تفسير سورة النساء

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة النساء من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (قَدْ يَكُونُ ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ عَامّاً؛ وَقَدْ يَكُونُ خَاصّاً لأَهْلِ مَكَّةَ؛ وَهُوَ هَا هُنَا عَامٌّ لِجَمِيْعِ النَّاسِ، وَمَعْنَاهُ: أجِيْبُواْ رَبَّكُمْ وأَطِيْعُوهُ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ يعني آدمَ، وإنَّمَا أتتِ النفسُ لاعتبار اللفظِ دونَ المعنى. قال الشاعرُ: أبُوكَ خَلِيْفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى   وَأَنْتَ خَلِيْفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُفقالَ: وَلَدَتْهُ أُخْرَى؛ لأن لفظَ الخليفة مؤنَّث. وإنَّما مَنَّ الله علينا بأنْ خلقَنا من نفسٍ واحدة؛ لأن ذلك أقربُ إلى أن يَعْطِفَ بعضٌ على بعضٍ، ويَرْحَمَ بَعضُنا بعضاً لرجوعنا في القرابةِ إلى أصلٍ واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ أي وخَلَقَ من نفسِ آدمَ زوجَها حَوَّاءَ؛ خلَقَها من ضِلْعٍ من أضلاعه اليُسرى وهي القُصْرَى بعدَ ما ألْقِيَ عليه النومُ فلم يُؤْذِهِ، ولو آذاهُ لَمَا عَطَفَ عليها أبداً. قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أعْوَجٍ، فَإنْ أرَدْتَ أنْ تُقِيْمَهَا كَسَرْتَهَا، وَإنْ تَرَكْتَهَا وَفِيْهَا عِوَجٌ اسْتَمْتَعْتَ بهَا عَلَى عِوَجٍ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾؛ أي بَشَراً وفِرَقاً، وأظهرَ من آدمَ وحوَّاء خَلْقاً كثيراً من الرِّجال والنسَاء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ ﴾؛ أي اتَّقُوا معاصيَ اللهِ.
﴿ #١٦٤٩; لَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ ﴾ أي يتساءَلُ بعضُكم بعضاً من الجوارحِ والحقُوق؛ يقولُ الرجل للرجُلِ: أسألُكَ باللهِ افْعَلْ لِي كذا. قرأ أهلُ الكوفة: (تَسَاءَلُونَ) مخفَّفاً، وقرأ الباقون بالتشديدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلأَرْحَامَ ﴾ قرأ عامَّة القُرَّاء بنصب (الأَرْحَامَ) على معنى: واتَّقُوا الأرحامَ أن تقطعُوها. وقرأ النخعيُّ وقتادةُ والأعمش وحمزة بالخفضِ على معنى: وبالأرحامِ على معنى: تساءَلُونَ باللهِ وبالأرحامِ؛ فيقول الرجلُ: أسألُكَ باللهِ وبالرَّحِمِ. والقراءةُ الأُولى أفصحُ؛ لأن العربَ لا تعطفُ بظاهرٍ على مُضْمَرٍ مخفوض إلاَّ بإعادةِ الخافض، لا يقولونَ: مررتُ به وزيدٍ، ويقولونَ: بهِ وبزيدٍ، وقد جاءَ ذلك في الشِّعر، قال الشاعرُ: قَدْ كُنْتَ مِنْ قَبْلُ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا   فَاذْهَبْ فَمَا بكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾؛ أي حَفِيظاً لأعمالكم، وَالرَّقِيْبُ هو الحافظُ، وقال بعضُهم: عَلِيْمَاً؛ والعَلِيْمُ والحافظُ متهاديان؛ لأن العليمَ بالشيء حافظٌ له.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ﴾؛ قال مقاتلُ والكلبيُّ:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطْفَانَ؛ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ كَثِيْرٌ لابْنِ أخٍ لَهُ يَتِيْمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْيَتِيْمُ طَلَبَ مَالَهُ، فَمَنَعَهُ الْعَمُّ فَتَرَافَعَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾.
فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الرَّجُلُ: أطَعْنَا اللهَ وَأطَعْنَا الرَّسُولَ وَنَعُوذُ باللهِ مِنَ الْحَوْب الْكَبيْرِ، فَدَفَعَ مَالَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيُطِيْعَ رَبَّهُ هَكَذا فَإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ إلى جَنَّةٍ " فَلَمَّا قَبََضَ الصَّبيُّ مَالَهُ أنْفَقَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ثَبَتَ الأَجْرُ وَبَقِيَ الْوِِزْرُ " فَقَالوُا: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَرَفْنَا أنَّهُ ثَبَتَ الأَجْرُ، فَكَيْفَ بَقِيَ الْوِزْرُ وَهُوَ يُنْفِقُ فِي سَبيْلِ اللهِ؟ فَقََالَ: " ثَبَتَ الأَجْرُ لِلْغُلاَمِ؛ وَبَقِيَ الْوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ " لأَنَّ الْوَالِدَ كَانَ مُشْرِكاً ". وإنََّما سَمَّى اللهُ تعالى البالغَ يتيماً، ولا يُتْمَ بعدَ البلوغِ استصحاباً بالاسم الأوَّل، كما قالَ تعالى:﴿ وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾[الأعراف: ١٢٠] ولا سِحْرَ مع السُّجود، ولأنه قريبُ عَهْدٍ بالْيُتْمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ﴾ أي لاَ تبذِّروا أموالَكم الحلالَ وتأكلُوا الحرامَ من أموالِ اليتامَى. قالَ سعيدُ بن المسيَّب والنخعيُّ والزهريُّ والسدي والضحَّاك: (كَانَ أوْصِيَاءُ الْيَتَامَى وَأوْلِيَاؤُهُمْ يَأْخُذُونَ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ، وَيَجْعَلُونَ مَكَانَهُ الرَّدِيْءَ، وَرُبَّمَا كَانَ أحَدُهُمْ يَأَخُذُ الشَّاةَ السَّمِيْنََةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ، وَيَجْعَلُ مَكَانَهَا الْمَهْزُولَةَ، وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْجَيِّدَ وَيَجْعَلُ مَكََانَهُ الزَّيْفَ وَيَقُولُ: دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ؛ فَذلِكَ تَبْدِيْلُهُمْ، فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ). وقال مجاهدُ: (مَعْنَى الآيَةِ: لاَ تَجْعَلْ رزْقَكَ الْحَلاَلَ حَرَاماً؛ تَتَعَجَّلُهُ بأَنْ تَسْتَهْلِكَ مَالَ الْيَتِيْمِ، فَتُنْفِقَهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَتَحَرَّ فِيْهِ لِنَفْسِكَ وَتُعْطِيْهِ غَيْرَهَ، فَيَكُونَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ حَرَاماً خَبيْثاً، وَتُعْطِيْهِ مَالَكَ الْحَلاَلَ، وَلَكِنْ آتوهُمْ أمْوَالَهُمْ بأعْيَانِهَا). وفي هذا دليلٌ على أنه لا يجوزُ لولِيِّ اليتيمِ أن يستقرضَ مالَ اليتيم ولا أن يستبدلَهُ من نفسهِ، وقيل: معنى ﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ﴾ أي لا تجعلِ الزيف بدلَ الجيِّد؛ ولا المهزولَ بدل السَّمين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ﴾؛ كقوله تعالى:﴿ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[آل عمران: ٥٢] أي مَعَ اللهِ، وقيل معناه: لا تأكلُوا أموالَهم مُضِيْفِيْنَ إلى أموالِكم؛ لأنَّهم كانوا يَخْلِطونَ أموالَ اليتامَى بأموالِهم حتى يصيرَ دَيْناً عليهم، ثم كانوا يبيعونَها مع أموالِهم ويربحونَ عليها ويَسْتَبدُّونَ بتلك الأرباحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾؛ أي إثْماً عَظِيْماً، وفيه ثلاثُ لغاتٍ: قراءةُ العامَّة: (حُوباً) بالضمِّ وهي قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي لغةُ أهلِ الحجازِ، وقراءة الحسنِ (إنَّهُ كَانَ حَوْباً) بفتح الحاء وهي لغةُ تَميم، وقراءةُ أبَيِّ بن كعبٍ: (حَاباً) على المصدر مثلُ القَالِ، ويجوزُ أن يكون اسْماً مثلُ الزادِ، ويقالُ للذنب: حُوبٌ وَحَوْبٌ وَحَابٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً ﴾[النساء: ١٠] الآيَةُ، خَافَ النَّاسُ أنْ لاَ يَعْدِلُواْ فِي أمْوَالِ الْيَتَامَى - وَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءُوا - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). ومعناها: إنْ خِفْتُمْ أنْ لاَ تعدِلُوا في أموالِ اليتامَى؛ فَخَافُوا في النِّساءِ إذا اجتمعنَ عندَكُم أن لا تعدلُوا بينهنَّ، فَتَزَوَّجُوا ما حَلَّ لكم من النِّساءِ، ولاَ تَنْكِحُوا إلاَّ ما يُمكنكم إمساكهُنَّ: ثِنْتَانِ ثِنْتَانِ؛ وَثَلاَث ثلاث؛ وأربع أربعِ، ولا يزيدُوا على أربعِ حرائر. وقيل: معنى الآية: إنْ خِفْتُمْ أن لا تعدِلوا يا معشرَ الأولياءِ في اليتامَى إذا تزوجتُم بهِنَّ؛ فانْكِحُوا ما حلَّ لكم من النساء غيرهنَّ. وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: إنْ خِفْتُمْ فِي ولاَيَةِ الْيَتَامَى إيْمَاناً وتَصْدِيْقاً؛ فَخَافُوا فِي الزِّنَا، وَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ). وقال بعضُهم: كانوا يَتَحَرَّجُونَ عن أموالِ اليتامى، ويترخَّصون في النساءِ، ولا يعدلونَ فيهنَّ ويتزوجُون منهنَّ ما شاءُوا فربما عدلوا، وربَّما لم يعدلوا، فلما سألُوا عن أموالِ اليتامى، أنزلَ اللهُ تعالى﴿ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ﴾[النساء: ٢]، وأنزلَ ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، أي كما خِفْتُمْ أن لا تُقْسِطُوا في اليتامى وهَمَّكُمْ ذلكَ؛ فخافُوا في النساءِ أن لا تعدلُوا فيهنَّ؛ ولا تزوَّجوا أكثرَ مما يُمكنِكم إمساكهنَّ والقيامُ بحقِّهنَّ؛ لأن النساءَ كاليتامَى في الضَّعْفِ والعَجْزِ، فما لكم تُرَاقِبُونَ اللهَ في شيء، وَتَعْصُونَهُ في مثلهِ، وهذا قولُ سعيدِ بن جبير وقتادةَ والربيعِ والضحَّاك والسديِّ، وروايةٌ ابنِ عبَّاس. والإقْسَاطُ في اللغة: الْعَدْلُ، يقال: أقْسَطَ؛ إذا عَدَلَ، وَقَسَطَ؛ إذا جَارَ، وإنَّما قال: (مَا طَابَ) ولم يقل مَنْ طَابَ؛ لأن (ما) مع الفعلِ بمنْزلة المصدر، كأنهُ قالَ: فانكحُوا الطيِّبَ، يعني الحلالَ من النساء. وقرأ ابن أبي عبلةَ: (مَنْ طَابَ)؛ لأن (ما) لِما لا يعقلُ و (من) لمن يعقل، إلاّ أنَّ عامَّة القُرَّاء والعلماءِ يقولون: إن العربَ تجعلُ (ما) بمعنى (مِن)؛ و (مِن) بمعنى (ما)، وقد جاءَ القُرْآنُ بذلكَ: قال اللهُ تعالى:﴿ وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾[الشمس: ٥]، وقال تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ ﴾[النور: ٤٥]، وقال تعالى:﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: ٢٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ﴾ بدل مِنْ (طَابَ لَكُمْ) وهو مما لا ينصرفُ، لأن ﴿ مَثْنَىٰ ﴾ معدولٌ عن اثنين وذلكَ نكرةٌ، و (ثُلاَثَ) معدولٌ عن ثلاثةٍ. وذهبَ بعض الرَّوَافِضِ إلى استحلالِ تِسْعِ استدلالاً بهذه الآية، ولَيْسَ ذلِكَ بشَيْءٍ، فإنَّ الواوَ هنا بمعنى (أو)،" وروي عن قيسِ بن الْحَارثِ: أنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ثَمَانِي نِسْوَةٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُمْسِكَ أرْبَعاً وَيُفَارقَ أرْبَعاً، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِغَيْلاَنَ حِيْنَ أسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: " أمْسِكْ مِنْهُنَّ أرْبعاً؛ وَفَارقْ سَائِرَهُنَّ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾؛ معناهُ: وإن خِفْتُمْ أن لا تعدِلُوا في القِسْمَةِ والنَّفقةِ بين النساءِ الأربع التي أحلَّ اللهُ لكم؛ فتزوَّجوا امرأةً واحدة لا تخافون الْمَيْلَ في أمرِها، واقْتَصِرُوا على الإمَاءِ حتى لا تحتاجُوا إلى الْقَسْمِ بينهنَّ يعني السّرَاري. وقولُ الحسنِ وأبي جعفرَ: (فَوَاحِدَةٌ) بالرَّفعِ؛ أي فَوَاحِدَةٌ كَافِيَةٌ؛ أو فَلْتَكُنْ وَاحِدَةٌ. وقرأ العامَّة نصباً أي فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ ذَكَرَ الأَيْمَانِ توكيداً؛ تقديرهُ: أوْ مَا مَلَكْتُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾؛ أي التَّزَوُّجُ بالواحدةِ، والإقتصار على مِلْكِ اليمين أقربُ إلى أن لا تَعُولُوا. قال: أنْ لاَ تَجُورُوا وأن لا تَمِيلُوا: ألاَّ تَجُور. وَالْعَوَلُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، ومنهُ الْعَوَلُ في الفرائضِ: مُجَاوَزَةُ مَخْرَجِ الْفَرَائِضِ. رَوَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ قَالَ:" ألاََّ تَجُورُواْ، أوْ أنْ لاَ تِمِيلُواْ "وأما مَن قال معنى: أنْ لاَ تَعُولُوا: لاَ تَكْثُرَ عِيَالُكَ، وهذا محكيٌّ عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، فقد قيلَ: إنه خطأٌ في اللغة؛ لأنه لا يقالُ في كثرةِ العِيَالِ: عَالَ يَعُولُ، وإنَّما يقالُ: عَالَ يَعِيْلُ إذا صارَ ذا عِيَالٍ، وفي الآيةِ ما يُبْطِلُ هذا التأويلَ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ لأن إباحةَ كلِّ ما مَلَكَ اليمينُ أزْيَدُ في العيالِ من أربع نِسْوَةٍ. وقرأ طاوُوس: (أنْ لاَ يَعِيلُوا) مِنَ الْعِيْلَةِ؛ يقال: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيْلُ؛ إذا افْتَقَرَ، وَالْعِيْلَةُ: الْفَقْرُ. قال الشاعرُ: وَمَا يَدْري الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ   وَمَا يَدْري الْغَنِيُّ مَتَّى يَعِيلُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ ﴾؛ قال الكلبيُّ: (هَذا خِطَابٌ لِلأَوْلِيَاءِ، كَانَ الْوَلِيُّ إذا زَوَّجَ امْرَأةً، فَإنْ كانَ زَوْجُهَا مَعَهُمْ فِي الْعَشِيْرَةِ لَمْ يُعْطِهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَهْرِهَا قَلِيْلاً وَلاُ كَثِيْراً، وَإنْ كَانَ زَوْجُهَا غَرِيْباً حَمَلُوهَا عَلَى بَعِيْرٍ إلَى زَوْجِهَا، وَلاَ يُعْطُونَهَا مِنْ مَهْرِهَا غَيْرَ ذلِكَ الْبَعِيْرِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذلِكَ وَأَمَرَهُمْ أنْ يُعْطُوهَا الْحَقَّ أهْلَهُ). وقال مقاتلُ وأكثر أهلِ التَّفسير: (هَذا خِطَابٌ للأَزْوَاجِ، كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأةَ فَلاَ يُعْطِيْهَا مَهْرَهَا، فَأُمِرُواْ أنْ يُعْطُواْ نِسَاءَهُمْ مُهُورَهُنَّ الَّتِي هِيَ أثْمَانُ فُرُوجِهِنَّ) وهذا القولُ أضحُّ وأوضحُ. والصَّدُقَاتِ: الْمُهُورُ، واحدهُ صَدُقَةٌ بضمِّ الدال. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نِحْلَةً ﴾ قال قتادةُ: (فَرِيْضَةً وَاجِبَةً)، وقال ابن جُريج: (فَرِيْضةً مُسَمَّاةً)، وقال الكلبيُّ: (عَطِيَّةً وَهِبَةً)، وقال أبو عُبيدة: (عَنْ طِيْب نَفْسٍ)، قال الزجَّاج: (تَدَيُّناً). وقيل: معناهُ: عطيَّةٌ من اللهِ تعالى للنَّساءِ حيث جَعْلِ المهرَ لَهُنَّ، ولم يوجب عليهنَّ شيئاً من القومِ مع كون الاستِمْتَاع مشتَركاً بينهنَّ وبين الأزواجِ. وقيل معنى ﴿ نِحْلَةً ﴾: دِيَانَةً، فانتصبَ ﴿ نِحْلَةً ﴾ على المصدر، وقيل: على التفسيرِ. وروي عن رسول الله أنه قال:" مَنِ ادَّانَ دَيْناً وَهُوَ يَنْوِي أنْ لاَ يُؤَدِّيَهُ لَقِيَ اللهَ سَارقاً، ومَنْ أصْدَقَ امْرَأةً صِدَاقاً وَهُوَ يَنْوِي أنْ لاَ يُوَفِّيَهَا لَقِيَ اللهَ زَانِياً "وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أحَقِّ الشُّرُوطِ أنْ تُوَفُّوا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بهِ الْفُرُوجَ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾؛ أي إنْ أحْلَلْنَ لَكُم عن شيءٍ من المهرِ، وإن وَهَبْنَ لكم منه شيئاً. ونصب ﴿ نَفْساً ﴾ على التَّمييزِ إذا قيلَ ﴿ طِبْنَ لَكُمْ ﴾ لم يُعلم في أيِّ صنفٍ وقعَ الطيبُ، فكأنه قالَ: إن طَابَتْ أنفسُهن بهِبَةِ شيءٍ من المهرِ فكلُوا الموهوبَ لكم هنيئاً لا إثْمَ فيه، مَرِيئاً لا مَلاَمَةَ فيه. قال الحضرميُّ: (إنَّ نَاساً كَانُواْ يَتَأَثَّمُونَ أنْ يَرْجِعَ أحَدُهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَاقَ إلَى امْرَأتِهِ). قال اللهُ تعالى: ﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾ من غيرِ إكراهٍ ولا خَدِيْعَةٍ ﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ أي شافياً طَيِّباً. وقيل معناهُ: فكلوهُ دواءً شافياً، وقيل: الْهَنِيءُ: الطَّيِّبُ الْمُسَاغُ الَّذِي لاَ يَغُصُّهُ شَيْءٌ، وَالْمَرِيْءُ: الْمَحْمُودُ الْعَاقِبةِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ وَلاَ يُؤْذِي، تقول: لا تخافونَ في الدنيا منهُ مطالبةً، ولا في الآخرة بتبعةٍ، يقال: هنأني لِي الطعامُ وَمَرِّأنِي، فإذا أفْرِدَ يقال: أَمْرَأنِي ولا يقال إهْنَأنِي، وَهَنِيْئاً مصدرٌ. وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه أنهُ قالَ: (إذا كَانَ أحَدُكُمْ مَرِيْضاً فَلْيَسْأَلِ امْرَأتَهُ دِرْهَمَيْنِ مِنْ مَهْرِهَا تَهَبْ لَهُ بطِيْبَةِ نَفْسِهَا؛ فَلْيَشْتَرِ بذلِكَ عَسَلاً، وَيَشْرَبُهُ مَعَ مَاءِ الْمَطَرِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ الْهَنِيءُ وَالْمَرِيءُ وَالشِّفَاءُ وَالْمَاءُ الْمُبَارَكِ). لأنَّ اللهَ تعالى سَمَّى المهرَ هَنِيْئاً مَرِيْئاً إذا وَهَبَتْهُ المرأةُ لِزَوْجِهَا؛ وسَمَّى العسلَ شِفَاءً؛ وسَمَّى المطرَ مَاءً مُبَاركاً، فإذا اجتمعتْ هذهِ الأشياءُ يُرْجَى له الشِّفاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً ﴾؛ أي لا تُعْطُوا الْجُهَّالَ بمواضعِ الحقِّ - وهم النساءُ والصِّبيانُ - أموالَكم التي جعلَ الله لكم قَوَامَ أمرِكم ومعيشتِكُم؛ أي جعلَكم تقومونَ به قِيَاماً إذا عَلِمَ الرجلُ أنَّ امرأتَهُ سفيهةٌ مُفْسِدَةٌ، وأن وَلَدَهُ سَفِيْهٌ مفسدٌ، فلا يَنْبَغِي لهُ أن يُسَلِّطَ أحداً منهُما على مالهِ الذي هو قِوَامُ أمرهِ. ومن قرأ (قِيَماً) فمعناهُ: التي جعلَها اللهُ لكم قِيْمَةً للأشياءِ فَبهَا تقومُ أمورُكم. وقال مجاهدُ: (نَهَى الرِّجَالَ أنْ يُؤْتُوا النِّسَاءَ أمْوالَهُمْ وَهُنَّ سُفَهَاءُ؛ كُنَّ أزْواجاً، أوْ بَنَاتٍ أوْ أُمَّهَاتٍ). وعن الضحَّاك: (النِّسَاءُ مِنْ أسْفَهِ السُّفَهَاءِ) يدلُّ على هذا التأويلِ قولهُ صلى الله عليه وسلم:" ألاَ إنَّمَا خُلِقَتِ النَّارُ لِلسُّفَهَاءِ - قَالَهَا ثَلاَثاً - ألاَ إنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ إلاَّ امْرَأةٌ أطَاعَتْ قَيِّمَهَا "وعن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ:" جَاءَتِ امْرَأةٌ سَوْدَاءُ جَرِيئَةُ الْمَنْطِقِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: بأَبي وَأمِّي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ بَلَغَنِي أنَّكَ تَقُولُ فِيْنَا كُلَّ شَيْءٍ، قَالَ: " أيُّ شَيْءٍ قُلْتُ فِيْكُنَّ؟ " قَالَتْ: سَمَّيْتَنَا السُّفَهَاءَ، قَالَ: " اللهُ تَعَالَى سَمَّاكُنَّ السُّفَهَاءَ فِي كِتَابِهِ " قَالَتْ: وَسَمَّيْتَنَا النَّوَاقِصَ، قَالَ: " فَكَفَى نَقْصاً أنْ تََتْرُكَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ الصَّلاَةَ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ أيَّامٍ لاَ تُصَلِّي فِيْهَا " - يَعْنِي أيَّامَ حَيْضِهَا - ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " أمَا يَكْفِي إحْدَاكُنَّ إذا حَمَلَتْ كَانَ لَهَا كَأَجْرِ الْمُرَابطِ فِي سَبيْلِ اللهِ، وَإذا وَضَعَتْ كَانَتْ كَالْمُتَشَحِّطِ بدَمِهِ فِي سَبيْلِ اللهِ، فَإذا أرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بكُلِّ جُرْعَةٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ ولْدِ إسْمَاعِيْلَ، فَإذا سَهِرَتْ كَانَ لَهَا بكُلِّ سَهْرَةٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ ولْدِ إسْمَاعِيْلَ، وَذلِكَ لِلْمُؤْمِنَاتِ الْخَاشِعَاتِ الصَّابرَاتِ اللاَّتِي لاَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ " فَقَالَتِ السَّوْدَاءُ: أيَا لَهُ فَضْلاً لَوْلاَ مَا تَبعَهُ مِنَ الشُّرُوطِ ". وروي: أنَّ امْرَأةً مَرَّتْ بعَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ لَهَا شَارَةٌ وَهَيْئَةٍ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ عُمَرَ: ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾.
وقال معاويةُ بن مُرَّةَ: (عَوِّدُوا نِسَاءَكُمْ (لاَ)، فَإنَّهُنَّ سَفِيْهَاتٌ، إنْ أطَعْتَ الْمَرْأةَ أهْلَكَتْكَ). وعن أبي موسَى الأشعريِّ قالَ: (ثَلاَثَةٌ يَدْعُونَ اللهَ فَلاَ يَسْتَجِيْبَ لَهُمْ: رَجُلٌ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ أعْطَى سَفِيْهاً مَالَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾ أيِ الْجُهَّالَ بَمَوَاضِعِ الْحَقِّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً ﴾.
قرأ ابنُ عمر (قَوَاماً) بفتح القافِ والواو، وقرأ عيسَى بن عمر (قِوَاماً) بكسر القاف وهما لُغات. وقرأ الأعرجُ ونافع وابنُ عامر (قيماً) بكسر القاف من غير ألف. وقرأ الباقون (قِيَاماً) بالألف. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ ﴾؛ أي أطْعِمُوا النساءَ والأولادَ واكسُوهم من أموالِكم. ﴿ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾؛ أي عُدُّوهُمْ عُدَّةً حَسَنَةً، نحوَ أن يقولَ الرجلُ: سأفعل كذا إن شاءَ اللهُ، وقيلَ: رُدُّوا عليهم رَدّاً جميلاً، وقولوا لَهم قَوْلاً لَيِّناً تطيبُ به أنفسُهم. والرِّزْقُ من اللهِ تعالى: الْعَطِيَّةُ غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ، ومن العبادِ الشيءُ الموظَّف لوقتٍ محدود. وإنَّما قال ﴿ فِيْهَا ﴾ ولم يقل: مِنْهَا؛ لأنه أرادَ: اجعلوا لَهم حَظّاً فيهَا أي رزْقاً فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾؛ أي اخْتَبرُوهُمْ في عقولِهم وتدبيرِهم وديانَتِهم حتى إذا بَلَغُوا مبلغَ النِّكاحِ وهو الْحُلُمُ، وهذا دليلُ جواز الإذن للصبيِّ في التجارةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾؛ أي عَلِمْتُمْ منهم ووجدتُم إصْلاحاً في عقولِهم وحِفْظاً في أموالِهم ﴿ فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾؛ الَّتِي عندَكم. نزلَتْ هذه الايةُ في ابنِ رُفَاعَةَ وَعَمِّهِ، وكان رفاعةُ قد تُوُفِّيَ، وتركَ ابنَهُ صغيراً، فَأتَى عمُّهُ ثابتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال لهُ: إنَّ ابْنَ أخِي يَتِيْمٌ فِي حِجْرِي، فَمَتَى أدْفَعُ إلَيْهِ مَالَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾؛ أي لا تأْكُلُوا أموالَ اليتامَى بغيرِ حَقِّ. والإسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾؛ أي لِيَتَوَرَّعْ بغِنَاهُ عن مالِ اليتيم، ولا يُنْقِصْ شيئاً من مَالِهِ، والْعِفَّةُ: الامْتِنَاعُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ فِعْْلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾؛ اختلفُوا في معنَى ذلكَ، قال عمر بن الخطاب وسعيدِ بن جُبير وعبيدةُ السَّلمانِيُّ: (مَعْنَاهُ: فَلْيَأْخُذْ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ، فَإذا أيْسَرَ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ). وهكذا روَى الطحَّاويُّ عن أبي حنيفةَ، فمعنى قولِه تعالى: ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ بالْقَرْضِ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾[النساء: ١١٤] أي أو قَرْضٍ. وقال مكحولُ وعطاء وقتادةُ: (إنَّ لِوَلِيِّ الْيَتِيْمِ أنْ يَأْخُذ مِن مَالِ الْيَتِيْمِ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيَسُدُّ جُوعَتَهُ لاَ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ). قال الشَّعبيُّ: (لاَ يَأْكُلُ إلاَّ أنْ يَضْطَرَّ إلَيْهِ كَأَنْ يَضْطَرَّ إلَى الْمَيْتَةِ). وقال بعضُهم: (فَلْيَأْكُلْ بالْمَعْرُوفِ) أي يأكل من غيرِ إسرافٍ، ولا قَضَاءٍ عليهِ فيما أكلَ. واختلفوا في كيفيَّة هذا بالمعروفِ، فقالَ عكرمةُ والسُّدِّيُّ: (يَأْكُلُ وَلاَ يُسْرِفُ فِي الأَكْلِ وَلاَ يَكْتَسِي مِنْهُ). وقال النخعيُّ: (لاَ يَلْبَسُ الْكِتَّانَ وَلاَ الْحُلَلَ، وَلَكِنْ مَا يَسُدُّ الْجُوْعَةَ وَيُوَاري العَوْرَةَ). وقال بعضُهم: معنى: ﴿ فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ هو أن يأكلَ من تَمْرِ نخيلهِ ولَبَنِ مَوَاشِيهِ بالمعروفِ ولا قضاءَ عليه، فأمَّا الذهبُ والفضَّة إذا أخذ منه شيئاً ردَّ بَدَلَهُ. قال الضحَّاك: (الْمَعْرُوفُ رُكوبُ الدَّابَّةِ وَخِدْمَةُ الْخَادِمِ، ولََيْسَ لَهُ أنْ يَأْكُلَ من مالهِ شيئاً). وعن ابنِ عبَّاس: (أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إنَّ فِي حِجْرِي أمْوَالَ أيْتَامٍ؛ أفَتَأْذنُ لِي أنْ أُصِيبَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: إنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا، وَتَهْنَا جَرْبَاهَا، وَتَلُوطَ حَوضَهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بالنَّسْلِ وَلاَ نَاهِكٍ فِي الْحَلْب). عنِ ابن عبَّاس روايةٌ أخرى أنَّ معنى الآيةِ: (فَلْيَأكُلْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بالْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يُصِيْبَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ شَيْئاً). وعنِ ابن مسعُودٍ رضي الله عنه أنهُ قال: (لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ قَرْضاً وَغَيْرَهُ) وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وروى بشْرُ عن أبي يوسف أنه قال: (لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ إذا كَانَ مُقِيْماً، فَإنْ خَرَجَ فِي تَقَاضِ دَيْنٍ لِلْيَتِيْمِ أوْ إلَى ضِيَاعٍ لَهُ، فَلَهُ أنْ يُنْفِقَ وَيَكْتَسِي وَيَرْكَبَ، فَإذا رَجَعَ رَدَّ الثِّيَابَ وَالدَّابَّةَ إلَى الْيَتِيْمِ). وعنه لأبي يوسف روايةٌ أخرى: (أنَّ قَوْلَهُ ﴿ فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنْسُوخاً بقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾[النساء: ٢٩]). فحاصلُ هذه الروايَاتِ؛ أنَّ الأصحَّ على مذهب أبي حنيفةَ وأصحابهِ: أنه ليس للوصيِّ أن يأكلَ من مالِ اليتيمِ قَرْضاً ولا غيرَهُ؛ إلاَّ أن يضطرَّ إلى شيءٍ منه فيأخذهُ بالضرورةِ، ثم يَرُدُّ إذا وجدَ. وعن ابنِ عبَّاس قال:" جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ فِي حِجْرِي يَتِيْماً فًأَضْرِبُهُ، قال: " مَا كُنْتَ ضَارباً مِنْهُ وَلَدَكَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾؛ إذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ بعدَ بلوغِهم وإيناسِ الرُّشْدِ.
﴿ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ﴾؛ وثيقةً لكم.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ﴾؛ أي شَهِيْداً ومُجَازياً لها إلاَّ أن الإشهادَ فيما بين الناسِ من أحكام الدُّنيا لضروب مِن المصلحةِ، وانتصب ﴿ حَسِيْباً ﴾ على القطع، وَكَفَى باللهِ الْحَسِيْب حَسِيْباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾؛ وذلك أنَّ العربَ كانت لا تُورثُ إلاَّ مَن طَاعَنَ بالرِّمَاحِ وَذادَ عن المالِ وحَازَ الغنيمةَ، فأعلمَ اللهُ تعالى أنَّ حَقَّ الميراثِ لِلرِّجَالِ والنِّسَاءِ. قال ابنُ عبَّاس:" " تُوُفِّيَ أوْسُ بْنُ ثابتٍ الأَنْصَارِيُّ وَتَرَكَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ لَهُ، وَتَرَكَ امْرَأةً يُقَالُ لَهَا أمُّ كُجَّةَ وَهِيَ أمُّهُنَّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ قَتَادَةُ وَعَرْفَطَةُ وَكَانَا وَصِيَّيْنِ لَهُ فَأَخَذا مَالَهُ، وَلَمْ يُعْطِيَا امْرَأتَهُ وَلاَ بَنَاتَهُ شَيْئاً مِنَ الْمَالِ، فَجَاءَتْ أمُّ كُجَّةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ أوْسَ بْنَ ثَابتٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أنْفِقُ عَلَيْهِنَّ، وَقَدْ تَرَكَ أبُوهُنَّ مَالاً حَسَناً وَهُوَ عِنْدَ قَتَادَةَ وَعَرْفَطَةَ ولَمْ يُعْطِيَانِي وَلاَ لِبَنَاتِي شَيْئاً، هُنَّ فِي حِجْرِي لاَ يَطْعَمْنَ وَلاَ يَسْقِيْنَ وَلاَ يُرْفَعُ لَهُنَّ رَأسٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ارْجِعِي إلَى بَيْتِكِ حَتَّى أنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللهُ فِيْهِنَّ " فَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ لآيَةَ " ". ومعناه: للرجالِ حظٌّ مِمَّا تركَ الولدانِ والأقربونَ، وللنساءِ كذلكَ أيضاً، مما قَلَّ مِن المالِ أو كَثُرَ.
﴿ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ أي مَعْلُوماً مقدَّراً، فأرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قتادةَ وعَرْفَطَةَ:" " أنْ لا تَقْرَبَا من مالِ أوْسٍ شَيْئاً، فإنَّ اللهَ قدْ أنْزَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيْباً، ولَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ، أنْظُرُكُمْ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لَهُنَّ " فأنزلَ اللهُ بعد ذلكَ ﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ﴾ إلى قولهِ ﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ فأرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قتادةَ وعرفطةَ: " أنِ ادْفَعَا إلَى أمِّ كُجَّةَ ثُمْنَ جَمِيْعِ الْمَالِ إدْفَعَا إلَيْهَا لِبَنَاتِهَا الثُّلُثَيْنِ وَلَكُمُ بَاقِي الْمَالِ " ". وانتصبَ قَوْلُهُ تَعَالَى (نَصِيْباً) لِخروجِهِ مخرجَ المصدرِ كقول القائلِ: عِنْدِي حَقّاً؛ ولك معي درهمٌ هبةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ ﴾؛ أي حَضَرَ قسمةَ المواريثِ ذو قرابةِ الميِّت في الرَّحِمِ الذين لا يورَثون واليتامَى المحتاجونَ والمساكين فأعطُوهم شيئاً من المالِ قبلَ القسمةِ.
﴿ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾؛ أي عِدُوهُم عِدَةً حسنةً، وقيل: اعتذِرُوا عند قِلَّةِ المالِ وقولوا لَهم: كُنَّا نُحِبُّ أن يكونَ أكثر من ذلك. وعنِ ابن عبَّاس روايَتَان؛ إحدَاهُما: (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ) وهو قولُ عطاءٍ ومجاهدُ والزهريُّ وجماعةٌ، حتى روي عن عبيدةَ السَّلمانِيِّ: (أنَّهُ ذَبَحَ لِلأَقْرِبَاءِ شَاةً مِنْ أمْوَالِ الْيَتَامَى وَأعْطَاهُمْ؛ وَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أنْ يَكُونَ ذلِكَ مِنْ مَالِي لَوْلاَ هَذِهِ الآيَةُ). وعنِ ابن سِيْرِيْنَ أنَّهُ فعلَ مِثلَ ذلكَ. وقال قتادةَ عنِ الحسنِ: (لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَلَكِنَّ النَّاسَ شَحُّواْ وَبَخِلُوا، وَكَانَ التَّابعُونَ يُعْطُونَ الأَوَانِي وَالشَّيْءَ الَّذِي يُسْتَحْيَا مِنَ قِسْمَتِهِ). والرواية الثَّانيةُ: (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بآيَةِ الْمَوَاريْثِ) وهو قول سعيدِ بنِ المسيَّب والسديُّ وأبي مالكٍ وأبي صالحٍ والضحَّاك؛ لأنَّها لو كانت واجبةً مع كَثْرَةِ قسمةِ المواريثِ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحابَةِ ومَن بعدَهم لَنُقِلَ وجوبُ ذلك واستحقاقهُ لهؤلاءِ كما نُقِلَتِ المواريثُ للزومِ الحاجَة إلى ذلكَ، لكن يستحبُّ ذلكَ في حقِّ الوَرَثَةِ لحضور البالغين. وحديثُ عبيدةَ السَّلمانِيُّ محمولٌ على أنَّ الورثةَ كانوا بَالِغِيْنَ؛ فَذبحَ الشاةَ من جُملةِ المال بإذنِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾؛ قال عامَّة المفسِّرين: (كَانَ الرَّجُلُ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ يَقُولُ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ عِنْدَ وَصِيَّتِهِ: أنْظُرْ لِنَفْسِكَ؛ فَإنَّ أوْلاَدَكَ وَذُرِّيَّتَكَ لاَ يُغْنُونَ عَنْكَ شَيْئاً، قَدِّمْ لِنَفْسِكَ، أعْتِقْ وَتَصَدَّقْ، أوْصِ لِفُلاَنٍ بكَذا وَلِفُلاَنٍ بكَذا، فَلاَ يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ عَامَّةُ مَالِهِ، وَيَبْقَى عِيَالُهُ بغَيْرِ شَيْءٍ، فَنَهَاهُمْ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ وأَمَرَهُمْ أنْ يَتْرُكُوا أمْوَالَهُمُ لِوَرَثَتِهِمْ)." روي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ يَزُورُهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: " يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنِّي ذُو مَالٍ وَلَيْسَ لِي إلاَّ بنْتٌ وَاحِدَةٌ، أفَأُوْصِي بالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: " لاَ " قَالَ: فَبالشَّطْرِ؟ قَالَ: " لاَ " فَبالثُّلُثِ؟ قَالَ: " وَالثُّلُثُ كَثِيْرٌ، إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْراً مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " ". قال بعضُ المفسِّرين: هذه الآيةُ خطابٌ لِمن يتصرَّف بأموالِ اليتامى؛ معناهُ: وَلْيَخْشَ الذينَ يخافُونَ الضَّيَاعَ على وَرَثَتِهِمْ الضعافِ بعدَ موتِهم، فلا يفعلون في أموالِ اليتامَى إلاَّ بما يُحبُّونَ أنْ يُفْعَلَ في أولادِهم مِن بعدِ موتِهم. والقولُ السَّدِيْدُ: هو الذي لا خلافَ فيه مِن جهةِ الفساد، مأخوذٌ من سَدِّ الثُّلْمَةِ، وهو الْعَدْلُ والصَّوَابُ مِن القولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾؛ نَزَلَتْ فِي حَنْظَلَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ؛ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ فِي حِجْرِهِ ظُلْماً. ومعناها: إنَّ الَّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى بغيرِ حقٍّ، إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ حَرَاماً. ويسمَّى الحرامُ ناراً؛ لأن الحرامَ يُوجِبُ النَّارَ فسمَّاهُ باسْمِها على معنَى أنَّ أجوافَهم تُمَثَّلُ ناراً في الآخرةِ. قال السديُّ: (مَنْ أكَلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ ظُلْماً يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهَبُ النَّار يَخْرُجُ مِنْ فِيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وأنْفِهِ، كُلُّ مَنْ رَآهُ عَرَفَ أنَّهُ أكَلَ مَالَ الْيَتِيْمِ ظُلْماً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾؛ أي سَيَصْلَوْنَ النارَ في الآخرة ويلزمونَها، والصَّلاَءُ: مُلاَزَمَةُ النَّار لِلاحْتِرَاقِ وَالإنْضَاجِ. قرأ العامَّة: (وَسَيَصْلُونَ) بفتحِ الياء أي يدخلونَها كقولهِ تعالى:﴿ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ ﴾[الصافات: ١٦٣] وقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى ﴾[الليل: ١٥].
وقرأ أبو رجَاءٍ والحسنُ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصم بضمِّ الياء على معنى: وسَيَدْخُلُونَ النَّارَ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، ونظيره﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾[المدثر: ٢٦] و﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ﴾[النساء: ٣٠].
