وولي عهده موسى الهادي - إذا آل إليه أمر الخلافة من بعده- بتعقبهم والقضاء عليهم.
واستحدث هارون الرشيد وظيفة جديدة سمى صاحبها بـ " صاحب الزنادقة " مهمته امتحان كل من يتهم بالزندقة ومحاكمته إن ثبتت عليه التهمة.
وذكر الطبري والمسعودي أن المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة في البصرة، فبعث إليهم، وامتحنهم واحدًا واحدًا، وأظهر لهم صورة ماني، وأمرهم أن يتفلوا عليها ويبرءوا منها، فلما أبوا أمر بهم فقتلوا.
وثمة نزعة إيمانية صادقة ظهرت كردِّ فعل لنزعة الإلحاد والزندقة، حيث كثر العلماء المؤمنون الذين وقفوا حياتهم على خدمة الدِّين، والتمسك بآدابه ومبادئه. وفي الحق أن هذه النزعة الإيمانية كانت هي الغالبة على المجتمع العباسي؛ إذ كان الزنادقة قلة إذا قيسوا بالمؤمنين الأتقياء.
ثالثًا: حياة الترف واللهو:
تدفقت الثروة وعم الرخاء في الدولة العباسية، فانغمس كثير من الخلفاء والأمراء في حياة الترف والمجون، بل أصبح الترف سمة امتازت بها حياة كثير من الناس في هذا العصر، وقد تجلت مظاهر الترف واللهو في عدة أمور أبرزها:
أ - القصور المنيفة التي شيدت على أحسن طراز، فقد كانت قصور الأمراء والخلفاء مضرب الأمثال في رونقها وبهائها، وفخامة بنائها واتساعها، والحدائق التي تحيط بها.
ب - شاع الغناء في هذا العصر، وكثر المغنون، حيث حفلت قصور الأمراء بالمغنين من الجواري، واشتهر من المغنين عدد غير قليل لعل أبرزهم إبراهيم بن إسحاق الموصلي.
وحذا الأمراء والوزارء حذو خلفاء الدولة العباسية في الانغماس في حياة اللهو والترف، وقد أوجدت هذه الحالة جماعة متطوعة تنكر على الفساق ببغداد، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأثمرت حياة اللهو كذلك حياة مقابلة لها هي حياة الزهد التي سلكها بعض الناس.
* * *
58
الفصل السادس
الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي
كان الإسلام محور الحركة العلمية وأساسها الأول حتى أواخر العصر الأموي، فالعلوم التي يتدارسها المسلمون ويعنون بتدوينها وجمع مسائلها علوم دينية مادتها مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وغايتها خدمة الإسلام ودعم أصوله وأركانه.
فمبنى الفقه على الكتاب والسنة الصحيحة، ومدار الحديث على أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله المأثورة عنه، وأساس التاريخ سيرة النبي وغزواته.
أما العلوم الدنيوية: كالطب والكيمياء فحظ المسلمين من الاشتغال بها قليل، واهتمامهم بها ضعيف، وأكثر من برعوا فيها واهتموا بها من غير المسلمين.
أما الدولة العباسية فمعلوم لكل أحد أن الحركة العلمية نشطت في عصرها نشاطًا كبيرًا، وتنازعت العلوم الدِّينية والعلوم العقلية اهتمام المسلمين وعنايتهم، فكثر التدوين والتصنيف ورتبت مسائل العلوم، وميِّز كل علم عن غيره واستقل بموضوعه ومنهجه، واستحدثت علوم جديدة كعلم التفسير والحديث وأصول الفقه، وعني المسلمون بترجمة العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة والكيمياء عن اليونان والهند.
فلا غرو أن أثرى هذا النشاط الحركة العلمية في عصر الدولة العباسية -عصر الماتريدي- ثراء عظيمًا، حتى عد هذا العصر بحق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية القائمة على العلم الدِّيني والدنيوي على سواء.
ويمكننا أن نتلمَّس ملامح الحركة العلمية ونقف على آثارها ونتائجها ببيان أهم العلوم التي دونت في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
العلوم المدونة في القرنين الثالث والرابع الهجريين
وعُني المسلمون منذ مطلع القرن الثالث الهجري بتدوين العلوم وجمع مسائلها وترتيب أبوابها، واتسعت دائرة اهتمامهم العلمي لتشمل إلى جانب العلوم الدِّينية العلوم العقلية، وفيما يلي نعرض بإيجاز لأبرز هذه العلوم:
١ - علم القراءات:
القراءات: جمع قراءة، وهي في اللغة: مصدر سماعي لقرأ، وفي الاصطلاح: مذهب
59
يذهب إلى إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئتها.
ونستطيع أن نقول: إن الدافع وراء اهتمام المسلمين بهذا العلم والتصنيف فيه خشية جماعة القراء من أن تتأثر قراءة القرآن باللكنة الأعجمية لا سيما بعد دخول الفرس في الإسلام أفواجًا، ومن ثم اهتم هَؤُلَاءِ بضبط القراءات القرآنية وجعلوها علمًا كسائر العلوم.
وبرز في علم القراءات رجال كثيرون، من أشهرهم:
١ - عبد اللَّه بن عامر بدمشق، توفي ١١٨ هـ.
٢ - عبد اللَّه بن كثير بمكة (توفي: ١٢٠ هـ).
٣ - أبو بكر عاصم بن أبي النجود بالكوفة، توفي ١٢٨ هـ.
٤ - حمزة بن حبيب الزيات بالكوفة، توفي ١٥٦ هـ.
٥ - أبو عمر بن العلاء المازني بالبصرة (توفي: ١٦٤ هـ).
٦ - نافع بن أبي نافع بالمدينة (ت: ١٦٧ هـ)، وأخذ عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش (توفي ١٩٧ هـ)، وهو الذي يقرأ له أهل المغرب.
٧ - أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي بالكوفة، توفي ١٨٩ هـ.
وهَؤُلَاءِ هم المعروفون بالقراء السبعة الذين فاقوا غيرهم في الإتقان والضبط، ويليهم في الشهرة:
٨ - أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، توفي ١٣٠ هـ.
٩ - يعقوب بن إسحاق الحضرمي، توفي ٢٠٥ هـ.
١٠ - خلف بن هشام البزار توفي ٢٢٩ هـ.
وقراءات ما عدا هَؤُلَاءِ العشرة قراءات شاذة.
والحق أن أول من تتبع وجوه القراءات، وتقصى أنواع الشاذ منها، وبحث أسانيدها وميز فيها الصحيح من الموضوع هارون بن موسى القاري، (ت: ١٧٩ هـ). أما أول من صنف في القراءات فهو أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: ٢٤٤ هـ).
وخليق بنا أن نسجل في هذا المقام الملاحظة التالية، وهي أن أكثر القراء وأشهرهم وأبرز من دونوا في علم القراءات قد ظهروا في العصر العباسي، وفي الفترة التاريخية التي
60
نحن بصددها تحديدًا، عصر الماتريدي.
ولا ريب أن تدوين القراءات وتأصيل مسائلها عاملٌ مهم أورث حركة التشريع الإسلامي شيئًا غير قليل من القوة والازدهار.
٢ - علم التفسير:
سيأتي بمشيئة اللَّه تعالى الكلام عن بيان مفهوم علم التفسير عند الحديث عن التفسير ومناهج المفسرين وكذلك سيأتي الحديث عن نشأة علم التفسير وتطوره، إلا أننا نقول هاهنا في عجالة سريعة إن علم التفسير نشأ في أول أمره فرعًا من فروع الحديث، حيث كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر القرآن لأصحابه ويبين لهم معانيه الخافية عنهم، ثم عني الصحابة من بعده بتفسير القرآن، وأُثِرَتْ عنهم آراء كثيرة في التفسير وأقوال كانت أساسًا صالحًا قامت عليه المدارس التفسيرية فيما بعد.
وقد تطور علم التفسير في عصر التابعين، فجاءت طبقة جمعت الأقوال التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين، شأنهم في ذلك شأن المحدثين، كما رحل بعض العلماء لجمع روايات التفسير من الأمصار المختلفة.
ولم يلبث علم التفسير أن انفصل عن علم الحديث، في العصر العباسي، وقام المفسرون بترتيب الروايات التفسيرية وفق ترتيب السور والآيات، ويذكر ابن النديم: أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفراء صاحب كتاب " معاني القرآن " المتوفى سنة ٢٠٧ هـ، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه، فقام الفراء بذلك فوضع كتابًا في التفسير.
ثم وضع ابن جرير الطبري بعد ذلك تفسيرًا، عمادُه الروايات التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين، بيد أنه أضاف إلى تفسيره شيئًا من التفسير بالرأي.
فمنذ ذلك التاريخ غدا القرآن الكريم معينًا خصبًا لكثير من العلوم، فعلماء النحو اعتمدوا عليه في استنباط القواعد النحوية، وألفوا كتبًا في إعراب المشكل من آياته، وعني أهل اللغة بتفسير مفرداته وشرح معانيه، كما عَوَّل عليه الفقهاء في بناء آرائهم وتأسيس مذاهبهم الفقهية، وصنفت كتب في تفسير آيات الأحكام، وأخذ العلماء يفسرون القرآن،
61
كل بما يتفق مع رأيه، حتى علماء الكلام أَوَّلُوا بعض الصفات بما يتفق مع آرائهم.
٣ - الحديث وعلومه:
علم الحديث هو علم يشتمل على أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها.
ولم يدون الحديث النبوي الشريف تدوينًا منظمًا إلا منذ مطلع القرن الثاني الهجري وقبل هذا التاريخ كان الصحابة يكتبون منه ما استقامت لهم سبل الكتابة وتيسرت أسبابها، غير أن تدوينهم كان تدوينًا خلا من النظام والترتيب.
ومن أشهر من كتب الحديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، حتى قال فيه أبو هريرة: " ما من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحد أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب ".
ثم رأى عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يجمع حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جمعًا منظمًا ويدونه تدوينًا مستوعبًا، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر مُحَمَّد بن عمرو بن حزم: " أن انظر ما كان من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسننه فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ".
ومنذ ذلك التاريخ بدأت عناية المسلمين بتدوين الحديث تقوى وتشتد، وبرز في ميدان جمع الأحاديث أسماء كثيرة نذكرها بكل إجلال وتقدير، وتوزع هَؤُلَاءِ على الأمصار الإسلامية المختلفة:
ففي مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المتوفى سنة ١٥٠ هـ.
وفي المدينة مُحَمَّد بن إسحاق المتوفى سنة ١٥١ هـ، ومالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ هـ.
وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة ١٦٠ هـ وحماد بن سلمة المتوفى سنة ١٧٦ هـ.
وفي الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة ١٦١ هـ.
وفي الشام الأوزاعي المتوفى سنة ١٥٧ هـ.
62
وفي اليمن معمر بن راشد المتوفى سنة ١٥٣ هـ.
وفي خراسان عبد اللَّه بن المبارك المتوفى سنة ١٨١ هـ.
وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة ١٧٥ هـ.
وكانت طريقتهم في التدوين تعتمد على وحدة الموضوع في أبواب منفصلة يحتوي كل باب على الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، فجمعت أحاديث الصلاة في باب، والزكاة في باب آخر، وهكذا.
ومن أشهر هذه المصنفات موطأ الإمام مالك.
ثم جاءت طبقة أخرى من علماء الحديث انتهجت نهجًا آخر، فكتبت السنة على طريقة المسانيد، وأساسها وحدة الراوي وإن اختلف الموضوع، ومن أشهر المسانيد مسند الإمام أحمد.
وفي القرن الثالث الهجري جاءت طبقة أخرى، وجدت أمامها ثروة عظيمة من الأحاديث، فاتبعت أسلوب الانتقاء والاختيار، فألفت ما عرف بالصحاح، وأفردت الحديث عن غيره من فتاوى الصحابة وأقوالهم، وفي طليعة كتب الصحاح: صحيح البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ هـ، وصحيح مسلم المتوفي سنة ٢٦١ هـ، وحذا حذو البخاري ومسلم الإمام أبو داود المتوفى سنة ٢٧٥ هـ، وأبو عيسى الترمذي المتوفى سنة ٢٧٩ هـ، وابن ماجه المتوفى سنة ٣٠٣ هـ وغيرهم.
ووجد بجانب المحدثين فريق من العلماء توفروا على نقد رواة الحديث، وجرح بعضهم وتعديل البعض الآخر، وعرفوا بعلماء الجرح والتعديل.
قال الذهبي: أول من زكى وجرح من التابعين -وإن كان قد وقع ذلك قبلهم- الشعبي وابن سيرين؛ حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين.
وذلك لأن الصحابة كانوا عدولا، وكبار التابعين الآخذين عنهم كانوا ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور، والمختار الكذاب.
فلما مضى القرن الأول، وجاء القرن الثاني، كان من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين كان ضعفهم من قبل تحملهم وضبطهم، فتراهم يرفعون الموقوف، ويرسلون كثيرا، ولهم غلط كأبي هارون العبدي.
63
فلما كان آخر عصر التابعين -وهو حدود الخمسين ومائة- تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة.
وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم أحمد وابن معين.
قال السيوطي: يعني أنه أول من تصدى لذلك، وإلا فقد سبقهم من الصحابة والتابعين من علمت.
وألف في الجرح والتعديل أئمة في الحديث.
منهم من ألف في الضعاف كالبخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني وغيرهم.
ومنهم من ألف في الثقات كابن حبان.
ومنهم من ألف فيهما كالبخاري وابن أبي خيثمة، وابن أبي حاتم.
ومن أشهر علماء الجرح والتعديل: يَحْيَى بن سعيد القطان المتوفى سنة ١٨٩ هـ، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة ١٩٨ هـ، ويحيى بن معين المتوفى سنة ٢٣٣ هـ، وأحمد بن حنبل المتوفى ٢٤١ هـ.
٤ - علم الفقه:
علم الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
ظهرت فكرة كتابة بعض الأحكام الفقهية منذ عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعصر الخلافة الراشدة، غير أننا لا نستطيع أن نقول: إن علم الفقه ظهر في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام؛ لأن هذه الكتابات -وإن سلمنا بوجودها- لا تمثل ظاهرة عامة جديرة بأن تؤسس علما مهما كعلم الفقه؛ له أصوله وقواعده، وغاية الأمر أن هذه الكتابات دليل على أن مسائل علم الفقه شغلت المسلمين منذ طور مبكر، وأنها كذلك إرهاص مؤذن لنشأة علم الفقه في مرحلة تالية، وإن كانت هي بذاتها لا تمثل علما ولا ترقى إلى رتبته، كما نفهم نحن مصطلح العلم من ضرورة أن يتاح له منهج في الدرس ومادة مجموعة ومسائل مرتبة وعلماء يتوفرون عليه.
إن فكرة التدوين الفقهي المنظم وليدة القرن الثاني الهجري، حيث تدلنا المصادر
64
التاريخية على أن فقهاء المدينة قاموا بجمع فتاوى ابن عمر وعائشة وابن عَبَّاسٍ ومن بعدهم من كبار التابعين الذين ظهروا بالمدينة.
وكذلك جمع فقهاء العراق فتاوى عبد اللَّه بن مسعود، وقضايا علي بن أبي طالب وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.
وقد وضعت بعض المؤلفات الفقهية في هذا العصر، فقد ألف أبو حنيفة (الفقه الأكبر) وإبراهيم النخعي (فتاوى الشيوخ وآراؤهم)، وغيرهما.
وكانت هذه المؤلفات تجمع بين الفقه والحديث.
وهناك من ألف من الفقه مجردًا عن الحديث: كمُحَمَّد بن الحسن في كتبه الستة التي جمع فيها مسائل الأصول في مذهب إمامه أبي حنيفة وهي: المبسوط، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والزيادات، والسير الصغير، والسير الكبير، ومثل: المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك.
وبجانب هذين النوعين من التدوين وجد تدوين المسائل الفقهيهة مصحوبًا بأدلتها من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، مثل كتاب الأم الذي رواه الربيع عن الإمام الشافعي.
واستمر الفقه في التطور والازدهار حتى أصبح علمًا قائمًا على سوقه.
٥ - علم أصول الفقه:
لم يكن استنباط الأحكام في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدر الإسلام بحاجة إلى أكثر من الرجوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حيانه وإلى أصحابه بعد مماته، ولكن لما بعدت الشقة بين الناس والعهد النبوي احتاج المسلمون إلى وضع العلوم وتأسيس مناهجها، ومن هذه العلوم أصول الففه.
وقد أخذ الإمام الشافعي على عاتقه مهمة جمع قواعد علم أصول الفقه المبثوثة في بطون الكتب، والموجودة في سنة النبي وآثار الصحابة، ومن قبل ذلك وبعده من القرآن الكريم.
والسبب الذي دفع الشافعي إلى كتابة علم أصول الفقه هو ما ذكره ابن خلدون حينما
65
قال: " لما وجد -أي الشافعي- الخلاف والنزاع مستمرًا بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق، أو بين أهل الحديث وأهل الرأي، ووجد أن أهل الرأي على جانب من قوة البحث والنظر، وأنهم أصحاب حجاج ولسن، وأهل جدال وشغب، وأنهم قد أسرفوا في الطعن على أهل الحديث وأئمتهم، والحط من قدرهم وقيمتهم، والرد على رأيهم ومذهبهم، ووجد كذلك أن جمهرة المحدثين، وبخاصة من كان موجودًا في العراق منهم على شيء غير يسير من الخمول والكسل، وضعف البحث والنظر، وفساد الاستدلال والجدل، وأنهم غير قادرين -القدرة التامة- على الانتصار لمذاهبهم والدفاع عن آرائهم، والرد على خصومهم، والصمود في وجوههم؛ بسبب عدم الإدراك الصحيح لمباحث أصول الفقه، وسوء التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وما إلى ذلك من المباحث.
لما وجد الأمر كذلك وأدرك حقيقة ما هنالك.. وضع مؤلفا جامعًا في أصول الفقه، يعين على فهم حقائقه، وإدراك دقائقه، ويكون القدرة على الاستدلال بأدلة الشرع، وبيان كيفية إثباتها ".
وقد تتابع العلماء بعد الشافعي في تدوين مسائل هذا العلم، من هَؤُلَاءِ الإمام أحمد بن حنبل الذي ألف كتاب " الناسخ والمنسوخ ".
٦ - تدوين علم النحو واللغة:
كان لاتساع الفتوحات الإسلامية، ودخول الكثير من العجم في الإسلام، واختلاطهم بالعرب - الأثر البالغ على الملكة اللسانية العربية، فبدأ اللحن يتسرب إلى اللسان العربي، فخاف العلماء أن يتعرض القرآن الكريم للتحريف أو ينغلق فهمه على الناس، ومن ثم بادروا إلى وضع القواعد الضابطة للسان العربي من الانحراف وهو ما اصطلح على تسميته بـ " علم النحو ".
وقيل: إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من اشتغل بعلم النحو.
وقيل: إنه تعلم أصوله عن الإمام علي، وأن سبب التفكير في وضعه هو تسرب اللحن إلى القرآن الكريم، ومن ثم، وضع علم النحو.
وكانت مدرسة البصرة هي أولَى المدارس النحوية نشأة وأسبقها ظهورًا، تلتها مدرسة
66
الكوفة، وقد ألف تلاميذ المدرستين تآليف كثيرة، وتتابع الناس يكتبون في هذا العلم؛ حتى انتهى الأمر إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، فهذب الصناعة، وكمل أبوابها، وأخذ عنه سيبويه، فكمل تفاريعها، واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور.
وممن كتب في هذا الفن: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو عمرو بن العلاء، وجميع من ذكرت من علماء البصرة، ومن أشهر علماء الكوفة الذين كتبوا في هذا الفن: الكسائي والفراء.
وكما تسرب اللحن إلى تركيب الجملة تسرب أيضًا إلى الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه، ومن ثم وجدت الحاجة إلى معاجم تحفظ المفردات اللغوية، حتى لا تندرس، فيترتب على ذلك جهل بالقرآن والحديث.
ولذلك شمر علماء اللغة عن سواعدهم، وبدءوا يجمعون الكلمات العربية، ويحددون معانيها، فرحلوا إلى البادية واستقوا اللغة من منابعها الأولى، كما أخذوا عن عرب البدو الذين وفدوا إلى الحضر، وكان من أهم مصادرهم: القرآن الكريم، والشعر العربي الجاهلي والإسلامي الموثوق به.
وقد تم جمع اللغة على مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: جمع المفردات كيفما اتفق.
المرحلة الثانية: جُمعت فيها الكلمات المتقاربة نوعًا من التقارب، أو ما لها موضع واحد.
المرحلة الثالثة: جمع المعاجم، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري حين وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي منهج كتاب العين الذي حصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف عليه، واعتمد فيه على ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده حتى وصل إلى الحروف الشفوية، وجعل أحرُف العلة آخرًا، وبدأ من حروف الحلق بالعين؛ ولذلك سمى كتابه بـ " العين ".
67
وفي القرن الثالث الهجري انتشرت المعاجم الواسعة التي سار فيها أصحابها على طريقة الخليل بن أحمد من حيث ترتيب حروف المعجم على المخارج الصوتية والابتداء بحروف الحلق، ثم انتشرت المعاجم بعد ذلك في القرون التالية مصطنعة مناهج جديدة أكثر تيسيرًا، وموجود بين أيدينا الكثير منها الآن.
٧ - الأدب:
تطور الأدب كثيرًا في العصر العباسي، وبخاصة الشعر؛ حيث وجد شعراء مجددون في معاني القصيدة وديباجتها كأبي تمام؛ مما أدى إلى وجود نهضة أدبية وشعرية يمكن أن يقال عنها: إنها فاقت العصور السابقة.
ولم ينل الأدب العناية في جمعه وتأليفه مثلما نالت اللغة، فقد كان جمع الأدب والشعر في العصور الإسلامية الأولى قائما على الانتقاء والاختيار لا الاستقصاء والشمولية؛ ولعل السبب في ذلك أنه لا يستطيع فرد أو أفراد أن يقوموا بذلك.
وقد دون عدد من الكتب في الأدب ونقده في العصر العباسي؛ ككتابي أدب الكاتب، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي، وتعتبر هذه الكتب أركانًا في الأدب وعلومه.
٨ - التاريخ والجغرافيا:
كان الاعتماد في التاريخ -في بادئ الأمر- على السماع، فكان العرب يتناقلون أخبارهم وسير أجدادهم شفويًّا، ولكن لما جاء القرن الثاني الهجري أخذ البحث في التاريخ وتدوينه يأخذ جانبًا من اهتمام العلماء، وانصرف اهتمام المؤرخين في أول الأمر إلى السيرة النبوية، فكتب ابن إسحاق سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان ذلك في منتصف القرن الثاني الهجري، وفي أواخر هذا القرن وضع هشام بن مُحَمَّد الكلبي والواقدي كثيرًا من المصنفات والرسائل التاريخية شملت العصور المختلفة، ثم جاء ابن هشام أواخر هذا القرن وبداية القرن الثالث فكتب سيرته الشهيرة المتناقلة بين الناس.
وفي القرن الثالث تطور التاريخ تطورًا كبيرًا، فوجدت المصنفات الكبيرة، واتسعت
68
مادته باتساع حوادث الدولة الإسلامية، فوجدت مؤلفات في الحوادث، ومؤلفات في الأنساب، ومؤلفات في تاريخ الأمم والملوك، ومؤلفات في تاريخ الأديان: كاليهودية، والنصرانية، ومؤلفات في التراجم.
ومن أشهر المؤلفات في القرن الثالث: كتاب الطبقات الكبرى لمُحَمَّد بن سعد المتوفي سنة ٢٣٠ هـ، وكتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة المتوفي سنة ٢٧٦ هـ، وكتاب فتوح البلدان للبلازدي المتوفي سنة ٢٧٩ هـ، وكتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدِّينوري المتوفي سنة ٢٨٢ هـ، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري المتوفي سنة ٣١٠ هـ.
ومعنى هذا أن القرن الثالث الهجري شهد نهضة في علم التاريخ لم تشهدها القرون السابقة وربما القرون اللاحقة؛ حيث الاعتماد على هذه المصنفات والمؤلفات في الغالب الأعم.
أما في مجال الجغرافيا فقد بدأ التدوين فيه متأخرًا عن التاريخ، ويعتبر أبو القاسم عبيد اللَّه بن خرداذبة الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وهو فارسي الأصل - يعتبر من أقدم علماء الجغرافيا، وقد ألف كتاب: المسالك والممالك. ثم تلاه اليعقوبي المتوفي سنة ٢٨٢ هـ، وألف في ذلك كتاب: البلدان.
٩ - علم الطب:
كان لاختلاط العرب بالعجم أثر في تنمية المعارف، وبخاصة بعد عملية الترجمة التي ازدهرت في عصر الخليفة المأمون، ومن العلوم التي نقلها المسلمون عن الأمم الأخرى بفضل حركة الترجمة، علم الطب، فنبغ عدد غير قليل من الأطباء في عصر الرشيد، والمأمون، والمعتصم، وبخاصة عصر الواثق، وكانت مهنة الطلب يزاولها في بداية الأمر غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم، فاشتهر عصر الرشيد بختيشوع المتوفى سنة ٢٤٤ هـ، وفي عهد المعتصم يحيى بن ماسويه المتوفى سنة ٢٤٢ هـ.
وفي عهد الواثق بدأ التأليف الفعلي لعلم الطب، فقد طلب من حنين بن إسحاق المتوفي سنة ٢٧٠ هـ وضع كتاب في الطب، فألف كتابًا ذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء وغيرها من المسائل الطبية. ثم بدأت المصنفات تترى بعد ذلك، وبنيت المستشفيات في بغداد وغيرها.
69
الباب الثاني
ترجمة الماتريدي
ويشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته.
الفصل الثاني: البيئة التي نشأ فيها الماتريدي.
الفصل الثالث: شيوخه وأقرانه وتلاميذه.
الفصل الرابع: قيمة الماتريدي العلمية.
71
الفصل الأول
اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته
اسمه وكنيته:
الماتريدي هو: مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود بن مُحَمَّد أبو منصور الماتريدي.
وأصل نسبته: ماتريت أو ماتريد وهي محلة من سمرقند، وأحيانًا تضاف نسبته إلى سمرقند، فيقال: أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي السمرقندي، وكنيته: أبو منصور.
ألقابه:
لُقِّبَ الماتريدي بألقاب كثيرة نذكر منها: " إمام الهدى "، و " إمام المتكلمين "، و " مصحح عقائد المسلمين "، و " رئيس أهل السنة "، وهي ألقاب تومئ إلى ما له من مكانة مرموقة في نفوس مؤرخيه على قلتهم، كما تدل على منزلته العلمية الممتازة بين أصحابه.
نسبه:
قيل: إن نسب الماتريدي يرجع إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، وهذه النسبة تشريف له، ودليل على علو قدر أسرته وشرف نسبه؛ إذ إنها تنتهى إلى أبي أيوب الأنصاري، وهو الذي نزل عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين هاجر إلى المدينة.
لهذا يذكره البياضي فيقول: الإمام أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي الأنصاري.
وترجح هذه النسبة لدينا؛ لأن أحد شيوخ الماتريدي وهو أبو نصر العياضي من نسل ابن عبادة الأنصاري، وكذلك جاء في كتاب السمعاني أن أم القاضي الإمام أبي الحسن
73
علي بن الحسن وهو من سلالة أبي أيوب الأنصاري كانت بنت الإمام أبي منصور الماتريدي، ولا شك أن شرفاء العرب كانوا يراعون الكفاءة في الزواج في البلاد النائية.
والحقيقة أن كتب التراجم لا تعطينا شيئًا عن أسرة الماتريدي غير ما ذكره الدكتور خليف في مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي، فقد ذكر أن الأستاذ " تربتون " ذهب إلى أن مؤلف كتاب " نقض المبتدعة عن السواد الأعظم على طريقة الإمام أبي حنيفة " - هو أبو القاسم إسحاق بن مُحَمَّد الماتريدي (٣٤٢ هـ) وربما يكون شقيق الماتريدي، وأنه تتلمذ على يد الإمام المانريدي، ولا يستبعد الدكتور خليف أن يكون تتلمذ على يده، لكنه يستبعد أن يكون شقيقه، ويرى أن المقصود هو القاضي أبو القاسم إسحاق بن مُحَمَّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي.
ولعل الذي ذهب إليه الدكتور خليف هو الأقرب إلى الصواب؛ إذ إن المؤرخين لا يذكرون شيئًا عن هذه القرابة، ولا يعني مجرد الاشتراك في النسبة (الماتريدي) أنهما شقيقان؛ لأنها نسبة إلى الموطن وليست إلى العائلة أو القبيلة، ولقد عُرِفَ أكثر من شخص بالماتريدي، مثل القاضي الماتريدي الحسين الذي كان رفيقًا لأبي شجاع وإليه انتهت رئاسة أصحاب الإمام.
إذن فالباحث عن أسرة الماتريدي يجد صعوبة بالغة، وقد لا يهتدي إلى شيء ذي قيمة؛ نظرًا لإهمال المصادر التاريخية لذلك وسكوتها عنه.
مولده:
لم تذكر المصادر التاريخية شيئًا نطمئن إليه عن تاريخ مولد الماتريدي، ولكن نستطيع أن نتلمس مولده في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، وعلى وجه التحديد في عهد المتوكل (٢٣٢ - ٢٤٧ هـ)، وبهذا يكون مولده متقدمًا على مولد أبي الحسن الأشعري ببضع وعشرين سنة على الأقل؛ إذ ولد الأشعري سنة ٢٦٠ هـ، وقيل: سنة ٢٧٠ هـ.
ويرجح كون مولده في عهد المتوكل أن هناك شيخين من شيوخه هما: مُحَمَّد بن
74
مقاتل الرازي، ونصير بن يحيى البلخي، مات الأول منهما سنة ٢٤٨ هـ، وتوفي الثاني سنة ٢٦٨ هـ؛ أضف إلى هذا أن من أقرانه من توفي سنة ٢٦٨ هـ وهو مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عمرو الأزدي.
ويعني هذا أن الماتريدي قد ولد قبل عام ٢٤٨ هـ بوقت يسمح له بتلقي العلم عن شيخه الذي مات في تلك السنة.
ومن خلال ما سبق يمكننا القول: إن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، أي ما بين سنة ٢٣٣ هـ وحتى سنة ٢٤٠ هـ؛ لأنه كما سبق أن قررنا منذ قليل -اعتمادًا على رواية وفيات الأعيان- أنه ولد قبل الأشعري ببضع وعشرين سنة، وقيل في إحدى الروايات: إن الأشعري ولد سنة ٢٦٠ هـ، وبضم هذه الرواية إلى الرواية الأخرى التي ذكرت أن وفاة شيخه مُحَمَّد بن مقاتل كانت سنة ٢٤٨ هـ يتبين لنا صحة ما ذهبنا إليه، فقد يكون سنه على أقصى تقدير يوم وفاة شيخه خمسة عشر عامًا، وعلى أدنى تقدير ثماني سنوات، ولا يعقل أن يكون الماتريدي قد بدأ في تلقي العلم قبل الثامنة من عمره؛ لأنه وقتها يكون صغيرًا جدَّا، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا يكون على أيدي الشيوخ الكبار أمثال الشيخ مُحَمَّد بن مقاتل، بل يكون على أيدي شيوخ صغار؛ حيث يبدأ الطفل في حفظ القرآن الكريم أولاً، وشيئًا من الحديث والشعر العربي، وعلى أقصى تقدير بعض مبادئ العلوم.
وفاة الماتريدي وضريحه:
اتفقت معظم كتب التراجم على أن الماتريدي توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد الهجرة، بينما ذكر صاحب كشف الظنون أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ويقطع بهذا بعض المؤرخين المحدثين، أما طاش كبرى زاده فيذكر أنه مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ولكن الصحيح المشهور هو الأول وهو ما أجمع عليه أصحاب الطبقات، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
75
الفصل الثاني
البيئة التي نشأ فيها الماتريدي
عرفنا في الفصل السابق أن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ومعنى هذا أن الماتريدي عاش في الفترة ما بين أواخر النصف الأول من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع، وكان ذلك في مدينة سمرقند التي تقع في إطار الدولة السامانية، والتي أشرنا إلى طرف من تاريخها في الفصل الثالث من الباب الأول، وقد رأينا أن نتمم ذلك بهذه الدراسة الموجزة لمدينة سمرقند التي نشأ فيها الماتريدي.
تاريخ سمرقند:
وسمرقند -بفتح السين والميم- ويقال لها: سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر.
قال أبو عون: سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف.
وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب، فسميت شمر كنت، فعربت فقيل: سمرقند.
وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخًا، وفيها بساتين ومزارع وأرجاء، ولها اثنا عشر بابًا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى السور آزاج، وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كل بابين منزل للنواب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض، وفيه أبنية وأسواق.
صفة سمرقند:
وأيًّا من كان الذي بني مدينة سمرقند، فإنها مدينة عظيمة، من أعظم مدن أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي بلد ثري جليل عتيق، ومصر بهي رشيق، رضي كثير الرقيق، وماء غزير بنهر عميق، بناء قوي سني وثيق، ودرس كثير لأهل الفريق، وعيش هنيء إليها الطريق، وحمل المتاع من كل فج عميق، وعلوم كثيرة وصدر نفيق، وخيل ورجال ومال دقيق، ذو رساتيق جليلة ومدن نفيسة وأشجار وأنهار، وتجار، في الصيف
76
جنة، أهل جماعة وسنة، ومعروف وصدقة، وحزم وهمة، غير أن في أهلها وهوائها بردًا، جفاة مع الغرباء، بلية في الشتاء، يشغبون على الأمراء، وفيهم نفخ وعجب ومراء، جيدة الجواري ردية الغلمان.
وليس غريبًا أن تكون سمرقند بهذا الوصف، فقد ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن مدينة خلف نهر جيحون تدعى سمرقند، ثم قال: لا تقولوا: سمرقند، ولكن قولوا: المدينة المحفوظة، فقال أناس: يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كل باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبحون ويهللون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي: يا دائم، يا دائم، يا اللَّه يا صمد، احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة وخارج المدينة ماء حلو عذب، من شرب منه شرب من ماء الجنة، ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وخارج المدينة على ثلاث فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها، ويدعون اللَّه بالذكر لهم، وخلف هَؤُلَاءِ الملائكة واد فيه حيات وحية تخرج على صفة الآدميين، تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبد فيها ليلة تقبل اللَّه منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يومًا فكأنما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينًا لا يدخل منزله فقر أبدًا، ومن مات في هذه المدينة فكأنما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة.
وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها: قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد كل شهيد منهم في سبعين من أهل بيته.
وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، بيد أني لم أعثر له على إسناد ولم أجده في كتب الحديث المعتمدة.
وللحق فقد كثر الواصفون لسمرقند حتى لقد استهوت الشعراء واستحفزت قريحتهم، منهم أحد ظرفاء العراق الذي كتب:
77
ولكن قلبي حلَّ فيها فعاقني... وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا
وإني لممن يرقب الدهر راجيًا... ليوم سرور غير مغرى بما مضى
وقال البستي:
للناس في أخراهم جنة... وجنة الدنيا سمرقند
يا من يسوي أرض بلخ بها... هل يستوي الحنظل والقند
دخول الإسلام سمرقند:
وأول من دخل سمرقند من المسلمين وفتحها هو سعيد بن عثمان عندما ولي خراسان من جهة معاوية سنة خمس وخمسين من الهجرة، فقد عبر النهر ونزل عليها محاصرًا، لكنه تركها، ومن ثم قال يزيد بن مفرغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها:
لهفي على الأمر الذي... كانت عواقبه الندامه
تركي سعيدًا ذا الندى... والبيت ترفعه الدعامه
فتحت سمرقند له... وبنى بعرصتها خيامه
وتبعت عبد بني علا... ج تلك أشراط القيامه
وفي سنة سبع وثمانين من الهجرة عبر قتيبة بن مسلم الباهلي النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثم غزا ما وراء النهر عدة غزوات في سنين سبع، وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصنامًا من أحرقها هلك، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأحرقها، فاضطرمت، فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال.
ويمكن أن نقول: إن الماتريدي عاش في عصر الدولة السامانية التي وليت سمرقند ما بين ٢٦١ - ٣٨٩ هـ، وكان ملوكها أحسن الملوك سيرة وإجلالاً للعلم وأهله كما أشرنا من قبل.
لقد نشأ الماتريدي في هذه المدينة التي تتمتع بخصائص ومميزات، سواء من ناحية طبيعتها، أو أهلها، أو حتى حكامها، وهذه أمور تساعد على تحصيل العلم والبروز فيه،
78
وقد استفاد الماتريدي من مميزات نشأته في هذه البيئة فبرز في علوم شتى، أهمها: العقيدة، والتفسير فكان واحد عصره إمام دهره.
موقع سمرقند الجغرافي وحدودها:
تقع سمرقند في القارة الآسيوية، وكانت عاصمة لبلاد الصغد فيما وراء النهر، وتقع خلف نهر جيحون على الضَّفة الجنوبية منه، وتقع بخارى على الضفاف السفلى من هذا النهر، ويتبع سمرقند مدن: كرمانة، ودبوسية، وأشروسنة، والشاس، وتخسانجكث.
ولها حصن استدارة حائطه اثنا عشر فرسخًا في أعلاه أبرجة للحرب، وكان لها أربعة أبواب: باب مما يلي المشرق يعرف بباب الصين، مرتفع من جهة الأرض، ينزل إليه بدرج مطل على وادي الصغد، وباب مما يلي المغرب ويعرف بباب النوبهار، وباب مما يلي الشمال يعرف بباب بخارى، وباب مما يلي الجنوب يعرف بباب كش.
سمرقند إداريًّا:
خضعت سمرقند بعد الفتح الإسلامي لحكم الدولة الأموية، ولما سقطت الدولة الأموية صارت إلى الدولة العباسية، حتى جاء عصر الدويلات، فتبادلت عليها ممالك عدة، حتى خضعت لحكم السلاجقة كسائر بلاد ما وراء النهر، ثم خضعت للمغول حتى أجلتها الروس بعد غزوها عام ١٨٧٥ م، فأصبحت خاضعة من الناحية الإدارية للاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي الآن أصبحت تابعة لجمهورية أوزبكستان.
الحركة الثقافية في سمرقند:
تمتعت سمرقند بمكانة علمية وثقافية مرموقة، فقد خرج منها علماء أفذاذ في تاريخ الإسلام، كانت لهم بصمتهم الواضحة في الفكر الإسلامي، بل والإنساني، من أمثال: البخاري، ومسلم، وأبي زيد الدبوسي، وآل البزدوي، والكاساني، وعبد اللَّه النسفي، وأبي الحسن الكرخي، والجصاص الرازي، وأبي بكر الشاشي وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي، ممن لا يتسع المقام لذكرهم.
هذه هي البيئة التي نشأ فيها الماتريدي، وهي بيئة -من غير شك- تساعد على مدارسة العلم وتحصيله والنبوغ فيه، ولقد كان لها أكبر الأثر في نبوغ صاحبنا الماتريدي.
79
الفصل الثالث
شيوخه وتلاميذه وأقرانه
أولاً: شيوخه:
إن المصادر التي تحدثت عن هذا الإمام في تلقيه للعلوم والمعارف إنما تحدثت عن الصلة القوية بمدرسة الرأي، تلك المدرسة التي تتصل حلقاتها وتأثرها بالإمام المبجل أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي المولود سنة ثمانين في حياة بعض الصحابة، تلقى علومه على عطاء بن أبي رباح والشعبي والأعرج وابن دينار وخلق كثير، قال فيه الإمام الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم، وتوفي شهيدًا سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة.
ولقد تتلمذ الشيخ أبو منصور الماتريدي على يد علماء كبار، ذكرت منهم كتب التراجم أربعة علماء يحتلون مكانة بارزة بين أعلام الفقه الحنفي وبين علماء زمانهم وهم:
١ - أبو نصر العياضي:
أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة بن غالب بن جابر بن نوفل بن عياض بن يَحْيَى ابن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الفقيه السمرقندي.
قال في الجواهر المضيَّة عن أبي منصور الماتريدي: تخرج بأبي نصر العياضي، وأبو نصر العياضي ينتسب إلى الأنصار الذين ينتسب إليهم الماتريدي، وهو من أهل العلم والجهاد، لم يكن يضاهيه لعلمه وورعه وجلادته وشهامته أحد، استشهد وخَلَّفَ أربعين رجلاً من أصحابه كانوا من أقران الماتريدي، وله ولدان فقيهان فاضلان: أبو بكر مُحَمَّد، وأبو أحمد.
80
وذكره أبو المعين النسفي بـ في كتابه " التبصرة " قائلاً: كان أبو نصر العياضي يحرص أشد الحرص على جهاد أعداء اللَّه الكفرة، وكان من أشجع أهل زمانه وأربطهم جأشًا وأشدهم شكيمة، وكان في العلم بحرًا لا يدرك قعره، أما في الفروع والأصول فلا يدانيه غيره، ومن نظر في كتابه المصنف، في مسألة الصفات، وما أتى فيه من الدلائل على صحة قول أهل الحق وبطلان قول المعتزلة عرف تبحره في ذلك.
وقال أبو القاسم الحكيم السمرقندي: ما أتى الفقيه أبا نصر العياضي أحد من أهل البدع والأهواء، وأولى الجدال والمراء في الدِّين بآية من القرآن يحتج بها عليه لمذهبه - إلا تلقاها أبونصر العياضي مبتدئًا بما يفحمه ويقطعه.
وقد تفقه أبو نصر العياضي على الإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني، تلميذ سليمان بن موسى الجوزجاني، وتفقه عليه جماعة منهم ولداه.
٢ - أبو بكر أحمد الجوزجاني:
الجوزجاني من رجال القرن الثالث الهجري، روى عنه أبو منصور الماتريدي، وقد تتلمذ أبو بكر أحمد الجوزجاني على أبي سليمان الجوزجاني، وكان في أنواع العلوم في الذروة العالية، ومن مصنفاته: (الفروق)، و (التمييز)، و (التوبة) وغيرها.
٣ - مُحَمَّد بن مقاتل الرازي:
مُحَمَّد بن مقاتل هو قاضي الري، رُويَ عن أبي مطيع، وقال الذهبي: إنه حدث عن وكيع وطبقته.
وقيل: تفقه على أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي.
٤ - نصير بن يَحْيَى البلخي:
وقد تفقه على الإمام أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وأبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي.
ونظرة عامة إلى شيوخ الماتريدي تبين لنا أنهم جميعًا يرجعون في علمهم إلى الإمام أبي حنيفة، فأبو بكر الجوزجاني ونصير البلخي تفقها على الإمام سليمان بن موسى بن
81
سليمان الجوزجاني الذي تفقه بدوره على أبي يوسف ومُحَمَّد بن الحسن الشيباني تلميذي أبي حنيفة، كما أن مُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصيرًا البلخي قد تفقها على الإمامين: أبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي اللذين تفقها على الإمام أبي حنيفة، وأخذ مُحَمَّد بن مقاتل أيضًا عن مُحَمَّد بن الحسن.
ويدلنا ذلك على أن أساتذة الماتريدي وشيوخه يتبعون في الفقه مذهب أبي حنيفة، ومن ثم فهو يعتبر متخرجًا من مدرسة أبي حنيفة وعلى يد أعلام المذهب الحنفي، ولا أدل على ذلك من أنه كان يتبع المذهب الحنفي في الفقه، وبلغ فيه شأوًا عظيمًا بين أقرانه.
وفيما يلي نبين في عجالة أبرز الصلات بين أبي حنيفة والماتريدي، وهي صلات علمية ومذهبية وكلامية.
وأول هذه الصلات ما نراه عند الماتريدي من آراء أبي حنيفة الكلامية، فقد كان لأبي حنيفة آراء كلامية، فلقد روي عنه في علم الكلام موقفان:
الأول: يروى أن أبا حنيفة نظر في علم الكلام في مبدأ طلبه للعلم، وبلغ في معرفة أصوله ومذاهبه مبلغًا عظيمًا حتى غدا يشار إليه بالبنان، فمضى عليه زمن يخاصم عنه ويناضل؛ حتى دخل البصرة؛ لأن أكثر الفرق بها، وأخذ ينازع تلك الفرق؛ لأنه كان يعد الكلام أرفع العلوم وأفضلها؛ لكونه في أصول الدِّين.
أما الموقف الثاني: فيتمثل في انصراف الإمام أبي حنيفة عن الكلام وانشغاله بالفقه الذي ذاع صيته فيه، واشتهر به، ولقد ذكر عنه أنه نهى عن الخوض في علم الكلام والاشتغال به، وأنه ذكر أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يشتغلون بعلم الكلام مع أنهم عليه أقدر وبه أعرف، بل نهوا عنه أشد النهي، ولم يخوضوا إلا في الشرائع وأبواب الفقه وتعليم الناس، ومن ثم انصرف أبو حنيفة عن الكلام إلى الفقه.
ويمكن القول: إن الماتريدي قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية التي دونها في رسائله: كالفقه الأكبر، والفقه الأوسط، والعالم والمتعلم، ورسالته إلى أبي مسلم، وهي رسائل صغيرة، اشتملت -وخاصة رسالة الفقه الأكبر- على بيان عقيدة أهل التوحيد، وما يصح الاعتقاد عليه، وبعض الأدلة لبعض القضايا الكلامية، ونفي الإرجاء.
82
ولا يغيب عنا في هذا المقام مناظرات أبي حنيفة مع المخالفين في العقيدة.
ولما انصرف أبو حنيفة إلى الفقه استفاد منه الماتريدي أيضًا، غير أن هناك قضايا كلامية كثيرة نشبت ولم يبد أبو حنيفة فيها رأيًا أو جاءت بعد عصره، فخاض فيها الماتريدي ونقد آراء المخالفين، وعالج قضايا لم تكن موجودة مثل قضية المعرفة، كما كتب بحثًا تفصيليًّا عن الصفات وإثبات التوحيد، واستخدام العقل في ذلك، كذلك كان علم الكلام غير مقبول عند أهل السنة قبل الماتريدي، فجاء الماتريدي وأسس منه علمًا قائمًا على سوقه يلقى تأييدًا ويجد قبولاً لدى علماء أهل السنة.
وخلاصة القول: إنه إذا كان يرجع لأبي حنيفة الفضل في القيام بأول محاولة لإقامة مذهب كلامي على اعتقاد أهل السنة، فإن للماتريدي فضل إقامة مذهب متكامل أيده بالحجة والبرهان للتعبير عن اعتقاد أهل السنة، ولكن يبقى الماتريدي منتسبًا إلى أبي حنيفة ومدرسته.
ثانيًا: تلاميذه:
قد تتلمذ على يد الشيخ أبي منصور الماتريدي كثيرون، صاروا شيوخًا وعلماء كبارًا، وأسهموا في نهضة الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في العالم الإسلامي.
ومن هَؤُلَاءِ الذين تخرجوا بأبي منصور الماتريدي:
١ - إسحاق بن مُحَمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد، أبو القاسم القاضي الحكيم السمرقندي.
قال عنه أبو سعد السمعاني: روى عن عبد اللَّه بن سهل الزاهد، وعمرو بن عاصم المروزي، وتفقه بأبي منصور الماتريدي.
وقد تولى إسحاق قضاء سمرقند أيامًا طويلة، وحمدت سيرته، ولقب بـ " الحكيم "؛ لكثرة حكمته ومواعظه.
ورُويَ عنه عبد الكريم بن مُحَمَّد الفقيه السمرقندي في جماعة.
وقد توفي - رحمه اللَّه - في شهر المحرم يوم عاشوراء، سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
83
بسمرقند، ودفن بها.
وذكر صاحب الطبقات السنية آخر يسمى إسحاق بن مُحَمَّد أبو القاسم المعروف بـ " الحكيم السمرقندي "، ثم قال: أخذ عن الماتريدي الفقه والكلام، ثم قال: ذكره في الجواهر، وقال: أظنه الذي قبله.
والراجح أنهما شخص واحد؛ لأمرين:
الأول: تطابق الاسمين.
الثاني: أن الشيخ المأخوذ عنه في كلتا الحالتين هو الماتريدي.
وقد جمع صاحب الفوائد البهية في ترجمة الحكيم السمرقندي بين ما ورد فيها في الجواهر المضيَّة وما جاء في الطبقات.
٢ - عبد الكريم بن موسى بن عيسى أبو مُحَمَّد الفقيه البزدوي النسفي. قال عنه في الطبقات: تفقه على الإمام أبي منصور الماتريدي، وسمع من منصور أبي طلحة البزدوي صاحب البخاري، وبالبصرة من أبي علي اللؤلؤي، وحدث، وكان زاهدًا مفتيًا، رُويَ عنه أهل سمرقند.
وقد توفي - رحمه اللَّه - في شهر رمضان سنة تسعين وثلاثمائة.
٣ - أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري:
قال عنه في الجواهر: صاحب أبي القاسم إسحاق بن مُحَمَّد المعروف بـ " الحكيم "، وأستاذهما أبو منصور الماتريدي، وعنه أخذ علم الكلام والفقه. ولم نعرف له سنة وفاة.
ثالثًا - أقرانه:
ومن أقران الماتريدي الذين صاحبوه في أثناء رحلته لطلب العلم وزاملوه:
١ - علي بن سعيد، أبو الحسن الرُّسْتُغْفَنيُّ، وهو من كبار مشايخ سمرقند، ومن
84
أصحاب الماتريدي الكبار، وله ذكر في الفقه والأصول في كتب أهل الطبقات، وهو منسوب إلى إحدى قرى سمرقند.
ولعلي بن سعيد عدة مؤلفات، منها: " إرشاد المهتدي "، و " الزوائد والفوائد ".
وقد وقع خلاف بينه وبين الماتريدي حول مسألة المجتهد إذا أخطأ في إصابة الحق: فهو عند أبي منصور يكون مخطئًا في الاجتهاد، وعند أبي الحسن يكون مصيبًا فيه.
٢ - مُحَمَّد بن أسلم بن مسلمة بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عمرو بن عوف الأزدي، وكنيته: أبو عبد اللَّه، ولي قضاء سمرقند في أيام نصر بن أحمد بن أسد بن سامان الكبير.
وقد توفي في شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وستين ومائتين.
٣ - مُحَمَّد بن اليمان، وكنيته: أبو بكر، الملقب بالسمرقندي الإمام، قال عنه في الجواهر: من طبقة الماتريدي. صاحب كتاب " معالم الدِّين "، وله كتاب " الرد على الكرامية ".
ومن خلال دراسة شيوخ الماتريدي وتلاميذه وأقرانه نتبين أن بيئة الماتريدي كانت غَاصَّةً بالعلماء الكبار من ذوي القدر والسبق، كما يتضح لنا طبيعة الحياة العلمية والفكرية والثقافية الحافلة التي كان يعيشها هذا العالم الجليل أبو منصور الماتريدي، ومدى ما بلغته من نضج وازدهار.
* * *
85
الفصل الرابع
قيمة الماتريدي العلمية
تبين لنا مما سبق أن الماتريدي تعلم على أيدي علماء كبار ينتسبون إلى أبي حنيفة، وأنه قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية، ولكنه لم يكن مجرد شارح ومفصل لطريقة أبي حنيفة، بل كان مبتكرًا، له منهجه الخاص به ومذهبه المغاير للمذاهب الكلامية الشائعة آنذاك، ومن ثم فإن علم الكلام استوى على سوقه على يد الماتريدي.
ولكي نتعرف قيمة الماتريدي العلمية لابد أن نعرض لأمرين:
أولاً: مصنفاته:
لم يكن الماتريدي متكلمًا فحسب، بل كان فقيهًا مفسرًا، ولعل أبرز ما يدل على علمه الواسع تلك الآثار والمصنفات الجليلة التي خلفها لنا، وهي على النحو الآتي:
١ - مصنفاته في التفسير والتأويل:
وفي هذا المجال ذكرت له كتب الطبقات كتابًا يسمى: " تأويلات أهل السنة " ذكره بهذا العنوان صاحب كتاب كشف الظنون وهو الكتاب الذي نقدم له ونقوم بتحقيقه.
وقد عنونت له نسخة كوبريلي بـ " تأويلات أبي منصور الماتريدي في التفسير "، ويقول السمرقندي في مقدمة شرح هذا الكتاب: كتاب التأويلات المنسوب إلى الشيخ إمام الملة أبي منصور مُحَمَّد بن أحمد الماتريدي السمرقندي.
وذكره أصحاب التراجم والطبقات تحت عنوان " تأويلات القرآن "، وتحمله نسخ موجودة في تركيا وألمانيا ودمشق والمدينة المنورة وطشقند والمتحف البريطاني.
وذكر صاحب كشف الظنون كتابًا آخر يحمل عنوان: (تأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد)، جاء في وصفه له أنه أخذه عنه أصحابه المبرزون تلقفًا؛ ولهذا كان أسهل تناولًا من كتبه، جمعه الشيخ الإمام علاء الدِّين مُحَمَّد بن أحمد ابن أبي أحمد السمرقندي صاحب " تحفة الفقهاء " في ثمانية مجلدات.
86
وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) غير كتاب (تأويلات الماتريدية) عند حاجي خليفة صاحب كشف الظنون.
وبمراجعة بعض نسخ التأويلات المنسوبة للماتريدي تبين لنا:
١ - أن نسخة دار الكتب المصرية التي تحمل عنوان (تأويلات أهل السنة) ينقص منها الورقة الأولى، ولكن الثانية توافق ما يقابلها من نسخة كوبريلي.
٢ - أن نسخة مكتبة علي باشا كاملة غير أنها لا تذكر شيئًا عن المؤلف، وتحمل اسم (تأويلات القرآن)، وتبين من المراجعة أن نسختي دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة علي باشا مأخوذتان عن كتاب واحد، والخلاف فقط في التسمية.
ويتضح من هذا أن هاتين النسختين هما كتاب واحد، فالاختلاف بينهما لا يعدو الاختلاف في الاسم، وهو للماتريدي.
أما (تأويلات الماتريدية) الذي ذكره صاحب كشف الظنون، وذكر أن تلامذته تلقفوه عنه، فهو على ما ذكر حتى وإن أسند في بعض نسخه إلى الماتريدي؛ لأنه أسهل تناولًا من كتبه المصنفة، كما يؤكد ذلك مراجعة نسخة دار الكتب المصرية على الجزء الأول من نسخة (تأويلات الماتريدية).
أما ما ذكره الشيخ علاء الدِّين في مقدمته من أن الكتاب المسمى بـ (تأويلات القرآن أو تأويلات أهل السنة) ليس مما صنفه الماتريدي بنفسه وإنما أخذه عنه أصحابه تلقفًا، فهذا يخالف ما ذكرناه سابقًا، ويخالف ما يقرره الواقع، وما تكشفه الموازنة بين أسلوب الكتاب وكتاب التوحيد الذي اتفق المؤرخون جميعًا على أنه من تأليف الماتريدي، أضف إلى هذا أن وحدة المنهج ووحدة الأسلوب تكشفان عن أن الكتاب من عمل واحد لا جماعة.
وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) الذي نقوم بتحقيقه هو لأبي منصور الماتريدي السمرقندي.
٢ - مصنفاته في علم الكلام:
صنف الماتريدي - رحمه اللَّه - عدة كتب في مجال علم الكلام ذكرتها المصادر،
87
منها:
- كتاب: (التوحيد) مخطوط بمكتبة جامعة كامبردج، رقم ٣٩٨، ٣٦٥١ وقد طبع بمطبعة الجامعة بتحقيق الدكتور/ خليف.
- كتاب: (المقالات) مخطوط في مكتبة كيرولو باستانبول، رقم ٨٥٦، وهناك نسخة ناقصة منه بمكتبة إيمنينول باستانبول. أيضًا.
- كتاب: (الرد على القرامطة).
- كتاب: (بيان وهم المعتزلة).
- كتاب: (رد الأصول الخمسة لأبي مُحَمَّد الباهلي).
- كتاب: (رد أوائل الأدلة للكعبي).
- كتاب: (رد وعيد الفساق للكعبي).
- كتاب: (رد تهذيب الجدل للكعبي).
- كتاب: (رد الإمامة لبعض الروافض).
ولقد زاد بروكلمان كتاب (الأصول) في قائمة كتب الماتريدي، وذكر أنه لمؤلف مجهول، وذكر أيضًا أن كتابي (التوحيد) و (المقالات) هما كتاب واحد، بيد أنه أشار في الهامش إلى أنهما كتابان مستقلان في فهارس المرتضى.
ولم يحفظ لنا الزمان من هذه الكتب سوى كتاب (التوحيد) وكتاب (المقالات)، وكتاب (التوحيد) صحيح النسبة إلى الماتريدي، ذكرته كل كتب التراجم قديمًا وحديثًا.
٣ - مصنفاته في الفقه وأصوله:
ذكرت كتب الطبقات للماتريدي في هذا المجال كتابين: كتاب (الجدل)، وكتاب (مآخذ الشرائع).
وهذان الكتابان لهما أهميتهما ومكانتهما في أصول الفقه بين أتباع المذهب الحنفي، فيذكر الإمام علاء الدِّين الحنفي في ميزان الأصول: أن تصانيف أصحابنا قسمان:
قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان؛ لصدوره ممن جمع الأصول والفروع، مثل
88
(مآخذ الشرائع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما.
وقسم وقع في نهاية التحقيق والمعاني وحسن الترتيب، ويذكر الإمام علاء الدِّين أنه قد هجر القسم الأول؛ لقصور الهمم والتواني، واشتهر القسم الآخر.
ولم يقع لنا شيء من هذين المؤلفين، غير أن بعض كتب الأصول قد نقلت عنهما، فقد جاء في كتاب كشف الأسرار على أصول البزدوي في أثناء الحديث عن خبر الواحد إذا خالف عموم الكتاب أو ظاهره، وبيان الآراء في صحة تخصيص هذا العموم به: " وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي والإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين: لما أفادت عمومات الكتاب وظواهره، اليقين كالنصوص، والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به. فأما من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند، فيحتمل أن يجوز تخصيصها بها.
وجاء في بدائع الصنائع في أثناء استنباط أوقات الصلوات الخمس من قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨): " قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي: إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس، ولو كانت أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا، لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور ".
٤ - كتب أخرى:
ذكر فؤاد سركين أن للماتريدي رسالة فيما لا يجوز الوقف فيه في القرآن، وهي رسالة صغيرة الحجم، موداعة بدار الكتب المصرية برقم ٣٨٤ قراءات. وعدد صفحاتها خمس، وتدور حول بيان المواضع التي لا يجوز الوقف عليها في قراءة القرآن، وفيما لو تعمد الواقف عليها الوقف بأنه يكفر، ولو وقف ساهيًا فسدت صلاته، وقد بينها الماتريدي -إن صحت نسبتها إليه- في اثنين وخمسين موضعًا في القرآن.
وهذه الرسالة لم يذكرها أحد للماتريدي سوى سزكين، ومع هذا فلا يستبعد أن تكون له؛ لأن الماتريدي كان دائم الاهتمام بالقرآن وتأويله وبيان أحكامه.
89
وذكر له بروكلمان أيضًا كتاب (مقتطفات في الوعظ)، ولم يذكره للماتريدي أحد سوى بروكلمان فيما نعلم من كتب الطبقات.
٥ - كتب نسبت إلى الماتريدي:
ومن الكتب المنسوبة إلى الماتريدي:
١ - كتاب: " شرح الفقه الأكبر " وهو مطبوع في حيدر آباد سنة ١٣٦٥ هـ، ذكره فيننسك، وذكر أنه راجع بعض النسخ المخطوطة لهذا الشرح فلم يجد فيها التصريح بنسبته إلى الماتريدي، ورجح أن السبب في هذه النسبة وقوع بعض أقوال الماتريدي فيه، وأيد هذا الشيخ أبو زهرة في كتابه عن أبي حنيفة، واستند في ذلك إلى الخلاف مع آراء الأشعرية، والمذهب الأشعري لم يتم إلا بعد الجيل الذي تلا وفاة الأشعري. ومن ثم يترجح أن نسبة هذا الشرح إلى الماتريدي نسبة غير صحيحة.
٢ - كتاب العقيدة، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية مخطوطة تحت رقم (١٤٧) تيمور عقائد، وينفي نسبته للماتريدي السبب السابق نفسه في نفي نسبة كتاب (شرح الفقه الأكبر) إليه؛ إذ اشتمل الكتاب على الخلاف بين الأشعرية والماتريدية.
٣ - كتاب (شرح الإبانة)، وهي نسبة غير صحيحة؛ لافتقارها إلى السند، كذلك لم نر أحدًا نسب هذا الكتاب إلى الماتريدي من أصحاب كتب الطبقات، سواء القدماء أو المحدثون، كذلك لم يرد أن كتاب (الإبانة للأشعري) وصل إلى بلاد ما وراء النهر في عصر الماتريدي.
إذن فنسبة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذا الكتاب إلى الماتريدي غير صحيحة.
وهذه الكتب التي ذكرتها كلها مخطوطة باستثناء كتاب التوحيد، بل إن معظم هذه الكتب مفقود.
ثانيًا: ثناء العلماء على الماتريدي:
ليس غريبًا -بعد هذا كله- أن يثني العلماء على الماتريدي ثناء عظيمًا، ولقد رأينا كيف لقبوه بألقاب هو لها أهل، فقد لقبوه -كما ذكرنا- بإمام الهدى، وإمام المتكلمين، ومصحح عقائد المسلمين وغيرها.
90
ولن نحصي ما أثنى عليه به العلماء، ومن ثم نقتطف بعض الومضات الكاشفة عن تقدير العلماء له والمبرزة لمكانته العالية عندهم.
ففي الفواكه الدواني يأتي الماتريدي وأبو الحسن الأشعري على رأس علماء أهل السنة، فيقول: " كذلك عند أهل السنة وإمامهم أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي ".
قال صاحب النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب الوزاني عند كلامه عن الماتريدي: " وكان معاصرًا للأشعري، وسبقه إلى نصرة أهل السنة ".
والفرقة الناجية -كما يرى بعض العلماء- هم الأشاعرة مع الماتريدية الذين تابعوا في الأصول علم الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي.
ويراه بعضهم رئيس مشايخ سمرقند، قال صاحب كشف الأسرار: " وهو مذهب مشايخ سمرقند، رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم اللَّه ".
وقال عنه التميمي: إنه قد فاق الأقران وتجمل به الزمان، وشاعت مؤلفاته، وسارت مصنفاته، واتفق الموافق والمخالف على علو قدره وعظمة محله، فإنه كان من كبار العلماء الأعلام الذين بعلمهم يقتدى وبنورهم يهتدي.
قال التفتازاني: إن المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري، أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة.
وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي، وهو مُحَمَّد بن مُحَمَّد، كان يلقب بإمام الهدى.
ويقول أبو معين النسفي في التبصرة: ولو لم يكن في الحنفية إلا الإمام أبو منصور الماتريدي الذي غاص في بحور العلم، واستخرج دررها وأتى حجج الدِّين، فزين
91
بفصاحته، وغزارة علومه، وجودة قريحته غررها، حتى أمر الشيخ أبو القاسم الحكيم السمرقندي أن يكتب على قبره حين توفي: هذا قبر من حاز العلوم بأنفاسه واستنفد الوسع في نشره وأقياسه، فحمدت في الدِّين آثاره... اجتمع عنده وحده من أنواع العلوم الملية والحكمية ما يجتمع في العادات الجارية في كثير من المبرزين المحصلين؛ ولهذا كان أستاذه أبو نصر العياضي لا يتكلم في مجالسه ما لم يحضر، وكان كل من رآه من بعيد نظر إليه نظر المتعجب وقال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ).
ويذكر أيضًا أنهم قالوا في تقديره: كان من أكابر الأئمة وأوتاد الملة.
وقال الكفوي في ترجمته: إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين، نصره الله بالصراط المستقيم، فصار في نصرة الدِّين القويم، صنف التصانيف الجليلة، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة.
قال صاحب الروضة البهية: اعلم أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلام قطبين: أحدهما: الإمام أبو الحسن الأشعري، والثاني: الإمام أبو منصور الماتريدي، فكل من اتبع واحدًا منها اهتدى وسلم من الزيغ والفساد في عقيدته.
وقال العلامة الدردير: واشتهر الأشاعرة بهذا الاسم -أي أهل السنة- في ديار خراسان والعراق والحجاز والشام وأكثر الأقطار. وأما ديار ما وراء النهر فالمشهور فيها بهذا الاسم هو أبو منصور الماتريدي وأتباعه المعرفون بالماتريدية، وكلام الفريقين على هدى ونور.
وفي مفتاح السعادة: إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما: حنفي، والآخر: شافعي، أما الحنفي: فهو أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي إمام الهدى... وأما الآخر الشافعي: فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدِّين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري.
ويرى الشيخ مُحَمَّد زاهد الكوثري: أنه إذا أطلق أهل السنة فالمراد بهم الأشاعرة
92
والماتريدية، وعند التحقيق، والاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الحديث ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية من الكتاب، والسنة، والإجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي وهم الأشعرية، والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي.
الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية ومبادئهم هي مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكشف والإلهام في النهاية.
وقد ذكر العلامة البغدادي: أن أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، وأخرج من هَؤُلَاءِ الحشوية الذين يشترون لهو الحديث، ومن أهل السنة فقهاء هذين الفريقين -الرأي والحديث- وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث.
ويقول الزبيدي عن الماتريدي في شرحه على الإحياء: وحاصل ما ذكروه أنه كان إمامًا جليلاً مناضلاً عن الدِّين مُجليًا لعقائد أهل السنة، قطع المعتزلة وذوي البدع في مناظراتهم، وخصمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم.
وقال عنه صاحب إشارات المرام العلامة كمال الدِّين أحمد البياضي الحنفي -من علماء القرن الحادي عشر الهجري-: " وحقق الأصول في كتبه بقواطع الأدلة، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية ".
فالماتريدي على هذا محقق مدقق، قال الكوثري يصف تدقيقه وتحقيقه: إلى أن جاء إمام أهل السنة فيما وراء النهر أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماتريدي المعروف بإمام الهدى، فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها، فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد.
يدلنا هذا كله على مكانة الماتريدي العالية، وقدمه الراسخة في العلم، وذيوع شهرته، ومحبة العلماء له، واقتدائهم به، وأخذهم عنه، فرحم اللَّه - تعالى - الشيخ الماتريدي لقاء ما قدمه للعقيدة الإسلامية الصحيحة من جهود مشكورة في الذب عنها، ودحض شبه المغرضين حولها.
93
الباب الثالث
الفرق والمذاهب الإسلامية
ويشتمل على الفصلين الآتيين:
الفصل الأول: الفرق السياسية.
الفصل الثاني: المذاهب الاعتقادية.
95
الفصل الأول
الفرق السياسية
السياق التاريخي لنشأة الفرق الإسلامية:
إن الحديث عن الفرق الإسلامية ومذاهبها السياسية وآرائها العقدية يمت بأوثق الأسباب للأحداث السياسية التي ألمت بالمجتمع الإسلامي منذ وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما شجر بين المسلمين من وجوه الخلاف حول بعض المسائل التي طرأت بعد رحيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم مسألة نشب فيها الخلاف ووقع التخاصم والنزاع بسببها بين المسلمين هي مسألة الإمامة أو الخلافة العظمى، بحيث يصح لنا أن نزعم أن مدار الخلاف بين المسلمين وما انبنى عليه من ظهور الفرق المتباينة في الأصول تباينها في الفروع - على الإمامة.
ومن الحق أن نقرر أن الفرق التي نزعت في أول أمرها منزعًا سياسيًّا، وخرجت إلى الوجود من رحم الأحداث السياسية نفسها، لم تلبث أن صارت لها آراء في الأصول الاعتقادية والفروع الفقهية جميعًا، على نحو مثلت معه هذه الآراء مذاهب مستقلة لعلها أبقى أثرًا وأعظم خطرًا في التاريخ من المعتقدات السياسية التي غدت مسائل تاريخية لا يعول عليها كثيرًا ولا يلتفت إليها إلا قليلاً في واقعنا المعاصر.
ولا غرو في أن ترتبط المذاهب السياسية بالنظريات العقدية في ظل شريعة لا تفصل بين الدِّين والسياسة فصلاً قاطعًا، على غرار الشرائع الأخرى، فالدِّين -في شريعة الإسلام- لب السياسة وقوامها، ووظيفة السياسة منوطة بحماية الإسلام والذود عن أصوله المقررة، وحراسته من عبث العابثين وهجوم المغرضين، وذلك ما سبق إلى الالتفات إليه ابن خلدون حين عرف الخلافة بأنها: " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا ".
وثمة أمر آخر نود الإلماح إليه والتنويه به، وهو أن الخلاف بين الفرق الإسلامية لم يمس ركنًا من أركان الإسلام، أو أصلاً من أصوله الثابتة التي نقلت إلينا بالتواتر فغدت
97
معلومة من الدِّين بالضرورة لا يسع مسلمًا إنكارها أو التشكيك فيها، " فلم يكن الاختلاف في وحدانية اللَّه تعالى وشهادة أن محمدًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أن القرآن نزل من عند اللَّه القدير، وأنه معجزة النبي الكبرى، ولا في أنه يروى بطريق متواتر نقلته الأجيال الإسلامية كلها جيلاً بعد جيل، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم، ولا في طريق أداء هذه التكليفات، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة ".
وغني عن البيان أن شيئًا من الخلاف بين المسلمين لم يقع إبان عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " فقد كان المسلمون على منهاج واحد في أصول الدِّين وفروعه، غير من أظهر وفاقًا وأضمر نفاقًا ".
ولا غرابة في ذلك؛ إذ كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوضح للصحابة ما تشابه عليهم من مسائل الدِّين، ويجيب عما يُطْرَحُ عليه من أسئلة جوابًا يُلْقي في ضمير السائل برد اليقين ويقطع من نفسه وعقله دواعي الحيرة والاضطراب.
ويوشك الإجماع أن ينعقد على أن أول خلاف حقيقي واجه الجماعة الإسلامية ظهر بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو خلافهم حول الإمامة، حيث سارع الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة للنظر في أمر الإمامة وتعيين من يخلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما يوارِ التراب بعد جسده الطاهر، وأذعنت الأنصار إلى البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج غير مدافع، ولم يَرْتَبِ الأنصار في أن الإمامة حق لهم، ولا ينبغي أن تخرج عنهم إلى إخوانهم المهاجرين، ولم يعدموا من الأدلة الواضحة والبراهين المفحمة -في نظرهم- ما يسوقونه بين يدي رأيهم ذاك، " فإن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لَبِثَ في قومه في مكة نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، فما آمن منهم إلا قليل، ولا منعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الأذى ولا أعزوا الدِّين، فلما هاجر من مكة إلى المدينة نصره الأنصار وآمنوا به وأعزوا دينه ومنعوه وصحبه ممن أراد بهم سوءًا وكانوا معه على عدوه حتى خضعت له جزيرة العرب، وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راض، وبهم قرير العين، فهم أولى الناس أن يخلفوه ".
بيد أن " نظرية الأنصار " تلك وجدت إنكارًا ومعارضة من المهاجرين؛ إذ لم يكد خبر السقيفة ينتهي إلى أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - حتى قصدا نحو مجتمع الأنصار في
98
نفر من المهاجرين، لإبداء الرأي في أمر الخلافة، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الإمامة في قريش " وأن العرب لا تذعن بالطاعة إلا لهم، كما أنهم عشيرة الرسول وذوو رحمه، فهم أول من آمن به، واحتملوا في سبيل نصرته من العنت والمشقة شيئًا كثيرا يُسَوِّغُ لهم أن يرثوا الأمر من بعده.
وكما كان الأنصار أول من أعز الإسلام وانتصر له، كانوا أول من حماه شر الفتنة، وعواقب الخلاف، فأذعنوا لإخوانهم المهاجرين منقادين، ورجعوا إلى الحق طائعين " بعد
99
أن قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، من يبارزني؟ وبعد أن قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال. ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه، واجتمعوا على إمامته، واتفقوا على خلافته، وانقادوا لطاعته ".
وثمة نظرية ثالثة ذهب بعض الباحثين إلى أن لها وجودًا ظاهرًا آنذاك، وهي أن تكون الخلافة في بيت النبي، وأولى الناس من قرابة النبي وأمسهم رحمًا به هو علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - فقُدْمَتُه في الإسلام وسابقته في الذود عنه معروفة ذائعة، ومكانه من النبي مكانه، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، ووالد سبطيه الحسن والحسين، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر.
على هذا النحو رأى القائلون بهذه النظرية أن بيت بني هاشم أحق بالخلافة من سواه، وروي في ذلك أن عليًّا سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة فقال: ماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال علي: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ".
يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش وهم قرابته.
ومهما يكن من أمر فقد آل أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكانت بيعته بيعة حرة؛ إذ توفي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دون أن يحدد من يخلفه في هذا الأمر، وخلا الكتاب من النص عليه أو تعيينه، " صحيح أنه قد ورد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر بأن يؤم المسلمين في الصلاة أثناء مرضه الذي مات فيه، وفهم البعض أن الصحابة قد اختاروه لهذا وقالوا: قد اختاره الرسول لأمر ديننا، فأولى أن نختاره لأمر دنيانا، ولكن هذا لا يعد عهدًا، وإن كان في جملته يشير إلى فضل أبي بكر ومقامه بين الصحابة؛ إذ لو كان عهدًا لاستشهد به في السقيفة وحسم النزاع ".
ثم عهد أبو بكر -لما أحس بدنو أجله وخاف على المسلمين شر الفتنة وعاقبة الخلاف
100
- بالإمامة لعمر على سبيل الترشيح.
وسكن الخلاف ونامت الفتنة في خلافة الشيخين أبي بكر وعمر؛ لأنهما أخذا نفسيهما بالعدل الشامل المطلق في دقيق الأمور وجليلها، وانتصف كل واحد منهما من نفسه قبل أن ينتصف من رعيته، وبلغا من العدل والمساواة بين الناس مبلغًا أرهق من أتى بعدهما إذا رغب أن يحذو حذوهما ولا يخالف سيرتهما.
كما شغل المسلمون آنذاك بقمع المرتدين في داخل الجزيرة العربية، وبالجهاد وفتح الأمصار خارجها لنشر الإسلام وإعلان التوحيد، فغدا المسلمون كما كانوا في العهد النبوي على منهاج واحد ورأي واحد أتاح للدولة أن تزدهر في فترة قصيرة من عمر الحضارة الإنسانية.
الفتنة الكبرى في عهد عثمان وعلي ونشأة الأحزاب السياسية:
ولي الخلافة عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب - رضوان اللَّه عليهما - بعد أن أعطى المواثيق والعهود بالنصح للأمة، والالتزام بسنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.
ورضي المسلمون على خلافة عثمان في ست السنين الأولى، ثم نقموا منه أمورًا رأوا أنه خالف فيها عن سيرة الشيخين وانحرف عن سنة النبي الكريم.
واستحال الإنكار الهادئ والاعتراض الناصح سخطًا عارمًا عم الأمصار المختلفة، وثورة عنيفة عمد المنخرطون فيها إلى خلع الخليفة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وأفضت الثورة المسلحة إلى مقتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بعد أن حوصر في داره أربعين يومًا منع خلالها من إمامة المسلمين في الصلاة.
وقد فتح مقتل عثمان على المسلمين باب الفتنة واسعًا، وأذكى نيران الخلاف بينهم من جديد، وأورث القلوب والضمائر ضغنًا وسوء ظن كان خليقًا بأن يعصف بالوحدة الإسلامية ويقوض أركانها في هذا الطور الباكر.
ولم يستطع علي بن أبي، طالب -الذي بويع بالخلافة من أغلبية المسلمين- أن يرأب صدع الخلاف وينتاش المسلمين من هوة الفتنة السحيقة التي تردوا فيها.
101
وكان من أشد المعارضين لعلي طلحة بن عبيد اللَّه والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ رأوا أنه قعد عن نصرة عثمان، وكان في استطاعته رد الناس عنه، وكان من حجة بعضهم أنه -وقد بويع- يجب عليه أن يقتص من قتلة عثمان، ويقول كل من طلحة والزبير: إنه أولى بالمطالبة بدم عثمان؛ لأنه من الستة الذين انتخبهم عمر للشورى، ومن السابقين للإسلام، ويقول معاوية: إنه أولى الناس رحمًا بعثمان، وأقوى أهل بيته على المطالبة بدمه.
يقول أبو الحسن الأشعري: " ثم بويع علي بن أبي طالب - رضوان اللَّه عليه - فاختلف الناس في أمره، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم ".
وأما طلحة والزبير فقُتلا يوم الجمل، وبقي معاوية وحده حاملاً لواء المعارضة لخلافة علي بن أبي طالب، مستعصمًا بالشام مطمئنًا إلى إخلاص أهله وصدق ولائهم.
لم يجد علي بن أبي طالب مفرًّا من قتال معاوية بن أبي سفيان للقضاء على خطره ورد المسلمين إلى ما كانوا عليه من وحدة وتماسك، فقاتله في صفين وكاد النصر يتم له لولا أن عمد معاوية إلى خدعة التحكيم، " فقال لعمرو بن العاص: ألم تزعم أنك لم تقع في أمر فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت؟ قال: بلى، قال: فما المخرج؟ قال له عمرو بن العاص: فلي عليك ألا تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال: لك ذلك، ولك به عهد الله وميثاقه، قال: مر بالمصاحف فترفع، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق كتاب اللَّه بيننا وبينكم، البقية البقية، فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه، وإن خالفك خالفه أصحابه "، وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق، فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار به عليه عمرو بن العاص، ففعلوا ذلك، فاضطرب أهل العراق على عليٍّ - رضوان اللَّه عليه - وأبوا عليه
102
إلا التحكيم، وأن يبعث عليٌّ حكمًا ويبعث معاوية حكمًا، فأجابهم عليٌّ إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه، فلما أجاب عليٌّ إلى ذلك بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكمًا، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكمًا، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، ومن هاهنا بدأ أمر الخلاف بين المسلمين يزداد تشعبا، وبدأت الفرق المختلفة في الظهور، كالتالي:
أولًا: الخوراج
بينا في هذا العرض السابق لأحداث النزاع بين عليٍّ ومعاوية أن أصحاب عليٍّ من أهل العراق قد حملوه حملاً على إجابة معاوية إلى التحكيم حين أمر بالمصاحف فرفعت على أسنة الرماح، وقال أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق، كتاب اللَّه بيننا وبينكم، وذلك على الرغم من أن عليًّا - كرم اللَّه وجهه - بَيَّنَ لهم ما ينطوي عليه نداء معاوية بتحكيم كتاب اللَّه من مكر وخديعة، فأبوا إلا التحكيم.
فلما وقف هَؤُلَاءِ على خدعة التحكيم وأدركوا مرماه البعيد الذي أراده معاوية، رفضوا التحكيم وطلبوا إلى علي أن ينقض ما أعطاه للحكمين -أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص- من العهد والميثاق؛ لأن حكم اللَّه في الأمر واضح جلي، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما المحق، وليس يصح هذا الشك؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون -بلا شك- أن الحق في جانبهم. وهذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية: " لا حكم إلا لله " فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي، وتجاوبتها الأنحاء، وأصبحت شعار هذه الطائفة.
وذهبت الخوارج إلى إكفار علي إذ قبل التحكيم، وطلبوا إليه أن يقر بما باء به من إثم ثم يتوب ويرجع إلى قتال أهل البغي؛ وإلا تخلوا عنه وصاروا من عدوه بعد أن كانوا من شيعته.
فأبى علي إلا الوفاء بما أعطى من عهود ومواثيق، ثم كيف يقر على نفسه بالكفر ولم يشرك باللَّه شيئًا مذ آمن، وهبه أخطأ في قبول التحكيم -مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قبله مضطرًّا لا مختارًا - فلا يعدو أن يكون مجتهدًا أخطأ فله أجر واحد، وإن كان قد أصاب فله أجران، ولا يستقيم لذي عقل إكفار المجتهد المخطئ.
103
جماع رأي الخوراج وما جمعهم من مبادئ:
لم تلبث آراء الخوراج السياسية أن تحددت، وأخذت شكل نظرية يسع الدارسين ومؤرخي الفرق إضافتها إلى النظريات السياسية الإسلامية، ولا ريب أن مناظرات رؤسائهم ومجادلاتهم لخصومهم كابن عَبَّاسٍ، وعلي بن أبي طالب وابن زياد وعبد اللَّه بن الزبير قد أسهمت بشكل ملحوظ في بلورة موقفهم السياسي وتحديد معالمه.
ومعلوم أن الخوراج لم يكونوا نحلة واحدة متفقة آراؤها وأنظارها إلى مسائل السياسة والعقيدة، بل تفرقوا أحزابًا شتى ومذاهب متعارضة، بيد أن ثمة مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة، هما:
- القول بإكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بتحكيم الحكمين.
- أما المبدأ العام الثاني: فهو وجوب الخروج على الإمام الجائر.
وقد ذكر الكعبي في مقالاته أن مما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها الإكفار بارتكاب الذنوب، بيد أن عبد القاهر البغدادي ذهب إلى أن رأي الكعبي منابذ للصواب، وأنه قد أخطأ في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم، واحتج البغدادي بأن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقيهم، وقد قال قوم من الخوارج: إن التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص، فأما الذنب الذي فيه حدٌّ أو وعيد في القرآن، فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه، مثل تسميته زانيًا وسارقًا، ونحو ذلك.
وقد قالت النجدات: إن صاحب الكبيرة من موافقيهم كافر نعمة وليس فيه كفر دين.
يقول عبد القاهر البغدادي: وفي هذا بيان خطأ الكعبي في حكايته عن جميع الخوراج تكفير أصحاب الذنوب كلهم منهم ومن غيرهم.
وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا أبو الحسن - رحمه اللَّه - من تكفيرهم عليًّا وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم.
104
ومهما يكن من أمر فإن ما ذهب إليه الخوارج من تكفير لأقطاب الصحابة وأعلامهم قد دفع المسلمين إلى البحث في ماهية الكفر والإيمان؟ وتمييز الحدود الفارقة بين المعصية والكفر والفسوق، والتماس العلاقة بين الإيمان وبين العمل، إلى آخر هذه المسائل اللاهوتية التي ترتب عليها نشأة كثير من الفرق الدِّينية.
ومن بين المبادئ التي أذاعها الخوارج في المجتمع الإسلامي أن الخلافة ليست حقًّا مقصورًا قريش دون سائر العرب، بل يتولاها من تحققت فيه شروطها من الكفاية والعدل والبيعة الحرة، وخالفوا في ذلك ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من اشتراط القرشية إعمالاً لحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الأئمة من قريش ".
ورأى الخوارج أن عدم اشتراط القرشية ينسجم مع ما جاء به الإسلام من مبادئ العدل والمساواة بين الناس دونما نظر إلى لون أو جنس، فمناط المفاضلة بين الناس التقوى والعمل الصالح.
فرق الخوارج:
الخوارج عشرون فرقة، ذكرها البغدادي صاحب الفرق بين الفرق وهي: المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقًا منها: الحازمية، والشعيبية، والمعلومية، والمجهولية، وأصحاب طاعة لا يراد اللَّه تعالى بها، والصلتية، والأخنسية، والشبيبية، والشيبانية، والمعبدية، والرشيدية، والمكرمية، والحمزية، والشمراخية، والإبراهيمية، والواقفة، والإباضية.
والإباضية منهم افترقت فرقًا معظمها فريقان: حفصية وحارثية.
وليس من وكدنا في هذا المقام -وهو مقام إيجاز واختصار وليس مقام بسط وتطويل- أن نستوعب آراء هذه الفرق جميعها، وإنما نجتزئ بذكر فرق خمسة منها، رأى الباحثون قبلنا أنها أشهر فرق الخوارج، وهي:
- المحكمة الأولى.
105
- الأزارقة.
- النجدات.
- الصفرية.
- الإباضية.
أولًا: المحكمة الأولى:
وهم من خرج على عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قبل التحكيم، ويقال لهم: محكمة، وشراة، وسموا محكمة؛ لقولهم: " لا حكم إلا لله "، وأما تسميتهم بالشراة فمحمولة على قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، فكانوا يقولون: شرينا أنفسنا في طاعة اللَّه، أي: بعناها بالجنة.
يقول عبد القاهر البغدادي: " واختلفوا في أول من تشرى منهم، فقيل: عروة بن حدير أخو مرداس الخارجي، وقيل: أولهم يزيد بن عاصم المحاربي، وقيل: رجل من ربيعة من بني يشكر، كان مع عليٍّ بصفين، فلما رأى اتفاق الفريقين على الحكمين استوى على فرسه وحمل على أصحاب معاوية وقتل منهم رجلاً، وحمل على أصحاب عليٍّ وقتل منهم رجلاً، ثم نادى بأعلى صوته، ألا إني قد خلعت عليًّا ومعاوية، وبرئت من حكمهما ثم قاتل أصحاب عليٍّ حتى قتله قوم من همدان ".
ومهما يكن من أمر فقد انحاز الخوارج بعد صفين إلى حروراء، وهم يومئذ اثنا عشر ألفًا، وزعيمهم يومئذ عبد اللَّه بن الكواء وشبث بن ربعي، فخرج إليهم علي بن أبي طالب يناظرهم فوضحت حجته عليهم، فلم يسع بعض الخوارج إلا الإذعان للحق، فانضموا إلى علي وكان منهم ابن الكواء نفسه، وخرج الباقون إلى النهروان وأَمَّرُوا على أنفسهم رجلين، أحدهما: عبد اللَّه بن وهب الراسبي، والآخر: حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية.
فلما رأى علي انحراف الخوارج عن سماحة الإسلام ومحاولتهم فرض آرائهم على الناس بالقوة والبطش وليس بالجدال بالتي هي أحسن، عمد إليهم في أربعة آلاف من أصحابه، وناظرهم مرة أخرى، وبين لهم وجه الحق فيما نقموا منه، فاستمال منهم يومئذ ثمانية آلاف، ولم يبق إلا أربعة آلاف أبوا إلا قتال عليٍّ وأَمَّرُوا عليهم -كما ذكرنا-
106
عبد اللَّه بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي.
والتقى الجمعان في النهروان، وظهر عليٌّ وصحبه على الخوارج، وقتل عبد اللَّه بن وهب، وذو الثدية، ولم يفلت من الخوارج في هذا اليوم إلا تسعة أنفس:
صار منهم رجلان إلى سجستان، ومن أتباعهما خوارج سجستان، ورجلان إلى اليمن، ومن أتباعهما إباضية اليمن، ورجلان صارا إلى عمان، ومن أتباعهما خوارج عمان، ورجلان إلى ناحية الجزيرة، ومن أتباعهما كان خوارج الجزيرة، ورجل منهم صار إلى تل موزن.
خلاصة رأي المحكمة الأولى:
ذهب المحكمة الأولى -كسائر الخوارج- إلى إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل وصفين، ومعاوية وصحبه، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم.
ومن آرائهم كذلك إكفار كل ذي ذنب ومعصية، والقول بخلوده في النار.
ثانيًا: الأزارقة:
تنسب هذه الفرقة إلى نافع بن الأزرق الحنفي، وهم أقوى فرق الخوارج بأسًا وأعزها نفرًا، يقول البغدادي: " ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددًا ولا أشد منهم شوكة ".
وقد بايع الأزارقة نافع بن الأزرق وسموه أمير المؤمنين، ولم يلبث أن انضم إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفًا.
وقد هدد الخوارج الأزارقة الدولة الإسلامية تهديدًا كبيرًا، حيث استولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس، ثم بسطوا نفوذهم على كرمان وجبوا خراجها، فحاربهم عبد اللَّه بن الحارث عامل عبد اللَّه بن الزبير على البصرة، ومنيت الجيوش التي وجهها لقتالهم بهزائم منكرة، فعهد عبد اللَّه بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة بقتالهم، فهزمهم عند الأهواز وقتل نافع بن الأزرق، فبايعت الأزارقة بعده عبيد اللَّه بن مأمون التميمي فقتل، ثم بايعوا قطري بن الفجاءة وسموه أمير المؤمنين، " فقاتلهم المهلب حروبًا كانت سجالاً، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس، وجعلوها دار هجرتهم، وثبت المهلب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة، بعضها في أيام عبد اللَّه بن
107
الزبير، وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحجاج على العراق ".
وكان المهلب قبل الواقعة يثير خلافهم، فتحتدم المناقشة بينهم احتدامًا شديدًا، ثم يلقاهم وهم على هذا الخلاف؛ ولذا أخذ شأن الخوارج يضعف في عهد قطري بن الفجاءة؛ لاختلافهم فرقًا من جهة، ولأثر هذا الاختلاف في مواقفهم في ميدان القتال من جهة ثانية، وتألب المسلمين عليهم من جهة ثالثة، وغلظتهم في معاملة مخالفيهم من جهة رابعة.
وقد توالت هزائمهم على يد المهلب ومن جاء بعده من قواد الأمويين حتى انتهى أمرهم.
خلاصة المبادئ التي اعتنقها الأزارقة:
أجمل عبد القاهر البغدادي مبادئ الأزارقة في مسائل أربعة:
أولاً: قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون: إنهم كفرة لا مشركون.
ثانيًا: قولهم: إن القعدة -ممن كان على رأيهم- عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم.
ثالثًا: أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم: أن يُدْفعَ إليه أسير من مخالفيهم ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم، وإن لم يقتله قالوا: هذا منافق ومشرك وقتلوه.
رابعًا: استباحوا قتل نساء مخالفيهم، وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار.
ومن آرائهم كذلك: أن مرتكب الكبيرة والمعصية كافر مخلد في النار، وأن دار مخالفيهم دار كفر، كما يكفرون -كسائر الخوارج- عليًّا في التحكيم، والحكمين أبا موسى وعمرو بن العاص.
108
ومن الآراء الفقهية التي انفرد بها الأزارقة:
أنهم ينكرون حد الرجم على الزاني المحصن، وحجتهم في ذلك أن القرآن لم ينص على ذلك، فيهملون بذلك السنة الصحيحة في رجم الزاني المحصن.
كما يرون أن حد القذف لا يثبت إلا لمن يقذف محصنة بالزنى، ولا يثبت على من يقذف المحصنين من الرجال؛ لأنهم أخذوا بظاهر النص (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤). فلم يذكر حد قذف المحصنين من الرجال.
ثالثًا: النجدات:
وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي، والسبب في ظهور هذه الفرقة أن بعض الخوارج الأزارقة قد نقموا من رئيسهم نافع بن الأزرق براءته من القعدة عنه بعد أن كانوا على رأيه وإكفاره إياهم، وأنه استحل قتل أطفال مخالفيه ونسائهم؛ ففارق نافعًا جماعة من أتباعه منهم أبو فديك وعطية الحنفي، وراشد الطويل وغيرهم، وذهبوا إلى اليمامة، وبايعوا بها نجدة بن عامر وأكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم، كما أكفروا من قال بإمامة نافع.
ومن المسائل التي خالف فيها النجدات الأزارقة استحلالهم دماء أهل الذمة، وأما الأزارقة فذهبوا إلى تحريم دمائهم احترامًا لذمتهم التي دخلوا بها في أمان أهل الإسلام.
وقال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام، من ناحية الشرع، وأن إقامة إمام واجبة وجوبًا مصلحيًّا، فإذا أقام المسلمون حدود الدِّين والتزموا أحكام الشريعة وتناصفوا فيما بينهم، فليس ثمة حاجة إلى وجود خليفة أو إمام.
وقد ابتدع النجدات مبدأً جديدًا لم يكن معروفًا عند الخوارج آنذاك، وهو مبدأ التقية ومعناه: " أن يظهر الخارجي أنه جماعي؛ حقنًا لدمه، ومنعًا للاعتداء عليه، ويخفي عقيدته حتى يحين الوقت المناسب لإظهارها ".
109
وقد تولى نجدة أصحاب الحدود ممن هم على مثل رأيه، وقال: لعل اللَّه يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه.
وزعم النجدات كذلك أن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة ثم أصر عليها فهو مشرك، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم.
فمناط الشرك في ارتكاب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إنما هو الإصرار عليها، فمن أصر على صغيرة فهو مشرك، ومن لم يصر على كبيرة فهو مسلم، وإن شاب إسلامه شيء من نقص، يلحقه بأهل المعصية.
ومن بدع نجدة وضلالاته أنه أسقط حد الخمر.
وجماع مذهب النجدات أن الدِّين أمران:
أحدهما: معرفة اللَّه تعالى ومعرفة رسوله، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم.
والثاني: الإقرار بما جاء من عند اللَّه جملة.
وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع، فإن الناس يعذرون بجهلها، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ.
ولم يلبث النجدات أن ثاروا على رئيسهم نجدة وخرجوا عليه لأمور نقموها منه، وقد تشعبوا لهذا إلى ثلاث فرق:
١ - فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان، وتبعهم خوارج سجستان؛ ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت: عطوية.
٢ - وفرقة صارت مع أبي فديك حربًا على نجدة، وهم الذين قتلوا نجدة.
٣ - وفرقة عذروا نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته.
رابعًا: الصفرية:
تنسب هذه الفرقة من الخوارج إلى زياد بن الأصفر، وقد اختلف الخوارج الصفرية في
110
الحكم على مرتكب الكبيرة، وتباينت آراؤهم في ذلك أشد التباين:
فمنهم من ذهب إلى الحكم عليه بالشرك، شأنهم في ذلك شأن الأزارقة.
وزعم بعضهم أن الذنب الموضوع له حد لا نتجاوز تسمية اللَّه فيه من أنه زانٍ أو سارق أو قاذف وليس صاحبه كافرًا ولا مشركًا، أما الذنب الذي لم تقرر له الشريعة حدًّا كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر.
وثمة من الصفرية من رأى أن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده.
ولم ير الصفرية -خلافًا للأزارقة- فتل أطفال مخالفيهم وسبي نسائهم، كما أنهم لا يوافقون الأزارقة فيما ذهبوا إليه من عذاب الأطفال.
ومن أئمة الصفرية: عمران بن حطان السدوسي، وأبو بلال مرداس الخارجي.
فأما أبو بلال مرداس، فقد خرج في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عبيد الله ابن زياد، فأرسل إليه عبيد اللَّه من قتله.
فلما قتل مرداس اتخذت الصفرية عمران بن حطان إمامًا، وهو الذي رثى مرداسًا بقصائد يقول في بعضها:
وليس اختياري سمرقند محلة ودار مقام لا اختيار ولا رضا
أنكرتُ بعدك ما قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
وكان عمران بن حطان هذا ناسكًا شاعرًا شديدًا في مذهب الصفرية وبلغ من خبثه في بغض علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم، وقال في ضربه عليًّا:
يا ضربة من منيب ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكره يومًا فأحسبه أوفى البرية عند اللَّه ميزانًا
قال عبد القاهر: وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا:
111
ويقول الإمام مُحَمَّد أبو زهرة في شأن هذه الفرقة: " ومن أخبار الذين تولوا أمر هذه الطائفة من الخوارج نتبين أنها لا ترى إباحة دماء المسلمين، ولا ترى أن دار المخالفين دار حرب، ولا ترى جواز سبي النساء والذرية، بل لا ترى قتال أحد غير معسكر السلطان ".
خامسًا: الإباضية:
وإمام هذه الفرقة عبد اللَّه بن إباض، به تعرف وإليه تنسب، وقد افترقت إلى فرق أربعة، بيد أن ثمة مبادئ مشتركة تجمع بينها وتسوغ للباحث ردها إلى أصل واحد أو فرقة واحدة، ومنها:
القول بأن مخالفيهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين، ولكنهم كفار، وكفرهم كفر نعمة لا كفر اعتقاد؛ وذلك لأنهم لم يكفروا باللَّه، ولكنهم قصروا في جنب اللَّه تعالى.
وصحح الإباضية مناكحة مخالفيهم والتوارث بينهم، وأجازوا شهادتهم.
وذهب الإباضية إلى أن دماء مخالفيهم حرام، وإن أسروا ذلك في أنفسهم ولم يعلنوه.
واستحل الإباضية من غنائم المسلمين الخيل والسلاح، وسواهما من أدوات الحرب وأسباب القوة، دون الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابهما عند الغنيمة.
ويقول الإمام مُحَمَّد أبو زهرة عن الإباضية: " وهم أكثر الخوارج اعتدالًا، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرًا، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو؛ ولذلك بقوا، ولهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية، وبعض آخر في بلاد الزنجبار، ولهم آراء فقهية، وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم، وذلك في الميراث بولاء العتاقة، فإن القانون المصري أخره عن كل الورثة حتى عن الرد على أحد الزوجين، مع أن المذاهب الأربعة كلها تجعله عقب العصبة النسبية ويسبق الرد على أصحاب الفروض الأقارب ".
ثانيا: الشيعة
نشأ المذهب الشيعي -كما ألمحنا إلى ذلك آنفًا- كنتيجة مباشرة لإشكالية الإمامة التي
112
أورثت الجماعة الإسلامية شيئًا غير قليل من الفرقة والاختلاف، ومزقتهم شيعًا وأحزابًا متصارعة.
ولم يكن لدى أعضاء هذا الحزب في مبدأ ظهوره تصور محدد أو فكرة واضحة عن نظرية الإمامة، غاية الأمر أن ثمة من المسلمين من رأى أن عليًّا أحق بالخلافة من سائر أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أولى قرابته بها، فيذكر ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن من الصحابة من فضلوا عليًّا، وذهبوا إلى القول بأن الخلافة حق له، منهم: عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي بن كعب، وحذيفة، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وأبو الهيثم بن التيهان، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وبنو هاشم كافة.
تلك هي الفكرة المبدئية التي قام على أساسها مذهب الشيعة، ثم تطورت هذه الفكرة نتيجة عوامل متباينة إلى نظرية لها أصول محددة وقواعد مجمع عليها من جانب الشيعة.
وأول هذه العوامل: الشعور العاطفي الذي خامر نفوس أكثر المسلمين بسبب الاضطهاد الذي وقع على آل بيت النبي عامة، وآل عليٍّ خاصة، والأحداث المحزنة التي تعاقبت على عليٍّ وآله، ونستطيع أن نلتمس هذه الأحداث في " مصرع عليٍّ على يد الخوارج، ثم في التِياثِ (١) الأمر على ابنه الحسن، وتخاذل الناس عن نصرته حتى اضطر إلى التسليم، ثم في موته في ظروف مريبة غامضة يرى شيعته أنها من تدبير أعدائه، فبموته ضاع الأمل الذي كان باقيًا في أن حقه ربما كان سيعود إليه بعد وفاة معاوية. ثم في قسوة زياد -الذي ألحقه معاوية بنسبه- على رجال الشيعة واضطهاده لهم، وإرساله حجر بن عدي -من زعمائهم ومن أشراف العرب ومن خير الناس تقوى وعبادة، وأبطال فتح نهاوند- إلى الشام ليقتل؛ وذلك لاتهامه بأنه كان يعمل لإحداث ثورة في الكوفة، ثم في تقرير معاوية العهد لابنه يزيد، فأغلق الباب نهائيَّا على أي أمل في عودة أبناء علي إلى الخلافة.
وأخيرًا وهذه هي الطامة الكبرى والفاجعة التي حفرت في قلوب الشيعة وقلوب المسلمين آثارًا عميقة من الحزن واللوعة، لا يمكن أن يمحوها الزمن: ألا وهي مقتل الحسين. كل هذه الأحداث أو المآسي المتتابعة هي التي كونت فرقة الشيعة ودفعتهم إلى إنتاج آرائهم، وأعطتهم هذه القوة التي جعلت منهم أكبر هيئة في المعترك السياسي الدِّيني،
(١) الِالْتِيَاثُ: الاختِلاط وَالِالْتِفَافُ؛ يُقَالُ: الْتاثَتِ الخطُوب، والتاثَ برأْس الْقَلَمِ شعَرة، وإِنَّ الْمَجْلِسَ لِيَجْمَعُ لَوِيثَةً مِنَ النَّاسِ أَي أَخلاطاً لَيْسُوا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَنَاقَةٌ ذاتُ لَوْثٍ أَي لَحْمٍ وسِمَنٍ قَدْ لِيثَ بِهَا. وَالْمُلَاثُ والمِلْوَث: السَّيِّدُ الشَّرِيفُ لأَنَّ الأَمر يُلاثُ بِهِ ويُعْصَب أَي تُقْرَنُ بِهِ الأُمور وتُعْقَدُ، وَجَمْعُهُ مَلاوِث. اهـ (لسان العرب. ٢/ ١٨٧).
113
ومكنتهم من أن يصيروا الحزب الخالد الذي لا يزال باقيًا بتمام قوته ووجوده إلى اليوم ".
إذن فقد أسهمت هذه الأحداث المفجعة في تكوين فرقة الشيعة وفي إنتاج آرائها في السياسة ثم في العقيدة، وبَيَّنٌ أن هذا العامل التاريخي يستند على الشعور والوجدان أكثر مما يقوم على البرهان والحجة.
وثمة عامل آخر ساعد بشكل كبير على قوة التيار الشيعي، ومنحه ذيوعًا وانتشارًا، وتأثيرًا في الحياة السياسية، ألا وهو انضمام الموالي الفرس إلى الحركة الشيعية.
والحق أن فكرة الشيعة عن الخلافة وما ذهبوا إليه من ضرورة تخصيصها بعلي وبنيه لاءمت إلى حد كبير نظرية الحق الملكي المقدس التي اعتنقها الفرس؛ يقول الأستاذ دوزي موضحًا حقيقة هذا العامل: " إن الشيعة فرقة فارسية في حقيقتها وجوهرها... إن الفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب، فهذه الفكرة غير معهودة له وغير معقولة، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكنه أن يفهمه هو مبدأ الوراثة، وكل الذي كان هو في حاجة إليه، وقد تغيرت بيئته واعتنق دينًا جديدًا، هو أن ينقل ولاءه ويحول وجهة شعوره من أفراد أسرة مقدسة إلى أخرى. فليس من المبالغة إذن في شيء -وإن كان الدافع ونوع العاطفة ولا شك مختلفين وكان حدوث العملية غير شعوري- أن يقال: إن " البيت النبوي "، وقد مثله آل علي، قد حل في قلوب الفرس واعتبارهم محل بيت آل ساسان ".
ويسعنا أن نضيف سببًا آخر يفسر لنا انضمام الفرس إلى الشيعة وهو دفاعهم عما رأوه حقًّا لعلي وبنيه، وهو اضطهاد الأمويين للموالي والذي أورثهم شعورًا مؤلمًا بانخفاض مستواهم المعيشي، وتدني مكانتهم الاجتماعية عن العرب.
نتج عن العوامل السابقة مجتمعة تطور الفكرة الشيعية وتبلور ملامحها، وغدا للشيعة رأي محدد في الإمامة ذكره ابن خلدون فقال: " إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بتعيينهم، بل هي ركن الدِّين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصومًا من الكبائر والصغائر، وإن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الذي عينه صلوات الله
114
وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة ".
أبرز فرق الشيعة:
يطلق مصطلح الشيعة على فرق عدة منها المتطرف ومنها المقتصد، عد منها البغدادي عشرين فرقة اعتبرها معدودة في فرق الأمة، وما سوى هذه الفرق العشرين، فليسوا من فرق الإسلام وإن كانوا منتسبين إليه.
ونكتفي هاهنا بذكر أبرز فرق الشيعة:
الزيدية:
تنسب هذه الفرقة إلى زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان زيد قد خرج على هشام بن عبد الملك بالكوفة فقتل وصلب، ويقول المسعودي في سبب خروجه:
كان زيد دخل على هشام، فلما مثل بين يديه لم ير موضعًا يجلس فيه فجلس حيث انتهى به المجلس، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى اللَّه ولا يصغر دون تقوى اللَّه، فقال هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك جوابًا إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت سكت عنه، فقال هشام: بل أجب قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن يبعثه اللَّه نبيًّا، وجعله اللَّه للعرب أبًا، فأخرج من صلبه خير البشر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول:
يا ضربة من كفور ما استفاد بها إلا الجزاء بما يصليه نيرانا
إني لألعنه دينًا وألعن من يرجو له أبدًا عفوًا وغفرانًا
ذاك الشقي لأشقى الناس كلهم أخفهم عند رب الناس ميزانًا
115
شرده الخوف وأزرى به كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الكمين يشكو الجوى تنكثه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة والموت حتم في رقاب العباد
إن يحدث اللَّه له دولة يترك آثار العدا كالرماد
فمضى إلى الكوفة وخرج عنها، ومعه القراء والأشراف، فلما قامت الحرب انهزم عنه أصحابه، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتل بهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً:
أذل الحياة وعز الممات وكلا أراه طعامًا وبيلاً
فإن كان لابد من واحد فسيري إلى الموت سيرًا جميلاً
وانتهى الأمر بقتله.
والحق أن الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية وأكثرها اعتدالاً؛ فهي لم ترفع الأئمة إلى مرتبة النبوة، بل لم ترفعهم إلى مرتبة تقاربها بل اعتبروهم كسائر الناس، ولكنهم أفضل الناس بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والزيدية لا يؤمنون بأن الإمام الذي أوصى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد عينه بالاسم والشخص، بل عرفه بالوصف، وأن الأوصاف التي عرفت تجعل الإمام عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الإمام من بعده؛ لأن هذه الأوصاف لم تتحقق في أحد بمقدار تحققها فيه. وهذه الأوصاف توجب أن يكون هاشميا ورعا تقيا، عالمًا سخيا، يخرج داعيًا لنفسه، ومن بعد علي يشترط أن يكون فاطميًّا أي من ذرية السيدة فاطمة رضي اللَّه عنها.
الإمامية:
وهم يجعلون الإمام بعد علي زين العابدين مُحَمَّد الباقر لا زيد بن علي، وأهم فرقهم الاثنا عشرية والإسماعيلية.
والاثنا عشرية هي الفرقة التي تقول باثنى عشر إمامًا، هم: علي المرتضى، والحسن المجتبى، والحسين الشهيد، وعلي زين العابدين السجاد، ومُحَمَّد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومُحَمَّد النقي، وعلي التقي، والحسن العسكري الزكي، ومُحَمَّد المهدي الذي اختبأ واختفى سنة ٢٦٠ هـ وما يزال مستورًا حتى يظهر في آخر الزمان؛ ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا.
116
أما الإسماعيلية فساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل، وإليه تنسب هذه الفرقة.
وافترقت الإسماعيلية فرقتين:
- فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.
- وفرقة قال: كان الإمام بعد جعفر سبطه مُحَمَّد بن إسماعيل بن جعفر، حيث إن جعفرًا نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه مُحَمَّد بن إسماعيل.
وقد نشأ ذلك المذهب بالعراق كغيره من مذاهب الشيعة، واضطهد كما اضطهد غيره، وقد فر المعتنقون له بتأثير الاضطهاد إلى فارس وخراسان، وما وراء ذلك من الأقاليم الإسلامية كالهند والتركستان، وهناك خالط مذهبهم بعض آراء من عقائد الفرس القديمة، والأفكار الهندية، وتحت تأثير ذلك انحرف كثيرون منهم فقام فيهم ذوو أهواء؛ ولذلك حمل اسم الإسماعيلية طوائف كثيرة، بعضهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وبعضهم انحرفوا بما انتحلوا من نحل لا يتفق ما اشتملت عليه مع المقرر الثابت من الأحكام الإسلامية، وقد سموا الباطنية أو الباطنيين؛ وذلك لاتجاههم إلى الاستخفاء عن الناس، الذي كان وليد الاضطهاد أولًا، ثم صار حالة نفسية عند طوائف منهم.
ومن الآراء الشاذة التي قال بها الإسماعيلية الباطنية:
- زعمهم أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبًا للزعامة بدعوة النبوة والإمامة.
- تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلًا يورث تضليلًا، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق.
وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
117
كما زعموا أن تكاليف الدِّين وشعائره ليست إلا للعامة ولا يلزم الخاصة أن يعملوا بها.
ويقول البغدادي موضحًا خطر الباطنية: " اعلموا -أسعدكم اللَّه- أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأن الذين ضلوا عن الدِّين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يومًا، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر.
الكيسانية والراوندية:
سميت الكيسانية بذلك نسبة إلى كيسان رئيس جند المختار ابن عبيد اللَّه الثقفي الذي خرج ودعا إلى مُحَمَّد بن الحنفية.
ْومنهم من يزعم أن مُحَمَّد بن الحنفية لا يزال حيًّا بجبال رضوى.
ومنهم من قال: إن الإمام بعد ابن الحنفية ابنه عبد اللَّه بن مُحَمَّد أبو هاشم الذي أوصى لمُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس بالإمامة، ومن ثم انتقلت الإمامة من أبناء علي إلى أبناء العباس.
ومن الكيسانية نشأت الراوندية، حيث أوصى مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس إلى ابنه إبراهيم، وإبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية.
والراوندية فرقة تشيعت للعباسيين ولم تكتف بمدح العباس بل أنكروا على أبي بكر وعثمان أن تقلدوا الخلافة مع وجود العباس، وأنه ما كان يجوز لأحد أن يتولاها إلا العباس وعلي؛ لأن العباس أذن له فيها.
بل ذهبوا إلى أبعد من هذا حينما قَالَ بَعْضُهُمْ بالتناسخ، أي: حلول روح آدم في زعيم لهم، وروح جبريل في آخر.
118
ثالثًا: المرجئة
يوشك إجماع المؤرخين والمهتمين بعلم الكلام أن ينعقد على أن ظهور المرجئة كفرقة لها قسماتها الفكرية المميزة وآراؤها العقدية المغايرة للمألوف آنذاك - قد ارتبط ارتباطًا مباشرًا بمغالاة الخوارج في تكفير مخالفيهم، والنظر إلى مرتكب الكبيرة على أنه كافر، تخرجه ذنوبه من دائرة الإيمان والإسلام جميعًا، واعتبار العمل جزءًا من إيمان صاحبه، وأن الفصل بينهما فصل بين مرتبطين ضرورة.
وعلى العكس من معتقد الخوارج، ذهبت المرجئة إلى أن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ووليٌّ لله عَزَّ وَجَلَّ، من أهل الجنة.
ولما كان الإيمان عند المرجئة غير مرتبط بعمل الجوارح قال مقاتل بن سليمان -وكان من كبار المرجئة-: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلًا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً.
وذهب عبد القاهر البغدادي إلى أن سبب تسميتهم بالمرجئة من الإرجاء بمعنى التأخير؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، بيد أن الراجح لدينا فيما يتصل بأمر التسمية، أنهم سموا بذلك؛ لأنهم يرجئون الحكم على صاحب الكبيرة إلى يوم الدِّين، ويفوضون أمره إلى ربه.
ونحسب أن هذا الرأي يستقيم مع الملابسات التاريخية التي واكبت نشأة المرجئة في المجتمع الإسلامي، فهم قد ظهروا في عصر غلبت عليه نزعة تكفير الخصوم، أو على أقل تقدير نسبتهم إلى الفسوق والعصيان والمخالفة عن أوامر اللَّه، أما الخوارج فيكفرون عثمان وعليًّا والقائلين بالتحكيم، وثمة من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان، والفريقان جميعًا -الشيعة والخوارج- يكفرون الأمويين ويعدونهم مغتصبين للخلافة،
119
والأمويون يقاتلون الجميع ويرون أنهم ضالون مضلون، " فظهرت المرجئة تسالم الجميع، ولا تكفر طائفة منهم، وتقول: إن الفرق الثلاث: الخوارج والشيعة والأمويين مؤمنون، وبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب، ولسنا نستطيع أن نعين المصيب، فلنترك أمرهم جميعًا إلى اللَّه، ومن هَؤُلَاءِ بنو أمية، فهم يشهدون أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدًا رسول اللَّه، فليسوا إذن كفارًا ولا مشركين، بل مسلمين نرجىء أمرهم إلى اللَّه الذي يعرف سرائر الناس ويحاسبهم عليها ".
والحق أن هذه الفرقة قد وجدت لنفسها من مواقف بعض الصحابة تجاه الفتنة مستندًا دعمت به وجهة نظرها، بل يصح لنا أن نعتبر مواقف هَؤُلَاءِ الصحابة البذرة الأولى التي نبتت منها المرجئة، وتفصيل ذلك أن ثمة من الصحابة فئة لما رأوا الفتنة محدقة بالمسلمين، ومقالة الكفر فاشية بين الناس جارية على ألسنتهم يرمون بها كل أحد مهما علا قدره وتميزت مكانته -: اعتصمت هذه الفئة من الصحابة بالصمت، وأحجمت عن الانخراط في الفتنة، وتمسكت بحديث أبي بكرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ستكون فتن: القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه، فقال رجل: يا رسول اللَّه، من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة ".
ومن الصحابة الذين امتنعوا عن المشاركة في الفتنة عملًا بحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: سعد ابن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو بكرة راوي الحديث وعمران بن الحصين، وروي أن سعد بن أبي وقاص كان يقول إذا سئل القتال: " لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول: هذا مؤمن وهذا كافر ".
" وبهذا أرجئوا الحكم في أيِّ الطائفتين أحق، وفوضوا أمورهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى. وقد قال النووي في ذلك: " إن القضايا كانت بين الصحابة مشبهة، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا
120
الصواب ".
إن الحقيقة التي ينبغي التنويه بها والإشارة إليها في هذا المقام، أن فرقة المرجئة على الرغم من خروجها من رحم الأحداث السياسية، فإنها مذهب ديني فلسفي، موضوعه البحث عن حقيقة الإيمان وعلاقة العمل به، وكانت الغاية التي تهدف إليها -أصلًا- الامتناع عن التسرع في إصدار الأحكام على أعمال الصحابة والتابعين، ولا سيما تلك التي صدرت في خلال المنازعات التي وقعت بينهم، فنظرة هذا المذهب إذن كانت إلى الماضي، وكان حكمه على أعمال تاريخية.
وقد صور ثابت قطنة -شاعر المرجئة- عقيدة الإرجاء خير تصوير في قصيدة له، نجتزئ منها بهذه الأبيات:
يا هند فاستمعي لي إن لسيرتنا أن نعبد اللَّه لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم والمشركون استووا في دينهم قددا
ولا أرى أن ذنبًا بالغ أحدًا م الناس شركًا إذا ما وحدوا الصمدا
بدع المرجئة وضلالهم:
إن تحرج المرجئة من الحكم على أعمال الصحابة، وتأثمهم من تكفير صاحب الكبيرة يحمد لهم من غير مماراة، وهم في ذلك لا يخالفون المسلمين من حيث تفويض أمر مرتكب الكبيرة إلى اللَّه، إن شاء عذبه، وإن شاء تغمده برحمته وأدخله الجنة.
بيد أن المرجئة المتأخرين قد بالغوا في فصل الإيمان عن العمل، فأتوا بدعًا وضلالات تخرجهم من دائرة الإسلام أصلاً، فزعموا -كما أشرنا في صدر الحديث عنهم- أنه لا يضر مع الإيمان ذنب جلَّ أو صغر، كما لا يجدي مع الشرك والكفر طاعة، فالإيمان في القلب واللسان، وهو المعرفة باللَّه تعالى، والمحبة والخضوع له بالقلب.
121
وزعم أبو الحسين الصالحي أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته، والإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة.
بل إن بعضهم زعم أن لو قال قائل: أعلم أن اللَّه قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أو غيرها، كان مؤمنًا.
ولو قال: أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة، غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند كان مؤمنًا، ومقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه شاك في هذه الأمور، فإن عاقلًا لا يستجيز عقله أن يشك في أن الكعبة إلى أي جهة هي، وأن الفرق بين الشاة والخنزير ظاهر.
على هذا النحو هوَّن المرجئة من شأن العمل، وجعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي، وإن دل عمل الجوارح على خلافه.
فلا غرو أن أطمع هذا المذهب الفساق في عفو اللَّه، واتخذوا من أقوال المرجئة ذريعة يبررون بها آثامهم، حتى غدا الإرجاء دين المستهترين وعقيدة المذنبين، وقد أثر عن زيد ابن علي بن الحسن أنه قال: " أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو اللَّه ".
والخلاصة أن المرجئة ينقسمون إلى قسمين:
قسم: توقف في الحكم على أعمال الصحابة، وتحرج من تصويب مواقفهم أو تخطئتها.
والقسم الثاني: منكر لأن يكون العمل جزءًا من الإيمان، وأن عفو اللَّه يسع الصالحين والمذنبين جميعًا، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الشرك طاعة.
* * *
122
الفصل الثاني
المذاهب الاعتقادية
توطئة:
امتاز الإسلام بعقيدته الواضحة الصافية، التي تخاطب العقل والوجدان جميعًا، وتسلك في سبيل إقناع الناس بها طريقًا وسطًا بين المنطق والعاطفة لا تجد فيه أمتًا ولا عوجًا، ولسنا نقصد بالمنطق ذلك العلم الذي تقررت أصوله وتحددت قواعده لدى اليونان، واتسم بغير قليل من الغموض والتعقيد، وإنما نريد به لفت العقول المستقيمة إلى ما يغص به الكون الفسيح من أعلام واضحة وأدلة مقنعة على وجود اللَّه وقدرته ووحدانيته، والتي لا تملك هذه العقول أمامها إلا الإذعان والتسليم؛ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقال كذلك: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) والحق أن الآيات التي تؤدي هذا المعنى وتلفت إليه في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى.
ولا ريب أن وجود رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين المسلمين يميط اللثام لصحابته عما التبس عليهم من مسائل العقيدة، ويجيب عما يضطرب في نفوسهم وضمائرهم من أمور مشكلة قد اشتبهت عليهم - قد عصم المسلمين من التردي في هوة الخلاف والجدل الذي ينفي من القلوب يقين الاعتقاد، ويبث فيها بذور الشك والارتياب.
وتدلنا الآثار الصحيحة أن شيئًا من التفكير في أصول الدِّين والنظر في بعض مسائله قد مس عقول نفر من الصحابة مسًّا رفيقًا، وإن لم يمعنوا النظر أو يُوغلوا في الدرس، فقد روي أن أحد الصحابة حين أخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأن كل إنسان قد كتب مقعده من النار أو الجنة قال: ففيم العمل إذن يا رسول اللَّه؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
وروي أيضًا عن أبي ذر الغفاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين أخبره بأن من مات من أمته لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة، سأله أبو ذر بقوله: وإن زنى وإن سرق؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وإن زنى وإن سرق ".
123
ومن الواضح أن السؤال الأول كان يتصل بالقدر ومشكلة التكليف، والثاني يتصل بحكم صاحب الكبيرة.
ولم تكن هذه التساؤلات من جانب الصحابة للرسول الكريم عن رغبة في الجدال المذموم وإثارة للشبهات التي يأباها الإسلام، بل كانت صادرة -هي وغيرها- عن رغبة صادقة ونزعة مخلصة في فهم الدِّين وتدبر مراميه، حتى يكون حظ الاقتناع العقلي في الإيمان به أوفر من حظ الجهل والتقليد.
فإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين في طرح الأسئلة على النبي فيما يتصل بالقدر وصلتها بالعقيدة بينة، فإن ثمة من المشركين من أثاروا هذه المسألة لا يريدون بها إلا الفتنة، فقال اللَّه فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧).
وقد اتخذ أُولَئِكَ من القول بالقدر ذريعة تسوغ لهم الإشراك باللَّه؛ قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨).
ومهما يكن من أمر هَؤُلَاءِ المشركين، فإن العقيدة الإسلامية على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتسمت بما أشرنا إليه قبل قليل من القوة والوضوح والصفاء، وما كان لشبه المشركين أن تزعزع الإيمان بها أو اليقين فيها، لا سيما وقد التزم المسلمون المنهج السديد في النظر إلى العقائد وأصول الدِّين، وهو منهج يقوم على التسليم بما ورد في كتاب اللَّه دون المماراة فيه أو تأويله، وتفويض أمر المتشابه إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وحسبك شاهدًا على صدق مقالتنا أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أمر بوجوب الإيمان بالقدر ونهى عن الخوض فيه؛ " لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام، وحيرة للعقول في مضطرب من المذاهب والآراء، وذلك يدفع إلى الفرقة والانقسام، ولأن إثارة الجدل فيه إثارة في أمر ليس في سلطان المجادل الإقناع به، وليس بيد أحد من الأدلة العقلية ما يحسم به الخلاف، ويقطع
124
في الموضوع ".
فلا غرو أن كان المسلمون على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعد وفاته بقليل على منهاج واحد في أصول الدِّين وفروعه، غير من أظهر وفاقًا وأضمر نفاقًا على حد تعبير البغدادي.
ويسعنا أن نضيف إلى ما سلف أن المسلمين في عهد أبي بكر الصديق قد شُغِلوا بقمع المرتدين، وفتح الأمصار والأقاليم لنشر الدعوة الإسلامية وبثها في الآفاق، فصرفوا إلى الدعوة نفسها أكثر مما عنوا بالنظر فيها والجدال حولها.
بيد أن الفتح نفسه وما ترتب عليه من اتساع رقعة الإسلام كان عاملًا من عوامل الاختلاف حول العقائد الإسلامية، وسببًا أصيلًا من أسباب الشقاق الفكري الذي صار معلمًا بارزًا من معالم الحياة الإسلامية حتى الآن، على نحو ما سوف نشير إليه بعد قليلٍ.
نَعِمَ المسلمون بتلك الحالة التي أشرنا إليها من الاستقرار الدِّيني والهدوء الفكري مدة خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب وشطرًا من خلافة عثمان بن عفان - رضي اللَّه عنهم أجمعين - وعرف الاختلاف طريقه إلى المسلمين منذ عهد عثمان نفسه، وكان مقتله ذروة هذا الاختلاف الذي تجاوز المناقشات الفكرية والحوارات الهادئة إلى المناجزة العنيفة في ميادين القتال وساحات الوغى، ونشأ من هذه وتلك فرق سياسية اصطرعت حول " مبدأ الخلافة "، وأدلى كل منها بما يحسبه صوابًا في ميدان السياسة، وهي: الشيعة والخوارج ثم المرجئة ويمكن أن يضاف إليها الحزب الأموي " وهذه الأحزاب وإن كانت في الواقع سياسية، إلا أنها لم تتخذ الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتتلون سياسيًّا يقتتلون دينيًّا، ولكل حزب أدلته الدِّينية التي يؤيد بها رأيه، وأخذ كل حزب يؤول في القرآن حسبما يوافق نزعته ورأيه ".