وقرأ حمزةُ بن قيسٍ: (وَسَيُصَلَّونَ) بتشديد اللاَّم من التَّصْلِيَةِ لكثرةِ الفعلِ؛ أي مَرَّةً بعدَ مرةٍ، نظيرهُ﴿ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾[الحاقة: ٣١] والكلُّ صوابٌ، يقال: صِلْتُ شِيَاءً إذا شَوَيْتُهُ. وفي الحديثِ: (أتِيَ بشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ) وَأَصْلَيْتُهُ: ألْقَيْتُهُ فِي النَّار، وصَلَّيْتُهُ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ. السَّعِيْرُ: النَّارُ الْمَسْعُورَةُ أي الْمَوْقُودَةُ. قالَ صلى الله عليه وسلم:" رَأيْتُ لَيْلَةَ أسْرِيَ بي قَوْماً لَهُمْ مَشََافِرُ كَمَشَافِرِ الإبلِ؛ إحْدَاهُمَا قَالِصَةٌ عَلَى مِنْخَرِهِ، وَالأُخْرَى عَلَى بَطْنِهِ، وَخَزَنَةُ النَّار يُلَقِّمُونَهُمْ جَمْرَ جَهَنَّمَ وَصخْرَهَا ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أسَافِلِهِمْ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيْلُ مَنْ هَؤَلاَءِ؟ قَالَ: الَّذِيْنَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ الْمَالُ لِلْبنْتَيْنْ؛ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبيْنَ إلَى أنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ثُمَّ صَارَ ذلِكَ مَنْسُوخاً بهَا). ومعناهَا: يَعْهَدُ اللهُ إليكُم وَيَفْرِضُ عليكُم في أولادِكم إذا مِتُّمْ: لِلذكَرِ الواحدِ من الأولادِ مِثْلُ نَصِيْب الأُنْثَيَيْنِ في الميراثِ، واسمُ الولدِ يتناولُ وَلَدَهُ مِن صُلْبهِ حقيقةً وَلَدَ وَلَدِهِ في النِّسبةِ والتعصيب، ولكنَّهم مِن ذوي الأرحامِ مَجَازاً، فإذا كان للميِّت ولدٌ من صُلْبهِ وجبَ حملُُ اللفظ على الحقيقةِ، وإن لم يكن لهُ وَلَدٌ من صُلْبهِ حُمِلَ على مَن كان مِن صُلْب بَنِيْهِ مَجازاً، وأمَّا ولدُ البَنَاتِ فلا يُعَدُّ مِن وَلَدِهِ في النِّسبةِ والتعصب، ولكنَّهم مِن ذوي الأرحامِ. قال الشاعرُ: بَنُونَا بَنُوا أبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا   بَنُوهُنَّ أبْنَاءُ الرِّجالِ الأبَاعِدِوعن هذا قالَ أصحابُنا: فَمَنْ أوْصَى لولدِ فلانٍ أنَّ ذلك لولدهِ لصلب، فإن لم يكن لهُ ولدٌ من صُلْبهِ فهو ولدُ ابنهِ، ولا يدخلُ أولادُ البناتِ في هذه الوصيَّة على أظهرِ الرِّوايتينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ ﴾؛ أي إنْ كان الأولادُ نساءً أكثرَ من اثنتين ليس معهُنَّ ذكَرٌ؛ ﴿ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾؛ مِن المالِ، والباقِي للعَصَبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ ﴾؛ قَرَأَ العامَّة بالنصب على خبرِ كَانَ، وقرأ نافعُ وَحْدَهُ بالرفعِ على أنَّ معناهُ: وَإنْ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ فحينئذٍ لا خبرَ لهُ، وقراءةُ النصب أجْوَدُ، وتقديرهُ: فإن كانت المولودةُ واحدةً. فإنْ قيل: لِمَ أعْطَيْتُمُ الْبنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وفي الآيةِ إجَابُ الثُّلُثَيْنِ لأكْثَرَ مِنَ الابْنَتَيْنِ؟ قِيْلَ: فِي فحوَى الآيةِ دليلٌ على أن فَرْضَ الابنتين الثُّلُثَانِ؛ لأنَّ في أوَّلِها ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾، فَيقتضِي أنَّ للابنةِ الواحدة مع الابن الثُّلُثُ، فإنْ كان لها معهُ الثُّلُثُ كانت تأخذُ الثُّلُثَ مع عدمهِ أولَى، فاحْتَجْنَا إلى بيانِ حُكْمِ ما فوقَ الأُنثيين؛ فذلك نصٌّ على حُكْمِ ما فوقِهما، ويدلُّ عليه أنهُ اذا كانَ للابنِ الثُّلُثَانِ، وللابنةِ الثُّلُثُ دلَّ أن نصيبَ الأُنثيين الثُّلُثَانِ بحالٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للذكرِ مثلُ حَظِّ الأُنثيين. وجوابٌ آخر: أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للأُخت من الأب والأمِّ النصفَ في آخرِ هذه السورة، كما جعلَ للابنة النصفَ في هذه الآيةِ، وجعلَ للأُختينِ هناك الثُّلُثَيْنِ، فأعطينَا الاثنين الثُّلُثَيْنِ قياساً على الأُختين في تلكَ الآيةِ؛ وأعطينَا جُمْلَةَ الأخواتِ الثُّلُثَين قياساً على البناتِ في هذه الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ﴾؛ أي لأَبَوَي الميِّت كنايةً عن غيرِ المذكور لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ؛ ﴿ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾؛ أو وَلَدُ ابنٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ ﴾؛ أي إن لَم يكن للميِّت ولدٌ ذكَرٌ ولا أنثى، ولا وَلَدَ وَلَدٍ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ، والباقِي للأب. ورويَ عن ابن مسعودٍ: (أنَّ الْوََلَدَ يَحْجُبُونَ الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَإنْ لَمْ يَرِثُوا نَحْوَ أنْ يَكُونُوا كُفَّاراً أوْ مَمْلُوكِيْنَ أوْ قَاتِلِيْنَ؛ لأنَّ اللهَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي الآيَةِ بَيْنَ الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، فَقَالَ: (وَلأَبَوْيِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ). وقال عُمَرُ وَعَلِيٌّ وزيدُ بن ثابتٍ: (لِلأُمِّ الثُّلُثُ)، وجعلُوا الكافرَ والرقيقَ بمَنْزِلَةِ الميِّت، وحَمَلُوا الآيةَ على ولدِ يحوزُ الميراثَ. قرأ أهلُ الكوفةِ إلاّ عاصِماً وخَلَفاً: (فَلإِمِّهِ) بكسرِ الهمزة استثقالاً لِضَمَّةِ بعد كسرٍ. وقرأ الباقون بالضمِّ على الأصلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ ﴾؛ ذكرهُ بلفظِ الجمع، وأقلُّه ثلاثةٌ ولا خلافَ، وإن الحَجْبَ يقعُ بثلاثةٍ من الإخوةِ والأخوات وإن ذلكَ لا يقعُ بالواحدِ، ثم قالَ عامَّة الصحابةِ: (إنَّ حُكْمَ الاثْنَيْنِ فِي هَذا حُكْمُ الثَّلاَثَةِ كَمَا فِي أنْثَيَيْنِ وَالأُخْتَيْنِ). وعن ابنُ عبَّاس: (أنَّهُ كَانَ لاَ يَحْجُبُ الأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ إخْوَةٍ)، وهذا القولُ غير مأخوذٍ بهِ. ورويَ عنهُ أيضاً: أنَّهُ جَعَلَ لِلابْنَتَيْنِ النِّصْفَ كَنَصِيْب الْوَاحِدَةِ بظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ ﴾ ولم يقل بهذا آخرٌ غيرهُ فلا يُعْتَدُّ به. وروي أنَّ جَدَّةً جَاءَتْ إلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَطَلَبَتْ مِيْرَاثَهَا؛ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: (لاَ أجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ شَيْئاً) فَقَامَ الْمُغِيْرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَشَهِدَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعْطَى جَدَّةَ أمِّ الأُمِّ السُّدُسَ، فَقَالَ: (إئْتِ مَعَكَ بَشَاهِدٍ آخَرَ) فَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَشَهِدَ بمِثْلِ شَهَادَتِهِ، فَأَعْطَى أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه السُّدُسَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾؛ إنَّ هذه القسمةَ بعد فَضْلِ المالِ على الدَّين، وبعدَ إمضاءِ الوصيَّة من الثُّلُثِ إن كان الميتُ أوصى بها. قرأ ابنُ كثير وابن عامر: (يُوْصَى بهَا) بفتحِ الصَّاد. وقرأ الباقونَ بكسرِ الصَّاد. فإن قيلَ: كيفَ ذكَرَ اللهُ الوصيَّةَ قبلَ الدِّين؛ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ على الوصيَّةِ؟ قيل: إنَّ كلمة (أوْ) لا تُوجِبُ الترتيبَ، لكنَّها توجبُ تأخيرَ قِسْمَةِ الميراثِ في هذه الآية عن أحدِهما إذا انفردَ، وعن كلِّ واحد منهُما إذا اجتمعا. روى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ" أنَّهُ قَضَى بالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ "وهذا شيءٌ قد اجتمَعَت عليه الأمَّةُ حتى رويَ عنِ ابن عبَّاس: أنه قيلَ لهُ: مَا لَنَا نُقَدِّمُ أفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أفْعَالِ الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ ﴾[البقرة: ١٩٦]؟ كَمَا تُقَدِّمُونَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ﴾؛ معناهُ: إنَّ المذكورينَ في الآيَةِ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيُّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، أمَّا في الدُّنيا فقد يكونُ الولدُ أكثرَ نفعاً لوالدهِ، وقد يكونُ الوالدُ أكثرَ نفعاً لولدهِ. وأمَّا في الآخرةِ، فإنَّ الأبَ أرفعُ درجةً في الجنَّة يسألُ اللهَ تعالى أن يَرْفَعَ ابنه إليه فَيَرْفَعُ، وإنْ كان الابنُ أرْفَعَ سألَ اللهَ أن يرفعَ أباه إليه. وفي هذا جوابُ طعنِ الملحدينَ عن قولِهم: هَلاَّ كَانَ الرجالُ أوْلَى بالميراثِ لكونِهم قوَّامين على النِّساء؟ وعن جواب آخرين منهم لِمَ جازَ تفضيلُ الذكر على الأُنثى في قسمتِها الميراثَ؛ والأُنثى أوْلى بالزيادةِ بعجزِها عن التصرُّف؟ فبيَّن اللهُ تعالى أنهُ فَرَضَ الفرائضَ على ما هو عندهُ حكمةٌ ومصلحة لَهم، ولو وَكَّلَ ذلك إليكم لَمَا تَعْلَمُوا أيُّهم أنفعُ، فوضعتُم الأموالَ في غيرِ حكمةٍ. وقيل معناهُ: لا يدري أحدُكم أهوَ أقرب وفاةً فينتفعُ ولدُه بماله، أمِ الولدُ أقربُ وفاةً فينتفعُ والدهُ بماله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ نُصِبَ على الحال والتوكيدِ من قوله ﴿ يُوصِيكُمُ ﴾، وقيل: مصدرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي لَمْ يَزَلْ عَالِماً بالمواريثِ وغيرها، حَكِيماً حين بيَّن قسمةَ المواريثِ على الحكمةِ. وعن الحسنِ أنَّ معناهُ: (كَانَ اللهُ عَالِماً بالأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقِهَا، حَكِيماً فِيْمَا يُقَدِّرُ مِنْ تَدْبيْرِهِ فِيْهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ ﴾؛ أي لكم يا مَعْشَرَ الرجالِ: نِصْفُ مَا تَرَكَ نساؤُكم إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكرٌ أو أنثى أو مِن غيرِكم أو ولدِ ولده؛ ﴿ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾؛ أي ذكرٌ أو أنثى منكم أو مِن غيركِم أو ولد ولده؛ ﴿ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ﴾؛ مِن المال.
﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾؛ أي مِن بعدِ قضاء الدَّين عليهنَّ أو إمضاءِ وصيَّة أوْصَيْنَ بهَا من الثُّلُثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ﴾؛ أي مِمَّا تركتُم أيُّها الأزواجُ من المالِ.
﴿ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ ﴾؛ ذكرٌ أو أنثى أو وَلَد ابن منهنَّ أو غيرهن؛ ﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ﴾؛ ذلك.
﴿ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾؛ قضاءُ دَيْنٍ عليكم، إوْ إمضاءُ وصيَّة أوصيتم بهَا من الثُّلُثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ ﴾؛ الآيةُ وإن كان رجلٌ، أو امْرأةٌ يورَثُ ﴿ كَلَٰلَةً ﴾ وهو نُصِبَ على المصدر، وقيلَ على الحالِ، وقيلَ: على خبرِ ما لَم يسمَّ فاعلهُ؛ تقديرهُ: وإنْ كانَ رجلٌ يوَرثُ مالهُ كَلاَلَةً، قاله ابنُ عبَّاس. وقرأ الحسنُ: (يُورثُ) بكسرِ الراء؛ جعلَ الفعل لهُ. واختلفُوا في الكَلاَلَةِ، قال ابنُ عبَّاس: (هُوَ مَنْ لاَ وَلَدَ لَهُ وَلاَ وَالِدَ). وعن ابنِ عبَّاس وعمرَ وجابر وأبي بكرٍ وقتادةَ والزهريِّ: (الْكَلاَلَةُ اسْمٌ لِمَا عَدَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ). وقال الشعبيُّ: (سَمِعْتُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ فِي الْكَلاَلَةِ: أقْضِي فِيْهَا، فَإنْ كَانَ صَوَاباً فَمِنَ اللهِ تَعَالَى، وَإنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ بَرِيْءٌ مِنْهُ: هُوَ مَا دُونَ الْوَالِدِ وْالْوَلَدِ، يََقُولُ كُلُّ وَارثٍ دُونَهُمَا كَلاَلَةٌ). قالَ: (فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بَعْدَهُ، قَالَ: إنِّي أسْتَحِي مِنَ اللهِ أنْ أخَالِفَ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، هُوَ مَا خَلاَ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ). وقال طاوُوس: (هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ) وقال الحكمُ: (هُوَ مَا دُونَ الأَب). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ﴾؛ إنَّمَا لم يقل ولَهُما؛ لأن مِن عادةِ العرب أنَّ الرجُلَ والمرأةَ ربَّما أضافت إليهما، وربما أضافت إلى أحدِهما، وكلاهُما جائزٌ، ومعنى: وَلَهُ أخٌ أوْ أخْتٌ من أمٍّ، وفي قراءةَ أبَيِّ وسعدِ بن أبي وقَّاص: (وَلَهُ أخٌ أوْ أخْتٌ مِن أمٍّ).
﴿ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ ﴾؛ مما ترك الميتُ من المالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ ﴾؛ أي أكْثَرَ من واحدٍ فَهُمْ كلُّهم سواءٌ في الثُّلُثِ لا يفضَّل الذكرُ على الأُنثى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾؛ قد تقدَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ غَيْرَ مُضَآرٍّ ﴾؛ نُصِبَ على الحالِ؛ أي يوصي بها الميتُ غير مُضَارٍّ في حالِ وصيَّة بأن يزيدَ على الثُّلُثِ، ويفضَّل بعضُ الورثةِ على بعضٍ. قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهٌ؛ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارثٍ إلاَّ أنْ يُجِيْزَهَا الْوَرَثَةُ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ نُصِبَ على المصدر؛ ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾؛ عَلِيْمٌ بما دبَّره من هذه الفرائضِ؛ حَلِيْمٌ على مَن عَصَاهُ بأن أخَّرَهُ وقَبلَ التوبةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي هذه فرائضُ اللهِ التي أمرَكم بها في المواريثِ وأموال اليتامَى. والحدودُ: هِيَ الأمْكِنَةُ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي أنْ يُتَجَاوَزَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أن مَن يقيمُ حدودَ اللهِ، وحدودَ رسولَه في أمرِ الميراثِ وغيره.
﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ قُرِئ (نُدْخِلْهُ) بالنون في الموضعين، والياءُ أقربُ من لفظِ الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ نُصِبَ على الحال أي نُدْخِلُ المقدَّرين للخلُودِ فيها. ﴿ وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ أي النُّجاةُ الوافرةُ فازُوا بها في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ﴾؛ أي قِسْمَةَ الميراثِ فلن يقسِمْها؛ لأنَّ المنافقينَ كانُوا لا يُقِرُّونَ للنساءِ والصِّبيان الصِّغار من قسمَةِ المواريث بشيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾؛ ظاهر المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ ﴾؛ أي اللاَّتِي يَزْنِيْنَ من حَرَائِرِكُمْ الثيِّبَاتِ الْمُحْصَنَاتِ.
﴿ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ ﴾، فَاطْلُبُوا عليهِنَّ أربعةً من الشُّهود من أحْرَاركُم المسلمين العدول.
﴿ فَإِن شَهِدُواْ ﴾؛ عليهِنَّ بالزِّنَا، فَاحْبسُوهُنَّ في البيوتِ، وهي السُّجُونُ، بيوتٌ معروفةٌ في المدينة.
﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ ﴾؛ بالْحَبْسِ.
﴿ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾، مَخْرَجاً مِن الْحَبْسِ قبلَ الموتِ. وإنَّما كان هذا قبلَ نزولِ الحدود؛ كانتِ المرأةُ في أوَّل الإسلام إذا زَنَتْ حُبسَتْ فِي البيتِ حتَّى تَموتَ، وإنْ كان لَها زوجٌ كان مهرُها لهُ، حتى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾[النور: ٢] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" خُذُوا عَنِّي؛ خُذُوا عَنِّي: قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيْلاً، الثَّيِّبُ بالثَّيِّب جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ، وَالْبكْرُ بالْبكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ "فَنُسِخَتْ تلكَ الآيةُ بعضَ هذه الآيةِ، وهو الإمْسَاكُ في البُيُوتِ، وبقي منها مُحْكَماً وهو الإشْهَادُ. وكان في هذا النَّسْخِ نَسْخُ القُرْآنِ بالسُّنَّةِ، ثُم تغريبٌ في البكرِ بقولهِ تعالى:﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾[النور: ٢] لأن ظاهرَ تلكَ الآية يقتضِي أنَّ الْجَلْدَ بَيَانٌ لجميعِ الحكم المتعلِّق بالزِّنا، إذ لو لم يجعل ذلكَ كذلك لكانَ قُصُوراً في البيانِ في مواضع الحاجةِ، ونُسِخَ جلدُ الزِّنا المحصنِ الثَّيِّب بحديثِ مَاعِزٍ:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَهُ وَلَمْ يَجْلِدْهُ ". وعن عُمَرَ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ: (لَوْلاَ أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَاب اللهِ؛ لَكَتَبْتُ فِي حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ). وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (جَلْدُ الثَّيِّب الْمُحَصَنِ مَنْسُوخٌ، وَتَغْرِيْبُ الْبكْرِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ)، وعند داوُدَ ومَن تابعَهُ من أصحاب الظَّواهِرِ: (لَيْسَ بشَيْءٍ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ﴾؛ يعني الرجلَ والمرأةَ إلاَّ أنَّ المذكَّر والمؤنَّث إذا اجتمعا غُلِّبَ المذكَّرُ، والهاءُ راجعةٌ إلى الفاحشةِ. قال المفسِّرون: (هَاءُ) الْبكْرِ إنْ يَزْنِيَانِ فآذُوهُمَا بالشَّتْمِ وَالتَّعْييْرِ؛ يقالُ لَهُما: زَنَيْتُمَا؛ فَجَرْتُمَا؛ انْتَهَكْتُمَا حُرُمَاتِ اللهِ. وقيلَ: بهاء اللَّذين لم يُحْصَنَا. وقال عطاءُ وقتادة: (مَعْنَى: ﴿ فَآذُوهُمَا ﴾ أيْ عَنِّفُوهُمَا باللِّسَانِ: أمَا خِفْتُمَا اللهَ! أمَا اسْتَحَيْيَتُمَا مِنْهُ!). قال ابنُ عبَّاس: (أرَادَ بالأَذى الضَّرْبَ بالنِّعَالِ وَالأَيْدِي). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ ﴾؛ أي فإنْ تَابَا عن الزِّنا واصلحَا العملَ بعد التوبةِ فأعرِضُوا عنهما؛ لا تَسُبُّوهُما ولا تعيِِّرُوهما." وعن أبي هُريرة رضي الله عنه: أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَال أحَدُهُمَا: إقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَقَالَ الآخَرُ: أجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَاب اللهِ وَأذنْ لِي أنْ أتَكَلَّمَ، قَالَ: " تَكَلَّمْ " فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذا - أيْ أجِيْراً - فَزَنَا بامْرَأتِهِ، فًَأخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُهُ بمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أنَّ على ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبَ عَامٍ، وَإنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأتِهِ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَابِ اللهِ، أمَّا غَنَمُكَ وَجَاريَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ " وَجَلَدَ ابْنَهُ بمِائَةٍ وَغَرَّبَهُ عَاماً، وَأمَرَ أنَيْساً الأَسْلَمِيَّ أنْ يَأتِيَ امْرَأةَ الرَّجُلِ؛ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ﴾؛ أي لَم يَزَلْ مُتَجَاوزاً عن النَّاسِ رَحِيْماً بهم بعد التوبة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ﴾؛ معناهُ: إنَّما التَّجَاوُزُ مِن الله للذينَ يعملونَ المعصيةَ بجَهَالَةٍ.
﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ﴾؛ أي ثم يتوبُون من قَبْل أن يَنْزِلَ بهم سلطانُ الموتِ لا في وقتِ المعاينَة.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ يَقْبَلُ اللهُ توبتَهم؛ ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً ﴾؛ بأهلِ التوبة؛ ﴿ حَكِيماً ﴾؛ حَكَمَ بقَبُولِ التوبةِ، قيل: إنَّ (على) في قولهِ: ﴿ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ بمعنى (عِنْدَ) أي إنَّما التوبةُ عندَ الله. وقيل: بمعنى (مِنْ) أي مِن اللهِ. واختلفُوا في قولهِ: ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾.
قال مجاهدُ والضحَّاك: (الْجَهَالَةُ الْعَمْدُ). وقال الكلبيُّ: (لَمْ يَجْهَلْ أنَّهُ ذنْبٌ، ولَكِنَّهُ جَهِلَ عُقُوبَتَهُ). قال سائرُ المفسِّرين: (يَعْنِي الْمَعَاصِي كُلَّهَا، فَكُلُّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). وقال قتادةُ: (أجْمَعَ الصَّحَابَةُ أنَّ كُلَّ مَن عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ عَمْداً كَانَ أوْ خَطَأً). وقال الزجَّاج: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾: اخْتِيَارُهُمُ اللَّذةَ الْفَانِيَةَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مَنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ثم يَتُوبُونَ قَبْلَ إصابتهم بأسْبَاب الْمَوْتِ، سَمَّى ذلك قَرِيْباً لأنَّ كلَّ ما هوَ آتٍ قريبٌ؛ لأنَّ المرءَ لا يأْمَنُهُ في كلِّ وقتٍ وساعة، وكلُّ ما يكون هذا صِفَتُهُ فهو موصوفٌ بالْقُرْب. قال صلى الله عليه وسلم:" " مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بسَنَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَ قَالَ: " إنَّ السَّنَةَ لَكَثِيْرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بشَهْرٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهٍ " ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّهْرَ لَكَثِيْرٌ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمُعَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَالَ: " إنَّ الْجُمُعَةَ لَكَثِيْرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بيَوْمٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَالَ: " إنَّ الْيَوْمَ لَكَثِيْرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بسَاعَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَالَ: " إنَّ السَّاعَةَ لَكَثَيْرٌ، مَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أنْ يُغَرْغِرَ نَفْسُهُ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ". وقال الكلبيُّ: (قولهُ: ﴿ مِن قَرِيبٍ ﴾ الْقَرِيْبُ مَا دَامَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ). وقال أبو موسَى الأشعريُّ: (هُوَ أنْ يَتُوبَ قَبْلَ مَوْتِهِ بفُوَاقِ نَاقَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾؛ أي وليسَ قَبُولُ التوبةِ للذين يعمَلُون المعاصِي مقيمينَ عليها حتَّى إذا عَايَنَ أحدُهم أسبابَ الموتِ والسَّوْقِ والنَّزْعِ ومعاينةَ الموتِ، إنَّي تُبْتُ الآنَ، وَلاَ على الَّذينَ يَمُوتُونَ على الكُفْرِ.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ ﴾؛ هَيَّأْنَا لَهُمْ؛ ﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ مُؤْلِماً وهو النارُ التي مصيرهم إليها. وذهب الربيعُ إلى أنَّ المرادَ بالذين يعملون السيئات: المنافِقُون، ثم عَطَفَ الكافرين الْمُجَاهِريْنَ بالكفرِ على المنافقين. وحاصلُ هذه الآيةِ أنَّ مَن وقعَ في النَّزعِ وقالَ: إنِّي تُبْتُ الآنَ، فحينئذ لا يُقبَلُ مِن كافرٍ إيْمَانُهُ، ولا مِن عَاصٍ توبتُه، وقولهُ: وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مَوْضِعُ خَفْضٍ.
قولُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً ﴾؛ الآيةُ، قال ابنُ عبَّاس:" كَانُواْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأوَّلِ الإسْلاَمِ إذا مَاتَ رَجُلٌ وَلَهُ امْرَأةٌ؛ جَاءَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا أوْ قَرِيْبُهُ مِنْ عَصَبَتِهِ الَّذِي يَرِثُهُ، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَورثَ نِكَاحَهَا بِصِدَاقِ الأَوَّلِ، يَقُولُ: أنَا وَلِيُّ زَوْجِكِ فَوَرثْتُكَ، فإنْ كَانَتْ جَمِيْلَةً أمْسَكَهَا وَدَخَلَ لِهَا، وَإنْ لَمْ تَكُنْ جَمِيْلَةً طَوَّلَ عَلَيْهَا لِتَفْتَدِيَ بنَفْسِهَا مِنْهُ بَما تَرِثُ مِنَ الْمَيِّتِ أوْ تَمُوتَ فَيَرِثُهَا، فَإنْ ذَهَبَتْ إلَى أهْلِهَا قَبلَ أنْ يُلْقِيَ عَلَيْهَا ثَوْبَهُ فَهِيَ أحَقُّ بنَفْسِهَا. فَكَانُواْ يَفْعَلُونَ ذلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ أبو قَيْسِ بْنِِ الأَسْلَتِ، وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بنْتِ مَعَنِ الأَنْصَاريَّةَ، فَقَامَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهَا يُقَالُ لهَ حُصَيْنُ بْنُ أبي قَيْسٍ؛ فَطَرَحَ ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَوَلِيَ نِكَاحَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فَضَارَّهَا بذلِكَ لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بمَالِهَا، فَأَتَتْ كَبْشَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ أبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ وَوَرثَ ابْنُهُ نِكَاحِي؛ وَقَدْ أضَرَّنِي وَطَوَّلَ عَلَيَّ، فَلاَ هُوَ يُنْفِقُ عَلَيَّ، وَلاَ هُوَ يُخْلِيَ سَبيْلِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أقْعُدِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَأْتِينِي فِيْكِ أمْرُ اللهِ " فَانْصَرَفَتْ، وَسَمِعَ بذلِكَ نِسَاءُ الْمَدِيْنَةِ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ عليه السلام فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئَةِ كَبْشَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". ومعناهَا: يا أيُّها الذينَ أقَرُّوا وصَدَّقُوا لا يَحِلُّ لكم أنْ تَرِثُوا النساءَ جَبْراً؛ ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾؛ أي لاَ تَمْنَعُوهُنَّ تَخْلِيَةَ سبيلهنَّ حتى يَفْتَدِيْنَ ببعضِ ما لَهُنَّ؛ ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾؛ فَحِيْنَئِذٍ يحلُّ لكم ضِرَارُهُنَّ ليفتدينَ منكُم، وهو أنَّها إذا زَنَتِ المرأةُ جازَ لزوجِها أن يسألَها الْخُلْعَ. قال عطاءُ: (كَانَ الرَّجُلُ إذا زَنَتِ امْرَأتُهُ أخَذ مِنْهَا مَا يُسَاقُ إلَيْهَا وَأخْرَجَهَا، فَنَسَخَ اللهُ ذلِكَ بالْحُدُودِ). قال قتادةُ والضحَّاك: (الْفَاحِشَةُ النُّشُوزُ؛ يَعْنِي إذا نَشَزَتِ الْمَرْأةُ حَلَّ لِزَوْجِهَا أنْ يَأْخُذ مِنْهَا الْفِدْيَةَ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: (مبَينَةٍ)؛ بخفضِ الياء أي مُبَيِّنَةِ فُحشِها. قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف والأعمشُ: (كُرْهاً) بضمِّ الكاف هُنا وفي التوبةِ، وقرأ الباقون بالفتحِ وهُما لغتان. وعن الضحَّاك: (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي حِجْرِهِ يَتِيْمَةٌ؛ فَيَكْرَهُ أنْ يُزَوِّجَهَا لِمَالِهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا لأَجْلِ مَالِهَا، أوْ يَكُونَ تَحْتَهُ عَجُوزٌ، وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى شَابَّةٍ فَيَكْرَهُ فِرَاقَ الْعَجُوز وَيَتَوَقَّعُ مَوْتَهَا لِيَرِثَهَا وَهُوَ يَعْزِلُ فِرَاشَهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾؛ أمَرَ للأزواجَ بعشرةِ نسائِهم بالْجَمِيْلِ، وهو أن يُوَفِّيَهَا حقَّها من المهرِ والنَّفقةِ والمبيت وتركِ أذاها بالكلام الغليظِ، والإعراضِ عنها والعُبُوسِ في وجهِها بغيرِِ ذنبٍ منها. قولُهٌ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾؛ فيه بيانُ أنَّ الخيرَّة ربَّما كانت للعبدِ في الصَّبر على ما يكرههُ؛ يقولُ: لعلكم أيُّها الأزواجُ أنْ تكرهُوا صُحْبَتَهُنَّ ويجعلُ الله في ذلك خيراً كثيراً بأن يَرْزُقَكُمْ منهنَّ الأولادَ، فتظهرُ بعد ذلك الأُلْفَةُ والموافقةُ، وتنقلبُ الكراهة صُحْبَةً؛ والنفورُ ميلاً. وقيل: يعني بالخيرِ الكثير: ما يحصلُ له من الثَّواب في الآخرة في الإنفاقِ عليها. وقيل: معناهُ: عسَى اللهُ أن يقضيَ بالفراقِ على وجهٍ يحمَدُ، فيستبدلُ به المرأةَ مَن هو خيرٌ لَها منهُ، ويستبدلُ هو بها مَن هي خيرٌ له منها. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" اتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ؛ فَإنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أخَذَتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ اللهِ؛ وَاسْتَحْلَلَتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَداً تَكْرَهُونَهُ، فَإنْ فَعَلْنَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالْمَعْرُوفِ "وقالَ صلى الله عليه وسلم:" أبْغَضُ الْحَلاَلِ إلَى اللهِ تَعَالَى الطَّلاَقُ "قَالَ صلى الله عليه وسلم:" تَزَوَّجُوا، وَلاَ تُطَلِّقُواْ، فَإنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الذوَّاقِينَ وَالذوَّاقَاتِ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ ﴾؛ الآيةُ؛ أيْ إنْ أردتُم تخليةَ امرأةٍ، ولم يكن مِن قِبَلِها نشوزٌ وإتيانُ فاحشةٍ؛ ﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً ﴾؛ أي مَالاً عظِيماً، وتقدَّم تفسيرُ القنطار؛ ﴿ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾؛ مِمَّا أعطيتمُوها.
﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾؛ أي ظُلْماً وذنباً ظاهراً، والْبُهْتَانُ: هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي يَتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلاَنِهِ، ومن ذلك سُمِّيَ الكذبُ العظيم لأنَّهُ يُبَاهِتُ بهِ مُحَيِّرُهُ، وَيَتَحَيَّرُ المكذوبُ عليه لِعِظََمِهِ، وأصلُ البَهْتِ: التَّحَيُّرُ: قالَ اللهُ تعالى:﴿ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ ﴾[البقرة: ٢٥٨] أي تحيَّر لانقطاعِ حُجَّتِهِ، وإنَّما سَمَّى اللهُ تعالى أخذ المهرَ بغير حقٍّ بالبهتانِ؛ لأن الزوجَ لَمَّا استعملَ الْمَكْرَ والخداعَ في أخذِ ما أعطاها، صارَ في الوزر بمنْزلة مَن يكذِّبوهم أنَّ الذي قالَهُ حَقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾؛ أي كيف تستحلُّون أخذ شيءٌ منهُ، وقد وَصَلَ بعضُكم إلى بعضٍ. قال ابنُ عبَّاس: (الإفَْضَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ). وقال جماعةٌ من أهلِ التَّفسيرِ: إذا كَانَ مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، جَامَعَهَا أوْ لَمْ يُجامِعْهُا فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ. وعنْ زُرَارَةُ بن أوفَى أنه قال: (قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمهْدِيُّونَ: أنَّهُ مَنْ أغْلَقَ عَلَى امْرَأةٍ بَاباً، أوْ أرْخَى سِتْراً، وكَشَفَ خِمَاراً فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ). وذكرَ الفرَّاءُ: (الإفْضَاءُ هُوَ الْخُلْوَةُ وَإنْ لَمْ يَقَعُ دُخُولٌ) كَأَنَّهُ ذهبَ إلى أن الإفضاءَ مأخوذٌ من الفضَاءِ، وهو المكانُ المتَّسعُ الذي ليسَ فيه بناءٌ ولا حاجزٌ عن إدراكِ ما فيه، فسمِّيت الخلوةُ فضاءً لحصولِ الزوج إلى جميعِ ما يقصدُه من الوطئِ، والدُّخولِ في موضعٍ لا مانعَ فيه من ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ أي عَهْداً وَثِيْقاً وهو ذكرُ المهرِ في النِّكاح، وقيل: هو ما أشْرَطَ اللهُ تعالى للنِّساءِ على الرجلِ من إمساكٍ بمعروفٍ أو تسريحٍ بإحسان. وقال الشعبيُّ وعكرمة والربيعُ: هُوَ قَوْلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:" أخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ اللهِ؛ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ "فَصْلٌ: فيما وردَ من الأخبار في الرُّخصة في الْمُغَالاَةِ بالمهور، قال عطاءُ:" خَطَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ابْنَتَهُ أمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ مِنْ فَاطِمَةَ بنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إنَّهَا صَغِيْرَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاَّ نَسَبي وَصِهْرِي " فَلِذلِكَ رَغِبْتُ فِي هَذا، فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: فَإنِّي مُرْسِلُهَا إلَيْكَ حَتَّى تَنْظُرَ إلَى صِغَرِهَا، فَأَرْسَلَهَا إلَيْهِ، فَجَاءَتْهُ فَقَالَتْ: إنَّ أبي يَقُولُ لَكَ هَلْ رَضِيْتَ هَذِهِ الْحُلَّةَ؟ فَقَالَ: قَدْ رَضِيْتُهَا، فَأْنْكَحَهُ عَلِيٌّ؛ فأَصْدَقَهَا عُمَرُ أرْبَعِينَ ألْفَ دِرْهَمٍ "وعنْ نافعِ عن ابن عمرَ رضي الله عنه: (أنَّهُ كَانَ يُزَوِّجُ الْمَرْأةَ مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى عَشْرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ). وتزوَّج ابنُ عبَّاس امرأةً على عشرةِ آلاف دِرْهمٍ. فَصْلٌ: في أقلِّ المهرِ. رويَ عن عمرَ رضي الله عنه: أنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ؛ فَحَمَدَ اللهَ تَعَالَى وأثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (ألا لاَ تُغَالُواْ فِي صِدَاقِ النِّسَاءِ؛ فَإنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرَمَةً فِي الدُّنْيَا، أوْ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ لَكَانَ أوْلاَكُمْ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم). مِنْ يُمْنِ الْمَرْأةَ أنْ يَسَّرَ صِدَاقَهَا وَأَنْ يَسَّرَ رَحِمَهَا. وعن أبي هُريرة قال: (كَانَ صِدَاقُنَا مْنْذُ كَانَ فِيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرُ أوَاقٍ أرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ). وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ: (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أمَّ سَلَمَةَ عَلَى عَشْرَةِ دَرَاهِمَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ روي أنَّهم كانوا بعدَ قوله:﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً ﴾[النساء: ١٩] إذا رَضِيَتِ المرأةُ أمسكَها وَلِيُّ الميتِ، وبرضَاها على حكمِ النِّكاح، فإذا سَخِطَتْ تَرَكَهَا فحرَّم اللهُ ذلك عليهم بهذه الآية. ومعنَاها: لاَ تَزَوَّجُوا ما تَزَوَّجَ آبَاؤُكم من النساءِ، ويقال: لاَ تَطَأُواْ ما وَطِئ آباؤُكم. واسمُ النِّكَاحِ يقعُ على العقدِ والوطئ جميعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ معناه إلا ما قد سلف في الجاهليَّة من نكاحِ منكوحةِ الأب كان ذلك مَعْفُوّاً لكُم لا تؤاخَذُون به. وقال قُطْرُبُ: (هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ تَقْدِيْرُهُ: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ فَدَعُوهُ فَاجْتَنِبُوا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً ﴾؛ يعني أنَّ نكاحَ امرأةِ الأب كان فاحشةً فيما سلفَ؛ لأنَّهم كانوا يسمُّونه في الجاهليِّةِ (نِكَاحَ الْمَقْتِ) وكان المولودُ يقال له الْمَقْتِيُّ، فأعلَمَهُم اللهُ تعالى أنَّ هذا الذي حَرَّمَ عليهم لم يزل مُنْكَراً في قلوبهم مَمْقُوتاً عندَهم، وَالْمَقْتُ: هُوَ الْبُغْضُ عَلَى أمْرٍ قَبيْحٍ رَكِبَهُ صَاحِبُهُ، وقيل الْمَقْتُ: هُوَ أشَدُّ الْبُغْضِ، والفاحشةُ اسمٌ لِما يرتفعُ ذكر قَبيحَتِهِ فيما بين الناس. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾؛ أي نكاحُ امرأةِ الأب طريقُ سوءٍ؛ لأنه يؤدِّي إلى جهنَّمَ، و ﴿ سَبِيلاً ﴾؛ نُصِبَ على التمييزِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ ﴾، قال ابنُ عبَّاس: (حَرَّمَ اللهُ مِنَ النِّسَاءِ أرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفاً؛ سَبْعَةٌ بالنَّسَب؛ وَسَبْعَةٌ بالسَّبَب، وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَالسَّابعَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾[النساء: ٢٢]). والجدَّاتُ - وإن بعُدت - مُحَرَّمَاتٌ؛ لأنَّ اسمَ الأُمَّهَاتِ يَشْمَلُهُنَّ، كما أن اسم الآباء يتناولُ الأجدَادَ وإنْ بَعُدوا، واسمُ البَنَاتِ يتناولُ بناتَ الأولادِ وإن سَفِلْنَ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَخَوَٰتُكُمْ ﴾ يشمَلُ الأخواتِ مِن الأب والأمِّ ومن الأب ومن الأمِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ ﴾ يتناولُ عمَّاتِ الأب والأُمِّ وخالاتِ الأمِّ والأب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ ﴾؛ قال صلى الله عليه وسلم:" يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَب "وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" تُحَرِّمُ الْجُرْعَةُ وَالْجُرْعَتَانِ مَا يُحَرِّمُ الْحَوْلاَنِ الْكَامِلاَنِ "" وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ أفْلَحَ أخَا أبي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَاب وَكَانَ عَمُّهَا مِنَ الرِّضَاعَةِ؛ قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أنْ آذنَ لَهُ حَتَّى أخْبَرْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: " لِيَلِجَ عَلَيْكِ؛ فَإنَّهُ عَمُّكِ " فَقَالَتْ: إنَّمَا أرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، ولَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لِيَلِجَ عَلَيْكِ فَإنَّهُ عَمُّكِ "، وَكَانَ أبُو القُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرأةِ الَّتِي أرْضَعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس وعطاءُ وسعيد بن جبير: [إنَّ أمَّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا بنَفْسِ الْعَقْدِ].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾؛ لا خِلاَفَ بينَ أهلِ العلم أنَّ كونَها في حُجُورهِ لا يكونُ شرطاً في تحريْمِها وإنَّما ذكرَهُ اللهُ تعالى على عادةِ الناسِ أنَّ الرَّبيْبَةَ تكونُ في حِجْرِ زَوْجِ الأُمِّ، فخرجَ الكلامُ على وفْقِ العادة دونَ الشرطِ، وهذا كقولهِ:﴿ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ ﴾[البقرة: ١٨٧] ومعلومٌ أن المعتكفَ لا يحلُّ له الجماعُ وإن كان قد خرجَ من المسجد لحاجةٍ، إلاَّ أنَّ الغالبَ مِن حالِ العاكفِ أن يكون في المسجدِ، فَقَرَنَهُ بذكرِ المسجدِ. وأما قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ فمِنَ الناسِ مَن رَدَّ هذا الشرطَ على قوله ﴿ مِّن نِّسَآئِكُمُ ﴾ وعلى قوله ﴿ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ فَشَرَطَ الدخولَ بالنِّساءِ في المسألتين في بيوت التحريمِ المذكور في الآيةِ؛ على معنى أنَّ اللهَ عَطَفَ حُكماً على حكمٍ وعقَّبهما بشرطِ الدُّخول بقوله: ﴿ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ وهو قولُ بشْرِ بن غيَّاث؛ إلاّ أنَّ هذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّ قولَه ﴿ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ جملةٌ مستقلةٌ بنفسِها. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ ﴾ بما فيه من شرطِ الدُّخول جملةٌ أخرى مستقلة بنفسِها فلم يَجُزْ بناءُ إحدى الجملتين على الأُخرى، ولو جعلنَا شرطَ الدخولِ راجعاً إلى الأوَّل، لَخَصَّصْنَا عمومَ اللفظِ الأول بالشَّكِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي فإن لم تكونوا دَخَلْتُمْ نساءَكم، فلا حرجَ عليكم في تزويجِ الرَّبائِب إذا طلقتُم أمَّهاتَهُنَّ قبل الدخول، أو مَاتَتْ أمَّهَاتُهنَّ قبلَ دخول الزوج بهنَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ﴾؛ أي وَنِكَاحَ نساءِ أبنائكم؛ ﴿ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ ﴾؛ وإنَّما سُميت امرأةُ الابن حَلِيْلَةً؛ لأنَّها تحلُّ معه في الفراشِ، وقيل: لأنَّها حَلاَلٌ لَهُ، وأمَّا أمَةُ الابن فلا تُسمى حليلةَ، ولا تَحْرُمُ على الأب ما لم يَطَأْها الابنُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ ﴾ ليس هو على ما ظَنَّ بعضُ الناس أنه مَن شَرَطَ الصُّلْبَ في هذه الآية؛ أخرجَ امرأةَ الابن في الرَّضاع من التحريمِ، بل امرأةُ الابن في الرَّضاع بمنْزلةِ امرأة الابن من الصُّلْب في الْحُرْمَةِ، وإنَّما شرطَ اللهُ تعالى كَوْنَ الابن من صلبه لإخراجِ امرأةِ الابن من التَّبَنِّي عن التحريم. فإنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأةَ زَيْدِ بنِ الْحَارثَةِ بَعْدَمَا فَارَقَهَا زَيْدٌ؛ تَكَلَّمَ فِيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُواْ: إنَّ مُحَمَّداً تَبَنَّى هَذا ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأتَهُ، وَكَانُواْ يَجْعَلُونَ الْمُتَبَنَّى بمَنْزِلَةِ ابْنِ الصُّلْب فِي الْمِيرَاثِ وَالْحُرْمَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، وقَوْلَهُ:﴿ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ ﴾[الأحزاب: ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ ﴾؛ في موضعِ رفعٍ؛ ومعناهُ: وحَرَّمَ عليكم أنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، وصورةُ الجمعِ أن يتزوَّجَ أختين، أو في عقدين لا يَدْري أيَّتُهُما كانتِ هي الأُولى، وأمَّا إذا تزوَّجَ امرأةً ثُم تزوَّجَ بعد ذلك أُخْتَها وهو يعلمُ الثانيةَ؛ فنكاحُ الثانيةِ حرامٌ دون الأُولى؛ لأنَّ الجمعَ حَصَلَ بالثانيةِ، ويَحْرُمُ عليه أيضاً بين وَطْئ الأُختين بمِلْكِ اليمينِ، ويحرمُ عليه أيضاً تزوُّج إحداهُما والأخرى مُعْتَدَّةٌ منهُ في طلاقٍ بائن، أو رجعيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ إلاّ ما مَضَى في الجاهليَّةِ فإنه مَعْفُوٌّ لكم إذا تُبتم عنهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾؛ أي لا يُؤَاخِذُكُمْ بما كان منكم قبلَ التحريمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾؛ هذه الآيةُ عطفٌ على ما تقدَّم؛ أي وَحَرَّمَ عليكم المحصناتِ وهنَّ ذواتُ الأزواجِ اللاَّتي أحْصِنَّ بالأزواجِ.
﴿ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ أي إلاّ مَا أفَاءَ اللهُ عليكم من السَّبَايَا. ورويَ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ:" أنَّ الْمُسْلِمِيْنَ أصَابُوا يَوْمَ أوْطَاسَ سَبَايَا لَهُنَّ أزْوَاجٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ؛ فَتَأثَّمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَطْئِهِنَّ؛ وَقَالُواْ: لَهُنَّ أزْوَاجٌ فِي دَار الْحَرْب فأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " ألاَ لاَ تُوْطَأَ الْحُبَالُ حَتَّى يَضَعْنَ، وَلاَ غَيْرُ الْحُبَالِ حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بحَيْضَةٍ " ". وَذَهَبَ بَعْضُ الصحابَة وهو أبَيُّ بن كعبٍ، وأنسُ وجابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (أنَّ الأَمَةَ إذا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِ مَوْلاَهَا إلَى مِلْكِ رَجُلٍ آخَرَ؛ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا بأَيِّ سَبَبٍ خَرَجَتْ) حتى رُويَ عن ابنِ عبَّاس أنهُ قالَ: (طَلاَقُ الأَمَةِ يُثْبتُ طَلاَقَهَا وَبَيْعَهَا وَهِبَتَهَا وَمِيرَاثَهَا وَسَبْيَهَا وَصَدَقَتَهَا). وأنكرَ ذلك عَلِيٌّ وعمرُ وعبدُالرحمنِ بن عوفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ وقالوا: (إنَّمَا نَزَلَتِ الآيَةُ فِي السَّبَايَا خَاصَّةً بِدَلِيْلِ مَا رُويَ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيْرَةَ وَأعْتَقَتْهَا؛ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْداً أسْوَدَ يُسَمَّى مَغِيْثاً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾؛ نُصِبَ على المصدر؛ أي كَتَبَ اللهُ عليكم كتابَ اللهِ، وقيل نُصِبَ على الإغراءِ؛ أي إلْزَمُوا كتابَ اللهِ، واتَّبعُوا كتابَ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ ﴾؛ قرأ أهلُ الكوفة (وَأحِّلَ) على ما لَم يسمَّ فاعلهُ، نَسَقاً على قوله (حُرِّمَتْ)، وقرأ الباقون بالفتحِ على أنهُ قد ذكرَ اللهُ بقوله: (كِتَابَ اللهِ)، والمعنى: أحَلَّ لكُم نكاحَ ما سِوَى ما ذكرتُ لكم من المُحَرَّمَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ ﴾؛ بدل من (مَا)، فمن رفعَ أحَلَّ فموضعها رفعٌ، ومن نصبَ فموضعُها نصبٌ. وقال الكسائيُّ: (مَوْضِعُهُ نَصْبٌ فِي الْقِرَائَتَيْنِ بنَزْعِ الْخَافِضِ، يَعْنِي لَئِنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ؛ أيْ تَطْلُبُوا بأمْوَالِكُمْ إمَّا بنِكَاحٍ أوْ بِملْكِ يَميْنٍ مُحْصِنِيْنَ؛ أيْ نَاكِحِيْنَ أعِفَّاءَ غَيْرَ زُنَاةٍ، وَأصْلُهُ مِن: سَفَحَ الْمَذِيُّ وَالْمَنِيّ). في هذا دليلٌ أن بَدَلَ الْبُضْعِ لا يجوزُ أن يكون صِداقاً، وكذلكَ خدمةُ الزَّوجِ لا يكونُ صِداقاً عند أبي حنيفةَ وأبي يوسف. وأصْلُ الإحْصَانِ في اللغة: مَا يَمْنَعُ، ومنه يسمَّى الْحِصْنُ حِصْناً؛ لأنه يَمْنَعُ مِن العدوِّ، ومنه الدِّرْعُ الْحَصِيْنَةُ؛ أي الْمَنِيْعَةُ، وَالْحِصَانُ بكسر الحاء: الْفَحْلُ من الخيلِ يَمْنَعُهُ رَاكِبُهُ مِنَ الْهَلاَكِ، والْحَصَانُ بفتح الحاء: الْعَفِيْفَةُ مِنَ النِّسَاءِ لِمَنْعِهَا فَرْجَهَا؛ مَنه قال حِسَانُ في عائشةَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ برِيبَةٍ   وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِوالإحْصَانُ في القُرْآنِ يقعُ على معانٍ مختلفة منها: نِكَاحٌ كما في أوَّل هذه الآية؛ ومنها: الْجِزْيَةُ كما في قولهِ تعالى:﴿ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾[المائدة: ٥]، ومنها الإسْلاَمُ كما في قولهِ تعالى:﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ ﴾[النساء: ٢٥] أي اذا أسْلَمْنَ، ومنها: الْفِقْهُ كما في قولهِ تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ﴾[النور: ٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾؛ اختلفُوا في معنى ذلكَ. قال الحسنُ ومجاهدُ: (يَعْنِي فَمَا اسْتَمْتَعتُمْ وَتَلَذذْتُمْ بالْجِمَاعِ مِنَ النِّسَاءِ بالنِّكَاحِ الصَّحِيْحِ فآتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ) وهو قولُ ابنِ عبَّاس: أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ؛ أسِفَاحٌ أمْ نِكَاحٌ؟ فَقَالَ: (لاَ سِفَاحٌ وَلاَ نِكَاحٌ) قِيْلَ: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: (الْمُتْعَةُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى) قِيْلَ لَهُ: هَلْ لَهَا مِنْ عِدَّةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ حَيْضَةٌ) قِيْلَ: هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ قَالَ: (لاَ). ثم رُويَ عنه أنه رَجَعَ عن القولِ بالمتعة، وقال عندَ مَوْتِهِ: (اللَّهُمَّ إنِّي أتُوبُ إلَيْكَ مِنْ قَوْلِي بالْمُتْعَةِ، وَقَوْلِي مِنَ الصَّرْفِ فِي دِرْهَمٍ بدِرْهَمَيْنِ يَداً بيَدٍ). وَعن عُمَرَ رضي الله عنه أنَّهُ خَطَبَ حِيْنَ وُلِّيَ فَقَالَ: (أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ تَعَالَى أحَلَّ لَنَا الْمُتْعَةَ ثَلاَثاً ثُمَّ حَرَّمَهَا؛ وَأنَا أُقْسِمُ باللهِ لاَ أَحَدٌ تَمَتَّعَ إلاَّ رَجَمْتُهُ). وعنهُ أيضاً أنه قالَ: (لاَ أوْتَى برَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً إلَى أجَلٍ إلاَّ رجَمْتُهُ بالْحِجَارَةِ). وعنِ ابن مسعُود: (أنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ رُخْصَةً لأَصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي غُزَاةٍ شَكَواْ فِيْهَا الْغُرْبَةَ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ النِّكَاحِ). وقد أجمعَ سائرُ الفقهاءِ والعلماء والتابعينَ والسَّلف الصالحين على أنَّ هذهِ الآيةُ منسوخةٌ، ومتعةُ النِّساءِ حَرَامٌ. روَى الربيعُ عن سُبْرَةَ الْجُهَنِيُّ عن أبيهِ قال:" كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ؛ فَشَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْغُرْبَةَ، فَإذا هُوَ يَقُولُ: " يَا أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". قال بعضُهم: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ: " إنَّمَا كَانَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ " ". قوله: ﴿ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي مُهُورَهُنَّ، يسمَّى المهرُ أجراً؛ لأنه ثَمَنُ البُضْعِ، أو لأنهُ بدلٌ من المنافعِ، كما يسمَّى بدلُ منفعةِ الدار والدابَّة أجراً. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرِيضَةً ﴾؛ أي أعطوهُنَّ أجورَهن فَرِيْضَةً من الله لَهُنَّ عليكم، والفرضُ ما يكون في أعلى مراتبِ الإيجابِ عن الله تعالى، ولِهذا لا يجوزُ إسقاطُ المهرِ في ابتداءِ العقدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ ﴾؛ أي لا إثْمَ عليكُم فيما تراضَيتُم به من الزيادةِ والنقصان في المهرِ من بعد الفريضة في ابتداء النِّكاح. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي عَلِيْماً بِما يصلحُ أمرَ العبادِ، حَكِيْمٌ فيما أمرَكُم به ونَهاكم عنهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس وابن جُبير وقتادةُ ومجاهد: (الطَّوْلُ الْغِنَى وَالسَّعَةُ) أي وَمن لم يستطِعْ منكم غِنىً وقدرةً، ولم يَجِدْ مَالاً يتزوجُ به الحرائرَ؛ فليتزوَّجْ بعضُكم من إمَاءِ بعضٍ. وقال جابرُ ابن زيد وربيعةُ والنخعيُّ: (الطَّوْلُ الْهَوَى) أي مَن لم يَقْدِرْ منكم على نكاحِ الحرائِرِ هوىً وعِشْقاً بأَمَةٍ من الإماءِ لا يتَّسِعُ قلبُه لنكاحِ الحرَّةِ، فليتزوَّج بالأَمَةِ التي يَهْوَاها من الإماءِ المؤمناتِ. قرأ الكسائيُّ: (الْمُحْصِنَاتِ) بكسرِ الصَّاد في كلِّ قراءةٍ إلاَّ الأوَّل وهو قولهُ:﴿ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾[النساء: ٢٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ ﴾؛ أي بحقيقةِ الإيْمان وأنتُم تعرفون الظَّاهِرَ، وليسَ عليكُم أنْ تبحَثُوا عن الباطنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾؛ أي في الدِّين، وقيلَ: مِنَ النَّسب؛ أي كلُّكم ولْدُ آدمَ عليه السلام، وإنَّما قالَ ذلك؛ لأن العربَ كانت تطعنُ في الأنسابِ، وتفخرُ بالأحسَابِ وتعيِّرُ بالْهُجْنَةِ، وتسمِّي ابنَ الأَمَة (الْهَجِيْنُ)، فأعلَمَ اللهُ أنَّ الأمَةَ في جواز نكاحِها كالحرَّة لذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾؛ أي انْكِحوا الإماء بإذنِ مَوَالِيْهِنَّ واعطوهُنَّ مهورَهن؛ يعني بإذنِ أهلهِنَّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾؛ أي مهرٌ غيرُ مهرِ البغيِّ وهو أن يكون عشرةَ دراهِمَ فما فوقَها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ ﴾؛ أي عَفَائفَ غيرَ زَوَانٍ مُعْلِنَاتٍ بالزِّنا.
﴿ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ ﴾؛ أي أخِلاَّءَ في السِّرِّ؛ وذلك لأنَّ أهلَ الجاهليَّة كان فيهم زَوَانٍ بالعلانيَةِ لَهنَّ راياتٌ مضروبةٌ، وبعضُهن اتخذتْ أخْدَاناً في السِّرِّ حتَّى قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ فِيْهِمْ مَنْ يُحَرِّمُ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا، وَيَسْتَحِلُّ مَا خَفِيَ فِيْهِ، فَنَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ نِكَاحِ الْفَرِيْقَيْنِ جَمِيْعاً.)قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ﴾؛ معناه: أن الإماءَ إذا أسلمْنَ وتزوَّجن، ومن قرأ (أُحْصِنَّ) بضمِّ الهمزة فمعناهُ: اذا زُوِّجْنَ وأُحْصِنَّ بالأزواجِ.
﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ ﴾ يعني الزِّنا فَعَلَيْهِنَّ نصفُ قَدْر الحرائرِ: خمْسُونَ جَلْدَةً. والمرادُ بهذه الآيةِ: نصفُ الجلدِ؛ لأن الرجمَ لا نصفَ له. وذهبَ عامَّةُ الفقهاءِ إلى أنَّ الإسلامَ والتَّزَوُّجَ لا يكونَا شرطاً في وجوب الجلدِ على الأمَةِ؛ فإنَّها وإن لم تكن مُحْصَنَةً بالإِسلامِ والتزويجِ أقِيْمَ عليها نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ إنْ زَنَتْ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبعْهَا "واستدلُّوا بما رُوي عن أبي هُريرة رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إذا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ (فَبيْعُوهَا) "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾؛ أي تزويجَ الإماءِ والرِّضا بنكاحهنَّ عند عدمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ لمن خَشِيَ الزِّنا منكُم، وقيل: لِمَنْ خَشِيَ الضررَ في الدَّين والدنيا.
﴿ مِنْكُمْ ﴾؛ عن نكاحِ الإمَاءِ.
﴿ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، وإنَّما قالَ ذلكَ؛ لأن ولدَ الأمةِ رقِيْقاً لِمَوْلَى الأمَةِ، ولهُ استخدامُ الأمَةِ في الحاجاتِ وبين أيدِي الرِّجال الأجانب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي غَفُورٌ لِما أصبتُم من الْحُرُمَاتِ يَغْفِرُ لَكُم بعد التوبةِ، رَحِيْمٌ لا يُعَجِّلُ بالعقوبةِ على المذنبين. فإن قِيْلَ: ما فائدةُ شرطِ الإحصان في قولهِ تعالى: ﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ ﴾ والأَمةُ تُحَدُّ حَدَّ الزنا سواءٌ كانت مُحَصَنَةً بالإسلامِ والزوجِ أم لا؟ قيلَ: فائدةُ ذكر إحصان الإماء في الآيةِ: أنَّ حدَّ الحرَّةِ يختلفُ بالإحصان وعدمِ الإحصان، فكان يجوزُ أن يَتَوَهَّمَ مُتَوَهَّمٌ أنَّ حدَّ الأمةِ يختلفُ أيضاً بالإحصانِ بالإسلام والزوجِ، كما يختلفُ حدُّ الحرَّة بذلك؛ فأوجبَ الله تعالى ذلك الحدَّ بالْجَلدِ في الحالة التي يوجبُ فيها الرجمَ على الحرَّةِ؛ لَيُعْلِمَ أنَّ الإماءَ لا مُدْخَلَ لَهن في الرجمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ ﴾ الْفَتَاةُ في اللغة: الشَّابَّةُ؛ إلاّ أنَّ الأمَةَ تسمى فتاةً؛ عجوزاً كانت أم شَابَّة؛ لأنَّها لا تُوَقَّرُ تَوَقُّرَ الحرَّة الكبيرةِ. والأخْدَانُ: جمع الْخِدْنِ؛ والْخَدِيْنُ: الصَّدِيْقُ. والعَنَتُ في اللغةِ: الْمَشَقَّةُ، ويسمَّى الزنا بهِ لأن فاعلَهُ يلقَى الإثْمَ العظيمَ في الآخرة، ويقامُ عليه الحدُّ في الدُّنيا. وقد تعلَّق أصحابُ الشَّافِعِيِّ بظاهرِ هذه الآيةِ؛ فقالوا: إذا كان عندَ الرجلِ من الْمال ما يُمَكِّنُهُ أنْ يتزوجَ به الحرَّةَ؛ لا يجوزُ له أن يتزوَّجَ أكثرَ من أمَةٍ واحدة. وقالوا: ويجوزُ للعبدِ أن يتزوَّجَ الأمَةََ. قالوا: لا يجوزُ أن يتزوجَ الأمةَ اليهوديَّةَ ولا النصرانيَّةَ، ولا يجوزُ أن يتزوجَ أكثرَ من أمةٍ واحدة. قالُوا: ويجوزُ للعبدِ أن يتزوجَ أمةً على الحرَّةِ؛ لأن هذهِ الآيةَ خطابٌ للأحرار، قالَ اللهُ تعالى: ﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم ﴾.
وليست هذه الآيةُ عند أصحابنا على طريقةِ الشَّرط، ولكن معنَاها: مَن لم يَبْسُطِ اللهُ له في الرِّزْقِ فَلْيَرْضَ بما قَسَمَ اللهُ له، وَلْيَعْقِدْ أدونَ نكاحين إن لم يقدِرْ على أعلاهُما، وفي قولهِ ﴿ مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ ﴾ بيانُ أنَّ المؤمنةَ خيرٌ من الحرَّة الكتابيَّة، ولو كان جوازُ نكاحَ الأمة للحرِّ مقيَّداً لحال الضرورة وخَوْفِ العَنَتِ لكانَ الحرُّ إذا تزوجَ حرَّةً على الأمَةِ يبطلُ نكاحُ الأمَةِ، وَلا خِلاَف إنْ كان نكاحُ الحرَّةِ إذا طرأ على نكاحِ الأمة لم يبطُلِ النكاحُ. وعن أبي يوسُفَ أنهُ تأوَّلَ هذه الآية: على أنَّ وجودَ الطَّوْلِ هو كَوْنُ الحرَّةِ في نكاحهِ على ما وردَ به الحديثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" لاَ تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الأَمَةِ "وهذا تَأْويلٌ صحيحٌ؛ لأن مَن لا يكونُ عندَه حرَّةٌ فهو غيرُ مستطيعٍ للطَّوْلِ إليها؛ لأن القدرةَ على الْمالِ لم يوجِبْ له مِلْكَ الوطئ إلاَّ بعدَ وجودِ النكاحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾؛ أي يُرِيْدُ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ لكم ما تحتاجون إلى معرفتهِ من الحلالِ والحرَام، وكيفيَّة الطاعةِ، ويُبَصِّرَكُمْ طريقَ الذين مِن قبلِكم من أهلِ التَّوراة والانجيلِ، يَدُلُّكُمْ على طاعةِ الله، كما دلَّ مَن قبلَكم.
﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي يَتَجَاوَزَ عنكم ما كان مِنكم في الجاهليَّةِ؛ ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بما فعلتم وبمَّن يتوبُ؛ ﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ فيما أمَرَكم به ونهَاكم عنهُ في قوله ﴿ لِيُبَيِّنَ ﴾ بمعنى (أنْ)، والعربُ تُعَاقِبُ بين لامِ كَي وبين (أنْ)، فيقعُ أحدُهما مكانَ الآخرِ، كقولهِ﴿ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾[الشورى: ١٥] وقولهُ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ﴾[الأنعام: ٧١] وفي موضعٍ آخر:﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ ﴾[غافر: ٦٦] وقال:﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ﴾[الصف: ٨] وفي موضع آخر﴿ أَن يُطْفِئُواْ ﴾[التوبة: ٣٢]، وقال الشاعرُ: أُريْدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا   تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بكُلِّ سَبيْلِيُرِيْدُ أنَّ أنْسَى. ومعنى الآية: يريدُ الله لِيُبَيِّنَ لكم شرائعَ دينِكم ومصالِحَ أمرِكم. وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا تَأَتُونَ وَمَا تَذرُونَ). وقال عطاءُ: (يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يُقَرِّبُكُمْ إلَيْهِ). وقال الكلبيُّ: (مَعْنَاهُ: يُبَيِّنُ لَكُمْ أنَّ الصَّبْرَ عَلى نِكَاحِ الإمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أيْ شَرَائِعَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ فِي تَحْرِيْمِ الْبَنَاتِ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَخَوَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي يريدُ أن يَدُلَّكُمْ على ما يكون سَبَباً لتَوْبَتِكم.
﴿ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ﴾؛ اختلفُوا في ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ ﴾ مَنْ هُمْ؟ قال السُّدِّيُّ: (هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى)، وقال بعضُهم: هم الْمَجُوسُ لأنَّهم كانوا يُحِلُّونَ نكاحَ الأخواتِ وبناتِ الأخ وبناتِ الأُخت، فلمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تعالى؛ قالوا: إنَّكم تنكِحون بناتَ الخالةِ وبناتَ العمَّة، والخالةُ حرامٌ عليكم، فانكِحوا بناتَ الأخِ وبنات الأخت كما تنكحُوا بناتَ الخالة والعمَّةِ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ. وقال مجاهدُ: (هُمْ الزُّنَاةُ؛ يُرِيْدُونَ أنْ تَمِيْلُوا عَنِ الْحَقِّ فَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ تَزْنُونَ كَمَا يَزْنُونَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾؛ أي في نكاحِ الأَمَةِ إذا لم تجدوا طَوْلَ الحرَّةِ، وفي كلِّ أحكامِ الشَّرع. وَقِيْلَ: معناهُ: يريدُ الله لِيُسَهِّلَ عليكُم فيضعَ أوزارَكم ويَحُطَّ ذنوبَكم.
﴿ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾؛ أي أسِيْراً للشهوة، وقِيْلَ: ضَعِيفاً في كلِّ شيءوقال طاوُوس والكلبيُّ: (مَعْنَاهُ لاَ يَصبْرُ عَلَى النِّسَاءِ، لَيْسَ يَكُونُ الإنْسَانُ فِي شَيْءٍ أضْعَفَ مِنْهُ فِي أمْرِ النِّسَاءِ). وقال سعيدُ بن المسيَّب: (مَا آيَسَ الشَّيْطَانُ مِنْ ابْنِ آدَمَ إلاَّ أتَاهُ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ، وَقَدْ أتَى عَلَيَّ ثَمَانُونَ سَنَةً وَذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيَّ، وَأنَا أخْوَفُ مَا أخَافُ عَلَى فِتْنَةِ النِّسَاءِ). وقال عبادةُ بن الصَّامت: (ألاَ تَرَوْنِي مَا آكُلُ إلاَّ مَا لُوِّقَ لِي - أي لُيِّنَ وَسُخِّنَ - وَلاَ أقُومُ إلاَّ مَا قَدْ مَاتَ صَاحِبي - يَعْنَي ذكَرَهُ - وَمَا يَسُرُّنِي أنِّي خَلَوْتَ بامْرَأةٍ لاَ تَحِلُّ لِي مَخَافَةَ أنْ يَأْتِيَنِي الشَّيْطَانُ فَيُحَرِّكُهَ عَلَيَّ؛ أنَّهُ لاَ سَمْعَ لَهُ وَلاَ بَصَرَ). وقال الحسنُ: (مَعْنَى ﴿ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾ أيْ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِيْنٍ). وقال ابنُ كَيْسَانَ: (مَعْنَاهُ: تَسْتَمِيْلُهُ شَهْوَتُهُ وَيَسْتَلِيْنُهُ خَوْفُهُ وَحُزْنُهُ). قال ابنُ عبَّاس: (ثَمَانِي آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ؛ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ:﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٢٦]؛﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾[النساء: ٢٧].
﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾؛﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ﴾[النساء: ٣١]؛﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾[النساء: ٤٠]؛﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾[النساء: ٤٨]؛﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾[النساء: ١١٠]؛﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ﴾[النساء: ١٤٧]؛﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾[النساء: ١٥٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ ﴾؛ أي لا يَأَكُلْ بعضكم مالَ بعضٍ بالظلم وشهادَةِ الزُّور واليمينِ الفاجرةِ والرِّبا والقمار وغير ذلك من الغَصْب والسرقَةِ والخيانَةِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾؛ استثناءٌ منقطعٌ؛ لأن الاستثناءَ خلافُ المستثنى منهُ؛ لأن التجارةَ ليست بباطلٍ، كأنَّهُ قالَ: لكن كُلُوا ما مَلَكْتُمْ بالْمُبَايَعَةِ عن تراضٍ منكم. قرأ أهلُ الكوفةِ (تِجَارَةً) بالنصب على معنى: إلاّ أن تكونَ الأموالُ تجارةً، وقرأ الباقون بالرفعِ على معنى: إلاّ أن تقعَ تجارةٌ. رويَ: أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ امْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ أكْلِ الأَمْوَالِ بالْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾الآيةُ. [النور: ٦١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ ﴾؛ أي لا يَقْتُلْ بعضُكم بعضاً فإنَّكم أهلُ دِيْنٍ واحدٍ، وأنتم كنَفْسٍ واحدةٍ. قال صلى الله عليه وسلم:" الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ؛ إذا ألِمَ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الأَعْضَاءِ لِلْحُمَّى وَالسَّهَرِ "وَقِيْلَ: معناهُ: لا يَقْتُلَنَّ الرجلُ نفسَه عند الضَّجَرِ والغضب. قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أخَذَتْهُ قَرْحَةٌ فِي يَدِهِ فَقَطَعَهَا فَأَرَاقَ دَمَهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي ابْنُ آدَمَ بنَفْسِهِ فَقَتَلَهَا بيَدِهِ، فَقَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ "وعن جَابرِ بن سَمُرَةَ: [أنَّ رَجُلاً ذَبَحَ نَفْسَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم].
وقال بعضُهم: معنى الآية: لا تَقْتُلُوا أنفسَكم لطلب المال بما يؤدِّي إلى التلفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾؛ لا يَرْضَى منكُم قَتْلَ بعضِكم بعضاً، ولا أكلَ المالِ بالباطل، فيرجعُ ضَرَرُهُ عليكُم في الدُّنيا والدِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ﴾؛ أي مَن يأكُلِ المالَ بالباطلِ أو يَقْتُلِ النفسَ بغيرِ الحقِّ ﴿ عُدْوَاناً ﴾ أي اعتداءً وجَوراً بغير حِلٍّ. وَالْعُدْوَانُ: بأَنْ يَعْدُو غَيْرَ ((مَا)) أمْرَ بهِ، والظُّلْمُ: أنْ يَضَعَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، معنى: إذا فعلَ ذلك على وجهِ التعدِّي ﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ﴾؛ أي ندخلْهُ النارَ.
﴿ وَكَانَ ذٰلِكَ ﴾؛ التعذيبُ.
﴿ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾؛ لا يَمنع كثرةَ رحمتهِ من تعذيب مَن يستحقُّ العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾؛ معناهُ: إنْ تَتْرُكُوا كَبَائِرَ الذُّنوب نُكَفِّرْ عَنْْكُمُ الصغائرَ، كما رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا جُنِّبَتَ عَنِ الْكَبَائِرِ ".
﴿ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾؛ يعني الجنَّةَ. قرأ أهلُ المدينة: (مَدْخَلاً) بفتح الميم، وهو موضعُ الدخول. وقرأ الباقون بالضمِّ على المصدر، بمعنى الإدخَالِ. واختلفُوا في الكبائرِ التي جعلَ الله تعالى اجْتِنَابَهَا تكفيراً للصغائرِ، فقال ابنُ عبَّاس: (هِيَ كُلُّ شَيْءٍ سَمَّى اللهُ فِيْهِ النَّارَ لِمَنْ عَمِلَ بهَا أوْ شَيْءٍ نَزَلَ فِيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا). ويروى: أنَّ رَجُلاً أتَى ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه فقالَ: إنِّي أصَبْتُ ذنْباً فأُحِبُّ أنْ تَعُدَّ عَلَيَّ الْكَبَائِرَ؛ فَعَدَّ عَلَيْهِ سَبْعاًَ؛ فَقَالَ: (الإشْرَاكُ باللهِ؛ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ؛ وَأَكْلُ الرِّبَا؛ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيْمِ؛ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ؛ وَالْيَمِيْنُ الْفَاجِرَةُ). وعن ابنِ مسعُودٍ قالَ: (الْكَبَائِرُ أرْبَعٌ: الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ؛ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهَ؛ وَالشِّرْكُ). قال مقاتلُ: (الْكَبَائِرُ: مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ أوَّلِ هَذِهِ السُّوَر). ويقال: لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار. وعن ابنِ مسعُود قال: قُلْتُ:" يَا رَسُولَ اللهِ؛ أيُّ الذنْب أعْظَمُ؟ قَالَ: " أنْ تَجْعَلَ للهِ أنْدَاداً وَهُوَ خَلَقَكَ " قُلْتُ: ثُمَّ مَاذا؟ قَالَ: " أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِشْيَةَ أنْ يَأَكُلَ مَعَكَ " قُلْتُ: ثُمَّ مَاذا؟ قَالَ: " أنْ تَزْنِي بحَلِيْلَةِ جَاركَ " "وتصديقُ ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ﴾[الفرقان: ٦٨-٦٩].
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" أكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإشْرَاكُ باللهِ؛ وَالْيَمِيْنُ الْغَمُوسُ؛ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ "وعن أنسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أرْبَعٌ مِنَ الْكَبَائِرِ: الشِّرْكُ باللهِ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ؛ وَشَهَادَةُ الزُّور "وسُئِلَ ابنُ عبَّاس رضي الله عنه عنِ الكبائرِ: أسَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: (هُنَّ إلَى سَبْعِينَ لأَقْرَبُ مِنْهُنَّ إلَى السَّبعِ) ثم قالَ: (الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ؛ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ؛ وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ؛ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ؛ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ؛ وَالسِّحْرُ؛ وَالرِّبَا؛ وَالزِّنَا؛ وَالسَّرِقَةُ؛ وَأكْلُ مَالِ الْيَتِيْمِ؛ وَتَرْكُ الصَّلَوَاتِ؛ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ؛ وَشَهَادَةُ الزُّور؛ وَقَتْلُ الْوَلَدِ خِشْيَةَ أنْ يَأَكُلَ مَعَهُ؛ وَالْحَسَدُ؛ وَالْكِبْرُ؛ وَالْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ وَتَحْقِيْرُ الْمُسْلِمِيْنَ). وقال سعيدُ بن جبيرٍ: (كُلُّ ذنْبٍ أوْعَدَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ النَّارَ فَهُوَ كَبيْرَةٌ). قال الضحَّاك: (مَا وَعَدَ اللهُ عَلَيْهِ حَدّاً فِي الدُّنْيَا وَعذاباً فِي الآخِرَةِ فَهُوَ كَبيْرَةٌ). قال بعضُهم: ما سَمَّاهُ الله في القرآن كبيراً أو عظيماً فهو كبيرةٌ، نحوَ قولهِ:﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾[النساء: ٢]﴿ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ﴾[الإسراء: ٣١]﴿ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾[لقمان: ١٣]﴿ سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾[النور: ١٦]﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾[يوسف: ٢٨]﴿ إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٥٣].
وقال سفيانُ الثوريُّ: (الْكَبَائِرُ مَا كَانَ مِنَ الْمَظَالِمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَالصَّغَائِرُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ لأَنَّ اللهَ كَرِيْمٌ يَعْفُو). وَقِيْلَ: الكبيرُ ما نَهى اللهُ عنه من الذنوب الكبائرِ والسيِّئات مقدماتُها وأتبعها مثلُ النظرةِ واللَّمسة والقُبلةِ وأشباهِها. وَقِيْلَ: الكبيرةُ ما قَبُحَ في العقلِ والطبع مثل القَتْلِ والظُّلْمِ والزنا والكذب والنميمة ونحوها. وقال بعضُهم: الكبائرُ ما يستحقِرهُ العبدُ، والصغائرُ ما يستقطعه فيخافُ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾؛ أي لا يَتَمَنَّى الرجلُ مالَ أخيه ولا شيئاً من الذي لغيرهِ؛ ولكن لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي مِثْلَهُ، ولا يتمنَّى الرجلُ امرأةَ أخيهِ ولا خادمَهُ ولا دابَّته. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ ﴾؛ أي حظٌّ من الأجرِ ما اكتسبُوا من العملِ الصالح ﴿ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ ﴾؛ حظٌّ من الأجرِ مما عَمِلْنَ من العمل الصالحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾؛ أي من رزْقِهِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ ﴾؛ لم يزل.
﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾، من أعمالِ الرجال والنِّساء.
﴿ عَلِيماً ﴾؛ عالماً. وعن جابرِ بن عبدِالله قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛" إذْ أقْبَلَتِ امْرَأةٌ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَا وَافِدَةُ النِّسَاءِ إلَيْكَ، إنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ رَبُّ النِّسَاءِ وَرَبُّ الرِّجَالِ، وَآدَمُ أبُو النِّسَاءِ وَأبُو الرِّجَالِ، وَحَوَّاءُ أمُّ النِّسَاءِ وأمُّ الرِّجَالِ، وَأَنْتَ بَعَثَكَ اللهُ رَسُولاً إلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، ثُمَّ الرِّجَالُ إذا خَرَجُواْ فِي سَبيْلِ اللهِ، فَقُتِلُواْ فَهُمْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ فَرِحِيْنَ، وَنَحْنُ نَحْتَبسُ عَلَيْهِمْ وَنَخْدِمُهُمْ، فَهَلْ لَنَا مِنَ الأَجْرِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أقْرِئِي النِّسَاءَ مِنِّي السَّلاَمَ؛ وَقُولِي لَهُنَّ: إنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاعْتِرَافاً لِحَقِّهِ يَعْدِلُ مَا هُنَالِكَ، وَقَلِيْلٌ مِنْكُنَّ يَفْعَلُهُ " ". وقال قتادةُ والسُّدِّيُّ: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾[النساء: ١١] فَقَالَتِ الرِّجَالُ: إنَّا لَنَرْجُوا أنْ يُفَضِّلَنَا اللهُ عَلَى النِّسَاءِ بَحَسَنَاتِنَا فِي الآخِرَةِ كَمَا فَضَّلَنَا عَلَيْهِنَّ بالْمِيرَاثِ؛ فَيَكُونُ أجْرُنَا مِثْلَي أجْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَ النِّسَاءُ: إنَّا لَنَرْجُوا أنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ كَمَا لَنَا فِي الْمِيرَاثِ النِّصْفُ مِنْ نَصِيْبهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾ ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ ﴾ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْعِقَاب، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيْبٌ كَذَلِكَ مِنْهُ). قال قتادةُ: (يُجْزَى الرَّجُلُ بالْحَسَنَةِ عَشْرَ أمْثَالِهَا، وَالْمَرْأةُ تُجْزَى عَشْرَ أمْثَالِهَا أيْضاً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ وقرأ ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وخلف: (وَسَلًُواْ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (وَسَلْ مَنْ أرْسَلْنَا) و (فَسَلِ الَّذِينَ) يقرأون بغيرِ الهمزة، وقرأ الباقونَ بالهمزة. قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ لَمْ يَسأَلِ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ غَضِبَ عَلَيْهِ "وقال سفيانُ بن عُيَيْنَةَ: (لَمْ يَأَمُرْ بالْمَسْأَلَةِ إلاَّ لِيُعْطِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾؛ أي ولكلِّ واحدٍ من الرجال والنساء جعلنَا موالِي عَصَبَةٍ يَرثُونَهُ مِمَّا تركَهُ والدُه وأقرباؤُه من ميراثِهم، والوالدان والأقربونَ على هذا التأويلِ همُ المورّوثون. وَقِيْلَ: معناهُ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ؛ أي وَرَثَةً مِن الذين تركَهُم، ثم فسَّرهم فقالَ: الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ، على هذا التأويل هم الوارثُون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾؛ في محِلِّ الرفع بالابتداء، والمُعَاقَدَةُ هي الْمُعَاهَدَةُ بين اثنين. وقرأ أهلُ الكوفة (عَقَدَتْ) بغير ألف أراد عقدت لهم أيْمانُهم. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذا أعْجَبَهُ ظُرْفُ الرَّجُلِ عَاقَدَهُ وَحَالَفَهُ؛ وَقَالَ: أنْتَ ابْنِي تَرِثُنِي؛ خِدْمَتِي خِدْمَتُكَ؛ وَذِمَّتِي ذِمَّتُكَ؛ وَثَأْري ثأْرُكَ، فَيَكُونُ بهِ ببَعْضِ وَرَثَتِهِ مِثْلُ نَصِيْب أحَدِهِمْ، إلاَّ أنْ يَنْقُصَ نَصِيْبُهُ عَنِ السُّدُسِ لِكَثْرَةِ الْوَرَثَةِ؛ فَيُعْطَى السُّدُسَ خَاصَّةً لاَ يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ نُسِخَتْ بقَوْلِهِ تَعَالَى﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾[الأنفال: ٧٥]). قال قتادةُ: (أرَادَ بقَوْلِهِ: ﴿ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾: الْحُلَفَاءُ؛ كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دِيْنِي دِيْنُكَ؛ وَثَأْري ثأْرُكَ؛ وَحِزْبي حِزْبُكَ؛ وَسِلْمِي سِلْمُكَ؛ تَرِثُنِي وَأرثُكَ؛ تَعْقِلُ عَنِّي وَأعْقِلُ عَنْكَ؛ وَتَطْلُبُ بي وَأَطْلُبُ بكَ، فَيَكُونُ لِلْحَلِيْفِ السُّدُسُ ثُمَّ نُسِخَ ذلِكَ بِقَوْلِهِ:﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾[الأنفال: ٧٥]). وقال مجاهدُ: (أرَادَ بقَوْلِهِ: ﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ النَّصْرَ وَالْعَقْلَ وَالرَّفَادَةَ دُونَ الْمِيْرَاثِ). فَعَلَى هَذا تَكُونُ الآية غيرَ منسوخةٍ لقولهِ تعالى:﴿ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ﴾[المائدة: ١] ولقولهِ صلى الله عليه وسلم:" أوْفُوا لِلْحُلَفَاءِ بعُهُودِهِمْ الَّتِي عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ "وليس معنى قولِ ابن عبَّاس أنَّ هذه الآية منسوخةٌ، نُسِخَ حُكمها من الأصلِِ، ولكن معناهُ: تقديمُ ذوي الأرحامِ على أهلِ العقد، وهو كحدوثِ ابنٍ لِمَنْ لهُ أخٌ لا يخرجُ الأخَ من أن يكون أهْلاً للميراثِ إلاَّ أن يكون الابنُ أولى منه، كذلك أولي الأرحامِ أوْلى من الحليفِ، فإذا لم يكن للميتِ رَحِمٌ ولا عُصْبَةٌ فالميراثُ للحليفِ، ولِهذا قال أصحابُنا: فمن أسلمَ على يدَي رجلٍ ووالاهُ - عَاقَدَهُ - ثم ماتَ ولا وارثَ له غيرهُ أن ميراثَه لهُ، ولِهذا قالوا: إنَّ من أوصَى بجميعِ ماله ولا وارثَ له صحَّتِ الوصيةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾؛ أي لم يَزَلْ شاهداً على كلِّ شيء من إعطاءِ النصيب ومنعِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس ومقاتلُ:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبيْعِ - وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ - وَفِي امْرَأَتِهِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَهُمَا مِنَ الأَنْصَار، نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَهَا، فَاْنطَلَقَ أبُوهَا مَعَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أفْرَشْتُهُ كَرِيْمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " اقْتَصِّي مِنْهُ " وَكَانَ الْقِصَاصُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ فِي اللَّطْمَةِ وَالشَّجَّةِ وَالْجِرَاحِ، فَانْصَرَفَتْ مَعَ أبيْهَا لِيَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ارْجِعُواْ؛ هَذا جِبْرِيْلُ أتَانِي " فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أرَدْنَا أمْراً؛ وَأرَادَ اللهُ أمْراً، وَالَّذِي أرادَ اللهُ خَيْرٌ " وَرُفِعَ الْقِصَاصُ. "ومعناها: الرجالُ مُسَلَّطُونَ على أدب النِّساء بالحقِّ، والقوَّامُونَ الْمُبَالِغُونَ بالقيامِ عليهنَّ بتعليمهنَّ وتأديبهنّ وإصلاحِ أمورهن، وقولهُ تعالى: ﴿ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي جَعَلَ اللهُ ذلك للرجالِ بفضلِهم على النساء في العقلِ والرَّأي، وَقِيْلَ: بزيادةِ الدِّين واليقينِ، وَقِيْلَ: بقوة العبادةِ والجهادِ، وَقِيْلَ: بالجمُعة والجماعةِ وبإنفاقِهم أموالِهم في الْمُهُور وأقْوَاتِ النساءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي فَالْمُحْصَنَاتُ المطيعاتُ لله في أمرِ أزواجِهن، وَقِِيْلَ: قائماتٌ بحقوقِ أزواجهن. وأصل الْقُنُوتِ: مُدَاوَمَةُ الطَّاعَةِ، وقولهُ تعالى: ﴿ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ ﴾ أي يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وأموالَ أزواجهنَّ في حال غَيْبَةِ أزواجهنَّ. ويدخلُ في حفظِ المرأة لغيب الزوج أن تَكْتُمَ عليه ما لا يحسَنُ إظهارهُ مما يقفُ عليه أحدُ الزوجين على الآخرِ. وقولهُ تعالى: ﴿ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ﴾ أي يحفظُ الله إياهُنَّ من معاصيهِ وبتوفِيقه لَهُنَّ، ويقال: بما حفظهنَّ اللهَ تعالى في مهورهن وإلزام الزوج النفقةَ عليهن. قال صلى الله عليه وسلم:" خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ إذا نَظَرْتَ إلَيْهَا سَرَّتْكَ؛ وَإذا أمَرْتَهَا أطَاعَتْكَ؛ وَإذا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ﴾؛ أي النساءِ التي تعلمونَ عصيانَهنَّ لأزواجَهن فَعِظُوهُنَّ، والنُّشُوزُ: الرَّفْعُ عَنِ الصَّاحِب، مأخوذٌ من النَّشْزِ وهو المكانُ المرتفعُ، المرادُ من الْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْب في الآيةِ أن يكونَ ذلك على الترتيب المذكور فيها؛ لأن هذا من باب الأمْرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ، إذا أمكنَ الاستدراكُ بالأسهلِ والأخفِّ لا يُصَارُ إلى الأثقلِ، فالأَوْلى أن يبدأ الزوجُ فيقول لامرأتهِ الناشِزَةُ: إتَّقِِ اللهَ وارجعي إلى فراشِي، فأطاعَتْهُ وإلاّ سَبَّهَا، هكذا قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه. وَالْهَجْرُ: الْكَلاَمُ الْفَاحِشُ، يقالُ: هَجَرَ الرَّجُلُ يَهْجُرُ، إذا هَدَأ، وأهْجَرَ الرجلُ في مَنْطِقِهِ بهجرٍ هجاراً إذا تكلَّمَ بقبيحٍ. وقال الحسنُ وقتادة: (قَوْلُهُ: ﴿ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ ﴾ مِنَ الْهَجْرِ؛ وَهُوَ أنْ لاَ يَقْرَبَ فِرَاشَهَا وَلاَ يَنَامَ مَعَهَا؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَرَنَهُ بقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ فِي ٱلْمَضَاجِعِ ﴾.