وأثارت هذه الفرق مسألة مرتكب الكبيرة، واحتدم النزاع فيما بينها حول نسبته إلى الكفر أو الإيمان، وهل هو كافر مخلد في النار أم مؤمن يدخله اللَّه برحمته الجنة، " ولقد ساقهم الخلاف في هذه المسألة إلى الخلاف في تعريف الكفر والإيمان والكبائر والصغائر ونحو ذلك، وتكون من كل منهم فرق لها آراؤها في الأصول والفروع مما كان أساسًا فيما بعد لعلم الكلام ".
125
الصدام الفكري بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى:
لم يكد القرن الأول الهجري ينتهي حتى كان المسلمون قد ضموا إلى دولتهم أقطارًا شاسعة متباينة في الدِّين والعقيدة تباينها في نمط الحياة وطريقة العيش، ففتحت بلاد العراق وفارس وما وراءهما، والشام ومصر وما يليهما، وأوغل المسلمون في الفتح فعبروا المحيط الأطلسي إلى أوربا ومدوا نفوذهم إلى الأندلس.
والحق أن حركة الفتوحات هذه قد امتد تأثيرها ليشمل إلى الجوانب السياسية والاقتصادية الدِّين والعقائد وما يرتبط بهما من شئون الفكر وألوان الثقافة، وذاك أمر ما نعلم أن أحدًا من الدارسين أو الباحثين قد شكك فيه أو غض الطرف عنه، بل جلُّ الباحثين الذين ينظر إليهم بعين الاحترام والاعتبار قد أرجعوا نشأة علم الكلام والتفكير الفلسفي في الإسلام إلى هذا السبب، بالإضافة إلى أسباب أخرى أشرنا إلى بعضها وقد نشير فيما بعد إلى بعضها الآخر، ولا غرابة في ذلك إذا نحن علمنا أن هذه البلاد المفتوحة لها عقائدها ودياناتها وثقافاتها المختلفة فتجد النصرانية في مصر والشام والعراق وإفريقية، وتطل عليك اليهودية من العراق وشمال الحجاز، ولو قد مددت ببصرك إلى فارس وما وراء النهر لرأيت الزرادشتية والمانوية والمزدكية، وتستطيع أن تقف في غير ما صعوبة ومشقة على الفلسفة اليونانية منبثة في ثنايا هذه الأقطار.
إذا علمت ذلك كله -وما نحسب ذلك أمرًا عسيرًا- فإنك لا محالة تتبين أثر هذه الثقافات المختلفة والديانات المتباينة في العقيدة الإسلامية، ومدى ما أسهمت به في تطورها عما كانت عليه في العهد الأول، وما أضافته إلى البحث الدِّيني والإسلامي من مسائل وأفكار لم يكن للمسلمين عهد بها ولا تفكير فيها، ودونك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة:
تحدث اليهود في النسخ ولم يجيزوا القول به، فالشريعة عندهم ابتدأت بموسى وتمت به، واهتموا بمسائل الذات والصفات إذ وجدوا في توراتهم ما يدعو إلى ذلك من النزول عند طور سيناء انتقالًا، والاستواء على العرش استقرارًا، وجواز الرؤية وغير ذلك.
كما ناقش اليهود فكرة القدر وانقسموا حولها إلى فريقين: فريق يرى الجبر والاستسلام، وفريق يرى القدرة والاختيار.
وقال اليهود بالرجعة، فزعموا أن هارون مات وسيرجع، ومنهم من قال: غاب وسيرجع.
126
أما النصارى ففي ثقافتهم الدِّينية مسائل يدلنا النظر في علم الكلام أن المسلمين قد تأثروا بها مثل مسألة الحشر، وهل يكون للأبدان والأرواح أو للأرواح فقط، وهل صفات اللَّه زائدة عن ذات اللَّه أو هو هي، وهل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل، وحرية الإنسان في إرادته أو القدر إلى غير ذلك مما ظهر الخلاف فيه بين فرق المسلمين.
وإلى المانوية والمزدكية والزرادشتية يرجع الأثر الأكبر في كثير من الأفكار المنحرفة التي عرفتها الثقافة الإسلامية: كالتناسخ والحلول والاتحاد.
" وكان الفرس ينظرون إلى ملوكهم نظرة إلهية وكانوا يعتقدون أن اللَّه اصطفاهم للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة، وأنهم ظل اللَّه في أرضه... وهذه النظرة تأثر بها الشيعة في علي وأبنائه واعتقادهم أنهم أحق بالخلافة دون سواهم ".
ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة الأدلة والتماس البراهين على انتقال هذه الأفكار وغيرها إلى العقيدة الإسلامية، وأثرها في نشأة علم الكلام نفسه عند المسلمين، فنظرة سريعة في مصنفات هذا العلم تدلك على هذا في وضوح وجلاء، ولسنا حين نقرر ذلك بدعًا بين الباحثين الذين سبقوا إلى مثل رأينا حتى غدا محل إجماعهم ولقي من القبول والتأييد أكثر مما صادف من الإنكار والمعارضة.
إن انتقال مسائل العقائد الدِّينية لدى الأمم التي أسلفت ذكرها أمر فرضه واقع حياة المجتمع الإسلامي نفسه الذي كان مسرحًا لديانات مختلفة، دعت تعاليم الإسلام إلى احترامها وعدم جدال أصحابها إلا بالتي هي أحسن، ونهى المسلمين عن فرض دينهم على مخالفيهم؛ قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) " وبتقرير الإسلام لهذا المبدأ أصبح للكثيرين من أهل هذه الديانات أن يقيموا بين المسلمين على عقائدهم القديمة، في نظير مبلغ من المال يدفعه القادر منهم لأجل حمايته والدفاع عنه، وتمتعه بما يتمتع به المسلمون من حقوق، بل لقد طمع بعضهم في أن يحولوا بعض المسلمين إلى دياناتهم بينما كان المسلمون؛ من جانبهم جاهدين في نشر الدعوة الإسلامية ورفع رايتها، وكان يقوم بهذه المهمة علماء مبرزون في العواصم الكبرى للأقطار التي فتحها المسلمون؛ فثار بذلك خلاف بين المسلمين وبين أهل هذه الديانات كان سببًا في تبادل الأفكار بين الفريقين ".
127
ويسعنا أن نضيف إلى ذلك أن ثمة من أهل هذه الديانات من أسلم بلسانه ولم يطمئن قلبه للإسلام؛ رغبة في الكيد له والطعن فيه، بل إن من أسلم منهم صادقًا مزج -عن غير قصد الإساءة- بين العقيدة الإسلامية، وما درج عليه من عقائد دينه القديم، فأسهم بغير شك في تطوير العقيدة الإسلامية، وتغييرها.
أمست العقيدة الإسلامية -لما أسلفنا من أسباب- مفتقرة إلى من ينافح عنها ضد خصومها من أهل الديانات الأخرى، الذين طمسوا معالمها أو كادوا، وشوهوا صفاءها ونقاءها، بما ألصقوه بها من آراء غريبة عنها وأفكار مناقصة لها، بل إن حاجة العقيدة الإسلامية إلى من يدافع عنها فاقت حاجتها لمن يدعو لها ويروج لمبادئها.
ودعت الظروف الفكرية التي أحاطت بالمسلمين آنذاك إلى أن يتسلح من ندبوا أنفسهم للدفاع عن العقيدة الإسلامية بأسلحة الخصوم نفسها وهي المنطق والفلسفة وأدوات الحجاج العقلي والصراع الجدلي؛ إذ كان من أهل الديانات المناوئة للإسلام من حذق الفلسفة اليونانية واصطنع أدواتها في تقرير عقائده والدعوة لها، " وهكذا خاض المسلمون منذ عصر الأمويين في العقائد بمنهج جدلي عقلي غير ملتزمين بمنهج الصحابة رضوان الله عليهم، وقد أدى هذا الاتجاه إلى اختلاف المسلمين ووجود الفرق المختلفة التي حاولت كل منها أن تظهر رأيها على أنه الصورة الحقيقية للعقيدة الإسلامية الصحيحة عن طريق جذب النصوص الشرعية إلى رأيها الخاص، وقد وجدوا في المتشابه مجالًا لذلك، فأخذوا يؤولون ويخرجون النصوص تخريجًا يجعلها سندًا لهم ".
وننناول الحديث عن أهم هذه الفرق فيما يلي:
أولاً: المعتزلة
أشرنا آنفًا إلى أن العقيدة الإسلامية قد مست حاجتها إلى من ينافح عنها، ويدحض شبه الطاعنين فيها من أهل الديانات الأخرى، وأن من يقوم بهذه المهمة ينبغي عليه أن يقف على أدوات الحجاج العقلي ووسائل الجدل التي أتقنها الخصوم، وهي المنطق والفلسفة، والحق أن المعتزلة قد قاموا بهذه المهمة خير قيام، وأسهموا في ميدان الدفاع عن الإسلام وتبيين عقائده والاستدلال لها استدلالًا عقليًّا ممتازًا - ما يحمد لهم، ويذكر في كفة حسناتهم بغير قليل من الإكبار والاحترام، " فالمعتزلة تعد من أوائل الفرق الكلامية التي نظرت في العقائد وأيدتها بالبراهين العقلية، وخاضت في الجدل والكلام، وبرعت في
128
مناظرة الخصوم وإفحامهم ".
وينتظم حديثنا عن هذه الفرقة الكلامية عدة محاور:
أولًا: النشأة وسبب التسمية.
ثانيًا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة.
ثالثًا: منهج المعتزلة في درس العقائد.
رابعًا: الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة.
أولًا: النشأة وسبب التسمية:
تنسب هذه الفرقة -كما هو مقرر معلوم- إلى واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١ هـ) الذي كان تلميذًا للحسن البصري أشهر علماء زمانه وأبرزهم.
وثمة خلاف شجر بين الدارسين حول سبب تسمية هذه الفرقة للمعتزلة، أثمر -أي هذا الخلاف- ثلاثة آراء متباينة لا بأس من ذكرها، ثم نختار من بينها ما نراه صوابًا.
أما الرأي الأول: فيذكره الشهرستاني صاحب الملل والنحل، حيث روى أن رجلًا دخل على الحسن البصري فقال له: يا إمام الدِّين: لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان؛ لأن العمل عندهم ليس ركنًا من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟ ففكر الحسن في هذه المسألة وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء -الذي كان حاضرًا مجلس الحسن البصري-: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل مجلس الحسن إلى مكان آخر من المسجد، فلما رآه الحسن وبعض أصحابه قال:
اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة.
والرأي الثاني حكاه المسعودي في مروج الذهب حيث قال: سموا بذلك؛ لأنهم قالوا باعتزال صاحب الكبيرة، فيكون الاعتزال وصفًا لمرتكب الكبيرة في الأصل، وسميت به الفرقة؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين.
129
أما الرأي الثالث: فقد ذكره البغدادي حين قال: سموا بذلك؛ لأنهم اعتزلوا قول الأمة، فالخوارج كانوا يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، والمرجئة يقولون: إنه مؤمن، والحسن البصري -وهو ممثل علماء التابعين آنذاك- يرى أنه فاسق وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام.
والذي نميل إليه ونأخذ به هو الرأي الثالث؛ " لأن التسمية فيه تكون متعلقة بالجوهر وهو الآراء، لا بالعرض وهو انتقال واصل ومن معه من حلقة من المسجد إلى حلقة أخرى؛ إذ إن هذا الانتقال الحسي ليس بالأمر الهام ذي الخطر الذي من شأنه أن تسمى بسببه فرقة هامة كالمعتزلة ".
ومهما يكن من أمر فقد نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده: " وأول ما ظهر مذهب الاعتزال وشاع إنما ظهر من واصل بن عطاء، أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد اللَّه بن مُحَمَّد ابن الحنفية الذي قيل: إنه كان أول من أحدث مذهب الاعتزال واخترعه هو وأخوه الإمام الحسن بن مُحَمَّد ابن الحنفية... ولكن ظهر واشتهر الاعتزال من واصل بن عطاء أبي حذيفة المعروف بالغزال ".
وقُدِّرَ لهذه الفرقة أن تملأ العالم وتشغل الناس، يؤمن بعقائدها الخلفاء وأهل السياسة، فقد اعتقد آراءهم المأمون وحمل الناس عليها حملًا، وامتحنهم بها امتحانًا، وتبعه المعتصم والواثق، فلما جاء المتوكل ناهض المعتزلة وأمر الناس بترك النظر والمباحثة والجدال، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة، بيد أن المتوكل لم يستطع أن يقضي على آراء المعتزلة ولم يتمكن من اقتلاع أفكارهم من المجتمع الإسلامي، بل ظلت هذه الآراء والأفكار باقية بعده، وبالرغم من العبث بتراثهم وإتلاف كتبهم، فإن آراءهم لا تزال باقية حتى اليوم.
ثانيًا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة:
أشرنا فيما سبق إلى نشأة الاعتزال في البصرة على يد واصل بن عطاء، فعُدِّت البصرة لذلك المركز الأول للمعتزلة والمدرسة الرائدة لهم.
130
بيد أن ثمة مركزًا آخر ازدهر فيه الفكر الاعتزالي وغدا بمثابة المدرسة الثانية للمعتزلة، ألا وهو " بغداد ".
والحق أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ ظهور هذه المدرسة، وإن كان الراجح لدينا أن هذا التاريخ لا يرجع إلى قبل عهد الرشيد، حيث ازدهرت بغداد نفسها من الناحية العلمية منذ عهد الرشيد الذي أولى العلم عناية فائقة وأنزل العلماء في دولته مكانًا رفيعًا، وبلغت مدرسة المعتزلة في بغداد أوج ازدهارها وذروة نفوذها منذ عهد المأمون الذي تبنى الآراء الاعتزالية وحمل الناس على الإيمان بها، وكانت سنة ٢١٨ هـ سنة المحنة التي ابتلي فيها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، وطلب المأمون منهم أن يقروا بخلق القرآن، وبحرية إرادة الإنسان وباستحالة رؤية الباري، ومن لم يفعل ذلك حكم بكفره، ولم تقبل شهادته.
على هذا النحو كانت مدرسة البصرة الاعتزالية أسبق إلى الوجود الفكري الإسلامي من مدرسة بغداد، وكانت الأخيرة بمثابة فرع للأولى.
وثمة فروق دقيقة نستطيع أن نتبينها بين المدرستين:
- أولها: أن مدرسة البصرة كانت أكثر نزوعًا إلى الاستقلال الفكري من مدرسة بغداد.
- ثانيها: أن شيوخ مدرسة بغداد كانوا أكثر اتصالًا بالحياة السياسية والعلمية من علماء مدرسة البصرة الذين كانوا منغمسين في بحوثهم العلمية مكتفين بتفكيرهم الهادئ في العقائد الإسلامية.
ولا غرابة في ذلك، حيث إن بغداد هي حاضرة الخلافة العباسية ومركز الحكم، ولخلفائها اتصال بالمعتزلة وإعجاب بآرائهم وحدب على شيوخهم.
- وثمة أمر ثالث يفرق بين المدرستين هو " أن مدرسة بغداد عرفت بالتعمق في البحث والانتفاع بالآراء الفلسفية إلى أقصى حد؛ لشدة حركة الترجمة في بغداد، فمثلًا نرى ثمامة ابن أشرس يذهب إلى أن العالم برز من اللَّه؛ لأن طبيعة اللَّه من شأنها الإيجاد بالطبع، ولا يمكن أن يتخلف ذلك، ولا شك أن هذا الرأي يؤدي إلى القول بقدم العالم؛ لأن طبيعة اللَّه لا تتغير، وثمامة في هذا الرأي متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم ".
131
على هذا النحو كان تأثر معتزلي بغداد بالفلسفة اليونانية عظيمًا، ولقد مزجوا هذه الفلسفة بدرس العقائد الإسلامية، على نحو ما سنعرف عند حديثنا عن منهج المعتزلة.
وقد افترقت المعتزلة إلى اثنتين وعشرين فرقة وهي: الواصلية، والعمروية، والهذلية، والنظامية، والأسوارية، والمعمرية، والإسكافية، والجعفرية، والبشرية، والمرداوية، والهاشمية، والثمامية، والجاحظية، والخابطية، والحمارية، والخياطية، وأصحاب صالح قبة، والمريسية، والشحامية، والكعبية، والجبائية، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم الجبائي.
فهذه -كما يذكر البغدادي- ثنتان وعشرون فرقة، فرقتان منها من جملة فرق الغلاة في الكفر، وهما: الخابطية والحمارية، وعشرون منها قدرية محضة.
على أن ثمة أصولًا مشتركة تؤلف بين هذه الفرق المختلفة، درج الباحثون على نعتها بالأصول الخمسة، ونرجئ الحديث عنها بعد أن نلم بمنهج المعتزلة في درس العقائد.
ثالثًا: منهج المعتزلة في درس العقائد:
أشرنا فيما سبق إلى أن للسلف - رضوان اللَّه عليهم - طريقة في فهم العقيدة تنهض على ساق من النصوص -القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة- وساق من المعرفة العميقة باللغة العربية والفقه الواسع بأسرارها، ولم يكونوا ينحرفون قليلًا أو كثيرًا عن هذا المنهج الذي أرسى دعائمه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا ما اشتبه عليهم أمر من أمور العقيدة توقفوا فيه وفوضوا أمره إلى الحق تبارك وتعالى.
ولسنا في حاجة إلى أن نقرر أن السلف الصالح قدموا النقل على العقل، وكانت مهمة العقل لديهم مقصورة على فهم النصوص دون تأويل، فلا غرو أن كان العقل تابعًا للنقل أو النص أو الوحي، سمه ما شئت.
132
أما المعتزلة فقد خالفوا هذا المنهج، حيث اعتدوا بالعقل اعتدادًا كبيرًا، فارتادوا بالمسلمين في فهم العقائد ودرسها طريقًا جديدة لم يألفها المسلمون ولا كان لهم عهد بها من قبل.
بيد أن ذلك لا يعني أنهم أهملوا النقل أو أنكروا حجيته، بل كان منهجهم يعتمد على المنقول والمعقول جميعًا، وقد أشار إلى ذلك الإسفراييني وذكر أنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف وجمعوا بين المعقول والمنقول، وأقاموا سياجًا قويًّا من البراهين والحجج المنطقية للدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين لها والمعترضين عليها.
ولقد عزا الشهرستاني هذه النزعة العقلية التي امتاز بها المعتزلة إلى تأثرهم بالفلسفة اليونانية، وإدمانهم النظر في المترجم منها إلى العربية.
ويقول أحد الباحثين معلقًا على ذلك:
" وقد ظهر أثر هذا التأثر بوضوح في آرائهم وأدلتهم ومقدمات براهينهم وقد دفعهم إلى ذلك أمران:
الأول: أنهم وجدوا فيها -أي في الفلسفة اليونانية- ما يرضي منهجهم العقلي وشغفهم الفكري، وجعلوا فيها مرانًا عقليًا جعلهم يلحمون الحجة بالحجة.
الثاني: أن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هَؤُلَاءِ للرد عليهم، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل، وتعلموا الكثير منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم ".
وإذا كان المعتزلة يجمعون في درسهم للعقائد الدِّينية بين العقل والنقل، فإنهم يقدمون العقل ويتخذونه أساس المعرفة الأول، ويرونه قادرًا على معرفة كل شيء ما خلا الذات الإلهية، فلا غرو أن عولوا عليه في النظر في العقائد وأمور السياسة والعلوم المختلفة كالحديث والفقه والأصول.
وهم بذلك يختلفون عن الأشاعرة والماتريدية اختلافًا كبيرًا حيث يقدم هَؤُلَاءِ الدليل النقلي على الدليل العقلي، ويرون العقل مجرد أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام
133
منها.
ولقد حمل هذا المنهج الاعتزالي أحد المشتغلين بالفكر الفلسفي في الإسلام إلى التصريح بأن المعتزلي لم يكن يأبه أن تكون النصوص الدِّينية متوافقة مع أصوله الفلسفية أو غير متوافقة، وأن كل ما يرمي إليه هو دعم الأصل العقلي الذي وصل إليه.
كان المعتزلة يرون أن العقل أصل والسمع -أي النقل- فرع، ولا يجوز تقديم الفرع على الأصل، ومن هنا كان تقديمهم العقل على النقل.
ويتمثل النقل لدى المعتزلة في ثلاثة أدلة: الكتاب، والخبر المجمع عليه، والإجماع، " وقد عولوا جميعًا في بحوثهم على القرآن، أما الحديث فقد اختلفوا في موقفهم منه، فواصل لم يقبل منه إلا المتواتر أو المشهور، وعمرو بن عبيد شكك في الرواية والرواة، وأبو الهذيل العلاف يرفض المتواتر، وبلغت هذه النزعة أوجها عند النظام الذي أنكر بعض الأحاديث، ورفض الإجماع، ولكن هذه النزعة قد خفت ومالت إلى الاعتدال عند المتأخرين من المعتزلة، وخاصة القاضي عبد الجبار وتلاميذه الذين اعتدوا بالحديث ".
وللدليل النقلي عند المعتزلة ضوابط وشروط، لا يأخذون به إلا عند تحققها فيه، وهي:
أولًا: ألا يتعارض مع العقل؛ لأن العقل حجة اللَّه والشرع حجة اللَّه، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.
ثانيًا: أن يكون قطعي الثبوت؛ ولذلك فهم لا يأخذون بأحاديث الآحاد ولا يعولون عليها في مسائل الاعتقاد.
ثالثًا: أن يكون قطعي الدلالة بحيث لا يحتمل تأويلًا.
رابعًا: الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة:
ثمة أصول خمسة أجمع المعتزلة -مع تعدد فرقهم وتباينها- على القول بها، ولم ينتحل نحلة المعتزلة متكلم إلا وقد آمن بها؛ قال أبو الحسن الخياط في كتابه الانتصار: " وليس أحد يستحق اسم الاعتزال، حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
134
فإذا جمع هذه الأصول فهو معتزلي ".
١ - التوحيد:
لا مراء في أن التوحيد جوهر الإسلام وحجر الزاوية في عقيدته، وما من نبي أو رسول إلا دعا قومه إليه ودلهم على شواهده وبراهينه في الكون.
ويقوم التوحيد على تنزيه اللَّه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقد سلك السلف فيه طريقًا وسطًا بين النفي والإثبات دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تجسيم.
أما المعتزلة فلهم طريقة مخصوصة في فهم التوحيد، يدلنا عليها أبو الحسن الأشعري بقوله: " أجمعت المعتزلة على أن اللَّه واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لم يزل أولًا سابقًا للمحدثات، موجودًا قبل المخلوقات، ولم يزل عالمًا قادرًا حيا، ولا يزال كذلك، لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره، ولا إله سواه، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه، ولا معين على إنشاء، أنشأ وخلق ما خلق، لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء. آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه احتزار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام، ليس بذي غاية
135
فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء ".
ونستطيع أن نزعم أن طريقة المعتزلة في فهم التوحيد تتكئ عندهم على بعض آيات القرآن الكريم التي اصطبغت بصبغة التنزيه؛ كقوله تعالى: (ليَس كَمِثلِهِ شَيءٌ)، وقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
ومهما يكن الدافع الذي سلك بالمعتزلة هذا الطريق في النظر إلى التوحيد، فإن هذا الأصل عندهم ترتب عليه نتائج أخرى تكشف عن رأيهم في بعض مسائل الاعتقاد.
رأي المعتزلة في الصفات:
الصفات عند المعتزلة قسمان: صفات سلبية تسلب عن اللَّه ما لا يليق به، وصفات ثبوتية أو إيجابية.
ولم يجد المعتزلة في إثبات الصفات السلبية لله سبحانه ما يتعارض مع مفهومهم عن التوحيد، أو يمس فكرة التنزيه كما يفهمونها من القرآن الكريم.
من هذه الصفات: القدم، وتنفي هذه الصفة عن اللَّه الحدوث، والوحدانية وتنفي عن اللَّه التعدد، ومخالفة الحوادث.
" أما الصفات الثبوتية أو الإيجابية التي تتعلق بإثبات معنى زائدٍ على الذات -ومن هذه الصفات: العلم والقدرة والإرادة والحياة- فقد نفى المعتزلة اتصاف اللَّه بها أو أكثرها؛ لأن إثباتها يتعارض مع فهمهم للتوحيد ".
فقد رأى المعتزلة أن إثبات هذه الصفات لله يجعلها مشاركة له في القدم، ويعني هذا تعدد القدماء مع ما فيه من معارضة لفكرة التوحيد، كما يؤدي إثباتها إلى الوقوع في التعدد الذي وقع فيه النصارى الذين قالوا بوجود ثلاثة أقانيم في الذات الإلهية، الآب والابن والروح القدس. ولا يخفى أن منهج المعتزلة في النظر إلى صفات اللَّه يتعارض مع القرآن الكريم الذي أثبت هذه الصفات لله، وكذا فهمها الصحابة ولم يجادلوا فيها.
وثمة صفات أخرى تصف اللَّه بما يوهم مشابهته للإنسان: كوصف اللَّه بأن له وجهًا أو عينًا أو يدًا، ووصفه بالاستواء على العرش والنزول إلى السماء وغير ذلك.
وقد وجد المعتزلة أن الإيمان بهذه الصفات دون تأويل يقود إلى التجسيم الذي
136
يتعارض مع التوحيد، فلا غرو أن أولوا هذه الصفات، فاليد لديهم تعني القدرة، والعين تدل على الرحمة، والوجه يعني الذات.
والحق أن السلف آمنوا بهذه الصفات دون تأويل، وما أدق عبارة الإمام مالك بن أنس في الإنباء عن منهج السلف في فهم الصفات حين سئل عن الاستواء فقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ".
القول بخلق القرآن:
ذهب المعتزلة إلى نفي صفة القدم عن القرآن الكريم، وزعموا أن القرآن مخلوق؛ لأن القول بقدمه يقود إلى تعدد القدماء، وهو ما يتنافى مع مفهومهم للتوحيد.
وقد حاول المعتزلة إجبار غيرهم من المسلمين على الأخذ برأيهم، غير أن بعض العلماء من أصحاب الاتجاه السلفي رفضوا هذا الرأي، وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي ذهب إلى أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن البحث في هذه المسألة مبتدع لم يثبت عن السلف، ومن ثم لا ينبغي الخوض في هذه الأمور بل ينبغي الوقوف عند رأي السلف.
إنكار رؤية اللَّه:
يقول أبو الحسن الأشعري: " أجمعت المعتزلة على أن اللَّه سبحانه وتعالى لا يرى بالأبصار، واختلفت: هل يرى بالقلوب؛ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: نرى اللَّه بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر هشام الفوطي وعباد بن سليمان هذا وذلك ".
إن القول برؤية اللَّه عند المعتزلة ينطوي على إلحاق الجسمية به سبحانه؛ إذ يجري عليه عند ذلك ما يجري على المرئيات الجسمية، والجسمية تتنافى مع التوحيد. وقد لجأ المعتزلة لإنكار رؤية اللَّه إلى تأويل الآيات التي تثبت هذه الرؤية، كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
كما طعنوا في صحة الأحاديث التي تثبت هذه الرؤية؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " رواه البخاري ومسلم.
٢ - العدل:
هذا هو الأصل الثاني من الأصول الخمسة التي اتسم بها المعتزلة، ويتخذ أهمية عظيمة
137
لديهم، ويمثل مع التوحيد الأصلين اللذين بهما عرف المعتزلة ونسبوا إليهما حتى قيل: " أهل العدل والتوحيد ".
والعدل صفة من صفات الحق تبارك وتعالى واسم من أسمائه الحسنى، غير أن المعتزلة نظروا إلى " العدل " نظرة مغايرة لما عليه جمهور المسلمين، وفلسفوه فلسفة خاصة أثمرت عددًا من المسائل العقدية نوجزها فيما يلي:
وجوب الصلاح والأصلح على اللَّه تعالى:
ويعني ذلك أنه إذا كان ثمة أمران أحدهما صلاح والآخر فساد، وجب على اللَّه تعالى فعل الصلاح منهما، وإذا كان أمران أحدهما صلاح والآخر أصلح وجب على اللَّه تعالى فعل الأصلح.
" وقد وجه إلى رأي المعتزلة كثير من الاعتراضات وهي في جملتها وتفصيلها قائمة على أساس أن في إيجاب الصلاح والأصلح تقييدًا لإرادة اللَّه؛ ولذلك أخطأ المعتزلة في القول بإيجاب الصلاح والأصلح على اللَّه، وتطاولوا على مقام الألوهية، وأساءوا الأدب مع اللَّه كما وصفهم الماتريدي بذلك ".
الإنسان مريد لأفعاله:
إن مسألة الجبر والاختيار مسألة هامة من مسائل علم الكلام الإسلامي، وركن أصيل من أركان الفكر الاعتزالي؛ وتدور هذه المسألة حول العلاقة بين قدرة اللَّه تعالى وأعمال العباد، من حيث إن هذه الأعمال مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة للعبد.
فقد فرق المعتزلة بين نوعين من أفعال العباد أحدهما ضروري اضطراري، والثاني: اختياري، وحكموا بأن أفعال النوع الأول ليس للإنسان فيها اختيار.
أما أفعال النوع الثاني فالإنسان فيها فاعل مختار، " ومن ثم قالوا: إن الأفعال الاضطرارية مخلوقة لله تعالى، ولا دخل لقدرة العبد فيها، وأما الأفعال الاختيارية فقد ذهبوا فيها إلى أنها واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال، وهذه القدرة أوجدها اللَّه تعالى في العبد باختياره ".
وقد رأى المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في أفعاله انسجامًا مع العدل الإلهي؛ إذ مما
138
يتعارض مع هذا العدل أن يحاسب اللَّه الإنسان على أفعال ليست من إرادته أو اختياره.
كما يترتب على عدم القول بذلك بطلان التكليف والأوامر والنواهي؛ لأن الاختيار مناطها، كما يبطل الثواب والعقاب؛ لأنه لا معنى لأن يعاقب المرء أو يثاب على غير فعله، وتنتفي الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وثمة دليل آخر احتج به المعتزلة على حرية الإنسان وإرادته، خلاصته: أن اللَّه تعالى لو كان هو الفاعل المريد لأفعال العباد، لنسب إليه عَزَّ وَجَلَّ ما يقع على أيديهم من المعاصي والشرور والقبائح، وهو أمر لا يصح أن يوصف اللَّه به.
واستدل المعتزلة لصحة ما ذهبوا إليه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تثبت للإنسان إرادة حرة واختيارًا مقصودًا؛ كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)﴾، وكقوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا).
على هذا النحو كان رأي المعتزلة في حرية الإنسان، ورأوا أن القول به يجعل التكليف مستساغًا والثواب مقبولًا والعقاب عادلًا وينزه اللَّه تعالى عن الشرور والآثام التي تجري على يد الإنسان.
٣ - الوعد والوعيد:
ربط المعتزلة بين العمل والجزاء ربطًا وثيقًا، فجاء قولهم بالوعد والوعيد ملائمًا لهذا الربط، فاللَّه تعالى وعد الطائعين ثوابًا عظيمًا وجنة خالدة وأوعد المذنبين عقابًا أليمًا ونارًا يصلونها، والواجب على اللَّه تعالى ألا يخلف وعده أو وعيده؛ لما ينطوي عليه ذلك من فعل القبيح واللَّه لا يفعل القبيح.
يقول أحد الباحثين مصورًا رأي المعتزلة في وجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية:
" أما وجوب الثواب على الطاعة فلأن التكاليف الشاقة التي كلفنا اللَّه بها ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها؛ إذ ليس بمعقول أن يكلفنا اللَّه بشيء لا لغرض لأن ذلك عبث، فيستحيل صدوره من اللَّه لقبحه؛ فوجب أن يكون التكليف لغرض وهذا الغرض ينبغي ألا يكون عائدًا إلى اللَّه لتنزهه وتعاليه عن الانتفاع والضرر، بل يجب أن يكون هذا الغرض عائدًا إلى العبد وحده، ثم يقال: لا يجوز أن يكون عائدًا عليه في الدنيا لأن الإتيان
139
بالتكاليف بمشقة ملاحظ دنيوي إذ إن العبادة عناء وتعب، وقطع للنفس عن شهواتها فوجب أن يكون الغرض عائدًا عليه في الآخرة، وحينئذ يقال: إما أن يكون هذا الغرض هو التعذيب على قيامه بالتكاليف وأن ذلك ظلم قبيح جدًّا، لا يليق أن يتصف به اللَّه؛ فوجب أن يكون الغرض هو النفع أو بعبارة أخرى هو الثواب وهو المطلوب. وأما العذاب فقالوا فيه: إن مرتكب الكبيرة إذا ما مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو اللَّه عنه، بل يجب عقابه؛ لأن اللَّه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده، والكذب في خبره، وهو محال.
وأيضا إذا علم مرتكب الكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه لم ينزجر عن الذنب، بل يكون ذلك تقريرًا له على ذنبه، وإغراء للغير عليه، وأن ذلك قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات.
وإذن فالثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي واجب لا يمكن أن يتخلف، وعقاب مرتكب الكبيرة هو الخلود في النار ".
والحق أن هذا الأصل من أصول المعتزلة يخالف ما عليه جمهور المسلمين من أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من عقاب العاصي أو إثابة الطائع، وإن كان الحق لا يسوي بينهما فيثيب الطائع تفضلًا منه ورحمة مصداقًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه منه بفضل ورحمة ".
أما العاصي فيعاقبه اللَّه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته، ولا نوجب شيئًا على ربنا سبحانه له الأمر والمشيئة.
إن تحقيق الوعيد يرجع إلى قدرة اللَّه على العاصين والمذنبين فهم في قبضته واقعون تحت قهر قدرته، والعفو عنهم لا يلحق باللَّه نقصًا أو قبحًا؛ لأنه يعفو -إذا عفا- عن قدرة، والعفو عند المقدرة هو أسمى درجات العفو.
ثم إن قول المعتزلة بإيجاب الوعيد يعد حجرًا على إرادة اللَّه تعالى ومشيئته، وتقييدًا لرحمته.
140
٤ - المنزلة بين المنزلتين:
إن هذا الأصل قسمة مميزة من قسمات الفكر الاعتزالي، انفردوا به ولم يشاركهم فيه أحد، والقول به سبب نشأة المعتزلة كما أشرنا آنفًا.
ويتعلق هذا الأصل بالحكم على مرتكب الكبيرة، حيث اشتجر الخلاف بين المسلمين حوله وافترقوا شيعًا وأحزابًا؛ يقول البغدادي: " وكان واصل من منتابي مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة وكان الناس يومئذ مختلفين في أصحاب الذنوب من أمة الإسلام على فرق: فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير أو كبير مشرك باللَّه وكان هذا قول الأزارقة من الخوراج وزعم هَؤُلَاءِ أن أطفال المشركين مشركون ولذلك استحلوا قتل أطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من أمة الإسلام أو من غيرهم، وكانت الصفرية من الخوارج يقولون في مرتكبي الذنوب بأنهم كفرة مشركون كما قالته الأزارقة غير أنهم خالفوا الأزارقة في الأطفال، وزعمت النجدات من الخوارج أن صاحب الذنب الذي أجمعت الأمة على تحريمه كافر مشرك وصاحب الذنب الذي اختلفت الأمة فيه حكم على اجتهاد أهل الفقه فيه وعذروا مرتكب ما لا يعلم تحريمه بجهالة تحريمه إلى أن تقوم الحجة عليه فيه، وكانت الإباضية من الخوارج يقولون إن مرتكب ما فيه الوعيد مع معرفته بالله عَزَّ وَجَلَّ وبما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك، وزعم قوم من أهل ذلك العصر أن صاحب الكبيرة من هذه الأمة منافق والمنافق شر من الكافر المظهر لكفره.
وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من اللَّه تعالى ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند اللَّه حق ولكنه فاسق بكبيرته وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام وعلى هذا القول الخامس مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها ".
أما واصل بن عطاء -رأس المذهب وزعيم نحلة الاعتزال- فقد خرج عن قول جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.
ويعلل واصل بن عطاء لرأيه فيقول: إن الإيمان عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت
141
سمي المرء مؤمنًا، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستكمل خصال الخير، ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنًا، وليس هو بكافر أيضًا؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالد فيها؛ إذ ليس في الآخرة إلا الفريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، ولكنه تخفف النار عليه ".
ويتضح من كلام واصل بن عطاء أن المعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة خالد في النار وقد ترتب على هذا المبدأ " أن مرتكب الكبيرة لا حظَّ له من شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فالشفاعة -عند المعتزلة- ليست لأصحاب الكبائر؛ لأن العدل يقتضي أن يعذب العاصي على معصيته، والشفاعة تتنافى مع هذا العدل، فالشفاعة عندهم ليست لهَؤُلَاءِ وإنما هي للصالحين، والمعتزلة بهذا الرأي ينكرون أو يؤولون كثيرًا من الأحاديث التي تثبت الشفاعة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولغيره من العلماء والشهداء والصالحين، وهذه الشفاعة تنال أصحاب المعاصي فيخرجون بفضلها من النار، فلا يبقى في النار بعد الشفاعة إلا من حبسهم القرآن المجيد وهم الكفار؛ لأن هَؤُلَاءِ لا يغفر اللَّه لهم ولا تنالهم رحمته ".
٥ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا هو الأصل الخامس من أصول المعتزلة المتفق عليها، فقد قرروا ذلك على المؤمنين أجمعين، نشرًا لدعوة الإسلام وهداية للضالين، ودفعًا لهجوم الذين يحاولون تلبيس الحق بالباطل؛ ليفسدوا على المسلمين أمر دينهم، ولذلك تصدوا للذود عن الحقائق أمام سيل الزندقة التي اندفعت في أول العصر العباسي، تهدم الحقائق الإسلامية، وتفكك عرا الإسلام عروة عروة، كما تصدوا أيضًا لمناقشة أهل الحديث والفقه، وحاولوا حملهم على اعتناق آرائهم بالحجة والبرهان أو بالشدة وقوة السلطان.
تلك هي الأصول الخمسة التي أجمع عليها المعتزلة، ولا يستحق متكلم أن ينسب إلى اعتزال دون أن يؤمن بها.
* * *
142
ثانيًا: الأشاعرة
اشتدت خصومة الفقهاء والمحدثين للمعتزلة، واحتدم النزاع بين الفريقين في النظر إلى مسائل الاعتقاد، ومرد ذلك إلى تباين المنهج الذي يصطنعه كل منهما، فالفقهاء والمحدثون ينزعون منزعًا سلفيًّا يقدم النقل على العقل، والمعتزلة يعتدون بالعقل اعتدادًا جعلهم يؤولون ما يتعارض مع أدلته من آيات القرآن، أو ينكرون ما يناقضها من أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فخالفوا جمهور المسلمين في أمور كثيرة؛ كالقول بخلق القرآن وإنكار الشفاعة ورؤية اللَّه يوم القيامة وغير ذلك مما يصدم المشاعر الدِّينية للمسلمين.
ولم تَخْلُ الساحة الفكرية للمعتزلة فحسب، بل كان هناك الحشوية من الحنابلة، وكانوا على الطرف المقابل للمعتزلة حيث أجازوا على اللَّه الملامسة والمصافحة والرؤية، كما أثبتوا له ما وصف به نفسه في القرآن الكريم -كأن له عينًا أو يدًا أو وجهًا- إثباتًا ماديًّا يوهم التجسيم والمشابهة للحوادث، واعتمدوا في ذلك على أحاديث فهموها فهمًا حرفيًّا وقاسوها على ما يتعارف من صفات الأجسام؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلق آدم على صورة الرحمن "، وقوله: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "، و " وضع يده على كتفي حتى وجدت برد أنامله ".
على هذا النحو مست حاجة المسلمين إلى منهج جديد تتحقق فيه الوسطية التي دعا إليها الإسلام، فيسلك بالمسلمين السبيل الذي سلكه الصحابة قبلهم في شئون الاعتقاد، منهج ينزل العقل مكانه الصحيح فيعرف له حدوده وطاقته، ولا يسرف في الاعتداد به،
143
منهج يعيد للنقل مكانته التي ضاعت على يد المعتزلة حين جعلوا الدليل النقلي فرعًا يتبع الدليل العقلي.
" فظهر في آخر القرن الثالث رجلان امتازا بصدق البلاء: أحدهما: أبو الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة، والثاني: أبو منصور الماتريدي ظهر بسمرقند، وقد جمعهما مقاومة المعتزلة ".
وينسب مذهب الأشاعرة إلى أبي الحسن الأشعري " ٢٦٠ - ٣٣٠ هـ ".
ولد أبو الحسن بالبصرة وتخرج في أصول الاعتقاد على المعتزلة، حيث تتلمذ على شيخ من شيوخهم المبرزين هو أبو علي الجبائي ولازمه ملازمة أتاحت له شيئًا غير قليل من النبوغ حتى عُدَّ من كبار رجال المعتزلة، فلا غرو أن كان الجبائي ينيبه عنه في حضور كثير من المجادلات والمناظرات التي كان المعتزلة يخوضونها مع خصومهم ومخالفيهم.
الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة:
ولم يكد أبو الحسن الأشعري يبلغ الأربعين من عمره حتى تحول عن مذهب المعتزلة وأنكر طريقتهم في درس العقائد، وكفر بآرائهم وأصولهم.
ويورد الدارسون أسبابًا تبرر هذا التحول، لعل من أهمها تلك المناظرة الشهيرة التي كانت بين الأشعري وشيخه الجبائي حول: وجوب فعل الصلاح والأصلح على اللَّه، حيث سأل الأشعري أستاذه الجبائي عن حال ثلاثة أخوة: الأكبر فيهم مؤمن تقي، والأوسط كافر شقي، والثالث مات صغيرًا قبل بلوغه سن التكليف، قال الجبائي: أما التقي ففي الجنة، وأما الكافر ففي النار، وأما الثالث فلا يثاب ولا يعاقب فهو من أهل السلامة؛ لأنه ليس مكلفًا.
فعاد الأشعري وساله: فماذا يقول اللَّه للصغير إن هو أراد أن يكون مثل أخيه الأكبر في الجنة؛ محتجًّا بأنه لو طال عمره لأطاع واستحق الجنة؟! فرد الجبائي بأن اللَّه يقول له: كنت أعلم أنك لو كبرت لوقعت في المعاصي، ولدخلت النار؛ فكان الأصلح لك أن تموت صغيرًا.
قال الأشعري: فما الرأي لو قال الأخ الأوسط المعذب في النار: لم لم تمتني يا رب صغيرًا حتى لا أعصيك ولا أعذب في النار؟! فلم يستطع الجبائي الإجابة على هذا السؤال
144
الذي يهدم أصلاً من أصول المعتزلة وهو مبدأ الصلاح والأصلح.
ولا ريب أن هذه المناظرة -ولا نستبعد وقوع مناظرات أخرى غيرها- قد زعزعت إيمان الأشعري فيما يؤمن به من آراء اعتزالية، وحملته على إعادة النظر فيها، وامتحانها عله يهتدي إلى وجه الحق، فعكف في بيته مدة ينظر في كتب المعتزلة، ويزن أدلتهم، حتى اهتدى إلى فسادها وبطلانها، فرقى المنبر يوم الجمعة بالمسجد الجامع بالبصرة وقال:
" أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن اللَّه تعالى لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم، معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة؛ لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت اللَّه تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد، كما انخلعت من ثوبي هذا، ورمى ثوبًا كان عليه ".
والحق أن إعلان الأشعري السابق بضلال المعتزلة عن المنهج القويم في أمور الاعتقاد قد تضمن إشارة إلى أبرز وجوه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة، وهي: القول بخلق القرآن، ونفي الصفات، وإنكار رؤية اللَّه تعالى، وحرية الإرادة الإنسانية والزعم أن الإنسان خالق أفعاله.
وذهب بعض الباحثين إلى أن العامل الحاسم في تحول أبي الحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة إنما هو مذهبه الفقهي الذي كان يتعبد به، وهو المذهب الشافعي، وأمر الخصومة بين الفقهاء -ومنهم الإمام الشافعي- والمتكلمين لا سيما المعتزلة أظهر من أن نحتاج إلى إقامة الأدلة عليه، فلقد ذم الشافعي علم الكلام وكان يعني بذلك المعتزلة، وهاجمهم في بعض كتبه ولم يقبل شهادتهم، وللشافعي نفسه آراء في الاعتقاد تخالف ما ذهب إليه المعتزلة، فهو يعتقد أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن اللَّه يُرى بالأبصار يوم القيامة، ويقول بالشفاعة، ويؤمن بالقدر خيره وشره.
فلا غرو أن أحس الأشعري بتناقض كبير بين أصول مذهبه الفقهي، وآراء مذهبه
145
الكلامي أو الاعتقادي الذي رضيه لنفسه.
إذن فإن التكوين الفكري للأشعري نفسه كان يحمل بذور الشك في الفكر الاعتزالي وينطوي على أسباب الثورة والتمرد عليه، على نحو ينتفي معه العجب من تحوله عن مذهب المعتزلة.
وثمة أمر آخر قد يحسن بنا أن نشير إليه في هذا المقام، هو أن الأشعري كان معجبًا بتوسط الإمام الشافعي في آرائه الفقهية بين أهل الرأي وأهل الحديث، فحاول هو أن يقوم بدور الشافعي في علم الكلام بأن يوازن بين العقل والنقل أو بين غلو المعتزلة في العقل ووقوف بعض الحنابلة عند النقل.
ومن هذه النقطة نفسها ننطلق إلى بيان نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية جميعًا:
أولًا: نقد الأشعري للمعتزلة:
لم يكتف الأشعري بالتحول عن الاعتزال حين انقدح له الرأي في مذهبهم بعد نظر وتأمل، بل طفق يهدم هذا المذهب، ويقوض أركانه ودعائمه، ويفند ما يستند عليه من أدلة وبراهين، ويكتسب نقد الأشعري للمعتزلة أهمية خاصة من كونه قد انتسب للمعتزلة فترة غير قصيرة، وانتحل نحلتهم انتحالًا أتاح له الوقوف على نقاط ضعفه وأسباب تهافته، فكان نقده لهم نقد العالم الخبير المستند إلى رصيد ضخم من المعرفة بما ينقد.
والناظر في منهج الأشعري وموقفه من المعتزلة ومناظرته لهم يتبين له أن قوام نقده للمعتزلة إنما هو الإسراف في الاعتداد بالعقل وتقديمه على النص، والاستناد إليه في كل أمر من أمور الاعتقاد، فأقحموه بذلك في ميدان وعرٍ تضل فيه الأفهام إذا لم يكن رائدها الوحي، وتزل فيه الأقدام إذا تخلت عن النقل.
وقد أداهم ذلك إلى آراء خاطئة تخالف ما اصطلح عليه جمهور الأمة، فنفوا عن الحق سبحانه وتعالى الصفات التي أثبتها القرآن الكريم والسنة المطهرة.
والناس في نظر المعتزلة خالقون لأفعالهم سواء كانت شرًّا أم خيرًا، متمتعون بحرية الإرادة سواء خالفت مراد اللَّه من الخلق أم اتفقت معه.
ويترتب على قول المعتزلة أن الناس مشاركون لله تعالى في أخص صفاته وهي الخلق، وهو ما تأباه العقيدة الصحيحة؛ إذ لا خالق في الكون إلا اللَّه، فلا غرو أن كان
146
المعتزلة في رأي الأشعري شر من مذهب المجوس الذين جعلوا لله شريكًا واحدًا وهو الشيطان.
وساق الغلو في استخدام المعتزلة للعقل إلى القول بوجوب الصلاح والأصلح على اللَّه، وهو المبدأ الذي هدمه الأشعري في مناظرته لأستاذه أبي علي الجبائي، وكان أحد الأسباب المباشرة في رفض الأشعري لمنهج المعتزلة وانصرافه عنه، فمن نحن حتى نوجب على اللَّه شيئًا؟! فالعقيدة الصحيحة أن اللَّه يثيب الطائع ويدخله الجنة لا بعمله، ولكن بتفضله ورحمته.
ومن المسائل الكبرى التي أخذها الأشعري على المعتزلة القول بخلق القرآن، " فجعلوه مشابها في الخلق والحدوث لجميع الأشياء الحادثة التي تنقصها القداسة، ونفوا أن يكون صفة لله تعالى، فخالفهم الأشعري في ذلك وقرر في كتاب الإبانة: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو رأي السلف الذي تمسك به الإمام أحمد بن حنبل، غير أن الأشعري قدم بين يديه أدلة سمعية وأخرى عقلية، وبذل جهده لإبطال رأي المعتزلة ".
والخلاصة أن الأشعري لم يرض عن طريقة المعتزلة في النظر إلى العقيدة، وهي طريقة سداها ولحمتها التعويل على العقل والاستقلال به في تأسيس الأحكام في أصول الدِّين، مما جعلهم يفسرون العقيدة والتوحيد تفسيرًا لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من الأئمة، وصدق فيهم قول جولد تسيهر: " إنهم رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمور الدِّين والإيمان ".
نقد الأشعري للحشوية:
يطلق مصطلح الحشوية على طائفة من الحنابلة وجماعة من الشيعة، تمسكوا بحرفية النصوص، وحملوها على ظاهرها حملًا انتهى بهم إلى القول بالتشبيه والتجسيم؛ يقول الشهرستاني: " إن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه، قالوا: إن معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية أو جسمية يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن ".
واستدل هَؤُلَاءِ على رأيهم بنصوص من القرآن أثبتت لله سبحانه وتعالى بعض الصفات
147
من الاستواء واليد والعين والوجه، فأثبتوها إثباتًا ماديًّا، فأجازوا على اللَّه الملامسة والمصافحة، كما عولوا على بعض الأحاديث التي يؤدي معناها المادي الظاهري معنى التجسيم؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلق اللَّه آدم على صورته "، وقوله: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ".
وقد انتقد الأشعري هذه الطائفة وشدد النكير عليها، ورماهم بضعف النظر العقلي الذي أداهم إلى آرائهم الشاذة في التجسيم الذي يتنافى مع الوحدانية الصحيحة، وألف رسالة سماها: " استحسان الخوض في علم الكلام "، أشار فيها إلى ضرورة النظر العقلي في مسائل الاعتقاد، وأننا لن نعدم من الأدلة القرآنية ما يؤيد أن المنهج السليم ينبغي أن يقوم على النقل والعقل جميعًا فقال:
" إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدِّين، وطعنوا على من فتش في أصول الدِّين، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجوهر والعرض والجزء والطفرة بدعة وضلالة، مستدلين بأن شيئًا من ذلك لم يؤثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه وأصحابه ولو كان خيرًا لتكلموا فيه ".
فأجابهم الأشعري بقوله: لم قلتم: إن البحث في ذلك بدعة مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقل بأن من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعًا ضالاًّ؟! فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالاً؛ لأنكم قلتم ما لم يقله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم إن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق موجود في قصة إبراهيم - عليه السلام - وأفول الكواكب والشمس والقمر.
وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ دليل الوحدانية في القرآن الكريم، وكلام المتكلمين في التوحيد والتمانع والتغالب فإنما مرجعه هذه الآية.
وطريقة إلزام الخصم نأخذها من القرآن الكريم، فحينما جاء الحبر السمين وقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ يريد بذلك إنكار نبوة مُحَمَّد، فرد القرآن عليه: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ وهذا إلزام أقر به الخصم.
كما استدل الأشعري على إبطال حوادث لا أول لها من سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " فمن
148
أعدى الأول ".
على هذا النحو أثبت الأشعري أن القرآن الكريم والسنة الشريفة لم يهملا النظر العقلي ولا حرما أدلته، بل حثَّا على الأخذ بهما في إلزام الخصوم ودحض شبههم، وحسبك دليلا أن القرآن نفسه قد تضمن شيئًا غير قليل من هذه الأدلة.
ويقول أحد الباحثين:
" وقد اضطر الأشعري للنظر العقلي للأسباب الآتية:
١ - أنه تخرج على المعتزلة وتربى على موائدهم الفكرية، فنال من مشربهم وأخذ من منهلهم، واختار طريقهم في إثبات العقائد، وإن خالفهم في النتائج.
٢ - أنه تصدى للرد عليهم فلابد أن يتبع طريقتهم.
٣ - أنه تصدى للرد على الفلاسفة والقرامطة والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة، وكثير من هَؤُلَاءِ لا يقنعه إلا أقيسة البرهان، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلا دليل العقل، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.
ومن رد الأشعري على المعتزلة وعلى الحنابلة نرى أن الدفاع عن المنهج الأشعري هو نقطة البداية لعلم الكلام السني من غير أن يتطرف في التأويلات العقلية كالمعتزلة، أو
149
يستهجن البحث الكلامي كالحنابلة، ولكنه استطاع أن يوفق بين الجانبين -كما فعل الماتريدي- واعتمد على النظر العقلي فوضع للفتن الدِّينية حدًّا، فقضى على مذهب المعتزلة وحل مكانه ".
منهج الأشعري:
تبين لنا من نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية أنه وقف على علة ضلالهما وفساد ما انتهوا إليه من آراء وتصورات في العقيدة، وهذه العلة إنما هي الاقتصار على النقل وإهمال العقل، أو تحكيم العقل وتقديمه على النقل، أما المعتزلة فاستقلوا بالعقل في تأسيس مذهبهم الاعتقادي وظنوا أنه مرقاة إلى العقيدة السليمة، فأداهم ذلك إلى آراء شاذة تنكرها النصوص الشرعية الثابتة، من نفي الصفات والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والشفاعة، وفي سبيل ذلك أولوا آيات القرآن الكريم وطعنوا في السنة الصحيحة والضعيفة جميعًا.
وأما الحشوية فالتزموا بالنقل التزامًا حرفيًّا، ولم يجعلوا للعقل حظًّا من فهمه والاستدلال عليه بأدلته، فزلت أقدامهم في القول بالتجسيم والتشبيه، ورأوا كذلك أن النظر العقلي في أصول الدِّين بدعة، حيث لم يؤثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصحبه - رضوان الله عليهم - فصنف الأشعري للرد عليهم رسالة: " استحسان الخوض في علم الكلام " بين فيها أن القرآن والسنة يشتملان على أصول النظر العقلي والاستدلال المنطقي على صحة العقيدة الإسلامية، وذهب إلى أن تأييد الشرع بالعقل ليس بدعة وإنما هو واجب لابد من أن ينهض بأدائه علماء المسلمين.
اجتهد الأشعري -مستهديًا بنقده للمعتزلة والحشوية- في تأسيس مذهب جديد يُؤَلِّفُ في منهجه بين النقل والعقل ويوائم بينهما " فكان يفهم النص في ضوء العقل أو يسير وراء العقل في حدود الشرع، ويجعل الشرع هاديًا للعقل؛ لأن العقل إذا ترك وشأنه اتبع هواه، لكنه بالشرع يتبع هداه ".
وإذا كان الأشعري قد جمع في منهجه بين العقل والنقل، فإنه قدم النقل على العقل؛ لأن مبنى العقائد على الغيبيات وطريقها الوحي لا العقل، ونص الأشعري صراحة في مقدمة كتابه " الإبانة عن أصول الديانة " على أنه يتمسك بكتاب اللَّه وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كما نص على أن الإمام الذي يتبعه هو
150
أحمد بن حنبل.
ونستطيع أن نقرر أن هذا المنهج الذي سلكه أبو الحسن الأشعري امتاز بالوسطية التي دعا إليها الإسلام وأكدها القرآن الكريم في غير آية، حين حث على إعمال النظر والتفكر في الكون وتدبر إحكام صنعته، فلم يهمل العقل ولا حرم استخدامه، ولقد ألمحنا فيما سبق إلى أن القرآن نفسه اشتمل على أدلة عقلية وبراهين قوية ألزم بها خصومه، بالإضافة إلى ما احتواه من أدلة سمعية.
" ولا ريب في أن الأشعري استطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام وأن يجعله من علوم الدِّين، وأن يحسن للعلماء الخوض فيه، واستطاع أيضًا بمنهجه أن يرسخ قواعد المذهب وأن يجذب إليه الكثيرين، وأن يحد من انتشار مذهب المعتزلة، وأن يضيق الدائرة الحشوية، وما ذلك إلا لوسطيته التي التزمها وحرص على تحقيقها في آرائه، والوسط غالبًا ما يكون أقرب إلى الصحة والاعتدال، فكلا طرفي الأمور ذميم، وإذا كان الناس قد تقبلوا مذهب الشافعي في الفروع لتوسطه بين أهل الحديث وأهل الرأي، فإنهم تقبلوا مذهب الأشعري في الأصول؛ لتوسطه بين الحنابلة والمعتزلة، أو بين أهل النقل وأهل العقل ".
وثمة إشكال في " منهج الأشعري الكلامي " يثيره كتابه " اللمع " الذي اقترب فيه -في رأي عدد من المهتمين بعلم الكلام بصفة عامة وبفكر الأشعري بصفة خاصة- من المعتزلة من حيث الاعتداد الكبير بالأدلة العقلية ومن حيث تأويل النصوص الشرعية، الأمر الذي حمل بعض الدارسين على القول بأن الأشعري قد مر في آرائه الكلامية بمرحلتين متعاقبتين مختلفتين أشد الاختلاف:
المرحلة الأولى: ويقترب فيها من العقيدة السلفية اقترابًا شديدًا، ويمثل هذه المرحلة خير تمثيل كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة ".
المرحلة الثانية: ويقترب فيها من المذهب الاعتزالي، ويمثلها كتابه " اللمع ".
إذ الناظر في كتاب اللمع يجده خاليًا من الإشادة بالإمام أحمد ومن الانتساب إليه خلافًا لما ذكره في الإبانة؛ وكذلك فإن كتاب اللمع خلا من بعض المسائل التي أتى بها
151
في الإبانة مثل: إثبات الوجه واليدين والاستواء على العرش.
وقد اتخذ البعض من هذين الكتابين ذريعة لاتهام الأشعري بالتناقض في منهجه الكلامي، أو على أقل تقدير اتخذوا من ذلك دليلًا على تطور عقيدة الأشعري، وتحولها في المرحلة النهائية إلى صورة أقرب للمعتزلة منها إلى أهل السنة.
ويدافع أحد الباحثين عن وحدة المنهج الأشعري، مبينًا أن التباين في المنهج الذي احتذاه الأشعري في كتابيه الإبانة واللمع يرجع إلى اختلاف الفرقة التي يرد عليها وينقد آراءها، فيقول:
إن الأشعري حين ألف الإبانة كان يريد أن يحسم موقفه مع المعتزلة ويبين العقيدة التي يعتنقها ويسير عليها ويدافع عنها، فجاء منهجه متحاملا على المعتزلة غير مهادن لهم؛ لأنه كما نعلم أخذ على نفسه عهدا أن يكشف أمرهم ويظهر فضائحهم، ومن ناحية أخرى فإنه أظهر أن الإمام الذي يسير على منهجه هو الإمام أحمد بن حنبل الذي وقف ضد المعتزلة وقفته المشهورة، فكتاب الإبانة من هذه الناحية يعتبر تقريرًا لعقيدة الأشعري بملامح منهجية جديدة.
أما كتاب اللمع فقد ألفه ليرد على الدهرية ونفاة الصانع بجانب رده على المعتزلة بعد أن تم له النصر عليهم فجاءت آراؤه بعيدة عن التحامل؛ فالكتاب والأمر كذلك تعبير عن منهج قد نضج فعلاً، وقد دافع إمام الحرمين عن منهج الأشعري، ولم يشر إلى أي مراحل منهجية مع أن الجويني كان إذا تصدى لمسألة فإنه يذكر الأقوال فيها، ويبين طرقها المختلفة، ويفند الأمر من وجهة نظره تفنيدًا منهجيًّا، ولم يطلعنا وهو يرد على خصوم شيخه على أي اختلاف لمنهج الأشعري، فلما طعن المعتزلة على الأشعري في تصدير كتابه اللمع بالدلالة القرآنية وبمفهومها الشارح لها، بين الجويني في الشامل أن السبب الذي جعل الأشعري يسلك هذا المنهج هو أن اللَّه تعالى احتج على الكفرة والمنكرين بالحجج التي صدر بها الأشعري اللمع حتى تكون حجته موافقة للقرآن، فقال: " وما اعترضوا به من قولهم: إن الاستدلال بالقرآن على الدهرية ونفاة الصانع لا يتحقق باطل؛ لأن شيخنا ما استدل عليهم بنفس الآية وإنما استدل عليهم بمعناها، وهي تنطوي على وجه الحجاج، والذي يوضح ذلك أن الرب تعالى احتج بما ذكره على الكفرة والمنكرين، وذكره الأشعري ليقيم الاحتجاج به على حسب ما أراد اللَّه من الاحتجاج ".
152
ومهما يكن من أمر، فإن المذهب الأشعري نفسه قد تطور بعد وفاة رائده الأول أبي الحسن على يد الأشاعرة المتأخرين الذين كانوا في آرائهم ومنهجهم أدنى إلى المعتزلة، من حيث الاعتماد على العقل في الاستدلال والاستنباط، وإن كانوا لا يردون الشرع ولا يهملونه؛ لأنهم يرون أن الشرع حجة اللَّه والعقل حجة اللَّه، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.
ويبدو قرب منهج الأشاعرة المتأخرين من منهج المعتزلة في موقفهم من الدليل السمعي والشروط التي وضعوها له، والتي من أهمها ما يلي:
أولًا: أن يكون غير مستحيل في العقل، وهذا يتفق مع قولهم: إن العقل والشرع حجتين لله تعالى، وحجج اللَّه تتعاضد ولا تتعارض؛ فلا يوجد في نظرهم دليل سمعي قطعي مستحيل في العقل.