إذا لم ينفَعْها الوعظُ هَجَرَهَا زوجُها في المضجَعِ، فإنْ كانت تُحِبُّ زوجَها شُقَّ عليها الهجرانُ، وإن كانت تَبْغَضُهُ وافقَها ذلك، فكان دليلاً على النُّشُوز من قِبَلِها؛ فيضربُها الزوجُ ضرباً غيرَ مبرِّح ولا شائنٍ، كما يؤدِّبُ الرجل وَلَدَهُ، ويكون ذلك مَوْكُولاً إلى رأيهِ واجتهاده على ما يرى من المصلحةِ، ولِهذا قيلَ: إن هذا الضربَ مُقَيَّدٌ بشرطِ السَّلامة، فالأَوْلى أن يضربَها بالنعلِ واللَّطْمِ ضربَتَين أو ثلاثاً على حسب ما يراهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ﴾؛ أي فيما تَلْتَمِسُونَ منهنَّ؛ ﴿ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ﴾؛ أي لا تطلُبوا عليهنَّ عِلَلاً ولا تكلفوهنَّ الْحُبَّ لكم، فإنَّهن لا يَملكنَ ذلك.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾؛ أي عَلاَ فوقَ كلِّ شيء كبيراً فلا شيءَ أكبرُ منه، أراد بالعَلِيِّ: الْعُلُوَّ في القهرِ والقَدْر لا عُلُوَّ المكانِ، وأراد بالكَبيرِ الجلالَ وَالْعَظَمَةَ. والمعنى: أنِّي مع عُلُوِّي وَكِبْرِيَائِي، أرضَى من عبادِي بالطاعةِ ولا آخذُهم بالحب الذي لا غايةَ بعده، فإن أكبرَ عبادي من يُؤْثِرُ نفسَهُ عَلَيَّ، ولا يُخْلِصُ حُبَّهُ لِي كلَّ الإخلاصِ. وقد روي:" أنَّهُ لَمَّا شَكَا الرِّجَالُ نِسَاءَهُمْ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بالضَّرْب؛ أصْبَحَ بَباب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعُونَ امْرَأةً يَشْكُونَ أزْوَاجَهُنَّ، فَأَقْبَلَ عَلَى أصْحَابهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ وَقَالَ: " إنَّ الْمَرْأةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ أعْوَجٍ، فَإنْ أرَدْتُمْ إقَامَتَهَا كَسَرْتُمُوهَا، وَإنْ رَفَقْتُمْ بهَا اسْتَمْتَعْتُمْ بهَا عَلَى عِوَجٍ " ثُمَّ قَالَ: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ " ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ﴾؛ أي وإن عَلِمْتُمْ أيُّها المؤمنون بعدَ العِظَةِ والهجرانِ تباعدَ الزوجين عن الحقِّ، وهو أن يكونَ كلُّ واحد منهما في شِقٍّ على حِدَةٍ، ولم يَدْرُوا من أيُّهما جاءَ النُّشُوزُ فابعثوا عَدْلاً ذا رأي وعقل من أهلِ الزَّوجِ؛ وعَدْلاً من أهلِ المرأةِ؛ يختارُ الحاكمُ حَكَماً مِن أهلهِ وحَكَماً من أهلِها، فيخلوا حَكَمَ الزوجِ به؛ فيقول: أخبرنِي ما في نَفْسِكَ أتَهْوَاهَا أم لاَ؟ فأنا لا أدري ما أقولُ وما أعمل بهِ حتى أرى ما تريدُ، فإن قال: أهْوَاهَا؛ ولكنها تُسِيْءُ معاشرتِي، فَعِظْهَا وَأرْضِهَا عنِّي، علم أنَّ الرجلَ ليس بنَاشِزٍ، وإن قالَ: لاَ حاجةَ لِي بها؛ فَرِّقْ بينِي وبينَها وخُذْ لِي منها ما استطعتَ؛ علم أنه نَاشِزٌ، وكذلكَ يفعلُ حَكَمُ المرأةِ بالمرأة. ثم يلتقي الْحَكَمَانِ، فيصدِّقُ كلُّ واحد منهما صاحبَهُ فيما سَمِعَ، فيُقْبلان على الزوجِ إن كان نَاشِزاً فيقولان له: يَا عَدُوَّ اللهِ؛ أنتَ العاصي لله، الظالِمُ على امرأتِكَ، ويَعِظَانِهِ وَيَزْجُرَانِهِ، وَكَذِلِكَ يَفْعَلاَنِ بالمرأة إن كانت هي النَّاشِزَةَ، فذلك قولهُ: ﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ﴾ أي أنَّ الْحَكَمَيْنِ إذا أرادَا عَدْلاً ونصيحةً ألَّفَ اللهُ بين الزوجينِ، ويقالُ: وَفَّقَ اللهُ بين أقوالِ الْحَكَمَيْنِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً ﴾؛ بأمر الْحَكَمَيْنِ.
﴿ خَبِيراً ﴾؛ بنَصِيْحَتِهِمَا، ويقالُ: عَلِيْماً بما فيه صلاحُ الحقِّ، خَبيْراً بذلكَ. وذهبَ بعضُ العلماء: إلى أنَّ الْحَكَمَيْنِ إذا رَأيَا أن يفرِّقا بينهما فَرَّقَا بينهما، وكذلكَ إذا رأى الْحَاكِمُ أن يُفرِّقَ فعلَ إذا وقَعَ اليأسُ عن زوال الشِّقاق، واعتبروا بالغاية فما عند أصحابنا رَحِمَهُمُ اللهُ فليسَ للحَكَمين أن يفرِّقا إلاّ أن يكونَا وَكِيلَيْنِ في الخُلْعِ من جانبين، أو يرضَى الزوجُ بتفريقِها.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾؛ أي وَحِّدُوا اللهَ تعالى، وأطيعُوه ولا تعبدُوا معه غيرَهُ، فإن ذلك يُفْسِدُ عبادتَه. قالت الحكماءُ: الْعُبُودِيَّةُ تركُ الاختيار وملازمةُ الافتقار. وَقِيْلَ: الْعُبُودِيَّةُ أربعةُ أشياءٍ: الوفاءُ بالعهودِ؛ والحفظُ للحُدُودِ؛ والرِّضَا بالموجودِ؛ والصَّبْرُ على المفقودِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ أي أحْسِنُوا بالوالدينِ إحْسَاناً، وَقِيْلَ: اسْتَوْصُوا بالوالدين إحْسَاناً، وقد يذكرُ المصدر المنصوبُ على تقديرِ فعلٍ محذوف كقولهِ تعالى:﴿ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ ﴾[محمد: ٤]، ومعناه الأمرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ ﴾؛ أي وأحْسِنُوا بذوي القَرَابَةِ واليتامَى والمساكينِ. والإحسانُ إلى ذوي القربَى هو مُوَاسَاةُ الفقيرِ منهم إذا خافَ عليه ضَرَرَ الجوعِ والعُرِيِّ وَحُسْنَ العشرةِ وكفِّ الأذى عنهُ والْمُحَابَاةُ دونه مِمَّنْ يريدُ ظُلْمَهُ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه:" أنَّ رَجُلاً شَكَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةً فِي قَلْبهِ؛ فَقَالَ: " إنْ أرَدْتَ أنْ يَلِيْنَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِيْنَ وَامْسَحْ برَأْسِ الْيَتِيْمِ وَأَطْعِمْهُ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ ﴾؛ قال صلى الله عليه وسلم:" الْجِيَراُن ثَلاثَةٌ: جَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ؛ وَهُوَ الْجَارُ الْقَرِيْبُ الْمُسْلِمُ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ؛ وَهُوَ الَْجَارُ الأَجْنَبِيُّ الْمُسْلِمُ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ الْجَارُ الْكَافِرُ "فعلى هذا يكون معنى (الْجَار الْجُنُب): هو الجارُ الذي هو مِن قومٍ آخرين لا قرابةَ بينك وبينه. ويقالُ: إن الجارَ ذوي القربَى هو الذي يُقَاربُكَ في الجوار، تعرفهُ ويعرِفُكَ، والجارُ الْجُنُبُ: هو الجارُ الغريبُ المتباعِدُ. وَالْجُنُبْ في اللغة: الْبَعِيْدُ. وقرأ الأعمشُ: (وَالْجَار الْجَنْبِ) بفتحِ الجيم وإسكان النُّون، وهما لُغتان. يقالُ: رَجُلُ جُنُبٌ وَجُنْبٌ؛ إذا لم يكن قَرِيباً، وجَمَعُهُ: أجَانِبُ، وقيل للجُنُب جُنُبٌ لاعتزالهِ الصلاةَ وبُعْدِهِ من المسجدِ حتى يغتسلَ. وقال بعضُهم: (الْجَارُ الْجُنُبُ) الكافر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ ﴾ هو الرفيقُ في السفرِ؛ المنقطعُ إلى الرجلِ رجاءَ خَيْرِهِ، كذا قالَ ابنُ عبَّاس ومجاهدُ وابنُ جبير وعكرمةُ وقتادة، وقال بعضُهم: الصاحبُ بالْجَنْب هو الْمُلاَصِقُ دارَه بداركَ؛ فهو إلى جَنْبكَ، ويقالُ: هو جارُ الرجلِ في البيتِ الواحد. وقال عَلِيٌّ وعبدُالله وأبنُ أبي ليلى والنخعيُّ: (هِيَ الزَّوْجَةُ تَكُونُ مَعَهُ إلَى جَنْبهِ). وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" " لَيْسَ بمُؤْمِنِ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وأيَّمَا رَجُلٍ أغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارهِ مَخَافَةً عَلَى أهْلِهِ وَمَالِهِ فَلَيْسَ جَارُهُ ذلِكَ بمُؤْمِنٍ " قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا حَقُّ الْجَار؟ قَالَ: " إنْ دَعَاكَ أجَبْتَهُ؛ وَإنْ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ عُدْتَ عَلَيْهِ؛ وَإنِ اسْتَقْرَضَكَ أقْرَضْتَهُ؛ وَإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ؛ وَإنْ مَرِضَ عُدْتَهُ؛ وَإنْ أصَابَتْهُ مُصِيْبَةٌ عَزَّيْتَهُ؛ وَإنْ مَاتَ شَهِدْتَ جَنَازَتَهُ، وَلاَ تَسْتَعْلِي عَلَيْهِ بالْبُنْيَانِ لِتَحْجِبَ عَنْهُ الرِّيْحَ إلاَّ بإذْنِهِ، وَلاَ تُؤْذِهِ بقُتَّارِ قِدْركَ إلاَّ أنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ مِنْهَا؛ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأدْخِلْهَا سِرّاً وَلاَ يُخْرِجْ وَلَدُكَ مِنْهَا شَيْئاً فَيُغِيْظُ وَلَدَهُ بهِ "قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ آذى جَارَهُ فَقَدْ آذانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذى اللهَ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ قال مجاهدُ والربيع: (هُوَ الْمُسَافِرُ)، ومعناهُ: صاحبُ الطريق. وقال قتادةُ والضحَّاك: (هُوَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بكَ، سُمِّيَ ابْنَ السَّبيْلِ لأنَّهُ كَالْمُجْتَاز الَّذِي لاَ يُقِيْمُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أيَّامٍ وَمَا زَادَ صَدَقَةٌ). وقال الشافعيُّ: (هُوَ الَّذِي يُرِيْدُ السَّفَرَ وَلاَ نَفَقَةَ لَهُ). قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾؛ يعني الْمَمَالِيْكَ أحْسِنُوا إليهم ولا تكلِّفوهم إلاّ طاقتَهم، قال صلى الله عليه وسلم: [أطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأَكُلُونَ؛ واكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ؛ وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا لاَ يُطِيْقُونَ؛ فإنَّهُمْ لَحْمٌ وَدَمٌ وَخَلْقٌ أمْثَالُكُمْ].
وقال أنسُ: كَانَتْ وَصِيَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهِ: [الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ] جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُغَرْغِرُ بهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي صَدْرهِ وَمَا يَفِيْضُ بهَا لِسَانُهُ. قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾؛ أي لا يَرْضَى عملَ من يَخْتَالُ في مِشْيَتِهِ ويفتخرُ على الناس بكِبْرِهِ، وإنَّما ذكرَ الْمُختَالَ في آخرِ هذه الآية؛ لأن المختالَ يَأْنَفُ مِن ذوي القربَى قرابته إذا كانوا فقراءَ؛ ومن جيرانهِ إذا كانوا كذلكَ ولا يُحسِنُ عِشْرَتَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾؛ يجوزُ أن يكونَ أوَّل هذه الآيةِ في موضع نَصْبٍ بدلاً من قولهِ (مَنْ كَانَ) ويحتملُ أن يكون نصباً على الذمِّ، على معنىَ: أعْنِي الَّّذِيْنَ يَبْخَلُونَ، ويحتملُ أن يكون رفعاً على الاستئنافِ على إضمارِ (هُمْ) الذينَ يبخلون. قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ: (الْمُرَادُ بالآيَةِ الْيَهُودُ، بَخِلُوا بما كَانَ عَنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بأَمْرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَأمَرُواْ قَوْمَهُمْ بالْبُخْلِ وَهُوَ الْكِتْمَانُ)، ويقال: كانوا لا يعطونَ من أموالِهم شيئاً، ويأمرون الناسَ بذلك. وقال بعضُهم: الآية عامَّة في كل من يَبْخَلُ بما أوتِي من المالِ ويكتمُ ما أعطاه اللهُ من النعيمِ لا يُخْرِجُ زكاتَهُ، فعلى هذا يكون المرادُ بالكافرين في هذه الآية: كَافِرِي النِّعَمِ دون الكفار بالله. فأمَّا على التأويلِ الأوَّل فالمرادُ بالكافرين اليهودَ. والبُخْلُ: مَنْعُ الْوَاجِب. قرأ يحيى بن يعمر ومجاهدُ وحمزة والكسائي وخلف: (بالْبَخَلِ) بفتح الباء والخاء، وقرأ قتادةُ وأيوب بفتح الباءِ وسكون الخاء، وقرأ عيسى ابن يعمر: بضمِّ الباء والخاء، وقرأ الباقون بضم الباء وسكون الخاء، وكذلك في سورةِ الحديد، وكلُّها لغةٌ معروفة فيه إلاَّ أن اللغة العاليَةَ: ضمّ الباء وسكون الخاء، وبفتح الباء والخاء لغةُ الأنصار.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ في محَل نصبٍ عطفاً على ﴿ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ ﴾ وإن شئتَ جعلتَهُ عطفاً على قوله: ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ﴾ [النساء: ٣٧].
قال السُّدِّيُّ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْمُنَافِقِيْنَ الَّذِيْنَ يُرَاؤُن النَّاسَ فِي الإنْفَاقِ، وَلاَ يَتَصَدَّقُونَ فِي السِّرِّ). قِيْلَ: المرادُ به كفارُ مكَّةَ أنفقُوا على الناسِ وقتَ خروجهم إلى حرب بدر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ﴾؛ أن من يفعلْ ما يَدْعُوهُ إليه الشيطان وسوَّل له فَبِئْسَ قرينهُ الشيطان يُغْوِيَهِ في الدُّنيا ويكون قريناً معهُ في السلسلةِ في النار. و ﴿ قَرِيْناً ﴾ نُصِبَ على التمييز، وَقِيْلَ: على القطعِ؛ أي قطعِ الألف واللام.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي ماذا عليهم لو صَدَّقُوا الله واليوم الآخرِ وتصدَّقوا مما رَزَقَهُمُ الله من الأموالِ، وما فرضَ عليهم من الصدقةِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً ﴾؛ أي أنَّهم لا يؤمنون، وفي الآية بيانٌ أنَّهم إنَّما كفروا لِسُوءِ اختيارهمِ وقِلَّةِ تَأمُّلِهِمْ مع قدرتِهم على الإيْمان؛ لأنهُ لا يُحْسَنُ أن يُقالَ لمن لا يقدرُ على الشيءِ: ماذا عليك لو فعلتَ كذا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾؛ أي لا يُنْقِصُ من جزاءِ الأعمال زنَةَ نَمْلَةٍ حُمَيْرَاءَ صغيرةٍ. والْمِثْقَالُ مِفْعَالٌ من الثُّقْلِ؛ وهو ما يوزنُ به الشيء، من ذلك يسمَّى ما يوزنُ به الدينارُ مثقالاً؛ لأنه يعادلهُ في الثِّقَلِ. وقرأ عبدُالله: (إنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ نَمْلَةٍ) والمعنى: إنَّ اللهَ لا يُنقِصُ أحَداً مِن خَلْقِهِ مِن ثوابِ عمله وَزْنَ ذرَّةٍ، بل يجازيهِ عليها ويُثِيْبُهُ بها. وقال بعضُهم: الذرُّ الهباءُ في الكوَّة، فكلُّ جزءٍ منها ذرَّةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا ﴾؛ قرأ العامَّة (حَسَنَةً) بالنصب على معنى: وإن تَكُ الْفِعْلَةُ حسنةً: وقرأ أهلُ الحجاز: بالرفع على معنى: إن تَقَعْ حَسَنَةٌ، أو يُؤْخَذْ حَسَنَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُضَٰعِفْهَا ﴾ قرأ الحسنُ بالنون، والباقون بالياء، وهو الصحيحُ لقوله: (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ)؛ وقرأ أبو رجاءٍ وابنُ كثير وابن عامر: (يُضَعِّفْهَا) بتشديد العين وهما لُغتان. وقال أبو عبيد: (يُضَاعِفْهَا؛ أي يَجْعَلْْهَا أضْعَافاً كَثِيْرَةً، وَيُضَعِّفْهَا بالتَّشْدِيْدِ يَجْعَلْهَا ضِعْفَيْنِ). وقال الضحَّاك: (أرَادَ بالْحَسَنَةِ: التَّوْبَةَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلاَّ حَسَنَةً وَاحِدَةً مَقْبُولَةً غَفَرَ اللهُ لَهُ). وَقِيْلَ: معناهُ: إن أزادَ على سيِّئاته مثقالَ ذرَّة من الحسنةِ يضاعفْهُ اللهُ حتى يجعلَهُ مثل أحُدٍ، ويوجبُ له الجنَّةَ، ويعطيهُ من عنده الزيادةَ على ما يستحقُّه من جزاءِ عمله، فذلك الأجر العظيم لا يعلم مقدارَهُ إلاَّ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ وهو الجنةُ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾؛ معناه: كيفَ يَصْنَعُ الْكُفَّارُ؟ وكيف يكون حالُهم يومَ القيامة؟ إذا جِئْنَا من كل جماعةٍ بنَبيِّهَا شهيداً عليهم ولَهُم.
﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾؛ يَا مُحَمَّدُ ﴿ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾؛ الذين أُرْسِلْتَ إليهم؛ ﴿ شَهِيداً ﴾؛ أَتَشْهَدُ لِمن صَدَّقَ بالتصديقِ، وعلى كل من كَذبَ بالتكذيب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً ﴾؛ معناه: يومَ وقوعِ الشهادة تَمَنَّى الذين كفرُوا باللهِ، وعَصَوا الرسولَ أن الأرض تُسَوَّى بهم: يَمْشِي عليهَا أهلُ الجمعِ وَيوَدُّونَ أنَّهم لم يَكْتُمُوا اللهَ حَدِيثًا؛ وذلك حينَ مَيَّزَ اللهُ أصحابَ اليمينِ من أصحاب الشِّمالِ، ويقولُ للوحوشِ والطيور والبهائمِ: كونِي تُرَاباً؛ أي ويرَى الكفَّارُ ذلك ويَرَوْنَ ما أكرمَ اللهُ به المسلمينَ، فيقولُ بعض الكفَّار لبعضٍ: هَلُمُّوا نقولُ إذا سُئِلْنَا: وَاللهِ رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فيقولونَ ذلك، فَيخْتِمُ اللهُ على ألسِنَتِهم، ويأذنُ لجوارحهم في الكلامِ، فتشهدُ عليهم عندَ ذلك؛ فيقولون: يا لَيْتَنَا كُنَّا تُراباً، ويتمنَّون أنَّهم لم يَكْتُمُوا اللهَ حديثاً؛ لأنَّهم كانوا كَذبُوا في قولِهم: مَا كُنَّا مُشْرِكِيْنَ. وقالَ بعضُهم: معنى: ﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً ﴾ كلامٌ مستأنَفٌ غيرُ داخل في التَّمَنِّي؛ ومعناهُ: لاَ يَقْدِرُونَ على كِتْمَانِ شيءٍ مما عَمِلُوهُ؛ لظهور ذلكَ عندَ اللهِ؛ أي لا يُفِيْدُ كِتْمَانُهُمْ. وقال الكلبيُّ: (يَقُولُ اللهُ لِلْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ وَالطَّيْرِ: كُونِي تُرَاباً؛ فَتُسَوَّى بهِمُ الأَرْضُ؛ فَعِنْدَ ذلِكَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أنْ يَكُونَ كَذلِكَ). وقال عطاءُ: (مَعْنَاهُ: يَوَدُّ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ لَوْ تُسَوَّى بهِمُ الأَرْضُ، ولَمْ يَكْتُمُواْ أمْرَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلاَ نَعْتَهُ). قرأ أهلُ المدينةِ والشامِ (تَسَّوَّى) بفتحِ التاء والتشديد على معنَى وَتَتَسَوَّى؛ فأدغمتِ التاءُ الثانية في السين. وقرأ أهلُ الكوفةِ إلاّ عاصماً بفتحِ التاء والتخفيف على حذفِ أحدِ التاءَين مثلُ قولهِ:﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ ﴾[هود: ١٠٥] وقرأ الباقونَ بضمِّ التاء والتخفيف على الْمَجْهُولِ؛ أي لو سُوِّيَتْ بهم الأرضُ وصَارُوا هم والأرضُ شيئاً واحداً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَانُواْ يشْرَبُونَ الْخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ، ثُمَّ يَأَتُونَ الصَّلاَةَ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلُّّونَ مَعَهُ؛ فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ). وتأويلُ الآية على هذا: لاَ تَقرَبُوا مواضِعَ الصلاةِ وهو المسجدُ وَأنْتُمْ سُكَارَى، حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وما يقرأ إمَامُكم في الصلاةِ. وسُكَارَى: جمعُ سَكْرَانٍ، وهذا خطابٌ لمن لم يَبْلُغْ به السُّكْرُ إلى حدٍّ لا يفهمُ الكلامَ كلَّهُ، لأنَّ الذي لا يفهمُ شيئاً لا يصحُّ أن يخاطَبَ، فكانوا بعد نزولِ هذه الآية يَجْتَنِبُونَ السُّكر أوقاتَ الصلاةِ حتى نزلَ تحريمُ الخمرِ في سورة المائدةِ. وقال مقاتلُ: (نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَانُواْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي دَار عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ؛ فَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْمَغْرِب؛ فَقَدَّمُوا رَجُلاً فَقَرأ﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ ﴾[الكافرون: ١] وَقَالَ: أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ؛ وَحَذفَ (لاَ) فِي جَمِيْعِ السُّورَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). فمعناها على هذا: لاَ تَقْرَبُوا نَفْسَ الصلاةِ، وأنتمُ سُكَارى حتَّى تعلموا ما تَقْرَأونَ. وعن عمرَ رضي الله عنه أنهُ قال بَعْدَ نزولِ هذه لآية: (اللَّهُمَّ إنَّ الْخَمْرَ يَضُرُّ بالْعُقُولِ وَالأَمْوَالِ؛ فَأنْزِلَ فِيْهَا أمْرَكَ) فَصَبَّحَهُمُ الْوَحْيُ بآيَةِ الْمَائِدَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ جُنُباً ﴾ أي لا تَقْرَبُوا مواضعَ الصلاةِ وأنتم جُنُباً.
﴿ إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ ﴾؛ إلاّ أن تكونُوا مُجْتَازيْنَ، وإذا لم يكن الماءُ إلاَّ في المسجدِ، تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ودخلَ المسجدَ وأخذ الماء ثم خرجَ واغتسلَ. وقال الشافعيُّ: (يَجُوزُ لِلْجُنُب الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ بغَيْرِ تَيَمُّمٍ، وَلاَ تَجُوزُ لَهُ الإقَامَةُ فِيهِ). وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: لا تُصَلُّوا وأنتم جُنُبٌ إلا أن تكونوا مسافرينَ لا تجدون الماءَ فتيمَّمون وتصلُّون، هكذا رويَ عن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ومجاهدُ والحاكم. وانتصبَ قوله ﴿ جُنُباً ﴾ على الحالِ؛ أي لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم جُنُبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾؛ أي إذا كنتم مَرْضَى فَخِفْتُمْ الضررَ باستعمالِ الماء أو كنتم مسافرينَ.
﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ ﴾؛ معناهُ: وجاءَ أحدُكم من الغائطِ: هو المكانُ المطمئِنُّ من الأرضِ؛ يقال: تَغَوَّطَ الرجلُ إذا دَخَلَ المكانَ المطمئنَّ لقضاءِ الحاجةِ، ويجعلُ هذا اللفظ كنايةً عن ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾؛ قال عَلِيٌّ وابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (مَعْنَاهُ: أوْ جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ) وبه قال الحسنُ ومجاهد وقتادةُ. وقال ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ والنخعيُّ والشعبيُّ: (أرَادَ بهِ اللَّمْسَ بالْيَدِ، وَكَانُوا لاَ يُبيْحُونَ لِلْجُنُب التَّيَمُّمَ). واختلفَ العلماء في هذا، فقال الشافعيُّ: (إذا مَسَّ الرَّجُلُ بَدَنَ الْمَرأَةِ نُقِضَ وَضُوءُهُ سَوَاءٌ كَانَ بالْيَدِ أمْ بغَيْرِهَا مِنَ الأعْضَاءِ). وقال الأوزاعيُّ: (إنْ مَسَّهَا بالْيَدِ نُقِضَ؛ وَإنْ كَانَ بغَيْرِ الْيَدِ لَمْ تُنْقَضْ). وقال مالكُ وابنُ حَنْبَلٍ والليثُ بنُ سعد: (إنْ كَانَ اللَّمْسُ بشَهْوَةٍ نُقِضَ وَإلاَّ فَلاَ). وقال أبو حَنِيْفَةَ وأبو يوسُف: (إنْ كَانَ مُلاَمَسَةً فَاحِشَةً يُحْدِثُ الانْتِشَارَ فِي التَّجَرُّدِ نَقَضَ؛ وإلاَّ فَلاَ). وقال محمدٌ: (لاَ تَنْقُضُ الْمُلاَمَسَةُ بحَالٍ)، وبه قالَ ابنُ عبَّاس والحسنُ البصريُّ. دليلُ الشافعيُّ ما رويَ" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُلاَمَسَةِ "واللّمْسُ أكثرُ ما استعملَ في لَمْسِ اليدِ. وحُجَّةُ مَن لم يوجب الوُضوءَ بالملامسةِ ما رويَ عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: [كَنْتُ أنَامُ بَيْنَ يَدَي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَرجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإذا سَجَدَ وَغَمَزَنِي فَضَمَمْتُ رجْلاَيَ فَإذا قَامَ بَسَطْتُهُمَا]، والبيوتُ يؤمئذٍ ليس فيها مصابيحُ. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أيضاً قَالَتْ: افْتَقَدْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ لَيْلَةٍ؛ فَجَعَلْتُ أطْلُبُهُ بيَدَيَّ؛ فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ:" " أعُوذُ برِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ؛ وَبمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ؛ وَأعُوذُ بكَ مِنْكَ، لاَ أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لِي: " أتَاكِ شَيْطَانُكِ؟ ". قالُوا: فَلَمَسَتْهُ عائشةُ وهو في الصلاةِ فَمَضَى فيها. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقََبلُ بَعْضَ أزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ "ومذهبُ الشافعيِّ في الملامسةِ على ثلاثةِ أوجُهٍ: اللَّمسُ ينقضُ الوضوءَ قولاً واحداً؛ وهو لَمْسُ الشابَّةِ الأجنبيَّة بأيِّ جُزْءٍ من أجزائهِ؛ سَاهياً كان أم متعمِّداً؛ حيَّةً كانت أم مَيِّتَةً. ولَمَسٌ لا ينقضُ قولاً واحداً؛ وهو مَسُّ الشَّعرِ والظُّفرِ والسِّنِّ. ولَمْسٌ فيه قولانِ: وهو لَمْسُ الصغيرةِ والعجوز الكبيرَةِ وذواتِ مَحَارِمِهِ؛ أحدُهما: ينقضُ الوضوءَ؛ لأنَّهن من جُملة النساءِ، والثانِي: أنهُ لا ينقضُ؛ لأنه لا مُدْخَلَ للشهوةِ فيهنَّ، دليلهُ:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ لأُمَامَةَ بنْتِ زَيْنَبَ وَأبُوهَا أبُو الْعَاصِ "ولو كان اللَّمْسُ من خلفِ حائلٍ لا ينقضُ؛ سواءٌ كان الحائلُ صَفِيْقاً أم رَقِيْقاً. وفي الْمَلْمُوسِ للشافعيِّ قولانِ؛ أحدُهما: ينقضُ؛ لاشتراكهما في الإلْتِذاذِ بهِ، والثانِي: لا ينقضُ؛ لخبرِ عائشةَ (فَوَقَعَتْ يَدَيَّ عَلَى أخْمَصِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ ﴾؛ أي إذا لم تَقدِرُوا على استعمالِ الماء وقد يذكرُ الموجودَ، ويراد به القدرةُ على استعمال الماءِ، فإنْ كان بينَهُ وبين الماءِ سَبُعٌ أو عَدُوٌّ لم يكن وَاجِداً للماء في الْحُكْمِ. ومعناهُ: فَتَيَمَّمُوا.
﴿ صَعِيداً طَيِّباً ﴾؛ أي فاقصدُوا تُراباً طاهراً، ويقالُ: إن الصعيدَ ما يتصاعَدُ على وجهِ الأرض تُراباً كان أم صخرةً ولا ترابَ عليها؛ لأن اللهَ تعالى قال:﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ﴾[الكهف: ٤٠] وإذا كان على الصخرةِ ترابٌ لا يكون زَلَقاً، وَلِهذا جَوَّزَ أبو حَنِيْفَةَ ومحمدٌ التَّيَمُّمَ بكلِّ ما كان مِن جنسِ الأرض. وقال مالكٌ: (يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بالأَرْضِ وَبكُلِّ مَا اتَّصَلَ بهَا؛ حَتَّى لَوْ ضرَبَ بيَدِهِ عَلَى شَجَرَةٍ ثُمَّ تَيَمَّمَ بها أجْزَاَهُ). وقال الشافعيُّ: (لاَ يَجُوزُ إلاَّ بالتُّرَاب الَّذِي يَعلَقُ بالْيَدِ). والتَّيَمُّمُ مِن خصائصِ هذه الأُمَّةِ. وسببُ نزولِ هذه الآية ما رُويَ عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مَعِي عِقْدٌ اسْتَعَرْتُهُ مِنْ أسْمَاءَ؛ فَانْقَطَعَ؛ حَتَّى إذا كُنَّا بالْبَيْدَاءِ افْتَقَدْتُهُ؛ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنَاخَ وأَنَاخَ النَّاسُ مَعَهُ؛ فأَمَرَنَا بالْتِمَاسِهِ فَلَمْ يُوْجَدْ؛ فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَاءٌ. فَجَاءَ النَّاسُ إلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالُواْ: ألاَ تَرَى إلَى عَائِشَةَ حَبَسَتِ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَجَاءَ أبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأَسَهُ عَلَى فَخْذِي قَدْ نَامَ؛ فَعَاتَبَنِي وَقَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ قِلاَدَةٍ حَبَسَتِ الْمُسْلِمِيْنَ عَلَى غَيْرِِ مَاءٍ وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، ثُمَّ طَعَنَ بيَدِهِ عَلَى خَاصِرَتِي فَمَا مَنَعَنِي مِنَ التَّخَوُّفِ إلاَّ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَاضِعاً رَأسَهُ عَلَى فَخِذِي، فَأَصْبَحْنَا عَلَى غَيْرِِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ وَجَدْنَا الْقِلاَدَةَ تَحْتَ الْبَعِيْرِ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ: مَا هَذا بأوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبي بَكْرٍ، جَزَاكِ اللهُ خَيْراً؛ فَوَاللهِ مَا نَزَلَ بكِ أمْرٌ تَكْرَهِيْنَهُ إلاَّ جَعَلَ اللهُ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِيْنَ فِيْهِ خَيْراً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾؛ معناهُ بعدَ ضرب الأيدي على الصَّعيدِ الطيِّب، قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾؛ أي مُتَفَضِّلاً عليكُم بتسهيلِ الأوامر وتخفيفاً؛ لأنَّهُ نَقَلَكُمْ من الوضوءِ إلى التَّيَمُّمِ، غَفُوراً متجاوزاً عنكُم، يغفرُ لكم بهذه الطاعَاتِ السَّهلةِ ذنوبكم. وروى جابرٌ قال:" خَرَجْنَا فِي سَفَرِنَا فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا شَجَّةً فِي رَأسِهِ ثُمّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أصْحَابَهُ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخصَةً؟ قَالُواْ: لاَ؛ أنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخْبَرْنَاهُ بذلِكَ، فَقَالَ: " قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، هَلاَّ سَأَلُواْ إذا لَمْ يَعلَمُواْ؛ إنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ، إنّمَا كَانَ يَكْفِيْهِ أنْ يَتَيَمَّمَ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (هُمُ الْيَهُودُ؛ كَانُواْ يَسْتَبْدِلُونَ الضَّلاَلَةَ بأَخْذِ الرِّشَا بكِتْمَانِ صِفَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، يَأْخُذُونَ الرَّشْوَةَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بَعْدَمَا أُوتُوا الْعِلْمَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ﴾؛ أي يريدون أن تَضِلُّوا أنتُمْ طريقَ الْهُدَى كما ضَلُّوا هُمْ بأنفسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ﴾؛ أي هو أعلمُ بهم، يعلمُهم ما هم عليه.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً ﴾؛ أي أنَّ عداوةَ اليهودِ لا تَضُرُّ المسلمين إذ ضَمِنَ لَهم النصرَ والولايةَ؛ أي اكتفُوا بولايةِ الله ونصرتِه. وقرأ الحسنُ: (أنْ تَضَلُّوا السَّبيْلَ) بفتحِ الضَّاد؛ أي عن السَّبيلِ، وَقِيْلَ: معناهُ: (وَاللهُ أعْلَمُ بأَعْدَائِكُمْ) أي أعلمُ بهم منكم فلا تَسْتَنْصِحُوهُمْ، ويجوزُ أن يكون أعْلَمُ بمعنى عَلِمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾؛ إن شِئْتَ جعلتَهُ متَّصلاً بقولهِ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾[آل عمران: ٢٣] ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾، وإن شئتَ جعلتَها منقطعةً مستأنفة. قال ابنُ عبَّاس: (كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الأَمْرِ فَيُخْبرُهُمْ، وَيُرَى أنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بهِ فَإذا انْصَرَفُوا حَرَّفُواْ كَلاَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ لَهُ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ: وَعَصَيْنَا أمْرَكَ). وقال بعضُهم ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ راجعٌ إلى قولِهِ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ﴾[النساء: ٤٥] على جهةِ التبيين للأعداءِ كما يقالُ: هذا الثوبُ من القُطْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا ﴾؛ معناهُ: أنَّهم كانوا إذا كَلَّمُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ قالوا: اسْمَعْ؛ وقالوا في أنفُسِهم: لا أسْمعْتَ ولا سَمعتَ. وقيل: معناهُ: غَيْرُ مُجَابٍ لَهُ بشيءٍ مما يدعُو إليهِ، وكانوا يقولون: رَاعِنَا؛ يوهِمُونَ أنَّهم يريدون بهذا القولِ: انْظُرْنَا حتَّى نُكَلِّمْكَ بما نريدُ، وكانوا يريدونَ بذلك السَّبَّ بالرُّعُونَةِ بلُغَتِهم. ويقالُ: كانوا يقولونَ هذه الكلمةَ على وجهِ التَّجَبُّرِ والتَّكَبُّرِ، كما يقولُ المتكبرُ لغيرهِ: افْهَمْ كَلاَمِي وَاسْمَعْ قَوْلِي، وكانوا يقولونَ: أرْعِنَا سَمْعَكَ وَتَأَمَّلْ كلامَنا ومثل هذا مِمَّا لا يخاطَبُ به الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، إنَّما يخاطبون بالإجْلاَلِ والإعْظَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ ﴾؛ أي كانوا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بالسَّب والتَّعييرِ والطَّعْنِ في الدِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا ﴾؛ معناهُ: لو قالوا سَمِعْنَا قولَكَ وأطَعْنَا أمرَكَ مكان قولِهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وقالُوا: وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا نَسْمَعْ قَوْلَكَ وَنَفْهَمْ كلامَك مكان قولِهم: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.
﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ﴾؛ وأصوبُ.
﴿ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾؛ أي خذلَهم وأبعدَهم من رحمتهِ مجازاةً بكفرِهم. ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ فلا يؤمنون إيْماناً إلاَّ قليلاً، وقِيْلَ: معناهُ: لا يؤمنونَ إلاَّ قليلاً منهُم وهم: عبدُالله بْنُ سلاَمٍ ومن تابَعَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾؛ أي يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ أعْطُواْ عِلْمَ التَّوْراةِ، صدَّقوا بهذا القُرْآن الذي نَزَّلْنَا على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُوافِقاً لِمَا معكُم من التوراةِ.
﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ﴾؛ أي مِن قَبْلِ أن نَمْحُوَ آثاراً لوجوهٍ منها: فَنَخْسِفُ بالعينِ والأنفِ وغيرَ ذلك من آثار الوجُوهِ فنحوِّلُها إلى الأَقْفِيَةِ فتمشونَ الْقَهْقَرَى. روي: أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَدِمَ عَبْدُاللهِ بنُ سَلاَمٍ مِنَ الشَّامِ؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَأتِيَ أهْلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا كُنْتُ أرَى أنْ أصِلَ إلَيْكَ حَتَّى تُحَوِّلَ وَجْهِي فِي قِفَاءِ. ويقال معنى: ﴿ فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ ﴾؛ نجعلُ وجوهَهم على هَيْأَةٍ أقْفَائِهِمْ، ومعنى: ﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ ﴾؛ أو نجعلهم قِرَدَةً كما مَسَخْنَا أصحابَ السبتِ.
﴿ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً ﴾؛ قضاؤُه كائِناً لا شكَّ فيهِ، فإن قيلَ: كَيْفَ قالَ اللهُ تعالى آمِنُوا ﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ﴾ وَأَوْعَدَهُمْ بطمسِ الوُجوهِ إن لَم يؤمِنُوا، ثُمَّ لم يؤمِنوا، ولم يقع الطَّمْسُ؟ قيلَ: يحتملُ أن يكون هذا وَعِيْداً لَهم على تركِ جَمِيعهم الإسلامَ، وقد آمَنَ منهم جماعةٌ بعدَ هذه الآية كعبدِالله بنِ سلام وعبدِالله بن ثعلبةَ وأسَيْدَ بن ثعلبة وأسَيْدَ بن عبيدٍ وغيرهم، ويحتملُ أن يكون المرادُ بالآية: الطَّمْسُ في الآخرةِ، وسيفعلُ اللهُ ذلك بهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾؛ قال الكلبيُّ:" نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِيْنَ؛ فِي شَأْنِ وَحْشِيٍّ وَابْنِ حَرْبٍ وَأصْحَابهِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِوَحْشِيٍّ إنْ قَتَلَ حَمْزَةَ أنْ يُعْتِقَهُ مَوْلاَهُ، فَلَمْ يُوَفِّ لَهُ بذلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ نَدِمَ هُوَ وَأصْحَابُهُ عَلَى مَا فَعَلُواْ مِنْ قَتْلِ حَمْزَةَ؛ فَكَتَبُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا صَنَعْنَا، وَأنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُنَا عَنِ الإسْلاَمِ إلاَّ أنَّا سَمِعْنَاكَ تَقُولُ إذْ كُنْتَ عِنْدَنَا بمَكَّةَ ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ﴾ وَقَدْ دَعَوْنَا مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ وَقَتَلْنَا النَّفْسَ وَزَنَيْنَا، وَلَوْلاَ هَذِهِ الآيَةُ لاتَّبَعْنَاكَ، فَنَزَلَ ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ الآيةُ، فَبَعَثَ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى وَحْشِيٍّ وَأصْحَابهِ، فَلَمَّا قَرَأوهَا كَتَبُوا إلَيْهِ: إنَّ هَذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ أنْ لاَ نَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحاً فَلاَ نَكُونَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ فَبَعَثَ بهَا إلَيْهِمْ فَقَالُواْ: نَخَافُ أنْ لاَ نَكُونَ مِنْ أهْلِ الْمَشِيْئَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾ فَبَعَثَ بهَا إلَيْهِمْ فَوَجَدُوهَا أوْسَعَ مِمَّا كَانَ قَبْلَهَا، فَدَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الإسْلاَمِ وَرَجَعُواْ إلَى رَسُولِِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبلَ مِنْهُمْ ثُمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم لِوَحْشِي: " أخْبرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟ " فَلَمَّا أخْبَرَهُ، قَالَ لَهُ: " وَيْحَكَ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي " فَلَحِقَ وَحْشِيُّ بالشَّامِ فَكَانَ فِيْهَا إلَى أنْ مَاتَ. قَالُواْ: مَاتَ وَفِي بَطْنِهِ الْخَمْرُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً ﴾؛ أي ومَن يُشْرِكْ باللهِ سِوَاهُ فقدِ اختلَقَ على اللهِ ذنباً عظيماً غيرَ مغفورٍ له.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي بَحْرَى بْنِ عَمْرٍو وَمَرْحَبَ بْنِ زَيْدٍ؛ أتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ بأطْفَالِهِمْ؛ فَقَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ؛ هَلْ عَلَى أوْلاَدِنَا هَؤُلاَءِ مِنْ ذنْبٍ؟ قَالَ: " لاَ " فَقَالُوا: وَالَّذِي نَحْلِفُ بهِ؛ مَا نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئَتِهِمْ مَا مِنْ ذنْبٍ نَعْمَلُهُ بالنَّهَارِ إلاَّ كُفِّرَ عَنَّا باللَّيْلِ، وَمَا مِنْ ذنْبٍ نعمله باللَّيْلِ إلاَّ كُفِّرَ عَنَّا بالنَّهَار. فَهَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُمْ، بَرَّؤُهَا مِنَ الذُّنُوب، وَزَعَمُواْ أنَّهُمْ أزْكِيَاءُ "يقولُ الله تعالى: ﴿ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾ أي يُطَهِّرُ من الذنوب مَن يشاءُ مَن كان أهْلاً لذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾؛ أي لا يُنْقَصُونَ من جزاءِ ما يستحقُّونه قدرَ الْفَتِيْلِ وهو مَا تفتلُهُ بينَ إصبعَيْكَ من الوَسَخِ إذا مَسَحْتَ إحداهُما بالأخرى، وَقِيْلَ: الْفَتِيْلُ: ما في بَطْنِ النَّوَاةِ في شقِّها من لِحَائِهَا.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ﴾؛ أي انْظُرْ يا مُحَمَّدُ كيفَ يَخْتَلِقُ اليهودُ الكذبَ على اللهِ.
﴿ وَكَفَىٰ بِهِ ﴾؛ بما يفعلونه.
﴿ إِثْماً مُّبِيناً ﴾، ذنباً بَيِّناً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ ﴾؛ قرأ السلمي: (ألَمْ تَرْ) ساكنةَ الراء في كلِّ القرآن كما قالَ الشاعرُ: مَن يَهْدِهِ اللهُ يَهْتَدِ لاَ مُضِلَّ لَهُ   وَمَنْ أضَلَّ فَمَا يَهْدِيهِ مِنْ هَادِيقال ابنُ عبَّاس: (رَكِبَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ فِي تِسْعِيْنَ رَاكِباً مِنَ الْيَهُودِ؛ فِيْهِمْ حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ وَجَدْيُ بْنُ أخْطَبَ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وغَيْرُهُمْ إلَى أهْلِ مَكَّةَ لِيُحَالِفُوهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَنْقُضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَبْلَ أجَلِهِ، فَقَالَ أبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ أهْلِ الْكِتَاب؛ أنْشِدُكُمْ باللهِ أيُّهُمْ أقْرَبُ لِلْهُدَى؛ نَحْنُ أمْ مُحَمَّدٌ وَأصحَابُهُ، فَإنَّا نُعَمِّرُ مَسْجِدَ اللهِ، ونَسْقِي الْحَجِيْجَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ أرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ شِرَارُ الْحَجِيْجِ بَنُو غِفَارٍ، فَنْحْنُ أهْدَى أمْ هُمْ؟ فَقًالَتِ الْيَهُودُ: أنْتُمْ أهْدَى مِنْهُمْ. فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناه: ألم يَنْتَهِ علمُكَ يا مُحَمَّدُ إلى ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي علماً بالتَّوراةِ وما فيها من نَعْتِ مُحَمَّدٍ وصفتِه يصدِّقون بالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. قال ابنُ عبَّاس: (الْجِبْتُ: حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ، وَالطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ). وقيل الجِبْتُ: الكَهَنَةُ، والطَّاغُوتُ: الشَّيَاطِيْنُ. وَقِيْلَ: الْجِبْتُ والطاغُوتُ: صَنَمَانِ كان المشركونَ يعبدونَهما من دون اللهِ. وقيل الْجِبْتُ: الصنمُ، والطَّاغُوتُ: مترجمة الصنمِ على لسانه. وقال أهلُ اللغة: كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ تَعَالَى مِنْ حَجَرٍ أو مَدَرٍ أو صُورَةٍ فهو جِبْتٌ وَطَاغُوتٌ، دليلهُ قال تعالى:﴿ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ ﴾[النحل: ٣٦]؛ وقولهُ تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ﴾[الزمر: ١٧].
وقال مجاهدُ: (الْجِبْتُ: السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ). يدلُ عليه قولهُ:﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ ﴾[البقرة: ٢٥٧]﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَٰنِ ﴾[النساء: ٧٦].
وقال بعضُ المفسِّرين: لَمَّا خَرَجَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ هُوَ وَمنْ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ أحُدٍ لِيُحَالِفُوا قُرَيْشاً عَلَى عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ نَزَلَ كَعْبُ عَلَى أبي سُفْيَانَ فَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ، وَنَزَلَ الْيَهُودُ فِي دُور قُرَيْشٍ، فَقَالَ أهْلُ مَكَّةَ: إنَّكُمْ أهْلُ كِتَابٍ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُ كِتَابٍ، وَلاَ نَأْمَنُ أنْ يَكُونَ هَذا مَكْرٌ مِنْكُمْ، فَإنْ أرَدْتَ يَا كَعْبُ أنْ نَخْرُجَ مَعَكَ فَاسْجُدْ لِهَذَيْنِ الصَّنَمَيْنِ وآمِنْ بهِمَا؛ فَفَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ ﴾.
قَالَ كَعْبُ لأَهْلِ مَكَّةَ: يَجِيْءُ مِنْكُمْ ثَلاَثُونَ؛ وَمِنَّا ثَلاَثُونَ؛ فَنَلْزِقُ أكْبَادَنَا بالْكَعْبَةِ فَنُعَاهِدُ رَبَّ الْبَيْتِ لَنُجْهِدَنَّ عَلَى قِتَالِ مُحَمَّدٍ، فَفَعَلُواْ ذلِكَ، ثُمَّ قَالَ أبُو سُفْيَانَ: يَا كَعْبُ؛ إنَّكَ امْرُؤٌ تَقَرَأ الْكِتَابَ وَنَحْنُ أمِّيُّونَ لاً نَعْلَمُ، فَمَنْ أهْدَى سَبيلاً، وَأقْرَبُ إلَى الْحَقِّ نَحْنُ أمْ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ كَعْبٌ: وَاللهِ أنْتُمْ أهْدَى سَبيْلاً مِنَ الََّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾.
يَعْنِي كَعْباً وأصحابَهُ يؤمنونَ بالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يعني الصَّنمين.
﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي لأبي سُفيانَ وأصحابَه: ﴿ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ ﴾؛ أي أبْعَدَهُمْ من رحمتهِ، ومن يُبْعِدْهُ اللهُ من رحمتهِ.
﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ﴾.
قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً ﴾؛ أي ألَهم نصيبٌ، والميمُ زائدةٌ، وهذا على وجه الإنكارِ؛ أي ليس لَهم من الْمُلْكِ شيءٌ.
﴿ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً ﴾ يعني مُحَمَّداً وأصحابَه لا يعطونَهم شيءٌ من حَسَدِهِمْ وبُخْلِهِمْ وَبُغْضِهِمْ، ورُفعَ قوله: ﴿ يُؤْتُونَ ﴾ لاعتراضِ (لا) بينهُ وبين (إذاً). وفي قراءةِ عبدِاللهِ: (فَإذاً لاَ يُؤْتُوا) بالنصب، ولم يعمل بـ (لا). وقال بعضُهم: معناهُ: أنَّ اليهودَ لو كان لَهم نصيبٌ مِن الْمُلْكِ ما أعطوا الناسَ مقدارَ النَّقِيْرِ؛ وهو النقطةُ التي تكون في ظَهْرِ النَّواةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾؛ أي بَلْ يحسدون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم على ما أعطاهُ الله تعالى من النبوَّة. وَقِيْلَ: على ما أحَلَّ اللهُ له من النساءِ، وقالوا: لو كان نَبيّاً لشغلتْهُ النبوَّةُ عن النساءِ. وقال قتادةُ: (أرَادَ بالنَّاسِ الْعَرَبَ، حَسَدُوهُمْ عَلَى النُّبُوَّةِ أكْرَمَهُمْ اللهُ بهَا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)، وقال عَلِيٌّ رضي الله عنه: (أرَادَ بالنَّاسِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾؛ أي لَمَّا قالتِ اليهودُ: لو كان مُحَمَّدٌ نَبيّاً ما رَغِبَ في كثرةِ النِّساءِ؛ حسدوهُ على كَثْرَةِ نسائهِ وعابُوهُ بذلك فأكذبَهم اللهُ بقوله ﴿ قَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾ أرادَ بالحكمةِ النبوَّة.
﴿ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" هُوَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُمَائَةِ مَهْرِيَّةٍ - أيْ مَمْهُورَةٍ - وَثَلاَثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ ولداؤد مِائَةُ امْرَأةٍ، فَأَقَرَّتِ الْيَهُودُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: " ألْفُ امْرَأةٍ عِنْدَ رَجُلٍ وَمِائَةُ امْرَأةٍ عِنْدَ رَجُلٍ أكْثَرُ أمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ " فَسَكَتُواْ ".
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ ﴾؛ معناهُ: مِنَ اليهودِ مَن آمَنَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: عبدُاللهِ بنُ سَلاَمٍ وأصحابُه؛ ومنهم من أعرضَ عن الإيْمانِ به. وَقِيْلَ: معناهُ: مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بهذا الْخَبَرِ عن داودَ وسليمانَ، ومنهم من كَذبَ به.
﴿ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ﴾؛ أي وَقُوداً لِمَنْ كفرَ بهِ؛ أي إنْ صَرَفَ اللهِ عن اليهودِ بعضَ العذاب في الدُّنيا مثل الطَّمْسِ وغيرِه، فقد أبدَلَهم عذابَ جهنَّمَ في الآخرةِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً ﴾؛ أي إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ سَوفَ نُدْخِلُهُمْ نَاراً. وقرأ حُميد بن قيسٍ: (نَصْلِيهِمْ) بفتحِ النون؛ أي نَشْوِيْهِمْ مِن قولِهم: شاةٌ مَصْلِيَّةٌ؛ أي مَشْوِيَّةٌ، ونُصبتِ النارُ بنَزعِ الخافض على هذه القراءةِ؛ تقديرهُ: بنَارٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾؛ أي كُلَّمَا أحْرِقَتْ جلودُهم جَدَّدْنَا لَهم جلوداً غيرَها بيضاءَ كالقراطيسِ، وذلك أنَّهم كلَّما احْتََرَقُوا حَسَّت عليهم النارُ ساعةً ثم تَزَايَدَتْ سعيراً وَبَدَأوا خَلْقاً جديداً فيهم الرُّوحُ ثم عادَتْ النَّارُ تُحْرِقُهُمْ؛ فهذا دَأبُهُمْ أبداً. قال الحسنُ: (تَنْضَجُ جُلُودُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ ألْفَ مَرَّةٍ، كُلَّمَا أكَلَتْهُمُ النَّارُ وَأنْضَجَتْهُمْ؛ قِيْلَ لَهُمْ: عُودُوا؛ فَيَعُودُونَ كَمَا كَانُوا). وعن مجاهدٍ قَالَ: (مَا بَيْنَ جِلْدِهِ وَلَحْمِهِ دُودٌ لَهَا حَلْبَةٌ كَحَلْبَةِ حُمُرِ الوَحْشِ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" غِلَظُ جِلْدِ الْكَافِرِ اثْنَانِ وَأرْبَعُونَ ذِرَاعاً، وَضِرْسُهُ مِثْلُ أحُدٍ "قيل: كيفَ جاز أن يعذِّبَ اللهُ جِلْداً لَم يَعْصِهِ؟ قيل: إنَّ العاصِي والمتألِّمُ واحدٌ وهو الإنسانُ لا الجلدُ؛ لأن الجلودَ إنَّما تَأْلَمُ بالأرواحِ، والدليلُ على أنَّ القصدَ تعذيبُ الإنسانِ لا تعذيبُ الجلودِ قولهُ تعالى: ﴿ لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ﴾؛ ولَم يقل ليذوقَ العذابَ، وَقِيْلَ: معناهُ: تبدل جلودٌ هي تلك الجلودُ المتحرقة، وذلك أنَّ (غيرَ) على ضربين: بتضَادٍّ و (غير) بلا تضادٍّ، فالتضادُّ مثلُ قولِكَ: الليلُ غيرُ النَّهار، والذكرُ غير الأنثى، والثاني مثل قولِكَ لصائغٍ: صُغْ لي من هذا الخاتمِ خاتماً غيرَهُ، فيكسره ويصوغُ لكَ خاتماً، والخاتَمُ المصوغُ هو الأوَّلُ، إلاّ أن الصياغةَ قد تغيَّرت، والقصةُ واحدةٌ. وقالت الحكماءُ: كما أنَّ الجلد بَلِيَ قبلَ البعثِ كذلك يبدلُ بعد النُّضج. وقال السُّدِّيُّ: (يُبْدَلُ مِنْ لَحْمِ الْكَافِرِ يُعَادُ الْجِلْدُ لَحْماً وَيَخْرُجُ مِنَ اللَّحْمِ جِلْدٌ آخَرُ؛ لأنَّهُ جِلْدٌ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيْئَةً). قَوُلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾؛ أي غالباً في أمرهِ، لا يَمْلِكُ أحدٌ مَنْعَهُ من إنزالِ وعدِّهِ، ذو حِكْمَةٍ فيما حَكَمَ من النار للكفَّار.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ أي بساتينَ تجري من تحتِ شجرها وغُرَفها الأنْهارُ.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾؛ في الْخَلْقِ.
﴿ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ﴾؛ أي ظِلاًّ دائماً وهو ظِلُّ الأشجار والقصور؛ ظلٌّ لا حرَّ معه ولا بَرْدَ، وليس كلُّ ظلٍّ يكون ظَلِيلاً. وقِيْلَ: الظَّلِيْلُ الكثيفُ الذي لا تَنْسَخُهُ الشَّمسُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا ﴾؛ وذلك:" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أتَى الْبَيْتَ لِيَدْخُلَهُ؛ فَسَأَلَ عَنِ الْمِفْتَاحِ؛ فَقِيلَ: هُوَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الدَّار وَكَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ، فأَرْسَلَ إلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ: " هَاتِ الْمِفْتَاحَ " فَأَبَى، فََلَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه يَدَهُ وَأََخَذهُ مِنْهُ وَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، وَصَلَّى فِيْهِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ: بأَبي أنْتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ؛ إجْعَلْ لِيَ السِّدَانَةَ مَعَ السِّقَايَةِ - يَعْنِي اجْعَلْ لِي مِفْتَاحَ الْبَيْتِ - فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا ﴾ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً رضي الله عنه أنْ يَرُدَّ الْمِفْتَاحَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ؛ فَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ عُثْمَانُ: أنَا أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ؛ وَأسْلَمَ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا دَامَ هذا الْبَيْتُ أرَى اللَّبنَةَ مِنْ لَبنَاتِهِ قَائِمَةً؛ فَإنَّ الْمِفْتَاحَ فِي أوْلاَدِ عُثْمَانَ بْنِ أبي طَلْحَةَ ". روي:" أنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ أبَى: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " يَا عُثْمَانُ؛ إنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَهَاتِ الْمِفْتَاحَ " فَقَالَ: هَاكَ أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ خُذْهُ بأمَانَةِ اللهِ. فَأَخَذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِفْتَاحَ فَفَتَحَ الْبَابَ وَمكَثَ فِي الْبَيْتِ مَا شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا خَرَجَ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ "ويدخلُ في هذا جملةُ الأمانةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ ﴾؛ خطابٌ لِلأَئِمَّةِ؛ أي ويَأْمُرُكُمُ اللهُ أن تحكمُوا بين الناس بالحقِّ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾؛ أي نِعْمَ الذي يَأَمُرُكُمْ به من أداءِ الأمَانَةِ والحكمَ بالحقِّ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً ﴾؛ لِمَقَالَةِ الْعَبَّاسِ؛ ﴿ بَصِيراً ﴾؛ بأمَانَةِ عُثمَانَ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾؛ أي أطيعُوا اللهَ تعالى فيما أمَرَ؛ وأطيعُوا الرسُولَ فيما بَيَّنَ. وَقِيْلَ: أطيعُوا اللهَ في الفرائضِ، وأطيعُوا الرسولَ في السُّنَنِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ قال عكرمةُ: (هُوَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" اقْتَدُوا مِنْ بَعْدِي بأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ "،" وَإنَّ لِي وَزَيْرَيْنِ فِي الأَرْضِ؛ وَوَزيْرَيْنِ فِي السَّمَاءِ، فَبالسَّمَاءِ جِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ، وَبالأَرْضِ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ "، " عِنْدِي بمَنْزِلَةِ الرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ ". وقال الورَّاق: هُمْ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٌّ لقولهِ صلى الله عليه وسلم:" الْخِلاَفَةُ بَعْدِي فِي أرْبَعَةٍ مِنْ أُمَّتِي: أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّ "وقال عطاءُ: هُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَالتَّابعُونَ بإحْسَانٍ لقولهِ تعالى:﴿ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾[التوبة: ١٠٠] الآية. وَقِيْلَ: هم أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما قالَ:" أصْحَابي كَالنُّجُومِ؛ بَأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ "وقال جابرُ بن عبدِالله والحسنُ والضحَّاك ومجاهدُ: (هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أهْلُ الدِّيْنِ وَالْفَضْلِ) الَّذِيْنَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِيْنِهِمْ؛ وَيَأَمُرُونَهُمْ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُمْ. قال ابنُ الأسودِ: (لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنَ العِلْمِ، فَالْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ). وقال أبو هريرةُ: (هُمْ وُلاَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ). وقال الكلبيُّ ومقاتلُ: (هُمْ أمَرَاءُ السَّرَايَا، كَانَ صلى الله عليه وسلم إذا بَعَثَ سَرِيَّةً أمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً، وَأَمَرَهُمْ أنْ يُطِيْعُوهُ وَلاَ يُخَالِفُوهُ). والأظهرُ مِن هذه الأقاويلِ: أن المرادَ بهم العلماءُ لقولهِ تعالى: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ ﴾؛ أي فإنِ اخْتَلَفْتُمْ في شيءٍ من الحلالِ والحرام والشرائعِ والأحكام، فردُّوه إلى أدلَّةِ الله وأدلَّة رسولهِ، وهذا الردُّ لا يكون إلاّ بالاستدلالِ والاستخراج بالقياسِ؛ لأن الموجودَ في نصِّ الكتاب اذا عُلِمَ وَعُمِلَ به لا يوصفُ بأنه رَدٌّ إلى الكتاب، وإنَّما يقالُ: هو اتِّبَاعٌ للنَّصِّ، وغيرُ العلماءِ لا يعلمونَ كيفيَّةَ الردِّ إلى الكتاب والسُّنة ولا دلائلِ الأحكامِ، والجواب قولهُ تعالى: ﴿ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ دليلٌ على أن الإيْمَانَ اتِّبَاعُ الكتاب والسُّنة والإجماعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾؛ أي رَدُّ الخلافِ إلى اللهِ والرسول خيرٌ من الإصرار على الاختلافِ وأحسنُ عاقبةً لكم، ويقالُ: أحسنُ تأويلاً من تأويلِكم الذي تُؤَوِّلُونَهُ من غيرِ رَدِّ ذلكَ إلى الكتاب والسُّنة. وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ: (الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾؛ الآيةُ. قال الكلبيُّ: (نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ يُقَالُ لَهُ بشْرٌ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِيٍّ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: انْطَلِقْ نَتَحَاكَمُ إلَى مُحَمَّدٍ - لأَنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ لاَ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ وَلاَ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ -. وَقَالَ الْمُنَافِقُ: نَنْطَلِقُ إلَى كَعْب بْنِ الأَشْرَفِ - وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ الطَّاغُوتَ - فَأَبَى الْيَهُودِيُّ أنْ يُخَاصِمَهُ إلاَّ إلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَضَى مَعَهُ الْمُنَافِقُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ لَزِمَهُ الْمُنَافِقُ وَقَالَ: انْطََلِقْ بنَا إلَى عُمَرَ ضي الله عنه فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: يَا عُمَرُ؛ اخْتَصَمْتُ أنَا وَهَذا إلَى مُحَمَّدٍ فَقَضَى لِي عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْضَ بقَضَائِهِ، وَزَعَمَ أنَّهُ يُخَاصِمُنِي إلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُنَافِقِ: أكَذلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أخْرُجَ إلَيْكُمَا، فَدَخَلَ عُمَرُ وَأخَذ السَّيْفَ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمَا؛ فَضَرَبَ بهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى مَاتَ؛ وَقَالَ: هَكَذا قَضَائِي فِيْمَنْ لَمْ يَرْضَ بقَضَاءِ اللهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ، وَهَرَبَ الْيَهُودِيُّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وَقَالَ جِبْرِيْلُ: إنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْْبَاطِلِ فَسُمِّيَ الْفَارُوقَ). ومعنى الآية: ألَم ترَ يَا مُحَمَّدُ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالْقُرْآنِ وبالكُتُب التي أُنْزِلَتْ من قبلِكم وهم المنافقونَ.
﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ ﴾؛ وهو كعبُ بنُ الأشرفِ.
﴿ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ﴾؛ بالطَّاغُوتِ.
﴿ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾؛ عَنِ الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (اخْتَصَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أمْرٍ بَيْنَهُمَا؛ فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ؛ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ؛ فَمَرَّا عَلَى الْمِقْدَادِ فَقَالَ: لِمَنْ كَانَ الْقَضَاءُ يَا ثَعْلَبَةَ؟ فَقَالَ: قَضَى لابْنِ عَمَّتِهِ؛ وَلَوَى شِدْقَهُ، فَفَطِنَ يَهُودِيٌّ كَانَ مَعَ الْمِقْدَادِ فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ هَؤُلاَءِ؛ يَشْهَدُونَ أنَّهُ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ يَتَّهِمُونَهُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَهُمْ، وَأيْمِ اللهِ لَقَدْ أذْنَبْنَا فِي حَيَاةِ مُوسَى عليه السلام فَقَالَ لَنَا: اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ؛ فَقَتَلْنَا فَبَلَغَ قِتَالُنَا سَبْعِيْنَ ألْفاً فِي طَاعَةِ اللهِ حَتَّى رَضِيَ عَنَّا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ ثَعْلَبَة وَلَيِّهِ شِدْقَهُ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ أي هَلُمُّوا إلى التَّحَاكُمِ إلى أوامرِ الله في كتابه وإلى الرسُولِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْكُمَ بينَكم رأيتَ المنافقينَ يُعْرِضُونَ عن حُكْمِكَ إعْرَاضاً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي كيفَ يكونُ حالُهم من نَدَمٍ وجُرأةٍ إذا أصابتهم مصيبةٌ بقتلِ عُمَرَ لصاحبهم وظهور نفاقهم بما فعلوهُ من ردِّ حُكْمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيِّ الشِّدْقِ.
﴿ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ ﴾؛ مُعْتَذِريْنَ.
﴿ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً ﴾؛ تَسْهِيْلاً كيلا تَشْغَلَكَ خصومتُنا.
﴿ وَتَوْفِيقاً ﴾؛ بين الخصومِ بالإلتماسِ ما يقاربُ التوسط دون الحملِ على الإعراض عن الحكمِ.
قال اللهُ تعالى: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾؛ عن عقوبتِهم في الدُّنيا، ويقال: أعْرِضْ عن قَبُولِ عُذْرهِمْ.
﴿ وَعِظْهُمْ ﴾؛ مع ذلك بلسانِكَ ﴿ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ﴾ وأعْلِمْهُمْ أنََّهم إنْ عادُوا فحقُّهم العقوبةُ والقتلُ، والقولُ البليغ أن يبلغَ صاحبه بعبارتهِ كُنْهَ ما في قلبهِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لِيُطَاعَ ذلك الرسولُ بأمرِ الله.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ بمُطَالَبَةِ الحُكمِ إلى الطاغوتِ.
﴿ جَآءُوكَ ﴾؛ أيُّهَا الرسُولُ.
﴿ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ وتابوا إليه.
﴿ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾؛ عند ذلكَ.
﴿ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً ﴾؛ قَابلاً للتوبةِ.
﴿ رَّحِيماً ﴾؛ بهم بعدَ التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي لا يكونوا مؤمنينَ عند اللهِ حتى يُحَكِّمُوكَ فيما وقعَ من الاختلاف بينَهم.
﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ﴾؛ أي ثُمَّ لا تَضِيْقُ صدروُهم مِمَّا قضيتَ، وَقِيْلَ: لا يَجِدونَ شَكّاً في حُكمِكَ.
﴿ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾؛ أي يُقَادُوا لحكمكَ انقياداً. والْمُشَاجَرَةُ في المخاصمةِ مأخوذٌ من الشَّجَرِ؛ تشبيهاً للخصومةِ في دخُول بعضِ الكلام في بعض الأشجار بالتِفَافِ بعضِها على بعضٍ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾؛ (نزلت في ثابتِ بن قيسٍ لأنه قال: أمَا وَاللهِ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنِّي الصِّدْقَ أنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم لَوْ أمَرَنِي بقَتْلِ نَفْسِي لَقَتَلْتُ نَفْسِي)، وكان ثابت من القليلِ الذين استثناهم الله في الآيةِ. ومعنى الآيةِ: لو أنَّا فَرَضْنَا عليهم كما فَرَضْنَا على بني إسرائيلَ أن اقْتُلُوا أنفُسَكُمْ، أو أمرناهم أن يخرجُوا من ديارهم لَشَقَّ ذلكَ عليهمِ ولم يفعلْهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ. ورُفع الـ (قَلِيْلٌ) على البدلِ من الواو، ومعنى ما فَعَلَهُ إلاَّ قليلٌ منهم، وقرأ أبَيُّ ابن كعبٍ وابنُ عامر (إلاّّ قَلِيْلاً مِنْهُمْ) بالنصب على معنى استثنَى قليلاً منهُم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ ﴾؛ أي لو فَعَلَ المنافقون ما يُؤْمَرُونَ به من الرِّضَى بحكمكَ.
﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾؛ من الْمُحَاكَمَةِ إلى غيرِكَ.
﴿ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾؛ لقلوبهم على الصَّواب؛ لأن الحقَّ يبقَى والباطلَ يذهبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذاً لأَتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ أي إذْ لو يفعلونَ ما يُؤمرون به لأعطيناهُم مِن عندنا ثواباً جَزِيلاً في الجنَّة.
﴿ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾؛ أي إلى صِرَاطٍ مستقيمٍ، وَقِيْلَ: معناهُ: لَهَدْيَنْاَهمْ في الآخرةِ إلى طريقِ الجنَّةِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ ﴾؛" نزلت في ثَوْبَانَ مَوْلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ شَدِيْدَ الْحُب لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلِيْلُ الصَّبْرِ عَنْهُ، فَأَتَاهُ ذاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا غَيَّرَ لَوْنُكَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا بي مَرَضٌ وَلاَ وَجَعٌ، غَيْرَ أنِّي لَمْ أرَكَ فَاشْتَقْتُ إلَيْكَ فَاسْتَوْحَشْتُ، فَهَذا الَّذِي نَزَلَ بي مِنْ أجْلِ ذلِكَ، ثُمَّ ذكَرْتُ الآخِرَةَ فَأخَافُ أنْ لاَ أرَاكَ هُنَاكَ فَإنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبيِّيْنَ، وَإنِّي إذا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلَةٍ أدْنَى مِنْ مَنْزِلَتِكَ، وَإنْ لَمْ أدْخُلِ الْجَنَّةَ فَذاكَ حِيْنَ لاَ أرَاكَ أبَداً، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَابْنِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِيْنَ "ومعنى الآية: ومَن يُطِعِ اللهَ في الفرائضِ والرسولَ في السُّننِ؛ فأولئِكَ مع الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيِّين والصدِّيقينَ، وهم أفاضلُ الصَّحابةِ.
﴿ وَٱلشُّهَدَآءِ ﴾؛ هم الذين اسْتُشْهِدُواْ في سبيلِ الله.
﴿ وَٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ وهم الذينَ اسْتَقَامَتْ أحوالُهم بحُسْنِ عملِهم، وَالْمُصْلِحُ الْمُقَوِّمُ بحُسْنِ عَمَلِهِ. وقالَ عكرمةُ: (النَّبيُّونَ: هَا هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَالصِّدِّيْقُونَ: أبُو بَكْرٍ، وَالشُّهَدَاءُ: عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِِيٌّ، وَالصَّالِحُونَ: سَائِرُ الصَّحَابَةِ). فإن قيلَ فكيفَ يكونُ المطيعون للهِ ورسولهِ مع النبيِّين ودرجتِهم في أعلى عِلِّيِّيْنَ؟ قِيْلَ: إنَّ الأنبياءَ ولو كانوا في أعْلى عِلِّيِّيْنَ؛ فإنَّ غيرَهم من المؤمنينَ يَرَوْنَهُمْ وَيَزُروُنَهُمْ ويستمتِعونَ برؤيتِهم، فيصلحُ اللفظ أنْ يقالَ إنَّهم معهُم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً ﴾؛ أي حَسُنَ الأنبياءُ ومَن معهُم رُفَقَاءَ في الجنَّةِ؛ أي ما أحسنَ مُرَافَقَتَهُمْ فيها، فذكرَ الرفيقَ بلفظِ التوحيدِ؛ لأنه نُصِبَ على التمييزِ، كما في قولهِ تعالى:﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾[النساء: ٤] ويجوزُ أن يكونَ معناهُ: حَسُنَ كُلُّ واحدٍ من أوْلَئِكَ رَفِيْقاً، كما قالَ تعالى:﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾[غافر: ٦٧] ولم يقل أطْفَالاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ذلك الْمَنُّ من اللهِ على المطيعين.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً ﴾؛ بهم وبأعمالِهم ومجازياً لهم بما يستحقُّونَه من ثوابٍ وكرامةٍ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ ﴾؛ أي أسلحتكم.
﴿ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ ﴾؛ أي مِن عدوِّكم بالأسْلِحَةِ والرِّجالِ، ولا تَخْرُجُوا متفرِّقين، ولكن اخرجُوا ثُبَاتٍ.
﴿ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً ﴾؛ أي اخرجُوا جماعاتٍ جماعاتٍ؛ سَرِيَّةً سَرِيَّةً كما يأمرُكم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جهادِ عدوِّكم، واخرجوا كلُّكم جميعاً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن أرادَ الخروجَ، والثُّباتَ: الجماعاتُ في تفرقةٍ واحدُها ثُبَةٌ؛ أي انفرُوا جماعةً بعد جماعةٍ، ويجوزُ أن يكون معنَى: الْحِذْرُ: السِّلاَحُ. واستدلَّ أهل القدر بهذه الآيةِ قالوا: إنَّ الحذرَ ينفعُ ويَمنعُ عنكم مُكَايَدَةَ العدوِّ، وإلاَّ لم يكن لأمرهِ تعالى آتاهم بالحذر، معناهُ: فيقالُ لَهم الائتمار بأمرِ الله والإنتهاء بنَهْيهِ واجبٌ عليهم؛ لأنَّهم به يَسْلَمُونَ من معصيةِ الله تعالى؛ لأن المعصيةَ تركُ الأوامرِ والنواهي. وليسَ في الآية دليلٌ على أن حَذرَهُمْ ينفعُ من القدر شيئاً، بل المرادُ منه طُمَأْنِيْنَةُ النفسِ لا أنَّ ذلك يدفعُ القدرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ﴾؛ أي مِمَّنْ أظهرَ الإيْمان ليتشاغَلَنَّ عن الجهادِ، ويثقِلَنَّ غيرَهُ وهو عبدُاللهِ بن أبَيٍّ وَجَدُّ بنُ قيسٍ، وأصحابُهما مِن المنافقينَ الذين كانوا يشاركون المسلمينَ في ظاهرِ الإسلامِ كانوا ينتظرونَ هلاكَ المسلمين وهزيْمَتَهم ويتثاقَلون عن الجهادِ، يقال: أبْطَأَ الرجُلُ اذا تأخَّرَ عنِ العمل بإطالةِ المدَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ﴾؛ أي إنْ أصابتُكم نَكْبَةٌ أو هَزِيْمَةٌ أو قتلٌ، قال هذا الْمُبْطِئُ: قَدْ مَنَّ اللهُ عليَّ إذْ لَم أكُنْ مَعَهُمْ حَاضِراً في تلك الغزوةِ فيصيبُني مثلَ الذي أصابَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله ﴾؛ أي وإن أصابَكم أيُّها المؤمنون ظَفَرٌ وغَنِيْمَةٌ.
﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾؛ هذا الْمُبْطِئُ نَادِماً.
﴿ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ ﴾؛ في الغَزْو فأُصيبَ حظّاً وافراً وغنائمَ كثيرةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ﴾؛ قال بعضُهم: هو معرضٌ بين اليمينِ وما قبلَهُ؛ تقديرهُ: وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فضلٌ من اللهِ ليقولَنَّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم.
﴿ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾؛ كأنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ؛ أي يتمنَّى أن ينالَ مِن غيرِ أن يريدَ الجهادَ والقتال، وقيلَ: هو متصلٌ بقولهِ ﴿ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ﴾ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ؛ أي صِلَةٌ في الدِّين ومعرفةٌ في الصُّحبةِ، كأنهُ لم يُعَاقِدْكُمْ قَبْلَ أن يجاهدَ معكم. ثُمَّ أمرَ اللهُ تعالى كُلَّ مَنْ عَقَدَ الإيمانَ بالقتالِ؛ فقال عَزَّ وجَلَّ: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي لِيُقَاتِلْ في طاعةِ الله ورضَائِهِ الذين يَبْيعونَ الحياةَ الدُّنيا بالآخرةِ وهم المؤمنونَ. وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ الخطاب لِلْمُبْطِئِيْنَ؛ ومعنى ﴿ يَشْرُونَ ﴾: يَخْتَارُونَ الحياةَ الدُّنيا على الآخرةِ. وهذا اللفظُ من الأضدادِ، يقالُ: شَرَيْتُ بمَعْنَى بعْتُ، وَشَرَيْتُ بمَعْنَى اشْتَرَيْتُ، فيكون معنى الآيةِ على هذا: آمِنُوا ثُمَّ قاتِلوا، لإنة لا يجوزُ أن يكونَ الكافرُ مأموراً بشيءٍ يتقدَّم على الإيْمانِ. ثم ذَكَرَ اللهُ تعالى فضلَ الْمُجَاهِدِيْنَ؛ فَقَالَ: ﴿ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي في الجهادِ الذي هو طاعةُ اللهِ تعالى؛ ﴿ فَيُقْتَلْ ﴾؛ هو؛ ﴿ أَو يَغْلِبْ ﴾؛ العدوَّ؛ ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ فسوفَ نُعْطِيْهِ في كِلاَ الوجهينِ ثواباً وافراً في الجنَّة، وسَمَّى اللهُ تعالى الثوابَ عظيماً؛ لأنه نالَ ثمناً مِن العزيزِ بأغلَى الأثْمانِ، وقد يكون ثَمَنُ الشيءِ مثلَهُ، ويكون وَسَطاً من الأثْمانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: أيُّ شيءٍ لكم أيُّها المؤمنون في تَرْكِ الجهادِ مع اجتماعِ الأسباب الموجبَة للتحريضِ عليهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ لاَ تُقَٰتِلُونَ ﴾ في موضعِ نصبٍ على الحال كأنهُ قال: وَمَا لََكُمْ تَاركِيْنَ الْجِهَادَ؟ كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾[المدثر: ٤٩].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾؛ في موضعِ خَفْضٍ بإضمار (في)؛ معناهُ: وفِي بيان المستضعفينَ؛ أي وفي نُصْرَةِ المستضعفينَ، ويجوزُ أن يكون معناهُ: وعَنِ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ؛ أي لِلذب عن المستضعفينَ.
﴿ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ﴾؛ الذين هم بمَكَّةَ وَيَلْقَوْنَ فيها أذىً كثيراً وهم: سَلَمَةَُ بْنُ هِشَامٍ وَالْوَلِيْدُ بْنُ الْوَلِيْدِ وَعبَّاسُ بْنُ رَبيعَةَ وغيرَهم، كانوا أسْلَمُوا بمَكَّةَ فأراد عشائِرُهم من أهلِ مكَّة بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يفتنوهم عنِ الإسلامِ. يقولُ الله تعالى: مَا تُقَاتِلُونَ المشركينَ في خَلاَصِ هؤلاء الضُّعفاءِ؛ ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾؛ يسألونَ اللهَ؛ ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ﴾؛ أي خَلِّصْنَا من هذه القَرْيَةِ؛ يَعْنُونَ مَكَّةَ؛ ﴿ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا ﴾؛ أي الكفَّارُ أهلُها.
﴿ وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾؛ أي مِن عندك حَافِظاً يحفظُنا من أذاهُم.
﴿ وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ ﴾؛ مِنْ عِنْدِكَ؛ ﴿ نَصِيراً ﴾؛ أي مَانِعاً يَمْنَعُنَا منهم. فاستجابَ اللهُ دعاءَهم، وجعلَ لَهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم حافِظاً وناصِراً بفتحِ مكة على يديهِ، واستعملَ عليهم عَتَّابَ بنَ أُسَيْدِ، عتاب يُنْصِفُ الضعيفَ من الشديدِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: الذين آمَنُوا بمُحَمَّدٍ والْقُرْآنِ، يُقَاتِلُونَ في طاعةِ اللهِ بأمْرِ الله.
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أبُو سُفْيَانَ وأصحابَهُ.
﴿ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ ﴾؛ يقاتلون في طاعةِ الشيطان.
﴿ فَقَٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾؛ وضَعفهُ بالوسوسَةِ إلى أوليائهِ بأنَّ الظفرَ يكون لَهم كيدُ ضعيفٍ، وإنَّما أدخلَ على هذا اللَّفظِ ﴿ كانَ ﴾ لتبين أن صفةَ الضَّعْفِ لازمةٌ له، وأنهُ ﴿ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ فَخَذلَ أولياءَه، كما خذلَهم يومَ بدرٍ حيث قال لَهم: إنِّي بريءٌ منكُم إنِّي أرَى ما لاَ تَرَوْنَ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ والحسن والكلبيُّ:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِاللهِ وَالْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُمْ، كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ أذىً كَثِيْراً وَهُمْ بمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرُواْ إلَى الْمَدِيْنَةِ؛ فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ ءأذنْ لَنَا فِي قِتَالِ هَؤْلاَءِ فَإنَّهُمْ قَدْ آذُوْنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " كُفُّواْ أيْدِيَكُمْ؛ فَإنِّي لَمْ أؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ، وَأقِيْمُوا الصَّلاَةَ الْخَمْسَ، وَأدُّواْ زَكَاةَ أمْوَالِكُمْ " فَلَمَّا خَرَجُواْ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بقِتَالِ الْمُشْرِكِيْنَ، وَأمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْمَسِيْرِ إلَى بَدْرٍ، كَرِهَ بَعْضُهُمْ وَشُقَّ ذلِكَ عَلَيْهِمْ ". ومعنى الآية: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ ﴾؛ بالمدينةِ أي فُرِضَ؛ ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾؛ وقيل معناهُ: ﴿ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾؛ كقولهِ﴿ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات: ١٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ ﴾؛ يعنِي مُشْرِكِي مكَّة لِمَ فَرَضْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؛ أي الجهادَ؛ ﴿ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾؛ أي هَلاَّ تَرَكْتَنَا حتى نَمُوتَ بآجالِنا. قال الحسنُ: (لَمْ يَقُولُوا هَذِهِ لِكَرَاهَةِ أمْرِ اللهِ، ولَكِنْ لِدُخُولِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ بذلِكَ)، وقال بعضُهم: نزلَتْ في المنافقينَ، لأن قوله: ﴿ لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ ﴾ لا يَلِيْقُ بالمؤمنينَ، وكذلك الحسَنَةُ من غيرِ الله. وَقِيْلَ: نزلت في قَوْمٍ من المؤمنين لم يكونُوا راسخين في العِلْْمِ، قالوا هذا القولَ؛ لأنَّهم رَكَنُوا إلى الدُّنيا وآثرُوا نعيمَها على القتالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾؛ أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: منفعةُ الدُّنيا يسيرةٌ تنقطعُ وتقضى، والاستمتاعُ بها قليلٌ؛ لأن الجديدَ منها إلى البلَى، والشابُّ منها إلى الهرمِ والإنقضاء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾؛ أي وثوابُ الآخرةِ أفضلُ لِمن اتَّقَى المعاصي.
﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾؛ أي ولا يُنْقَصُونَ من جَزَاءِ أعمالِهم الذي استحقُّوه مقدارَ الفتيلِ، وقد تقدَّم تفسيرُ الفتيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾؛ أي أيْنَمَا تَكُونُوا يَا مَعْشَرَ المؤمنينَ والمنافقينَ في بَرٍّ أو بَحْرٍ أو سَفَرٍ أو حَضَرٍ يَلْحَقْكُمُ الموتُ، وإنْ كُنْتُمْ فِي حُصُونٍ مُحَصَّنَةٍ مِن حديدٍ وغيرِه، مرتفعةٍ إلى عَنَانِ السَّماء، والمعنى: أنكم وإنْ سُومِحْتُمْ وأخذتُم بتركِ القتال، فإن آخِرَ أعماركم موتٌ لا تَنْجُونَ منه. وقال عكرمةُ: (مُشَيَّدَةٌ: مُحَصَّنَةٌ). وقال العينيُّ: (مُطَوَّلةٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾؛ هذا حكايةُ قولِ المنافقين واليهودِ، كانوا يقولون: ما زلْنَا نعرفُ النَّقْصَ في ثِمارنا ومراعينا مُذْ قَدِمَ هذا الرجلُ علينا - يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم - بعدَ قُدُومِهِ المدينةَ، فذلك قوله: ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي إنْ يُصِبْهُمْ خِصَبٌ ورخصُ سِعْرٍ وتتابعُ أمطار يقولوا: هذهِ من فَضْلِ الله؛ ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾؛ قَحْطٌ وجُدُوبَةٌ وغلاءُ سِعْرٍ.
﴿ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ﴾؛ هذه من شُؤْمِ مُحَمَّدٍ وأصحابهِ. يقولُ الله تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: الحسنةُ والسيِّئةُ كلُّها بقضاءِ الله وتقديرهِ.
﴿ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾؛ اليهودُ والمنافقين لا يقربونَ من فَهْمِ حديثٍ عن الله. والْفِقْهُ: هو الْفَهْمُ، ثم اختصَّ من جهة العُرْفِ بعلم الْفَتْوَى. وقال الحسنُ: (أرادَ بالْحَسَنَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ: الظَّفَرَ وَالْغَنِيْمَةَ، وَبالسَّيِّئَةِ: الْقَتْلَ وَالْهَزِيْمَةَ) وَكَانُواْ إذا غَلَبُوا قَالُواْ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإذا غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ قَالُواْ: هَذِهِ مِن خَطَأ رَأيكَ وتَدْبيرِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾؛ واختلفَ المفسِّرون في المخاطَب بهذه الآية، قال أكثرُهم: هُوَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ لَهُ عَامَّةُ النَّاسِ. وقال قتادةُ: (الْمُخَاطَبُ بهَا الإنْسَانُ) كَأَنَّهُ قَالَ: مَا أصَابَكَ أيُّهَا الإنْسَانُ مِنْ حَسَنَةٍ؛ أيْ مِنْ خِصْبٍ وَرُخْصِ سِعْرٍ وَفَتْحٍ وَغَنِيْمَةٍ فَاللهُ تَعَالَى هَدَاكَ لَهُ وَأَعانَكَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَكَ لَهُ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ قَحْطٍ وَجُدْبَةٍ وَهَزِيْمَةٍ وَنَكْبَةٍ وَكُلَّ أمْرٍ تَكْرَهُهُ؛ فَإنَّمَا أصَابَكَ ذلِكَ بمَا كَسَبَتْ يَدَاكَ بقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى﴿ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى: ٣٠].