ثانيًا: أن يكون قطعي الثبوت؛ ولذلك فأخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد؛ لأنها ليست قطعية الثبوت.
ثالثًا: أن يكون قطعي الدلالة، فإذا كان السمعي قطعي الثبوت، ولكنه يحتمل التأويل، كان غير قطعي الدلالة.
بعض آراء الأشعري:
رأينا أن نختم حديثنا عن المذهب الأشعري، بأن نذكر طرفًا من آراء أبي الحسن وشيعته في بعض مسائل الاعتقاد، والتي كانت ثمرة من ثمار المنهج الذي اصطنعوه، من أجل أن يكون تصور القارئ عن هذا المذهب أدنى إلى الكمال وأقرب إلى الوضوح.
١ - اقترب الأشعري في بحثه لصفات اللَّه تعالى من أهل السنة إلى حد بعيد، حيث أثبت لله الصفات جميعًا بقسميها أي الصفات السلبية والصفات الثبوتية كالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات، بيد أنه لم يقف عند هذا الحد، بل تابع البحث في الصفات بحثًا عقليًّا فانتهى إلى ما يلي:
أولًا: أن الصفات زائدة على الذات، وليست عين الذات كما يرى المعتزلة، ويرى الأشعري أن هذا التصور لصفات اللَّه لا يترتب عليه تصور التعدد أو التركيب في ذات اللَّه، والدليل على صدق كلامه زيادة صفات الإنسان على ذاته دون أن تؤدي إلى تعدد في
153
ذات الإنسان.
ثانيًا: هذه الصفات متغايرة فيما بينها، فالعلم صفة لله تختلف عن صفة القدرة وكلتاهما مختلفتان عن صفة الإرادة.
ثالثًا: هذه الصفات الإلهية أزلية لابداية لها، فهي تشترك في القدم مع الذات، " ويدلل الأشعري على هذا الرأي بدليل يثبت به أن هذه الصفات لا يمكن أن تكون حادثة؛ لما يترتب على ذلك من نتائج باطلة، ويعلل ذلك بقوله: إننا إذا افترضنا جدلًا أن هذه الصفات حادثة، فسنكون أمام احتمالات أو فروض ثلاثة:
الأول منها: أن يحدث اللَّه هذه الصفات في نفسه، وهذا باطل؛ لأنه يجعل اللَّه محلاًّ للحوادث ومقارنًا لها، وما يتصل بالحوادث حادث عند المتكلمين.
والفرض الثاني: أن يحدثها اللَّه في غيره، وهذا باطل أيضًا؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون هذا الغير موصوفًا بصفات اللَّه تعالى، فيكون مريدًا بإرادة اللَّه تعالى، وعالمًا بعلمه، وهذا باطل.
والفرض الثالث: هو أن تكون الصفة الحادثة مستقلة بذاتها، وهذا باطل أيضًا؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى موصوف تقوم به.
وإذا بطلت هذه الفروض الثلاثة لم يكن أمامنا إلا التسليم بقدم هذه الصفات وأزليتها ".
٢ - ذهب الأشعري إلى أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، متابعًا في ذلك رأي السلف الذي دافع عنه وأوذي بسببه الإمام أحمد بن حنبل، بيد أن الأشعري قدم بين يدي رأيه أدلة سمعية وعقلية، خلاصتها أن القرآن كلام اللَّه فلا ينبغي أن يكون حادثًا؛ لما ينبني على ذلك من إلحاق صفة الحدوث باللَّه تعالى.
٣ - خالف الأشعري المعتزلة في مسألة رؤية اللَّه في الآخرة، حيث ذهب إلى إثباتها، غير أنه نفى أن تكون هذه الرؤية رؤية إحاطة؛ لأن اللَّه تنزه عن أن تدركه الأبصار، ونفى أيضًا عن الرؤية معاني التجسيم والتشبيه، ورأى أن الرؤية المقصودة أقرب إلى الرؤية القلبية، فوقف بذلك موقفًا وسطًا بين المعتزلة المنكرين لها والمشبهة الذين أثبتوها وأثبتوا
154
ما تؤدي إليه من الجسمية والمكان.
٤ - خالف الأشعري المعتزلة في مسألة حرية العباد في أفعالهم، ووقف موقفًا وسطًا بينهم وبين الجبرية حيث قال بنظرية الكسب، وتعني أن الفعل خلق وإبداع من اللَّه وكسب من العبد.
٥ - هدم الأشعري مبادئ المعتزلة في وجوب الصلاح والأصلح على اللَّه وإنكار الشفاعة، والقول بخلود أصحاب الكبائر في النار، ومال في ذلك كله إلى رأي السلف.
على هذا النحو اختلفت آراء المذهب الأشعري عن آراء المعتزلة والحشوية، وكانت وسطًا بينهما، ولعل هذه الوسطية التي تحققت في فكر الأشعري ومدرسته هي السبب في ذيوع مذهبه وانتشاره في أكثر البلاد الإسلامية.
* * *
155
ثالثًا: الماتريدية
أسس هذا المذهب العلامة مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود أبو منصور الماتريدي مصنف هذا الكتاب الذي نحن بصدد تحقيقه، وقد سبقت ترجمتنا له.
وقد كان الماتريدي مشهورًا بالاعتدال والتوسط حتى اتفق الناس على علو قدره وتميز منزلته، حتى قيل: لو لم يكن في الحنفية إلا هذا الإمام لكفاهم.
وكنا قد أشرنا إلى أن الماتريدي كان أحد اثنين قاما بالذود عن عقيدة أهل السنة، وتفنيد آراء المعتزلة المخالفة لها.
ومن الحق أن نقرر أن الماتريدي اتخذ منهجًا امتاز بالوسطية والاعتدال، على نحو ما صنع معاصره أبو الحسن الأشعري، فاحتلت شخصيته مكانة تليق به كواحد من أفاضل علماء أهل السنة والجماعة في بلاد المشرق الإسلامي.
وسوف نفصل القول في بيان مذهب الماتريدية، والمسائل التي خالف فيها الماتريدي أبا الحسن الأشعري.
فنقول:
يعد الماتريدي -بحق- واحدًا من أبرز المؤسسين لعلم الكلام الإسلامي؛ إذ ينسب إليه المذهب الماتريدي، وهو مذهب يهدف إلى فهم أصول الشريعة وقواعد الإسلام في ضوء الأسس العقلية السليمة، فهو مذهب يجمع بين العقل والنقل، وإن كان العقل تابعًا، مهمته فهم أصول التوحيد التي نقلت إلينا من طريق الوحي.
وقد أشرنا في غير موضع إلى تشابه المذهب الأشعري مع المذهب الماتريدي، وأن كلا المذهبين قد نشأ في سياق فكري واحد.
وقامت الماتريدية بالرد على المخالفين والمغالين وبخاصة المعتزلة والروافض والمشبهة، وكان المنهج الذي اعتمده علماء هذا المذهب في الرد على المخالفين ومناقشة المسائل الكلامية منهجًا معتدلاً يوازن بين العقل والنقل، وهو المنهج نفسه الذي عول عليه الأشعري.
أثمر اتفاق -أو قل تطابق- المنهجين اللذين اصطنعهما الأشاعرة والماتريدية، اتفاقًا بينهما في أمهات المسائل الكلامية؛ مثل: وجود اللَّه وصفاته، وجواز رؤيته في الدنيا، وتحقق الرؤية للمؤمنين في الآخرة... إلى آخر هذه المسائل المثبتة في كتب التوحيد
156
وعلم الكلام.
ونذكر هنا على سبيل الإجمال المسائل التي اختلف فيها السادة الأشعرية مع السادة الماتريدية وقد تقدم بيان أن مدار جميع عقائد الملة الإسلامية على قطبين من أقطاب العلوم الشرعية: أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري، والآخر الإمام أبو منصور الماتريدي.
وقبل ذكر هذه المسائل يجدر بي أن أبين أن الأشاعرة والماتريدية متفقون على الأصول العامة لعقيدة أهل السنة والجماعة، والخلاف الظاهر بينهما في بعض المسائل الجزئية، وهو أمر لا يقدح في نسبتهما جميعًا إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يوجب القول بأن أحد الفريقين مبتدع، مخالف للعقيدة السليمة.
قال الخيالي في حاشيته على شرح العقائد: " الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار، وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور، وبين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل؛ كمسألة التكوين وغيرها ". اهـ.
وقال السكستلي في حاشيته عليه: " المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة - أي. طريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والجماعة - أي: طريقة الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، وبين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول؛ كمسألة التكوين ومسألة الاستثناء في الإيمان، ومسألة إيمان المقلد. والمحققون من الفريقين لا ينسب أحدهما الآخر إلى البدعة والضلالة ". اهـ.
وقال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: " اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك... وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية، أعني الكتاب والسنة
157
والإجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي والصناعة الفكرية، وهم الأشعرية والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسألة التكوين ومسألة التقليد.
الثالثة: أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكشف والإلهام في النهاية " اهـ.
وليعلم أن كلا من الإمامين أبي الحسن وأبي منصور -رضي اللَّه عنهما وجزاهما عن الإسلام خيرًا- لم يبتدعا من عندهما رأيًا ولم يشتقا مذهبًا، إنما هما مقرران لمذاهب السلف مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأحدهما: قام بنصرة نصوص مذهب الشافعي وما دلت عليه، والثاني: قام بنصرة نصوص مذهب أبي حنيفة وما دلت عليه، وناظر كل منهما ذوي البدع والضلالات حتى انقطعوا وولوا منهزمين، وهذا في الحقيقة هو أصل الجهاد الحقيقي، فالانتساب إليهما إنما هو باعتبار أن كلًّا منهما عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في تلك المسالك والدلائل يسمى أشعريًّا وماتريديًّا.
ويقول الدكتور مُحَمَّد حسن أحمد حسانين:
فالماتريدية والأشاعرة متفقون في المذهب، أما الناحية المنهجية: فإن بينهم بعض الاختلاف الذي لا يضر في العقيدة ولا يبدع أحدًا منهم؛ فالأمور المختلف فيها جزئية فرعية، معظمها مبني على شبه الألفاظ وتعيين المعنى المراد منها.
وهي عند النظر السليم لا تخرج عن كونها اختلافات مثل ما بين أصحاب الأشعري وأصحاب أبي حنيفة.
وقال العلامة السبكي في الطبقات: ولي قصيدة نونية جمعت فيها هذه المسائل وضممت إليها مسائل اختلف الأشاعرة فيها... وقال في شرح عقيدة ابن الحاجب: ثم تصفحت كتب الحنفية، فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث
158
عشرة مسألة، منها معنوي ست مسائل والباقي لفظي، وتلك الستة المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا ولا مخالفتنا لهم.
قلت: ومطلع القصيدة التي ذكرها السبكي هي:
الوَرْدُ خَدُّك صِيغَ من إنسانِ أم في الخُدودِ شَقائقُ النعْمانِ
والسيفُ لحظُك سُلَّ من أجفانهِ فسطا كمثل مُهَندٍ وسِنَانِ
تاللَّه ما خُلقتْ لِحَاظُكَ باطلًا وسُدًى تعالى اللَّه عن بُطْلَانِ
ثم ذكر في البيت التاسع والستين وما بعده:
هذا اعتقادُ مشايخِ الإسلامِ وَهـ وَالدِّينُ فلْتَسْمعْ له الأذنانِ
الأشعري عليه ينصره ولا يألو جزاه اللهُ بالإحسانِ
وكذاك حالته مع النعْمان لم ينقض عليه عقائد الإيمان
يا صاح إن عقيدة النعمان والـ أشعري حقيقة الإتقان
فكلاهما واللَّه صاحب سنَّةٍ بهدى نبي اللَّه مقتديانِ
لا ذا يُبَدِّع ذا ولا هذا وإن تَحْسَبْ سِواه وَهِمْتَ في الحُسْبانِ
من قال إن أبا حنيفة مبدعٌ رأيًا فذلك قائلُ الهَذيَانِ
أوْ ظَنَ أن الأشعري مُبدِّعٌ فلقد أساء وباء بالخُسرانِ
كل إمام مقتد ذو سنَّةٍ كالسيف مسلولًا على الشيطانِ
والخلفُ بينهما قليلٌ أَمْرُه سهل بلا بِدْع ولا كفران
فيما يقل من المسائل عَدُّهُ ويهون عند تطاعُن الأقرانِ
ولقد يئول خِلافُها إما إلى لفظٍ كالاستثناء في الإيمانِ
ويدلنا النظر في كتب العقائد وتأمل مصنفات الأصول أن ما بينهما من خلاف إنما هو خلاف فرعي لا يمس شيئًا من الأصول.
وفيما يلي نجمل المسائل التي كانت محل خلاف بين الأشاعرة والماتريدية، ثم نذكر نبذة يسيرة عن كل مسألة: مع بيان المسائل المختلف فيها لفظًا والمختلف فيها معنى.
فأما المسائل المختلف فيها لفظًا فهي:
١ - السعادة والشقاء.
159
٢ - بقاء الرسالة.
٣ - الإرادة والرضا.
٤ - الاستثناء في الإيمان.
٥ - إيمان المقلد.
٦ - الكسب.
٧ - الكافر منعم عليه أم لا.
والمسائل المختلف فيها معنويًّا:
١ - تكليف ما لا يطاق.
٢ - الثواب والعقاب.
٣ - التكوين.
٤ - كلام اللَّه.
٥ - معرفة اللَّه تعالى بالعقل أم بالشرع؟
٦ - عصمة الأنبياء عليهم السلام.
أولاً: المسائل المختلف فيها لفظًا:
المسألة الأولى: السعادة والشقاوة
السعادة والشقاوة في اللغة والاصطلاح:
أ - في اللغة:
السعادة: خلاف الشقاوة، والسعيد: نقيضه الشقي، والسعد: هو اليمن ونقيضه
النحس.
ب - في الاصطلاح:
السعادة: هي ما يجده القلب من الطمأنينة عند تنزل الغيب، وهي نور في القلب يسكن إلى شاهده ويطمئن صاحبه في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالنظر إلى وجه الرحمن سبحانه وتعالى، ودخول الجنة.
160
والاختلاف في هذه المسألة اختلاف حول الإجابة عن سؤال مهم، ألا وهو:
هل يسعد الشقي أم لا، وهل يشقى السعيد أم لا؟ حيث اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في الإجابة عن هذا السؤال.
فعند الماتريدية:
يرى الماتريدية أن السعادة والشقاوة تكونان في الحال، وليستا أزليتين، وبذلك يكون السعيد عندهم هو المؤمن في الحال، ولو مات على الكفر فقد انقلب شقيًّا بعد أن كان سعيدًا، والشقي هو الكافر في الحال، ولو مات على الإيمان فقد انقلب سعيدًا.
أما عند الأشاعرة:
فمفهوم السعادة عندهم هو الموت على الإيمان، وذلك - باعتبار تعلق علم اللَّه - تعالى - أزلًا بذلك.
وكذلك فالشقاوة عندهم هي الموت على الكفر.
وبذلك يكون السعيد عندهم سعيدًا في الأزل، والشقي شقيًّا في الأزل، ولا يتبدل السعيد شقيًّا، أو الشقي سعيدًا.
والحق أن الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة خلاف لفظي، ومحصور في مسألة بعينها ألا وهي: حال من أسلم بعد الكفر: هل هو شقي أم سعيد؟ والفريقان متفقان على أنه سعيد بإسلامه، لكنهم قد اختلفوا فيما إذا كان قد تبدل بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة أم أنه سعيد أزلًا في علم اللَّه تعالى، وليس هناك تبدل، والكفر عرض له.
فقد ذهب الماتريدية إلى أنه قد تحول بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة، وذلك غير مخالف لما في علم اللَّه أزلًا.
أما الأشاعرة: فقد ذهبوا إلى أنه سعيد، ولم يتبدل حاله من حيث السعادة والشقاوة، فهو في حالة الكفر كان سعيدًا أيضًا تبعًا للخاتمة.
161
المسألة الثانية
حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل
قبل عرض المسألة والخلاف فيها ينبغي أولًا أن نعرف بالرسول في اللغة والاصطلاح، والفرق بينه وبين النبي.
ففي اللغة:
الرسول: يقال: أرسلت رسولاً، أي: بعثته برسالة يؤديها، فهو فعول بمعني مفعول.
وفي الاصطلاح:
الرسول: هو من اختصه اللَّه بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي، وأمر بتبليغه.
الفرق بين الرسول والنبي:
النبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر؛ لإنبائه عن اللَّه -تعالى- إذ هو المتلقي لوحي السماء، وهو -اصطلاحًا-: من اختصه اللَّه -سبحانه وتعالى- بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي سواء أمر بتبليغه أم لا.
وبذلك يكون الفرق بين الرسول والنبي أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا.
ولقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل على ما يلي:
الماتريدية:
وعندهم أن الرسل والأنبياء يظلون كذلك حتى بعد موتهم.
وأما الأشاعرة:
فيرون أن الأنبياء والرسل بعد موتهم في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصله.
وبذلك يتضح أن الفريقين يتفقان في أصل المسألة وهي أن الرسالة باقية إلى الآن، لكن الخلاف فيما إذا كانت الرسالة باقية حقيقة أم في حكم الرسالة.
162
المسألة الثالثة
الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا
الإرادة: في اللغة والاصطلاح:
في اللغة:
الإرادة: هي القصد، والمشيئة، يقال: أراد كذا، أو شاء كذا، أي: قصده.
وفي الاصطلاح:
هي صفة ثبوتية قديمة قائمة بذاته تعالى وزائدة عليها، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة.
وقد اختلف السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة بعد اتفاقهم على أن اللَّه تعالى مريد، وأن ما يقع في الكون من خير وشر فهو مراد له تعالى - في أنه: هل هناك تلازم بين الإرادة والرضا بالمراد أم لا؟
فالماتريدية:
يثبتون إرادة اللَّه تعالى الشاملة لأفعال العباد؛ لأن أفعال العباد من خلقه تعالى، والقول بعدم إرادة اللَّه الشاملة معناه عدم قدرة اللَّه على أفعالهم، فالقول بالقدرة المطلقة والإرادة المطلقة والعلم المطلق لازم لتمام صفات الألوهية.
غير أن الماتريدية يقولون: إنه لا محبة في صفة الإرادة، وأن هذه الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة؛ إذ الكفر غير مرض، وهو مراد لله تعالى، وأن الإرادة والمشيئة لفظان مترادفان، كما أن إرادة اللَّه صفة أزلية ليست حادثة، وهي متعلقة بجميع الممكنات تعلق تخصيص، ويترتب على ذلك نفي التلازم بين الإرادة والرضا والمحبة؛ لأن الماتريدية يرون أن معنى الرضا ترك الاعتراض على الشيء لا إرادة وقوعه، ومعنى المحبة استحماده تعالى له، والإرادة عامة. وبذلك يكون بين الإرادة والرضا والمحبة عموم وخصوص وجهي.
163
أما الأشاعرة:
فيرون أن الإرادة هي الرضا والمحبة؛ إذ المحبة هي الإرادة والرضا كذلك معناه الإرادة، والإرادة تستلزم الرضا والمحبة، وبهذا تكون الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والاختيار كلها بمعنى واحد، مثلما يكون المعرفة والعلم بمعنى واحد.
وفي هذا يقول الإمام البغدادي في المسألة السادسة:
أجمع أصحابنا أن إرادة اللَّه تعالى مشيئته واختياره، وعلى أن إرادته للشيء كراهيته لعدم ذلك الشيء كما قالوا: إن أمره بالشيء نهي عن ضده، وقالوا أيضًا: إن إرادته صفة أزلية قائمة بذاته، وهي إرادة واحدة محيطة بجميع مراداته على وفق علمه بها فما علم منها كونه أراد كونه، خيرًا كان أو شرًّا وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون. ولا يحدث في العالم شيء لا يريده اللَّه ولا ينتفي ما يريده اللَّه؛ وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والحق أن الفريقين يتفقان في أصل الإرادة ويختلفان في المراد، ويرجع هذا الخلاف إلى الجهة التي نظر منها كل منهما إلى مفهوم الإرادة، فالماتريدية نظروا إلى جهة العلم، وبذلك فقد ذهبوا إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضا؛ إذ ليس هناك تلازم بين الإرادة والرضا، بينما نظر الأشعرية إلى أنها عامة وشاملة للكائنات كلها، وبذلك ذهبوا إلى أن كل مراد مرض، وهناك تلازم بين الإرادة والرضا.
المسألة الرابعة
الاستثناء في الإيمان
التعريف بالإيمان في اللغة والاصطلاح:
الإيمان في اللغة:
الإيمان: التصديق، وهو ضد الكفر، والتصديق ضد التكذيب، من: آمن بالشيء، يؤمن به، إيمانًا، فهو مؤمن قال اللَّه تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ).
164
الإيمان في الاصطلاح:
لقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في التعريف بالإيمان ومفهومه في الشرع على ما يلي:
مفهوم الإيمان عند الماتريدية:
يعرف الماتريدية الإيمان بأنه " تصديق بالقلب وإقرار باللسان ".
مفهوم الإيمان عند الأشاعرة:
ويعرفه الأشعرية بأنه " التصديق باللَّه تعالى "، وهذا هو ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري، وقد حدد المقصود بالتصديق بأنه التصديق القلبي، وهذا التصديق القلبي عند الأشاعرة هو: " الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى، وإثبات ما أثبته لنفسه من صفات وأنه ليس كمثله شيء ".
الاستثناء عند الماتريدية:
ذهب الماتريدية إلى منع دخول الاستثناء في الإيمان، فالمؤمن عندهم يكون مؤمنًا حقًّا، وليس مؤمنًا بالمشيئة؛ وذلك لأن الماتريدية يرون أن الاستثناء شك في إيمان المؤمن وشرائطه التي لا تقبل الشك.
يقول الإمام الماتريدي: الأصل عندنا قطع القول بالإيمان والتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه؛ لأن كل معنى في اجتماع وجوده تمام الإيمان عندهم إذا استثنى فيه لم يصح ذلك المعنى؛ نحو أن يقول: أشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إن شاء اللَّه، أو: محمدًا رسول الله إن شاء اللَّه، وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب... فالعرف الظاهر في الخلق أنهم لا يستعملونه -أي: الاستثناء- في موضع الإحاطة والعلم، ومن سمع ذلك استعظم القول، كمن أشار إلى محسوس ويستثني.
الاستثناء عند الأشاعرة:
يذهب الأشاعرة إلى جواز الاستثناء في الإيمان، فيمكن للمؤمن أن يقول:
أنا مؤمن إن شاء اللَّه.
يقول الإمام البغدادي: كل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان
165
قال بالموافاة، وكل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافى بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنًا، والواحد من هَؤُلَاءِ يقول: أعلم أن إيماني حق وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنًا حقًّا، فيستثني في صحة إيمانه.
وبذلك يظهر أن محل الخلاف هو أن الماتريدية لا يجيزون الاستثناء في الإيمان، بينما الأشعرية يجيزون ذلك.
المسألة الخامسة: إيمان المقلد
وقع اختلاف بين السادة الماتريدية والسادة الأشاعرة في صحة إيمان المقلد، وكذلك صحة تسميته مؤمنًا، وهل يكتفي بالتقليد في العقائد الدِّينية أم لا؟
فالماتريدية:
يذهبون إلى القول بصحة إيمان المقلد؛ لأن مع هذا الإيمان تصديقا، والتصديق هو أصل الإيمان، وعند الماتريدية يصح الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدِّينية، إلا أن المقلد يعد عاصيًا بتركه للنظر إذا كان قادرًا على ذلك؛ ولذلك قيل: إن النظر واجب وجوب الفروع، وليس وجوب الأصول، وإلا كان هذا المقلد كافرًا.
يقول أبو منصور الماتريدي:
" ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي، ولكن إذا بني اعتقاده على قول الرسول، بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق فهذا القدر كافٍ لصحة إيمانه ".
أما الأشاعرة:
فإنهم يقولون بأنه لا يكتفى بالتقليد في العقائد الدِّينية، ولكن لابد من الاعتقاد الجازم الناشئ عن دليل؛ لأن الإيمان من المسائل الأصولية، وهذه قليلة يمكن الإحاطة بها، وتكفي فيها المعرفة على الإجمال، ولا يشترط عندهم القدرة على التعبير عن ذلك؛ لأننا مأمورون بأن نتبع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والرسول - عليه السلام - مأمور بتحصيل العلم بتلك الأصول، والتصديق لا يوجد بدون العلم والمعرفة، والمقلد لا علم له حتى يحصل عنده التصديق، فإن لم يحصل هذا التصديق عنده فلا يحصل الإيمان.
166
ويذهب الأشاعرة إلى أن المقلد عاص بتركه النظر والاستدلال، ولكنه ليس مشركًا أو كافرًا، ويجوز أن اللَّه تعالى يغفر له، فإذا عوقب على المعصية دخل الجنة.
يقول البغدادي:
إن معتقد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر؛ لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه، وفي صحة النبوة ببعض أدلته سواء أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة أو لم يحسنها ".
والمتأمل للمسألة يرى أن الماتريدية والأشعرية يتفقان على أن المقلد قد خرج بتقليده عن الكفر والشرك، لكنهما يختلفان في تسمية المقلد مؤمنًا أو لا، فالماتريدية يسمونه مؤمنًا، بينما يمنع الأشعرية ذلك.
المسألة السادسة: الكسب
الكسب: هو ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفعٍ وتحصيل حظ، وقد يستعمل فيما يظن أنه يجلب منفعة ثم جلب مضرة.
وقال ابن الكمال: هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر.
وينبغي ذكر أن السادة الماتريدية قد اتفقوا مع الأشاعرة في القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة اللَّه تعالى، وللعباد فيها الكسب، لكن الماتريدية يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب.
فالماتريدية:
يثبتون للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل، ولا أثر لها في الإيجاب والإحداث، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية، وتتمثل هذه القدرة في القصد والاختيار للفعل، واللَّه سبحانه وتعالى يخلق للعبد القدرة على الفعل، وتكون نتيجة الفعل عليه.
وبذلك يثبت الماتريدية أن للعبد اختيارًا في أفعاله، وهذه الأفعال هي التي يترتب عليها
167
المدح والذم في الدنيا، كما يترتب عليها الثواب والعقاب في الآخرة، ولم يمنع الماتريدية إضافة الأفعال إلى اللَّه تعالى؛ إذ إنه هو الذي وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق.
أما الأشاعرة:
فيذهبون إلى أن قدرة العباد التي وقع بها الفعل غير مخلوقة، وأن أمرها بأيديهم، وعليها مدار تكليفهم. والإرادة عند الأشاعرة هي الإرادة الجزئية، أما الإرادة الكلية عندهم فهي مخلوقة لله تعالى.
المسألة السابعة
الكافر منعم عليه أم لا؟
التعريف بالنعمة والكفر في اللغة والاصطلاح:
أ - اللغة:
النعمة: هي اليد والصنيعة والمنة، وكذلك: النعمى، وهي النعماء والنعيم، والجمع: أنعم.
أما الكفر: فهو نقيض الإيمان، يقال: كفر يكفر كفرًا وكفورًا وكفرانًا.
ب - في الاصطلاح:
النعمة: ما قصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض.
أما الكفر: فهو ستر نعمة المنعم بالجحود أو بعمل هو كالجحود في مخالفة المنعم.
وقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة فيما إذا كان الكافر منعمًا عليه أم لا، وكذلك في هذه النعمة وهل هي نعمة دين أم دنيا أم هما معًا، وهل هي نعمة على الحقيقة أم لا؟ وذلك على ما يلي:
رأي الماتريدية:
يرى الماتريدية أن الكافر مُنْعَمٌ عليه، لكن هذا الإنعام إنما وقع في الدنيا فقط.
168
يقول الإمام أبو حنيفة: إن الكافر منعم عليه في الدنيا، حيث خوله اللَّه تبارك وتعالى قوى ظاهرة وباطنة، وجعل له أموالًا ممتدة، فالنعمة دنيوية والنقمة أخروية.
رأي الأشاعرة:
ويرى الأشاعرة أن الكافر لم ينعم عليه لا في الدِّين ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
يقول الأشعري: إن اللَّه تعالى لم ينعم على الكافر دنيا ولا أخرى، وإن كان قد أنعم عليه نعمة الدنيا بأن خلقه ورزقه، فإن الحياة في حد ذاتها نعمة بشرط أن يكون الإنسان موفقًا في طاعة اللَّه تعالى، فإذا وجدت تلك النعمة مع فقد التوفيق في المكلف فليست الحياة نعمة إطلاقًا.
ونرى أن الخلاف بين الفريقين في هذه المسألة ليس خلافًا كبيرًا ذلك أن الماتريدية القائلين بأن الكافر منعم عليه إنما يعنون النعم التي يعطاها الكافر في الدنيا حتى ولو لم تكن عقباه محمودة.
أما الأشاعرة الذين يقولون بأن الكافر غير منعم عليه فقد حصروا النعمة في مجال خاص، إذ قصدوا بالنعمة ما ينعم به على الإنسان ويكون محمود العاقبة، والمتأمل للمسألة يجد أن الفريق الأول -وهم الماتريدية- قد نظر إلى النعم نظرة خاصة لمفهوم النعم ذاته، وبينما نظر الفريق الثاني -وهم الأشاعرة- إلى هذا المفهوم -وهو مفهوم النعم- نظرة أخرى.
ثانيًا: المسائل المختلف فيها معنويًّا:
المسألة الأولى التكليف بما لا يطاق
التكليف: في اللغة والاصطلاح:
التكليف في اللغة:
التكليف من الكلفة، وهي التعب والمشقة، يقال: تكلف الأمر إذا فعله على كلفة ومشقة.
169
التكليف في الاصطلاح:
التكليف هو: إلزام الكلفة على المخاطب.
وقبل أن نبين رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة فإن ثمة أقسامًا وأركانًا للتكليف يجب أن نعرضها وهي:
أقسام التكليف:
ينقسم التكليف باعتبار اللفظ الوارد به، أو باعتبار الحكم:
فباعتبار اللفظ الوارد به يكون ثلاثة أقسام:
الأول: التكليف بالأمر، مثل قول اللَّه تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
الثاني: التكليف بالنهي، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾.
الثالث: التكليف بالخبر، وهو إما خبر في معنى الأمر؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أو خبر في معنى النهي؛ مثل قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾.
أما باعتبار الحكم فيكون خمسة أقسام:
الأول: تكليف موجب؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
الثاني: تكليف محرم؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾.
الثالث: تكليف يدل على أن ما ورد به سنة؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾.
الرابع: تكليف يدل على أن ما ورد به مكروه؛ مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن أبغض الحلال عند اللَّه الطلاق ".
170
الخامس: تكليف يدل على إباحة ما ورد به من غير وجوب ولا حظر ولا كراهة ولا استحباب؛ مثل قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾.
أركان التكليف:
وللتكليف ثلاثة أركان:
الأول: المكلِّف.
الثاني: المكلَّف.
الثالث: المكلَّف به.
مراتب التكليف:
وهما مرتبتان:
الأولى: التكليف بما يطاق.
الثانية: التكليف بما لا يطاق.
أما رأي الماتريدية والأشاعرة في المسألة فهو كما يلي:
الماتريدية:
يذهبون إلى عدم جواز أن يكلف اللَّه تعالى عباده بما لا يطيق العباد، فالماتريدية يرون أن التكليف يكون فيما يُقدر على إتيانه، أما غير المقدور على إتيانه فلا تكليف فيه.
يقول الماتريدي: " تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل ".
الأشعرية:
ويذهب الأشاعرة إلى أن قدرة اللَّه تبارك وتعالى قدرة مطلقة، ويجوز لله أن يكلف عباده بما لا يطيقون.
يقول أبو بكر الباقلاني: " يجوز لله أن يكلف عباده ما لا يطيقون، إلا أن التكليف بما لا يطاق على نوعين:
أحدهما: العجز أصلًا عن الفعل، وذلك ينتفي التكليف به لوجود مانع، وهو العجز.
الثاني: إذا كان المراد عدم القدرة على الفعل لتركه والاشتغال بضده، فذلك جائز
171
التكليف به لارتفاع العجز المانع أصلًا ".
وبعد عرض رأي كل من الماتريدية والأشعرية يظهر لنا أن الماتريدية والأشعرية متفقون في حكم أقسام التكليف ما عدا التكليف بالمحال لغيره، وهو أدنى مراتب التكليف بما لا يطاق، فقد ذهب الماتريدية إلى منعه إلا في المقدور على إتيانه، أما ما لا يمكن إتيانه فلا تكليف فيه، لكن الأشعرية قد ذهبوا إلى جوازه؛ لأن قدرة اللَّه تعالى قدرة مطلقة.
المسألة الثانية: الثواب والعقاب
من الواضح أن كلًّا من السادة الماتريدية والأشاعرة يتفقان في القول بعدم جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي.
أما محل الخلاف بينهما فهو في المدرك، حيث ذهب الماتريدية إلى أن المدرك لذلك هو العقل والشرع.
وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن المدرك لذلك هو الشرع.
وقد ترتب على ذلك أن الماتريدية منعوا جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي، بينما أجاز ذلك الأشعرية، وفي ذلك خلاف سنفصل القول فيه على ما يلي:
الماتريدية:
لقد ذهب الماتريدية إلى القول بمنع تعذيب المطيع عقلاً أو شرعًا.
يقول الإمام أبو حنيفة: " لا يجوز مطلقًا لا عقلًا ولا شرعًا أن يعذب اللَّه تبارك وتعالى العبد الطائع؛ إذ لا يجوز في بداهة العقل أن يعذب اللَّه تبارك وتعالى المطيع ".
وجاء في المسايرة لابن الهمام: " القول في تجويز تعذيب المحسن عقلًا عدمه، فوقوع ذلك منه تعالى مقطوع بعدمه وفاقًا بالشرع ".
الأشعرية:
أما الأشعرية فيذهبون إلى جواز تعذيب اللَّه تعالى للعبد الطائع وإدخاله النار عقلاً، وإدخال الكافر الجنة، كما أن لله تعالى إيلام البهائم والأطفال والمجانين؛ لأنه عدل في حكمه متصرف في ملكه.
172
يقول أبو عذبة: إنه لو وقع منه -سبحانه وتعالى- تعذيب العبد الطائع لم يكن ذلك منه ظلمًا ولا عدوانًا؛ لأنه متصرف في ملكه بالتعذيب وتركه، فله ما يختار منهما، لكنه سبحانه وتعالى جاد في حق العباد بالإحسان إليهم بترك العقاب.
وبذلك يظهر أن تعذيب الطائع لا يقع من اللَّه سبحانه وتعالى شرعًا عند كل من الماتريدية والأشاعرة، لكن الأشاعرة يجيزون وقوع ذلك عقلًا؛ لأن اللَّه تعالى متصرف في ملكه.
المسألة الثالثة: التكوين
لقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في مسألة التكوين، فقد أثبتها الماتريدية، ونفاها الأشاعرة، كما سيظهر فيما يلي:
الماتريدية:
يقول السادة الماتريدية بأن التكوين صفة حقيقية زائدة غير القدرة والإرادة؛ إذ هو صفة أزلية، وغير المكون الحادث، وقدم التكوين لا يستلزم قدم المكوَّن، وأما كون التكوين غير المكوَّن؛ لأنه لو كان التكوين عين المكوَّن لم يكن من اللَّه تعالى شيء يوجب كونه خالقًا للعالم سوى أن ذات الباري أقدم من العالم، وكون ذاته أقدم من غيره لا يوجب كونه خالقًا. والقول بأن التكوين عين المكوَّن يؤدي إلى قدم العالم، وكونه بنفسه لا بغيره، وما لا يحتاج في حصوله إلى غيره كان قديمًا، فدل ذلك على أن التكوين غير المكوَّن.
يقول الماتريدي: " إن صفته التي هي الفعل هي صفة ذاته، فيقال: اللَّه خالق ورحمن ورحيم وقد سمى به ذاته ".
الأشاعرة:
أما الأشاعرة فيقولون بأن التكوين ليس صفة حقيقية له، لكنه أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر، وإضافته إليه، فهو من صفات الأفعال، وهي عند الأشعرية حادثة، لا من الصفات الذاتية، والتكوين عين المكوَّن، والتخليق هو القدرة
173
باعتبار تعلقها بالمخلوق، كما أن الترزيق هو القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق.
والمتأمل للمسألة يرى أن الخلاف بين الفريقين راجع إلى المعنى لا إلى اللفظ، فعند الماتريدية مبدأ الإيجاد عندهم هو صفة التكوين، وعند الأشاعرة التكوين لا يعد صفة حقيقية لله تعالى زائدة على القدرة والإرادة، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر.
المسألة الرابعة: كلام اللَّه تعالى
إن هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام بصفة عامة، ولقد اشتدت أهميتها بعد الجدل الذي دار حول مسألة قدم القرآن وحدوثه، والمحن التي تعرض لها علماء كثيرون بسبب ذلك، وقبل عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة نبين أن ثمة قياسين يعارض كل منهما الآخر:
فالأول: هو أن كلام اللَّه -تعالى- صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، وبذلك يكون كلامه تعالى قديما.
وأما الثاني: فهو أن كلام اللَّه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما من شأنه ذلك فهو حادث، ويكون بذلك كلام اللَّه تعالى حادثا.
ولقد اختلف المسلمون وافترقوا بين من قال بصحة القياس الأول، وبين من قال بصحة القياس الثاني، حيث نجد أن أهل السنة والحنابلة يقولون بصحة القياس الأول، بينما يقول المعتزلة ومعهم الكرامية بصحة القياس الثاني.
أما فيما يخص السادة الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة فعلى النحو التالي:
الماتريدية
لقد ذهب الماتريدية إلى أن الكلام صفة لله تعالى؛ لأنه -سبحانه وتعالى- متكلم بكلام واحد، وهو صفته الأزلية القائمة بذاته، وهي صفة منافية للسكوت والآفة، واللَّه سبحانه وتعالى بهذه الصفة آمر، ناه، مخبر.
ويرى السادة الماتريدية كذلك أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد، وإنما تكون على الموافقة والمجاز، كما يقول المرء: سمعت كلام فلان وقول فلان، ويكون ذلك على
174
المجاز وليس على الحقيقة، وذلك لأنه لم يسمع قول فلان حقيقة؛ ولم يسمع كلامه وإنما سمع صوتًا يفهمه به.
وبناء على ذلك فإن الماتريدية يقولون بأن موسى -عليه السلام- لم يسمع كلام اللَّه، وإنما سمع صوتًا دالاًّ عليه، ولقد خلق اللَّه تعالى هذا الصوت، وليس ذلك لأحد من خلقه.
فالماتريدي يرى أن كلام اللَّه القديم لا يسمع، وأن ما نسمعه من الحروف والأصوات ليست هي كلام اللَّه بذاتها! وذلك لأنها عرض، والعرض لا يبقى زمانين.
الأشاعرة:
يقول الأشاعرة بأن الكلام إنما يراد به الصفة القديمة.
يقول البيجوري في شرح الجوهرة عن الكلام: " إنه صفة أزلية قائمة بذاته، ليست بصوت ولا حرف منزهة عن التقديم والتأخير، ومنافية للسكوت والآفة ".
ويقول أبو الحسن الأشعري: " إن كلامه واحد، هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام ".
ويجب أن يعرف أن الإمام أبا الحسن الأشعري لا ينكر الكلام اللفظي، وإنما يثبت الكلام النفسي واللفظي، ويتضح ذلك من قوله: " وأجمعوا على إثبات حياة لله عَزَّ وَجَلَّ لم يزل بها حيًّا، وعلمًا لم يزل به عالمًا، وقدرة لم يزل بها قادرًا، وكلامًا لم يزل به متكلمًا، وإرادة لم يزل بها مريدًا، وسمعًا وبصرًا لم يزل بهما سميعًا بصيرًا ".
ويتضح من عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة أن الماتريدية يتفقون مع الأشاعرة في إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن الماتريدية يرون أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد، وإنما تسمع على سبيل الموافقة والمجاز.
ويظهر الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة فيما سمعه موسى - عليه السلام - أن الماتريدية يذهبون إلى أن موسى - عليه السلام - لم يسمع كلام اللَّه القديم وإنما سمع أصواتًا دلت عليه، وخص موسى بذلك؛ لأنه بغير واسطة الكتاب والملك.
175
أما الأشاعرة فيذهبون إلى أن موسى - عليه السلام - سمع كلام اللَّه القديم بلا حرف ولا صوت.
المسألة الخامسة: معرفة اللَّه تعالى
لقد اتفق علماء الكلام على أن النظر هو طريق المعرفة، لكن الاختلاف بينهم في طريق ثبوت هذه المعرفة، وهل هو واجب بالشرع أم بالعقل.
فالماتريدية:
يذهبون إلى أن معرفة اللَّه -تعالى- واجبة بالشرع، لكنهم يرون أن العقل آلة لوجوب المعرفة، واللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- هو الموجب.
ويرى الماتريدية -أيضًا- أن العقل ليس مُوجِبًا بذاته ولكنه سبب لوجوب.
يقول الماتريدي: " يجب على الصبي العاقل معرفة اللَّه تعالى، فالحق -سبحانه وتعالى- قد فطر الناس على فطرة يعرفون وحدانيته وربوبيته بعقول مركبة فيهم ".
وبذلك يذهب الماتريدي إلى أن العقل هو أساس المعرفة ويعاونه السمع في ذلك، وقد يسر اللَّه سبحانه السبيل إلى الوصول إلى الدِّين، ومعرفة اللَّه تعالى إنما هي عن طريق العقل والسمع، والعقل هو المختص بمعرفة اللَّه تعالى، والسمع مختص بمعرفة الشرائع والعبادات.
ويقول أبو منصور الماتريدي في موضع آخر:
" إن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل، أما معرفة اللَّه -تعالى- فإن سبيل لزومها العقل، فلا يكون لهم في ذلك على اللَّه حجة؛ لأن الله خلق في كل واحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على وجود اللَّه ووحدانيته وربوبيته، واللَّه قد بعث الرسل ليقطع عليهم الاحتجاج ".
ولا عذر عند الماتريدية في معرفة اللَّه تعالى عند من له عقل؛ لأن من يملك العقل يستطيع معرفة اللَّه عن طريق التفكر في خلق الكون وما فيه.
أما الأشاعرة:
فيرون أن معرفة اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- واجبة على الإنسان المكلف، والشرع هو طريق وجوب هذه المعرفة، وهو كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه الكريم.
176
ويذهبون إلى أن الواجبات ثابتة بالسمع، فالحسن عندهم هو ما حسنه الشرع، والقبيح عندهم هو ما قبحه الشرع، والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب.
يقول الإمام الغزالي: " إنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة اللَّه تعالى وشكر نعمته خلافًا للمعتزلة ".
المسألة السادسة: عصمة الأنبياء
العصمة في اللغة والاصطلاح:
العصمة في اللغة:
العصمة: المنع، يقال: عصمه الطعام من الجوع، أي: منعه.
وهي -كذلك-: الحفظ، يقول اللَّه تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: يحفظك.
العصمة في الاصطلاح:
هي: عدم خلق اللَّه تعالى ذنبًا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا تكون أمرًا إعداميًّا.
وهذا بصفة عامة، وقد اختلف تعريف الماتريدية للعصمة عن تعريف الأشاعرة لها وذلك على ما يلي:
الماتريدية
يعرف السادة الماتريدية العصمة بأنها عدم القدرة على المعصية، أو خلق مانع فيها.
الأشعرية:
ويعرفها الأشعرية بأنها: " ألا يخلق اللَّه فيهم ذنبًا "، وذلك بناء على أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار.
أما عن رأي كل من السادة الماتريدية والأشعرية في مسألة العصمة، فذلك على ما يلي:
الماتريدية:
يقول السادة الماتريدية بعصمة الأنبياء من الكبائر والقبائح وخصوصًا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبيلغ الأحكام وإرشاد الأمة.
177
ويذهب الماتريدية إلى أن الأنبياء معصومون من الصغائر، وأوجبوا تأويل كل ما أوهم في حقهم عليهم السلام من الكتاب والسنة مما اغتر به بعض من أجاز عليهم الصغائر، فالأنبياء منزهون عن الصغائر والكبائر ومن جميع المعاصي.
يقول شارح الفقه الأكبر:
" إن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكذب، خصوصًا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة إما عمدًا وإما سهوًا: عمدًا فبالإجماع، وسهوًا عند الأكثرين، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي، وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور، وأما سهوًا فجوزه الأكثرون ".
الأشاعرة:
يتفق الأشاعرة مع الماتريدية -وغيرهم من سائر الفرق- على أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقًا، قبل البعثة وبعدها.
وفيما يخص الصغائر، فهي عندهم نوعان:
أحدهما: صغائر قبل النبوة.
ثانيهما: صغائر بعد النبوة.
ويذهب الأشاعرة إلى أن الأنبياء تصدر عنهم هذه الصغائر قبل النبوة إذا لم تكن خسيسة وليس هناك دليل على منع ذلك، سواء أكان ذلك عمدًا أم سهوًا، أما بعد النبوة فإن الأنبياء معصومون عن تعمد كل ما يخل بصدقهم حتى إذا كان من الصغائر.
يقول الآمدي في الأحكام: " وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن اللَّه تعالى ".
وبهذا يتضح أن محل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة أن الماتريدية يرون وجوب العصمة أيضًا من الصغائر، لكن بعض الأشاعرة يجيز وقوع الصغائر من الأنبياء قبل البعثة وبعدها كذلك سهوًا.
178
الباب الرابع
حول تفسير القرآن الكريم
ويشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: نشأة التفسير وتطوره.
الفصل الثاني: مدارس التفسير.
الفصل الثالث: المناهج التفسيرية بين القديم والحديث.
179
الفصل الأول
نشأة التفسير وتطوره
تمهيد:
يجدر بنا قبل الخوض في بيان نشأة التفسير وتطوره بيان معناه، والفرق بينه وبين اصطلاحات قريبة المعنى منه؛ ذلك أن فكرة التفسير والتأويل وما في معناهما كلفظ " المعنى " شغلت كثيرًا من العلماء القدامى والمحدثين على السواء، فمثلاً يقول ابن فارس: " معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة: المعنى والتفسير والتأويل، وهي وإن اختلفت فالمقاصد متقاربة ".
ونقل صاحب اللسان عن ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى أن " المعنى والتفسير والتأويل واحد ".
وسنتناول هذه الاصطلاحات الثلاثة في عجالة في الصفحات الآتية:
أولا: التفسير:
التفسير لغة:
مصدر فَسَّرَ -بتشديد السين- مأخوذ من الفسر، والمحور الذي تدور عليه هذه المادة هو الكشف مطلقا، سواء أكان هذا الكشف لغموض لفظ أم لغير ذلك؟ يقال: فَسَّرتُ اللفظ فَسْرًا من باب ضرب ونصر.
ويستعمل التفسير لغة في الكشف الحسي، وفي الكشف عن المعاني المعقولة، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.
ومن المعنى اللغوي يمكن القول: إن التفسير بوصفه علمًا يقصد منه كشف المغلق من المراد باللفظ، فالمفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه.
181
وقد استعمل القرآن الكريم المادة بهذا المعنى من الكشف والإبانة في قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣)، قال ابن عَبَّاسٍ: يعني بيانًا وتفصيلاً.
التفسير اصطلاحا:
قدم كثير من العلماء تعريفات عدة للتفسير، وعلى ما بينها من أوجه اختلاف فإنها تنص على أن التفسير: علم يبحث عن مراد اللَّه، سواء جاء ذلك تلميحًا أو تصريحًا.
وهذا التعريف شامل لكل ما يتوقف عليه المعنى وفهمه وبيان المراد منه.
ثانيًا: التأويل
التأويل لغة:
يدور حول معنيين لا ثالث لهما:
الأول: بمعنى الرجوع والعود والعاقبة.
والثاني: بمعنى تفسير الكلام وتبيين معناه.
وقد أشارت كتب اللغة إلى المعنيين، ففي اللسان أن التأويل من " الأول: الرجوع، آل الشيء يئول أولا ومآلا: رجع... وفي الحديث " من صام الدهر فلا صام ولا آل "، أي: لا رجع إلى خير، وأول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله: فسره ".
182
وقد كثر استعمال لفظ " التأويل " في القرآن الكريم بمعنييه، فمن الأول قول اللَّه تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) يعني ما يئول إليه في وقت بعثهم ونشورهم.
ومن الثاني قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾، فالتأويل هنا يعني التفسير والتعيين والتوضيح.
التأويل اصطلاحًا:
التأويل عند السلف في تعريفه غيره عند الخلف؛ فالتأويل عند السلف يأتي على معنيين:
الأول: تفسير الكلام وبيان معناه، وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين.
والثاني: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشيء المخبر به.
وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام: كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل فيه القلب واللسان، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلية، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها؛ ولهذا يمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن الكريم من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني.
أما الخلف من المتفقهة والمتكلمين والمتصوفين وغيرهم فقد رأوا أن التأويل يعني: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
والمتأول عندهم يحتاج إلى أمرين:
الأول: أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد.
الثاني: أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح، وإلا كان تأويلاً فاسدًا وتلاعبًا بالنصوص.
ومن ثم قال الزركشي: " التأويل: التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحمل على
183
الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط؛ تجويزًا له وازديادًا ".
وأوضح من هذا ما قاله صاحب جمع الجوامع وشرحه: " التأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلاً في الواقع ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ".
ثالثا: المعنى:
المعنى لغة واصطلاحًا:
يراد بالمعنى لغة: القصد والمراد، جاء في اللسان: " عنيت بالقول كذا: أردت، ومعنى كل كلام ومعناته ومعنيته: مقصده، ويقال: عرفت ذلك في معنى كلامه ومعناة كلامه وفي معنى كلامه ".
وله علاقة بالإظهار والوضوح، كما تقول: عنت القربة: إذا لم تحفظ ماءها بل أظهرته، ومنه عنوان الكتاب، أي: الجزء الظاهر منه والمنبئ عما بداخله.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك لفظًا رابعًا له اتصال ما بألفاظ التفسير والتأويل والمعنى، وهو لفظ البيان، ويعني: إظهار المتكلم المراد للسامع، وهو أعم من الألفاظ الثلاثة جميعًا؛ لشموله كلاًّ من بيان التغيير وبيان التقرير، وبيان الضرورة، وبيان التبديل.
الفرق بين التفسير والتأويل:
يمكن القول: إن حاصل ما تضمنته عبارات العلماء العديدة في هذا المقام لا يخرج عن اتجاهين:
الاتجاه الأول: أن التفسير والتأويل ترجمة عن معنى واحد، بحيث إذا قلنا أحدهما على شيء قلنا الآخر عليه بلا أدنى فرق، وإلى هذا ذهب أبو عبيد والطبري وطائفة.
والاتجاه الثاني: أن التفسير والتأويل يختلف مدلول أحدهما عن الآخر اصطلاحًا كما اختلفا لغة، وقد حمل لواء هذا الاتجاه النيسابوري والزركشي والراغب الأصفهاني وغيرهم... وقد تشددوا في التفريق بين اللفظين أيما تشدد، حتى قال النيسابوري
184
مُعَرِّضًا: " قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه ".
وقد فرق العلماء بين اللفظين بفروق شتى، نورد أبرزها -خشية الإطالة- فمثلاً الراغب الأصفهاني يقول: " التفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني ".
وأبو طالب الثعلبي يفرق فيقول: " التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازًا، كتفسير " الصراط " بالطريق، و " الصيب " بالمطر. والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد ".
والماتريدي صاحبنا يقول: " التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على اللَّه أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، والشهادة على اللَّه ".
والأقوال كثيرة في التفريق بين التفسير والتأويل، بعضها يصل بمفهوم المصطلحين إلى حد التباين، ولعل أولاها بالقبول ما ذكره جملة من العلماء من أن التفسير يرجع إلى الرواية، والتأويل يرجع إلى الدراية والاستنباط؛ لأن التفسير كشف وبيان عن مراد اللَّه، والكشف عن مراد اللَّه لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم. أما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل، وهذا الترجيح يعتمد على الاجتهاد.
ومن ثم قال الزركشي -فيما أشرنا إليه من قبل-: " وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحمل على الاعتماد
185
في المنقول، وعلى النظر في المستنيط ".
وخلاصة القول: أنه برغم الاختلاف بين المصطلحين، فإنهما يشتركان في معنى واحد، وهو محاولة الكشف عن حقيقة شيء، وأنه حين يستخدم كل منهما في شرح ألفاظ القرآن وبيان معانيه فإنه يجمعهما هذا المعنى العام.
نشأة التفسير وتطوره
من البدهيات أن كل شيء في الوجود لا يكتمل إلا إذا مر بمراحل معينة وأطوار متتالية، وتلك سنة من سنن اللَّه في الأشياء جميعًا، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
ويصدق على العلوم ما يصدق على الأشياء، فلم يعرف أن هناك علمًا من العلوم وجد كاملاً هكذا فجأة، وإنما كل علم مر بمراحل وتطورات حتى صار علمًا له أصوله وأركانه التي يقوم عليها.
ومن العلوم علم التفسير، هذا العلم الذي شهد تطورات منذ نزول الآيات الأولى من كتاب اللَّه الكريم وحتى يوم الناس هذا، فبدأ بمرحلة المهد ثم الطفولة، وتطورت به المراحل حتى استوى على سوقه، وصارت له أصوله وأركانه.
وجدير بمن يتناول علم التفسير أن يقف عند هذه المراحل والتطورات؛ لأنها تطورات متلاحقة ومتعانقة في آن واحد، فلا يمكن فصل مرحلة عن مرحلة، أو اعتماد مرحلة دون أخرى، وإلا فقد هذا العلم ركنًا من أركانه، وأصلاً من أصوله، ولوقع المفسر في أخطاء جسيمة، وأدخل في تفسيره للآيات غير مراد اللَّه ومقصوده، ومن ثم فعلى المفسر أن يراعي كل المراحل، ولا يعتمد مرحلة دون مرحلة، ويراعي في المقام الأول مرحلة التفسير في عهد النبوة؛ لأنها الأساس الذي يُبْنَى عليه ما بعده، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو أعلم الناس بالقرآن.
هذا: وقد أشرنا إلى نشأة علم التفسير في عجالة سريعة عند حديثنا عن الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي في الفصل السادس من الباب الأول من هذه المقدمة، إلا أنه لأهمية الوقوف على نشأة التفسير وتطوره، خصصنا الصفحات الآتية لدراسة أبرز مراحل هذه النشأة وذلك التطور:
186
المرحلة الأولى: التفسير في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وعلى أساليب بلاغة العرب وبيانهم، فكانوا يفهمونه، ويدركون أغراضه ومراميه، وإن تفاوتوا في الفهم، والإدراك؛ تبعًا لاختلاف درجاتهم العلمية، ومواهبهم العقلية، فقد قال ابن قتيبة: " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ".
ومعنى هذا أن هناك آيات تشكل معانيها على الصحابة، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يسألون الرسول ليوضح لهم موضع الإشكال، فمن هنا بذرت البذور الأولى لعلم التفسير.
والحق أن التفسير في هذه المرحلة يتميز بسمات لم تتوافر لأي مرحلة تالية، ومن أبرز هذه السمات:
أن لجميع الأقوال التفسيرية التي شهدتها هذه المرحلة قوة النص المفسَّر، أو هي الوجه الآخر له، إذا صح هذا التعبير.
إن تفسير القرآن في هذا المرحلة كان من عند اللَّه تبارك وتعالى، فهو سبحانه أول مبين ومفسر لكتابه؛ لأنه الأعلم به وبمراد نفسه من غيره، ولأن أصدق الحديث كتاب الله تعالى؛ ولذلك يقول اللَّه تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾، ويقول جل وعلا: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩).
وتفسير القرآن في هذه المرحلة -أيضًا- كان موكولاً إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان طبيعيًّا أن يفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن جملة وتفصيلاً، فهم ظاهره وباطنه، ومجمله ومفصله، ومقيده ومطلقه، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وغريبه ومشكله، وسائر ما يتعلق بالأحكام والاعتقاد والتكاليف... إلخ.
وقد أعطى القرآن الكريم للرسول الحق في عملية التفسير، فقد قال اللَّه جل وعلا:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾
، وقال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١).
187
وقد بدأ التفسير في هذه المرحلة حينما كان الصحابة يسألون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن فهم القرآن الكريم كاملاً ليس ميسورًا لهم، " بل لابد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يشكل عليهم فهمه؛ وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها ".
والأمثلة كثيرة وثابتة تدل على أن الصحابة كانوا يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما يشكل عليهم من معان قرآنية، فمن ذلك ما أخرجه الترمذي عن عليٍّ بن أبي طالب قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن " يوم الحج " فقال: " يوم النحر ".
وقد فسر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الحساب اليسير بالعرض حيث قال: " من نوقش الحساب عذب " فقالت له السيدة عائشة - رضي اللَّه عنها -: أو ليس قد قال اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩)، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذلك العرض " بيانا للحساب
188
اليسير.
وكذلك فسر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القوة بالرمي في قوله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾.
وأحيانًا كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر بنفسه المعنى دون أن يوجه إليه سؤال من أحد الصحابة، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن أبي بن كعب أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾، يقول: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".
وهناك لون من التفسير وجد في العهد النبوي، وهو ما يمكن تسميته: التفسير بالوقائع، وفيه تفسير الآية قبل نزولها؛ حيث تقع واقعة، ويسأل الصحابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وينزل الوحي بحكم هذه الواقعة المسئول عنها، فيفهم الصحابة عن الله مراده في الآيات.
189
والآيات التي نزلت مرتبطة بوقائع كثيرة في القرآن الكريم، وقلما تجد سورة تخلو من آيات مرتبطة بوقائع، فمن ذلك ما جاء في سورة البقرة: ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، أخرج الواحدي والثعلبي من طريق مُحَمَّد بن مروان والسدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عَبَّاسٍ، قال: نزلت هذه الآية في عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال عبد اللَّه بن أُبي: انظروا كيف أرد عنكم هَؤُلَاءِ السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبًا بالصديق سيد بني تميم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق القوي في دين اللَّه، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه، ثم أخذ بيد عليٍّ، فقال: مرحبًا بابن عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول اللَّه، ثم افترقوا فقال عبد اللَّه لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرًا، فرجع المسلمون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية.
وفي قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، أخرج الأئمة الستة عن عبد اللَّه بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك ".
فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه، أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: " اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك "، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمرٍ لهما فيه سعة، قال الزبير. فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك.
190
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عَبَّاسٍ قال: جاء العاصي بن وائل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعظم حائل ففته، فقال: يا مُحَمَّد أيبعث هذا بعدما أرم؟ قال: " نعم، يبعث اللَّه هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم "، فنزلت الآيات ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾، إلى آخر السورة.
والأمثلة في هذا الشان كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في كتب أسباب النزول، وكتب السنة الصحيحة كذلك يراجعها من أراد.
إذن نستطيع القول: إن هناك طريقين، أو بالأحرى مصدرين للتفسير في المرحلة النبوية، هذان الطريقان هما:
الأول: القرآن الكريم؛ حيث يجد الناظر في كتاب اللَّه تعالى أن هناك آيات تفسر بها آيات أخرى، فالقرآن الكريم " قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص، وما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما أجمل في موضع قد يبين في موضع آخر، وما جاء مطلقًا في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عامًّا في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى؛ لهذا كان لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب اللَّه تعالى أن ينظر في القرآن أولاً: فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض "، وقد فعل ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد فسر القرآن الكريم بالقرآن الكريم حيث سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)﴾. فقال الصحابة لما نزلت: وأينا لا يلبس إيمانه بظلم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ألم تقرءوا قول الله
191
تعالى: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ".
ففسر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الظلم في الآية الأولى بالشرك في الآية الثانية.
ومن تفسير القرآن بالقرآن ما جاء بحمل المجمل على المفصل، مثال ما جاء في تفسير قول اللَّه تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)، فقد جاء تفسير قوله سبحانه: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) في آية كريمة أخرى هي قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣).
ومن تفسير القرآن بالقرآن -أيضا- ما جاء بحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص: فمن الأول: ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق على المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثل له بآية الوضوء والتيمم، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)... ومطلقة في التيمم في قوله تعالى في الآية نفسها: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)، فقيدت في التيمم بالمرافق أيضا.
ومن النوع الثاني: نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فخصص العموم في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، فقد استثنى ما أذن فيه من الشفاعة، وفي قوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فقد استثنى اللَّه المتقين من نفي الخلة.
192
ومن تفسير القرآن بالقرآن: حمل المبهم على المبين، كما في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فقد فسر قوله: (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) بقوله: (الْفَجْرِ).
ومنه - أيضًا - قول اللَّه تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)، فقد بُيِّنت كلمة الطارق بما تلاها من قول اللَّه تعالى: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ).
" ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف، كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، ومن طين في غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح ".
وتجدر الإشارة إلى أن تفسير القرآن بالقرآن كان النواة الأولى لعلم التفسير، وهو ما قاله المستشرق جولد تسيهر، ووافقه الذهبي حين قال: " نعم نستطيع أن نوافقه - يقصد جولد تسيهر " أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز في القرآن نفسه، على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على خاصه، ومطلقه على مقيده... كما تتركز في بعض قراءاته المتواترة ".