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" مَا مِنْ خَدْشَةٍ عُودٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ وَلاَ عَثْرَةِ قَدَمٍ إلاَّ بذنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ أكْثَرُ "وقال بعضُ المفسِّرين: بين هذه الآيةِ وبينَ التي قبلَها إضمارٌ تقديرُه: فَمَا لِهَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيْثاً يَقُولُونَ مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ؛ لأنَّهُ مستحيلٌ أن يأمرَ اللهُ تعالى بإضافةِ الحسنَةِ والسيِّئة إلى أمرهِ وقضائه في آيةٍ ثم يَتْلُوهَا بآيةٍ تُفَرِّقُ بينهُما بعدَ أن ذمَّ قوماً على التفرقةِ في الأُولى، فكيف يجوزُ أن يَذِمَّ على الجمعِ في الآية الثانيةِ، ومثلُ هذا الإضمارِ كثيرٌ في القرآنِ. وقرئَ في الشواذِ بنصب الميم (فَمَنْ نَفْسِكَ) أي كلٌّ مِنَ اللهِ، فمَن أنتَ ونفسَكَ حتى يُضَافَ إليكَ شيءٌ، غير أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ؛ فلا يقرأ إلاَّ بما تَصِحُّ به الروايةُ، وحاصلُ المعنى على قراءةِ العامَّة: أي مَا أصابَكَ مِنْ خَيْرٍ ونِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ بَلِيَّةٍ، أوْ شَيْءٍ تَكْرَهُهُ فَمِنْ نَفْسِكَ؛ أي بذنوبكم، وأنا الذي قدَّرتُها عليكَ. قال الضحَّاك: (مَا حَفِظَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إلاَّ بذنْبٍ) ثم قَرَأ﴿ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى: ٣٠]، قال: (فَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ مِنْ أعْظَمِ الْمَصَائِب). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾؛ أي ومِن نِعْمَةِ اللهِ عليكَ إرسالهُ إياكَ رسولاً إليهم.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾؛ على أنكَ رسولٌ صادقٌ يشهدُ لك بالرسالةِ والصِّدق، وَقِيْلَ: شَهِدَ على مقالةِ القوم أنَّ الحسنةَ من اللهِ، والسيئةَ من عندكَ: وَقِيْلَ: معناهُ: يشهدُ أنَّ الحسنةَ والسيِّئةَ كلَّها من اللهِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ﴾؛ أي مَن يُطِعِ الرسولَ فيما يأمرهُ فقد أطاعَ الله؛ لأنَّ الرسولَ إنَّما يأمرُ به من عندِ اللهِ.
﴿ وَمَن تَوَلَّىٰ ﴾؛ أي أعْرَضَ عن طاعتهِ.
﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾؛ أي ليسَ عليك إلاّ البلاغُ وما أرسلناكَ عليهم مُسَلَّطاً تُجْبرُهُمْ على الإيْمَانِ والطاعة وتَمنعُهم عن الكفرِ والمعصيةِ؛ فإنك مُبَلِّغٌ وأنا العالِمُ بسرائرِهم، وهذه الكلمةُ من آخرِ الآية منسوخةٌ بآيةِ السَّيْفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ﴾؛ معناهُ: أنَّ المنافقين كانوا يقولونَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أمْرُكَ طاعةٌ وقولُكَ مُتَّبَعٌ.
﴿ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ ﴾؛ فَإنْ خَرَجُوا مِن عندِكَ يا مُحَمَّد.
﴿ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ ﴾؛ أي غَيَّرَتْ جماعةٌ منهم الأمرَ الذي أمرتَهم به على وجهِ التكذيب، يقالُ لكلِّ أمر قُضِيَ بليلٍ: قَدْ بَيَّتَ بهِ، وإنَّما لم يقل للبيت؛ لأنَّ كل تأنيثٍ غيرَ حقيقي يجوزُ تعبيرهُ بلفظِ التذكيرِ، وَقِيْلَ: معناهُ: قَدَّرُوا ليلاً غيرَ ما أعطوكَ نَهاراً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ﴾؛ أي يَحْفَظُ عليهم ما يَفْتَرُونَ من أمرِك، وَقِيْلَ: ما يُسِرُّونَ من النفاقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أي لا تُعَاقِبْهُمْ يا مُحَمَّدُ واسْتُرْ عليهم إلى أنْ يَسْتَقِيْمَ أمرُ الإسلامِ ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي ثِقْ باللهِ وفوِّضْ أمركَ إليه.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾؛ أي حَافِظاً، والوكيلُ: هو العالِمُ بما يُفَوَّضُ إليه من التدبيرِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ ﴾؛ أي أفلا يَتَفَكَّرُونَ في الْقُرْآنِ أنه يُشْبهُ بعضُه بعضاً ويصدِّقُ بعضه بعضاً، وأنَّ أحَداً من الخلائقِ لا يقدرُ على مِثْلِهِ، فيعلمون أنه حَقٌّ ويعلمونَ أنه مِن عِنْدِ اللهِ.
﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾؛ أي تعارضاً وتَبَايُناً وبعضهُ بليغاً وبعضُه ساقطاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾؛ يَعْنِي المنافقينَ كانوا إذا أتاهُم خبرٌ من أمرِ السَّرَايَا الذين بعثَهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من ظَفَرٍ وَدَوْلَةٍ وَغَنِيمَةٍ؛ أو أتاهم عنهم خَبَرُ نَكْبَةٍ أو هَزِيْمَةٍ أفْشَوا ذلكَ الخبرَ، وأظهروهُ قبل أن يُحَدَّثَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْذرَ بخبرِ الظَّفَرِ من ينبغِي أن يحذرَ من الكفَّار ويقوَى بخبرِ هزيْمَة المسلمينَ قَلْبُ مَن كان يَبْتَغِي نكبةَ المسلمين منهُم، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ. ومعناهُ: اذا جاءَ المنافقينَ ﴿ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ ﴾؛ يعني الغنيمةَ والفتحَ.
﴿ أَوِ ٱلْخَوْفِ ﴾ أي الهزيْمَة والقتلِ ﴿ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾؛ أي أشاعُوهُ وأفْشَوهُ.
﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ ﴾؛ أي لم يَتَحَدَّثُوا به ولم يُفْشُوهُ حتى يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يَتَحَدَّثُ بهِ. والمعنى: لو تَرَكُوا أمرَ السَّرايَا والعسكرِ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمرِ من المؤمنينَ وهم: أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأكَابرُ الصَّحَابَةِ حتى يكونوا هم الذين يُفْشُونَهُ.
﴿ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾؛ يطلبونَ الخبرَ ويستخبرونَهُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأكابرِ الصَّحابة أن ذلك الخبرَ صحيحٌ أم لاَ. قال الكلبيُّ: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبطُونَهُ أيْ يَتَّبعُونَهُ). وقال عكرمةُ: (يَسْأَلُونَ عَنْهُ، أيْ لَوْ تَرَكُواْ إذاعَتَهُ حَتَّى يَتَحَدَّثَ بهِ النَّبيُّ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْأَلُونَ عَنْهُ). وقال القُتيبيُّ: (لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَخْرِجُونَهُ، يُقَالُ: اسْتَنْبَطْتُ الْمَاءَ إذا أخْرَجْتُهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾؛ أي لولا ما أنزلَ اللهُ عليكم من القُرْآنِ، وبَيَّنَ لكم الآياتِ على لسانِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
﴿ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي كانَ أقَلُّكُمْ يَنْجُوا من الكُفْرِ، والمرادُ بالفضلِ ها هنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنَ، وَقِيْلَ: في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ معناه: أذاعُواْ بهِ إلاَّ قَلِيْلاً مِنَ الخبر لم يذيعوهُ، أو قليلاً من الْمُنَافِقِيْنَ لَمْ يُذِيْعُوهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ﴾؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا الْتَقَى هُوَ وَأبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أحُدٍ وَكَانَ مِنْ أمْرِهِمْ مَا كَانَ، وَرَجَعَ أبُو سُفْيَانَ إلَى مَكَّةَ وَوَاعَدَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرَ الصُّغْرَى فِي ذِي الْقِعْدةِ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم الْمِيْعَادُ، قَالَ لِلَّناسِ: اخْرُجُوا إلَى الْعَدُوِّ، فَكَرِهُوا ذلِكَ كَرَاهَةً شَدِيْدَةً أوْ بَعْضَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي لا تَدَعْ بجهاد العدو ولو وحدك. وَقِيْلَ: لا تُؤَاخَذُ بفعلِ غيرِك، وإنَّما تُؤَاخَذُ بفعلِ نفسِك وليسَ عليك ذنبُ غيرِك.
﴿ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ على القتالِ لَعَلَّ اللهَ أن يَكُفَّ عنكَ قتالَ الكفَّار، وعسَى مِن اللهِ واجبٌ؛ لأنهُ في اللغة الإطْمَاعُ، وإطماعُ الكريْمِ لا يكونُ إلا إنجازاً. والفاءُ: في قوله: ﴿ فَقَاتِلْ ﴾ جوابٌ عن قولهِ:﴿ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾[النساء: ٧٤] فَقَاتِلْ وحَرِّضِ المؤمنينَ على القتالِ؛ أي حَرِّضْهُمْ على القتالِ ورَغِّبْهُمْ فيهِ. فَتَثَاقَلُوا وَلَمْ يَخْرُجُواْ مَعَه؛ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبْعِيْنَ رَاكِباً حَتَّى أتَي بَدرَ الصُّغْرَى؛ فَكَفَاهُمُ اللهُ بَأسَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يُوافِقْهُمْ أبُو سُفْيَانَ؛ ولَمْ يَكُنْ قِتَالٌ يَوْمَئِذٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي قتالَ المشركينَ وصولَتَهم.
﴿ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾؛ أي عُقُوبَةٌ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ ﴾؛ أي مَنْ يصلِحْ بين اثنين يَكُنْ لهُ أجرٌ وثواب مِن ذلك الإصلاحِ، ومن يَمْشِي بالْغِيْبَةِ والنَّمِيْمَةِ لهُ حظٌّ من وزْرهَا وعقوبتِها، هكذا رويَ عن ابنِ عبَّاس، وقيلَ: معناهُ: من يوحِّدْ ويأمُرْ بالتوحيدِ يكُنْ له أجرٌ من ذلكَ، ومن يُشْرِكْ ويأمُرْ بالشِّركِ يكن له وزْرٌ مِن ذلكَ. ويقالُ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هي للمؤمنينَ، والشفاعة السيِّئةُ الدعاءُ عليهِم، فإنَّ اليهودَ كانوا يدعون على المؤمنينَ فَتَوَعَّدَهُمُ اللهُ بذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كِفْلٌ مِّنْهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ: (الْكِفْلُ: الإثْمُ وَالْوِزْرُ). قال الفرَّاء وأبو عبيدٍ: (الْكفْلُ: الْحَظُّ وَالنَّصِيْبُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاس: (مُقِيْتاً أيْ مُقْتَدِراً مُجَازياً بالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ)، قال الشاعرُ: وَذِي ضِعْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ   وَكُنْتُ عَلَى مُسَاءَتِهِ مُقِيْتَاأي مُقْتَدِراً. وقال الزجَّاج: (الْمُقِيْتُ: الْحَفِيْظُ). قال الشاعرُ: ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذا حُو   سِبْتُ أنِّي عَلَى الْحِسَاب مُقِيتُوقال مجاهدُ: (الْمُقِيْتُ الشَّاهِدُ). وقال الفرَّاء: (الْمُقِيْتُ الَّذِي يُعْطِي كُلَّ إنْسَانٍ قُوْتَهُ). وجاء في الحديثِ:" كَفَى بالْمَرْءِ إثْماً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقَوَّتُ - أو يُقِيْتُ - "
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (أرَادَ بالتَّحِيَّةِ السَّلاَمَ؛ أيْ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فَأَجِيْبُوا بتَحِيَّةٍ أحْسَنَ مِنْهَا؛ وَهُوَ أنْ تَزِيْدُواْ فِي التَّحِيَّةِ فَتَقُولُواْ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، يُحَيِّي بذلِكَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ، وَالْمَلَكَيْنِ الْحَافِظَيْنِ مَعَهُ بأَبْلَغِ التََّحِيَّةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾ مَعْنَاهُ: وأجيبُوا بمثلِ الذي سَلَّمَ عليكُم. وقال بعضُهم: معناهُ: وَإذا حُيِّيتُمْ بتَحِيَّةٍ؛ أي إذا أهْدِيَ إليكم هديةً فَكَافِئُوا بأفضلَ منها أو مِثْلِهَا؛ لأن التحيَّةَ في اللغة الْمِلْكُ، وكانوا يقولون قبلَ الإسلام: حَيَّاكَ اللهُ؛ أي مَلَّكَكَ اللهُ؛ ثم أبدلُوا بهذا اللفظِ بالسَّلامِ بعدَ الإسلامِ، وأقِيْمَ السلامُ مقامَ قولِهم: حيَّاكَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ﴾؛ أي مُجَازِياً يعطي كلَّ شيء من العِلْمِ والحفظِ والجزاء مقداراً يَحْسِبُهُ؛ أي يَكْفِيهِ، يقال: حَسْبُكَ هَذا؛ أي اكْتَفِ به، وقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ عَطَآءً حِسَاباً ﴾[النبأ: ٣٦] أي كافِياً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾؛ أي لاَ إلَهَ في الأرضِ وفي السَّماء غيرُه، واللامُ في (لِيَجْمَعَنَّكُمْ) لامُ أنفُسِهم، كأنهُ قال اللهُ: يجمعكُم في الحياةِ والموت في قبوركم، إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيْهِ؛ أي لا شَكَّ فيهِ أنهُ كائنٌ لا محالةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً ﴾؛ استفهامٌ بمعنى النَّفيِ، ليسَ أحدٌ أوفَى من اللهِ تعالى وَعْداً ولا أصْدَقَ منه قَوْلاً، ولا صادقاً إلاّ ويوجدُ غيرهُ على خلافِ مُخْبَرِهِ وقتاً من الأوقاتِ إلاّ الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فَمَنْ أصدقُ مِن اللهِ حديثاً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾؛ قال ابنُ هِشَامٍ: (هَاجَرَ أنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدِمُواْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِيْنَةَ فَأَسْلَمُواْ، ثُمَّ نَدِمُواْ عَلَى ذلِكَ وَأرَادُواْ الرَّجْعَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: كَيْفَ نَخْرُجُ؟ قَالُواْ: نَخْرُجُ كَهَيْأَةِ الْمُتَنَزِّهِيْنَ، فَقَالُواْ لِلْمُسْلِمِيْنَ: إنَّا قَدِ اجْتَوَيْنَا الْمَدِيْنَةَ فَنَخْرُجُ وَنَتَنَزَّهُ - أي نَتَفَسَّحُ - فَصَدَّقُوهُمْ، فَخَرَجُواْ فَجَعَلُواْ يُبَاعِدُونَ قَلِيلاً حَتَّى بَعُدُواْ، ثُمَّ أسْرَعُواْ فِي السَّيْرِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى لَحِقُواْ بهَا، وَكَتَبُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أنَّا عَلَى مَا فَارَقْنَاكُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيْقِ، وَلَكِنَّا اشْتَقْنَا إلَى أرْضَنَا وَاجْتَوَيْنَا الْمَدِيْنَةَ. ثُمَّ أنَّهُمْ أرَادُواْ أنْ يَخْرُجُوا فِي تِجِارَتِهِمْ إلَى الشَّامِ، فَاسْتَبْعَضَهُمْ أهْلُ مَكَّةَ وَقَالُواْ: أنْتُمْ عَلَى دِيْنِ مُحَمَّدٍ، فَإنْ لَقُوكُمْ فَلاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَخَرَجُواْ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهِيْنَ إلَى الشَّامِ، فَبَلَغَ ذلِكَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَا يَمْنَعُنَا أنْ نَخْرُجَ إلَى هَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ رَغِبُواْ عَنْ دِيْنِنَا وَتَرَكُوهُ، نَخْرُجُ إلَيْهِمْ فَنَقْتُلُهُمْ وَنَأْخُذُ مَا مَعَهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَيْفَ نَقََتُلُ قَوْماً عَلَى دِيْنِكُمْ، وَكَانَ بحَضرَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاكِتٌ لاَ يَنْهَى أحَدَ الْفَرِيقَيْنِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا يُبَيِّنُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَأْنَهُمْ). ومعناها: فِمَا لكُمْ من هؤلاءِ المنافقينَ حتى صِرْتُمْ في أمرِهم فرقتين من مُحِلٍّ لأموالِهم وَمُحَرِّمٍ.
﴿ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ ﴾؛ أي رَدَّهُمْ إلى كُفْرِهم وضلالَتِهم بما كَسَبُوا من أعمالِهم السيِّئَةِ، ونفاقِهم وخُبْثِ نِيَّاتِهم، وانتصاب ﴿ فِئَتَيْنِ ﴾ على الحالِ؛ يقالُ: مَا لَكَ قََائِماً؛ أي لِمَ قُمْتَ في هذه الحالةِ، وَقِيْلَ: على خَبَرِ (صار). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ ﴾؛ أي تريدون يا مَعْشَرَ المخلصينَ أن تُرْشِدُوا مَن خَذلَهُ اللهُ عن دِينه وحجَّته، وَقِيْلَ: معناهُ: أتقولونَ إنَّ هؤلاءِ مهتدون.
﴿ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾؛ أي لن تَجِدَ له هَادِياً، وَقِيْل: لن تَجِدَ لهُ طَريقاً إلى الْهُدَى. وقرأ عَبْدُاللهِ وأبَيّ: (واللهُ رَكَّسَهُمْ) بالتشديدِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ﴾؛ أي تَمَنَّى المنافقونَ والكفارُ أن تكفرُوا أنتُم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ كما كَفَروا، فتكونُوا أنتم وهم سواءٌ في الكفرِ.
﴿ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ أي أحِبَّاءَ.
﴿ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ في طاعةِ اللهِ.
﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ ﴾؛ فإنْ أعْرَضُوا عن الإيْمانِ والْهِجْرَةِ فَأْسِرُوهُمْ.
﴿ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾؛ في الحلِّ والْحَرَمِ.
﴿ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾؛ أي حَبيْباً في العَوْنِ والنُّصرةِ. وهذه الآية محمولةٌ على حالِ ما كانتِ الهجرةُ فَرْضاً كما قال صلى الله عليه وسلم:" أنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أقَامَ بَيْنَ أظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ "ثم نُسِخَ ذلك يومَ فتحَ مكَّة كما روَى ابنُ عبَّاس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ عليه السلام يَوْمَ الْفَتْحِ:" لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإنِ اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُواْ ". وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ﴾ لَمْ يدخل جوابَ التَّمنِّي؛ لأنه جوابَهُ بالفاءِ منصوبٌ، وإنَّما أرادَ العطفَ على معنى: وَدُّوا لو تكفرونَ وَوَدُّوا لو تكونُوا سواءً، مثلَ قولهِ:﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾[القلم: ٩] أي وَدُّوا لو تُدْهنُ وودُّوا لو تُدْهِنُونَ، ومثلُه﴿ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ ﴾[النساء: ١٠٢] أي وَودُّوا لو تَميلونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾؛ هذا استثناءٌ لِمَنِ اتَّصَلَ من الكفار بقومٍ بينهم وبين المسلمينَ مِيْثَاقٌ، قال ابنُ عبَّاس: (أرَادَ بالْقَوْمِ الأَسْلَمِيِّينَ، وَادَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا بُرْدَةَ هِلاَلَ بنَ عُوَيْمِرَ الأَسْلَمِيَّ وَأَصْحَابَهُ عَلَى أنْ لاَ يُعِينُوهُ وَلاَ يُعِيْنُوا عَلَيْهِ، فَمَنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ وَلَحِقَ بهِمْ بالأَنْسَاب أوْ بالْوَلاَءِ) يعني: لجأَ أحدٌ من الكفار في عهدِ الأسلَمِيِّينَ على حَسْب ما كان بين يدَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبينَ قُريشٍ من الموادعة؛ فدخلت خُزاعَةُ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ودخلت بَنُو كِنَانَةَ في عهدِ قُرَيشٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ ﴾؛ معناهُ: ويَصِلُونَ إلى قومٍ جاؤُكم ضَاقَتْ صدورُهم أن يقاتِلوكُم مع قومِهم.
﴿ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ﴾؛ معكُم وهم بَنُو مُدْلَجٍ.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ﴾؛ لَسَلَّطَ قوم هلالِ بن عويْمِر، وبنِي مُدْلَجٍ عليكم.
﴿ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾؛ كما قَتَلْتُمُوهُمْ ظالِمين لهم.
﴿ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ ﴾؛ أي فإنْ تركوكُم فلم يقاتِلُوكم مع قومِهم، واستسلَمُوا أو خَضَعُوا بالصُّلح والوفاءِ.
﴿ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾؛ أي حُجَّةً في القتالِ وقال أهلُ النَّحْوِ: معنى ﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ أي حَصِرَتْ. و ﴿ حَصِرَتْ ﴾ لا يكون حالاً إلاّ بعدَ؛ قالوا: ويجوزُ أن يكون ﴿ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ خبراً بعد خبرٍ؛ كأنه قالَ: أو جاؤُكم، ثم أخبرَ بعدُ فقالَ: ﴿ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقَاتِلُوكُمْ ﴾.
وفي الشواذِّ: (أوْ جَاؤُكمُ حَصْرَةَ صُدُورُهُمْ). وأمَّا اللامُ في ﴿ لَسَلَّطَهُمْ ﴾ فجوابُ ﴿ لَوْ شَاءَ اللهُ ﴾، واللاَّمُ في ﴿ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾ للبدلية، والفاءُ فاءُ عطفٍ بمنْزِلة الواو. وقد رويَ عن عطاءِ عنِ ابنِ عبَّاس: (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بقَوْلِهِ﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[النساء: ٨٩] بآيَةِ السَّيْفِ، هِيَ مُعَاهَدَةُ الْمُشْرِكِيْنَ وَمَوَادَعَتُهُمْ مَنْسُوخَةٌ بقَوْلِهِ:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥]). ولأن الله تعالى أعَزَّ الإسلامَ وأهلَهُ؛ فلا يُقْبَلُ من مشركي العرب إلاّ الإسلامُ أو السَّيْفُ بهذه الآيةِ، وقد أمرَنا اللهُ تعالى في أهلِ الكتاب بقتالِهم حتى يُسْلِمُوا أو يُعْطُوا الجزيةَ بقوله تعالى:﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾[التوبة: ٢٩] إلى قولهِ تعالى:﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[التوبة: ٢٩] فلا يجوزُ مُدَاهَنَةُ الكفَّار وتركُ أحدِهم على الكفرِ من غيرِ جِزْيَةٍ إذا كان بالمسلمين قُوَّةٌ على القتالِ، وأما إذا عَجَزُوا عن مقاومتِهم وخافُوا على أنفسِهم وذراريهم جازَ لَهم مهادنةُ العدوِّ من غير جزيةٍ يؤدُّونَها إليهم؛ لأن حَظْرَ الموادعةِ كان لسبب القوَّة؛ فإذا زالَ السببُ زالَ الْحَظْرُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ﴾؛ معناهُ: ستجدون قَوماً آخرينَ يريدون أن يَأَمَنُوكُمْ، أي يُظهرون لكم الصُّلْحَ، يريدونَ أنْ يأْمنُوكم بكلمةِ التَّوحِيدِ، يُظهرونَها لكم.
﴿ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ﴾؛ أي ويأمَنُوا من قومِهم بالكفرِ في السرِّ.
﴿ كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا ﴾؛ كلَّما دُعُوا إلى الكُفْرِ رَجَعُوا فيهِ. قال ابنُ عبَّاس: (هُمْ أسَدُ وَغَطَفَانُ؛ كَانَوا حَاضِري الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بالإسْلاَمِ وَهُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ قَوْمُهُ: بمَاذا آمَنْتَ؟ وَلِمَاذا أسْلَمْتَ؟ فَيَقُولُ: آمَنْتُ برَب العُودِ، وَبرَبِّ الْعَقْرَبِ وَبربِّ الْخَنْفُسَاءِ. يُرِيْدُونَ بهِ الاسْتِهْزَاءَ، فَإذا لَقُواْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ قَالُواْ: إنَّا عَلَى دِيْنِكُمْ؛ وَأظْهَرُواْ الإسْلاَمَ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِيْنَ عَلَى ذلِكَ بهَذِهِ الآيَةِ). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ ﴾؛ أيْ فانْ لَمْ يتركوا قتالكم ولَمْ يَستَدِيموا لكم في الصُّلْحِ، ولَمْ يَمنعوا أيديَهم عن قتالِكم.
﴿ فَخُذُوهُمْ ﴾؛ أي إسِرُوهُمْ.
﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾؛ أي حيث وَجَدْتُمُوهُمْ.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾؛ أي أهل هذه الصفة جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة بالقتال معهم، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾ أي ما كانَ لِمؤمنٍ في حُكْمِ اللهِ أن يَقْتُلَ مؤمناً بغيرِ حقٍّ إلاَّ أن يكونَ وُقُوعُ القتلِ منه على وجهِ الخطأ، وهو ألاَّ يكونَ قاصداً قَتْلَهُ فيكونُ مرفوعَ الإثْمِ والعقاب. واختلفَ المفسِّرون فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ؛ قال ابنُ مسعودٍ: (فِي عَيَّاشِ بْنِ رَبيْعَةَ الْمَخْزُومِيِّ؛ أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ فَأَسلَمَ مَعَهُ، فَخَافَ أنْ يَعْلَمَ أهْلُهُ بإسْلاَمِهِ، فَخَرَجَ هَارباً إلَى الْمَدِيْنَةِ؛ فَاخْتَفَى فِي جَبَلٍ مِنْ جِبَالِهَا؛ فَجَزِعَتْ أمُّهُ جَزَعاً شَدِيْداً حِيْنَ بَلَغَهَا إسْلاَمُهُ وَخُرُوجُهُ إلَى الْمَدِيْنَةِ؛ فَقَالَتْ لأَبيْهَا الْحُرَيْثِ وَأبي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - وَهُمَا أخَوَاهُ لأُمِّهِ -: وَاللهِ لاَ يُظِلُّنِي سَقْفٌ وَلاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى تَأْتُونِي بهِ، فَخَرَجَا فِي طَلَبهِ، وَخَرَجَ مَعَهُمَا الْحَرْثُ بْنُ زَيْدٍ حَتَّى أتَيَا الْمَدِيْنَةَ، فَوَجَدَا عَيَّاشاً فِي أطَمٍ - أيْ جَبَلٍ - فَقَالاَ لَهُ: إنْزِلْ؛ فَإنَّ أمَّكَ لَمْ يَأْوهَا سَقْفُ بَيْتٍ بَعْدَكَ، وَقَدْ حَلَفَتْ لاَ تَأْكُلُ طَعَاماً وَلاَ تَشْرَبُ شَرَاباً حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهَا، وَلَكَ عَلَيْنَا ألاَّ نُكْرِهَكَ عَلَى شَيْءٍ؛ وَلاَ نَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ دِيْنِكَ، فَحَلَفُواْ لَهُ عَلَى ذلِكَ فَنَزَلَ إلَيْهِمْ، فَأَوْثَقُوهُ بنِسْعَةٍ ثُمَّ جَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. ثُمَّ قَدِمُواْ بهِ عَلَى أمِّهِ، فَلَمَّا أتَاهَا قَالَتْ لَهُ: وَاللهِ لاَ أحِلُّكَ مِنْ وثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بالَّذِي آمَنْتَ بهِ، ثُمَّ تَرَكُوهُ مَطْرُوحاً مَوْثُوقاً فِي الشَّمْسِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أعْطَاهُمُ الَّذِي أرَادُوا، فَأَتَاهُ الْحُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَيَّاشُ؛ هَذا الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ الْهُدَى لَقَدْ تَرَكْتَ الْهُدَى، وَلَئِنْ كَانَ ضَلاَلَةً لَقَدْ كُنْتَ عَلَيْهَا، فَغَضِبَ عَيَّاشُ مِنْ مَقَالَتِهِ، قَالَ: واللهِ لاَ ألْقَاكَ خَالِياً إلاَّ قَتَلْتُكَ. ثمَّ إنَّ عَيَّاشاً أسْلَمَ بَعْدَ ذلِكَ، وَهَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِيْنَةِ، ثُمَّ أسْلَمَ بَعْدَ ذلِكَ الْحُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، ولَمْ يَعْلَمْ عَيَّاشُ بإسْلاَمِهِ، فَبَيْنَمَا عَيَّاشُ يَسِيْرُ بظَهْرِ قِبَاءَ إذْ لَقِيَ الْحُرَيْثَ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: وَيْحَكَ يَا عَيَّاشُ! إنَّهُ قَدْ أسْلَمَ، فَرَجَعَ عَيَّاشُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ كَانَ مِنْ أمْرِي وَأمْرِ الْحُرَيْثِ مَا عَلِمْتُ؛ وَإنِّي لَمْ أعَلْمَ بإسْلاَمِهِ حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ ﴾؛ أي ما كان لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً الْبَتَّةَ إلاَّ خَطَأً ولا عمداً بحالٍ، لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً على غيرِ قصدٍ، أو قَتَلَهُ على ظنِّ أنهُ مُبَاحُ الدَّمِ فعليه عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ في مالهِ، وعليه وعلى عَاقِلَتِهِ تسليمُ دِيَّةٍ كاملةٍ إلى أولياء المقتولِ، ويكونُ القاتلُ كواحدٍ من العاقلةِ، وإذا لم يكن به عاقلةٌ كانت الديَّةُ في بيتِ المال في ثلاثِ سنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ﴾؛ معناهُ: إلاّ أن يَتَصَدَّقَ أولياءُ المقتولِ، فيتركُوا الديَّةَ ويعفُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾؛ أي إن كانَ المقتولُ خطأً من قومِ حَرْبٍ لكم، فَقُتِلَ في دار الحرب وهو مؤمنٌ أسلمَ في دار الحرب ولم يهاجر حتى قُتِلَ، فعلى قَاتِلِهِ عِتْقُ رقبةٍ مؤمنة، ولم يذكرِ الديَّة لأن دمَ المقتولِ لا قيمةَ لهُ، إذْ لَمْ يُحْرِّزْ نَفْسَهُ بدَار الإسْلاَمِ، وَلَيْسَ هو فِي صُلْحِ الْمُسْلِمِيْنَ. وَقِيْلَ: إنَّما لم يَذْكُرِ الديَّة؛ لِئَلاَّ يُسَلِّمَ إلى أهلِ الحرب ديَةً فَيَقْوَوْنَ بها عَلَيْنَا، وهذا القولُ يقتضي أنَّ الديَّةَ واجبةٌ، إلاّ أنَّها لا تُسَلَّمُ إليهم. وفي وجوب هذه الديَّةِ خلافٌ بين العلماءِ. قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾؛ أي إن كان المقتولُ خطأً من قومٍ بينَكم وبينَهم عهدٌ أو صُلْحٌ، فعلَى القاتلِ وعاقلته تَسْلِيْمُ ديَّةٍ كاملةٍ إلى أولياءِ المقتولِ، وعلى القاتلِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ. والفائدةُ في إعادةِ ذكر المؤمنة: أنه لو لَمْ يُعِدْ ذكرَها لكان يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أنه لَمَّا وجبَ في المؤمنِ رقبةٌ في مثل صفتهِ تجبُ أيضاً قي قتلِ الكافر رقبةٌ في مثل صفةِ المقتُولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾؛ أي من لم يَجِدْ رقبةً مؤمنة، فعليهِ صيامُ شهرين متوالِيَين لا يفصلُ بين صيامِهما. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي اعْمَلُوا ما أمرَكم اللهُ به للتوبةِ يَتُوبُ اللهُ عليكم، وهذا نُصِبَ على ما يقالُ: فعلتُ كذا حَذراً من الشِّراء. وإنَّما سُميت الكفارةُ توبةً؛ لأن قاتلَ الخطأ كان عَاصِياً في سبب القتلِ من حيثُ إنه لَمْ يَحْتَرِزْ، وإن لم يكن عاصِياً في نفسِ القتل. ويقالُ: معنى التَّوْبَةِ: التَّوْسِعَةُ والتخفيفُ من اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي عَلِيْمٌ بكُلِّ شيءٍ حَكِيْمٌ بما يأمرُكم به من الديَّةِ والكفَّارةِ، وقال بعضُهم: نَزَلَتْ الآية في أبي الدَّرْدَاءِ حينَ قَتَلَ رَاعِياً خطأً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ خَبَابَةَ؛ وَجَدَ أخَاهُ قَتِيْلاً فِي بَنِي النَّجَّار؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ بَنِي فِهْرٍ، وَقَالَ لَهُ:" إئْتِ بَنِي النَّجَار فَأَقْرِئْهُمْ مِنِّي السَّلاَمَ؛ وَقُلْ لَهُمْ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأَمُرُكُمْ إنْ عَلِمْتُمْ قَاتِلَ هِشَامَ أنْ تَدْفَعُوهُ إلَى مَقِيْسٍ يَقْتَصُّ مِنْهُ، وَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا لَهُ قَاتِلاً أنْ تَدْفَعُواْ إلَيْهِ دِيَّتَهُ "فَأَبْلَغَهُمُ الْفِهْرِيُّ ذلِكَ، فَقَالُواْ: سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ؛ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلاً؛ وَلَكِنَّا نُؤَدِّي دِيَتَهُ، فَأَعْطَوْهُ مَائِةً مِنَ الإبلِ، وَانْصَرَفَا رَاجِعَيْنِ نَحْوَ الْمَدِيْنَةِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِيْنَةِ قَرِيْبٌ، فَوَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إلَى مِقْيَسٍ وَقَالَ لَهُ: أيُّ سَبَبٍ صَنَعْتَ بقَبُولِ دِيَّةِ أخِيْكَ فَتَكُونَ عَلَيْكَ سُبَّةٌ، أقْتُلِ الَّذِي مَعَكَ تَكُونُ نَفْسٌ مَكَانَ نَفْسٍ وَفَضْلَ الدِيَّةِ، فَرَمَى الْفِهْرِيَّ بصَخْرَةٍ فَشَدَخَ رَأَسَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيْراً مِنْهُمَا وَسَاقَ بَقِيَّتَهَا رَاجِعاً إلَى مَكَّةَ كَافِراً، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَتَلْتُ بهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ   سُرَاةَ بَنِي النَّجَّار وَأرْبَابَ فَارعِفَأَدْرَكْتُ ثَأْري وَاضْطَجَعْتُ مُوسَّداً   وَكُنْتُ إلَى الأَوْثَانِ أوَّلَ رَاجِعِفَنَزَلَتْ هذه الآيةُ، وَقُتل مِقيَسُ يومَ فتحِ مكَّة. ومعناها: ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً في قلتهِ مُسْتَحِلاًّ لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيْهَا باستحْلالهِ لَهُ وارتدادهِ عن إسلامهِ.
﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ﴾؛ بقَتْلِهِ غيرَ قاتلِ أخيهِ؛ ﴿ وَلَعَنَهُ ﴾؛ أي بَاعَدَهُ من رحمتهِ.
﴿ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾؛ بجُرْأتِهِ على اللهِ بقتلِ نفسٍ بغير حقٍّ. واختلفَ الناسُ في حُكْمِ هذه الآيةِ، قالتِ الخوارجُ والمعتزلة: (إنَّهَا فِي الْمُؤْمِنِ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً، وَهَذا الْوَعِيْدُ لاَحِقٌ بهِ). وقالت المرجئةُ: (إنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِناً، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً فَإنَّهُ لاَ يُخَلَّدُ فِي النَّار). وقالت طائفةٌ من أصحاب الحديث: كُلُّ مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّار غَيْرَ مُؤَبَّدٍ يُخْرَجُ بشَفَاعَةِ الشَّافِعِيْنَ، وَزَعَمَتْ: أنَّهُ لاَ تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. والصحيحُ: أنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً لا يَكْفُرُ بذلك ولا يخرجُ من الإيْمانِ؛ إلاَّ إذا فَعَلَ ذلك مُسْتَحِلاً لهُ، فإنْ أقِيدَ بمن قتلَه فذلك كفارةٌ له، وإن كان تائِباً من ذلك ولم يكن مُعَاداً كانت التوبةُ أيضاً كفَّارةً له، فإنْ ماتَ بلا توبةٍ ولا قَوْدٍ فأمرهُ إلى الله؛ إنْ شاءَ غفرَ لهُ وإن شاءَ عذبه على فعلهِ ثم يخرجهُ بعد ذلك إلى الجنَّةِ التي وعدَهُ بإيْمَانهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ الميعادَ، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعيدِ يكونُ منه تَفَضُّلاً، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعدِ يكونُ خِلْفاً، تعالَى اللهُ عن الخلفِ عُلُوّاً كبيراً. والدليلُ على أنَّ المؤمنَ لا يصيرُ بقتلهِ المؤمنَ كافراً، ولا خارجاً عن الإيْمان قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ ﴾[البقرة: ١٧٨] ولا يكون القصاصُ إلاّ في قتلِ العَمْدِ، فبينما هم مؤمنين وآخَى بينهُم بقوله﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾[البقرة: ١٧٨] ولم يُرِدْ به إلاّ الأُخُوَّةَ في الإيْمان، والكافرُ لا يكونُ أخاً للمؤمنِ، ثم قالَ:﴿ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾[البقرة: ١٧٨] ولا يجعلُ ذلك للكافرِ، ثُم أوجبَ على المعتدِي بعد ذلك عذاباً أليماً لقوله تعالى:﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[البقرة: ١٧٨] ولم يُوقِعِ الغضبَ ولا التخليدَ في النار ولا يسمَّي هذا العذابُ ناراً، والعذابُ قد يكون ناراً، وقد يكون غيرَها في الدُّنيا، قال اللهُ تعالى:﴿ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾[التوبة: ١٤] يعني القَتْلَ وَالأَسْرَ، ولو كان القتلُ يخرجهم من الإيْمان لَمَا خاطبَهم بقولهِ:﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: ١٠٤]، وقال تعالى:﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ ﴾[الحجرات: ٩] الآية واقتِتَالُهم على وجهِ العَمْدِ. ورويَ:" أنَّ مُؤْمِناً قَتَلَ مُؤْمِناً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأَمُرِ القَاتِلَ بالإيْمَانِ، ولو كانَ كافراً لأَمَرَهُ أوَّلاً بالإيْمَان، وقال لطالِب الدَّمِ: " أتَعْفُو؟ " قَالَ: لاَ، قَالَ: " أَتَأْخُذُ الدِّيَّةَ؟ " قَالَ: لاَ، فَأَمَرَ بقَتْلِهِ، ثُمَّ أعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً حَتَّى قَبلَ الدِّيَّةَ، ولم يحكُمْ عليه بالْكُفْرِ، "فلو كان ذلكَ كُفْراً لَبَيَّنَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك كان ردَّةً تَحْرُمُ بها زوجتُه عليه، ولم يَجُزْ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الإغْفَالُ عنهُ؛ لأنَّهُ النَّاصِحُ الشَّفِيْقُ المنعوتُ بالتَّأدِيب والتعليمِ. ودليلٌ آخر أن القاتلَ لا يصيرُ كافراً: هو أنَّ الكُفْرَ والجُحُودَ والإباءَ والشِّرْكَ إضافةٌ، والقاتِلُ لم يَجْحَدْ ولم يَأْبَ قبولَ الْفَرَائِضِ، ولا أضافَ إلى الله تعالى شَرِيكاً، ولو جازَ أن يكون كَافراً ولم يَأْتِ بالكفرِ لَجَازَ أن يكونَ مؤمناً مَن لم يَأْتِ بالإيْمَان. قال: تَعَلَّقَتِ الخوارجُ والمعتزلةُ بهذه الآيةِ؛ وقالُوا: إنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً يبقَى في النَّار مُؤَبَّداً؛ لأن اللهَ تعالى قال (خَالِداً فِيهَا). يقال لَهم: إنَّ هذه الآيةَ نزلت في كَافِرٍ قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً وقد ذكرنا القصَّةَ فيه، وسياقُ الآية يدلُّ عليهِ؛ ورواياتُ المفسِّرين تدلُّ على أنَّها لو سَلَّمْنَا بأنَّها نزلَتْ في مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فإنَّا نقولُ لَهم: لَوْ قُلْتُمْ إنَّ الخلودَ التأبيدُ فأخبرونا عن قولهِ تعالى:﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ ﴾[الأنبياء: ٣٤] هُنَا في الدُّنيا، فإن قلتم: إنَّهُ أرادَ التأبيدَ؛ فالدُّنيا تزولُ وتفنَى، ومثله﴿ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ ﴾[الأنبياء: ٣٤]، وقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾[الهمزة: ٣].
وإن قلتُم: لَمْ يُرِدْ به التأبيدَ؛ وذلك القولُ منكم لا بُدَّ منه؛ فقد ثَبَتَ أن معنَى الخلودِ غيرُ معنى التَّأبيدِ، وكذلكَ العربُ تقول: لأُدْخِلَنَّ فُلاناً في السِّجْنِ، فإنْ قُلْتُمْ: المرادُ به التأبيدُ؛ فالسجنُ ينقطع ويفنَى ويَموتُ المسجون أو يخرجُ منه، فإنْ قالُوا: إنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قالَ ﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ دلَّ على كُفْرِهِ؛ لأن اللهَ تعالى لا يَغْضَبُ إلاّ على مَن كان كافراً، قُلْنَا: هذه الآيةُ لا توجِبُ عليه الغضبَ؛ لأنَّ معناهُ: ﴿ فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ﴾، وجزاؤهُ أنْ يغضبَ اللهُ عليه ويَلْعَنَهُ، وما ذكرَهُ اللهُ وجعله جزاءَ الشيء فليسَ يكونُ ذلك واجباً؛ لأنه لو كان على الوجوب لكان كقولهِ:﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾[الأنبياء: ٢٩] وهي لغةُ العرب إذا قال القائل: جزاؤُه كذا؛ ثم لَمْ يُجَازهِ لم يكن كاذباً، وإذا قالَ: أجْزِيْهِ ذلكَ ولم يفعل كان كاذباً، فَعُلِمَ أنَّ بينهما فَرْقاً واضحاً. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولهِ تعالى:" ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ﴾ قَالَ: " هِيَ جَزَاؤُهُ أنْ جَازَاهُ " "فإن قِيْلَ: قولهُ: ﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ من الأفعالِ الماضية، ومتى قُلْتُمْ إنَّ المرادَ به: فجزاؤُه ذلكَ أنْ جَازَاهُ كان مِن الأفعالِ المستقبلة؟ يقالُ لَهم: قد يَرِدُ الخطابُ باللفظ الماضي والمرادُ منه المستقبلُ كقوله تعالى﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾[البروج: ٨] أي إلاَّ أن آمَنُوا باللهِ، ومثلهُ كثير. وأما قولُ من زَعَمَ: أنهُ لا توبةَ لِمَنْ قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً، فإنه مُخالفٌ للكتاب والسُّنة، وذلكَ أن اللهَ تعالى يغفرُ الذنوب جميعاً، وأمرَ بالتوبةِ منها، فقالَ عَزَّ وَجَلَّ﴿ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾[النور: ٣١] ولم يَفْصِلْ بين ذنبٍ وذنب، وإذا كان اللهُ تعالى يَقْبَلُ التوبةَ من الكُفْرِ فَقَبُولُهَا من القتلِ أوْلَى، وقالَ تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ... ﴾[الفرقان: ٦٨] إلى قولهِ تعالى:﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾[الفرقان: ٧٠] وقال إخْوَةُ يوسُف:﴿ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾[يوسف: ٩] ثم قالُوا:﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾[يوسف: ٩].
أي تَائِبيْنَ." وسُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أمِنْ كُلِّ ذنْبٍ يُقْبَلُ التَّوْبَةُ؟ قال: " نَعَمْ " ". ثم المقتول إذا اقْتَصَّ منهُ الولِيُّ فذلك جزاؤُه في الدُّنيا، وفيما بين المقتولِ والقاتلِ الأحكامٌ باقية في الآخرةِ؛ لأن الولِيَّ وإنْ قَتَلَهُ فإنَّمَا أخذ حقَّ نفسهِ، وأمَّا المقتولُ فلم يكن له في القِصاصِ منفعةٌ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُو ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" نَزَلَتْ فِي مِرْدَاسِ بْنِ نُهَيْكٍ؛ كَانَ مُسْلِمَاً لَمْ يُسْلِمْ مِنْ قَوْمِهِ غَيْرُهُ، فَسَمِعُوا بسَرِيَّةٍ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُرِيْدُهُمْ فَهَرَبُوا كُلُّهُمْ، وأَقَامَ الرَّجُلُ فِي غَنَمِهِ؛ لأَنَّهُ كَانَ عَلَى دِيْنِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْلَ خَافَ أنْ يَكُونُواْ مِنْ غَيْرِ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَأَلْجَأَ غَنَمَهُ إلَى عَاقُولٍ مِنَ الْجَبَلِ وَهُوَ الْعِوَجُ، فَلَمَّا سَمِعَهُمْ يُكَبرُونَ عَرَفَ أنَّهُمُ الصَّحَابَةُ؛ فَكَبَّرَ وَنَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ؛ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَغَشَاهُ أسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَتَلَهُ وَسَاقَ غَنَمَهُ، وَكَانَ أمِيْرُ السَّرِيَّةِ غَالِبَ بْنَ فُضَالَةَ اللَّيْثِيّ، ثُمَّ رَجَعُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلِكَ وَجْداً شَدِيْداً وَقَالَ: " قَتَلْتُمُوهُ إرَادَةَ مَا مَعَهُ " فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ؛ فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أسَامَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: " فَكَيْفَ بلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ!؟ " قَالَ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَهُ أنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً ". وعن الحسن: (أنَّ أنَاساً مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ لَقُوا أنَاساً مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَشَدَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَمَعَهُ مَتَاعٌ، فَلَمَّا غَشِيَهُ السَّيْفُ قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَكَذبَهُ ثُمَّ أوْجَرَ السِّنَانَ وَأخَذ مَتَاعَهُ، وَكَانَ وَاللهِ قَلِيْلاً، فَأُخْبرَ بذلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَان:" وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ جَاءَ السَّيْفُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ بَيْنَما نَحْنُ نَطْلُبُ الْقَوْمَ وَقَدْ هَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إذْ لَحِقْتُ رَجُلاً بالسَّيْفِ، فَلَمَّا أحَسَّ السَّيْفَ وَاقِعٌ بهِ، قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ؛ إنِّي مُسْلِمٌ؛ فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " قَتَلْتَ مُسْلِماً! " قَالَ: يَا نَبيَّ اللهِ؛ إنَّهُ قَالَ ذلِكَ مُتَعَوِّذاً، فَقَالَ: " فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبهِ! فَنَظَرْتَ أصَادِقاً هُوَ أمْ كَاذِباً " قَالَ: لَوْ شَقَقْتُ عَنْ قَلْبهِ مَا كَانَ يُعْلِمُنِي؛ هَلْ قَلْبُهُ إلاَّ بضْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ، قَالَ: " فَأنْتَ قَتَلْتَهُ؛ لاَ مَا فِي قَلْبهِ عَلِمْتَ؛ وَلاَ لِسَانَهُ صَدَّقْتَ؛ إنَّمَا يُعَبرُ عَنْهُ لَِسانُهُ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: " لاَ أسْتَغْفِرُ لَكَ " قَالَ: فَمَا لَبثَ الْقَاتِلُ أنْ مَاتَ فَدَفَنُوهُ؛ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ إلَى جَانِب قَبْرِهِ، فَعَادُواْ فَحَفَرُواْ لَهُ وَأمْكَنُوا فَدَفَنُوهُ؛ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ثَلاَث مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأى ذلِكَ قَوْمُهُ اسْتَحْيَوا وَحَزِنُوا وَأخَذُواْ برِجْلِهِ فَألْقَوْهُ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَاب، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لاَ؛ إنَّهَا لَتَنْطَبقُ عَلَى مَنْ هُوَ أعْظَمُ جُرْماً مِنْهُ، وَلَكِنْ أرَادَ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ حُرْمَةَ الدَّمِ ". ومعنى الآيةِ: يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إذا خَرَجْتُمْ مسافرين في طاعةِ الله فَتَبَيَّنُوا؛ أي مَيِّزُوا الكافرَ من المؤمنِ بالدلائلِ والعلامات، ولا تَعْجَلُوا بالقتلِ حتى يَتَبَيَّنَ لكم ذلكَ. ومن قرأ (فَتَثَبَّتُوا) بالثَّاء فمعناهُ: قِفُوا في أمرِ مَن أظهرَ لكم الإسلامَ ولا تَعْجَلُوا بقتلهِ.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ ﴾؛ أي الانقيادَ والمتابعةَ وأسْمَعَكُمْ كلامَ الإسلامِ؛ ﴿ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ فتقتلوهُ وتطلبون برَدِّ إسلامهِ استغنامَ ما معه من المالِ.
﴿ فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ﴾؛ يظهرُكم عليها، ويبيحُ لكم أخذها. ومن قرأ (السَّلام) بالألفِ فمعناهُ: لا تقولوا لِمَنْ سَلَّمَ عليكُم، ودعاكُم لَسْتَ مُؤْمِناً، والتسليمُ من علاماتِ الإسلام، به يتعارفُ المسلمون، وبه يُحَيِّي بعضُهم بعضاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ يعني تطلبُون بذلك الغُنْمَ والغنيمةَ وسلبَهُ، وعرضُ الدنيا منافعُها ومتاعُها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾؛ أي مِن قبلِ الهجرة تأمَنُونَ في قومِكم بين المؤمنينَ بلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ فكيفَ تُخيفون وتقتلونَ من قالَها، فنهاهُم اللهُ تعالى أن يُخيفوا أحداً يَأْمَنُ بما كانوا يَأْمَنُونَ بمثلهِ وهم في قومِهم. وَقِيْلَ: معناهُ: كنتم تُقْتَلُونَ وتُؤْخَذُ أموالُكم قبلَ الْهِجْرَةِ.
﴿ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ بتوفيقِ الإيْمان والْهِجرةِ.
﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾؛ ولا تُخيفوا أحداً بأمرٍ كنتم تأمنونَ بمثله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾؛ مِن القتلِ وغيرِ ذلك خَبيْراً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ ﴾؛ أي لا يستوِي في الفَضْلِ والثَّواب القاعدونَ عنِ الجهادِ من المؤمنين الأصحَّاء؛ الذين لا ضَرَرَ بهم من المرضِ والزَّمَانَةِ؛ ولا عُذْرَ يَمنعُهم من الجهادِ.
﴿ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ ﴾؛ في طاعةِ الله بالإنفاقِ من أموالِهم والخروج بأنفُسِهم. رويَ: أنَّهُ نَزَلَ أوَّلاً (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) فَجَاءَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ وَرَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ وَهُمَا أعْمَيَانِ، فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أمَرَ اللهُ بالْجِهَادِ وَفَضَّلَ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ، وَحَالُنَا عَلَى مَا تَرَى، فَهَلْ لَنَا مِنْ رُخْصَةٍ؟ وَاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَجَاهَدْنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ ﴿ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ ﴾ أي غير أولي الضرر فِي الْبَصَرِ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الأجْرِ مَا لِلْمُجَاهِدِيْنَ. وروَى ابنُ أبي لَيْلَى؛ قال: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) قَالَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ: اللَّهُمَّ أنْزِلْ عُذْري، فَنَزَلَ قَوْلُهُ ﴿ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ ﴾ فَوُضِعَتْ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ بَعْدُ ذلِكَ يَغْزُو وَيَقُولُ: إدْفَعُواْ إلَيَّ اللِّوَاءَ؛ وَيَقُولُ: أقِيْمُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ). وعن زيد بن ثابت قال: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، وَقَدْ أمْلَى عَليَّ قَوْلُهُ: ﴿ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ فَعَرَضَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ فَثَقُلَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِهِ حَتَّى كَادَتْ تَنْحَطِمُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ ﴿ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ ﴾.
ومَن قرأ (غَيْرَ أوْلِي الضَّرَر) بالنصب فهو نصبٌ على الاستثناءِ، كأنَّهُ قالَ: إلاَّ أوْلِي، كما يقالُ: جاءَنِي القومُ غيرَ زيدٍ. ويجوزُ أن يكونَ على الحالِ؛ أي لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ وَالمُجَاهِدُونَ، وهذا كما يقالُ: جاءَنِي زيدٌ غيرَ مريضٍ؛ أي صَحِيْحاً. ومن قرأ (غَيْرُ) بالرفعِ، فيجوزُ الرفعُ في استثناءِ الإثباتِ من النَّفي، ويجوزُ أن يكونَ (غَيْرُ) صفةٌ للقاعدين، وإنْ كان أَصلُ (غَيْرُ) أن تكونَ صفةً كما هو نكرةٌ. المعنى: لاَ يَسْتَوِي القاعدونَ الذي هُم غَيْرُ أولِي الضَّرَر والْمُجَاهِدُونَ في الفَضْلِ والثَّواب، وإن كانوا كلُّهم مؤمنين. واختارَ بعضُهم قراءةَ الرفعِ؛ لأنَّ معنى الصِّفةِ على لفظةِ (غَيْرُ) أغلبُ من معنى الاستثناء، واختارَ بعضُهم قراءةَ النصب لأن قولَه ﴿ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ ﴾ نزلَ بعد قولهِ: (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سبيلِ اللهِ) فيكونُ معنى الاستثناءِ به ألْيَقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً ﴾؛ أي فَضِيْلَةً ومَنْزِلَةً؛ ﴿ وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾؛ أي وُكِلاَ الفريقين الْمُجَاهِدُ والقاعدُ وعدَهم اللهُ الْحُسْنَى يعنِي الْجَنَّةَ بالإيْمان. وفي هذا دليلٌ أنَّ الجهادَ فرضٌ على الكفايةِ؛ لأنه لو كان فَرْضاً على الأعيانِ لَمْ يَجُزْ أن يكونَ القاعدُ عنه موعودٌ بالْحُسنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ أي فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهدين على القاعدينَ عنِ الجهادِ بغيرِ عُذر ثواباً حَسَناً في الجنَّة، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أجْراً) نُصِبَ على التَّفسيرِ. وقال الأخفشُ: (عَلَى الْمُقَدَّر؛ تَقْدِيْرُهُ: آجَرَهُمُ اللهُ أجَراً). والفائدةُ في تكرار لفظ التفضِيل: أنَّ في الأول بيانُ تفضيلِ مَن جاهدَ بالمال والنفسِ جميعاً؛ وفي آخرِ الآية بيانُ تفضيلِ الْمُجَاهِدِ مُطْلقاً، ويدخلُ فيه الْمُجَاهِدُ بالمالِ والنَّفْسِ، والْمُجَاهِدُ بالمالِ دونَ النفس، وبالنفس دونَ المالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ﴾؛ هذا بدلٌ من قولهِ تعالى (أجْراً) أو صفةٌ له؛ وهو موضع نصبٍ. وعن ابن مُحَيْرِيْزِ أنهُ قال: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ سَبْعِيْنَ دَرَجَةً؛ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيْرَةَ سَبْعِيْنَ خَرِيْفاً لِلْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ). قولهُ: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾؛ أي غَفُوراً لذنب مَن جاهدَ، رَحِيْماً إذ ساوَى في وعدِ الْحُسنى بينَ مَن له العذرُ وبين مَن جاهدَ. فإنْ قِيْلَ: كيفَ ذكرَ التفضيلَ في هذه الآية بدرجاتٍ، وفي الآيةِ التي قبلها بدرجةٍ؟ قُلْنَا: قالَ بعضُهم: أراد بذكرِ الدرجَة في الآيةِ الأُولى: الفضيلةَ والكرامةَ في الدُّنيا، وبذكرِ الدرجاتِ درجاتِ الجنَّة منال في النَّعيمِ، بعضُها أعلى من بعضٍ، وذكرَ المغفرةَ لبيانِ خُلُوصِ نعيمِهم عنِ الكَدَر، كما رويَ في الخبرِ: (أنَّ اللهَ يُنْسِيْهِمْ فِي الْجَنَّةَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوب فِي الدُّنْيَا حَتَّى لاَ يَلْحَقَهُمُ الْحَيَاءُ)، وذكرَ الدرجةَ لبيانِ أنَّ اللهَ أعطاهُم ذلكَ النفعَ العظيم على جهةِ النِّعْمَةِ مع ما يضافُ إليه من الفضلِ بالزيادة في النِّعْمةِ. وقال بعضُهم: أرادَ بالتفضيلِ في الدرجةِ في الآية الأُولى تفضيلَ الْمُجَاهِدِيْنَ على القاعدينَ المعذورينَ، وبالآيةِ الثانية تفضيلَهم على القاعدين الذين لا عُذْرَ لَهم.
قوله عزّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ تَكَلَّمُواْ بالإسْلاَمِ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ - أيْ أظْهَرُوا الإسْلاَمَ وَأسَرُّواْ النِّفَاقَ - فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَرَجُواْ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ إلَى الْمُسْلِمِيْنَ، فَلَمَّا رَأوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِيْنَ قَالُواْ وَهُمْ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ: غَرَّ هَؤُلاَءِ دِيْنُهُمْ، فَقُتِلُواْ يَوْمَئِذٍ فَضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)، وَقَالَتْ لَهُمْ: لِمَاذَا خَرَجْتُمْ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ وَتَرَكْتُمُ الْهِجْرَةَ؟! فَكَانَ سُؤَالُ الْمَلاَئِكَةِ لَهُمْ بهَذا عَلَى سَبيْلِ التَّقْرِيْعِ. ويجوزُ أن يكونَ معناهُ: فِيمَ كُنْتُمْ في المشركينَ أمْ فِي المسلمينَ؟ ﴿ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي مَقْهُورُونَ في أرضِ مكَّة، فأخرَجُونا معهم كَارهينَ، قالتِ الملائكةُ: ﴿ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً ﴾؛ يعني أرضَ المدينةِ واسعة أمِيْنَةً.
﴿ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ﴾؛ أي إليها، وتخرجُوا من بين أظْهُرِ المشركينَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ ﴾ نُصِبَ على الحالِ بمعنى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ في حال ظُلْمِهِمْ لأنْفسِهم بالشِّركِ والنِّفَاقِ، والأصلُ (ظَالِمِيْنَ) إلاَّ أن النونَ حُذِفَتْ استخفافاً وهي ثانيةٌ في المعنى، فيكونُ هذا في معنى النكرةِ وإنْ أضيفََ إلى المعرفةِ، كما في قولهِ تعالى:﴿ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ ﴾[المائدة: ٩٥].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ أي تَقْبضُ أرواحَهم عند الموتِ، وإنَّما حُذفت التاءُ الثانية لاجتماع التَّاءين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾؛ أي أهلَ هذه الصِّفة مصيرُهم ومنْزِلتهم جهنمُ؛ ﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾؛ لِمن صارَ إليها، واختلفوا في خَبَرِ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾؛ قال بعضُهم: خبرهُ: ﴿ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ﴾، أي قالوا لهم: فيما كنتم، قال بعضُهم خبرهُ: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾.
وفي قولهِ تعالى: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ﴾ دليلٌ أنهُ لا عذرَ لأحدٍ في المقام على المعصيةِ في بَلَدِهِ لأجلِ الْمَالِ والوَلَدِ والأهلِ، بل ينبغي أن يُفارقَ وَطَنَهُ إن لم يُمكنه إظْهَارُ الْحَقِّ فيهِ، ولِهذا رويَ عن سعيدِ بن جُبير أنه قالَ: (إذا عُمِلَ بالْمَعَاصِي فِي أرْضٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا)، ورويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" مَنْ فَرَّ بدِيْنِهِ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ، وَإنْ كَانَ شِبْراً اسْتَوْجَبَ بهِ الْجَنَّةَ، وَكانَ رَفِيْقَ ابْرَاهِيْمَ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم "
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ﴾؛ استثناءٌ من قولهِ تعالى:﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾[النساء: ٩٧] والمعنَى: إلاّ مَن صَدَقَ أنه مُسْتَضْعَفٌ من الشُّيوخِ والوِلْدَانِ ونِسَاءٍ لا يَجدونَ نَفَقَةَ الخروجِ إلى المدينة ولا يُمكنهم الخروجُ إليها، ولا يعرفونَ الطريقَ حتى يُهاجروا، والمعنَى: إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ المخلصينَ الْمُقْهُوريْنَ بَمَكَّةَ لم يستطيعوا الْهِجْرَةَ، ومُنِعُوا من اللُّحُوقِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهم يريدونَ اللُّحُوقَ بهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾؛ قال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ لاَ يَعْرِفُونَ طَرِيْقَ الْمَدِيْنَةِ). وقالَ ابنُ عبَّاس: (كُنْتُ أنَا وَأمِّي مِنَ الَّذِيْنَ لاَ يَسْتَطِيْعُونَ حِيْلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبيلاً، وَكُنْتُ غُلاَماً صَغِيراً يَومَئِذٍ، فَنَحْنُ مِمَّنِ اسْتَثْنَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة من المستضعفين، عَسَى اللهُ أنْ يَتَجَاوَزَ عنهُم، و ﴿ عَسَى ﴾ مِن اللهِ كلمةُ إيجابٍ؛ لأنه أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ، والفائدةُ في ذِكْرِ هذا اللفظِ أنْ يكونَ العبدُ بين الخوفِ والرَّجاءِ. وَقَوْلُهُ تَعََالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾؛ أي لَم يَزَلْ عَفُوّاً عن عبادهِ غَفُوراً لَهم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾؛ أي مَن يَخْرُجْ في سبيلِ الله الذي أمرَ اللهُ بالْهِجْرَةِ فيهِ وهو سبيلُ المدينةِ؛ يَجِدْ في الأرض مُتَحَوَّلاً كثيراً وَمُتَزَحْزَحاً عَمَّا يكرهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَسَعَةً ﴾ أي سَعَةً في الرِّزْقِ. وقال قتادةُ: (سَعَةً فِي إظْهَار الدِّيْنِ) وإنَّما قال ذلكَ لِمَا كان يلحقُهم من الضِّيْقِ من جهةِ الكفَّار في إظهار دِينهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي اللَّيْثِ شَيْخٌ كَبيْرٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدُعُ بْنُ ضَمِرَةَ فَقَالَ: أنَا وَاللهِ مِمَّنِ اسْتَثْنَانَا اللهُ تَعَالَى فَإنِّي لاَ أجِدُ حِيْلَةً، وَاللهِ لاَ أبِيْتُ لَيْلَةً بَمَكَّةَ، فَخَرَجُواْ بهِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى سَريْرِهِ؛ فَأَتَواْ بهِ التَّنْعِيْمَ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَصَفَّقَ بيَمِيْنِهِ عَلَى شِمالِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذِهِ لَكَ وَهَذِهِ لِرَسُولِكَ أبَايعُكَ عَلَى مَا بَايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَمَاتَ حَمِيْداً. فَبَلَغَ ذلِكَ أصْحَابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُواْ يَقُولُونَ: لَوْ بَلَغَ إلَيْنَا لَتَمَّ أجْرُهُ، وَضَحِكَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُواْ: مَا أدْرَكَ مَا طلَبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً ﴾.
أي مهاجِراً قومَهُ وأهلَه وولدَه إلى طاعةِ الله وطاعةِ رسوله؛ ﴿ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ ﴾؛ في الطريقِ؛ ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ ﴾؛ فقد وجبَ ثوابهُ على اللهِ الْمَلِيءُ الوفِيُّ بوعدهِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً ﴾؛ بما كان منهُ في الشِّرْكِ؛ ﴿ رَّحِيماً ﴾؛ بهِ في الإسلامِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ ﴾؛ أي إذا سافرْتُم في الأرضِ؛ لأن الخروجَ إلى الصحراءِ أو القصدَ إلى القرية القريبةِ لا يسمَّى ضَرْباً في الأرضِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ أي ليسَ عليكم حَرَجٌ وَمَأْثَمٌ في أن تَقْصُرُوا من الصلاةِ، يعني من أربعِ رَكَعَاتٍ إلى ركعتين.
﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ﴾؛ أي إنْ عَلِمْتُمْ أنْ يَغْتَالَكُمُ.
﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾؛ ويقتلُوكم.
﴿ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾؛ أي عَدُوّاً ظاهِرَ العداوة، يُبدون عداوتَهم لكم. وفي الآيةِ ذكرُ القَصْرِ من الصلاةِ بين شَرْطَيْنِ، وأجمعتِ الأُمَّةُ أن أصلَ القَصْرِ لا يَتَعَلَّقَ بهما وأن كلَّ واحدٍ منهما يؤثِّر في القصرِ نوعَ تأثيرٍ، فتأثيرُ السَّفرِ في القصرِ في العددِ في الصَّلاة الرباعيَّة، وتأثيرُ الخوفِ في القصرِ في أركان الصَّلاة إذا خافَ إنْ قامَ في الصلاة أن يراهُ العدوُّ، أو خاف أن ينزل عن الدابَّة أن يدركهُ العدوُّ، وكان لهُ ترك القيامِ، وأنْ يُؤمِئَ على الدابَّة، فيحتملُ أن حرفَ العطفِ مضمراً في قولهِ: ﴿ إِنْ خِفْتُمْ ﴾ كأنهُ قال: وإنْ خِفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ الذينَ كَفَرُوا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ. وقال الحسنُ: (صَلاَةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، فَإذا قامَ الْحَرْبُ فَرَكْعَةٌ) وهذا اللفظُ يقتضي القصرَ الذي هو في غاية في القصرِ متعلقٌ بشرطين على مذهبهِ. ورويَ:" أنَّ رَجُلاً سَأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ: كَيْفَ يَقْصُرُ النَّاسُ وَقَدْ أمِنُواْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ؛ حَتَّى سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ فَقَالَ: " صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا عَلَيْكُمْ ألاَ فَاقْبَلُواْ صَدَقَةَ اللهِ عَلَيْنَا " "يقتضي إسقاطَ الفرضِ عنَّا. وفي قولهِ صلى الله عليه وسلم:" فَاقْبَلُواْ صَدَقَتَهُ "دليلٌ أنَّ القصرَ عَزِيْمَةٌ لا رُخْصَةٌ؛ لأن ظاهرَ الأمرِ على الوجوب، ولِهذا قال أصحابُنا: إنَّ المسافرَ إذا صَلَّى الظهرَ أربعاً، ولم يقعُد في الثانيةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صلاتُه، كمصلَّي الفجرِ أربعاً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ ﴾؛ الآيةُ، قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا رَأى الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ قَامُواْ إلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ وَهُوَ يَؤُمُّهُمْ؛ نَدِمُواْ عَلَى تَرْكِهِمْ الإقْدَامَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعُوهُمْ؛ فإنَّ بَعْدَهَا صَلاَةٌ هِيَ أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ - يُرِيْدُونَ الْعَصْرَ - فَإذا رَأَيْتُمُوهُمْ قَامُواْ إلَيْهَا فَشُدُّوا عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام بهَذِهِ الآيَةِ وَأطْلَعَ اللهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَصْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، وَعَنْ هَذا كَانَ إسْلاَمُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيْدِ حِيْنَ عَرَفَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَصْدِ الْمُشْرِكِيْنَ فِي السِّرِّ فِيْمَا بَيْنَهُمْ). ومعنى الآيةِ: وإذا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ معَ المؤمنينَ في الغَزْو فابتدأتَ في صلاةِ الخوفِ؛ فَلْيَقُمْ جَمَاعَةٌ منهُم معكَ في الصلاةِ؛ وَلْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في صلاتِهم؛ لأنَّ ذلك أهْيَبُ للعدوِّ، فإذا سَجَدَتِ الطائفةُ التي معكَ وصَلَّتْ ركعةً، فلينصرِفُوا إلى المصاف وليقفُوا بإزَاءِ العَدُوِّ؛ ﴿ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ﴾؛ وهمُ الذينَ كانوا بإزاءِ العدوِّ، ولم يصلُّوا معكَ في الركعةِ الأُولى؛ فليصلُّوا معكَ الركعةَ الأُخرى، ولْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في الصَّلاةِ، ولم يذكرْ في الآية لكلِّ طائفةٍ إلاّ ركعةً واحدةً. وفي صلاةِ الخوفِ خلافٌ بين العلماء؛ قال بعضُهم: إنَّها غير مشروعةٍ بعدَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو روايةٌ عن أبي يوسف وهو قولُ الحسنِ بن زياد؛ لأنَّ في هذه الآيةِ ما يدلُّ على كون النبيِّ صلى الله عليه وسلم شَرَطٌ في إقامةِ صلاة الخوف؛ ولأنَّها إنَّما جازَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَدْركَ الناسُ فضيلةَ الصلاةِ خَلْفَهُ؛ لأنَّ إمامةَ غيرهِ لَمْ تكن لتقومَ مقامَ إمامتهِ. وذهبَ أكثرُ العلماء إلى أنَّ صلاةَ الخوف مشروعةٌ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الخطابَ في هذه الآيةِ وإنْ كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فالأئمَّةُ بعدَه يقومون مقامَه كما في قولهِ تعالى:﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾[التوبة: ١٠٣] ونحوِ ذلك من الآياتِ. واختلفوا في كيفيَّة صلاةِ الخوف، فقال أبُو حَنِيْفَةَ ومحمدٌ: (يَجْعَلُ الإمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ؛ طَائِفَةٌ بإزَاءِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُ؛ فَيُصَلِّي بهِمَا رَكْعَةً رَكْعَةً، ثُمَّ تَنْصَرِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ؛ وَتَجِيْءُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بهِمْ رَكْعَةً، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. ثُمَّ تَرْجِعُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ بغَيْرِ سِلاَمٍ، وَتَأْتِي الأُوْلَى فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وحْدَاناً بغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَإذا سَلَّمَتْ وَقَفَتْ بإزَاءِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُوْلَى وحْدَاناً بقِرَاءَةٍ). وعن أبي يوسُف: (إذا كَانَ الْعَدُوُّ فِي وَجْهِ الْقِبْلَةِ؛ وَقَفَ الإمَامُ وَجَعَلَ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ؛ فَافْتَتَحَ بهِمُ الصَّلاَةَ مَعاً، فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةً؛ فإذا سَجَدَ الإمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، وَوَقَفَ الثَّانِي يَحْرِسُونَهُمْ، فَإذا رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي؛ وَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ، وَيَقُومُ الصَّفُّ الثَّانِي فَيَرْكَعُ بهِمْ جَمِيْعاً، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ وَيَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ سَجْدَتَيْنِ، وَالصَّفُّ الآخَرُ يَحْرِسُونَهُمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ سَجْدَتَيْنِ لأنْفُسِهِمْ؛ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ الإمَامُ وَيُسَلِّمُ بهِمْ جَمِيْعاً). وهكذا قالَ ابنُ أبي ليلَى. وقال مَالِكُ: (يَجْعَلُ الإمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ، فَيُصَلِّي بطَائِفَةٍ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَظِرُ الإمَامُ حَتَّى يُصَلُّواْ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِمْ وَيُسَلِّمُواْ وَيَنْصَرِفُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَيُسَلِّمُ الإمَامُ، وَيَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ صَلاَتَهُمْ). وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذلكَ إلاّ أنه قالَ في الطائفةِ الأُخرى: (لاَ يُسَلِّمُ بهِمُ الإمَامُ؛ وَلَكِنْ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَقُومُوا فَيُتِمُّوا صَلاَتَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بهِمْ). وإنَّما وقعَ بهم هذا الاختلافُ لاختلافِ الأخبار الواردة في هذا الباب. روى عَلِيٌّ وابنُ مسعُودٍ وجماعةٌ من الصحابةِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلاَّهَا كَمَا قَالَ أبُو يُوسُفَ، ذكرنَا عن أبي حَنِيْفَةَ ومحمدٍ وعن ابن عبَّاس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلاَّهَا كما قال أبو يوسُف، وعن سهلِ بن أبي حثمة أنهُ صلى الله عليه وسلم صَلاَّهَا كما قالَ الشَّافِعِيُّ. فدلَّت هذه الأخبارُ على جواز الجميع، وإنَّّما يقعُ الكلامُ في الأوَّل، والأقربُ إلى ظاهرِ القُرْآنِ وظاهرهُ يشهدُ للروايةِ التي رواهَا عَلِيٌّ وابنُ مسعودٍ؛ لأنَّ في قولهِ تعالى: ﴿ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ ﴾ دليلٌ على أن الإمامَ لا يُصَلِّي بالطائفتين معاً، وفي قولهِ تعالى: ﴿ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ ﴾ دليلٌ على أنَّ الطائفةَ الأُولى تنصرفُ عَقِبَ السجودِ. وعندَ مالكٍ والشافعيِّ: لا تنصرفُ الطائفة الأُولى إلاَّ بعد تَمام الصلاةِ. وفي قولهِ: ﴿ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ ﴾ دليلٌ أنَّ الطائفةَ الثانية تأتِي وهي غيرُ مُصَلِّيَةٍ، وهذا خلافُ ما قالَ أبو يُوسف. وهذا كُلُّهُ إذا أمْكَنَهُمْ إقامةُ الصلاة بالجماعةِ، أمَّا إذا لم يُمكنهم الجماعةُ لقيامِ القتالِ وكثرةِ العدوِّ، وصلَّى كلُّ واحدٍ لنفسه على حسب ما أمكنَه، إمَّا إلى القِبلة وإما إلى غيرِها إذا لم يمكنْهُ التوجُّه إليها أو راكباً يُؤمِئُ إيْماءً، كما قال تعالى:﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾[البقرة: ٢٣٩].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَارباً بَنِي أنْمَارَ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى؛ فَنَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ وَلاَ يَرَوْنَ مِنَ الْعَدُوِّ أحَداً، فَوَضَعُوا أسْلِحَتَهُمْ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي لِحَاجَةٍ لَهُ قَدْ وَضَعَ سِلاَحَهُ، حَتَّى قَطَعَ الْوَادِي وَالسَّمَاءُ تَرُشُّ، فَحَالَ الْوَادِي بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَبَصَرَ بهِ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُحَاربيُّ، فَانْحَدَرَ مِنَ الْجَبَلِ وَمَعَهُ السَّيْفُ، وَقَالَ لأَصْحَابهِ: قَتَلَنِي اللهُ إنْ لَمْ أقْتُلْ مُحَمَّداً، فَلَمْ يَشْعُرْ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأسِهِ وَفِي يَدِهِ السَّيْفُ مَسْلُولاً. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ مَنْ يَعْصِمُكَ مِنَّي الآنَ؟ فَقَالَ: " اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي غَوْرَثَ بْنَ الْحَرْثِ بمَا شِئتَ " فَأَهْوَى بالسَّيْفِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَضْرِبَهُ، فَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ وَبَدَرَ سَيْفَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذ السَّيْفَ وَقَالَ: " مَنْ يَمْنَعُكَ وَيَعْصِمُكَ مِنَّي يََا غَوْرَثُ؟ " قَالَ: لاَ أحَد. قَالَ: " إشْهَدْ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ وَأعْطِيْكَ سَيْفَكَ " قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ لاَ أقَاتِلُكَ أبَداً، وَلاَ أعِيْنُ عَلَيْكَ عَدُوّاً، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَهُ، فَقَالَ غَوْرَثُ لِلَّنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أجَلْ؛ لأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ: " أجَلْ؛ أنَا أحَقُّ بذَلِكَ مِنْكَ ". فَرَجَعَ إلَى أصْحَابهِ؛ قَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ! رَأيْنَاكَ قَدْ أهْوَيْتَ بالسَّيْفِ قَائِماً عَلَى رَأسِهِ، مَا مَنَعَكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ أهْوَيْتُ لَكِنْ وَاللهِ لاَ أدْري مَنْ زَلَخَنِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَخَرَرَتُ لِوَجْهِي، وَخَرَّ سَيْفِي مِنْ يَدِي، فَسَبَقَنِي إلَى سَيْفِي فَأَخَذهُ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطَعَ الْوَادِي وَأتَى أصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بالْقِصَّةِ "، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ ﴾.
أي لا مَأْثَمَ عليكُم في ذلكَ، وخُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوِّكم؛ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾؛ يُهَانُونَ فيه وهو الْقَتْلُ في الدُّنيا والنارُ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ﴾؛ يعني صَلاَةَ الخوفِ إذا فَرَغْتُمْ منها فَاذْكُرُوا اللهَ؛ أي صَلُّوا قِيَاماً للصحيحِ؛ وقُعُوداً للمريضِ؛ وَعَلَى جُنُوبكُم للمرضَى والجرحَى الذين لا يستطيعون الجلوسَ. وَقِيْلَ: معناهُ: فَاذْكُرُوا اللهَ بتوحيدِه وتسبيحه وشُكْرِهِ على كلِّ حالٍ. قال ابنُ عبَّاس: (لَمْ يَعْذُر اللهُ أحَداً فِي تَرْكِ ذِكْرِهِ إلاَّ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾؛ أي رَجَعْتُمْ من سفرِكم وزالَ عنكمُ الخوفُ والمرض والقتالُ ﴿ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾ أي أتِمُّوها أربعاً بركوعِها وسُجودِها وسائرِ شروطها.
﴿ إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً ﴾؛ أي فَرْضاً مَفْرُوضاً مُوَقَّتاً أوقاته، ويقالُ: معلوماً فَرْضُهُ للمسافرين ركعتان ولِلْمُقِيْمِ أربعُ ركعاتٍ. وقال الأعمشُ: (مَوْقُوتاً؛ أيْ مُؤْقَّتاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ﴾؛ أي لا تَضْعُفُوا في طلب ابتغاء القوم أبي سفيان وأصحابه لِمَا أصابَكم من القتلِ والجراحات يوم أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾؛ أي إنْ كُنْتُمْ تَأْلَمُونَ مِن الجِرَاحِ فَلَهُمْ مثلُ ذلك، والمعنَى: إنْ كان لكم صَارفٌ عن الحرب وهو أنكم تألَمُونَ مِن الجراحِ فلهم مثلُ ذلك من الصَّارفِ، ولكم أسبابٌ داعية إلى الحرب ليست لَهم، وهو أنَّكم ترجونَ الثوابَ والنَّصْرَ من اللهِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً ﴾؛ بمصالِحكُم ﴿ حَكِيماً ﴾؛ فيما يَأَمُرُكُمْ به.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَار يُقالُ لَهُ طُعْمَةُ بْنُ أبَيْرِق؛ سَرَقَ دِرْعاً مِنْ جَارٍ لَهُ يقالُ لَهُ: قتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَكَانَتِ الدِّرْعِ فِي غِرَارَةٍ وَجِرَابٍ فِيْهِ دَقِيْقٌ، فَانْتَثَرَ الدَّقِيْقُ مِنَ الْمَكَانِ الَّّذِي سَرَقَهُ إلَى بَاب مَنْزِلِهِ، فَفُطِنَ بهِ أنَّهُ هُوَ السَّارِقُ؛ فَمَضَى بالدِّرْعِ إلَى يَهُودِيٍّ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ فَأَوْدَعَهُ إيَّاهَا، فَالْتُمِسَتِ الدَّرْعُ عِنْدَ طُعْمَةَ فَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ، فَحَلَفَ لَهُمْ مَا أخَذهَا وَلاَ لَهُ عِلْمٌ، فَقَالَ أصْحَابُ الدِّرْعِ: لَقَدْ أدْلَجَ عَلَيْنَا وَأخَذهَا، وَطَلَبْنَا أثَرَهُ حَتَّى دَخَلْنَا دَارَهُ، وَلَقِيْنَا الدَّقِيْقَ مُنْتَثِراً، فَلَمَّا حَلَفَ تَرَكُوهُ وَاتَّبَعُواْ أثَرَ الدَّقِيْقِ حَتَّى انْتَهَوا إلَى مَنْزِلِ الْيَهُودِيِّ وَطَلَبُوهُ، فَقَالَ: دَفَعَهَا إلَيَّ طُعْمَةُ بْنُ أبَيْرِق، وَشَهِدَ لَهُ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى ذلِكَ، فَقَالَ قَوْمُ طُعْمَةَ: انْطَلِقُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُكَلِّمُهُ فِي صَاحِبنَا نُعذُرُهُ وَنَتَجَاوَزُ عَنْهُ، فَإنَّ صَاحِبَنَا بَرِيْءٌ مَعْذُورٌ. فَأَتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُواْ أهْلَ لِسَانٍ وَبَيَانٍ، فَسَأَلُوهُ أنْ يَعْذُرَهُ عِنْدَ النَّاسِ؛ فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْذُرَهُ وَيُعَاقِبَ الْيَهُودِيَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وفي رواية عن ابنِ عبَّاس: (أنَّ طُعَمَةَ سَرَقَ دِرْعاً؛ وَكَانَ الدِّرْعُ فِي جِرَابٍ فِيْهِ نِخَالَةٌ، فَخَرَقَ الْجِرَابَ حَتَّى كَانَ يَتَنَاثَرُ النِّخَالَةُ بطُولِ الطَّرِيْقِ، فَجَاءَ بهِ إلَى دَارَ زَيْدِ بْنِ السَّمِيْنِ الْيَهُودِيِّ وَتَرَكَهُ عَلَى بَاب دَارهِ، وَحَمَلَ الدِّرْعَ إلَى بَيْتِهِ، فَلَمَّا أصْبَحَ صَاحِبُ الدِّرْعِ جَاءَ إلَى زَيْدِ بْنِ السَّمِيْنِ عَلَى أثَرِ النِّخَالَةِ، وَحَمَلَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). إنا أنزلنا إليك يا مُحَمَّدٌ القُرْآنَ إنْزالاً بالحقِّ، وَقِيْلَ: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي بالأمرِ والنَّهي والفصلِ لتحكمَ بين الناسِ بما أعلمَكَ اللهُ وأوحَى إليكَ.
﴿ وَلاَ تَكُنْ ﴾؛ يَا مُحَمَّدُ؛ ﴿ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾؛ أي لِطُعْمَةَ وقومهِ مُعِيْناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ ﴾؛ أي تُبْ إلى اللهِ واستغفرْهُ مِمَّا هَمَمْتَ بهِ من قطعِ يد زَيْدِ بن السَّمين. وقال الكلبيُّ: (مِنْ هَمِّكَ بالْيَهُودِيِّ أنْ تَضْرِبَهُ). وقال مقاتلُ: (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ مِنْ جِدَالِكَ الَّذِي جَادَلْتَ عَنْ طُعْمَةَ).
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً ﴾؛ لِمَنْ يستغفرُهُ؛ ﴿ رَّحِيماً ﴾؛ بالتَّائبينَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ ولا تُخَاصِمْ عن الذين يَظْلِمُونَ أنفسهَم بالخيانةِ والسَّرقة ورميِ اليهوديِّ بها.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً ﴾؛ أي خَائِناً في الدِّرعِ؛ ﴿ أَثِيماً ﴾؛ في رَمْيهِ اليهوديَّ. وَقِيْلَ: الْخَوَّانُ: المكتسبُ للإثْمِ، والآثِمُ الفاجرُ بالكذب ورمي البريءِ، وإنَّما قال: ﴿ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ وإنْ كانوا خَانُوا غيرَهم؛ لأن مضرَّةَ خيانتِهم راجعةٌ إليهم، كما يقالُ: فَمَنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ مَا ظَلَمَ إلاَّ نَفْسَهُ، وإنَّما قال: ﴿ خَوَّاناً ﴾ ولم يقل خَائِناً لعظيمِ أمرِ الخيانَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ ﴾؛ معناهُ: يستخفِي قومُ طُمْعَةَ؛ أي يُسِرُّونَ من الناسِ وهم يعلمون أنهُ سارقٌ ولا يستَتِرُون من اللهِ؛ أي لا يُمكنهم الاستخفاءُ منه، فإنَّ سِرَّهُمْ وعلانيتَهم عند الله ظَاهرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾ وهو شاهدٌ لأفعالِهم ﴿ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ أي يُدَبرُونَ، ويقولون بالليلِ قَوْلاً لا يرضاهُ اللهُ؛ وهو اتِّفاقُ قولِ طُعْمَةَ على أنْ يَرْمُوا اليهوديَّ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾؛ أي عالِماً لا يفوتهُ شيء كما لا يفوتُ الْمُحِيْطَ بالشيءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرادَ أن يقطعَ طُعْمَةَ في السرقةِ بعد هذه الآياتِ؛ فجاءَ قومُه شَاكِّينَ في السِّلاحِ فجادلُوا عنه وهربُوا به، فأنزل اللهُ هذه الآية، ومعناها: هَا أنْتُمْ يَا قومَ طُعْمَةَ خاصمتُم النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن طعمةَ وعن خيانتهِ في دار الدُّنيا. وفي قراءة أبَيّ: (جَادَلْتُمْ عَنْهُ فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَالِمَ الْغَيْب وَالشَّهَادَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا أخَذهُ بعَذابهِ وَأدْخَلَهُ النَّارَ)؛ ﴿ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾؛ يتوكَّلُ بهم ويصلحُ أمرَهم ويحفظَهم من عذاب الله.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾؛ أي ومَن يَعْمَلْ سوءاً " ويرمي " به غيرَه نحو السَّرقةِ والقتلِ والقَذْفِ، أو أنه يَظْلِمُ نفسَه نحو الكذب الكذب واليمين الفاجِرَة وشرب الْخَمْرِ وتركِ الفرائض؛ ﴿ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ ﴾؛ بالتوبةِ؛ ﴿ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً ﴾؛ للمستغفرينَ التائبين؛ ﴿ رَّحِيماً ﴾؛ بهم بعدَ التوبةِ. وإنَّما شُرطت التوبة؛ لأن الاستغفارَ لا يكونُ توبةً بالإجماع ما لم يَقُلْ معهُ: تُبْتُ وأسأتُ ولا أعودُ إليه أبداً؛ فَاغْفِرْ لِي يا رب. وَقِيْلَ: معناهُ: مَن يعمل سوءاً بسَرِقَةِ الدرعِ، أو يظلم نفسَه برميهِ البريءَ بالسرقةِ. وَقِيْلَ: معناهُ: من يعمل سُوءاً أو شِرْكاً ﴿ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ يعني بما دونَ الشِّركِ.
﴿ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ ﴾ أي يتوبَ إلى اللهِ.