الطريق الثاني في تفسير القرآن الكريم في المرحلة النبوية: تفسيره بالسنة الشريفة، وذلك حين لا نجد في القرآن ما نفسره به، " فالسبيل المثالية التي لا ينبغي لعاقل أن يعدل عنها، أن يطلب التفسير ثاني ما يطلبه -أي بعد القرآن مباشرة- من السنة، وعلى هذا أطبق أهل السنة والجماعة؛ انطلاقًا منهم -رحمهم اللَّه- من مسلمات أربع:
أولاها: أن خير من يمكن أن يفسر القرآن، ومن ينبغي أن يطلب منه تفسيره بعد الله تعالى في محكم كتابه هو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي حدثنا ربه فيما حدث من وصفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤).
فهو إذن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمقتضى كونه رسولاً أولاً، ثم بمقتضى شهادة هذا النص وأشباهه ثانيًا - لا يمكن أن يقر على خطأ أبدًا، دع عنك أن يكون الخطأ في مثل هذا الأمر الجلل، أعني تفسير القرآن الكريم الذي هو أعظم معجزاته، وأكبر آيات فضله وسمو منزلته، فإن جاز عليه الخطأ بمقتضى بشريته في يسير الأمر، فليس يجوز عليه في أهم المهمات بالنسبة له
193
ولشريعته وأمته أصلاً، بل إن جاز عليه الخطأ ولو في يسير من الأمر بمقتضى تلك البشرية، فليس يجوز في عقل عاقل أن يقر عليه، بمقتضى ما له من الرسالة، بل لا محالة يهديه ربه إلى صواب القول والعمل.
الثانية: أن خير من يمكن أن يفسر الشيء من تكون أهم وظائفه تبيان ذلك الشيء، فعند ذلك نقول: قد صرح اللَّه في محكم ذكره بأن أولى غايتي إنزاله، وبالتالي أهم وظيفة لنبيه هي تبيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك الذكر للناس، على ما قال جل من قائل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
الثالثة: أن من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن السنة هي الأصل الثاني لهذا الدِّين، والمصدر التالي للقرآن مباشرة في جميع كليات هذا الدِّين وجزئياته، فالمجاوز للسنة إذن مع وجدان طلبته فيها راكب لعظيم، مخالف لمقتضى ضروريات هذا الدِّين.
الرابعة: أن طلب البيان من السنة ما تيسر فيها هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل ما نأتي ونذر؛ من أمثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩).
وقد رسخت هذه المسلمات وتقررت في أذهان أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكانوا يسألونه -كما سبقت الإشارة- عن جميع ما يشكل عليهم من القرآن الكريم وغيره، وقد ذكرنا فيما مضى بعض الأمثلة التي تبين ذلك، ونزيد الأمر وضوحًا بعرض مجموعة القضايا الآتية:
القضية الأولى: كيف بينت السنة القرآن؟
جاء بيان السنة للقرآن على وجوه متعددة، أبرزها ما يأتي:
الوجه الأول: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض مجملات القرآن، كما في بعض الفروض التي جاءت في القرآن مجملة: كالصلاة والزكاة والصوم والحج، فقد قام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتفصيل أمرها بأقواله أو أفعاله، أو كليهما، تفصيلاً ما كنا نستطيع بدونه أن نفهم المقصود منها، فقد بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعات كل صلاة وكيفيتها، وبين مقادير الزكاة،
194
وأوقاتها، وأنواعها، وبين مناسك الحج وأركانه وسننه؛ ولذلك كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وكان عليه الصلاة والسلام يقول -أيضًا-: " خذوا عني مناسككم ".
وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: " إنك رجل أحمق، أتجد الظهر في كتاب اللَّه أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا في كتاب اللَّه تعالى مفسرًا؛ إن كتاب اللَّه تعالى أبهم هذا، وإن السنة تفسر هذا ".
الوجه الثاني: تخصيص العام في القرآن، ومن أمثلته تخصيص آية الزانية والزاني بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفعله بغير المحصن.
وتخصيص الظلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، بالشرك.
الوجه الثالث: تقييده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مطلقات القرآن، ومن ذلك تقييده اليد في قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) باليمين.
195
الوجه الرابع: إيضاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض مبهمات القرآن: كتفسيره للعبد الصالح صاحب موسى عليه السلام بالخضر.
الوجه الخامس: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لفظًا أو متعلقه: كبيان المغضوب عليهم في قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
الوجه السادس: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحكامًا زائدة على ما جاء في القرآن الكريم، كتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها وصدقة الفطر، ورجم الزاني المحصن، وميراث
196
الجدة، والحكم بشاهد ويمين... وغير ذلك.
198
الوجه السابع: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - النسخ، كأن يبين لنا - عليه الصلاة والسلام - أن آية كذا نسخت كذا، أو أن حكم كذا نسخ بكذا... وهكذا، ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية
199
لوارث " يبين أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها.
الوجه الثامن: دفعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض إشكالات وردت على القرآن: كدفعه ما استشكل به نصارى نجران على أخوة مريم لهارون، يعنون أخا موسى - عليه السلام - مع أن بينها - عليها السلام - وبينه كذا وكذا، فقد دفع ذلك - عليه الصلاة والسلام - بأن ليس المقصود في الآية (يا أخُتَ هَارُونَ)، هارون النبي، بل هو آخر في عهدها سمي باسمه.
الوجه التاسع: بيان التأكيد منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أنه يؤكد الحكم الذي جاء به القرآن ويقويه، وذلك كقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " فإنه يوافق قوله سبحانه: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).
200
والغرض من هذا البيان التأكيدي هو ترسيخ مفهوم النص القرآني وحكمه في قلب السامع.
ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما، واللفظ للبخاري عن عائشة قالت: " تلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧). قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأُولَئِكَ الذين سمى اللَّه فاحذروهم ".
201
الوجه العاشر: ويعتبر من أروع الوجوه وأعظمها، وهو تطبيق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للقرآن، تطبيقًا عمليًّا في حياته، مما يعد تفسيرًا عمليًّا وتطبيقيَّا جليًّا غاية الجلاء، مما جعل حاجة الصحابة إلى التفسير القولي غير كبيرة، فقد عايشوا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معاني القرآن، وتسابقوا إلى الاقتداء به في العمل بآياته المنزلة.
روي عن السيدة عائشة أنها قالت حين سئلت عن خُلُق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كان خلقه القرآن ".
ولست أبغي من وراء عرض كيفية بيان السنة للقرآن وتفسيره والأوجه المعتبرة في ذلك إلا تقرير الدور العظيم الذي اضطلع به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير القرآن الكريم في تلك المرحلة المتقدمة مرحلة نزول هذا الكتاب الكريم، مما يعد أساسًا من الأسس التي بني عليها المفسرون فيما بعد عصر النبوة تفسيراتهم للقرآن والتي أسهمت بشكل كبير في استواء التفسير -بوصفه علمًا- على سوقه.
القضية الثانية: هل فسر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن كله؟ وما المقدار الذي بينه عليه الصلاة والسلام من القرآن لأصحابه؟
وهذه القضية خلافية بين العلماء عرضها الدكتور الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون "، وذكر أن هناك فريقين يتنازعان القضية:
الفريق الأول: ذهب إلى القول بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين لأصحابه كل معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، وعلى رأس هَؤُلَاءِ ابن تيمية.
202
الفريق الثاني: ذهب إلى القول بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هَؤُلَاءِ السيوطي.
ثم شرع الدكتور الذهبي في عرض أدلة كل فريق:
فأدلة الفريق الأول من الكتاب والسنة والمعقول:
فمن الكتاب: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بَيّنَ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألفاظه كلها، فلا بد أن يكون بَيَّنَ كل معانيه -أيضًا- وإلا كان مقصرًا في البيان الذي كلف به من اللَّه.
ومن السنة ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن.. كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا ".
فهذا الأثر يدل على أن الصحابة تعلموا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معاني القرآن كلها، كما تعلموا ألفاظه.
ومن المعقول قالوا: إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في علم من العلوم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب اللَّه الذي فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم
203
في الدنيا والآخرة؟
ومما يدل على هذا الدليل العقلي ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: " من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبض قبل أن يفسرها ".
وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يفسر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه.
وأما أدلة الفريق الثاني: فقد استدلوا -أيضًا- من السنة والمعقول:
فمن السنة: ما أخرجه البزار عن عائشة قالت: " ما كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر شيئًا من القرآن إلا آيات بعدد، علمه إياهن جبريل ".
ومن المعقول قالوا: إن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتنصيص على المراد في جميع آياته؛ لأجل أن يتفكر عباده في كتابه.
وقالوا -أيضًا-؛ لو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن، لما كان لتخصيصه ابن عَبَّاسٍ بالدعاء له بقوله: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل " فائدة؛ لأنه يلزم من بيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه كل معاني القرآن، استواؤهم في معرفة تأويله، فكيف يخصص ابن عَبَّاسٍ بهذا الدعاء؟.
204
ومن خلال عرض رأي الفريقين يتضح الآتي:
أولا: مغالاة الفريقين فيما ذهبا إليه، وأن المقبول هو أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قام بدور عظيم في تفسير كتاب اللَّه، لكنه لم يفسره كله بطبيعة الحال؛ إذ لو قلنا بتفسير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن كله لما كان هناك داع لدعوة القرآن إلى تدبر آيات اللَّه فيه (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، ولما كان للتحذير الشديد والوعيد القاصم للذين لا يتدبرونه في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، من قيمة.
ثم إنه إذا كان الأمر كذلك فلا قيمة للتفسيرات التي وضعها العلماء من لدن الصحابة وحتى يوم الناس هذا، وهي تفسيرات فيها من الجديد المعجب ما لا يمكن إنكاره، أو الزعم بأنه غير صحيح.
هذا بالإضافة إلى أننا لو قلنا بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسر القرآن لفظه ومعناه لكذبناه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما قال عن القرآن من أنه: " لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد "، ولكان اختلاف الصحابة حول القرآن بعد رسول اللَّه اجتراء منهم على اللَّه وحيفًا عن هديه صلى اللَّه عليه وسلم، وحاشا أن يفعل الصحابة ذالك أو يقع منهم.
كما أننا لو قلنا: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر من معاني القرآن إلا القليل، لهضمنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حقه في شخصه ودعوته ورسالته؛ إذ إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين أصول الدِّين وأحكامه وشرائعه وأركانه المبثوثة في القرآن الكريم بصورة إجمالية أو كلية، ففصل المجمل، وأبان عن جزئيات الكلي، فعرف الناس دينهم: أصوله وأركانه وشرائعه وجزئياته، فلو قلنا: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر إلا القليل، فمن الذي بين لنا الدِّين " الإسلام " الذي جاء به القرآن؟!
كذلك لو قلنا بهذا لكذبنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: " ألا وإني أوتيت القرآن ومثله
205
معه "، ولأنكرنا سنته التي جاءت -كما سبق بيانه- لتبين مبهم القرآن، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتؤكد ما جاء فيه.
يتبين لنا أن التوسط والاعتدال بين المذهبين هو الخليق بالقبول، ولذلك أقول: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه، تشهد بذلك كتب الصحاح المليئة بتفسيرات الرسول لكثير من الآيات ببيان معانيها وأحكامها، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الوقت نفسه - لم يبين كل معاني القرآن؛ لأن من القرآن ما استأثر اللَّه تعالى بعلمه، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧).
وبدهي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته، ولم يفسر لهم ما استأثر اللَّه بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، وإنما فسر لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعض المغيبات التي أخفاها اللَّه عنهم، وأطلعه عنيها وأمره ببيانها لهم، وفسر لهم -أيضًا- كثيرًا مما يندرج تحت التفسير الذي تعرفه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم.
ثانيًا: أدلة الفريقين محجوجة ومفندة:
فأدلة الفريق الأول محجوجة بما يأتي:
استدلالهم بالآية (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) مردود عليه من وجهين:
الأول: أن القول بعموم الآية الشامل لجميع ألفاظ القرآن ومعانيه ليس صحيحًا؛ لقرينتين تفيدان التخصيص:
الأولى: قرينة مقالية تتمثل في قوله عز شأنه: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
206
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ).
فالآية صريحة في أن بيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للكتاب مقصور على الذي اختلفوا فيه دون ما لم يختلفوا فيه.
والقرينة الثانية: قرينة حالية تتمثل في واقع القرآن الكريم وأمر من نزل بلسانهم العربي المبين، فإن واقع أمر القرآن وأمر من أنزل بلسانهم أن فيه كثيرًا من البينات، بل قل بدهية البيان نفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان فضلاً عن أهله الخلص، فلا يسيغ لذي منطق مع هذا أن يقوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ببيان أمثال هذه الجليات.
الوجه الثاني: أننا إذا سلمنا ببقاء ما في القرآن الكريم على العموم الصالح؛ لأن يندرج تحته جميع اللفظ والمعنى، فإننا لابد أن ننظر إلى سياق القول الكريم الذي نزل فيه وحديثه عنه، وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: (نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وصلة (مَا)، فيفيد قطعًا أن حديث هذا العموم هو عن المنزل فحسب، لا عما لم ينزل أيضًا.
وأقول: عرفنا أن جميع الألفاظ منزل، وأن بعض المعاني منزل عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعضها غير منزل بطبيعة الحال؛ لأن (مَا) لا تدل على العموم هنا.
وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعى؛ لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو من غيره من إخوانهم، أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح اللَّه به عليهم من النظر والاجتهاد.
وأما استدلالهم بأن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه فمردود بأن العادة إنما جرت باستشراح -أي: طلب شرح- ما يشكل فهمه فحسب، فأما الواضح الذي لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد في غير طائل، وهذا ما لا يمكن أن يفعله صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
أما الأثر الوارد فلا يدل أيضًا لأن وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبين لهم آية الربا لا تدل على
207
أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة، فكان لابد من الرجوع فيها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شأن غيرها من مشكلات القرآن.
وأما أدلة الفريق الثاني:
فاستدلالهم بحديث عائشة استدلال باطل؛ لأن الحديث منكر غريب؛ لأنه من رواية مُحَمَّد بن جعفر الزبيري، وهو مطعون فيه، قال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: " منكر الحديث "، وقال فيه ابن جرير الطبري: " إنه ممن لا يعرف من أهل الآثار ".
وعلى فرض صحة الحديث، فهو محمول -كما قال أبو حيان- على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله، ونحو ذلك مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من اللَّه.
وأما استدلالهم بأن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، فإنه لا يدل على ندرة ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في التفسير؛ إذ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، بمقتضى أمر اللَّه له (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
وأما استدلالهم بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ فمردود بأنه لو سلمنا أنه يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل معاني القرآن، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعى.
وإذا علمنا ضعف استدلالات الفريقين، فإنه من الأحرى الرجوع إلى الصواب الذي استراحت إليه النفس من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل القرآن ولكنه في الوقت نفسه ضرب بنصيب وافر فيه مما لا تستغني عنه الأمة في فهم دينها، فقد أجاب على تساؤلات الصحابة فيما أشكل عليهم فهمه من آيات الكتاب الكريم.
وخلاصة القول أن المرحلة النبوية كان لها أثرها البارز في نشأة علم التفسير -بالرغم من أنها مرحلة النشأة- وذلك لأن كلا هذين القسمين -تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة- لا شك في أنهما أعلى أنواع التفسير، ولاشك في قبولهما، أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره، وكتاب اللَّه تعالى أصدق الحديث؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
208
وأما الثاني فلأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت مهمته التوضيح والبيان (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم...)، الآية، فما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من شرح أو بيان بسند صحيح ثابت فإنه مما لا شك فيه أنه حق يجب اعتماده ".
المرحلة الثانية: التفسير في عهد الصحابة رضوان اللَّه عليهم:
جاء عهد الصحابة، وما من شك في أنهم كانوا يفهمون القرآن جملة، أي: بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لابد لهم من البحث والنظر؛ وذلك لأن القرآن -كما سبقت الإشارة- فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها.
ولذلك فإن قليلاً من الصحابة من استشرف لمعرفة تفصيلات القرآن ودقائقه من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأقل منهم من رزق الفهم الصحيح بعد البحث والنظر، وليس هذا التفاوت بقادحٍ في أذهان الصحابة وصحة فهمهم للقرآن الكريم عامة؛ إذ إنه راجع إلى اللغة نفسها، وهي من أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا يحيط بها غير النبي المعصوم، ولا بأس بغروب ألفاظها على بعض الصحابة ما دام ذلك لا يغرب على عامتهم.
وبطبيعة الحال لم يكن الصحابة في درجة وإحدة في فهم اللغة وإدراك أسرارها، وليس بمقدور قوم أن يفهموا كل ما يكتب بلغتهم من العلوم على حد سواء، ومن هنا لم يكن الصحابة في درجة واحدة لفهم معاني القرآن، بل تفاوتت مراتبهم، تبعًا لتفاوتهم في فهم اللغة وإدراك أسرارها، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، وأكثر من هذا أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة، ولا ضير في هذا، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها.
209
والمواقف الدالة على ذلك كثيرة، منها ما أخرج أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: " كنت لا أدري ما فاطر السماوات؟ حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها ".
وروى عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ قال: " ما كنت أدري ما قوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول: أفاتحك، تعني أقاضيك ".
وأظهر ما يدل على تفاوت فهم الصحابة للنصوص ما روي أن الصحابة فرحوا عند نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)؛ حيث ظنوا أنها إخبار وبشرى بكمال الدِّين، ولكن عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلا النقص؛ مستشعرًا نعي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وروى البخاري عن ابن عَبَّاسٍ قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقال: لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عَبَّاسٍ؟ فقلت: لا، فقال: وما تقول؟ قلت: هو أجل رسول اللَّه أعلمه اللَّه له، قال: (إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، فذلك علامة أجلك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول ".
210
كل هذه المواقف وغيرها تدل على تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن الكريم؛ ولذلك قال ابن قتيبة: " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ".
هذا، وقد بدأ الصحابة شارعين في تفسير القرآن الكريم -على تخوف وتحرج- بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معتمدين في تفسيرهم على القرآن الكريم نفسه، أو على تفسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض الآيات وتشريعاته الأخرى، أو الاجتهاد والاستنباط، أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى أحيانًا، فالصحابة - رضوان اللَّه عليهم - مقتدين برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اعتمدوا القرآن في تفسير القرآن الكريم حتى قال الدكتور الذهبي: " هذا هو تفسير القرآن بالقرآن، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن، وليس هذا عملاً آليًّا لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل؛ إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان، وإنما يعرفه أهل العلم والنظر خاصة ".
ثم إنهم لجئوا لتفسير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض آيات القرآن، فقد " تناقلوا فيما بينهم، تفسير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما فهموه من القرآن وأقرهم عليه، كما هو الشأن في تناقلهم للأحاديث والآثار التي رووها عنه، على ما وردت به وصايا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ".
غير أن الصحابة لم يتوقف جهدهم التفسيري عند حد النقل والرواية عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بل لجئوا مع ذلك إلى طريقين جديدين:
الأول: الاجتهاد والاستنباط:
كان الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - إذا لم يجدوا التفسير في كتاب اللَّه تعالى، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رجعوا إلى اجتهادهم، فأعملوا رأيهم، وكانت أدواتهم في الاجتهاد هي: معرفة أوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب، ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن وقوة الفهم، وسعة الإدراك، ومن ثم
211
يقول أحد الباحثين: " ولقد أعان بعض الصحابة على فهم القرآن عدة عوامل منها: معرفتهم بعادات العرب وتقاليدهم، ومعرفة طرائق اللغة العربية وأسرارها في التعبير، ثم معرفة أسباب النزول، وما أحاط بالآيات من ظروف وملابسات تعين على فهمها؛ ولهذا قالوا: معرفة سبب نزول الآية يعين على فهمها، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ثم ما يعطاه أحدهم من فهم وسعة إدراك يمكنه من الوصول إلى مراد الآيات ".
وقد روى البخاري ما يؤكد ذلك عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب اللَّه؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه اللَّه رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر ".
وفي هذا الأثر دليل على إعمال الصحابة رأيهم، واجتهادهم في تفسير القرآن الكريم، والكشف عن غوامضه، لكن ينبغي التأكيد على أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - كانوا متفاوتين في معرفتهم بالأدوات المشار إليها، وقد ترتب عليه تفاوتهم في فهم معاني القرآن.
الثاني: أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
بدأ الأخذ عن أهل الكتاب منذ عهد الصحابة مع شيء من التقييد والتحديد، ولعل
212
الذي دفع الصحابة إلى هذا الأخذ، هو ما جاء في القرآن الكريم من قصص مبثوثة في ثناياه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبعض هذه القصص جاء مجملاً، فكانت " نفوس الصحابة تتوق إلى معرفة تفاصيل بعض القصص في القرآن والذي لم يسأل النبي فيه، فكانوا لا يتحرجون في سؤال أهل الكتاب، من جيرانهم فيما يتعلق بهذه التفاصيل التي لا تتعلق بحكم أو تشريع، وإنَّمَا هي تشبع حالة الفضول الإنساني إلى المزيد من المعرفة "؛ مستندين في ذلك إلى حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي يقول فيه: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ".
ولقد حدد ابن كثير المراد من هذا الحديث، فقال: " هو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار، فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه؛ استغناء بما عندنا، وما شهد له شرعنا
213
بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال ".
وهذا الذي قاله ابن كثير اتبعه الصحابة، فدققوا في الأخذ عن أهل الكتاب، وكان أخذهم في أضيق الحدود، وما أشيع عنهم من توسعهم في الأخذ عن أهل الكتاب قد يكون مرجعه إلى أنه قد وضع عليهم الكثير، ودس عليهم من أقوال أهل الكتاب الكثير من الروايات التي لم يعتمدوها، فأوهم ذلك المتأخرين توسع الصحابة في الأخذ عنهم.
وتأكيدًا لهذا يقول الدكتور الذهبي: " رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدرًا ضيقًا محدودًا؛ وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعيًّا أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن ".
إن ورع الصحابة وصدق إيمانهم جعلهم يسلكون في الأخذ عن أهل الكتاب مسلكًا آمنًا، متمثلين وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا باللَّه وما أنزل إلينا "، هذا فيما يتعلق بالغيبيات أو الأخبار التاريخية المفصلة في الكتب السابقة. أما فيما يتعلق بالعقيدة أو الأحكام الشرعية، أو ما لا يكون لمعرفة تفاصيله والوقوف على حقيقته فائدة تذكر، فقد كانوا يعدون ذلك قبيحًا من قبيل تضييع الأوقات.
كما كانوا يردون على أهل الكتاب مقالاتهم المخالفة للشريعة، ونختار للاستشهاد على ذلك موقف الصحابي الجليل أبي هريرة في مراجعته ومحاورته لهذين الكتابيين -كعب الأحبار وعبد اللَّه بن سلام- حول ساعة يوم الجمعة التي عناها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: " فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل اللَّه تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه وأشار
214
بيده يقللها "، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية، فهل هي في جمعة واحدة من السنة أو في كل جمعة منها؟
فنجد أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا، ويبين له أنها في كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة فيرى الصواب مع أبي هريرة، فيرجع إليه.
ثم يتوجه أبو هريرة إلى عبد اللَّه بن سلام يسأله تحديد هذه الساعة، ويقول له: أخبرني ولا تضن علي، فيجيبه ابن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي "، وتلك الساعة لا يصلي فيها؟
ولذا كان تعليق كعب الأحبار على مثل هذه الأسئلة والمحاورات: " ما رأيت رجلاً لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة ".
ويدل هذا الموقف من أبي هريرة على تيقظ الصحابة لهذه الأفكار الدخيلة التي بدأت تتسرب إلى دينهم، ومقاومتهم لها في هذا الوقت المبكر.
المفسرون من الصحابة:
اشتهر عدد غير قليل من الصحابة المفسرين، عد السيوطي - رحمه اللَّه - منهم: الخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
وهناك من تكلم في التفسير غير هَؤُلَاءِ: كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعائشة، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جدَّا، فلم يكن لهم
215
شهرة ما كان للعشرة المذكورين أولًا، وحتى هَؤُلَاءِ العشرة تفاوتوا فيما بينهم قلة وكثرة، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير؛ نظرًا لاشتغالهم بمهام الخلافة وتقدم وفاتهم.
وعلى هذا يمكن القول: إن أبرز مفسري الصحابة هم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب؛ نظرًا لكثرة الرواية عنهم في التفسير كثرة غذت مدارس التفسير في الأمصار المختلفة فيما بعد على اختلافها وكثرتها.
* * *
216
أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير
١ - عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبو حفص المدني، أحد فقهاء الصحابة، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، شهد بدرًا، والمشاهد إلا تبوك، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر - رضي الله عنهما - وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلاً، وعن ابن عمر مرفوعًا: " إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه "، ولما دفن قال ابن مسعود: " ذهب اليوم تسعة أعشار العلم "، استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، ودفن في أول سنة أربع وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة.
ب - دوره في التفسير:
لقد تهيب عمر بن الخطاب -كما تهيب أبو بكر قبله- القول في كتاب اللَّه، والأمثلة على ذلك كثيرة، من ذلك ما يرويه الشعبي قال: " سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأي، فإن كان صوابًا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد ".
يقول الشعبي: " فلما استخلف عمر، قال: إني لأستحيي من اللَّه أن أرد شيئًا قاله أبو بكر، ثم يتردد عمر فيرجع آخر عهده عن هذا القول، ويذهب إلى أن الكلالة من لا ولد له، ويقول: وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي فيها من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه، ثم يقول: ثلاث لأن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها: الكلالة، وأبواب الربا، والخلافة ".
217
فهذا الموقف يكشف -أولاً- عن تهيب عمر بن الخطاب مقتديًا بأبي بكر من القول في كتاب اللَّه، ويكشف -ثانيا- عن أنه برغم التهيب فإن عمر أدلى بدلوه في التفسير، وذلك حين تكون هناك مصالح عملية وواقعية تتوقف على مدلول العبارة.
ولكي يصل إلى جواب قاطع للمسألة، كان أحيانًا يلجأ إلى طرح المسألة على الناس، مثلما فعل في مسألة تحديد ليلة القدر، فقد روى أبو نعيم عن مُحَمَّد بن كعب القرظي عن ابن عَبَّاسٍ أن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلس في رهط من الصحابة فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: مالك يا ابن عَبَّاسٍ لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عَبَّاسٍ: فقلت: يا أمير المؤمنين إن اللَّه وتر يحب الوتر، فجعل الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق فوقنا وتحتنا سبعًا، فأراها في السبع الأواخر من رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه.
والحق أن عمر بن الخطاب في تفسيره للقرآن كان يسلك مسلكًا واقعيًّا عمليًّا، بمعنى أنه إذا كانت هناك مصلحة عملية تتوقف على تحديد مدلول اللفظ، فإن التفسير في هذه الحالة يصبح بحثًا ملحًّا وأمرًا ضروريًّا، وأما إن لم تكن هناك مصلحة عملية فلا بأس عنده ألا يدري مدلول اللفظ؛ ولذلك نجده فيما يروي عنه حين كان يقرأ قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)، فقال: الفاكهة والقضب، وهذه الأشياء عرفناها، فما الأبُّ؟ فوضع يده على رأسه ثم قال: " إن هذا لهو التكلف يا ابن الخطاب، وما عليك ألا تدري ما الأبُّ؟ ".
ومن كل ما سبق يتكشف لنا أن دور عمر بن الخطاب في التفسير كان دورًا محدودًا، لكنه لبنة في تطور التفسير لا يمكن إهمالها وتركها دون الإفادة منها.
٢ - علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو الحسن ابن عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وختنه على ابنته، أمير المؤمنين، يكنى: أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًّا، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفق البخاري
218
ومسلم على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، شهد بدرًا والمشاهد كلها، روى عنه أولاده الحسن والحسين ومُحَمَّد، وفاطمة، وعمر، وابن عباس، والأحنف، وأمم.
قال أبو جعفر: كان شديد الأدمة ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعًا بين الأقوال، قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى "، وفضائله كثيرة، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض.
ب - دوره في التفسير:
الرواية عن علي بن أبي طالب كثيرة، وذلك راجع إلى أمور، أبرزها:
الأول: تأخرت وفاته عن الخلفاء السابقين، فقد كانت وفاته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عام ٤٠ من هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
الثاني: وجد في زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى التفسير؛ وذلك لاتساع رقعة الإسلام، ودخول الأعاجم فيه حتى كادت تذوب بهم خصائص العروبة، ونشأ جيل من أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة.
الثالث: فهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العميق للقرآن، وخصوبة فكره، وغزارة علمه، فكان أهلاً لأن يحمل عنه، ويدل على هذا ما روى معمر عن وهب بن عبد اللَّه عن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا يخطب وهو يقول: " سلوني، فواللَّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم. وسلوني عن كتاب اللَّه، فواللَّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أفي سهل أم في جبل؟ ".
219
وما روي عن ابن مسعود قال: " إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن ".
والآثار الكثيرة المروية عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدل دلالة واضحة على فضله ومنرلته في التفسير، ومدى الدور الذي اضطلع به في هذا الشأن.
كما أنه يعتبر أول من وضع بفكره الثاقب، ونظره الصادق في القرآن الكريم - اللبنة الأولى في منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي ما زال -حتى عصرنا هذا- يتحسس طريقه، ويخطو خطواته الأولى عليه، فقد كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجمع الآيات في الموضوع الواحد ليستخلص منها جميعًا حكمًا صادقًا يفسر فيه القرآن بعضه بعضًا.
يدل على هذا ما رواه ابن حزم من أن عليًّا ذكر عثمان حين أراد إقامة حد الزنى على من وضعت بعد زواجها بستة أشهر بقول اللَّه تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) مع قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، فرجع عثمان عن إقامة الحد عليها ".
" أي أن عثمان حكم العادة الجارية من أنه لا تلد المرأة لأقل من سبعة أشهر، فاعتبر ولادتها قبل ذلك قرينة لإقامة الحد عليها، لكن عليًّا يستدرك عليه ويتدارك الأمر، حيث حكم القاعدة التي تدرأ الحدود بالشبهات، وفهم من الآيتين السابقتين مجتمعتين أن مدة الحمل يمكن أن تكون ستة أشهر، واعتبر ذلك شبهة تحول دون القطع بوقوع الزنى، ومن ثم فلا يقع الحد ".
يتبين من خلال ما سبق البصمة الواضحة للإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التفسير، وإسهامه الواضح في تطوره.
220
٣ - عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ (ترجمان القرآن)
حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، أبو العباس عبد اللَّه، ابن عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين.
صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدث عنه بجملة صالحة.
وحدث عن عمر، وعلي، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وخلق.
وقرأ على أبي، وزيد.
قرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة.
روى عنه: ابنه علي، وابن أخيه عبد اللَّه بن معبد، ومواليه: عكرمة، ومقسم، وكريب، وأبو معبد، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وخلق كثير.
وله جماعة أولاد، أكبرهم العباس، وبه كان يكنى، وعلى أبو الخلفاء، وهو أصغرهم، والفضل ومُحَمَّد، وعبيد اللَّه، ولبابة، وأسماء.
وكان وسيمًا، جميلاً، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال.
وأولاده: الفضل، ومُحَمَّد، وعبيد اللَّه، ماتوا ولا عقب لهم، ولبابة لها أولاد وعقب من زوجها علي بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، وبنته الأخرى أسماء كانت عند ابن عمها عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن العباس، فولدت له حسنًا، وحسينًا.
انتقل ابن عَبَّاسٍ مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان، وأمي من النساء.
وعن طاوس قال: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عَبَّاسٍ.
وقال مجاهد: ما رأيت أحدًا قط مثل ابن عَبَّاسٍ، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة.
وروى الأعمش، عن مجاهد، قال: كان ابن عَبَّاسٍ يسمى البحر؛ لكثرة علمه.
وعن مجاهد قال: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عَبَّاسٍ إلا أن يقول قائل: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وعن طاوس، قال: أدركت نحوًا من خمسمائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عَبَّاسٍ، فخالفوه، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله.
221
قال يزيد بن الأصم: خرج معاوية حاجًّا معه ابن عَبَّاسٍ، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم.
الأعمش: حدثنا أبو وائل قال: خطبنا ابن عَبَّاسٍ، وهو أمير على الموسم، فافتتح سُورَةَ النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعته فارس، والروم، والترك لأسلمت.
قال علي بن المديني: توفي ابن عَبَّاسٍ سنة ثمان أو سبع وستين.
وقال الواقدي، والهيثم، وأبو نعيم: سنة ثمان، وقيل: عاش إحدى وسبعين سنة.
ب - دوره في التفسير:
فاز عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - بدعوة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل "، فكان له القدح المعلى بين صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير القرآن، حتى أنه يوجد له تفسير يتداوله الناس يسمى تفسير ابن عَبَّاسٍ.
وقد كان ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكثر جرأة في الاجتهاد، فيروي عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)، فقال: اذهب إلى ابن عَبَّاسٍ فاسأله، ثم تعال فأخبرني، فذهب فسأله، فقال: " كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات " فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال: " قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عَبَّاسٍ على تفسير القرآن، فالآن علمت أنه أوتي علمًا ".
وابن عَبَّاسٍ يقف على رأس من يرون أن كلام العرب يوضح ما غمض من ألفاظ القرآن الكريم، وأن الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن رجعنا إلى ديوانها، ومساءلات نافع بن الأزرق التي أربت على المائتين تدل على ذلك.
ومن ثم يمكن القول -وللأمانة العلمية-: إن المنهج اللغوي في تفسير القرآن من صنع ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - فهو الذي أرسى دعائمه، معتمدًا في ذلك على البذور التي بذرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه الراشدون، وبخاصة عمر.
222
وكان ابن عَبَّاسٍ يبين في تفسيره الكلمات المعربة عن لغات أخرى غير العربية، مما يؤكد رئاسته للمنهج اللغوي، حتى قيل عنه: " إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن الكريم ".
وإذا كان ابن عَبَّاسٍ قد اهتم بالتفسير اللغوي. فإنه -أيضا- ركز على عنصر الأخبار في تفسيره، وبخاصة الأخبار التي لم ترد في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكان يرجع إلى التاريخ العام، وأخبار الأمم، وبخاصة أهل الكتاب، فكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرجع إليهم ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في
223
القرآن وفصلت فيهما.
إن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - بما أوتي من علم بكتاب اللَّه أسهم إسهامًا كبيرًا في نشأة علم التفسير وتطوره، بل إنه ليعد من أكبر مفسري القرآن الكريم في عصور الإسلام المختلفة، فقد كانت له مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عنه، استقرت في مكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عَبَّاسٍ يَلْقَى من المسلمين إعجابًا وتقديرًا، إلى درجة أنه إذا صح النقل عنه لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر، وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عَبَّاسٍ مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء في التفسير.
٤ - عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
عبد اللَّه بن مسعود بن غافل -بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف- ابن حبيب بن شمخ -بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم- ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي، أبو عبد الرحمن الكوفي، أحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وروى عنه خلق من الصحابة، ومن التابعين: كمسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار، تلقن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبعين سورة.
قال علقمة: كان يشبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في هديه ودله وسمته.
وقال أبو نعيم: مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة.
ب - دوره في التفسير:
كان عبد اللَّه بن مسعود خادم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف
224
ومؤدب؛ لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب اللَّه، ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، حتى قيل عنه: إنه في التفسير أكثر رواية من علي كرم اللَّه وجهه.
وقد أخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: " واللَّه الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب اللَّه إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب اللَّه مني تناله المطايا لأتيته ".
وهذا يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب اللَّه، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب اللَّه تعالى.
وقد قام تفسير ابن مسعود على الرأي والاجتهاد والاستنباط؛ لمواءمة البيئة العراقية المتأثرة بثقافة الفرس، فوضع بذلك الأساس لهذه الطريقة في الاستدلال والثي توارثها أهل العراق في التفسير والفقه.
ويتميز ابن مسعود عن غيره في مجال تفسير القرآن بأنه اعتمد بعض القراءات التي تختلف عن القراءات المتواترة في المصاحف العثمانية، وقد تكون هذه القراءات من الروايات التفسيرية التي وردت على لسانه، وظنها تلامذته من القراءات، كما يمكن أن يقال -أيضًا-: إنها بهذا الاعتبار كانت بداية لنشوء علم تفسير القرآن.
٥ - أبي بن كعب
أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني، سيد القراء، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها، له مائة وأربعة وستون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة، ورُويَ عنه: ابن عَبَّاسٍ وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير، وكان ربعة نحيفًا أبيض الرأس واللحية، وقد أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان ممن جمع القرآن وله مناقب جمة رحمه اللَّه تعالى، وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلى عليه عثمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
225
ب - دوره في نشأة التفسير:
أبي بن كعب هو ثالث ثلاثة بعد ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود كثرت عنهم الرواية، وكان مقدمًا في القراءة؛ لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيه: " وأقرؤكم أبي بن كعب ".
وقد عد أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العلماء المكثرين في التفسير، وربما مكنه من ذلك معرفته بمعاني كتب اللَّه القديمة؛ إذ كان من العارفين بأسرار هذه الكتب وكونه من كتاب الوحي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومقدم القرآن ومؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن الكريم يشكل معناها دون أن يسأل عنها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ولقد اتبع أبي في تفسيره منهجًا يتحرى الحيطة والحذر؛ إذ كان يتوقف عند ما ورد في الآيات عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستعينًا بمعرفته مواضع النزول، وأوقاته وأسبابه، وأحوال من نزل فيهم، بالإضافة إلى خبرته بالكتب القديمة ومعرفة أسرارها، ووقوفه على ما ورد فيها من جهة، وقراءته القرآن على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإقراء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - له بعضًا منه تعليمًا وإرشادًا من جهة أخرى، فإذا لم يجد فيما ورد عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شيئًا، أو لم تعنه وسائله التفسيرية السابقة، فإن صنيعه يتوجه إلى بيان الدلالات اللغوية للألفاظ القرآنية؛ إذ كانت الثقافة اللغوية هي زاد القوم الذي يستمدون منه ما يعينهم على ذلك.
لقد استطاع أُبي بما أوتي من علم وموهبة تفسيرية أن يجتذب تلاميذ كثيرين، أثر فيهم بمنهجه الشامل، مما أدى إلى نشأة المدرسة المدنية في التفسير والفقه.
ملاحظات حول تفسير الصحابة:
نستطيع الآن أن نورد مجموعة من الملاحظات على تفسير الصحابة تبرز لنا بشكل أكثر
226
وضوحًا الدور الذي قاموا به، وهي كالآتي:
أولاً: اتخذت تفسيرات الصحابة جميعهم شكل الحديث من حيث الرواية والتلقي.
ثانيًا: الصحابة لم يفسروا القرآن الكريم كله، وإنما تناولوا بالتفسير ما كانوا يسألون عنه، أو ما يبدو غريبًا في أذهان بعضهم.
ثالثًا: تفسيراتهم لم تكن تخرج عن تفسير اللفظ بما يوضحه، والاستشهاد له من اللغة، وما يمكن أن يروى حوله من تفسير للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو مناسبة النزول.
رابعًا: لم يكن بين تفسيراتهم اختلافات كبيرة؛ نظرًا لقربهم من عهد النبوة، كما أنهم لم تتوزعهم الأهواء، وما كان بينهم من اختلافات فهي للتنوع وليس للتضاد.
ومع كل هذا، فقد كان الصحابة الأجلاء، وبخاصة ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود وأُبي بن كعب - رضوان اللَّه عليهم - هم أول من أسس علم التفسير بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما قدموه من إسهامات فتحت الطريق أمام التابعين من بعدهم ومن تلاهم إلى يوم الناس هذا.
* * *
227
المرحلة الثالثة: التفسير في عصر التابعين
جاء عصر التابعين، فوجدوا بين أيديهم ميراثًا ضخمًا من التفسير، لكنه ليس شاملاً لكتاب اللَّه تعالى كله، بل هو تفسير لبعض الآيات، كما أنه لم تكن هناك مصنفات كاملة فيه، حيث إنه لم يدون في عهد الصحابة، لقرب العهد برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولقلة الاختلاف، وللتمكن من الرجوع إلى الثقات.
ثم لما انقضى عصر الصحابة أو كاد، وصار الأمر إلى تابعيهم، انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن، واختلفت الآراء، وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء، فأخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن.
ومعنى هذا أن حركة واسعة لتدوين علوم الإسلام قد بدأت مع عصر التابعين، في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، وقد نال التفسير قسطًا وافرًا من اهتمام التابعين، سواء فيما يتعلق بتدوينه أو تطويره والبلوغ به درجات لم يبلغها من قبل.
ونريد في عجالة أن نستجلي أهم ما قام به التابعون في مجال تفسير القرآن الكريم، ولتحقيق ذلك نقف أمام النقاط الآتية:
أولًا: مصادر التابعين في تفسير القرآن الكريم:
اتبع علماء التابعين سنن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصحابته الكرام، فصدروا عن طريقتهم في التفسير، فجاءت مصادرهم في التفسير هي المصادر الثلاثة السابقة: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بما عند أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، ولكنهم زادوا مصادر أخرى: ففسروا القرآن بما رووه عن صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم توسعوا في الاجتهاد وتفسير القرآن بالرأي عما كان عليه في عهد الصحابة.
يقول الدكتور الذهبي: اعتمد هَؤُلَاءِ المفسرون في فهمهم لكتاب اللَّه تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، وعلى ما يفتح اللَّه به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب اللَّه تعالى.
وقد روت لنا كتب التفسير كثيرًا من أقوال هَؤُلَاءِ التابعين في التفسير، قالوها بطريق
228
الرأي والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول اللَّه - ﷺ -، أو عن أحد من الصحابة.
ثانيًا: دور التابعين في تفسير القرآن الكريم:
بعدت الشقة بين عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعصر التابعين، وتزايد الغموض في فهم القرآن الكريم، واحتاج الناس إلى التفسير وقد اضطلع التابعون في هذه المرحلة بدور بارز.
يقول الدكتور الذهبي: تزايد هذا الغموض -على تدرج- كلما بعد الناس عن عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والصحابة، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعًا، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث.
وبرز في عصر التابعين علماء كثيرون، كانوا قد تتلمذوا على أيدي صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سوف نتعرض لأبرزهم في الفصل الثاني من هذه الدراسة عند الحديث عن المدارس التفسيرية.
ثالثا: يمتاز التفسير في عصر التابعين بما يلي:
أولًا: غالب أقوالهم في التفسير تلقوها عن الصحابة، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم.
ثالثًا: دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وكان لا يزال عالقًا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية: كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات وكثير من القصص، وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء
229
بعدهم.
وترتب على دخول الإسرائيليات والنصرانيات أن غص التفسير بكثير من الأباطيل، والخرافات، وممن ساعد على رواج هذه الأباطيل القصاص والوعاظ بالمساجد، ولم يسلم من نسبتها إليهم أئمة ورعون كالحسن البصري بالكوفة، ومُحَمَّد بن كعب القرظي بالمدينة.
ثالثًا: تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل التفسير؛ إذ وضعت فيها بذور المذاهب الإسلامية، من نزوع العقل إلى فهم الآيات وتفسيرها، إلى تصرف في اللغة وإيغال في التأويل، وقد وجدنا هذا في مدرستي مكة والمدينة، بالقدر الذي وجد في مدارس الكوفة والعراق ومصر بعامة، وإن اختلف الأساس الذي بُني عليه هذا الفهم في كل مدرسة على حدة.
رابعًا: يعتبر التابعون هم المؤسسون الرئيسون للمدارس التفسيرية التي وجدت بذور نشأتها في عهد الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - فقد تبلورت المدارس التفسيرية وبرزت وتحددت في عصر التابعين والعصور التالية.
خامسًا: ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب، فنجد مثلا قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه، ونجد الحسن البصري يفسر القرآن على إثبات القدر، ويكفر من يكذب به.
سادسًا: شهدت هذه المرحلة محاولات فردية في تدوين التفسير، وإن ظل محتفظًا بطابعه في عهد الصحابة من الرواية والتلقي الشفهي مثل الحديث، إلا أنه لم يكن تلقيا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، بل كان تلقيا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص، فأهل كل مصر يعنون -بوجه خاص- بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم، فالمكيون عن ابن عَبَّاسٍ، والمدنيون عن أبي، والعراقيون عن ابن
230
مسعود... وهكذا.
وعمومًا، فإن التفسير في عهد التابعين تطور عما كان عليه في عصر الصحابة، مما أسهم في بلورته في المرحلة التالية.
المرحلة الرابعة: التفسير في عصور التدوين:
وهذه المرحلة تبدأ مع ظهور تدوين العلوم في أواخر عصر بني أمية وبداية عصر العباسيين، وفي هذه المرحلة خطا التفسيير خطوات أخرى، نستطيع بلورتها فيما يلي:
الخطوة الأولى: أنه مع ابتداء التدوين لحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير بابًا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار دلك ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو إلى أصحابه أو التابعين، ومن هَؤُلَاءِ: يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة ١١٧ هجرية، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ هجرية، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة ١٩٧ هجرية، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ هجرية، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة ٢٥٥ هجرية، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة ٢١١ هجرية، وآدم بن إياس المتوفى سنة ٢٢٥ هجرية، وعبد بن حميد المتوفى سنة ٢٤٩ هجرية، وغيرهم... وهَؤُلَاءِ جميعًا كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعًا لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد، وجميع ما نقله هَؤُلَاءِ الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مُسْنَدًا إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شيء منها؛ ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
الخطوة الثانية: انفصل بها التفسير عن الحديث، فأصبح علمًا قائمًا بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف، وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣ هـ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة ٣١٨ هـ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩ هـ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥ هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠ هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
231
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها، ورجح بعضها على بعض؛ وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية.
وتجدر الإشارة إلى أن التفسير إذا كان قد انفصل عن الحديث، فإنه ليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية، كانت الخطوة الثانية له هي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهي تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالئة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
الخطوة الثالثة: تجاوز التفسير حدود التفسير بالمأثور، بعد ما كان مقصورًا على ذلك، فصنف في التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير.
الخطوة الرابعة: وهي خطوة أوسع من سابقتها، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورًا على رواية ما نقل عن سلف الأمة تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وتدرج ذلك تدرجًا واضحًا، فبدأ أولاً التفسير العقلي على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمرًا مقبولاً ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية، ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة والعقائد المتباينة،
232
حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم.
ثم إن ما ظهر من مذاهب واتجاهات، وما دون من علوم، وما ترجم منها، أدى إلى اختلاط التفسير بغيره من العلوم، وتلونه بالمذاهب المختلفة، فكل فسر القرآن الكريم حسب ما يتمشى مع فكره ومذهبه، ويساير اتجاهه.
غير أنه يجب التنبيه إلى أن التفسير العقلي لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب، فقد وجدد من العلماء من استطاع في كل العصور مقاومة طغيان التفسير العقلي، ففسر القرآن الكريم تفسيرًا نقليًا بحتًا، أو فسره تفسيرًا نقليًا مختلطًا بالتفسير العقلي.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك من العلماء من اهتم بموضوعات معينة في القرآن الكريم، فابن القيم مثلاً أفرد كتابًا سماه " التبيان في أقسام القرآن "، وأبو عبيدة أفرد كتابا سماه " مجاز الفرآن "، وألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ، وبعضهم في أسباب النزول، وبعضهم في أحكام القرآن، وبعضهم في إعراب القرآن.
* * *
233
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم
في زماننا بدأ يظهر ما يعرف بالتفسير الموضوعي، وهو يعني أمرين:
الأول: أنه يعني الوحدة الموضوعية، أي: أن بناء السورة الكريمة من سور القرآن الكريم يتناول في معظمه موضوعًا واحدًا، تقوم السورة الكريمة على بيانه والإلحاح عليه من أولها إلى آخرها، وقد يتخلل ذلك موضوعات أخرى أو إشارات إلى موضوعات أخرى، ولكن يبقى الخيط العام في السورة وموضوعها واضحًا، ونادرا ما تقتصر سورة من سور القرآن على موضوع واحد، وذلك من مميزات أسلوبه الفريد وإعجازه الواضح، ومع هذا يبقى الموضوع الكبير وتفاصيله واضحًا في بناء السورة الكريمة، صغيرة كانت أو كبيرة.
يمثل ذلك سورة يوسف فإن موضوعها قصة يوسف - عليه السلام - منذ ولادته والرؤيا التي رآها إلى وفاته (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١).
ومع أن قصة يوسف هي موضوع السورة الأكبر، وأن وحدة الموضوع وعناصره بادية في السورة من أولها إلى آخرها إلا أن الأسلوب القرآني المعجز يدخل في ثنايا ذلك موضوعات أخرى لا تخل بوحدة موضوع السورة، ولكنها تضيف إليه التقدير والتعظيم.
فالموضوع الأكبر هو قصة يوسف، وقد تم سردها بدقة وإحكام، والموضوع الآخر إثبات صدق مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبر به من القرآن الكريم، فهو وحي من عند اللَّه ومعجز لأمته، وبين هذين الموضوعين تعرضت آيات القصة لكثير من القيم والتوجيهات الدِّينية، وقد أفاد كل ذلك في بناء الموضوع ووحدته.
الأمر الثاني:
وهو سابق على الأمر الأول المتمثل في الوحدة الموضوعية في السورة، فهناك محاولات سابقة للعلماء للربط بين الآيات وبيان المناسبة بين كل آية وآية مما يعد لبنة في تلك الدراسة، فخصص السيوطي لذلك فصلاً في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " سماه: " مناسبة الآيات " قال فيه كلامًا طيبًا لا يبعد كثيرًا عما يسمى بالوحدة الموضوعية، بل وهناك محاولات لبيان مناسبة السورة مع التي قبلها.
وقد تطور هذا الأمر، فأصبح التفسير الموضوعي يعني " جمع الآيات المتفرقة في سور القرآن الكريم المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا، وتفسيرها حسب المقاصد
234
القرآنية ".
وأطلق التفسير الموضوعي على جميع الأشباه والنظائر في القرآن الكريم حسب مادة الكلمة، ثم ترتيبها ترتيبًا معجميًا، وذلك كما صنع الفقيه الدامغاني في كتابه: " إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم ".
ونستطيع القول: إن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هو معرفة مراد اللَّه تعالى من كلامه الكريم في آيات عديدة يجمعها موضوع واحد، وذلك بقدر الطاقة البشرية والعلوم المعنية.
ولكن مما ينبغي إبرازه أن التفسير الموضوعي وجد منذ عصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وليس وليد العصر الحاضر، وذلك لسببين:
الأول: أن القرآن الكريم يفسر بعضهه بعضًا، فما أجمل في موضع فصل في موضع آخر، وما أبهم في موضع بين في موضع آخر، وهكذا، وفي ذلك يقول السيوطي عند حديثه عن شروط المفسر وآدابه: " قال العلماء: من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولاً من القرآن، فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه، وقد ألف ابن الجوزي كتابًا فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه ".
والسبب الثاني: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد استخدم هذا الأسلوب في بيان وتفسير ما أشكل على الصحابة من القرآن الكريم، حيث ضم الآيات إلى بعضها؛ ليتضح المعنى ويتبين المراد، فمن ذلك أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - لما سمعوا قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، خافوا وظنوا أنهم قد حرموا الأمن والأمان؛ لأن الظلم واقع من كل إنسان لا محالة، حتى ظلمه لنفسه، فذهبوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في فزع وخوف، فطمأنهم، وبين لهم أنهم في أمن وأمان؛ لأن الظلم المراد في الآية هو الشرك، وتلا عليهم قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فاطمأنت نفوسهم بذلك.
وقد سار الصحابة على سنن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فكانوا يجمعون آيات القرآن
235
الكريم؛ ليستنبطوا الحكم الصحيح وقد سبق أن ذكرنا عند حديثنا عن دور علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التفسير أنه يعد -بحق- واضع اللبنة الأولى للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك -أيضًا- ما سبق أن ذكرناه عن ابن عَبَّاسٍ وعمر بن الخطاب في توقع موعد ليلة القدر، فقد أخرج أبو نعيم عن مُحَمَّد بن كعب القرظي عن ابن عَبَّاسٍ أن عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: ما لك يا ابن عَبَّاسٍ صامت لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عَبَّاسٍ: فقلت: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه وتر يحب الوتر، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق الإنسان من سبع، وخلق فوقنا سماوات سبعًا، وخلق تحتنا أرضين سبعا، وأعطى من المثاني سبعًا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم الميراث في كتابه على سبع، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع، وطاف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكعبة سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة سبعا، ورمى الجمار سبعا، فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه.
وقد توالت الجهود وتتابعت في التفسير الموضوعي حتى أصبح مصطلحًا معروفًا واتجاهًا واضحًا في التفسير في العصر الحديث، حيث وجدنا من العلماء من يتناول بالتفسير سورة واحدة، كما فعل الدكتور مُحَمَّد البهي في تفسير سورة يوسف وإبراهيم وغيرهما، ومنهم من تناول بالتفسير موضوعًا من موضوعات القرآن، فجمع آياته المتفرقة وقام بتفسيرها في كتاب واحد، كما فعل الدكتور مُحَمَّد عبد اللَّه دراز في كتابه " الأخلاق في القرآن الكريم "، والدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الصبر في القرآن الكريم "، ومن قيل: الشيخ مُحَمَّد رشيد رضا في " الوحي المحمدي " وتوالت الكتب المختصة بهذا الشأن، حتى وجدنا بعض العلماء كالشيخ الغزالي يؤلف مباشرة تحت عنوان " التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ".
وقد بلغ من شهرة هذا الاتجاه أن أصبح شعبة دائمة في منظمة المؤتمر الإسلامي، وصدرت عنها عدة بحوث كان لها الأثر الكبير في التعريف بالقرآن والإسلام لدى غير المسلمين، مما أسفر عن إعجاب الكثير بالإسلام وإعلان إسلامهم.
إذن فإن التفسير " تفسير القرآن الكريم " مر بمراحل متعددة حتى صار إلى ما نراه الآن،
236
ومع هذا يبقى هذا السؤال الذي يتطلب منا جوابا، وهو: هل صار التفسير علمًا بالمعنى الدقيق لكلمة علم؟
عرض الدكتور الذهبي - رحمه اللَّه - لهذه المسألة، فقال: يرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام اللَّه، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها.
ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد؛ فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علومًا أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة: والصرف، والنحو، والقراءات... وغير ذلك.
والحق الذي يصدق الواقع، وتشهد به التفاسير الكثيرة، أن فن تفسير القرآن الكريم من قبيل العلوم ذات الموضوع والمسائل المستنبطة بوحدة موضوعها وغايتها وغير ذلك، فإن له كتبه المدونة المختصة به كما لسائر العلوم، وأيضًا: فإن فيه كثيرًا من القواعد الكلية التي يندرج تحت كل واحدة منها من المسائل الجزئية ما لا يخفى على من طالع كتبه، والتي تحصل لمن تمرس بها وأحسن رعايتها ملكة تعينه على خوض لجة هذا العلم والسباحة في بحره آمنا مطمئنا إن شاء اللَّه، وتمنع بالتالي من لم يمارسها ويتقن فقهها والتلقي لها عن أهلها الثقات من الكلام في هذا الفن.
وكونه مفتقرًا إلى الاستعانة بكثير من العلوم لا يمنع أصلاً من كونه علمًا متكاملًا قد استوى على سوقه كما تستوي أدق العلوم وأدخلها في استحقاق اسم العلم، فإن من الأمور التي قد أصبحت شبيهة بالبدهيات إن لم تكن منها بالفعل أنه لا يمنع من كون العلم علمًا قائمًا برأسه أن يستعين على مسائله بكثير من المسلمات في علوم أخرى وأن الواقع الذي لا تصلح المماراة فيه أن بعض العلوم يأخذ من بعض.
كما أن كونه بيانًا لألفاظ القرآن ومعانيه لا يمنع بحال من عده علمًا قائمًا بذاته، كما أن علم اللغة وفقهها لا يخرج عن كونه بيانًا لمعاني ألفاظها واشتقاقاتها وما إلى هذا، ثم لم يمنع ذلك من عده علمًا، فالحق الذي ترتاح إليه النفس ويطمئن إليه القلب إذن أن التفسير علم بأكمل وأدق وأجل ما تنطوي عليه مثل هذه الكلمة الشريفة من معنى، وأنه كذلك من أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق.
237
الفصل الثاني
مدارس تفسير القرآن الكريم
قلنا: إن المدارس التفسيرية تبلورت في عصر التابعين، فظهرت عدة مدارس، لكل مدرسة منها أسلوبها وطريقتها ومنهجها في تفسير القرآن الكريم، اضطلع بالتفسير فيها أئمة كبار من أهل العلم.
يقول الدكتور الذهبي: فتح اللَّه على المسلمين كثيرًا من بلاد العالم في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعًا في بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلمون، ومنهم غير ذلك.
وقد حمل هَؤُلَاءِ معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون.
واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد.
ويمكننا القول: إن أصل هذه المدارس، وأعلمها بالتفسير هي مدرسة مكة؛ لأن شيخها وأستاذها عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ حبر الأمة وترجمان القرآن، كان نسيج وحده في التفسير، فكان أعلم الناس به، وكان تلاميذه أعلم التابعين به أيضًا؛ ولذلك يقول ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم.
ونحاول في الصفحات الآتية الوقوف أمام أبرز مدارس التفسير؛ لبيان خصائصها
238
وسماتها والمفسرين الذين يمثلونها وينتمون إليها.
أولا: المدرسة المكية:
واضع بذور هذه المدرسة ومؤسسها الأول الصحابي الجليل عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ترجمان القرآن وحبر الأمة، فقد جلس لتلاميذه يفسر لهم ما غمض من القرآن ويوضح لهم ما أشكل عليهم من معانيه، وكان جلوسه لهم بمكة، وقد اجتمع حوله كثير من التلاميذ الذين وعوا ما يقوله ورووه لمن جاء بعدهم، وقد اشتهر من هَؤُلَاءِ التلاميذ: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح.
ولكي نعرف بالمدرسة المكية لابد لنا من دراسة خصائصها وسماتها في التفسير، ثم بيان دور تلاميذها وما قاموا به في التفسير مع ترجمة موجزة لكل واحد منهم، فنقول:
تتسم المدرسة المكية في التفسير بعده: سمات، أبرزها ما يأتي:
أ - الرواية:
قامت هذه المدرسة على الرواية عن ابن عَبَّاسٍ، فروى عنه سعيد بن جبير وسمع منه التفسير وأكثر من روايته عنه.
وروى مجاهد والفضل بن ميمون وعكرمة وطاوس وعطاء بن أبي رباح، وكانت رواية هَؤُلَاءِ الأعلام أكثرها عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ومن ثم تأثروا به وبمنهجه في التفسير.
ومما يدل على رواية هَؤُلَاءِ الأعلام عن ابن عَبَّاسٍ ما رواه الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين مرة.
وروي عنه -أيضًا- أنه قال: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت؟
ولا تعارض بين هاتين الروايتين؛ لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير، فلعله
239
عرض القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين مرة؛ لتمام الضبط، ودقة التجويد وحسن الأداء، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات؛ طلبًا لتفسيره ومعرفة ما دق من أسراره، وخفي من معانيه، كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية.
ومما يدل على ذلك -أيضًا- ما قاله حبيب بن أبي ثابت: " اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا ".
ومما يدل على ذلك -أيضًا- ما قاله ابن عَبَّاسٍ نفسه عن عطاء بن أبي رباح: " تجتمعون إليَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟! ".
وهذا إن دل على رواية عطاء، فإنه يدل كذلك على علو قدمه ورسوخها في تفسير القرآن الكريم، حتى إن ابن عَبَّاسٍ -وهو حبر الأمة وترجمان القرآن- يستنكر على أهل مكة اجتماعهم عليه وبين أظهرهم عطاء بن أبي رباح.
وخلاصة القول: إن المدرسة المكية كانت تعتمد على الرواية في التفسير، فمثلما روى الصحابة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التفسير، فقد روى أصحاب المدرسة المكية عن صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالأخص عن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما.
هذا، ولم تقتصر روايتهم عن ابن عَبَّاسٍ والصحابة وحسب، بل إنهم رووا عن أهل الكتاب مثلما فعل سلفهم، لكنهم توسعوا حتى روى الذهبي في ميزانه أن أبا بكر بن عياش قال: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ كما في رواية ابن سعد قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
لكن ينبغي ألا يتوهم من هذه الرواية أن أصحاب هذه المدرسة لم تكن لهم ضوابط في النقل عن أهل الكتاب، كلا، فلقد كانوا لا يروون إلا ما يعتقدون صدقه، ولم يخالف بيَّنًا مما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكيف لا يتحرون الدقة في الأخذ عن أهل الكتاب، ورأس مدرستهم ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - شدد النكير على من يأخذ عنهم أو يصدقهم فيما
240
يقولون، مما هو داخل تحت حدود النهي من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ب - جمع القراءات
جمع أصحاب هذه المدرسة القراءات الثابتة، وكان أكثر تلاميذ ابن عَبَّاسٍ حرصًا على ذلك، هو سعيد بن جبير، فقد كان سعيد بن جبير يؤم الناس في شهر رمضان، فروي عنه أنه كان " يقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدًا ".
وما من شك في أن جمع القراءات يمنح القدرة على التوسع في معرفة معاني القرآن وأسراره.
ج - التفسير بالرأي:
قلنا: إن هذه المدرسة قامت على الرواية؛ وذلك لأن أصحابها تحرجوا من التفسير بالرأي، فقد روى ابن خلكان عن سعيد بن جبير أنه كان يتورع من القول في التفسير برأيه، فقد جاء رجل وسأل سعيدًا أن يكتب لله تفسير القرآن، فقال: لأن يسقط شقي أحب إلى من ذلك.
لكن لم يكن كل أصحاب المدرسة على درجة واحدة في هذا التحرج، فمنهم من زاد تحرجه كسعيد بن جبير -كما رأينا- ومنهم من خف تحرجه كمجاهد بن جبر، فكان من أكثر تلاميذ المدرسة المكية تحررا، لكنه التحرر المنضبط؛ لذلك نجده يقول: " ولا يحل لأحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يتكلم في شيء من كتاب اللَّه، إذا لم يكن عالمًا بلغات القرآن، ولا يكتفي باليسير منها؛ إذ اللفظ ربما كان مشتركًا فيغفل عن أحد المعنيين ".
ويقف في درجة وسطى بين شدة التحرج وخفته عكرمة، فمن يتتبع تفسيره في بطون كتب التفسير يجد فيه خصائص تفسير أستاذه ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - الذي تعلوه المسحة اللغوية والرجوع إلى الشعر، وهو يمثل لونًا من التفسير بالرأي.
ومن ثم يمكن القول دونما وجل: إن المدرسة المكية في التفسير تقوم على الرواية " أي التفسير بالمأثور " لكنها في الوقت نفسه لم تهمل التفسير بالرأي، يدل على ذلك ما رواه الطبري في تفسيره عن مجاهد في تفسير قول اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا
241
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فقد فسر المسخ بأنه مسخ للقلوب ولم يقع على الأجسام، وإنما هو مثل ضربه اللَّه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
أعلام المدرسة المكية.
١ - سعيد بن جبير.
سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي الفقيه أحد الأعلام، روى عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر وعبد اللَّه بن مغفل وعدي بن حاتم وخلق، وروى عنه الحكم وسلمة بن كهيل وسليم الأحول، وسليمان الأعمش وأيوب وعمرو بن دينار، وخلائق، وقال اللالكائي: ثقة إمام حجة، قال عبد الملك بن أبي سليمان: كان يختم في كل ليلتين، قال ميمون ابن مهران: مات سعيد وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، قتل سنة خمس وتسعين كهلاً، قتله الحجاج فما أمهل بعده، قال خلف بن خليفة عن أبيه: شهدت مقتل ابن جبير، فلما بَانَ الرأس قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فلما قالها الثالثة لم يتمها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
مكانته في التفسير:
شهد التابعون لسعيد بن جبير بتفوقه في العلم ولاسيما التفسير، فقد قال عنه الإمام أحمد: " قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه فرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ".
وقال عنه سفيان الثوري: " خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، والضحاك ".
وقال قتادة: " كان أعلم الناس أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام ".
ولعلم سعيد وفضله كان يثق فيه أستاذه ابن عَبَّاسٍ، ويحيل عليه من يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير ويروي عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال: لقد مات سعيد بن جبير، وما على ظهر
242
الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.
ويرى بعض العلماء أنه مقدم على مجاهد وطاوس في العلم، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين بالتفسير.
هذا وقد وثق علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير، فقال أبو القاسم الطبري: هو ثقة، حجة، إمام على المسلمين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان عبدًا فاضلاً ورعًا، وهو مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة.
٢ - مجاهد بن جبر:
مجاهد بن جبر -بإسكان الموحدة- مولى السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي المقرئ الإمام المفسر، روى عن ابن عَبَّاسٍ وقرأ عليه، وعن أم سلمة وأبي هريرة وجابر، ورَوَى عنه عكرمة وعطاء وقتادة والحكم بن عتيبة وأيوب وخلق.
وثقه ابن معين وأبو زرعة.
قال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ومولده سنة إحدى وعشرين.
مكانته في التفسير:
مجاهد أحد المبرزين في التفسير؛ قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين عرضة، وعنه -أيضًا- قال: عرضت المصحف على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات أقف عند كل آية منه، وأسأله عنها فيم نزلت؟ وكيف كانت؟
وروى ابن جرير بسنده عن ابن أبي مليكة، قال: " رأيت مجاهدًا سأل ابن عَبَّاسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول ابن عَبَّاسٍ: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله ".
ولذا قال الإمام سفيان الثوري: " إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك "، وقال ابن تيمية: " ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي، والبخاري وغيرهما من أهل العلم ".
وقال السيوطي في الإتقان: " وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه، وما أورده فيه عن ابن عَبَّاسٍ أو غيره قليل جدَّا ".
فكل هذه الأقوال تشهد لمجاهد بعلو المكانة في التفسير والعلم، ومع هذا فقد تحرج بعض العلماء من الأخذ عنه في التفسير، ولعل الذي دفعهم إلى ذلك أمران:
243
الأول: أنه كان يسأل أهل الكتاب، كما سبقت الإشارة إلى أن ابن سعد عزا عدم سؤالهم له في التفسير إلى ذلك، فقال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
والثاني: مسلك التحرر الذي سلكه وتفسيره القرآن بالرأي، فلعل مثل هذا المسلك من مجاهد، هو الذي جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول في القرآن برأيهم يتقون تفسيره، ويلومونه على قوله في القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة في الرأي، فقد روي عن ابن مجاهد أنه قال: قال رجل لأبي: أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال: إني إذن لجريء، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهم.
وليس معنى هذا أن في مجاهد مطعنًا، كلا، فهو ثقة بلا مدافعة، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه تخطى حدود ما يجوز له من ذلك، لاسيما وهو تلميذ حبر الأمة ابن عَبَّاسٍ، الذي شدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب ويصدقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهي الوارد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وعليه، فتبقى لمجاهد إمامته في التفسير التي لا يمكن أن يدفعها عنه دافع، فليس أخذه عن أهل الكتاب أو حريته في تفسير آيات القرآن يغضان من قيمته ومكانته أو يقللان من تفوقه في العلم والتفسير.
٣ - عكرمة
عكرمة البربري مولى ابن عَبَّاسٍ أبو عبد اللَّه أحد الأئمة الأعلام، روى عن مولاه، وعائشة وأبي هريرة، وأبي قتادة ومعاوية وخلق، وروى عنه الشعبي وإبراهيم النخعي، وأبو الشعثاء من أقرانه وعمرو بن دينار وقتادة وأيوب وخلق.
قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة رموه بغير نوع من البدعة، قال العجلي: ثقة بريء مما يرميه الناس به، ووثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، ومن القدماء أيوب السختياني.
قال مصعب: مات سنة خمس ومائة.
مكانته في التفسير:
قال المروزي: قلت لأحمد: يحتج بحديث عكرمة؟ فقال: نعم يحتج به.
244
وقال ابن معين: إذا رألت إنسانًا يقع في عكرمة، وفي حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام.
وقال العجلي فيه: مكي تابعي ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية.
وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة.
وقد وثقه النسائي وأخرج له في كتابه السنن، كما أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم، وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيًا فيه، ثم عدله بعد ما جرحه.
وقال المروزي: أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل الحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو ثور، ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا!!! تعجب من سؤالي إياه.
فإن عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان على مبلغ عظيم من العلم، وعلى مكانة عالية من التفسير خاصة، وقد شهد له العلماء بذلك، فقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن، وقال عمرو بن دينار: دفع إليَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عَبَّاسٍ، هذا البحر فسلوه.
وكان الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة.
وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا.
وقال يَحْيَى بن أيوب المصري: سألني ابن جريج: هل كتبتم عن عكرمة؟ فقلت: لا، قال: فاتكم ثلثا العلم.
وروى البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عَبَّاسٍ قال له: " حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني
245
عهدت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لا يفعلون ذلك ".
إن عكرمة حاز منزلة عظيمة في العلم، فهو من أعلم الناس بالسير والمغازي؛ قال سفيان الثوري عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفون ويقتتلون.
وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن، وشهد له الأئمة بذلك، يقول الشعبي: " ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة ".
ومع كل هذا، فإن هناك بعض العلماء وجهوا مطاعن إلى عكرمة، فكانوا يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون: إنه كان يدعي معرفة كل شيء في القرآن، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن عَبَّاسٍ، وبعد هذا كله، يتهمونه بأنه كان يرى رأي الخوارج، ويزعم أن مولاه كان كذلك، وقد نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب كل هذه التهم ونسبها لقائليها، فمن ذلك: ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة وحكى إبراهيم بن ميسرة أن طاوسا قال: لو أن مولى ابن عَبَّاسٍ اتقى اللَّه وكف من حديثه لشدت إليه المطايا.
وروى أبو خلف الجزار عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق اللَّه، ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عَبَّاسٍ.
وروي أن سعيد بن المسيب قال مثل ذلك لمولاه.
وروى ابن سعد: أن على بن عبد اللَّه كان يوثقه على باب الكنيف ويقول: إن هذا يكذب على أبي.
ثم بعد ذلك كله يصورون للناس مبلغ كراهة معاصريه له فيقولون:
إنه مات هو وكثير عزة في يوم واحد، فلم يشهد جنازته أحد، أما كثير فقد شيعه خلق كثير.
وهذه التهم فيها كثير من المبالغة، حتى إن عكرمة نفسه كانت تصله فيتألم، فقد روى حماد بن زيد عن أيوب أنه قال: قال عكرمة: رأيت هَؤُلَاءِ الذين يكذبونني، يكذبونني من خلفي، أفلا يكذبونني في وجهي؟ فإذا كذبوني في وجهي فقد واللَّه كذبوني. ثم نراه
246
يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروي عن مولاه، فعن عثمان بن حكيم قال: كنت جالسًا مع أبي أمامة سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة فقال: يا أبا أمامة، أذكرك اللَّه، هل سمعت ابن عَبَّاسٍ يقول: ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة: نعم.
هذا هو رد عكرمة على متهميه بالكذب، وتفنيده لما نسب إليه من الافتراء على مولاه.
ثم إن كثيرًا من التهم ردها علماء موثوق بهم كابن حجر، وشهد له بعضهم وأنصفوه.
٤ - طاوس بن كيسان اليماني
طاوس بن كيسان اليماني الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان؛ قاله ابن الجوزي، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابت، وزيد ابن أرقم، وجابر، وابن عمرو، وأرسل عن معاذ.
قال طاوس: أدركت خمسين من الصحابة.
وروى عنه مجاهد، وعمرو بن شعيب، وحبيب بن أبي ثابت، والزهري، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وسليمان الأحول وخلق.
قال ابن عَبَّاسٍ: إني لأظن طاوسًا من أهل الجنة.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله.
وقال ابن حبان: حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة.
قال ابن القطان: مات سنة ست ومائة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم التروية، وصلى عليه هشام ابن عبد الملك ووثقه ابن معين وغيره.
مكانته في التفسير:
بلغ طاوس من العلم مبلغًا عظيمًا، وكان واثقًا من علمه هذا، وكان من الورع والأمانة حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عَبَّاسٍ فقال فيه ما أشرنا إليه منذ قليل: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة، وقال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا مثل طاوس، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقال ابن معين: إنه ثقة.
وقد أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وروايته عن ابن عَبَّاسٍ أكثر وأخذ
247
عنه التفسير أكثر من غيره؛ ولهذا عد من تلاميذه، وجاء ذكره في مدرسة مكة.
والتفسير المأثور عنه قليل جدَّا، ومعظمه يرويه عن ابن عَبَّاسٍ، ولقلة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه، قالوا عنه: إنه فقيه لا مفسر، وعده علماء الفقه فقيهًا.
٥ - عطاء بن أبي رباح:
عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم أبو مُحَمَّد الجندي اليماني، نزيل مكة وأحد الفقهاء والأئمة، روى عن عثمان وعتاب بن أسيد مرسلاً، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، وعروة بن الزبير، وطائفة، ورُوى عنه أيوب وحبيب بن أبي ثابت، وجعفر بن مُحَمَّد، وجرير بن حازم، وابن جريج، وخلق.
قال ابن سعد: كان ثقة عالمًا كثير الحديث، انتهت إليه الفتوى بمكة.
وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء.
وقال ابن عَبَّاسٍ -وقد سئل عن شيء-: يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء.
وقيل: إنه حج أكثر من سبعين حجة.
قال حماد بن سلمة: حججت سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة.
مكانته في التفسير:
لم يكن عطاء مكثرًا من رواية التفسير عن ابن عَبَّاسٍ، كما كان مقلاًّ في التفسير بالرأي، ويرجع ذلك إلى تحرجه من القول بالرأي.
يقول الدكتور الذهبي: وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عَبَّاسٍ نجد أن عطاء بن أبي رباح لم يكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره، ونجد مجاهدًا وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب اللَّه، ولكن هذا لا يقلل من قيمته بين علماء التفسير، ولعل إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي، فقد قال عبد العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من اللَّه أن يدان في الأرض برأيي.
وبعد: فهذه هي مدرسة التفسير في مكة التي كان لها الأثر الكبير في نشأة علم التفسير
248
وتطوره ونشره في داخل مكة وخارجها، فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الري، نشر فيها الكثير من العلم، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكة، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عَبَّاسٍ وتفسيره، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلامية شرقًا وغربًا، حيث رحل إلى خراسان واليمن والعراق والشام ومصر والحرمين.
ثانيًا: المدرسة المدنية:
هذه المدرسة لم يكن لها إسهام وافر في مجال تفسير القرآن الكريم بالرأي؛ إذ التزم أصحابها السماع والرواية في تفسيرهم، ومن هنا لم تضف هذه المدرسة لونًا عقليًّا تتميز به كما أضافت مدرسة مكة التي تحدثنا عنها قبل قليل، أو مدرسة العراق التي سنتحدث عنها فيما بعد، بل بقيت ثقافتها معتمدة على الوحي: الكتاب والسنة، والإلمام بمواضع نزول الوحي وأوقاته، والإحاطة بأسباب النزول، وأحوال الذين نزل القرآن فيهم.
ولكن هذا لا ينفي ما قام به زيد بن أسلم في مجال التفسير بالرأي حتى قال عنه عبيد اللَّه بن عمر: " لا أعلم به بأسًا إلا أنه يفسر القرآن يرأيه ويكثر منه ".
وهذا الحكم لا يعد مغمزًا في زيد وثقته وعدالته، أو طعنًا في دينه وعلمه؛ فلم يوجد من العلماء من نسبه إلى أحد المذاهب المبتدعة، ويدل على توثيقه وعدالته أنه جلس إليه علماء كثيرون منهم علي بن الحسين زين العابدين، ولما سئل عن هذا قال: " إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه ".
وأستاذ هذه المدرسة ومؤسسها الأول أبي بن كعب، وعنه أخذ أعلام المدرسة المدنية من التابعين، لكن لم يكن أخذهم عنه وحده، بل أخذوا كذلك عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب كذلك، ولكن ليس بدرجة أخذهم عن أبي بن كعب.
وقد اشتهر من أعلام هذه المدرسة في التفسير ثلاثة أو أربعة، وهم: زيد بن أسلم، وأبو العالية، وسعيد بن المسيب، ومُحَمَّد بن كعب القرظي، وسنقوم بترجمة كل واحد منهم.
249
أعلام المدرسة المدنية:
١ - زيد بن أسلم:
زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أحد الأعلام، روى عن أبيه، وابن عمر، وجابر، وعائشة في " أبو داود " وأبي هريرة في الترمذي، وقال ابن معين: لم يسمع منه ولا من جابر، وروى عنه بنوه، وداود بن قيس، ومعمر، وروح بن القاسم.
قال مالك: كان زيد يحدث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يجترئ عليه أحد، وثقه أحمد ويعقوب بن شيبة، مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة.
٢ - أبو العالية:
رفيع -بضم أوله مصغرًا- ابن مهران الرياحي -بكسر المهملة- مولاهم أبو العالية البصري مخضرم إمام من الأئمة، صلى خلف عمر، ودخل علي أبي بكر، روى عن أبي، وعلي، وحذيفة، وخلق، وروى عنه قتادة، وثابت، وداود بن أبي هند بصريون، وخلق.
قال عاصم الأحول: كان إذا اجتمع عليه أكثر من أربعة قام وتركهم.
قال مغيرة: أول من أذن بما وراء النهر أبو العالية.
قال أبو خلدة: مات سنة تسعين، وهو الصحيح.
٣ - سعيد بن المسيب:
سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي أبو مُحَمَّد المدني الأعور، رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم، ولد سنة خمس عشرة، روى عن عمر في الأربعة، وأبي، وأبي ذر، وأبي بكرة في ابن ماجه، وعلي، وعثمان، وسعد في البخاري ومسلم، وطائفة، وروى عنه الزهري وعمرو ابن دينار وقتادة وبكير بن الأشج وَيَحْيَى بن سعيد الأنصاري وخلق.
قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه.
وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح.
سمع من عمر، وقال مالك: لم يسمع منه، ولكنه أكب على المسألة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه.
وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبي هريرة.
قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: سنة أربع.
250
٤ - مُحَمَّد بن كعب القرظي:
مُحَمَّد بن كعب القرظي المدني ثم الكوفي أحد العلماء، روى عن أبي الدرداء مرسلاً، وعن فضالة بن عبيد، وعائشة، وأبي هريرة، وروى عنه ابن المنكدر، ويزيد بن الهاد، والحكم بن عتيبة.
قال ابن عون: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل القرآن من القرظي.
وقال ابن سعد: كان ثقة ورعًا كثير الحديث.
قيل: مات سنة تسع عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين.
ثالثًا: المدرسة العراقية:
من المدارس التي أصبحت لها قيمتها العلمية مدرسة العراق، وكان تلاميذ هذه المدرسة منهم من كان ببغداد، ومنهم من كان بالكوفة، ومنهم من كان بالبصرة، وأستاذ هذه المدرسة الأكبر هو: عبد اللَّه بن مسعود، حيث ولى سيدنا عمر عمار بن ياسر على الكوفة وسير معه عبد اللَّه بن مسعود معلمًا، ووزيرًا، وقد شرب من علمه أهل العراق عللاً بعد نهل، وأصبحوا متأثرين بطريقته في الاجتهاد في الفقه، والأحكام، والتفسير، وهي حرية الرأي في الاجتهاد، وحسن التصرف في النصوص، وعدم الجمود عليها.
وقد روي عن مسروق أنه قال: وجدت علم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأُبي، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن مسعود، ثم انتهى علم هَؤُلَاءِ الستة إلى اثنين: علي، وعبد اللَّه؛ يعني ابن مسعود.
وفي رواية أخرى: ذكر أبا موسى بدل أبي الدرداء.
وأهم سمة تميز مدرسة العراق شيوع طريقة الاستدلال فيها؛ لأن أهل العراق عرفوا بأنهم أهل رأي، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد اللَّه بن مسعود.
فالحسن البصري مثلاً يعمل فكره ورأيه في فهم القرآن، فيقول في تفسير قوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) " إن اللَّه لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، فواللَّه ما هو إلا أنه: إن انقضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة
251
إلا الخلود، وهو في هذا التفسير يهتدي بابن مسعود؛ إذ يُروى عنه أنه قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصا الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصا الدنيا لحزنوا ".
وليس معنى هذا أن تلاميذ هذه المدرسة أهملوا الرواية، فقتادة نفسه روى عن السلف إلى جانب تفسيره بالرأي، فهو يفسر الحكمة في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) بأنها علم القرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله.
أعلام المدرسة العراقية:
١ - علقمة بن قيس:
علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخع النخعي أبو شبل الكوفي، أحد الأعلام مخضرم، روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وطائفة، وروى عنه إبراهيم النخعي، والشعبي، وسلمة ابن كهيل، وخلق.
وقال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة والأسود.
قال ابن سعد: مات سنة اثنتين وستين، وقال أبو نعيم: سنة إحدى وستين، قيل: عن تسعين سنة.
٢ - مسروق
مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة، روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وطائفة. وروى عنه زوجته قمير، وأبو وائل، والشعبي، وخلق، وأرسل عنه مكحول.
قال أبو إسحاق: حج مسروق فما نام إلا ساجدًا على وجهه.
وقال ابن المديني: صلى خلف أبي بكر.
وقال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله.
وقال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وستين.
252
٣ - عامر الشعبي
عامر بن شراحبيل الحميري الشعبي أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر، روى عنه وعن علي، وابن مسعود، ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة، وعائشة، وجرير، وابن عَبَّاسٍ وخلق.
قال: أدركت خمسمائة من الصحابة.
وروى عنه ابن سيرين، والأعمش، وشعبة، وجابر الجعفي، وخلق.
قال أبو مجلز: ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي.
وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح.
وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول: ابن عَبَّاسٍ في زمانه، والشعبي في زمانه.
وقال يحيى بن بكير: توفي سنة ثلاث ومائة.
٤ - الحسن البصري
الحسن بن أبي الحسن البصري مولى أم سلمة والربيع بنت النضر أو زيد بن ثابت، أبو سعيد الإمام، أحد أئمة الهدى والسنة، رمي بالقدر، ولا يصح، روى عن جندب ابن عبد اللَّه، وأنس، وعبد الرحمن بن سمرة، ومعقل بن يسار، وأبي بكرة، وسمرة.
قال سعيد: لم يسمع منه وأرسل عن خلق من الصحابة، وروى عنه أيوب، وحميد، ويونس، وقتادة، ومطر الوراق، وخلائق.
قال ابن سعد: كان عالمًا جامعًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا، ما أرسله فليس بحجة، وكان الحسن شجاعًا من أشجع أهل زمانه، وكان عرض زنده شبر.
قال ابن علية: مات سنة عشر ومائة، قيل: ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: " قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " وجدت له أصلا مليًّا خلاف أربعة أحاديث.
٥ - قتادة
قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، وابن سيرين، وخلق، وروى عنه أيوب،
253
وحميد، وحسين المعلم، والأوزاعي، وشعبة، وعلقمة، قال ابن المسيب: ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة.
وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس.
وقال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد.
قال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشر ومائة، وقد احتج به أرباب الصحاح.
٦ - الأسود بن يزيد
الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفي، مخضرم فقيه، روى عن ابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى، وطائفة. وروى عنه إبراهيم النخعي، وابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعمارة بن عمير، وطائفة.
وثقه ابن معين والناس، قال إبراهيم: كان يختم في كل ليلتين، وروي أنه حج ثمانين حجة. توفي سنة أربع أو خمس وسبعين.
٧ - مرة الهمداني
مرة بن شراحيل الهمداني، أبو إسماعيل الكوفي العابد، مرة الطيب، ومرة الخير، روى عن أبي بكر وعمر وجماعة. وروى عنه الشعبي، وطلحة بن مصرف، وطائفة.
وثقه ابن معين، وقال الحارث الغنوي: سجد حتى أكل التراب جبهته.
قال ابن سعد: توفي بعد الجماجم.
وقيل: سنة ست وسبعين.
ومن خلال دراسة المدارس الثلاثة الرئيسية يمكننا القول بأنها تقوم في مجملها على الرواية، وأن التفسير بالرأي لم يكن سائدًا في هذه المرحلة المبكرة، غير أن الذين جاءوا من بعد توسعوا في التفسير بالرأي؛ بناء على البذور التي بذرها أعلام هذه المدارس من التفسير بالرأي، وبخاصة مدرسة العراق التي كانت أوسع المدارس التفسيرية اتجاهًا إلى الرأي واستخدام العقل في التفسير.
ولقد كان لهذه المدارس دور مؤثر في نشأة التفسير وتطويره ونشره، مما كان له أبعد الأثر على هذا العلم في العصور التالية، وما زلنا حتى اليوم نغترف من فيض أعلام هذه المدارس.
254
الفصل الثالث
المناهج التفسيرية بين القديم والحديث
لقد أجمع علماء التفسير منذ القديم -فيما نقله الزركشي- على شروط كثيرة لابد من مراعاتها عند تفسير القرآن الكريم أجملوها في أربعة شروط هي:
أولًا: الأخذ بما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أحاديث في التفسير.
ثانيًا: الأخذ بقول الصحابي، وخاصة فيما لا مجال للاجتهاد فيه: كالأمور الغيبية، والناسخ والمنسوخ.
ثالثًا: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى غير معناها الحقيقي، أو إلى غير مرادها.
رابعًا: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع.
واستمر العمل بهذا المنهج كحد يعرف به الرأي الممدوح من الرأي المذموم إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث سادت العالم مناهج جديدة، ومع مرور الزمن وتغلغل هذه المناهج وتمكنها من عقول بعض المفكرين داخل العالم الإسلامي - ظهرت مدرسة فكرية حديثة تدعو إلى تجديد فهم القرآن فهمًا عصريًّا، متبنية في ذلك ما توصل إليه العقل البشري من مناهج وعلوم -وخاصة الغربية- على رأسها علم الألسنية الحديثة وغيره.
وكان من أهم آراء المدرسة الفكرية الحديثة الدعوة صراحة إلى تجاوز كل الأدوات المنهجية التراثية؛ لأنها -حسب رأيها- تمثل فترة زمنية معينة، ثم تبنيها الأدوات المنهجية المعاصرة، مثل المنهج التاريخي، والمنهج البنيوي، والمنهج الجدلي وغيرها.
وفي هذا الفصل محاولة لدراسة أهم مناهج التفسير في القديم والحديث، وبيان أهم ما يميز هذه المناهج وما يعتورها من قصور، وذلك على النحو التالي:
أولا: مناهج التفسير في القديم
بعد التابعين، وقيام المدارس التفسيرية، ظهرت مؤلفات في التفسير مستقلة؛ حيث
255
كان التفسير من قبل جزءًا من الحديث، وكان التفسير يقوم على الأسانيد، فجاء مفسرون كثيرون في حوالي القرن الخامس الهجري فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال من غير أن يعزوها إلى قائليها، ومن ثم كثر الدخيل في التفسير، ثم إن التفسير غلب عليه التأويل والتفسير الاجتهادي لعلماء برعوا في بعض العلوم، وبرزوا فيها، ومنهم من هم من أهل السنة والجماعة، ومنهم من هم من أهل الزيغ والابتداع، فصار كل واحد منهم يميل بالتفسير إلى إبراز ما برع فيه، فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب وذكر الأوجه المحتملة في الآية، والإخباري ليس له هم إلا ذكر القصص واستيفاؤها عمن مضى من الأنبياء والأمم والملوك، وذكر ما يتعلق بالنقد والملاحم وأحوال الآخرة، والفقيه يكاد يسرد فيه مسائل الفقه جميعها، وكثيرًا ما يستطرد إلى إقامة الأدلة، وبيان منشأ الخلاف إلى غير ذلك مما لا تعلق له بالآية، وصاحب العلوم العقلية قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها، ويخرج من شيء إلى شيء، ويستطرد ثم يستطرد حتى ينسى الإنسان أنه في كتاب تفسير، ويخيل إليه أنه يقرأ كتابًا من كتب الكلام، وأصحاب المذاهب المبتدعة قد نحوا بالتفسير ناحية مذاهبهم كالشيعة والمعتزلة والباطنية والروافض وغيرهم.
ورغم هذا التعدد في الاتجاهات حول تفسير القرآن الكريم فإنه يمكننا أن نقول: إن مناهج التفسير القديمة تذهب في اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول: منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور.
والاتجاه الثاني: منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي.
والاتجاه الثالث: التفسير الإرشادي وغرائب التفسير.
وفي الصفحات التالية نلقي الضوء على هذه المناهج، ببيان أهم ما يميز كل منهج ومميزاته، وأوجه القصور فيه.
١ - منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور
التفسير بالمأثور هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة بيانًا لمراد اللَّه تعالى من كتابه، فالتفسير بالمأثور إما أن يكون تفسير القرآن بالقرآن أو تفسير القرآن بالسنة النبوية، أو تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة، وبعضهم أدرج في التفسير بالمأثور
256
أقوال التابعين.
يقول الدكتور الذهبي: وإنَّمَا أدرجنا في التفسير بالمأثور ما روي عن التابعين -وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي- لأنا وجدنا كتب التفسير بالمأثور: كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذكر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روي عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير.
وعلى هذا، فمصادر التفسير بالمأثور أربعة: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين.
المصدر الأول: القرآن الكريم:
يطلب تفسير القرآن العظيم أول ما يطلب من القرآن نفسه فحيثما ظفرنا بطلبنا في ذلك من القرآن لم يجز أن نعدل عنه إلى غيره بوجه من الوجوه؛ وذلك لأمور أربعة كلها من البدهيات المسلمة من كافة من يعتبرون من أهل الإيمان، بل من العقلاء.
أحدها: أن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وأن خير من يفسر القول بالتالي هو قائله بنفسه.
ثانيها: أن من المعلوم من الدِّين بالضرورة أن القرآن هو المصدر الأول والدعامة الرئيسية التي يقوم عليها بنيان شريعة الإسلام، بحيث لا يمكن أن يتم الإيمان بهذه الشريعة إلا بعد الأخذ بمحتوى هذا المصدر والإذعان لجميعه جملة وتفصيلاً.
وثالثها: أن ذلك ولا ريب هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته تعالى فيما تنازعنا فيه فضلا عما اتفقنا عليه من أمثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩).
رابعها: كون القرآن كلام رب العالمين أفضل كل قول وأحسن كل حديث؛ فلا يعدل عن الأفضل ما أمكن إلى المفضول، وأنه معجزة بجملته وتفصيله بلفظه ومعناه، بهدفه وغايته إلى غير ذلك من عظيم خصائصه وكريم فضائله، فكيف يدعه العاقل إلى ما دونه في جميع ذلك؟!
لجميع هذه الأسباب وغيرها رأينا أهل الحق لا يطلبون تفسير القرآن من غيره ما
257
أتيحت لهم سبيل إلى نيل بغيتهم منه، ومما لا ريب فيه أن الناظر في كتاب اللَّه تعالى يجد فيه ألوانًا شتى من تفسير بعضه لبعض، فقد نرى ما أوجز منه في مكان قد بسط في مكان آخر كما ترى منه العام الذي جاء فيه تخصيصه، والمطلق الذي وقع فيه تقييده، والمجمل الذي حصل فيه بيانه، والمبهم الذي ذكر فيه تفسيره.
هذا، وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذه الدراسة نماذج لتفسير القرآن بالقرآن، وغيرها كثير يعلم بالتدبر في كتاب اللَّه.
المصدر الثاني: السنة المطهرة:
سبقت الإشارة إلى أنه إن لم يتهيأ ننا الظفر بالبغية في القرآن اتجهنا مباشرة -كما فعل السلف- إلى السنة الصالحة للحجية، أي: الثابتة بطريق صحيح أو حسن، لا يقدم في ذلك غيرها عليها بحال من الأحوال، انطلاقًا من المسلمات الأربع التي سبق أن ذكرناها.
المصدر الثالث: أقوال الصحابة:
إن أعيانا البيان من القرآن الكريم وثابت السنة المطهرة تطلبناه في أقوال الصحابة عليهم الرضوان، وقد أطلق الحاكم في المستدرك: أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي، له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول في المستدرك: " ليعلم طالب الحديث أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل -عند الشيخين- حديث مسند ".
ولكن قيد ابن الصلاح والنووي وغيرهما هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول، وما لا مجال للرأي فيه، قال ابن الصلاح في مقدمته: " ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا مدخل للرأي فيه؛ كقول جابر - رضي الله عنه -: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ...)، الآية، فأما سائر تفاسير الصحابة التي
258
لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فمعدودة في الموقوفات ".
والحق أن قول الصحابي يكون في حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كان قوله فيما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن قائله معروفًا بالأخذ عن بني إسرائيل، أو كان ولكن مرويه مما لا صلة له بما لدى بني إسرائيل، فالواجب أن نأخذ بهذا القول أخذنا بالمرفوع بلا أدنى فرق؛ انطلاقًا في ذلك من عين المسلمات الأربع التي ينطلق أهل الحق في أخذهم بالمرفوع منها.
فإن لم يتوفر الثابت من مأثور الصحابة بأن اختل فيه الشرطان الآنفان أحدهما أو كلاهما، لم يخل أمر ذلك المأثور عندهم من إحدى أحوال أربع:
أولاها: أن يعرف كونه محلاًّ لإجماع الصحابة وأنه لم يشذ عن القول به أحد منهم.
الثانية: أن يعرف كونه مجالاً لاختلافهم اختلافًا تضل معه الفكرة، ولا يُهتدى فيه إلى الصواب في غالب الظن.
الثالثة: أن يكون كسابقه ولكن مع تبين وجه الصواب منه وترجحه في غالب الظن.
الرابعة: ألا يعرف فيه إجماع منهم ولا اختلاف، وإنما غاية الأمر فيه أنه أثر عن الواحد أو الاثنين مثلا دون أن يبلغنا عن أحد من الصحابة ما يخالفه أو ما يوافقه.
فإن كانت الحال الأولى فيما ثبت من مأثور الصحابة، وجب عند القوم الأخذ بمقتضاه كسوابقه من الكتاب والسنة المرفوعة وما له حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أقوالهم في تفسير القرآن المجيد؛ لأجل الإجماع؛ انطلاقًا في ذلك من مسألتين اثنتين:
أولاهما: ما اشتهر واستفيض عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من عصمة أمته -أي: في كل عصر من عصورها- من أن تجتمع على خطأ أو ضلالة.
الثانية: أن الإجماع كما هو معلوم لابد أن يكون له مستند من الكتاب أو السنة الصالحة للحجية، فالأخذ بالمجمع عليه إذن هو أخذ في ذات الوقت بمستند الإجماع، وانطلاقًا من عين المسلمات المناسبة له، أعني: أنه إن كان مستند إجماع الصحابة هو الكتاب، فالأخذ بمقتضى إجماعهم حينئذ فوق كونه انطلاقًا من المسلمة السابقة هو في ذات الوقت
259
أخذ كذلك بمقتضى الكتاب وانطلاق من عين المسلمات الني أسلفنا لك عند القول فيه، وهكذا فقل في السنة على ما هو في غاية الظهور، فهذه هي الحال الأولى لما ليس له حكم المرفوع من مأثور الصحابة، عليهم الرضوان.
وأما الحال الثانية لذلك وهي: أن يقع منهم الاختلاف فيه على وجه لا يتبين معه الصواب في قوله هذا أو ذاك، فإن أهل السنة لا يلتفتون إلى مأثور الصحابة في مثل هذه الحال؛ لعدم الجدوى بالكلية فيما لا يتبين وجه الصواب فيه كما هو جلي.
وأما الحالان الباقيان لذلك بألا يصل اختلافهم فيه إلى خفاء وجه الصواب منه، أو يثبت عن أحدهم الأثر دون أن يعرف إجماع منهم عليه ولا اختلاف فيه - فإنه يترجح عند أهل السنة في هاتين الحالين الأخذ بمقتضى مأثور الصحابة في تفسيرهم؛ انطلاقًا منهم في ذلك -أيضًا- من مسلمات ثلاث:
إحداها: أن هَؤُلَاءِ الصحابة ينبغي أن يكونوا خير الناس معرفة بهذا التنزيل المجيد من جهة أن أكثرهم عرب خلص؛ فينبغي التحاكم إليهم فيما هو بلسانهم عربي مبين غير ذي عوج.
الثانية: أن أكثرهم كذلك حضروا الوحي، وشهدوا وقائع التنزيل فينبغي أن ينتهي الأمر إليهم فيما يمكن أن يكونوا قد حضروه، وشهدوا وقائعه.
الثالثة: أن لهم فوق هذا كله من الفهم التام والعلم الصحيح ما ليس لسواهم، فهم أحق إذن أن يؤخذ بفهمهم وعلمهم.
ومن هذا يتبين:
أولاً: تفسير الصحابي له حكم المرفوع، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأي فيه مجال، أما ما يكون للرأي فيه مجال، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثانيًا: ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقًا، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.
ثالثًا: ما حكم عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار العلماء:
فذهب فريق: إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به؛ لأنه لما
260
لم يرفعه، علم أنه اجتهد فيه، والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.
وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه؛ لظن سماعهم له من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب؛ لأنهم أدرى الناس بكتاب اللَّه؛ إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبد اللَّه بن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وغيرهم.
قال الزركشي في البرهان: " اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد، والأول: إما أن يرد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو الصحابة، أو رءوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي: فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه.....
وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولاسيما علماؤهم وكبراؤهم: كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد اللَّه بن مسعود، رضي اللَّه عنهم ".
المصدر الرابع: قول التابعي:
اختلف العلماء في تفسير التابعي:
فذهب بعض العلماء إلى أنه من المأثور؛ لأنه تلقاه من الصحابة غالبًا.
ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي، أي: له حكم بقية المفسرين الذين فسروا حسب قواعد اللغة العربية دون التزام بالمأثور.
والخلاصة في هذا الخلاف: أنه إن ثبت عن التابعين فيه -أي التفسير- شيء: فإن
261
أجمعوا عليه أخذوا به؛ لأجل الإجماع: انطلاقًا في ذلك من عين المسلمتين اللتين ذكرناهما بالنسبة لإجماع الصحابة بل قل ذلك بالنسبة لكل إجماع أيضًا.
فإن لم يكن إجماع فإنه ينظر: فإن توفر في قول أحدهم شرطان:
أحدهما: أن يكون له حكم المرفوع المرسل بأن كان فيما ليس للرأي فيه مجال، ولم يكن قائله كذلك معروفًا بالأخذ عن الإسرائيليات.
وثانيهما: أن يكون إمامًا من أئمة التفسير الآخذين لتفسيرهم عن الصحابة: كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، أو يتأيد قوله بمرسل آخر مثلهم أو نحو ذلك.
نقول: إن توفر في قول التابعي هذان الشرطان يترجح عند القوم الأخذ به.
وقد ذهب أكثر المفسرين: إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير؛ لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلا يقول: عرضت المصحف على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا.
ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.
والذي تميل إليه النفس: هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه؛ بأن كان يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.
قال ابن تيمية: قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
هذا هو الأصل في التفسير بالمأثور، وما تحرر منه سبعة أمور:
أولها: ما كان تفسيرًا للقرآن بالقرآن.
262
ثانيها: ما كان تفسيرًا للقرآن بالسنة الصالحة للحجية.
ثالثها: ما كان تفسيرًا بما له حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أقوال الصحابة، عليهم الرضوان.
رابعًا: ما كان تفسيرًا للقرآن بما أجمع عليه الصحابة أو التابعون.
وهذه الألوان الأربعة من التفسير يجب عند أهل الحق أخذها والتعويل عليها على هذا الترتيب، الذي وقفناك عليه، لكن بشرط ألا يتعارض أي منها تعارضًا حقيقيًّا يتعذر فيه الجمع مع المعقول القطعي، فإن وقع مثل ذلك التعارض وجب تأويل المنقول وطرح ظاهره لأجل المعقول في جميع هذه الألوان.
خامسها: ما اختلف فيه الصحابة اختلافًا لا يخفى معه وجه الصواب.
سادسها: ما لم يعرف فيه من مأثور الصحابة كذلك إجماع ولا اختلاف.
سابعها: ما كان له حكم المرفوع المرسل من مأثور التابعين، واعتضد مع ذلك بمرسل آخر أو نحوه من شاهد أو تابع، أو تحقق في قائله شرط الإمامة والأخذ لأغلب تفسيره عن الصحابة.
وهذه الثلاثة الأخيرة يترجح عند القوم الأخذ بها في التفسير ترجحًا فحسب، لكن يشترط ألا تتعارض مع معقول ولو ظنيًّا، وإلا طرحت بالكلية، أو طرحت ظواهرها على أقل تقدير لأجل المعقول أيضًا.
هذا: وقد تدرج التفسير بالمأثور في دورين: دور الرواية، ودور التدوين.
أما في دور الرواية، فإن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدِّينية التي كانت لهذا العهد، والمستوى العقلي الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على اللَّه بأنه عنى باللفظ كذا.
ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير، فروى ما تجمع لديه من ذلك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
263
وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والصحابة.
ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دور التدوين -وهو ما يعنينا في هذا البحث- فكان أول ما دون في التفسير، هو التفسير بالمأثور، على تدرج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا، وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون -على عادتهم- وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير -بمعنى جامعه لا مدونه- الإمام مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة.
وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلاً منظمًا، ولم يفرد بالتدوين، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة والتابعين.
ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأفرد بتآليف خاصة؛ فكان أول ما عرف لنا من ذلك تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ، ثم وجد بعد ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها مُحَمَّد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وجدت بعد ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وتابعيهم: كتفسير ابن جرير الطبري، ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته -وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد- توسعوا في النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقًا به.
كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودًا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته -ممن أفردوا التفسير بالتأليف- رجال من المحدثين بوبوا للتفسير بابًا ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.
ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير بالمأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل؛ مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها؛ لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو
264
كثير في التفسير.
ومن المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصًّا من النصوص، يتلون هذا النص بتفسيره إياه، وينطبع بطابعه الخاص، وفق قدرته الفكرية، وسعة اطلاعه وأفقه العقلي غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير، إن ظهر جليًّا واضحًا في كتب التفسير بالرأي، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور.
أسباب ضعف الرواية بالمأثور:
ذكرنا فيما تقدم أن تفسير بعض القرآن ببعض، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لاشك في قبوله، ولا خلاف في أنه من أعلى مراتب التفسير.
وأما تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه: أولها: ما دسَّه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس، فقد أرادوا هدم هذا الدِّين المتين عن طريق الدس والوضع، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة، وعن طريق الدليل والحجة.
ثانيها: ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجًا لتطرفهم: كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء، ومثل أُولَئِكَ المتزلفين للعباسيين فنسبوا إلى ابن عَبَّاسٍ ما لم تصح نسبته إليه، تملقا واستدرارا لدنياهم.
ثالثها: اختلاط الصحيح بغير الصحيح، ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر؛ مما أدى إلى التباس الحق بالباطل.
زد على ذلك أن هناك من يرى رأيًا يعتمده دون أن يذكر له سندًا، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلاً، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية، ولا من يرجع إليه القول.
رابعها: أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات، ومنها كثير من الخرافات التي تصادم العقيدة الإسلامية، والتي قام الدليل على بطلانها، وهي مما دخل على المسلمين من أهل الكتاب.
265
وكلمة الإنصاف في التفسير بالمأثور أنه نوعان:
أحدهما: ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله، وهذا لا يليق بأحد رده، ولا يجوز إهماله وإغفاله، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدْي القرآن، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن.
ثانيهما: ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها، وهذا يجب رده، ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه على ضلاله وخطئه، حتى لا يغتر به أحد.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أهم كتب التفسير بالمأثور، فقد دونت مؤلفات كثيرة تفسر القرآن بالمأثور، منها:
تفسير الطبري، وتفسير أبي الليث السمرقندي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، وتفسير ابن كثير، وتفسير البغوي، وغيرها.
* * *
266
٢ - منهج التفسير بالرأي
بعد أن تحدثنا عن منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور وضوابطه، ننتقل إلى منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي (الاجتهاد) أو التفسير بالمعقول.
وقد عرف الدكتور الذهبي التفسير بالرأي فقال: يطلق الرأي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه أصحاب الرأي، أي: أصحاب القياس.
والمراد بالرأي هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي: عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر.
والناظر في هذا التعريف يجده -على حد قول المناطقة- غير جامع، وغير مانع؛ ذلك أن التفسير بالرأي أوسع دائرة مما ذكر الدكتور الذهبي؛ إذ هو قسمان: محمود ومذموم، وهو ذكر المحمود دون المذموم.
ومن ثم فإن تعريف التفسير بالرأي هو تفسير القرآن الكريم بمطلق الاجتهاد، سواء توافر لهذا الاجتهاد شرطه أم لا، أو أن يكون مصحوبا بحسن قصد أم لا، إلى آخر ما هنالك من الاحتمالات التي تعتور الاجتهاد.
موقف العلماء من التفسير بالرأي:
اتفق العلماء المخلصون على أن تفسير القرآن بالرأي المذموم ممتنع وحرام، بل كفر صريح إن تعمد فاعله سوء القصد؛ لأنه كذب متعمد على اللَّه تعالى وحكم عليه بما يعلم صاحبه أنه خلاف مراده تعالى، ولا نحسب أن أحدًا من أهل الإسلام يمكن أن يمتري في هذه القضية.
وإنما وقع الخلاف بين العلماء في أنه: هل كل تفسير للقرآن بالرأي يعتبر مذمومًا، وإن بلغ صاحبه من حسن القصد ورسوخ القدم في الاجتهاد وعلو المرتبة في العلم ما بلغ، أو أن بعض ذلك محمود وبعضه مذموم؟
ذكر الدكتور الذهبي الخلاف فقال: اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير
267
القرآن بالرأي، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين:
فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة - رضي اللَّه عنهم -، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسًا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده.
ثم يقول: " ولو رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المتشددين في التفسير، وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المجوزين للتفسير بالرأي، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لابد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلاً دقيقا - يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي.
ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله: الرأي ضربان:
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما؛ لأمور:
أحدها: أن الكتاب لابد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، فذلك غير ممكن؛ فلابد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مبينا ذلك كله بالتوقيف.
فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه - عليه السلام - لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث؛ أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول
268
بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من جهتين:
من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلاً.
ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل فاللازم عنه مثله.
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان مذموما في القياس -أيضًا- لأنه تقول على الله بغير برهان؛ فيرجع إلى الكذب على اللَّه تعالى، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء؛ كما روي عن ابن مسعود: ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب اللَّه وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم التبدع، وإياكم التنطع وعليكم بالعتيق.
وعن عمر بن الخطاب: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غيره تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه.
وعن عمر -أيضًا-: ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله.
وليس الأمر على ما ذهب إليه الدكتور الذهبي ومن وافقه، فالخلاف على حقيقته؛ ذلك أن ما ذكره القاسمي يتجه إلى قسمين متضادين من الرأي: قسم محمود، وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، وقسم مذموم وهو غير الجاري على موافقة كلام العربية وغير الجاري على الأدلة الشرعية.
فهذا الرأي المذموم من غير إشكال ممنوع ومحرم. وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في النوع الأول المحمود.
ويعضد هذا ما ساقه أحد الباحثين من أمور أربعة:
أحدها: أن مسألة الرأي الفاسد المبني على الهوى والتشهي والفاقد لتحقق شرط
الاجتهاد وتوفر ملكاته مما يعلم لكل أحد بالضرورة -ولو كان من أصاغر عوام المسلمين
269
فضلاً عن أكابر خواصهم وعلمائهم- ضرورة امتناعه فيبعد جدَّا بل لا يكاد يتصور أن ينفرد المانعون فيما نحن بصدده هنا بإقامة الأدلة على امتناع هذا الرأي المذموم.
وكذلك يبعد أن يخفى أمر ذلك على المجيزين حتى يشتغلوا بنقض أدلة هَؤُلَاءِ ثم معارضتها بما يثبت نقيضها على ما سترى إن شاء اللَّه تعالى، كيف والكل يشتركون ويتفقون على امتناع الرأي المذموم كما قلنا.
ثانيها: أنا لا ندري كيف ظهر للدكتور الذهبي ما خفي على كافة فحول العلماء من قبله حتى عدوا الخلاف بين الفريقين حقيقيًّا وأوردوه جميعا في كتبهم على هذا النحو واشتغلوا ببيان وجه الحق فيه.
ثالثها: أن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة أبين صراحة في قصد كل تفسير بالرأي، ناصة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب إلى آخر ذلك، فليس له أن يفسر القرآن برأيه وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب.
رابعها: أن كلًّا من أدلة المانعين وردود المجيزين على هذه الأدلة ظاهرة أتم ظهور في أن قصد المانعين إنما هو التعميم لكل رأي، وأن قصد المجيزين هو إبطال ذلك التعميم بإثبات التخصص على حد ما هو معلوم لدى المناطقة وأهل آداب البحث والمناظرة عن كون مناقصة السلب الكلي هي بالإيجاب الجزئي كذلك فكيف كان يصلح من هَؤُلَاءِ المانعين هذا التعميم لو أن قصدهم بالفعل هو إرادة التخصيص بالرأي الفاسد.
ويهمنا في هذا المقام دون خوض في عرض الخلاف بين المانعين والمجوزين أن نؤكد على ضعف القول بمنع تفسير القرآن بالرأي على الإطلاق، وأن ما ساقه أصحاب هذا القول لتعضيد قولهم ما هو إلا شبهات أشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الحق عنده يدحض هذه الشبهات، ويكشف وجه الحق في المسألة، وهو أن تفسير القرآن بالرأي جائز بشروطه الضابطة.
فهناك أمور -ذكرها الزركشي- يجب استناد المفسر بالرأي إليها، فقال: " للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأولى: النقل عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع التحرز عن الضعيف والموضوع.
270
الثانية: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقًا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.
الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل ".
فمن فسر القرآن برأيه، أي: باجتهاده، ملتزمًا الوقوف عند هذه المآخذ معتمدًا عليها فيما يرى من معاني كتاب اللَّه، كان تفسيره سائغًا جائزًا خليقًا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها، كان تفسيره ساقطًا مرذولاً خليقًا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم ".
ثم إن هناك أمورًا أخرى فصل فيها القول الإمام السيوطي يجب أن يفعلها المفسر بالرأي، وأمورًا أخرى عليه أن يدعها، فقد قال السيوطي: قال العلماء: يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض، ومن كون المفسر فيه زيغ عن المعنى وعدول عن طريقه.
وعليه مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام وأن يؤاخي بين المفردات.
ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فيتكلم عليها من جهة اللغة ثم التصريف ثم الاشتقاق، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب فيبدأ بالإعراب ثم بما يليق بالمعاني ثم البيان ثم البديع ثم يبين المعنى المراد ثم الاستنباط ثم الإشارات.
وقال الزركشي في أوائل البرهان: قد جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر أسباب النزول ووقع البحث في أنه أيهما أولى بالبداءة به بتقدم السبب على المسبب أو المناسبة؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة على النزول.
271
قال: والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على سبب النزول كآية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).
فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم المناسبة.
وقال في موضع آخر: جرت عادة المفسرين ممن ذكر فضائل القرآن أن يذكرها في أول كل سورة؛ لما فيها من الترغيب والحث على حفظها، إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها.
قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني: سألت الزمخشري عن العلة في ذلك فقال: لأنها صفات لها والصفة تستدعي تقديم الموصوف، وكثيرا ما يقع في كتب التفسير " حكى اللَّه كذا " فينبغي تجنبه.
قال الإمام أبو نصر القشيري في المرشد: قال معظم أئمتنا: لا يقال: " كلام الله محكي " ولا يقال: " حكى اللَّه "؛ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل.
وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار، وكثيرًا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف، وعلى المفسر أن يتجنب ادعاء التكرار ما أمكنه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين؛ نحو: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) (صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، وأشباه ذلك - أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدًا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك. انتهى.
وقال الزركشي في البرهان: ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز.
وقال في موضع آخر: على المفسر مراعاة مجازي الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف والقطع بعدم الترادف ما أمكن؛ فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد؛ ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد. انتهى.
وقال أبو حيان: كثيرًا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو ودلائل مسائل أصول الفقه ودلائل مسائل الفقه ودلائل أصول الدِّين وكل ذلك مقرر في تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.
272
وكذلك -أيضًا- ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب بينها وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير.
" وقال السيوطي في موضع آخر: وقال ابن النقيب: جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:
أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللَّه.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تابعًا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفًا.
الرابع: التفسير بأن مراد اللَّه كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
ثم قال: واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام:
الأول: علم لم يطلع اللَّه عليه أحدًا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعًا.
الثاني: ما أطلع اللَّه عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو لمن أذن له، قال: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من القسم الأول.
الثالث: علوم علمها اللَّه نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وهو أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هو كائن من الحوادث وأمور الحشر والميعاد.
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهو قسمان: قسم اختلفوا في جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات.
وقسم اتفقوا عليه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية؛ لأن مبناها على الأقيسة.
وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه
273
واستخراجها لمن له أهلية.
ويمكن أن نستخلص من هذين النصين عدة أمور هي:
أولًا: مطابقة التفسير للمفسر مطابقة تامة، بحيث لا يقع له نقص من معناه ومقاصده، ولا زيادة عليه بما ليس له به تعلق وثيق.
ثانيًا: حمل الكلام على ما يتعين أو يترجح على أقل تقدير أنه المعنى المراد منه حقيقيًّا كان ذلك المشي أو مجازيًّا، في التركيب كان المجاز أو في المفردات.
ثالثًا: مراعاة سياق الكلام -سوابقه ولواحقه- بحيث تتآخى وتترابط كافة أجزائه، ويأخذ أوله بحجزه، وفي ذلك لابد من تجلية المناسبات بين الآيات، بل بين السور كذلك.
رابعًا: تجلية سبب النزول، وعقد الصلة الوثيقة بينه وبين المنزل.
خامسًا: تحقيق القول أولاً في بيان كل ما يتعلق بمفردات النظم الكريم، ثم الإتيان بعد ذلك على كل ما تحتاج إليه التراكيب من العلوم المختلفة ذات العلاقة بالنص.
سادسًا: يجب على المفسر اجتناب الهجوم على التفسير من غير أخذ الأهبة له بكافة ما يلزمه من الصفات والعلوم.
سابعًا: اجتناب الخوض في بيان ما استأثر اللَّه بعلمه.
ثامنًا: اجتناب الهوى والقول في القرآن بمجرد الاستحسان من غير برهان.
تاسعًا: عدم القطع بأن مراد اللَّه من النص كذا من غير دليل يستوجب مثل هذا القطع.
هذا، ويحتاج المفسر بالرأي إلى خمسة عشر علمًا عددها السيوطي في مجموعات هي:
المجموعة الأولى: علوم اللغة وما يتعلق بالنحو والصرف والاشتقاق، وهو ضروري للمفسر؛ إذ كيف يمكن فهم الآية بدون معرفة المفردات والتراكيب، وهل باستطاعة أحد أن يفسر قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بدون أن يعرف المعنى اللغوي للإيلاء والتربص والفيء؟
ولهذا قال الإمام مالك: " لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب، يفسر كتاب اللَّه إلا
274
جعلته نكالاً ".
فعلم النحو ضروري للمفسر؛ لأن المعنى يتغير بتغير الحركات تغيرًا كبيرًا. وعلم الصرف والاشتقاق ضروريان -أيضًا- للمفسر؛ حتى لا يخبط الإنسان خبط عشواء.
المجموعة الثانية: علوم البلاغة " المعاني -البيان- البديع " وهي ضرورية لمن أراد تفسير الكتاب العزيز؛ لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم.
المجموعة الثالثة: أصول الفقه، وأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة علم القراءات، وهي كلها مما يحتاج إليه المفسر بالرأي؛ حتى لا يخطئ الفهم، ولا تزل قدمه بسبب الجهل بهذه الأمور الضرورية.
وأخيرًا: علم الموهبة، ويقصد به العلم اللدني الرباني (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) الذي يورثه اللَّه تعالى لمن عمل بما علم، ويفتح قلبه لفهم أسراره، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، فهو ثمرة التقوى والإخلاص، ولا ينال هذا العلم من كان في قلبه بدعة أو كبر أو حب للدنيا أو ميل إلى المعاصي، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وما أجمل قول الشافعي رحمه اللَّه:
شكوت إلي وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور اللَّه لا يهدي لعاصي
قال السيوطي: " ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول: هذا شيء ليس من قدرة الإنسان، وليس كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد.
ثم قال: " علوم القرآن وما يستنبط منه بحر ولا ساحل له، فهذه العلوم التي ذكرناها هي كالآلة للمفسر، ولا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها كان مفسرًا بالرأي المنهي عنه ".
275
منهج المفسرين بالرأي:
قسم الشيخ مُحَمَّد عبده التفسير إلى مرتبتين: مرتبة عليا، ومرتبة دنيا.
ومن حاول المرتبة العليا من مراتب التفسير بالرأي، فعليه أن يأخذ حذره، وأن يتذرع بكل العلوم التي أشرنا إليها؛ ليكون قد أصاب المراد أو كاد، ووجب عليه أن ينهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي:
أولا: أن يطلب المعنى من القرآن، فإن لم يجده طلبه من السنة؛ لأنها شارحة للقرآن، فإن أعياه الطلب رجع إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله، فوق ما امتازوا به من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح، فإن عجز عن هذا كله ولم يظفر بشيء من تلك المراجع الأولى للتفسير، فيتبع طريق الاجتهاد والرأي.
ثانيًا: اتباع طريق الاجتهاد والعقل باتباع الخطوات الآتية:
الأولى: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعت في القرآن عن طريق استعمالات أهل اللغة من نحو وصرف واشتقاق، مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن.
الثانية: إرداف ذلك بالكلام عن التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه.
الثالثة: تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي؛ بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.
الرابعة: مراعاة التناسب بين الآيات، فيبين وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه، وإنما هو آيات يأخذ بعضها برقاب بعض.
الخامسة: ملاحظة أسباب النزول، فإن لسبب النزول دورًا كبيرًا في بيان المعنى المراد.
السادسة: مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام.
السابعة: مراعاة مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة.
الثامنة: مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون، وعلم أحوال البشر، واختلاف أحوالهم: من ضعف وقوة، وعز وذل، وإيمان وكفر.
276
التاسعة: مطابقة التفسير لما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في هديه وسيرته؛ لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته.
العاشرة: رعاية قانون الترجيح والاحتمال، وذلك أن اللفظ قد يحتمل معنيين فصاعدا، فماذا يكون العمل؟
نقل السيوطي عن الزركشي في هذه المسألة قولا من أجمع الأقوال، فقال:
" قال الزركشي - رحمه اللَّه -: كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي.
وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية، كما في: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
ولو كانت في أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى.
وإن اتفقا في ذلك -أيضًا-: فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد: كالقرء للحيض والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد اللَّه تعالى في حقه، وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكمًا؟ أو بالأخف؟ أقوال.
وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما ".
ونستجلي الأمر بوضوح أكثر عند الرجوع إلى نص الزركشي الأصلي، ففي بيانه - رحمه اللَّه - لأقسام التفسير، وأنها أربعة أقسام، قال في القسم الرابع:
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه، فالمفسر ناقل والمؤول، مستنبط وذلك استنباط الأحكام
277
وبيان المجمل وتخصيص العموم.
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه، وعلى ما تقدم بيانه فكل لفظ احتمل معنيين، فهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.
الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين، هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينة علم إرادة اللغوية؛ نحو قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى؛ لأن الشرع ألزم.
الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة، بل كلا المعنيين استعملا فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء، وهذا -أيضًا- على ضربين:
أحدهما: أن يتنافيا اجتماعًا، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء، حقيقة في الحيض والطهر، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه كان هو مراد اللَّه في حقه، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد اللَّه تعالى في حقه؛ لأنه نتيجة اجتهاده، وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال: يأخذ بأعظمهما حكمًا ولا يبعد اطراد وجه ثالث، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين.
الضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعًا، فيجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما، وهذا -أيضًا- ضربان:
أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر؛ فيتعين المدلول عليه للإرادة.
الثاني: ألا تقتضي بطلانه، وهذا اختلف العلماء فيه.
278
فمنهم من قال: يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادًا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر، بل يجوز أن يكون مرادًا -أيضًا- وإن لم يدل عليه دليل من خارج؛ لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه، وإن ترجح أحدهها بدليل من خارج.
ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج أثبت حكمًا من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر.
فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ. المحتمل، واللَّه أعلم.
إذا تقرر ذلك فينزل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " على قسمين من هذه الأربعة:
أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.
الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيها، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد، ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطًا، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول: يحتمل كذا، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند اللَّه.
وهذا القانون له نظائر أخرى غير ما ذكر الزركشي، منها:
أولًا: يجب حمل اللفظ إذا دار بين كونه حقيقة أو مجازًا مع الاحتمال على حقيقته.
ثانيًا: إذا دار الأمر في اللفظ بين جريانه على عمومه أو تخصيصه، فإنه يحمل على عمومه؛ لأن الأصل بقاء العموم.
ثالثًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مشتركًا أو مفردًا فإنه يحمل على إفراده؛ كالنكاح فإنه مشترك بين الوطء وسببه الذي هو العقد فيحمل على الوطء دون العقد أو على العقد دون الوطء لا على الاشتراك.
279
رابعًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مضمرًا أو مستقلاً فإنه يحمل على استقلاله وهو عدم التقدير.
خامسًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مقيدًا أو مطلقًا فإنه يحمل على إطلاقه.
سادسًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون زائدًا أو متأصلاً فإنه يحمل على تأصيله.
سابعًا: إذا دار الأمر بين أن يكون اللفظ مؤخرًا أو مقدمًا فإنه يحمل على تقديمه.
ثامنًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مؤكدًا أو مؤسسًا فإنه يحمل على تأسيسه... وهكذا.
وبالجملة فإن على من فسر القرآن برأيه لكي يكون تفسيره محمودًا أن يتقن هذا القانون أيما إتقان، وبقدر ما يقع له من الانحراف عنه بقدر ما يكون تفسيره دخيلاً، والمعصوم من عصم اللَّه.
ويبقى أن نشير إلى بعض كتب التفسير بالرأي، وهي: تفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير أبي السعود، وتفسير النيسابوري، وتفسير الآلوسي، وتفسير الخطيب، وتفسير الخازن.
* * *
280
٣ - منهج التفسير الإشاري
يقصد بالتفسير الإشاري: تأويل القرآن على خلاف ظاهره؛ لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين باللَّه من أرباب، السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور اللَّه بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم، وانقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة.
وقد وقع خلاف بين العلماء حول التفسير الإشاري: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من عده من كمال الإيمان، ومحض العرفان، ومنهم من اعتبره زيغًا وضلالاً وانحرافًا عن دين اللَّه تبارك وتعالى.
والواقع أن الموضوع دقيق، يحتاج إلى بصيرة وروية وغوص في أعماق الحقيقة؛ ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية؛ فيكون ذلك زندقة وإلحادًا، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يحيط به بشر؛ لأنه كلام خالق القوى، وأن لكلامه تعالى مفاهيم وأسرارًا، ونكتًا ودقائق، وعجائب لا تنقضي، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان، كما قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء، وجانبوا به السفهاء ".
وإذا أردنا معرفة الحق في هذا الموضوع، فعلينا أن ننقل شيئًا من أقوال العلماء؛ فقد قال الزركشي: " كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)، إن المراد النفس، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه ".
وقال ابن الصلاح في فتاويه: " وجدت عند الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه
281
قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر ".
وقال النسفي في عقائده: " النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطل إلحاد ".
وقال التفتازاني: " سميت الملاحدة باطنية؛ لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية ".
قال: " وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فنهيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان " محض العرفان ".
ونص التفتازاني هذا واضح الدلالة في بيان الفرق بين التفسير الإشاري الذي لا ينكر متعاطيه ظواهر النصوص التي هي أدعى إلى فهم أسرار القرآن، وبين تفسير الباطنية الملاحدة الذين يريدون هدم الشريعة.
وينقل السيوطي عن ابن عطاء اللَّه تحديدًا للتفسير الإشاري، فقال: " اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام اللَّه وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح اللَّه قلبه، وقد جاء في الحديث " لكل آية ظهر وبطن ".
فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذه إحالة لكلام اللَّه وكلام رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن اللَّه ما ألهمهم ".
وأقول: هذا كلام الإنصاف، فقد وضع الحق في موضعه، وجمع بين النصوص الظاهرة والمعاني الخفية الواردة التي تشرق على قلب المؤمن العارف باللَّه، كما كان الحال مع الصديق وعمر، ولا عجب فاللَّه تعالى يعطي الحكمة من يشاء، ويضع الفهم
282
فيمن أراد، وهذا هو القرآن الكريم يخبرنا عن داود وسليمان في أمر عرض عليهما، فحكم كل واحد منهما بحكم يخالف الآخر، فيقول: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
ونستطيع القول: إن التفسير الإشاري لا يحكمه منهج معين، لكن له شروطًا لابد من توافرها حتى يكون تفسيرًا مقبولاً، وهي خمسة شروط كالآتي:
أولاً: عدم التنافي مع المعنى الظاهر في النظم الكريم.
ثانيًا: ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر.
ثالثًا: ألا يكون تأويلاً بعيدًا سخيفًا؛ كتفسير بعضهم قول اللَّه تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بجعل كلمة (لَمَعَ) ماضيًا، وكلمة (الْمُحْسِنِينَ) مفعوله، ومثل ذلك تفسير الباطنية لقوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) أي: أن الإمام عليًّا ووث النبي في علمه.
رابعًا: ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي، بل يكون له شاهد شرعي يؤيده.
خامسًا: ألا يكون فيه تشويه على أفهام الناس.
وبدون هذه الشروط لا يقبل التفسير الإشاري، ويكون عند ذلك من قبيل التفسير بالهوى والرأي المنهي عنه.
وقبل أن نغادر إلى الحديث عن المنهج الحديث في التفسير، نشير إلى أبرز التفاسير الإشارية، وهي: تفسير النيسابوري، وتفسير روح المعاني للآلوسي، وتفسير التستري، وتفسير ابن عربي الفيلسوف، وليس ابن العربي الفقيه القرطبي.
وأخيرا أنوه بأمر مهم، وهو تحذير المسلمين من التفاسير الإشارية وعدم الاعتماد عليها دون التفاسير الأخرى، وهذا ما حذر منه الشيخ الزرقاني حين قال:
" لعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله، ما هو إلا سوانح وواردات، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح؛ فلم يتقيدوا بتكاليف
283
الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية: كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والأدهى من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية، واتصلوا باللَّه اتصالاً أسقط عنهم التكليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب، وهذا -لعمر اللَّه- هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام، كيما يهدموا التشريع من أصوله، ويأتوا بنيانه من قواعده: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ".
إذن يجب عدم الانسياق وراء الشطحات والتخييلات التي تخرج بالنص القرآني عن مراده ومعناه المتوخى، واللَّه أعلم.
هذه هي المناهج التفسيرية العامة التي اعتمدها القدماء واستخدموها في تفسيراتهم بدرجات متفاوتة، فقد اعتمد بعض المفسرين منهج التفسير بالمأثور، وبعضهم اعتمد منهج التفسير بالرأي، وبعضهم فسر القرآن تفسيرًا إشاريًّا، وبعضهم جمع بين منهجين أو أكثر، وكل مفسر -في النهاية- له منهجه الخاص الذي يستند إلى المنهج العام الذي ينتمي إليه، سواء كان منهج التفسير بالمأثور أو بالرأي أو الإشاري.
ثانيًا: منهج المدرسة الحديثة في التفسير:
تبين لنا من خلال ما سبق أن التفسير في القديم اعتمد عدة مناهج، فنشأ التفسير شرحًا للفظ غامض أو توضيحًا لمعنى بعيد، ثم تطور إلى تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي.
وفي عهد التقليد والجمود تأثر التفسير بثقافة المفسر، وليس ذلك عيبًا بذاته، ولكن العيب أن يتحول التفسير إلى كتاب في القواعد والإعراب، أو البلاغة والبيان، أو آراء الفرق والرد عليها.
قال السيد مُحَمَّد رشيد رضا في مقدمة تفسير المنار:
" كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية وهدايته السامية، فمنها ما شغله عن القرآن بمباحث الإعراب، وقواعد النحو، ونكت المعاني، ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين وتعصب
284
الفرق والمذاهب بعضها على بعض، ومنها ما يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازي صارفًا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها ".
ولما جاء عهد النهضة ظهر أعلام جددوا في علوم الأمة، فكانوا أساس نهضة الأمة ونهضة علومها، ومنها التفسير، فوجدنا: السيد جمال الدِّين الأفغاني، وتلميذه الإمام مُحَمَّد عبده، ومن بعدهما السيد مُحَمَّد رشيد رضا وسيد قطب وكان للأخيرين إسهام في مجال التفسير، أفاد منه المفسرون من بعدهما؛ حيث أعادا للتفسير نضارته وقوته وروحه، ولكنهما سارا في إطار المناهج المأثورة عن السلف في التفسير، وتجديدهما ليس في المنهج بقدر ما هو تجديد أملته روح العصر وتطورات الحياة إبان النهضة، ثم ثقافتهما وشخصيتهما الناقدة الممحصة.
وإذا كان جمال الدِّين الأفغاني وتلاميذه ومن على شاكلتهم حاولوا النهضة من خلال العودة بالأمة إلى منابعها الصافية مع مراعاة ظروف الحياة ومقتضيات واقعهم المعيش، سواء في علم التفسير أو غيره، فإن هناك مدرسة فكرية حديثة دعت إلى تبني منهجية جديدة تخالف نهج القدماء في تفسير القرآن الكريم، هذه المنهجية تدعو إلى أمرين:
الأول: تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية، بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الأولى.
الثاني: الأخذ بمناهج جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية، العالمية الإسلامية الثانية.
وقد حمل لواء هذه الدعوة مجموعة من الباحثين، أبرزهم:
١ - الدكتور مُحَمَّد شحرور في كتابه: " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " الذي حاول فيه تناول القرآن الكريم بمناهج وأدوات معاصرة، مثل: المنهج البنيوي، والمنهج الجدلي.
٢ - الدكتور مصطفى محمود في كتابه: " القرآن محاولة لفهم عصري "، وهو مجموعة مقالات تحمل آراء غريبة، وهي لا تتسم بالشمولية، حاول من خلالها تطبيق بعض النظريات العلمية على النص القرآني.
285
٣ - الأستاذ جمال البنا في كتابه: " نحو فقه جديد " الذي قسمه إلى بابين:
أ - منطلقات ومفاهيم.
ب - فهم الخطاب القرآني، قدم فيه الكاتب ما يراه فهما جديدًا للقرآن على أنه معجزة خالدة، ويتمثل إعجازه في نظمه الموسيقي، وتصويره الفني، ومعالجته السيكولوجية للإنسان ثم قيمه ومبادئه السامية.
٤ - الأستاذ ماهر المنجد في كتابه: " الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن: دراسة نقدية "، وهو دراسة نقدية تحليلية لكتاب: الكتاب والقرآن لمُحَمَّد شحرور، حاول فيه صاحبه ضبط القواعد المنهجية التي سار عليها مُحَمَّد شحرور، وإظهار قصوره، والخلفية الفكرية التي استند إليها.
٥ - الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه: " الفرقان والقرآن " الذي حاول فيه تقديم قراءة إسلامية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية، وتعرض فيه لمعظم الكتابات الحديثة في هذا الشأن بدءا من جمال الدِّين الأفغاني، وانتهاء بمُحَمَّد شحرور.
٦ - أبو القاسم حاج حمد في كتابيه: " العالمية الإسلامية الثانية ومنهجية القرآن المعرفية "، فلقد حاول فيهما الباحث تقديم منهجية جديدة ويمثلان -وبخاصة الكتاب الأول- أهم الخطوط الرئيسة للمنهج الجديد المقترح في تفسير القرآن الكريم.
وإذا أردنا التعرف على المدرسة الحديثة ومنهجها في التفسير فلابد من عرض المسائل الآتية:
المناهج الحديثة وأدوات المدرسة الحديثة في التفسير:
اعتمد أصحاب المدرسة الحديثة في تفسيرهم للقرآن الكريم على بعض المناهج الحديثة، أهمها ما يلي:
١ - المنهج التحليلي:
يزعم بعض أقطاب المدرسة الحديثة في التفسير أنهم يتميزون بالمنهج التحليلي عن القدماء، يقول أبو القاسم حاج في كتابه العالمية الإسلامية الثانية: " لماذا خصنا اللَّه في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولماذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر: لماذا نلجأ إلى الوحدة الناظمة في وقت لجئوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة، فالفكر التحليلي قد يبنى حضاريًّا في عصرنا الراهن على معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى
286
الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي ".
ومن خلال هذا النص يتبين أن التحليل هو:
معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي.
والتحليل على هذا النحو مضر بفهم النص وتفسيره سواء كان نصًّا قرآنيَّا أو غيره، أشار إلى ذلك بعض النقاد الغربيين في حديثهم عن تطبيق منهج التحليل " ويسمونه التفكيك " في الشعر حيث إن النقاد الجدد في أمريكا أقاموا مماراساتهم النقدية على أساس الشكل العضوي، وهي الفكرة القائلة: إن للقصيدة وحدة شكلية تماثل وحدة الشكل الطبيعي، ولكن بدلًا من أن يكشف هَؤُلَاءِ النقاد في الشعر وحدة العالم الطبيعي وتلاحمها، فإنهم اكتشفوا معاني متعددة الأوجه، وفي نهاية المطاف تحول النقد الذي يبحث عن نقد للالتباس والتعدد في المعنى... إلى لغة ملتبسة مناقصة لفكرتهم الأصلية الكلية لوحدة الموضوع.
ومن خلال هذا الكلام نتبين أن فكرة معالجة الكثرة ارتدادًا إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها بإطارها الموضوعي، فكرة مستقاة من النقد الغربي، وهي فكرة منتقصة من قبل الغربيين أنفسهم، ذلك أنه كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة: " إن التفكيكية، كممارسة نقدية أدبية، تفكك النص لتكشف أن ما يبدو عملاً متناسقًا وبلا تناقضات، وهو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية، إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك، غير متناقض ومفهوم يمكن تفسيره بشكل واضح ".
٢ - المنهج البنيوي " الألسنية المعاصرة ":
والمنهج البنيوي: رؤية نقدية حديثة، تعد النص الأدبي تشكيلًا لغويًّا فنيًّا يتميز عن
287
اللغة العادية بكون المعاني المباشرة للغة تتحول فيه إلى رموز متعددة الدلالات.
وقد تبنت المدرسة الحديثة في التفسير هذا المنهج " فأخذت بتطبيق المنهج على نماذج من هذه الإشكاليات، ومن بينها -على سبيل المثال- ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن، وتحديد العائد المعرفي بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم "، وذلك انطلاقًا من " أن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح ".
ولكن " إذا سلمنا بكفاءة المنهج البنيوي في تقديم تحليل منهجي علمي للغة، فمن الصعب التسليم بكفاءته في تحليل النصوص الأدبية وإنارتها وتحقيق المعنى.
إن البنيوية الأدبية، شأنها في ذلك شأن البنيوية اللغوية، تتبع منهجا معكوسًا عند مقاربتها للنص الأدبي، فالمنهج لا يبدأ بالجزئيات وتحليلها بغية الوصول إلى كليات أو أنظمة، ولكن يبدأ بالنظام الذي يحكم الإبداع في النوع؛ لينتقل إلى الدرجة الأدنى على سلم التحليل وهو نسق النص، ثم الوحدات التي تليها العناصر، وهي أصغر مكونات النص، وقد يسترجع الناقد البنيوي بعد ذلك خطواته متحركًا من أصغر العناصر تجاه النسق أو النظام العام ليقارن بين الخاص (النص) والعام (النظام)... والتحليل البنيوي على هذا الأساس، كما يقول بعض الرافضين للمنهج البنيوي، يشبه تسليط الأشعة السينية (أشعة) على الجسم لتصل إلى العظام متخطية بل متجاهلة لطبقات كثيرة قبل أن تصل إلى العظام.
وهناك شبه إجماع بين الرافضين للمنهج البنيوي، بل بعض البنيويين أنفسهم، على أن تطبيق النموذج اللغوي على النص الأدبي لا يحقق المعنى " فإذا كان هذا حال النص الأدبي عمومًا مع البنيوية، فما بالنا بالنص القرآني؟!.
٣ - المنهج التاريخي:
تبنى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة منهجًا ثالثًا هو المنهج التاريخي.
288
ويعنون به فهم التاريخ فهمًا إسلاميًّا، منطلقًا من علاقة الغيب المدروسة والمحققة بحركة الواقع البشري، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم - عليه السلام - وإلى عصرنا الحاضر.
وأصحاب هذه المدرسة يأخذون في تفسيرهم القرآن الكريم بالغائية، ولكن يخالفون في الوقت نفسه منطق الفلاسفة الغائيين، فالغائية -عند أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة- وسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريًّا، فهم لا يقولون بالغاية المسبقة.
وقد نبه أبو القاسم حاج إلى أن " مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي، كما هو الحال في النظرة الغربية، وإنما يقوم عبر أشكال دائرية، بدءًا بالشكل الفردي، ثم الشكل القومي، وانتهاء بالشكل العالمي، وبعبارة أوضح فإن هناك جدلاً بين الإنسان والكون، يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث: مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان، يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث: الطور العائلي، الطور القومي، الطور العالمي، وهي تماثل ثلاثية الخلق في الرحم ".
وبناء على تبني المدرسة الفكرية المعاصرة لهذه المناهج، يمكننا أن نبرز الآتي:
١ - ترى المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تفترق عن المدرسة التفسيرية التقليدية في المنهج المتبع من حيث إن أسلوب الأولى يعتمد على " التحليل " عوضًا عن " التفسير "، وعلى " التبيين المنهجي " في إطار الوحدة القرآنية بطرح " الجزء " في إطار " الكل " عوضًا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه.
ونقول: إن اعتماد هذه المدرسة " التحليل " دون " التفسير " لا يمكن أن يطبق تطبيقًا كاملاً في فهم القرآن الكريم؛ وذلك لأمور منها:
أولًا: المعنى اللغوي والاصطلاحي يؤكد ذلك؛ فالتحليل -في اللغة- من حل العقدة
289
يحلها حلاًّ، فتحها ونقضها فانحلت، والحل: حل العقدة.
والتحليل اصطلاحًا عكس التركيب، وهو إرجاع الكل إلى أجزائه، فإذا تعلق بشيء مادي سمي تحليلاً ماديًّا، وإذا تعلق بشيء ذهني سمي تحليلاً خياليًّا.
وينقسم من جهة أخرى إلى:
تحليل تجريبي، ويمر بثلاث مراحل: ملاحظة، تجربة، استقراء.
وتحليل عقلي أو رياضي، وهو يتألف من مجموعة قضايا، أولها القضية المراد إثباتها، وآخرها القضية المعلومة؛ بحيث إذا ذهبت من الأولى " أي القضية المراد إثباتها " إلى الأخيرة " أي القضية المعلومة " كانت كل قضية نتيجة ضرورية للتي بعدها، وكانت القضية الأولى نتيجة للقضية الأخيرة صادقة مثلها.
فالمفهوم الأول يتعلق بالأمور المادية الخاضعة للتجربة، والقرآن ليس خاضعًا للتجربة.
والمفهوم الثاني يحتاج إلى قضية معلومة ينطلق منها في إثبات أخرى مجهولة؛ فإذا قلنا بهذا في حق القرآن، أصبحنا في أحسن الحالات نوظف القرآن في إثبات تصوراتنا المسبقة، ونستغله في نشر " أيديولوجياتنا " وهذا مما لا يرتضيه أحد من المسلمين.
وإذا اعتبرنا المنهج التحليلي الذي تنادي به المدرسة الحديثة هو جمع الآيات المتعلقة بموضوع ما ودراستها دراسة وافية، فإن المدرسة التقليدية أولى بأن تنسب إلى هذا المنهج، فقد استخدمت ما سبق أن أشرنا إليه في الفصل الأول مما يسمى بالتفسير الموضوعي.
ثانيًا: تدعي المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تأخذ القرآن في وحدته الكلية، وأنها تتفوق بذلك على المدرسة التقليدية، وهو ادعاء يعوزه الدليل؛ لأن المدرسة التقليدية سعت في كل مراحلها إلى البحث عن الوحدة الكلية للقرآن الكريم، وأكبر دليل على ذلك تبنيها -كما سبق بيانه- مبدأ تفسير القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن بحث عن الوحدة الموضوعية في القرآن، وقد ألف العلماء الأقدمون مؤلفات بهذا الشأن، مثل:
290
" الأشباه والنظائر " لمقاتل بن سليمان البلخي، المتوفى سنة: ١٥٠ هـ، و " نزهة الأعين النواظر في علم الأشباه والنظائر " لابن الجوزي، المتوفى سنة: ٥٩٧ هـ، و " أحكام القرآن " لأبي بكر الجصاص المتوفى سنة: ٣٧٠ هـ، و " أحكام القرآن " لابن العربي المالكي، المتوفى سنة: ٥٤٣ هـ... وهكذا.
ثالثًا: زعم أصحاب المدرسة الحديثة أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح؛ بحيث لا يتغير معناها بتغير موقعها، فأطلقوا القول بمخالفة ألفاظ القرآن لألفاظ اللغة العربية المعهودة؛ ومن ثم تقاعسوا في فهم اللغة وتحصيلها، وهم بذلك يبعدون عن منهج القدماء في تركيزهم على اللغة وضرورتها في التفسير، بل جعلوا إتقانها شرطًا لفهم كتاب اللَّه.
بل إنهم يبعدون -أيضًا- عن المنهج البنيوي الذي يزعمون تبنيه، متجاهلين ما توصلت إليه المدارس اللسانية الحديثة من أن هناك فرقًا بين اللسان، والكلام فاللسان -كما عرفه دوسوسير- " هو نتاج اجتماعي للملكة اللغوية، والكلام هو فعل فردي صادر عن الإرادة الفطنة ".
وعليه، فليس هناك فرق بين لسان القرآن " المفردات التي صيغ بها القرآن وقواعد تركيبها "، واللسان العربي العادي " المفردات التي يستعملها العرب وقواعد تركيبها " قال اللَّه تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). وقال سبحانه: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، فليس هناك فرق بين لسان القرآن ولسان العرب، وإلا لكان حجة للعرب في أن اللَّه خاطبهم بغير لسانهم.
فالفرق ليس في اللسان -الألفاظ وقواعد تركيبها- المستعمل، وإنما الفرق في الكلام الذي " هو استعمال هذا البناء -اللسان- ووضعه موضع التنفيذ من قبل المتكلمين "، ومن ثم نجد الحق تبارك وتعالى ينسب لنفسه الكلام، وينسب اللسان للعرب، فقال: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) " فالذي يحرف هو الكلام ذاك التركيب الصادر من المبلغ ليغير معناه، ويبطل أثره المقصود به، أما تحريف اللسان فهو مسبة للمحرف وسلب عليه؛ لأنه حرف الرموز المتواضع عليها بين أُولَئِكَ المخاطبين وقطع طريق التواصل معهم، فلم يعد يفهمه أحد
291
منهم ".
وأقول: إن الاستخفاف باللغة العربية وقواعدها وزعم الاستغناء عنها باللسانيات الحديثة خرق لأصول العلم ومناهجه وتشكيك فيما أصبح من عداد المسلمات.
رابعًا: اخترقت المدرسة المعاصرة في التفسير الثوابت، فذهبت -مثلاً- إلى أن السنة تجربة تاريخية خاصة بعصرها الذي ظهرت فيه ولا تلزم ما بعده من العصور، وهذا الاختراق مرفوض؛ لأنه يعرض الدِّين للتحلل من عقده، ويفتح الأبواب على مصارعها للأفكار الهدامة تفعل فعلها في كيان الأمة.
وأقول: إن على المتطلعين إلى التجديد وبناء المناهج أن يعرفوا أن الثوابت هي العاصم والحافظ لكيان الأمة وعليها مدارها، فالمساس بها والنيل منها هو مساس بروح الأمة وطعن لها في عمودها الفقري، وتعريض لها لمزيد من الخطر والضياع؛ ذلك أنه - كما يقول سيد قطب رحمه اللَّه- " لكل نجم ولكل كوكب فلكه ومداره، وله كذلك محوره الذي يدور عليه المدار، وكذلك الحياة البشرية لابد لها من محور ثابت، وإلا انتهت إلى الفوضى والدمار ".
ولسنا بكل ما ذكرناه ننفي تبني المناهج التي تبنتها المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم جملة وتفصيلاً، فهذا إن فعلناه أصابنا الجمود والوقوف عند حد التقليد دون التجديد والإبداع، وهذا مخالف لما دعا إليه القرآن الكريم في كل المجالات، بل وفي مجال التعامل معه -أي مع القرآن- فقد قال اللَّه تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، والتدبر يعني الفهم المتجدد؛ إذ لو كان التدبر يعني الوقوف عند فهم القدماء للقرآن، لما أمرنا اللَّه عز وعلا بتدبره، ولكان أمرنا باتباع أسلافنا وحسب؛ وهذا ينافيه طبيعة القرآن المتجددة.
إذن فإن هناك دعوة إلى التجديد في تفسير القرآن الكريم، وتجريب المناهج الحديثة، ولكن ذلك مضبوط بضوابطه التي منها:
أولًا: احترام الثوابت، وعدم هدمها.
292
ثانيًا: معرفة التراث واستيعابه استيعابًا يسمح بمعرفة مواطن القوة، فيؤخذ بها، ومواطن النقص لتفاديها.
ثالثًا: الاطلاع على العلوم والمناهج المعاصرة، شريطة ألا يكتفى من هذه العلوم بالمعرفة السطحية العابرة، بل استيعابها استيعابًا كاملاً، وشريطة إتقان الدربة في استخدام هذه الآليات وتوظيفها التوظيف السليم، ولا يقع المجدد فيما وقعت فيه تلك الفئة التي عناها الدكتور طه عبد الرحمن بقوله:
" إنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة، فضلاً عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائياتها ".
وأخيرا أود القول: إننا لا ندعو إلى نبذ مناهج بعينها في تفسير القرآن الكريم، بل ندعو إلى تكامل المناهج، فنأخذ وندع من كل المناهج سواء أكانت قديمة أو حديثة، بشرط ألا ندع المسلمات جانبًا، وألا يؤثر ما نأخذه من منهج في توجيه المعنى القرآني وجهة تناقض مراد اللَّه المقصود.
نماذج من تفسير المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم:
لعلنا نورد بعض النماذج من تفسير أعلام المدرسة الفكرية المعاصرة لبعض آيات القرآن الكريم تبرز مدى تجاوز هَؤُلَاءِ القوم في تفسيراتهم، وأنها لا تقوم على أساس متين أو منهج قويم.
ومن تلك النماذج ما جاء في تفريق أبي القاسم حاج حمد بين اللمس والمس، وبين الرؤية والنظر والشهود.
فبالنسبة للتفريق بين اللمس والمس: يرى أبو القاسم حاج حمد أن " لمس " تعني قرآنيًّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، و " مسَّ " تعني التفاعل العقلي والوجداني؛ لذلك لم يمنع اللَّه لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم، فلهم أن يتناولوه. أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩).
وهذا الفهم بعيد عن الصواب كل البعد؛ إذ إن استقراء آيات القرآن الكريم تؤكد أن
293
المس معناه الاحتكاك المادي، وليس الإحساس والوعي -كما زعم أبو القاسم حاج- ومن الآيات المعضدة لما ذهبنا إليه قول اللَّه تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ)، فأي تفاعل عقلي مع النار في هذه الآية وأمثالها؛ وأي تفاعل عقلي في قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، وفي قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟ الحقيقة: أن المس هنا واضح بأنه احتكاك مادي، فمس النار للجسم حركة مادية، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويًّا، أي: بعد جماعها؛ لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر، ورأت أنه خلاف العادة.
وبالنسبة للتفريق بين الرؤية والنظر والشهود: يرى أبو القاسم حاج أن الرؤية تتعلق بالأمور الحسية، وآلتها العين المجردة، أما النظر فيتعلق بالأمور المعنوية التي تعتمد على التأمل والإدراك، وآلتها العقل، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، فقال: " وقد طلب موسى رؤية اللَّه عبر النظر، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر، والنظر يرتبط بالخيال والتأمل، وقوي الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) فالنظر عقلي والرؤية حسية؛ ولهذا قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣). فهنا يتعلق النظر إلى اللَّه بالوجوه، وليس العين المجردة التي ترى، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)؛ ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا، أي: تقليب الرأي فيها، ثم اتخاذ قرار قاطع، كمن يرى الأمر عياناً في حقيقته (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢).
وكذلك ميز القرآن الكريم بين البصر والرؤية العينية، فالبصر إدراك (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨).
294
والسمع استيعاب (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩).
وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤيته بالعين، وهكذا قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا، ثم استثنيت حالتان، مقيم مريض، وغير مقيم مسافر، ولم يطلب اللَّه في هذه الآية رؤية الشهر؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة، ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا)، والشهور حساب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ)، فأن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالًّا حين توقيته، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون ".
هذا ما قاله أبو القاسم حاج عن التفريق بين الرؤية والنظر والشهود، وقد جانبه الصواب -أيضًا- كما جانبه الصواب في التفريق بين اللمس والمس؛ لأنه بنظرة سريعة في آيات القرآن الكريم نجد أن النظر يعني الرؤية الحسية -أيضًا- وليس مقصورًا على الإدراك العقلي كما زعم المؤلف، والدليل على ذلك قول اللَّه تعالى: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وقد اعترف أبو القاسم حاج نفسه بأن الرسول رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه.
وأما قصر الرؤية على الحس، وأن آلتها العين المجردة فقد وردت آيات كثيرة فيها " رأى " بمعنى علم، منها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، ترى هل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاضرًا في واقعة الفيل مشاهدًا لها بأم عينه، أم أنها أمر غيبي أوحاه اللَّه إليه وعلمه إياه؟
إنه من غير شك أمر غيبي، والرؤية هنا ليست رؤية حسية، بل رؤية عقلية وجدانية.
وتحديد الكاتب الشهود بمعنى الحضور حصرًا أمر في غاية الغرابة، ووجه الغرابة أن هناك آيات أتت ليس فيها الشهود بمعنى الحضور، فماذا يقول في قول اللَّه تعالى: (شَهدَ
295
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)، فهل شهد هنا بمعنى حضر؟ لا، بل شهد هنا بمعنى أقام الأدلة وبينها، وماذا يقول -أيضًا- في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)؛ فهل الشهود هنا يعني الحضور والمعاينة؟
ثم إن الآيات التي استشهد بها أبو القاسم حاج ليدلل بها على ما ذهب إليه تدل على خلاف ما أراد، فقول اللَّه تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
فمادة (نظر) التي تكررت مرتين، في كل مرة منهما لا يمكن أن تدل إلا على الرؤية الحسية، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؛ ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف أورد آية أخرى هي من الوضوح على نقيض ما ذهب إليه؛ مما لا يخفى على المبتدئ فضلًا عن العالم (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)، فالنظر هنا بالعين، وليس بالعقل، وإلا لبطل معنى الآية ".
وقول اللَّه تعالى الذي استدل به على أن الشهود بمعنى الحضور (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هو معنى قال به المفسرون قبله، فقد قال القرطبي: " وشهد بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي: قال: من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغًا صحيحًا مقيمًا فليصمه ".
ومعنى هذا أنه لم يأت بجديد، ولكن الجديد عنده والغريب في الوقت نفسه، حصر الشهود في معنى الحضور، وهو ما فندته قبل قليل.
ومُحَمَّد شحرور الذي تناول في كتابه " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " القرآن الكريم بأدوات معاصرة مثل: المنهج البنيوي والمنهج الجدلي، له تفسيرات تقترب من التفسيرات السابقة، فمثلاً تجده ينكر الترادف، وهو اتجاه عام لدى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن، فيقول عند التفريق بين الحرام والاجتناب: " تبين لنا
296
أن من قال: إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق؛ لأن التحريم هو لحدود اللَّه، كقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).
وهذا القول يؤدي -كما يقول الجيلاني بن التوهامي مفتاح- إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية، فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقود حتمًا إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنى، وهو ما صرح به شحرور نفسه حين قال: " وإني أقول لهَؤُلَاءِ الناس، أيهما أكبر، أمن يشرب كأسًا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ).
ويقال لشحرور: أليس الشرك من أكبر الكبائر، وأعلى المنهيات حرمة، فلماذا عبر عنه الحق -تبارك وتعالى- بالاجتناب ولم يعبر عنه بالحرمة؟ قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، وقال سبحانه أيضًا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
فعلى مذهب الدكتور شحرور يصبح الشرك باللَّه والكفر به من الأمور العادية التي تخضع لثقافة الناس وأعرافهم، مثل: الخمر التي يرى أنها ليست بحرام ولكن تعافها الفطرة، وهو مخالف لما درج عليه أهل الفسق من استطابتها واعتبارها من أفضل مشروباتهم.
يتبين لنا أن تفسير مُحَمَّد شحرور للحرام والاجتناب مجانب للصواب، مخالف للأصول الثابتة، مزلزل لقواعد القرآن وأصوله.
ومن تفسيراته -أيضًا- ما جاء في مسألة الخلق الآدمي، فقد انطلق -كما فعل كثير غيره من أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير- من نظرية دارون في التطور، فهو يرى أن آدم انتخب من المملكة الحيوانية البشرية انتخابًا، ولم يخلق ابتداء كما يرى التراثيون، ويرى شحرور أن خير من أول آيات خلق البشر هو (دارون)، ويعتمد نظريته في التطور ويوظفها في تفسير قول اللَّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ).
وينقل ماهر المنجد في كتابه (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) عن شحرور قوله:
297
" أما قبل آدم فكان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر، وأن اللَّه نفخ الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي ".
ويدلل الدكتور شحرور على تفسيره بدليل يراه دامغًا، وهو " أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري؛ لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشرًا، له شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم ".
ولا شك أن هذا لا يمثل براهين علمية، ولا أدلة عقلية، ولا علاقة له أصلاً بأي منهج علمي، إلا إذا اعتبرنا أن التصورات والافتراضات المتخيلة هي من الحقائق العلمية.
ثم إن تفسيره للآية أوهى من نسج العنكبوت؛ لأنه:
أولًا: بتر الآية، فالآية تقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وهي واضحة في أنها تدل على غير مراد الدكتور شحرور، وأن تفسيره لها غريب وبعيد كل البعد عن المراد منها؛ حيث إن اللَّه عطف نوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على آدم، فهل كان هَؤُلَاءِ مصطفون من المملكة الحيوانية المسماة بالبشر مثل آدم كما زعم؟ فهذا لا يصدق على نوح وآل إبراهيم وآل عمران، ومن ثم فهو لا يصدق على آدم -أيضًا- فترجح ما ذكرناه وهو مخالف لما ادعاه الدكتور شحرور.
ثانيًا: تناسى المؤلف آيات كثيرة تدل على أن اللَّه - سبحانه - ابتدأ خلق آدم من العدم، وهو بقوله هذا يكذب صريح هذه الآيات، فاللَّه جل وعلا يقول: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ)، فالخلق يدل على الابتداء وأنه من العدم، فكيف يقال: إن آدم اصطفاه اللَّه من البشر.
ثالثًا: هل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي نفخ اللَّه فيه الروح؟ وهل القرود التي مثل بها ليس فيها روح؟ وكيف يعيش أي كائن حي بدون روح وبخاصة العائلة الحيوانية؟
والخلاصة أن أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة -على الرغم من زعمهم التذرع بالمنهج التحليلي الموضوعي- قد تناقضت مقدماتهم مع نتائجهم، واتسم تفسيرهم لبعض آيات القرآن بالتسرع وعدم الدقة والاستقصاء، ولعل ذلك راجع إلى رغبتهم الجامحة في تسويق مشروعهم الفكري حتى ولو كان على حساب ثوابت القرآن الكريم ومعطياته الدلالية والمضمونية والسياقية، أو على حساب المعنى الصحيح للآية المفسرة.
298
الباب الخامس
الماتريدي مفسِّرًا
ويشتمل على عدة فصول:
الفصل الأول: انتماء الماتريدي في التفسير.
الفصل الثاني: منهج الماتريدي في التفسير.
الفصل الثالث: بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة.
الفصل الرابع: تأثر الماتريدي بمن سبقوه.
الفصل الخامس: تأثير الماتريدي في لاحقيه.
299
الفصل الأول
انتماء الماتريدي التفسيري
ظهر لنا فيما سبق أن هناك مدارس كثيرة في تفسير القرآن الكريم، فهناك: مدرسة التفسير بالمأثور، ومدرسة التفسير بالرأي، ويقف بين هاتين المدرستين بعض المفسرين لا إلى هَؤُلَاءِ ولا إلى هَؤُلَاءِ، فيتخذون من النقل والعقل طريقًا للتفسير.
والنقل -كما سبقت الإشارة-: هو تفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو المأثور عن الصحابة والتابعين، وأما العقل -كما سبق أيضًا-: فيعمل المفسر عقله في الآيات، لكن هذا الإعمال مشروط بشروط تتلخص في: عدم عدول المفسر عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا إذا قامت القرائن الواضحة القاطعة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه، ومخالفة هذه القاعدة الأساسية اليسيرة قد أدى -عند بعض المفسرين- إلى كثير من الخطأ في تفسير بعض الآيات القرآنية المتعرضة للأنفس والآفاق.
ومن أهم الأسس التي يقوم عليها استخلاص المفسر لمضمونات اللفظ القرآني بطريق العقل، وتكسب عمله سنده ومشروعيته، هي مراعاة اللفظ القرآني في خطابه حال العرب ومشاهداتهم ومعارفهم، ونزوله في التعبير على مستوى ما يعرفون؛ ضمانًا لهدايتهم، ثم احتواؤه مع ذلك الحقيقة الأبدية التي يتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرًا بعد عصر، وهو أمر لا يعرف ولا يوجد في غير القرآن الكريم يمنحه الجدة الدائمة والثراء الذي لا ينفد، ويعطي المتأملين فيه، والباحثين في أسراره مشروعية مستمرة، وضمانًا وسندًا دائمين، وتأتي أساليب القرآن الكريم فوق ذلك مستجمعة درجات الفهم، وفيها الغاية -كل الغاية- لكل عقل صحيح، يقرؤها العالم فيستشف من خلالها علل الأشياء، ويقرؤها الحكيم فيلتمس منها أسرار الوجود، ويقرؤها غيرهما من الناس فتنقاد لها قلوبهم وعقولهم، وترى الآي القرآني في علوه يداور المعاني، ويخاطب الأرواح، ويتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما ينبغي أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق.
والماتريدي من هَؤُلَاءِ العلماء الذين اشتهر عنهم أنه تابع لمدرسة أبي حنيفة، ومدرسة
301
أبي حنيفة تمثل -كما هو معروف- مدرسة الرأي، ومعنى هذا القول أن الماتريدي ينتمي إلى مدرسة الرأي.
وأقول: إن كان هذا يصدق على الماتريدي متكلمًا أو فقيهًا فلا يمكن أن يصدق عليه مفسرًا؛ إذ إنه في تفسيره لا يمكن أن ينتمي إلى مدرسة الرأي أو مدرسة النقل جميعًا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين.
وبيان ذلك: أن الماتريدي في تفسيره قد استجمع شرائط مدرسة النقل والعقل؛ حيث إنه استند في تفسيره على المأثور كما استند على المعقول وهذه سمة بارزة عنده، ليس في هذا التفسير فقط، بل في جميع مؤلفاته، فقد رأى خطأ الوقوف عند حد النقل أو المغالاة في الجانب العقلي، فالموقف العدل -عنده- هو التوسط بينهما، وذكر أن من دواعي استحسان هذا الموقف الوسط هو قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، ووسطية الماتريدي قائمة على رد كل ما لا يتفق مع أهل السنة من المعتزلة والمجسمة والمشبهة والحشوية وغيرهم، وتقرير عقائد أهل السنة في أثناء تفسيره بالأدلة العقلية والنقلية.
وليس موقف الوسط -كما يظن- توفيقًا بين الآراء، وأنه يخلو من الابتكار، بل هو قمة الابتكار؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بأحكام النقل والعقل؛ فلابد من معرفة كاملة بالكتاب والسنة، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والأخبار وشروطها، وهذه هي أحكام النقل، ولابد -أيضًا- من معرفة أحكام العقل والنظر والتأويل والاجتهاد وإقامة الأدلة والبراهين.
وإذا تقرر هذا فيجب أن نثبت للماتريدي المفسر بعض الخصائص والسمات التي تجعله مفسرًا متميزًا، هذه الخصائص والسمات تتلخص في:
أولًا: استقلال الفكر:
كان الماتريدي لا يتعصب لمذهب معين أو رأي معين، بل يبحث عن الحقيقة، فلم يكن تابعًا لفكر معين، أو متعصبًا أو انفعاليًّا؛ لأنه كان يعلم أن هذه الأمور تصد عن الوصول إلى الحقيقة، ومن ثم ضمن له ذلك الاستقلالية والحرية والموضوعية في تناول القضايا في تفسيره.
والناظر في تفسيره -نظرة إجمالية- سوف تظهر له هذه الحقيقة، فهو في تفسيره لا يعرض أحيانًا للمذاهب أو الآراء بل إنه يعرض القضايا، فيشعر القارئ كأنه يعرضها كما
302
يراها هو، ولعلنا ندلل على ذلك بنموذج من تفسيره، فعند قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، يقول: " سفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السماوات والأرض، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما، وعلى علم منهم أنه تعلق منافع الأرض بمنافع السماء، مع بعد ما بينهما، كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية ".
فهنا يفسر الآية من عند نفسه، لكنه لا يهمل عرض الآراء حولها، وما دامت هذه الآراء مقبولة فإنه يعرضها على إطلاقها، فعند الآية نفسها يقول: " وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال الحسن: الظلمات والنور: الكفر والإيمان، وقال غيره من أهل التأويل: الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار، أبصار الوجوه وأبصار القلوب، والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب، فالظلمة تجعل كل شيء مستورًا عليه، والنور يجعل كل شيء كان مستورًا ظاهرًا باديًا عليه، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة " ولأن كلا المعنيين لا ترفضه الآية فنجد الماتريدي لا يتعرض لأي منهما بالنقد أو التحليل، بل يكتفي بعرضهما، وهو ما يدل على عدم تعصبه.
لكن الأمر إذا احتاج منه إلى إضاءة فنجده بعد عرض الآراء حول الآية يحلل ويعقب ويوجه وينقد، ففي الآية التي معنا، في عجزها والتي بعدها، يقول الماتريدي: " وقوله عز وجل: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، قيل: يشركون مع ما بيِّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته، أي: جعلوا كل ما يعبدونه دون اللَّه عديلاً لله، وأثبتوا المعادلة بينه وبين اللَّه تعالى، وليس لله تعالى عديل، ولا نديد، ولا شريك، ولا ولد، ولا صاحبة، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وقال الحسن: (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي: يكذبون.
وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي: خلق آدم أبا البشر من طين، فأما خلق بني آدم من ماء، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) وأخبر اللَّه تعالى أنه خلق آدم من الطين، وخلق بني آدم سوى عيسى - عليه السلام - من النطفة، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من الطين ولا من الماء؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء، ولا ينكرون -أيضًا- إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن صاروا ترابًا أو ماء، أو لا ذا ولا ذا،
303
فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين، وخلق سائر الحيوان من الماء، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من هذين، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا، فيكون دليلاً على منكري البعث بعد الموت، وعلى الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء، فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه؛ ولهذا وقعوا في القول بقدم العالم، واللَّه الهادي.
ويحتمل قوله تعالى. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم، وأضاف خلقنا إلى الطين، وكان الخلق من الماء لما أبقى في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ويشرب ويتغذي، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره، وفي جميع جوارحه، وقد يحيى بها جميع الجوارح، وإن لم ير تلك القوة، فكذلك هذا.
ويحتمل -أيضًا- على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئًا من التراب، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئًا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه، فيخلط بالنطفة، فيصير علقة ومضغة، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.
ويحتمل النسب إلى التراب، وإن لم يكونوا من التراب؛ لما أن أصلهم من التراب، وهو آدم ".
فنلمح في هذا النموذج كيف يقلب الماتريدي الآية على وجوهها؛ ليعطي القارئ تصورًا عامًّا حول القضية التي تطرحها الآية، فحول قضية الخلق، نجده -أولاً- يعرض لمراحل الخلق جميعًا، وإمكانياته الواقعة في خلق اللَّه من لدن آدم.
ونجده -ثانيًا- يبين الغرض من هذه المراحل، وهو غرض مزدوج؛ حيث ترد هذه المراحل والإمكانيات على منكري البعث من جهة، وترد على الدهريين من جهة ثانية.
وهو في عرضه يعمل عقله حتى يكون الرد مقنعًا، بل إنه يعمل عقله ويستخدم القياس ليخرج الآية، وليبين لماذا كان التوجه إلينا بها مع أنها تنص على الخلق بالطين.
ثم إنه يعرض -ثالثًا- لاحتمال يدل على حس علمي شفيف، وهو أن كل حيوان مخلوق من ماء يخلط بنوع من التراب، وهذه لفتة علمية دقيقة، يؤكدها العلم في العصر الحاضر.
ثانيًا: النظرة الكلية للأشياء:
تؤكد النماذج السالفة تميز الماتريدي بنظرته الشمولية، وقدرته على ربط الجزئيات
304
بالكليات، ورد الفروع إلى الأصول، وهي سمة ليست مقصورة على تفسيره فقط، بل تؤكدها تآليفه في الفقه وأصوله والتوحيد، وبخاصة أصول الفقه ذلك العلم الذي يقوم على ربط المسائل الفرعية بأصول الأحكام.
ثالثًا: اهتمامه بالمضمون:
ينزع الماتريدي في تفسيره إلى بيان المضمون الذي تنطوي عليه الآيات دون النظر إلى الألفاظ، وما يعتورها من نكات لغوية وبلاغية، وإذا عرج على ذلك فلخدمة المضمون وإبرازه، والنماذج السابقة دالة على ذلك.
وهذا يجعلنا نقرر سمة من سمات الماتريدي، وهي اهتمامه بربط عملية الفكر بعملية التطبيق والعمل، فالأفكار الذهنية لا قيمة لها بعيدة عن العمل والتطبيق؛ ولذلك في كثير من الأحيان كان يرفض تفصيلات لا طائل تحتها، ويذكر ذلك في صراحة أنه ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وهذا يفسر لنا اهتمامه في تفسيره لآيات القرآن الكريم بمعناها أكثر من اهتمامه بالشكل أو اللفظ، فالمهم عنده كشف المضمون ومرامي الآيات.
هذا، ولكي يبرز لنا انتماء الماتريدي التفسيري بوضوح أشد، نقف وقفة مع موقفه من طرائق التفسير المختلفة:
أولًا: موقف الماتريدي من التفسير بالمأثور:
نعني بتفسير القرآن الكريم بالمأثور -كما سبقت الإشارة-: تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم، أو تفسيره بالسنة، أو تفسيره بالقراءات، أو تفسيره بأقوال الصحابة وأقوال التابعين.
ونتناول كل لون تفسيري من الألوان السابقة وموقف الماتريدي منه، كل واحد على حدة:
أ - تفسير القرآن بالقرآن:
يقوم الماتريدي بتفسير بعض آيات القرآن الكريم بآيات أخرى منه، ففي قوله تعالى من سُورَةُِ الأنعام: (يَعْلَمُ سِرَّكُم وَجَهْرَكُم) يقول:
" اختلف فيه؛ قيل: (يَعْلَمُ سِرَّكُم): ما تضمرون في القلوب، (وَجَهْرَكُم): ما تنطقون، (وَيَعْلَمُ مَا تكْسِبُونَ): من الأفعال التي عملت الجوارح؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه؛ ليحاسبهم على ذلك؛ كقوله: (وَإن تُبْدُوا مَا في أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخفُوهُ
305
يُحَاسِبكمُ بِهِ اللَّهُ)، أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه، فعلى ذلك الأول فيه إخبار أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف ".
ومن ذلك ما قاله عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) " قيل: قبيله: جنوده وأعوانه، حذرنا إبليس وأعوانه، بما يروننا ولا نراهم.
فَإِنْ قِيلَ: كيف كلفنا محاربته، وهو بحيث لا نراه، وهو يرانا، ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو من لا نقدر القيام على محاربته، وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه.
قيل: إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم؛ إذ لم يجعل له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكير، نحو قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب ".
لكن هناك ملاحظة يجب إثباتها هنا، وهي بارزة في النموذجين السابقين، وهي أن الماتريدي حين يفسر القرآن بالقرآن يسلك مسلكًا خاصًّا يخالف ما درج عليه سابقوه وحتى لاحقوه؛ ذلك أنه قبل أن يأتي بالآية المفسِّرة يقوم بتحليل الآية المفسَّرة، ثم يقول بعد التحليل: نحو قوله تعالى كذا. ثم إن الآية أو الآيات المفسِّرة قد تكون غير صريحة في الدلالة على الآية المفسَّرة، بقدر ما يقصد تحليله هو.
وإذا أردنا أن نتبين هذا الفارق بين الماتريدي وغيره من المفسرين يكفينا أن نفتح تفسيرًا واحدًا هو تفسير ابن كثير الذي يقول عند تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، " قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ".
306
ونموذج آخر: ففي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، يقول الإمام ابن كثير: " لما ذكرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) يعني يوم القيامة (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وقال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا ".
فإذا قارنا بين هذه النماذج سنجد أن الماتريدي يأتي بالآيات المفسِّرة ليعضد تحليله، صحيح أن هذه الآيات تدور في فلك الآية المفسرة، لكنها لا تتوجه إلى تفسير الآية المفسَّرة مباشرة، وتكون في معناها، أو تفصل إجمالها كما عند ابن كثير.
وهذا يدعونا إلى القول بأن الماتريدي كان من المجددين في الطريقة حتى مع اعتماده على تفسير القرآن بالقرآن.
وهنا ملاحظة يجدر إثباتها، وهو أنه بالرغم من أسبقية الماتريدي عن ابن كثير نجد طريقته في التفسير تتسم بالجدة بخلاف الأخير، فإن طريقته تكاد تدور في فلك طريقة أوائل المفسرين، ولسنا بذلك نعيب على ابن كثير طريقته، لكن نريد إثبات الفارق بينه وبين الماتريدي الذي يعتبر سابقًا إلى التجديد في التفسير حتى لكثير ممن جاء بعده.
ب - تفسير القرآن بالسنة:
لا يترك الماتريدي الاعتماد على السنة، لكن اعتماده عليها قليل إلى حد ما، وهو يأتي بالأحاديث المتوافقة والمفسرة للآية موضع الحديث، ولكن الجدير بالملاحظة أنه يذكر بعض الأحاديث النبوية بالمعنى، وكأنه يعتمد على حفظه ولا يرجع إلى نصوص الأحاديث أثناء تأويله.
ومن نماذج تفسيره بالحديث في السور محل التحقيق ما جاء عند تفسير قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، فبعدما فسر المقصود من سؤال موسى ربه الرؤية، وأخذ يعدد الأوجه المحتملة في الآية، قال: " لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمرًا
307
ظاهرًا، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر "، واللَّه أعلم.
وأيضًا ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير خبر أنه قال: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون "، وسئل: هل رأيت ربك؟ فقال: " بقلبي قلبي "، فلم ينكر على السائل السؤال، وقد علم السائل أن رؤية القلب، إذ هي علم قد علمه، وأنه لم يسأل عن ذلك، وقد حذر المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كفوا عنها بقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)، فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء -وذلك كفر في الحقيقة عند قوم- ثم لا ينهاهم عن ذلك، ولا يوبخهم في ذلك، بل يليق القول في ذلك، ويرى أن ذلك ليس ببديع، واللَّه الموفق ".
ونلاحظ أن الماتريدي لا يكتفي بإيراد الحديث، بل يحلله ويوجهه، ويبين مراده، وفي هذا إثراء لمعنى الآية وبيان المقصود منها.
ونلاحظ -أيضًا- أن الماتريدي يكتفي بجزء من الحديث الدال على ما يريده؛ فمثلاً عند تفسيره قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، يستشهد بحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كل مولود يولد على الفطرة " فلا يذكر إلا هذا الجزء من الحديث؛ وهو الجزء الدال على مراده.
وهو لا يكتفي بإيراد السنة القولية عند تفسيره القرآن الكريم، بل يأتي بالسنة الفعلية -أيضًا- فعند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ذكر أحاديث تمثل السنة القولية، وأحاديث تمثل السنة الفعلية، وأحاديث تمثلهما معًا، فقال: " الثاني: يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة، على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.
308
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في حال الخطبة... وذكر... أن الآية نزلت في الصلاة؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له.
روي عن أبي العالية قال: كان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزلت: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) " فسكتوا ".
وعن علباء بن أحمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر " الواقعة، وقرأها رجل خلفه، فلما فرغ من الصلاة قال: " من الذي ينازعني في هذه السورة؟ " فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه، فأنزل اللَّه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).
وزعم بعضهم أن القارئ خفية يسمى ناصتًا ومنصتًا، واستدل بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قلت: بأبي أنت، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة، أخبرني ما تقول؟ قال: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق... " وغير ذلك من الدعوات، وغير ذلك من الروايات الدالة على اعتماد الماتريدي على السنة في تفسيره، وأنه لا يقتصر على نوع واحد من أنواع السنة، بل يستعين بكل أنواع السنة؛ القولية والفعلية.
ج - تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:
يعتمد الماتريدي في تفسيره على أقوال الصحابة والتابعين، ففي تفسير قول اللَّه تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، ينقل عن الصحابة والتابعين معًا، فيقول: " وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر، حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا، إذ انتزعه اللَّه من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه على السواء.
ومجاهد وعكرمة قالا: كانت الأنفال لله والرسول، فنسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خالصة، ليس لأحد فيها شيء، ما أصابت
309
سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكًا فهو غلول، فسألوا رسول اللَّه أن يعطيهم منها، فقال: (قُلِ الأَنفَالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لكم فيها شيء ".
ففي النص السابق ينقل عن الصحابة وينقل عن التابعين، ولكنه لا يقف عند حدود النقل بل يذكر الاحتمالات والوجوه التي يراها في الآية، وهي وجوه عقلية في جملتها، سوف نعرض لها بعد قليل.
وإنما الذي يعنينا هنا -بعد العرض السابق- أن نؤكد على أن التفسير بالمأثور يمثل جزءًا من تفسير الماتريدي في تأويلاته، وأن الماتريدي يقف موقف الذي يقبل الاعتماد على المأثور في التفسير.
ثانيًا: موقف الماتريدي من التفسير بالمعقول:
يعتمد الماتريدي على العقل كثيرًا في تفسيره، ولعل مرجع ذلك إلى أن الماتريدي -في مجمله- تابع للمدرسة العراقية، أو مدرسة الرأي التي أسسها الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقاد لواءها من بعده أعلام أفذاذ، من أبرزهم أبو حنيفة النعمان وتلميذاه أبو يوسف ومُحَمَّد الذين أثروا الحياة الفكرية والعلمية في الحضارة الإسلامية.
ولأن الماتريدي تلميذ لتلك المدرسة، بل رائد من روادها فقد اصطبغ بصبغة هذه المدرسة، لكنه لم يكن مجرد تابع أو مقلد، بل كان ذا سمات خاصة، مجددًا مبتدعًا، وسنعرف ذلك في فصل تالٍ إن شاء اللَّه تعالى.
والذي يدل على عقلانية الماتريدي أمور:
أ - ذكر الاحتمالات المتعددة في تأويل الآيات:
يذكر الماتريدي في كل آية يتناولها الأوجه الممكنة والمحتملة في تفسيرها، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الشأن، نذكر منها نموذجًا واحدًا.
فعند تفسيره لقول اللَّه تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، يقف عند قوله تعالى: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يقلب العبارة القرآنية على وجوهها المحتملة، فيقول: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) دلالة على أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه؛ إذ لو قبل، لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك الدار، ولكان يحق عليه الخروج
310
منها، لا العود إليها.
ثم معلوم أن كلام اللَّه هو حجته، وأن الحجة قد لزمته لوجهين:
أحدهما: ما ظهر عجز الخلق عن مثله، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول اللَّه بالرد، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره؛ فكان ذلك حجة بينة لزمتهم.
والثاني: أن جميع ما يتلى منه لا يؤتي عن آيات إلا وفيها مما تشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة؛ مما لو قوبل بما فيه المعنى، وما يحدث به من الفائدة؛ ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرًا، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل لما لم يكن يضمن أمانة القبول، ولا أن يعارضه بالرد، وذلك أعظم مما فيه الحدود، فالحد أحق ألَّا يقام عليه، واللَّه أعلم ".
ثم قال حول العبارة -أيضًا-: " ثم قوله: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه.
والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه، وفي ذلك لزوم حق الأمان للجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم.
ثم سماع كلام اللَّه يخرج عن القرآن، وفيه ما ذكرت من الدلالة، وعلى سماع أوامر اللَّه ونواهيه في حق القرض عليه، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن. واللَّه أعلم ".
فهنا الماتريدي يقول في القرآن برأيه، ويعرض الأوجه ويدلل تدليلاً عقليًّا دون أن يذكر ولو في إشارة دليلاً نقليًّا.
ب - اهتمامه بالأمور الفلسفية والعقدية:
يغص تفسير الماتريدي بالأمور الفلسفية والعقدية، فما من آية تتعرض لأمر عقدي أو فكري إلا ويقف أمامها لإبراز جوانبها المتعددة بإعمال عقله.
ومن المسائل الاعتقادية التي ناقشها الماتريدي مسألة: سؤال أهل النار ربهم العودة إلى الدنيا كي يعملوا صالحًا، وذلك من خلال تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، مستخلصًا بعض
311
الأمور العقيدية في إطار تفسيره للآية.
يقول الماتريدي: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) قيل: إلى الدنيا، وقيل: إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة، لكن هذا تكلف لتحقيق مراد قوم ظهر سفههم، ولعله ليس عندهم التمييز، أو يقولون سفهًا كما قالوا كذبًا بقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (بِآيَاتِ رَبِّنَا) قال الحسن: بدين ربنا.
وقال قوم: بحجج ربنا، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأول لا على الجهل، وإن كان ثم آيات عاندوها، وهم قوم قد سبق من اللَّه الخبر عنهم مما فيه العناد منهم...
ثم دل قوله: (وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين:
أحدهما: أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب؛ ليعلم أنه التصديق.
والثاني: أنهم ذكروا الآيات، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل بها.
وبعد: فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق؛ إذ الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات، فثبت أنهم أرادوا به التصديق، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة ".
ويمضي الماتريدي في عرض هذه القضية العقدية، ولا يقتصر على عرضه هو لها، بل يستأنس بأقوال الآخرين ويعرض آراءهم، فيقول: " وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رُدُّوا) أي: إلى ما تمنوا أن يردوا إليه (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا) أخبر اللَّه عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك أن الآية تضطر صاحبها، ولا قوة إلا باللَّه.
وقال قوم: إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم اللَّه أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد.
وقال قوم: إذ لم يجز لزوم العذاب بما يعلم اللَّه من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف، فعلى ذلك أمر الخلاف، لكن الآية في خاص منهم، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدًا، ثم
312
أمهلهم على ذلك، وهذا يبين أن ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة، إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك، فعلى ذلك الإعادة، لكنه أخبر عن تعنتهم، ثم ظنت المعتزلة أن اللَّه لو علم أنهم لا يؤمنون لردهم إلى ذلك؛ إذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا؛ إذ ليس لله قبض روح يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يومًا من الدهر، وقد بينا نحن أن ذلك لا يوجب، وإن كان أُولَئِكَ في علم اللَّه أن يعودوا إلى ذلك... إلخ.
ونلاحظ الأسلوب الفلسفي في عرض القضية، وبنائها على مقدمات تسلم إلى نتائج كما يفعل المناطقة، متأثرًا في ذلك بالمدارس العقلية، أو سالكًا سبيلها.
ج - اهتمامه بالآيات الداعية إلى إعمال العقل:
يقف الماتريدي طويلاً أمام الآيات التي تخاطب العقل الإنساني والحواس الإنسانية، ففي قوله تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) قال: " يحتمل الأمر بالنظر وجوهًا، أي: يحتمل: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أن كيف يقلبها ويحولها من حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته، أي كم خرج، وأي كم مقدار خرج - لم يقدروا عليه؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة، وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة ".
وهكذا يلح الماتريدي على إعمال العقل في تفسير القرآن الكريم، لكنه العقل المنضبط غير المنفلت.
ومن خلال ما سبق نتبين بوضوح انتماء الماتريدي التفسيري، فهو ينتمي من غير مرية إلى اتجاه معتدل يوازن بين النقل والعقل، وإن كنا نلمس ميلاً إلى العقل أحيانًا عند تفسيره لبعض الآيات، وبخاصة الآيات التي تناقش قضايا عقدية وتقيم البرهان على صحتها، أو الآيات التي تخاطب العقل والفكر كحجج وبراهين على وجود اللَّه ووحدانيته.
* * *
313
الفصل الثاني
منهج الماتريدي في تفسيره
في هذا الفصل تحاول الدراسة تلمس منهج الماتريدي في تفسيره في ضوء السور موضوع التحقيق في القسم الثاني من هذا البحث.
ويجدر بنا قبل الخوض في بيان منهج الماتريدي في التفسير أن نخص المنهج بنبذة نعرف به فيها لغة واصطلاحاً.
المنهج لغة:
المنهج من نهج الطريق ينهج نهجًا، ونهوجًا: وضح واستبان، ويقال: نهج أمره، ونهج الدابة أو الإنسان نهجًا ونهيجًا: تتابع نفسه من الإعياء، ونهج الثوب: بلى وأخلق. ويقال: نهج الطريق: بينه، ونهج الطريق: سلكه.
وانتهج الطريق: استبانه وسلكه، واستنهج الطريق: صار نهجًا، ونهج سبيل فلان. سلك مسلكه.
والمنهاج: الطريق الواضح، وفي التنزيل العزيز: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) والمنهاج: الخطة المرسومة، ومنه: منهاج الدراسة، ومنهاج التعلم ونحوهما، والجمع: مناهج. والمنهج: المنهاج، والجمع: مناهج.
ومن كل هذه المعاني، نرى أن أقرب معنى لغوي يعبر عنه (المنهج) ويخص ما نحن فيه هو المنهج بمعنى الطريق الواضح، أو بمعنى الخطة المرسومة.
وبهذا يكون المنهج لغة: هو ما يرسمه مؤلف ما من طريقة يسير عليها وهو يؤلف كتابه.
وأكبر الظن أن المنهج بالمعنى اللغوي المذكور كان بعيدًا عن تفكير الماتريدي وأقرانه، فما أظن أنهم كانوا يصنعون لأنفسهم خطة دقيقة يسيرون عليها، أو منهجًا واضحًا ينتهجونه عند تأليفهم، ولكن هذا لا يعني أن تآليفهم كانت عشوائية بدون ضابط، وظني أن الضابط في تلك الآونة هو الانتماء المذهبي أو التفكير العقلي المعين الذي يقود صاحبه إلى التزام أسس معينة في التأليف، لكن أن نقول بأن القدماء -ومنهم الماتريدي طبعًا- كانوا يعرفون المنهج وخصائصه وسماته وضوابطه كما هو في واقعنا الحاضر
314
فذلك بعيد التصور.
المنهج في الاصطلاح:
يمكن تلمس تعريف المنهج في الاصطلاح في العلوم التطبيقية وما إليها: كالطبيعة والإحياء والتاريخ، وهو أنه يعني: " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة ".
وعلى هذا، فمنهج الماتريدي في التفسير هو الطريق الذي سلكه للكشف عن معاني القرآن بواسطة مجموعة من السبل يسلكها اختطها لنفسه واختارها دون غيرها، للوصول إلى مراده من تفسيره للقرآن الكريم.
منهج الماتريدي في تفسير القرآن الكريم:
سبق أن أشرت منذ قليل إلى أن الذي يحدد طريقة القدماء أو منهجهم في مؤلفاتهم، إنما كانت تتحدد تبعًا لمجموعة من العوامل المكونة لشخصياتهم سواء كانت هذه العوامل مذهبية أو ثقافية أو فكرية أو غير ذلك، وخاصة أن علماءنا القدماء لم يكونوا يعرفون عن المنهج بالمفهوم الحديث شيئًا.
ولذلك إذا أردنا الوقوف على طبيعة المنهج الذي سلكه الماتريدي في تفسيره يجدر بنا أن نقف على القضيتين الآتيتين:
القضية الأولى: مصادر الماتريدي في التفسير وطريقته في التعامل معها.
القضية الثانية: طريقة الماتريدي العامة في التفسير.
القضية الأولى: مصادر الماتريدي وطريقته في التعامل معها:
ما من شك في أن العالم -أي عالم- يتأثر بمن سبقوه ويستفيد من علمهم، بل ومن طريقتهم.
وفي علم التفسير يستفيد المفسر -فضلاً عن إفادته من العلماء السابقين- من مصدرين عظيمين لا يستغني عنهما، ولو استغنى عنهما لأصاب تفسيره خلل عظيم وعطب خطير، ألا وهما الكتاب والسنة.
315
وقد سبق أن بينا عند الحديث عن انتماء الماتريدي التفسيري اعتماده عليهما، وبينا في إجمال سريع كيفية تعامله مع هذين المصدرين حينما يعتمد عليهما في تفسيره للقرآن الكريم، وفي هذا الفصل سنفصل القول في هذين المصدرين وفي المصادر الأخرى التي أَثْرَتْ تفسيره، وأَثَّرَتْ فيه، وهي:
أولًا: تفسير القرآن بالقرآن:
لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه، فقد أجمع العلماء على اعتباره المصدر الأول للتفسير، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام اللَّه جل جلاله من اللَّه، فصاحب البيت أدرى بما فيه، فما أجمل في مكان فقد فسر في مكان آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في مكان آخر، فالأخذ بذلك هو مقتضى البدهية المقررة، وفوق ذلك هو مقتضى المعلوم من الدِّين بالضرورة؛ إذ القرآن الكريم هو الأصل الأول، والعماد المتين لهذا الدِّين، ولا يمكن تحقق الإيمان دون الأخذ بما فيه جملة وتفصيلًا.
والحق أن الماتريدي اعتمد على القرآن الكريم في تفسيره -وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند حديثنا عن موقفه من التفسير بالمأثور- لكنه لم يكثر منه، ولعل ذلك راجع إلى ميله إلى التفسير بالرأي.
والطريقة الشائعة في استعانة الماتريدي بالقرآن أنه يحلل الآية، ثم بعد ذلك نجده يأتي بآية أخرى دالة على ما يقول، وهذا يؤكد ميله إلى القول في القرآن بالرأي، لكنه الرأي المقيد بالنص.
ومن النماذج الدالة على هذا ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فقد قال: " وقوله: (وَكَذَلِكَ) لا يتكلم به إلا على أمر سبق، فهو -والله أعلم- يحتمل أن يقول: لما قالوا: يا مُحَمَّد، أرضيت بهَؤُلَاءِ الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعًا لهَؤُلَاءِ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)، أي: كما فضلتكم على هَؤُلَاءِ في أمر الدنيا، فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدِّين، ويكونون هم المقربين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدِّين، وإن كانوا أتباعكم في أمر الدنيا، وكذلك امتحان بعضهم ببعض.
316
ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقال: كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة، كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وكقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وكقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) الآية ".
فالماتريدي بعدما حلل الآية موضع التفسير دفع بالآيات ليدلل على ما ذهب إليه، وهي كلها تدل على معنى الآية المفسرة، أو شبيهة بها.
ومنه -أيضًا- ما جاء عند تفسير قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) حيث قال: " ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين، أي: استجيبوا لله في أوامره ونواهيه، وللرسول فيما يدعوكم إليه، وإنما كان يدعو إليه إلى دار الآخرة، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، ودار الآخرة هي دار الحياة؛ كقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وكأنه قال -واللَّه أعلم- أجيبوا لله وللرسول؛ فإنه إنما دعاكم إلى ما تحيون فيها، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها، ولا يحيا بتركه الإجابة ".
ونلاحظ هنا أنه بدأ بالتحليل، ثم ذكر الآيات الدالة، ثم عاد للتحليل والتوجيه مرة أخرى.
وإذا كانت النماذج السابقة تتجه فيها الآيات المفسرة إلى بيان معنى الآية المفسَّرة، فإن الآية المفسرة قد تفسر كلمة واحدة في الآية، كما جاء في تفسيره لقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، فقد أراد الماتريدي تفسير كلمة (وَاتَّقُوا) فقال: " أي اتقوا فتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم، وهو العذاب؛ كقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ".
ثانيا: أسباب النزول:
استعان الماتريدي في تفسيره ببيان أسباب النزول، وأحيانًا يحشر المرويات التي وردت في سبب النزول ولا يكتفي برواية واحدة، وأحيانًا أخرى يكتفي برواية واحدة.
ومما ذكره في أسباب النزول ما جاء في سبب نزول قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...) الآية.
حيث قال: " فالسؤال يحتمل وجهين:
يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء، قيل: إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع، فجاءت نار فحرقتها، وسألوا عن حلها
317
وحرمتها، فقال: (الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: الحكم فيها لله والرسول يجعلها لمن يشاء.
ويحتمل السؤال عنها عن قسمتها، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث: ثلث في نحر العدو، وثلث خلفهم ردءًا لهم، وثلث مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحرسونه، فلما فتح اللَّه عليهم اختلفوا في الغنائم، فقال الذين كانوا في نحر العدو: نحن أحق بالغنائم، نحن ولينا القتال، وقال الذين كانوا ردءًا لهم: لستم بأولى بها منا، وكنا لكم ردءًا، وقال الذين أقاموا مع رسول اللَّه: لستم بأحق بها منا، كنا نحن حرسًا لرسول اللَّه فتنازعوا فيها إلى رسول اللَّه، فنزل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا؛ إذ انتزعه اللَّه من أيدينا فجلعه إلى رسوله، فقسمه على السواء ".
ثالثًا: السنة المطهرة:
استعان الماتريدي في تفسيره لكتاب اللَّه بالسنة المطهرة، وقد ذكرنا أمثلة لهذا من قبل عن تناولنا لموقفه من التفسير بالمأثور، وهو يكثر من ذكر الأحاديث في تفسيره، من نحو ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، فقد قال: " وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ)... قَالَ بَعْضُهُمْ: الدعاء ها هنا هو الدعاء، وقد جاء " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ "؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد، والدعاء لا يحتمل التقليد، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى العبد من نفسه الحاجة والعجز عن القيام بذلك، فعند ذلك يفزع إلى ربه، فهو مخ العبادة من هذا الوجه...
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قيل: المجاوزين الحد بالإشراك باللَّه. وقيل: لا يحب الاعتداء في الدعاء؛ نحو أن يقول: اللهم اجعلني نبيًّا أو ملكًا، أو أنزلني في الجنة منزل كذا، وموضع كذا.
وروي عن عبد اللَّه بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: " اللهم إني أسألك الفردوس، وأسألك كذا، فقال له عبد اللَّه: سل اللَّه الجنة وتعوذ من النار؛ فإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
318
يقول: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور " ويحتمل الاعتداء في الدعاء هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له ".
وهناك بعض الأمور يجدر التنبيه عليها في تفسير القرآن بالحديث عند الماتريدي، أبرزها:
أ - أنه لا يذكر سند الحديث إلا قليلاً جدًّا.
ب - أنه -أحيانًا- يذكر الحديث بالمعني.
ج - أنه -أحيانًا- يورد شرحًا وتحليلاً على الحديث المستشهد به.
د - أنه يذكر أكثر من حديث في الموضع الواحد.
هـ - نشعر أن الماتريدي لا يهتم بمدى صحة الحديث.
رابعًا: أقوال المفسرين السابقين:
استعان الماتريدي بأقوال المفسرين قبله من لدن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فهو يدلل على صحة ما يذهب إليه أحيانًا بذكر أقوال هَؤُلَاءِ المفسرين حول الآية.
وطريقته في التعامل مع أقوال المفسرين قبله، تكاد تتطابق مع طريقة تعامله مع القرآن والسنة حين يعتمد عليهما في التفسير؛ حيث يقوم بتحليل الآية محل التأويل، ثم يعرض بعد ذلك أقوال العلماء حولها، وقد يعرضها على إطلاقها، وقد يختار من بينها، وقد يبدي اعتراضًا على بعضها.
ففي قوله تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) يبدأ الماتريدي بشرح معنى الآية فيقول: كيف تعطون لهم العهد، وكيف يستحقون العهد، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاًّ ولا ذمة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيف لا تقاتلونهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً).
ثم أدار حوارًا طويلاً، نقل فيه كثيرًا من أقوال المفسرين قبله حول معنى كلمة (الإل)، قال: " الإل: اللَّه، والذمة: العهد. وقيل: الإل: القرابة، وقيل: الإل: العهد والذمة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الإل: العهد. قال: ويقال: القرابة.
319
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإل: القرابة.
وقال أبو عبيدة: الإل: العهد، والذمة: التذمم.
وقال ابن عَبَّاسٍ: الإل: اللَّه، بمنزلة جبريل، تفسيره عبد اللَّه؛ لما قيل: جبر هو عبد اللَّه.
وقيل: الإل: الحرم، يقول: كيف تعطونهم العهد، وهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) القرابة ولا العهد، ولا يرقبون الحرم فيكم، وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحمة حتى يعاون بعضهم بعضًا، ويناصره، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة، وكانوا يرقبون حرم اللَّه حتى لا يقاتلوا في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها ".
ويلفت النظر هنا أن الماتريدي تارة ينص على اسم العالم الذي ينقل عنه، وتارة يعبر بـ " قَالَ بَعْضُهُمْ " أو " قيل ".
ويلفت النظر -أيضًا- أنه قدم تفسيرًا للآية أولاً دون أن يصرح بمعنى الإل، ثم لما أورد قول بعضهم من أن الإل بمعنى الحرم، قدم تفسيرًا للآية أوضح وأبين من الأول، ولا ندري إن كان هذا التفسير كلامه أم هو ناقل له عن غيره.
ونلاحظ أن نقوله السابقة اتجهت إلى معنى اللفظ في مجملها، ولم تتجه إلى المعنى العام للآية، وهو بذلك لا يكون ناقلاً عن علماء التفسير وحسب، بل قد يقع نقله في دائرة النقل عن علماء اللغة والأدب، يدل على ذلك النموذج الآتي.
فعند قول اللَّه تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) اختار أن يكون معنى (وَلِيجَةً): ملجأ يلجئون إليه، وهذا المعنى مستفاد من تفسيره العام للآية، ثم قال: " وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها: الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج ".
ثم أخذ يعدد معاني الوليجة ناقلًا إياها عن بعض العلماء دون ذكر لأسمائهم.
وقد ينقل أقوال العلماء، ثم يعرض عنها، ويختار ما يستريح إليه، وبعبارة أدق يتبنى رأيًا خاصَّا له، فمثلاً عند تفسير قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا).
320
يقول: " اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.
وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه:
أحدها: قوله: (بَعْدَ عَامِهم) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.
والثاني: في قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة؛ فلا خوف عليهم في ذلك.
والثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا لَا يَحُجَّنَ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ " وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
ونلاحظ -هنا- أنه يعترض على أسلافه، ويذهب بعيدًا عنهم في اختياره، ويعضد اختياره بأدلة أرى أن الصواب يحالفه فيها.
وأحيانًا نجد الماتريدي يطرح أقوالاً للمفسرين السابقين، ويذكر المعنى الذي يرتضيه، ثم يعود إلى أقوال المفسرين السابقين مرة أخرى، ويردها، ويدلل على صحة تفسيره وخطأ تفسيرهم، فمثلاً عند قول اللَّه تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) يقول: " ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم، يعني إلى المنافقين، فقالوا: قد عيرنا وما نزل فيكم حتى متى، فكانوا يحلفون للأنصار: واللَّه ما كان شيء من ذلك، فأكذبهم الله فقال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ) وما كان الذي بلغكم (لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ) منكم يا معشر الأنصار (أَنْ يُرْضُوهُ) حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة ".
ثم لا يرتضي هذا التأويل فيقول: " والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كل منهم برسول اللَّه، أو طعن فيه، أو استهزاء بدين اللَّه، فاعتذروا إليهم، وحلفوا على ذلك؛ ليرضوهم، فقال: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة، ولكن ليسوا بمؤمنين ".
321
ثم شرع يعدد أقوال أهل التأويل الأخرى، مفندًا إياها، فقال: " وأما ما قاله بعض أهل التأويل: إن رجلاً من المنافقين قال: واللَّه، لئن كان مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ [الْحَمِيرِ]، فسمعها رجل من المسلمين، فأخبر بذلك رسول اللَّه، فدعاه، فقال: " مَا حَمَلَكَ عَلَى الذِي قُلْتَ " فحلف والتعن ما قاله، فنزل قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا لو كان ما ذكر لكانوا يحلفون لرسول اللَّه، لا يحلفون لهم؛ دل أن الآية في غير ما ذكر.
ويذكر ابن عَبَّاسٍ أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فجعلوا يحلفون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدًا. وكذلك قال غيره من أهل التأويل، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول اللَّه ويرضونه، لا للمؤمنين؛ دل على أن الأشبه ما ذكرنا من وجوه:
أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته ليعلموا أنه حق؛ حيث اطلع عليه بما أسروه في أنفسهم، وكتموا من المكر وأنواع السفه.
والثاني: ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.
والثالث: تنبيهًا للمؤمنين وتعليمًا لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف؛ طلبًا لإرضاء بعضهم بعضًا، ولكن يتوبون إلى اللَّه، ويطلبون به مرضاته ".
والنقول التي جاء بها الماتريدي في هذا النص تدخل في إطار ما يعرف بأسباب النزول، ولكنه عزاها هو إلى أهل التأويل تارة وإلى ابن عَبَّاسٍ تارة أخرى، ثم ردها دون أن يتحقق من مدى صحتها، ولعل هذا من المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ بها في تفسيره، لكن مع ذلك فإن ما ساقه من حجج عقلية يقوي موقفه، خاصة وأنه ساق رواية تكاد تكون رواية فرضية، يفهم هذا من كلامه؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: يدل هذا النص على أن الماتريدي لا يهمل أسباب النزول في تفسيره، وإن كانت طريقته ذات سمات خاصة في عرضه لهذه الأسباب تخالف ما درج عليه المفسرون، فالمفسرون حين يتعرضون لذكر هذه الأسباب يصرحون بذلك، فيقولون: ورد في سبب النزول كذا، أو سبب نزول هذه الآية أو الآيات ما روي كذا... وهكذا.
وقد يعرض الماتريدي أقوال أهل التأويل دون أن يتعرض لها بالنقد، ولكن يضيف إليها، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)
322
حيث قال: " اختلف فيه:
قال الحسن وأبو بكر الأصم: إنه خاطب بقوله: (وَمَا يشُعِركُمْ) وأهل القسم الذين أقسموا باللَّه جهد أيمانهم (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، فقال: (وَمَا يشُعِركُمْ) أي: ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءتكم آية، ثم استأنف، فقال: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)... وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف والابتداء.
وقال غيرهم من أهل التأويل: الخطاب لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أنهم لما قالوا: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) ظنوا أنهم لما أقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية: يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون؛ فقال لهم: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على طرح " لا "، أي: ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. وهكذا كأنه أقرب.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن أهل الإسلام قالوا: إنهم وإن جاءتهم آية لا يؤمنون، فقال عند ذلك: (وَمَا يشعِركُمْ) وخاطبا به هَؤُلَاءِ (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
والثاني: أنهم وإن آمنوا بها إذا جاءت، فنقلب أفئدتهم من بعد ".
وعلى كل حال فما نقله الماتريدي عن أهل التأويل أو أهل التفسير، فإنه لم يقف -في الجملة- حياله عاجزًا، بل حاور سابقيه، ورد أقوالهم ونقدها وفندها أحيانًا، وزاد عليها أحيانًا أخرى.
خامسًا: علم الكلام:
سبق أن بينا أن للماتريدي مذهبًا اعتقاديًا ينصر فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبينا بشيء من التفصيل الفارق بين مذهبه والمذاهب الأخرى، وبخاصة الأشعرية.
وتفسير الماتريدي لا يخلو من آراء كلامية، سواء صرح بذكر قائليها أو لم يصرح، ولعلنا نعرض لبعض النماذج التي تؤيد ما نقول.
يقول الماتريدي عند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ)
" الحياة حياتان: مكتسبة: وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات، وحياة منشأة: وهي حياة الأجسام، فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة، وأما المؤمن فله الحياتان جميعاً؛ المكتسبة والمنشأة، فيسمي كلًّا بالأسماء التي اكتسبها، فالمؤمن اكتسب أفعالاً طيبة فسماه بذلك، والكافر اكتسب أفعالاً قبيحة، فسماه بذلك ".
323
ومسألة الكسب مسألة كلامية، وهي مسألة خلافية بين الأشعرية والماتريدية كما سبق بيانها.
وقد اهتم الماتريدي في تفسيره هذا بدحض آراء المعتزلة وتفنيدها - اهتمامًا كبيرًا، والأمثلة على هذا كثيرة ومنتشرة على مدار التفسير، فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) حيث قال: " إن الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل، وقال: خلق الموت والحياة، ومجيء الموت هو توفي الرسل ثم أخبر أنه خلق الموت دل على أنه خلق توفيهم؛ فاحتال بعض المعتزلة في هذا، وقال: إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع، ثم إن اللَّه يتلفه ويهلكه فلأن كان ما قال، فإذن لا يموت بتوفي الرسل؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة، وهو ظاهر بحمد اللَّه، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند، وباللَّه التوفيق ".
ويمكنني القول: إنه في مرآة تفسير الماتريدي انعكس اتجاهه العقدي والمذهبي، فبرز واحدًا من حماة المذهب السني الماتريدي ذائدًا عن حصنه، غيورًا على شرف كلمته، متصديًا لأهل الأهواء والبدع، منازلاً المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والجبرية وغيرهم، داحضًا آراءهم في ضوء التنزيل الكريم، ومن ثم كان رائدًا لمن جاء بعده من العلماء الذين نقلوا عنه، ويكفي أن نلقي نظرة على تفسير مثل تفسير النسفي ليتأكد لنا ذلك، حتى لقد ذكر بعض الباحثين أن النسفي لم يصرح بمصدره الكلامي إلا فيما أخذه عن أبي منصور الماتريدي.
وليتأكد لنا ذلك نعرض لمسألة الجبر والاختيار التي ناقشها الماتريدي عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، فقال:
" قال الحسن: المشيئة -ها هنا- مشيئة القدرة، وقال: لو شاء اللَّه قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط، على ما جعل الملائكة -جبلهم- على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط، ثم يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعًا، ويقول: هم مجبورون على الطاعة؛ فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورًا مجبورًا على
324
الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة.
أو يقول: فضلهم بالجوهر والأصل، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر؛ لأن اللَّه - تعالى - لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونًا بالأعمال الصالحة الطيبة؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) وغيره، وقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، وقوله: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ونحوه، لم يفضل أحدًا بالجوهر على أحد، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة؛ لذلك قلنا: إن قوله يخرج على التناقض.
وتأويل قوله: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر، ولو شاء لهداهم جميعًا ووفقهم للطاعة وأرشدهم لذلك، وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ...) الآية، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا، ثم لم يجعل كذلك؛ دل هذا على أن قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) هو الأمر والرضا، أو ذكروا على الاستهزاء؛ حيث قال: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).
والمعتزلة يقولون: المشيئة -هاهنا- مشيئة قسر وقهر، وقد ذكرنا أنه لا يكون في حال القهر إيمان، إنما يكون في حال الاختيار، والمشيئة مشيئة الاختيار، ولا يحتمل مشيئة الخلقة؛ لأن كل واحد بشهادة الخلقة مؤمن؛ فدل أن التأويل ما ذكر ".
فالنص يدل دلالة واضحة على تبني الماتريدي الدفاع عن عقيدة أهل السنة، التي تقول بأن أفعال العباد اختيارية ليس فيها إجبار، يقول الإسفراييني:
أفعالنا مخلوقة لله... لكنها كسب لنا يا لاهي وكل ما يفعله العباد... من طاعة أو ضدها مراد لربنا من غير ما اضطرار... منه لنا فافهم ولا تماري
فأهل السنة والجماعة أثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تنسب إليهم على وجه الحقيقة لا على جهة المجاز، وأن اللَّه خالقهم وخالق أفعالهم.
هذا، وقد يصرح الماتريدي بنسبة الآراء الاعتقادية إلى أصحابها، دون تعليق منه،
325
ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) حيث قال: " تعلق بظاهر هذه الآية: الخوارج والمعتزلة.
أما المعتزلة فإنهم قالوا: إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيًا، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم؛ فدل أنه إنما لم يردهم؛ لما علمه منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل؛ فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدِّين، وقالوا: لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم، ومن قولهم: إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته، وغير ذلك من المخاييل والأباطيل.
وقالت الخوارج: أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه، وسماهم بالقول كاذبين، بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذباً؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ)، الآية، فإذا سرقن، صرن كاذبات في البيعة، كما جعل من ذكر كاذبًا في الوعد إذا أخلف، وعلى ذلك يجعلونه كافرًا ".
سادسًا: علم الفقه:
علمنا من ترجمة الماتريدي أنه تتلمذ بأبي حنيفة النعمان، وإن لم يلقه، فهو قد تتلمذ عليه من خلال مذهبه الفقهي المعروف، فقد قرأ ما كتب أبو حنيفة وما كتب تلاميذه ونقلوه عنه.
ولم يكن الماتريدي ناقلاً تابعًا للمذهب الحنفي وحسب، بل كان مجددًا، فهو قد أخذ من المذهب الحنفي أسلوبه في التفكير العقلي، واعتماده الرأي في التفسير والفقه والعقيدة، لكن دون إهمال للنص أو افتئات عليه، بل -كما سبق- وازن الماتريدي بين النقل والعقل موازنة جعلته من العلماء أصحاب الآراء الصائبة في كثير من الأحوال.
ونكاد عند مطالعة تفسير الماتريدي لا نجد من أعلام الفقه من يذكر باسمه سوى أبي حنيفة النعمان، ولعل هذا يؤكد الصلة الوثيقة التي أشرنا إليها منذ برهة بين الماتريدي وأبي حنيفة، وتلمذة الأول على الثاني.
والماتريدي حين تعرض له آية من آيات الأحكام لا ينسى أن يقف أمامها يستجلي
326
بعض أحكامها ومسائلها، مما يدلنا على اعتماده علم الفقه مصدرًا من مصادر تفسيره.
وتتمثل طريقته في اعتماد علم الفقه مصدرًا لتفسير القرآن الكريم في أنه يقوم بتحليل الآية التي تتضمن الحكم الفقهي، ثم يورد بعض أقوال العلماء، ثم يفصل القول حول المسألة الفقهية المعروفة بما أفاض اللَّه عليه.
ففي تفسيره لقول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). عرض الماتريدي لعلاقة هذه الآية بما قبلها، وشرح الآية، ثم ذكر بعض الروايات عن الصحابة عامة، وعن بعضهم خاصة:
كحذيفة وابن عَبَّاسٍ وعمر وعلي - رضي اللَّه عنهم - في تفسير الآية وبيان ما فيها من أحكام فقهية، ثم شرع يدلي بدلوه في تفسير الآية، وبيان الأحكام الفقهية التي تنطوي عليها، ونراه ينقل عن الأئمة دون أن يذكر أسماءهم، ويعرض لاختلافات المذاهب دون أن يحددها ويعينها، وتناول -أيضًا-: الأصناف الثمانية المخصوصة بالزكاة بشيء من التفصيل، ويستعين في ذلك ببعض الأحاديث والمرويات وأقوال العلماء.
لكن ليس معنى هذا أن الماتريدي يهمل نسبة الآراء الفقهية إلى أصحابها في كل الأحوال، بل إنه في مواضع ذكر الآراء منسوبة إلى أصحابها.
ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقول اللَّه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...) الآية، فقد ذكر الماتريدي الأحكام التي تتعلق بالآية، وذكر كثيرًا من الأخبار والمرويات بشأنها، وأخذ يحلل ويدلل، ومما قال: " وكان أبو حنيفة - رحمه اللَّه - يسهم للفارس بسهمين، وأبو يوسف - رحمه اللَّه - يرى أن يسهم للفرس بسهمين، ولصاحبه بسهم، والحجة في ذلك قوله: قال اللَّه تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) ".
فهنا ينسب الماتريدي الآراء إلى أصحابها، ونلاحظ أن المذهب الحنفي هو المذهب الغالب -أو الأكثر ورودًا- في تفسير تأويلات القرآن، وليس هذا غريبًا؛ لأن الماتريدي -كما قلنا- يتبع المذهب الحنفي.
سابعًا: علوم اللغة:
لا يعول الماتريدي كثيرًا على علوم اللغة في تفسيره؛ لذلك نراه مقلًّا جدَّا من توظيفها إلا مما كان من ذكر أقوال العلماء حول بيان بعض الألفاظ، كما سبق في بيان معنى كلمة
327
(الإل)، وهذا اللون من أكثر الألوان شيوعًا في تفسير الماتريدي فيما يخص توظيفه علوم اللغة، ولكن مع هذا لا نعدم توجيهًا نحويًا أو نكتة بلاغية هنا أو هناك.
فمن قبيل التوجيهات النحوية ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١).
فقد قال الماتريدي: " وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)... قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، ثم قال: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ) أي: وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم فاعلموا أن اللَّه مولاكم، ليس بمولى لهم.
وقالت طائفة: قوله: (إِن كُنْتُمْ آمَنتُم) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين، ولكن على التنبيه والإيقاظ ".
والماتريدي -كما هو بيِّن من النص- يعرج على اللغة بهدف الكشف عن مراد اللَّه من الآية، فهو لا يفعل كبعض المفسرين الذين ينصب اهتمامهم على اللغة، حتى تكاد تفسيراتهم تكون لغوية خالصة ككتب معاني القرآن، من مثل: معاني القرآن وإعرابه للزجاج، ومعاني القرآن للأخفش، ومعاني القرآن للفراء... وغيرها، أو تكون التفسيرات ذات صبغة لغوية بارزة بجوار الاهتمام بمعاني الآيات، كتفسير النسفي.
ومن قبيل النكات البلاغية التي أشار إليها الماتريدي في تفسيره، ما جاء في قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، حين قال: " يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور، والبكاء كناية عن الحزن، يقول: افرحوا وسروا قليلاً، وتحزنون في الآخرة طويلًا ".
ولم يشر -أيضًا- الماتريدي إلى النكتة البلاغية بغرض إثباتها وحسب، بل لأنها تخدم المعنى وترشد إليه؛ ولذلك كان الماتريدي مقلاًّ من الاتكاء على مباحث البلاغة، ولم يكن تفسيره تفسيرًا بلاغيًّا صرفًا ككتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، أو كتب إعجاز القرآن ككتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولم يكن متشبعًا بالمباحث البلاغية كتفسير الزمخشري مثلاً، بل إن النكتة البلاغية تأتي لبيان غرض معين.
ولعل عدم اهتمام الماتريدي بعلوم اللغة راجع إلى أمرين:
328
الأول: اهتمامه بالمضمون دون الشكل، والمعنى دون اللفظ.
والثاني: اهتمامه في تفسيره بالمسائل العقدية والفقهية، وهو أمر مترتب على الأول.
ثامنًا: إعمال العقل والتفسير بالرأي:
إن الماتريدي فضلاً عن اعتماده على المصادر المذكورة سابقًا، أعمل عقله في الآيات وقال فيها برأيه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو حين يعمل عقله يقلب الآية على وجوهها المختلفة تارة، ويذكر فيها وجهًا واحدًا تارة أخرى.
فمن الأول -وهو كثير-: ما جاء في تفسيره قول اللَّه تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ)، حيث قال الماتريدي: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
والثاني: يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد.
(فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) قيل: يجمعه جميعًا بعضهم على بعض ".
ومن الثاني ما جاء في تفسيره لصدر الآية المذكورة (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حيث قال: " جعل اللَّه تعالى الخبيث مختلطًا بالطيب في الدنيا في سمعهم وبصرهم ونطقهم وجميع جوارحهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وجميع منافعهم من الغنى والفقر وأنواع المنافع، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا... لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بأعلام، يعرف بتلك العلامات الخبيث من الطيب، من نحو ما ذكر في الطيب قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
ويلفت النظر في تفسير الماتريدي بالرأي أنه يتوخى المعاني القريبة من ظاهر الآية، فهو لا يوغل في التأويل كما يفعل المتصوفة في تفسيراتهم ولا يقف عند حدود ظاهر النص كما يفعل الظاهرية، بل إن الماتريدي ينظر في الآيات نظرة فاحصة معتدلة، ويتجه إلى المعاني التي تحتملها الآيات ولا تخرج بها عن المراد منها.
القضية الثانية: طريقة الماتريدي في التفسير:
نستطيع من خلال ما عرضناه من مصادر الماتريدي في التفسير ومن خلال تأمل التفسير الذي بين أيدينا أن نتلمس بعض الخطوط العامة لمنهج الماتريدي في التفسير.
329
إن منهج الماتريدي منهج متميز متفرد، فقد اختط لنفسه طريقة خاصة، وأسلوبًا متميزًا، وهي طريقة تتميز بالشمولية، وأسلوب يتسم بالوضوح، فهو يقوم باستقصاء الآية من كافة وجوهها، ويعرض المعنى الذي يريد إبرازه في وضوح ويسر، يفهمه القارئ العادي فضلاً عن المتخصص وكأننا أمام تفسير حديث، وليس تفسيرًا كتب في القرن الرابع الهجري.
وهذه الطريقة تتميز عن طريقة المفسرين السابقين، من وجوه يمكن استخلاصها مما سبق:
الأول: أن التفاسير السابقة كانت تقوم -في مجملها- على الرواية، بمعنى أن هذه التفسيرات تندرج تحت ما يعرف بـ " التفسير بالمأثور "، لكن الماتريدي يجمع بين الأمرين جميعًا.
الثاني: أن التفاسير السابقة كانت تعتمد على السنة عند إيراد المرويات، سواء كانت هذه المرويات أحاديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أم أقوالاً للصحابة، أو حتى أقوالاً لمفسري التابعين، فالمفسر كان يأتي بالسند كاملاً حتى يرفع الخبر أو الأثر المروي إلى قائله، وخير مثال على ذلك تفسير ابن جرير الطبري.
ولم يقتصر الأمر على التفاسير المتقدمة وحسب، بل إن تفسيرًا كتفسير القرآن العظيم لابن كثير المكتوب في القرن الثامن الهجري، يقوم على هذه الطريقة، فنجد السند والعنعنات.
وهذا بخلاف تفسير تأويلات القرآن الكريم للماتريدي الذي تخلى عن ذكر السند في نقله للمرويات، سواء كانت من السنة أو من غيرها، حتى أننا نجده أحيانًا يهمل حتى القائل المباشر للرواية، فيقول: " قَالَ بَعْضُهُمْ " أو: " قيل "، وهكذا.
وهذه الطريقة هي التي نجدها في تفسيرات المحدثين، وهي تناسب عصر الناس هذا، وكان الماتريدي سابقًا إليها قبل المحدثين بقرون متطاولة.
الثالث: أن تفسير الماتريدي -كما قلنا- شامل وعام، فنجد فيه: المسائل الاعتقادية، والمسائل الققهية، ومضمون الآية، بخلاف التفسيرات السابقة، بل وأحيانًا اللاحقة التي يكون من همها التركيز على جانب واحد من جوانب هدايات القرآن المتعددة، فنجد مفسرًا ينصب اهتمامه على مسائل اللغة، ومفسرًا آخر ينصب اهتمامه على مسائل الفقه، وبعضهم على مسائل الاعتقاد، وهكذا.
330
وطريقة الماتريدي أو منهجه يقوم على عدة خطوط عامة، هي:
أولًا: يقوم الماتريدي -أحيانًا- بعرض الآراء التي قيلت حول الآية، أو الأوجه المحتملة فيها، فيستخدم: " قَالَ بَعْضُهُمْ "، " قال آخرون "، أو: " قيل "، أو: " قيل فيه بوجوه "، أو: " قال فلان "... وهكذا.
وهذا حينما يفسر بالنقل لا بالعقل، وإزاء هذه النقول لا يقف الماتريدي عاجزًا، بل ينقد ويحلل ويوجه ويختار من بين الأقوال المذكورة ما يراه أولى بمعنى الآية والمراد منها.
ثانيًا: يقوم الماتريدي -أحيانًا- بذكر الأوجه المحتملة في تفسير الآية وذلك حين يفسر بالرأي، فيقول: " يحتمل "، أو: " يحتمل وجوه "... وهكذا.
ثالثًا: يقوم الماتريدي باستخلاص المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية، ويدير حولها حوارًا طويلاً يستقصي جوانبها، حتى لو لم يكن بعض هذه الجوانب داخلاً تحت إطار الآية المفسرة.
رابعًا: يبدأ الماتريدي أحيانًا تفسيره للآية بذكر القراءات الواردة فيها، فحين يفسر قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...) الآية يقول: " اختلف في قراءتها: قرأ بعضهم بالياء، وبعضهم بالتاء " ويعلل للقراءات بقوله: " فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ... ومن قرأ بالياء صرف الخطاب إلى الكفرة ".
خامسًا: يبين الماتريدي -أحيانًا- أسباب نزول الآية، ولكنه لا يسلم ببعضها؛ لما يراه أنه مخالف للمعنى المقصود، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا القبيل.
سادسًا: يبين الماتريدي -أحيانًا- المعنى اللغوي لبعض الألفاظ، ولا يهتم في تأويله بالشعر فلا يأتي إلا نادرًا، ولا يهتم بأقوال العرب؛ اكتفاء منه بالقرآن الكريم وسنة المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال العلماء.
سابعًا: أن الماتريدي حين يستعين بالسنة لا يهتم بذكر السند، كما أنه يذكر الحديث بالمعنى، وكأنه يعتمد على حفظه دون كتب السنة المثبت فيها الأحاديث، ثم إنه يجتزئ من الحديث بما يدل على الغرض، ولا يهتم بإيراده كاملًا.
ثامنًا: يهمل الماتريدي الحديث عن المكي والمدني، وإبراز فضائل السور، والناسخ والمنسوخ.
تاسعًا: أنه حين يشرع في تفسير أي سورة لا يقدم لها، بل يدخل إلى عالمها مباشرة،
331
ويعيش في رحاب آياتها دون أن يعرفنا شيئًا عن طبيعة هذه السورة، وعدد آياتها، وهل هي مكية أو مدنية، والظروف العامة لنزولها... إلخ.
ويمكن القول: إنه من خلال عرض منهج الماتريدي وطريقته في التفسير، يتبين القارئ أنه أمام تفسير غاية في الأهمية، يجمع كثيرًا من أطراف العلوم، وأنه يقوم على منهج نقدي تحليلي يقف ضد العقليين والنصيين المتطرفين.
يقول الكوثري: " كانت بلاد ما وراء النهر سليمة من أهل الأهواء والبدع؛ لسلطان السنة على النفوس هناك من غير منازع، تتناقل تلك الآثار بينهم جيلاً بعد جيل، إلى أن جاء إمام السنة فيما وراء النهر أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماتريدي المعروف بإمام الهدى؛ فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها؛ فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد ".
* * *
332
الفصل الثالث
بذور التجديد في تفسير الماتريدي
يمكن رصد التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة في ناحيتين:
الأولى: الإطار العام.
والثانية: الجزئيات.
فأما الناحية الأولى فتتمثل في:
أولًا: التجديد في المنهج:
سبق أن بينا أن طريقة الماتريدي في تفسيره طريقة متميزة، ومنهجه متطور إلى حد كبير، سواء من جهة الإطار العام، أو من جهة جزئيات المنهج.
فقد قام المنهج الماتريدي في تفسيره على التحليل والنقد، ولم يكن هذا معهودًا في التفسير قبل الماتريدي؛ حيث كان التفسير -كما قلنا- يعتمد على الرواية دون كبير تدخل من المفسر ودون نقد أو تمحيص أو تحليل، وفتح الماتريدي بهذا الباب واسعًا أمام من جاء بعده للتوسع في التحليل والشرح والتأويلات للآيات بإعمال العقل والنقل جميعاً.
وقد توسع الماتريدي في تفسيره في إعمال العقل، لكن مقيدًا بالنص، وهو لون من ألوان التجديد؛ حيث استطاع الماتريدي الموازنة بين العقل والنقل، وقد كان السابقون عليه يعتمدون في تفسيراتهم على النقل فقط. صحيح أن هناك من سبق الماتريدي في إعمال العقل، لكنه لم يكن في تفسير القرآن الكريم، بل كان في المسائل الاعتقادية، والمسائل الفقهية.
ويعد من التجديد في الإطار العام للمنهج عند الماتريدي في تفسيره الاستغناء عن ذكر السند عند التفسير بالمرويات.
ثانيًا: الاهتمام بالمسائل الاعتقادية:
اهتم الماتريدي كثيرًا في تفسيره بالمسائل الاعتقادية، ولعله غير مسبوق في الاهتمام بالمسائل الاعتقادية في التفسير؛ حيث كانت التفاسير السابقة تقوم على بيان معنى لفظ، أو شرح آية بشروح موجزة، مع ذكر الروايات حول الآية موضع التفسير، أما الاهتمام بالمسائل الاعتقادية التي تتضمنها فلا نكاد نجدها في التفاسير السابقة على تفسير تأويلات
333
أهل السنة، فقد توسع هذا التفسير في بيان هذه المسائل وناقشها، وذكر مذاهب العلماء فيها، بما يزيد -أحيانًا- عما تتضمنه الآيات من معان.
ثالثًا: الاهتمام بالمسائل الفقهية:
يعتبر الماتريدي في تأويلاته رائد المفسرين الذين ركزوا على المسائل الفقهية وعرض الآراء حولها في تفسيراتهم: كالإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن الكريم، فقد قام الماتريدي بعرض المسائل الفقهية المتضمنة في بعض الآيات، وعرض الآراء حولها، وزاد عن الحد المطلوب من الآية أحيانًا، وقد ذكرنا نماذج من هذا القبيل.
رابعًا: بروز شخصية الماتريدي في التفسير:
كانت التفاسير السابقة على الماتريدي تعتمد -كما قلنا مرارًا- على المرويات، أما تفسير تأويلات أهل السنة فقد اعتمد فيه الماتريدي على التحليل، وعرض الآراء ومناقشتها، والقول في القرآن بالرأي، وإبداء الآراء الشخصية حول الآيات، فنحن نحس بشخصية الماتريدي بارزة في تفسيره، فلم يكن مجرد ناقل أو جامع للروايات كما كان شأن أسلافه، والنماذج السابقة تكشف عن ذلك بوضوح.
هذه هي أبرز بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة، الذي أحسبه يسلك فيه منهجًا ويتبع فيه طريقة لم يسلكها المفسرون المتأخرون.
* * *
334
الفصل الرابع
تأثر الماتريدي بمن سبقوه
إن الماتريدي تأثر بمن سبقه، عامة، وتأثر بالإمام أبي حنيفة النعمان خاصة، حيث أخذ عنه الإطار العام لمذهبه في الكلام.
لقد تأثر الماتريدي بالمنهج المتوازن بين العقل والنقل الذي سلكه أبو حنيفة، فقد سلك ذلك المسلك الوسط الذي لم يسلكه -كما يقول الشيخ أبو زهرة- سوى أبي حنيفة، وبلغ فيه الشأو والغاية.
وهذا المنهج الذي سار عليه الإمام أبو حنيفة، وتبناه الماتريدي، لا يقدح في سلفية كل منهما، ولا يخرجهما عن دائرة أهل السنة؛ لأن أبا حنيفة يعد أول من كون مدرسة كلامية لأهل السنة وحاربت المبتدعة، وأظهرت الحق جليَّا.
يقول أبو اليسر البزدوي: " أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تعلم هذا العلم، وكان يناظر المعتزلة وأهل البدع، وكان يعلمه أصحابه في الابتداء، وقد صنف فيه كتبًا، وقع بعضها إلينا، وعامتها محاها وغسلها أهل البدع، ومما وقع إلينا كتاب العالم والمتعلم، وكتاب الفقه الأكبر، وقد نص كتاب العالم والمتعلم أنه لا بأس بتعلم العلم ".
وهذا النص يكشف عن دور أبي حنيفة البارز، كما يدل في الوقت نفسه على مجموعة من مؤلفاته التي أثرت في الماتريدي كما سنعرف فيما بعد.
وهذه الكتب رد فيها على المعتزلة، وبخاصة كتابه: الفقه الأكبر، ونصر فيه قول أهل السنة في خلق الأفعال، وفي الاستطاعة مع الفعل.
ولقد استفاد الماتريدي من هذه الكتب، فقد تناول هذه الكتب والرسائل، وتأثر بها تأثرًا فكريًّا واضحًا؛ حتى إنه ليمكن القول: إن منهج الماتريدي لا يخرج عن المنهج العام الذي وضعه أبو حنيفة في مؤلفاته، هذا المنهج الذي يستخدم العقل، لكنه العقل المقيد بالنص، بحيث لا يخرج عنه، ولا يتقدم عليه بحال؛ لأن اللَّه تعالى ركب العقول ووفقها للاستدلال.
ومعلوم أن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - كون مدرسة فكرية ضمت أعظم العلماء وجهابذة
335
الفكر في أصول الدِّين وفروعه، ويرى الزبيدي أن علم أبي حنيفة المذكور في كتبه هو من الأمالي التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع بن عبد اللَّه البلخي وأبي مقاتل حفص ابن مسلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حماد ومُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصر بن يَحْيَى البلخي وغيرهم، إلى أن وصلت إلى أبي منصور الماتريدي.
ولكن كيف وصل علم أبي حنيفة ومؤلفاته إلى الماتريدي؟
معلوم أن الإسلام تغلب على بلاد ما وراء النهر منذ الفتح الإسلامي -كما أشرنا إلى ذلك في أول هذه الدراسة- وأن أهل هذه البلاد دخلوا في الإسلام أفواجًا، وأنهم فتحوا المدارس لتعليم الناس أمور الدِّين الإسلامي.
ولما ظهرت المذاهب الفقهية اعتنق أكثرهم المذهب الحنفي، فانتشرت آراء أبي حنيفة وكتبه في هذه البلاد، ومن هنا يقول أبو معين النسفي: " إن أئمة أصحاب أبي حنيفة السالكين طريقه في الأصول والفروع الناكبين عن الاعتزال في جميع ديار ما وراء النهر وخراسان من مرو، وبلخ وغيرهما - كلهم من قديم الزمان كانوا على هذا المذهب ".
ومن أبرز هَؤُلَاءِ الأئمة: أبو مطيع البلخي الذي تفقه على أبي حنيفة، وأبو سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن الذي أخذ عنه الفقه وروى كتبه، وعلى أبي سليمان الجوزجاني تتلمذ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني وأبو نصر العياضي اللذان أخذ عنهما أبو منصور الماتريدي كما ذكرناه عند حديثنا عن ترجمته وشيوخه.
ولم يكن تأثير المذهب الحنفي في الماتريدي في المذهب الكلامي فقط، بل إنه تأثر به في مجال الفقه، وتأثر به في المنهج والطريقة.
ولم يكن -أيضًا- المذهب الحنفي هو المؤثر الوحيد في الماتريدي، بل إنه -وكما بان لنا- تأثر بالصحابة فيما نقل عنهم، وتأثر بالتابعين، وتأثر بجملة من العلماء لا يمكن حصرهم، وقد ذكرنا نماذج دالة على ذلك فيما سبق.
لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن الماتريدي عندما نقل وتأثر بسابقيه لم يكن بالمقلد التابع الذي يحتذي دونما بصر أو وعي، بل كان ينقض وينقد ويحلل ويدقق؛ ولذلك يمكن أن يقال: استطاع أبو منصور أن يؤسس المنهج الماتريدي؛ إذ كان أول متكلم من أهل السنة يعرض نظرية المعرفة بطريقة منهجية تحدد سيره في الاستدلال والوصول إلى
336
العلم، حتى كان رائدًا لأهل السنة في اتباع هذه الطريقة.
هذا، ولقد تأثر الماتريدي بأبي حنيفة في آرائه الكلامية، حيث إن المدرسة السنية فيما وراء النهر، ظلت تدافع عن العقيدة الصحيحة، بدفع البدع، وصد الانحرافات، ومقاومة الضلالات الناتجة عن التعصب للفرق المخالفة لأهل السنة، بعيدًا عن التوغل في الدقائق الكلامية، مهتدية في مسلكها بمنهج الإمام أبي حنيفة دون أن تدخل عليه جديدًا، الأمر الذي جعلنا لم نصل إلى آراء خاصة لهم خارجة عن آراء شيخهم، وهَؤُلَاءِ مهدوا الطريق لأبي منصور للقيام بمنهجه ولإرساء دعائم مذهبه الكلامي المتأثر بمنهج أبي حنيفة والمجدد في الوقت ذاته.
* * *
337
الفصل الخامس
تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده
لقد كان الماتريدي من أفاضل علماء أهل السنة في بلاد الشرق الإسلامي، ففي الطبقات السنية: اتفق الناس على علو قدره وعظم محله وطيب نشره، فإنه كان من كبار علماء الإسلام الذين بعلمهم يقتدى، وبنور فضلهم يهتدي، وكان إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين، نصره اللَّه بالصراط المستقيم، فصار في نصرة الدِّين القويم، صنف التصانيف الجليلة، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة.
ولذلك كان أثر الماتريدي في لاحقيه أثرًا كبيرًا، ولعلنا نتلمس هذا التأثير في عدة اتجاهات هي:
أولًا: تأثيره في التفسير:
تأثر الذين جاءوا من بعد الماتريدي به كثيرًا في التفسير، فأخذ عنه كثير من المفسرين، منهم صاحب روح المعاني، حيث تجد تأثره بالماتريدي في تفسير قوله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ويقول: " فهو الحامد والمحمود، والجميع شئونه، ولهم كلام غير هذا، والكل يُسقى بماء واحد، وعن إمامنا الماتريدي -روح اللَّه روحه- أنه جعل هذا حمدًا من اللَّه تعالى لنفسه، قال: وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق، ولا ضير في ذلك؛ لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك؛ إذ لا عيب يمسه، ولا آفة تحل به ".
وينقل عنه الآلوسي -أيضًا- تفريقه بين التفسير والتأويل، فيقول: " وقال الماتريدي: التفسير: القطع بأن مراد اللَّه تعالى كذا، والتأويل ترجيح أحد الاحتمالات بدون قطع، وقيل: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية ".
ونقول الآلوسي عن الإمام الماتريدي في تفسيره لا تحصى عددًا.
ونقل عنه -أيضًا- القرطبي، فعند تفسيره قول اللَّه تعالى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) قال: " حكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي - رحمه اللَّه - أنه قال:
338
يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما من لم يجاوز الحد وفعل كما كان يفعل في عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - فهو حسن ".
وأفاد من الماتريدي -أيضًا- المفسر الكبير، واللغوي البحر، الجامع بين الرواية والدراية، العالم أبو حيان في كتابه البحر المحيط، فمثلاً عند قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)، ينقل عن الماتريدي تأويله: " ويحتمل أن يراد بالشح الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه، يقال: هو شحيح بمودتك، أي: حريص على بقائها، ولا يقال في هذا: بخيل، فكأن الشح والحرص واحد في المعنى، وإن كان في أصل الوضع: الشح للمنع، والحرص للطلب، فأطلق على الحرص الشح؛ لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر، ولأن البخل يحمل على الحرص، والحرص يحمل على البخل ".
هذا ولم يقتصر تأثير الماتريدي على مفسري المتقدمين، بل لقد أفاد منه مفسرو المتأخرين حتى عصرنا الحاضر، فقد أفاد منه السيوطي في الإتقان، وأفاد منه الزرقاني في مناهل العرفان، وأفاد منه الزركشي في برهانه، وأفاد منه ابن تيمية في فتاويه، وغيرهم كثير وكثير، وما يزال اسم الماتريدي وتفسيره تأويلات أهل السنة يتردد في تفاسير المحدثين وبحوثهم في التفسير.
ثانيًا: تأثير الماتريدي في العقيدة:
لقد كان لمذهب الماتريدي الكلامي أثره في اللاحقين، فقد أفادوا منه أيما إفادة، وأفادوا من مسائله الاعتقادية التي عرضها في تفسيره تأويلات أهل السنة.
وتدليلاً على ذلك نسوق بعض النماذج، فقد جاء في أنواء البروق ما نصه: " وأما الحلف بصفات الأفعال، ففي المجموع وشرحه وحاشيته ما حاصله: أن اليمين لا ينعقد بنحو الإماتة والإحياء، اللهم إلا أن يلاحظ المذهب الماتريدي، وهو أن صفات الأفعال
339
قديمة ترجع إلى صفة التكوين، أو يريد مصدرها ومنشأها وهو القدرة والاقتدار الراجع للصفة المعنوية، أي: كونه قادراً؛ إذ المعنوية ينعقد بها جزمًا ".
ونقل عنه وعن غيره ابن تيمية، ما نصه: " وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة والمرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة، ويقولون: لا يكون فاعلاً إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته، والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق، وهذا هو ما ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي ".
وفي فتاوى الرملي: " أن الكلام القديم هو صفة اللَّه تعالى يجوز أن يسمع بلا صوت ولا حرف؛ كما يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف، وهذا هو المرجح في كلام الشيخ جلال الدِّين، ومنع الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ذلك، وهو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي ".
وتأثر اللاحقين بالماتريدي في الآراء الكلامية أكثر من أن تقوم به هذه الصفحات القليلة، بل إنه يحتاج إلى دراسات مستفيضة، وكيف لا وهو صاحب ذلك المذهب المعروف بمذهب الماتريدية في علم الكلام كما أوضحنا من قبل.
ثالثًا: تأثير الماتريدي في علم الفقه:
امتد تأثير الماتريدي في لاحقيه إلى الفقه، فقد أفاد منه العلماء في هذا المجال إفادة جمة، وفي سبيل إثبات ذلك نذكر بعض النماذج الدالة، منها ما ذكر صاحب بدائع الصنائع من " أنه إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللًا على صورة المذي، ولم يتذكر الاحتلام - فعليه الغسل في قول أبي حنيفة ومُحَمَّد، وعند أبي يوسف لا يجب، وأجمعوا أنه لو كان منيًّا أن عليه الغسل؛ لأن الظاهر أنه عن احتلام، وأجمعوا أنه إن كان وديًا لا غسل عليه؛ لأنه بول غليظ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه إذا وجد على
340
فراشه منيًّا فهو على الاختلاف، وكان يقيسه على ما ذكرنا من المسألتين. وجه قول أبي يوسف أن المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال، ولهما ما روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي بإسناده عن عائشة - رضي اللَّه عنها - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا رأى الرجل بعدما ينتبه من نومه بلة، ولم يذكر احتلامًا اغتسل، وإن رأى احتلامًا، ولم ير بلة فلا غسل عليه "، وهذا نص في الباب ".
وفي تفسير قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية، نقل أبو حيان عن الماتريدي قوله: " في الآية دليل على أن المال كله للذكر، إذا لم يكن معه أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين، وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر، بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك، ومثلًا النصف هو الكل. انتهى ".
رابعًا: تأثير الماتريدي في علوم اللغة:
لم يكن تأثير الماتريدي كبيرًا في علوم اللغة؛ نظرًا؛ لأنه كان لا يعتمد عليها في تفسيره كثيرًا، ومع هذا لا نعدم نقلاً عنه هنا أو هناك في هذا المجال؛ ومن ذلك ما جاء في التلويح عند الكلام عن قول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠). " ذهب الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي - رحمه اللَّه - إلى أن هذا مجاز عن سرعة الإيجاد، والمراد التمثيل لا حقيقة القول ".
وخلاصة ما سبق أن الماتريدي كان له فضل على لاحقيه لا ينكر، وأن أثره ممتد ومتشعب في مجالات شتى من العلوم: علم الكلام، والفقه، واللغة، والتفسير، وغيرها؛ مما يدل على موسوعية هذا العالم الجليل وفضله الذي لا ينكر في خدمة الإسلام وعلومه.
* * *
341
وصف نسخ الكتاب الخطية
اعتمدنا في تحقيق " تأويلات أهل السنة للماتريدي " على ثلاث نسخ خطية: نسختين بدار الكتب المصرية، ونسخة بتركيا.
النسخة الأولى: نسخة مصورة منقولة عن المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم " ٦ " قوله، ومحفوظة أيضًا تحت رقم ٢٧٣٠٦ ب وتقع في ثلاثة مجلدات، ينتهي الأول بورقة ٢١٩، والثاني بورقة ٤٤٠، والثالث بورقة ٦٥٦.
والنسخة مكتوبة بخط مصطفى بن مُحَمَّد بن أحمد في سنة ١١٦٥ هـ، وتشتمل على ٦٥٦ ورقة، وهي نسخة جيدة كاملة، ليس فيها تآكل سوى الورقة الأولى، وكل صفحة منها تتكون من سبعة وأربعين سطرًا، يشتمل كل سطر على نحو خمس وعشرين كلمة.
والمخطوطة الأصلية المصور عنها تقع في مجلد واحد، مذهبة الصفحات تبدأ فيها كل آية بمداد أحمر تكتب به كلمة: قوله، والخط فيها واضح تمامًا، وبها من هذه النسخة بعض تعليقات، إما تكميل آية وردت بالأصل، أو تعليق على رأى بمزيد توضيح، أو تبيين لمعنى لغوى.
النسخة الثانية: نسخة مصورة منقولة عن النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة كوبريلِّي
بالآستانة تحت رقم ٤٨، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم ٨٧٣ تفسير، وهي مكتوبة بخط أحمد بن مُحَمَّد يوسف الخالدي الصفدي الحنفي ٨١٨ هـ، ولوجد من هذه النسخة بدار الكتب المصرية أجزاء تنتهى بتفسير سورة الإسراء، وتقع في ١٦٣٩ ورقة، وفي كل صفحة ٣٥ سطرًا تقريبًا، ويشتمل كل سطر على نحو ١٦ كلمة، وخطها واضح في الأغلب منها، ويوجد بعض أجزاء من هذه المصورة في مكتبة معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية بالقاهرة، وقد تم الاعتماد عليها في التحقيق.
النسخة الثالثة: يوجد منها جزء واحد موجود في دار الكتب المصرية في ضمن أجزاء نسخة كوبريلِّي، ولكنه يختلف عن هذه النسخة من جهات:
- الجزء أصل مخطوط، بينما أجزاء نسخة كوبريلِّي مصورة.
- ثم إنه بخط يختلف عن خط النسخة.
- وتتكون صفحاته كل صفحة من نحو ٢٨ سطرًا، يشتمل كل سطر على ١٥ كلمة تقريبًا.
وهذا يؤكد أن هذا الجزء يختلف عن هذه النسخة، وأنه من نسخة أخرى.
342
وهذا الجزء يبدأ بتفسير سورة " المنافقون " من قوله: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) إلى آخر القرآن الكريم، وعدد صفحاته ٢٥٦ صفحة، وفيه خرم ورقة أو ورقتين من سورة المزمل.
* * *
343
صور المخطوط
صورة من نسخة دار الكتب المصرية فيها تفسير سورة الفاتحة
344
صور المخطوط
صورة من نسخة دار الكتب المصرية
345
صورة الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية
346
صورة أول فاتحة الكتاب من نسخة مكتبة كوبريلي
347
صورة من نسخة مكتبة كوبريلِّي
348
مقدمة المصنف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي، رضي اللَّه تعالى عنه:
الفرق بين التأويل والتفسير
هو ما قيل: التفسير للصحابة، رضي اللَّه عنهم، والتأويل للفقهاء، ومعنى ذلك: أن الصحابة شهدوا المشاهد، وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن.
فتفسير الآية أهم لما عاينوا وشهدوا، إذ هو حقيقة المراد، وهو كالمشاهدة، لا تسمح إلا لمن علم، ومنه قيل: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار؛ لأنه فيما يفسر يشهد على اللَّه به.
وأما التأويل: فهو بيان منتهى الأمر، مأخوذ من: آل يؤول، أي يرجع، ومعناه - كما قال أبو زيد: لو كان هذا كلام غيره يوجه إلي كذا وكذا من الوجوه، فهو توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه، ولا يقع التشديد في هذا مثل ما يقع في التفسير، إذ ليس فيه الشهادة على اللَّه؛ لأنه لا يخبر عن المراد، ولا يقول: أراد اللَّه به كذا، أو عنى، ولكن يقول: يتوجه هذا إلى كذا وكذا من الوجوه، هذا مما تكلم به البشر. واللَّه أعلم ما صحته من الحكمة.
ومثاله: أن أهل التفسير اختلفوا في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن اللَّه تعالى حمد نفسه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمر أن يُحمد.
فمن قال: عنى هذا، دون هذا، فهو المفسر له.
وأما التأويل - فهو أن يقول: يتوجه الحمد إلى الثناء والمدح له، وإلى الأمر بالشكر لله عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم بما أراد.
فالتفسير -ذو وجه واحد، والتأويل- ذو وجوه.
* * *
349
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما صلى على النجاشي قال أناس من المنافقين: يصلي على حبشي مات في أرض الحبشة؟! فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...) الآية.
وعن الحسن قال: لما مات النجاشي، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " استغفروا لأخيكم " قالوا: يا رسول اللَّه، لذلك العِلْج؟! فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...) الآية، وقيل: لما صلَّى عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال المنافقون: صلى على من ليس من أهل دينه؟ فأنزل اللَّه الآية.
وعن الزهري عن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى على النجاشي، فكبَّر عليه أربع تكبيرات، وصففنا في المصلَّى خلفه، وكان مات بالحبشة.
قال: والنوازل على وجهين: من ترك بسببه خيرًا وسعة فله فيه فضل؛ لأنه كان مفتاح الخير، ومن ترك بسببه ضيقًا فعليه فضل لوم؛ كأنه مفتاح الضيق.
وأمَّا الأحكام: فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشترك فيه الخلق، ولا يجوز أن يقال: نزل في شأن فلان؛ إنما أنزل لما في شأن فلان، لا في شأنه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا (٢٠٠)
قيل: على أداء الفرائض والعبادات، وقيل: اصبروا على البلايا والمصائب والشدائد:
567
(وَصَابِرُوا)
في الجهاد لعدوكم.
وقيل: اصبروا على أمر اللَّه وفرائضه، وصابروا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وصحبه في المواطن.
وعن الحسن قال: أُمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضى اللَّه لهم، وهو الإسلام، ولا يَدَعُوا دينهم؛ لشدة ولا لرخاء، ولا ضراء، ولا سراء، حتى يموتوا، ويكونوا يصابرون الكفار، حتى يكونوا هم يميلون عن دينهم، وأمروا أن يرابطوا المشركين.
وقيل: اصبروا على الجهاد، وصابروا لعدوكم.
(وَرَابِطُوا)
أي: داوموا على دينكم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ):
قال: والصبر في نفسه خاصة في طاعة يصبر عليها، ومعصية يصبر عنها وفي بلوى، والمصابرة مع غيره، وقد يكون كل واحد على المعنيين؛ لأنه لا يخلو عن مصابرة عدو فيما يطيع ربه.
وقيل: رابطوا مع عدوكم ما أقاموا، واتقوا اللَّه فيما أمركم به، فلا تدعوا ذلك مع نبيكم، وذروا ما نهاكم عنه، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
568
Icon