﴿ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
وَقِيْلَ: أرادَ بالسُّوء: الكبيرةَ، ويَظْلِم النفسَ: الصغيرةَ. وعن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ؛ قالَ: (حَدَّثَنِي أبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ، وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ الآيةُ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ﴾؛ أي مَنْ يعمَلْ معصيةً فإنَّما عقوبتهُ على نفسهِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي لَمْ يزل عَلِيْماً بكلِّ ما يكونُ، حَكِيْماً فيما حَكَمَ به من القَطْعِ على السارقِ. وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إثْماً ﴾ يعني بيَمِيْنِهِ بالباطلِ، فَإنَّما يَضُرُّ به نفسَهُ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً ﴾ بسارقِ الدِّرع.
﴿ حَكِيماً ﴾ حَكَمَ بالقطعِ على طُعْمَةَ بالسَّرقةِ. وقد روي: أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؛ عَرَفَ قَوْمُ طُعْمَةَ كُلُّهُمْ أنَّهُ هُوَ الظَّالِمُ، فَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِ وَقَالُواْ لَهُ: اتَّقِ اللهَ وَائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوءُ بالذنْب، فَقَالَ: لاَ؛ وَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ مَا سَرَقَهَا إلاَّ الْيَهُودِيُّ. فنَزل قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾؛ أي وَمن يعمل معصيةً بغيرِ عمدٍ أو متعمِّداً ثُمَّ يَرْمِ بَرِيْئاً؛ فقد استوجبَ عقوبةَ الْبُهْتَانِ برميهِ غيرَهُ بشيء لم يفعلْهُ ﴿ وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ أي ذنْباً بَيِّناً ظَاهِراً. وَقِيْلَ: معناهُ: ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً ﴾ أي بيمينهِ الكاذبة ﴿ أَوْ إِثْماً ﴾ بسرقةِ الدِّرعِ وَرَمْيِ اليهودي. والْبُهْتَانُ: بَهُتَ الرَّجُلِ بمَا لَمْ يَفْعَلْهُ. وقال الزجَّاج: (الْبُهْتَانُ الْكَذِبُ الَّذِي يُتَحَيَّرُ مِنْ عِظَمِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ ﴾؛ أي لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عليكَ يا مُحَمَّدُ بالنبوَّة والإسلامِ؛ وَرَحْمَتُهُ بإرسالِ جبريلَ عليه السلام إليكَ بالقُرْآنِ الذي فيه خَبَرُ ما غاب عنكَ لقصدتَ من قومِ طُعْمَةَ أن يُخْطِئُوكَ ويحملوكَ أن تَحْكُمَ بما هو غيرُ واجبٍ في الباطنِ، وأن تُبَرِّئَ الخائنَ من غيرِ حقيقيةٍ؛ ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ أي وما يكون إضْلالُهم إلاَّ على أنفسِهم.
﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ﴾؛ ولا ينقصونَكَ شيئاً مع عِصْمَةِ الله تعالى إيَّاكَ؛ ﴿ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾؛ أي القُرْآنَ ومعرفةَ الحلالِ والحرامِ؛ ﴿ وَعَلَّمَكَ ﴾؛ بالْوَحْيِ؛ ﴿ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾؛ قَبْلَهُ؛ ﴿ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾؛ بالنبوَّة والإسلامِ. وفي هذه الآياتِ دلالةٌ أنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يخاصِمَ عن غيرهِ في إثباتِ حقٍّ أو نفيهِ وهو غيرُ عالِمٍ بحقيقةِ أمرهِ، وأنه لا يجوزُ للحاكمِ الْمَيْلُ إلى أحدِ الخصمين، وإن كان أحدُهما مُسلماً والآخرَ كافراً، وأن وجودَ السرقةِ في يدَيّ إنسانٍ لا يوجبُ الحكمَ بها عليهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾؛ أي لا خيرَ في كثيرٍ من أسرار قومِ طُعْمَةَ فيما يريدون بينَهم إلاّ نَجْوَى مَن أمرَ بصدقةٍ فتصدَّق بها، ويجوزُ أن يكون معنى ﴿ إلاّ مَنْ أمَرَ ﴾ الاستثناء ليس من الأوَّل على معنى (لكن) فيكون موضع ﴿ مَنْ أمَرَ ﴾ نصباً على الإضمار، والأوَّل موضعهُ خفضٌ. وذهب الزجَّاج: (إلَى أنَّ النَّجْوَى فِي اللُّغَةِ: مَا تَفَرَّدَ بهِ الْجَمَاعَةُ وَالاثْنَانِ؛ سِرّاً كَانَ ذلِكَ أوْ ظَاهِراً). وقال: (مَعْنَى: نَجَوْتُ الشَّيْءَ إذا خَلَّصْتَهُ وَأفْرَدْتَهُ، وَنَجَوْتُ فُلاناً إذا اسْتَسَرْتُهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ أي أوْ أمرٍ بمعروفٍ، ويسمى البرُّ كلهُ معروفاً، قال صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَوَّلُ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً أهْلُ الْمَعْرُوفِ، وَصَنَائِعُ الْْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارعَ السُّوءِ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾ يعني الإصلاحَ بين المتخاصمين، وإصلاحَ ذاتِ البَيْنِ، قال صلى الله عليه وسلم:" " ألاَ أخْبرُكُمْ بأَفْضَلِ دَرَجَةٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ " قَالُواْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " إصْلاَحُ ذاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، فَلاَ أقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّيْنَ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: من يفعل ذلك البرِّ والصلاحَ والصدقةَ لطلب مَرْضَاةِ اللهِ تعالى، لا لِلرِّيَاءِ والسُّمعةِ.
﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ﴾؛ نُعْطِيْهِ؛ ﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ أي ثَوَاباً وَافِراً في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ نَزَلَتْ فِي طُعَمَةَ؛ وَذَلِكَ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ، وَعَلِمَ قَوْمُهُ أنَّهُ ظَالِمٌ، وَخَافَ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَطْعَ وَالْفَضِيْحَةَ؛ هَرَبَ إلَى مَكَّةَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، ومعناها: ومن يخالفِ الرسولَ في التوحيدِ والحدُودِ مُعَانِداً من بعدِ ما تَبَيَّنَ له حكمُ اللهِ، ويتَّبع ديناً غيرَ دينِ المؤمنين وهو دينُ أهلِ مكَّة؛ ﴿ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ ﴾؛ أي نَكِلُهُ في الآخرةِ إلى ما تولَّى. قِيْلَ: وَنَتْرُكُهُ إلى ما اختارَ لنفسهِ في الدُّنيا؛ أي لا يتولَّى اللهُ نَصْرَهُ ولا معونتَه.
﴿ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾؛ أي وَنُلْزِمُهُ دخولَ جهنَّم في الآخرةِ.
﴿ وَسَآءَتْ ﴾؛ جهنَّمُ؛ ﴿ مَصِيراً ﴾؛ أي لِمن صارَ اليها. فَلَمْ يَتُبْ طُعْمَةُ وَلَمْ يَنْدَمْ، وَأقََامَ عَلَى كُفْرِهِ، ثُمَّ إنَّهُ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ؛ فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَنَشَبَ فِيْهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَدْخُلَ وَلاَ يَخْرُجَ حَتَّى أصْبَحَ؛ فَأَخَذهُ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعُوهُ؛ فَإنَّهُ قَدْ لَجَأَ إلَيْكُمْ وَتَحَرَّمَ بكُمْ فَاتْرُكُوهُ؛ فَأَخَرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ، فَخَرَجَ مَعَ قَوْمٍ مِنَ التُّجَّار نَحْوَ الشَّامِ؛ فَنَزَلُواْ مَنْزِلاً فَسَرَقَ بَعْضَ مَتَاعِهِمْ وَهَرَبَ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ؛ فَرَمَوْهُ بالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ؛ فَصَارَ قَبْرُهُ تِلْكَ الْحِجَارَةَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ رضي الله عنه). والمعنى: إنَّ الله لا يغفرُ شِرْكَ الْمُشْرِكِ به إنْ ماتَ بغير توبةٍ؛ ويغفرُ ما دون الشِّرْكِ لِمن يشاءُ من أهلِ الإسلامِ من غيرِ توبةٍ. وقال الضحَّاك عن ابنِ عبَّاس: إنَّ شَيْخاً مِنَ الأَعْرَاب جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبيَّ اللهِ؛ إنِّي شَيْخٌ مُنْهَمِكٌ فِي الذُّنُوب وَالْخَطَايَا؛ إلاَّ أنِّي لاَ أشْرِكُ بهِ شَيْئاً مُذْ عَرَفْتُهُ وَآمَنْتُ بهِ؛ وَلَمْ أتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً، وَلَمْ أقَعْ عَلَى الْمَعَاصِي جُرْأةً عَلَى اللهِ وَلاَ مُكَابَرَةً لَهُ، وَلاَ تَوَهَّمْتُ طَرْفَةَ عَيْنٍ أنْ أعْجِزَ اللهَ هَرَباً، إنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، فَمَا لِي عِندَ اللهِ؟. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ إنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾.
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾؛ أي فقد ذهَبَ عن الصواب والْهُدَى ذهاباً بعيداً، وَحُرِمَ الخيرَ كلَّه. والفائدةُ في قوله ﴿ بَعِيداً ﴾ أنَّ الذهابَ عن الجنَّة على مراتبَ أبعدُها الشِّرْكُ باللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً ﴾؛ أي إن يعبدُ أهل مكَّةَ من دون الله إلاّ الأصنامَ وَالأوثانَ، وسَمَّاها إناثاً؛ لأنَّهم سَمَّوها باسمِ الإنَاثِ: اللاَّتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاتَ، فعبدُوها مع اعتقادِهم بنُقْصَانِ مراتب الإناثِ عن الذُّكور؛ لأنَّ الإناثَ من كلِّ جنسٍ أرَاذِلَةٌ، ويُقَالُ: إنَاثاً؛ أي مَوَاتاً؛ لأنَّ الْمَوَاتَ كلَّها يُخْبرُ عنها كما يخبرُ عن الإناثِ، يقالُ: هذه الأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي؛ ((كما تقولُ: هذه المرأة تُعجبني)). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً ﴾؛ أي ما يريدون بِعِبَادَةِ الأوثانِ إلاّ عبادةَ الشَّيطانِ، وَالْمَرِيْدُ: الْعَاتِي الْخَارجُ عَنِ الطَّاعَةِ، ويسمَّى الْمَرِيْدُ مَرِيْداً لِتَعَرِّيْهِ عَنِ الْخَيْرِ، يقال: شجرةٌ مَرْدَاءُ؛ أي لا وَرَقَ عليها، وغلامٌ أمْرَدٌ: إذا لم يكن على وجههِ شعرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ أرادَ به الشيطانَ أبعَدَهُ من رحمتهِ إلى عقابهِ بالحكم لهُ بالخلودِ في جهنَّم، ويسقطُ بهذا قولُ من قالَ: كيفَ يصحُّ أن يقالَ: ﴿ لَّعَنَهُ ٱللَّهُ ﴾ وهو في الدُّنيا لا يخلُو من نِعْمَةٍ تَصِلُ إليه من الله في كلِّ حال؟ الجواب لا يعتدُّ بتلك النعمة مع الْحُكْمِ له بالخلودِ في النَّار. قوله تعالى: ﴿ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ أي قالَ إبليسُ: لأَتَّخِذنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيْباً معلُوماً، فكلُّ ما أطِيْعَ فيه إبليسُ فهو مفروضٌ له. والفرضُ في اللغة: الْقَطْعُ؛ ومنهُ الْفُرْضَةُ أي الثُّلْمَةُ، والفرضُ في القوس: ما شَدَّ به الوترُ، والفريضةُ في العباداتِ: الأمرُ الْحَتْمُ الْقَاطِعُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾[البقرة: ٢٣٧] أي جعلتم لَهُنَّ قطيعةً من المالِ، وأما قولُ الشاعر: إذا أكَلْتَ سَمَكاً وَفَرْضاً   ذهَبْتَ طُولاً وذَهَبْتَ عَرْضَافالفرضُ هنا التَّمْرُ، سُمي فرضاً لأنه يؤخذُ من فرائضِ الصَّدقةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ﴾؛ حكايةُ قول إبليسَ؛ أي لأُضِلَّنَّهُمْ عن الحقِّ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ أنَّهُ لا جَنَّةَ ولا نارَ ولا بعثَ ولا حسابَ، ولأُريحنَّهم طولَ الحياةِ في الدُّنيا.
﴿ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ ﴾؛ أي بتَشْقِيْقِ آذانِ الأنعَامِ؛ وهي الْبُحِيْرَةُ التي كانوا يفعلونَها نُسُكاً وعبادةً للأوثانِ، والقطع. ﴿ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ وقتادة والحسنُ والضحَّاك: (فَلْيُغَيِّرُنَّ دِيْنَ اللهِ) نَظِيْرُهُ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ﴾[الروم: ٣٠] أي لدينِ الله، كقولهِ:﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ﴾[الروم: ٣٠].
وقال عكرمةُ: (مَعْنَاهُ: فَلِيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ بالْخَصْيِ وَالْوَشْمِ وَقَطْعِ الآذانِ وَفَقْئِ الْعُيُونِ). قال مجاهدُ: (كَذبَ عِكْرِمَةُ؛ إنَّما هُوَ دِيْنُ اللهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ﴾؛ أي مَن يَتَّخِذْهُ ناصِراً من دون اللهِ فقد غُبنَ غُبْناً ظاهراً؛ لأنه خَسِرَ الجنَّةَ والنعيمَ الذي فيها. فإن قيل: (كيفَ عَلِمَ إبليسُ أنهُ يَتَّخِذُ من عبادِ الله نصيباً؟ فيه أجوبةٌ؛ منها: أنَّ اللهَ لَمَّا خاطبَهُ بقولهِ﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[هود: ١١٩] عَلِمَ إبليسُ أنهُ يَنَالُ من ذرِّيةِ آدمَ ما تَمَنَّى. ومنها: أنه لَمَّا وَسْوَسَ لآدمَ فنَالَ منهُ ما نالَ، طَمِعَ في ذرِّيته. ومنها: أن إبليسَ لَمَّا عَايَنَ الجنَّةَ والنارَ عَلِمَ أنَّ لَهَا سُكَّاناً من الناسِ). وقوله: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ﴾؛ أي يَعِدُهُمْ أن لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ؛ وَيُمَنِّيْهِمْ طُولَ البقاءِ في الدُّنيا ودوامَ نعيمِها ويُؤْثِرُوهَا على الآخرةِ.
﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾؛ أي بَاطِلاً، والْغُرُورُ: إيْهَامُ النَّفْعِ فيما فيه ضررٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفةِ مستقرُّهم جهنَّمُ.
﴿ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ﴾؛ أي مَخْلَصاً، يقال: حَاصَ يَحِيْصُ حَيْصاً؛ إذا عَدَلَ عن الشيءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ أي أنْهَارُ الماءِ واللَّبنِ والخمْرِ والعسلِ؛ ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾؛ أي مقيمينَ في الجنَّةِ إلى الأبدِ، وإنَّما ذكرَ الطاعةَ مع الإيْمان وجمعَ بينهُما: فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ يُبَيِّنُ بطلانَ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنه لا يَضُرُّ المعصيةُ والإخْلاَلُ بالطاعةِ مع الإيْمانِ؛ كما لا تنفعُ الطاعةُ مع الكفرِ أو لِيُبَيِّنَ استحقاقَ الثواب على كلِّ واحدٍ من الأمرين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً ﴾؛ انتصبَ ﴿ وَعْدَ ﴾ على المصدر، تقديرهُ: وَعَدَ لَهمُ اللهُ هذا وَعْداً حَقّاً كائناً؛ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً ﴾؛ أي ليسَ أحدٌ أصدقَ مِن اللهِ قَوْلاً ووَعْداً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ أي ليس ثوابُ اللهِ تعالى بأمَانِيِّكُمْ، فإنَّ ﴿ لَّيْسَ ﴾ يقتضِي اسْماً، واختلفُوا في المخاطَبين بهذه الآيةِ. قال قتادةُ والضحَّاك: (إنَّ أهْلَ الْكِتَاب وَالْمُسْلِمِيْنَ افْتَخَرُواْ، فَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب: نَبيُّنَا قَبْلَ نَبيِّكُمْ؛ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابكُمْ؛ وَنَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ؛ نَبيُّنَا خَاتَمُ النَّبيِّيْنَ؛ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُب الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةََ). وقال مجاهدُ: الْمُخَاطَبُونَ بهَا عَبَدَةُ الأوْثَانِ؛ فإنَّهُمْ قَالُواْ: لاَ نُبْعَثُ وَلاَ نُحَاسَبُ، وَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً مَعْدُودَةً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾.
﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾؛ ولا يَنْفَعُهُ تَمَنِّيْهِ، والمرادُ بالسُّوءِ الكُفْرُ. وقال بعضُهم: المخاطَب بها المسلمونَ؛ أي ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ أي ليسَ بأمَانِيِّكُمْ يا معشرَ المسلمين أنْ لا تُؤَاخَذُواْ بسُوءٍ بعد الإيْمانِ.
﴿ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾: لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارَى، من يعمَلْ معصيةً يُجْزَ بذلكَ ولا ينفعه تَمنِّيه. روي: أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؛ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه:" يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ الْفَلاَحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ؛ ألَسْتَ تَمْرَضُ؟ ألَسْتَ تَنْصَبُ؟ ألَسْتَ تُصِيْبُكَ الَّلأْوَاءُ؟ " قَالَ: بَلَى، " فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بهِ " ". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ قَالَ:" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " قَاربُواْ وَسَدِّدُواْ ". يقالُ: كلُّ ما يصيبُ المؤمنَ كفَّارَةٌ حتى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا في قدميهِ، والنَّكْبَةَ يَنْكَبُّهَا ". قال عطاءُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه:" هَذِهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَأيُّنَا لَمْ يَعْمَلُ سُوءاً، وَإنَّا لَمَجْزِيُّونَ بكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! قَالَ: " إنَّمَا هِيَ الْمُصِيْبَاتُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ". فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا أبْقَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ شَيْءٍ، " أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ لَكَمَا أنْزِلَتْ؛ وَلَكِنْ يًسِّرُواْ وَقَاربُواْ وَسَدِّدُواْ؛ إنَّهُ لاَ يُصِيْبُ أحَدُكُمْ مُصِيْبَةً فِي الدُّنْيَا إلاَّ كُفِّرَ عَنْهُ بهَا خَطِيْئَةً؛ حَتَّى الشّوْكَةَ يُشَاكُهَا فِي قَدَمِهِ " ". وقال الحسنُ في قولهِ تعالى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قال (الْكَافِرُ، وَأمَّا الْمُؤْمِنُ فَلاَ يُجَازَى يَوْمَ الْقيَامَةِ إلاَّ بأَحْسَنِ عَمَلِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) ثُمَّ قَرَأَ﴿ لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الزمر: ٣٥] وقَرَأ﴿ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ ﴾[سبأ: ١٧].
ولولا السُّنة لأمكنَ أن يقالَ: إنَّ الآيةَ نزلت في الكفَّار؛ لأنَّ في سياقِ الآية: ﴿ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾؛ ومَنْ لم يكن لهُ يومَ القيامةِ ولِيٌّ ولا نصيرٌ كان كافراً؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ضَمِنَ نصرَ المؤمنين في الدَّارَين فقالَ تعالى:﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ ﴾[غافر: ٥١].
ولكنَّ الخطابَ إذا وَرَدَ مُجْمَلاً، وبَيَّنَ الرَّسُولُ عليه السلام كَانَ الْحُكمُ لِبَيَانِهِ لاَ لِلآيَةِ؛ إذِ البَيَانُ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، قال اللهُ تعالى:﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾[النحل: ٤٤].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾؛ أي وهو مصدِّقٌ بالثواب والعقاب.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾؛ أي ولا يُنقَصون مما استحقوهُ من جزاء أعمالهم مقدارَ النَّقيرِ، وهو النُّقرَةُ التي تكون في ظهرِ النَّواة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً ﴾؛ معناهُ: أيُّ أحدٍ منكُم أصْوَبُ طريقةً وسِيْرَةً، مِمَّنْ أخلصَ عملَهُ وطاعتَهُ للهِ وهو مُحْسِنٌ في الاعتقادِ والعملِ فيما بينَهُ وبين ربَهِ واتَّبَعَ دينَ إبراهيمَ حَنِيْفاً؛ أي مَائِلاً عن كلِّ دِيْنٍ سوَى الإسلامِ. وَقِيْلَ: الْحَنِيْفُ: المستقيمُ في سُلُوكِ الطَّريقِ الذي أمِرَ بسلوكِه. ومعنى الْمُحْسِنِ: ما رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الإحْسَانِ فَقَالَ:" أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاس: (خَلِيْلاً أيْ صَفِيّاً). وَقِيْلَ: في معنى قوله: ﴿ خَلِيلاً ﴾ وَجْهَانِ: أحدُهما الإصطفاءُ بالْمَحَبَّةِ، والإختصاصُ بالإسراءِ دون مَن لم تكن له تلك المنْزلةُ، والثانِي: من الْخِلَّةِ وهو الحاجةُ، فخليلُ اللهِ: المحتاجُ إليه؛ المنقطعُ بحوائجهِ إلى اللهِ تعالى دونَ غيرِه، وقد يُسَمَّى الفقيرُ خَلِيْلاً، قال زهيرُ: وإنْ أتَاهُ خَلِيْلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ   يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُأي ولا ممنوعٌ. فإذا أريدَ به الوجهَ الأول؛ جازَ أنْ يقالَ: إبراهيمُ خَلِيْلُ اللهِ؛ واللهُ خَلِيْلُ إبراهيمَ. وإذا أريدَ الوجهُ الثانِي؛ لم يَجُزْ أن يوصفَ اللهُ تعالى بأنهُ خَلِيْلُ إبراهيمَ، وجاوز وصفهُ بأنَّهُ خليلُ اللهِ. وعن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنه عَن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" اتَّخَذ اللهُ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً لإطْعَامِهِ الطَّعَامَ؛ وَإفْشَائِهِ السَّلاَمَ؛ وَصَلاَتِهِ باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ "فإنْ قيلَ: لِمَ كان اتِّباعُ ملَّةِ إبراهيمَ أوْلَى من اتِّباعِ مِلَّةَ غيرِه من الأنبياءِ مثلَ عيسَى ومُوسَى؟ قِيْلَ: إنَّ الفِرَقَ كلَّهم متَّفقونَ على تَعْظِيمِهِ، ووجوب اتِّباعِ مِلَّتِهِ، وهو كان يدعُو إلى الْحَنِيْفِيَّةِ دونَ اليهوديَّة والنصرانيَّةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ إمَّا قالَ هكذا لِيُبَيِّنَ أنَّ إبراهيمَ مع كونهِ خليلَ اللهِ وأنهُ لَمْ يَتَّخِذْهُ لحاجتهِ إليهِ، لكنَّهُ اتَّخذهُ خليلاً جزاءً على عملهِ. وقال بعضُهم: إنَّما قالَ ذلكَ لأنَّهُ لَمَّا أمرَ الناسَ بطاعتهِ حَثَّهُمْ على الطَّاعةِ بما يوجبُ الرغبةَ فيها؛ وهو كونهُ مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً ﴾؛ أي عَالِماً بكلِّ شيءٍ، قادِراً على كلِّ شيء مِن كلِّ وجهٍ، فلا يخرجُ شيءٌ عن مقدورهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي أمِّ كجَّة امْرَأةِ أوْسِ بْنِ ثَابتٍ وَبَنَاتِهَا مِنْهُ؛ لَمَّا أمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتَوْرِيثِهِنَّ مِنْ أوْسٍ، أقْبَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ الْفَزَّاريُّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّكَ قَدْ وَرَّثْتَ النِّسَاءَ وَالْبَنَاتَ وَالصِّغَارَ؛ وَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ نوَرِّثُ إلاَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى ظُهُور الْخَيْلِ وَحَازَ الْغَنِيْمَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ويقالُ: إنَّها نزلَت بعدَ نزولِ قولهِ تعالى:﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ﴾[النساء: ١١] إلى قولهِ﴿ عَلِيماً حَكِيماً ﴾[النساء: ١١] قَبْلَ نزولِ فَرْضِ الزَّوجاتِ، فجاؤوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتُونَهُ في ميراثِ أمِّ كجة امْرَأةِ الْمُتَوَفَّى، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ووعدَهم أن يُفْتِيْهِمْ في ميراثِ الزوجاتِ؛ فأَفْتَاهُمْ في ذلكَ بقولهِ تعالى:﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ ﴾[النساء: ١٢] إلى آخرِ الآيةِ. ومعنى الآية: يَسْتَفْتُونَكَ يا مُحَمَّدُ في أمرِ النِّسَاءِ وما يجبُ لَهنَّ من الميراثِ؛ قُلِ اللهُ يُبَيِّنُ لكم ميراثَهُن، والذي يُقْرَأ عليكُم في كتاب الله في أوَّلِ هذه السُّورةِ، يُفْتِيْكُمْ ويُبَيِّنُ لكم ما سَأَلْتُمْ عنه في بناتِ أمِّ كجة اللاَّتِي لا تُعْطُوهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ من الميراثِ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ﴾[النساء: ١١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾؛ أي ترغبون عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ فلا تعطوهُنَّ نصيبَهن من الميراثِ لِمَنْ يَرْغَبُ فيهنَّ غيرُكم؛ وذلكَ أنَّ بَنِي أعْمَامِ تِلْكَ الْبَنَاتِ كَانُوا أوْلِيَاءَهُنَّ؛ وَكَانُواْ لاَ يُعْطُونَهُنَ حَظَّهُنَ مِنَ الْمِيْرَاثِ، وَيَرْغَبُونَ أنْ يَتَزَوَّجُونَهُنَّ، وَهذا قول ابنِ عبَّاس وابنِ جُبير وقتادةَ ومجاهدٍ. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا والحسنِ: (أنَّ مَعْنَاهُ: وَتَرْغَبُونَ فِي أنْ تَتَزَوَّجُونَهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَلاَ تُعْطُوا لَهُمْ مَا أوْجَبَ اللهُ لَهُنَّ مِنَ الصَّدَاقِ). وفي كِلاَ القولين دليلٌ على جواز نِكَاحِ الأولياءِ لليتامَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ ﴾؛ أي وفي (الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْوِلْدَانِ) أي في مِيْرَاثِ اليتامَى. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ ﴾؛ أي وَفِي (أنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بالْقِسْطِ) في أموالِهم وحقوقهِم بالعدلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾؛ أي مَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ في أمرِ اليَتَامَى والضِّعَافِ؛ ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾ يَجْزِيْكُمْ على ذلكَ. واختلفَ أهلُ النَّحوِ في موضعِ ﴿ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ فذهبَ أكثرُهم إلى أنهُ مَوْضِعُ رَفْعٍ؛ تقديرهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب يُفْتِيْكُمْ. وقال بعضُهم: هو في موضعِ خَفْضٍ تقديرهُ: وَفي مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، إلاَّ أن هذا الوجهَ أضعفُ من الأوَّل؛ لأنه لا يصحُّ عطفُ الظاهرِ على المضمرِ بحرفِ الجرِّ من دونِ إعادة حرفِ الجرِّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً ﴾؛ الآية نزلت في خُوَيْلَةَ ابْنَةِ مُحمدِ بن مَسْلَمَةَ وفي زوجِها سعدِ بنِ الربيعِ؛ تزوَّجَها وهي شابَّةٌ؛ فلما عَلاَهَا الْكِبَرُ جَفَاهَا وتزوَّج عليها شابَّةً آثرَها عليها، فشَكَتْ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فنَزلت هذه الآيةُ، هذا قولُ الكلبيِّ وجماعةٍ من المفسِّرين. وقال سعيدُ بن جُبير: (كَانَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأةٌ قَدْ كَبرَتْ؛ وَكَانَ لَهَا سِتَّةُ أوْلاَدٍ، فَأَرَادَ أنْ يُطَلِّقَهَا وَيَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: لاَ تُطَلِّقْنِي وَدَعْنِي عَلَى أوْلاَدِي؛ وَاقْسِمْ لِي فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ أوْ أكْثَرَ إنْ شِئْتَ، وَإنْ شِئْتَ لاَ تُقْسِمْ، فَقَالَ: إنْ كَانَ يَصْلُحُ ذلِكَ فَهُوَ أحَبُّ إلَيَّ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: ﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ ﴾ أي عَلِمَتْ مِن زوجِها بُغضاً، أو إعْرَاضاً بوجههِ عنها لإيْثَار غيرِها عليها. قال الكلبيُّ: (يَعْنِي: تَرَكَ مُجَامَعَتَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا وَمُجَالَسَتَهَا وَمُحَادَثَتَهَا؛ فَلاَ جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَرْأةِ أنْ يُصَالِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً مَعْلُوماً بتَرَاضِيْهِمَا؛ وَهُوَ أنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: إنَّكِ امْرَأةٌ قَدْ دَخَلْتِ فِي السِّنِّ؛ وَأَنَا أريْدُ أنْ أتَزَوَّجَ عَلَيْكِ امْرَأةً شَابَّةً أوثِرُهَا عَلَيْكِ فِي الْقَسْمِ لَهَا لشَبَابهَا أوْ أزيْدُ فِي نصِيْبهَا مِنَ الْقَسْمِ، فَإنْ رَضِيْتِ وألاَّ سَرَّحْتُكِ بالأَحْسَنِ وَتَزَوَّجْتُ أخْرَى. فَإنْ رَضِيَتْ بذلِكَ فَهِيَ الْمُحْسِنَةُ، وَحَلَّ لِلزَّوْجِ ذلِكَ). كَمَا رُويَ" عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ طلَّقَ امْرَأتَهُ سَوْدَةَ؛ فَسَأَلَتْهُ لِوَجْهِ اللهِ أنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَفَعَلْ "ومثلُ هذا الصُّلْحِ لا يقعُ لازماً؛ لأنَّها إذا أبَتْ بعدَ ذلكَ إلى المقاسَمَة على السؤالِ كان لَها ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾؛ أي خيرٌ من الإقامةِ على النُّشُوز. وَقِيْلَ: خيرٌ من الفِرْقَةِ. ودخولُ حرفِ الشَّرطِ على الاسمِ في قولهِ تعالى: ﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ ﴾ فعلى تقديرِ فِعْلِ مُضْمَرٍ؛ أي: وَإنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ خَافَتْ، أو على التقديمِ والتأخير، كأنه قالَ: وَإنْ خَافَتِ امرأةٌ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً، وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ ﴾[النساء: ١٧٦]،﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ ﴾[التوبة: ٦] وهذا لا يكونُ إلاّ في الفعلِ الماضي؛ كما يقالُ: إنِ اللهُ أمكَنَني ففعلتُ كذا، فأمَّا في المستقبلِ فيصُحُّ أن يُفَرَّقَ بين الَّتِي للجزاءِ وبين لفظِ الاستقبال، فيقالُ: إنِ امرأةٌ تَخَفْ؛ لأنَّ (إنْ) تحرمُ المستقبلَ فلا يفصلُ بين العاملِ والمعمول. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ ﴾؛ أي جُبلَتِ الأنفسُ على الشُحِّ، فَشَُحُّ المرأةِ الكبيرة مَنَعَهَا من الرِّضَا بدون حقِّها، وتركِ بعضِ نصيبها من الرجلِ لغيرِها، وشُحُّ الرجلِ بنصيبهِ من الشَّابَّةِ يَمْنعُه من توقيرِ نصيب الكبيرةِ من القَسْمِ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾؛ أي إن تُحسنوا العِشْرَةَ وتتَّقُوا الظُّلْمَ على النساء؛ ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾؛ من الإحسانِ والْجُودِ، عالِماً بخيرِ عملِكم، والسوءِ فيجزيكُم على ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾؛ أي ولن تَقْدِرُوا أن تُسَاوُوا بينَ النساءِ ولو اجتهدتُم في العدلِ، كما رُويَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ إنَّ هَذا قَسْمِي فِيْمَا أمْلِكُ؛ فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بَما لاَ أمْلِكُ "وأرادَ به التسويةَ وَالْمَحَبَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ ﴾؛ أي لا تَميلُوا إلى الشابَّة والجميلَةِ بالفعلِ كلَّ الميلِ في النفقةِ والقسمة والإقبالِ عليها، فتتركُوا العجوزَ بغيرِ قسمة كالْمَنْبُوذةِ وَالْمَحْبُوسَةَ لا أيْمَ ولا ذاتَ بعلٍ. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾؛ أي وإنْ تُصْلِحُواْ ما أفْسَدْتُمُوهُ بإفرادِ الْمَيْلِ، فتعدِلُوا في القسمةِ بينَهُنَّ، وتتَّقوا الْجَوْرَ والعقوبةَ فيه.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾؛ لِمَا سَلَفَ منكُم من الظُّلْمِ عليهنَّ رَحِيْماً بكم بعد التوبةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ﴾؛ أي معناهُ: أنَّ الزوجَ والمرأةَ إذا تَفَرَّقَا دون تركِ حقوقِِ الله التي أوجبَها عليهما؛ أغْنَى اللهُ كُلاًّ من سَعَتِهِ مِن رزقهِ؛ الزوجَ بامرأةٍ أخرى، والمرأةَ بزوجٍ آخرَ؛ ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً ﴾؛ لَهُما في النِّكاحِ؛ ﴿ حَكِيماً ﴾؛ حَكَمَ على الزوجِ بالإمساك بالمعروفِ أو التسريحِ بالإحسان. وَقِيْلَ: معناهُ: وكانَ اللهُ واسعَ الْمُلْكِ جَوادَاً لا يُعْجِزُهُ شيءٌ، وحُكْمُهُ فيما يَحْكُمُ من الفِرْقَةِ يجعلُ لكلِّ واحدٍ منهُما مَن يسكنُ إليه وَيَتَسَلَّى به عن الأوَّل. ومِنْ حُكْمِ هذه الآيةِ: أنَّ الرجلَ إذا قَسَمَ لنسائهِ لا يجبُ عليه وطئُ واحدةٍ منهُنَّ؛ لأنَّ الوطءَ لَذةٌ لهُ فهي حَقُّهُ، فإذا تركهُ لم يُجْبَرْ عليهِ، وليس هو كَالْمُقَامِ والنفقةِ. وعمادُ القَسْمِ الليلُ، ولا يُجامعُ المرأةَ في غيرِ يومِها، ولا يدخلُ بالليلِ على التي لم يَقْسِمْ لَها، ولا بأسَ أن يدخلَ عليها بالنهار في حاجةٍ ويعودَها في مرضِها في ليلةِ غيرِها، فإنْ فَعَلَتْ فلا بأسَ أن يُقيم حتى تَشْفَى أو تَموت، فإن أرادَ أن يَقْسِمَ لَيلتين ليلتين أوْ ثَلاثاً ثلاثاً كانَ لهُ ذلكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ كُلُّهُمْ عبيدُه وإمَاؤُهُ.
﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾؛ أي أمَرْنَا أهلَ التوراةِ في التَّوراة، وأهلَ الإنْجِيْلِ في الإنجيلِ، وأهلَ كل كِتَابٍ في كتابهم.
﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾ أي ووصَّيْنَاكم يا أمَّةَ مُحَمَّدٍ في كتابكم؛ ﴿ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ وأطيعُوه في النِّسَاءِ واليتامَى وأحكامِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ ﴾؛ أي وإن تَجْحَدُوا وصيَّةَ اللهِ سُبحَانَهُ وتَعَالَى فلم تَعْمَلُوا بها.
﴿ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾؛ من الملائكةِ.
﴿ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ مِن الْجِنِّ والإنسِ وسائر الْخَلْقِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً ﴾؛ عن عبادَتِكم، لا يضرُّهُ كُفْرُ من كَفَرَ منكم، ولا ينفعهُ طاعةُ مَن أطاعَ منكم.
﴿ حَمِيداً ﴾؛ مَحْمُوداً في ذاتهِ وفي خَوَاصِّ ملائكتهِ وعبادِه، حَمَدْتُمُوهُ أو لم تَحْمِدُوهُ. وَقِيْلَ: حامداً لِمن وَحَّدَهُ وأطاعَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ تَنْبيْهٌ بعد تنبيهٍ؛ كأنهُ تعالى نَبَّهَهُمْ عن غَفْلَتِهِمْ بأنه حَفِيْظٌ على أعمالِهم كي يَتَحَفَّظُوا ولا يتهاوَنُوا لِمَا أمِرُوا من أمرِ الله تعالى، وليس شيءٌ من هَذِهِ الأَلْفَاظِ تَكْرَارٌ فِي كِتَاب اللهِ تعالى، ولكنْ كلُّ واحدٍ منها مَقْرُونٌ بفَائِدَةٍ جَدِيْدَةٍ، والفائدةُ في قولهِ تعالى: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ بأنَّها الأمرٌ بالاتِّكَالِ عَلى اللهِ تعالى، والثِّقَةِ به وتفويضِ الأُمُور إليه، ولذلكَ عَقَّبَهُ بقولهِ تعالى: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾؛ أي حَافِظاً لأعمالكم كَفِيلاً بأرزاقِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾؛ أي كَمَا يَمْلِكُ الموجودَ من السَّموات والأرضِ يَمْلِكُ أيضاً الاستبدالَ بإفناءِ الْخَلْقِ وإنشاءِ الآخرين. وَقِيْلَ: هو خطابٌ للكفار؛ لأنهُ تعالى قال من قَبْلُ: ﴿ إِن تَكْفُرُواْ ﴾ فكأنهُ قالَ: إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيُّهَا الكفَّارُ وَيَأْتِ بقوم آخَرِيْنَ أطْوَعَ منكم.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً ﴾؛ وكان اللهُ على إهْلاَكِكُمْ وخَلْقِ غَيْرِكُمْ قادِراً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي مَن كان يريدُ بعملهِ منفعةَ الدُّنيا، فَلْيَعْمَلْ للهِ ولا يَقْتَصِرْ على طلب الدُّنيا، فإنَّ ثوابَ الدُّنيا واصلٌ إلى الْبَرِّ والفاجرِ، والمؤمنِ والكافر، ولكن لِيَتَكَلَّفْ طلبَ الآخرةِ التي لا تُنال إلاّ بالعملِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً ﴾؛ لِكَلاَمِ عبادهِ.
﴿ بَصِيراً ﴾؛ بما في قلوبهم، وفي الآيةِ تَهديدٌ للمنافقين الْْمُرَائِيْنَ. وفي الحديثِ:" إنَّ فِي النَّار وَادِياً تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أرْبَعُمِائَةِ مَرَّةٍ أعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِيْنَ "وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: مَن كان يريدُ بعملهِ عِوَضاً من الدُّنيا ولا يريدُ به وجهَ اللهِ؛ أثَابَهُ الله عليهِ من عَرَضِ الدُّنيا ما أحبَّهُ؛ وَدَفَعَ منهُ فيها ما أحَبَّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾؛ أي قُومُوا بالعدلِ وقُولُوا الحقَّ، والقَوَّامُ بالقِسْطِ المستعملُ له على حَسْبَ ما يجبُ من إنصافهِ من نفسه، وإنصافِ كلِّ مظلومٍ من ظالِمِه، ومنعُ كلِّ ظالِمٍ من ظُلْمِهِ، ولفظُ الْقَوَّامِ لا يكون إلاَّ للمبالغةِ. وَالْقِسْطِ وَالإْقْسَاطُ: العَدْلُ، يقالُ: أقْسَطَ الرجلُ إقْسَاطاً إذا عدَلَ، وَأتَى بالْقِسْطِ وَقَسَطَ يَقْسِطُ قِسْطاً إذا جَارَ، قال اللهُ تعالى:﴿ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾[الحجرات: ٩] أي اعدِلُوا، وقالَ تعالى:﴿ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾[الجن: ١٥] أي الجائِرُون. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ شُهَدَآءَ للَّهِ ﴾ نُصِبَ على أحدِ ثلاثةِ أوجُهٍ؛ أحدُها: أنه خبرٌ ثَانٍ، كما يقالُ: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ. والثانِي: على الحالِ، كما يقالُ: هذا زيدٌ راكباً. والثالث: على أنه صِفَةُ الْقَوَّامِيْنَ، فإن قوَّامين نَكِرَةٌ، وشُهَدَاءَ نَكِرَةٌ، والنكرةُ تنعتُ بالنَّكرةِ. ومعنى ﴿ شُهَدَآءَ للَّهِ ﴾ أي شَهِدُوا بالحقِّ للهِ على ما كان مِن قريبٍ أو بعيدٍ. وَقِيْلَ: معنَى الآية: كُونُوا قَوَّامِيْنَ بالعدلِ في الشَّهادةِ على مَن كانت وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ في الرَّحِمِ؛ فأقيمُوها عليهِم للهِ ولا تَخافُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ، ولا ترحَمُوا فقيراً لِفَقْرِهِ؛ فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً ﴾؛ أي فلا تَتْرُكُوا الحقَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي قولُوا الحقَّ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ، والشهادةُ على النفسِ إقرارٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾ أي على وَالِدِيكُمْ وعلى أقربائِكُم، وفي هذا بيانُ أنَّ شهادةَ الابن على الوالدين لا تكونُ عُقُوقاً، ولاَ يَحِلُّ للابن الامتناعُ عن الشهادةِ على أبَوَيْهِ؛ لأنَّ في الشهادةِ عليهما بالحقِّ مَنْعاً لَهما عن الظُّلْمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ﴾؛ معناهُ: إن يكن المشهودُ عليه غَنِيّاً أو فقيراً فاللهُ أحقُّ بالغنيِّ والفقيرِ من عبادهِ من أحدِهم بوالدَيهِ وقَرَابَاتِهِ وأرحمُ وأرْأفُ، فَأقيمُوا الشهادةَ للهِ، لا تَميلُوا في الشهادَةِ رحمةً للفقيرِ، ولا تقصدوا إقامتَها لاحتمال غِنى الغنيِّ؛ أي لأجلِ غِنَاهُ، وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم:" أنْصُرْ أخَاكَ ظَالِماً أوْ مَظْلُوماً " قِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ يَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قَالَ: " أنْ تَرُدَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ فَإنَّ ذلِكَ نَصْرُهُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ ﴾؛ معناهُ: ولا تتَّبعوا الهوَى لِتَعْدِلُوا، وهذا كما يقالُ: لاَ تَتَّبعِ الهوَى لِرِضَى رَبكَ. وَيُقَالُ: معناهُ: لا تَتَّبعُوا أنْ لا تعدِلُوا، ويقالُ: كراهةَ أنْ تعدلُوا، وهذا كقولهِ تعالى:﴿ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾[النساء: ١٧٦] ويقالُ: معنى تَعْدِلُوا: تَمِيْلُوا من الْحَقِّ إلى الْهَوَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ ﴾؛ من قرأ (تَلْوُوا) بواوَين فمعناهُ: أن تُمَاطِلُوا في إقامةِ الشَّهادَةِ وتُقَلِّبُوا اللسانَ لتفسِدُوا الشهادةَ، أوْ تُعْرِضُوا عن إقامةِ الشَّهادةِ مأخوذٌ مِن لَوَى فُلاَنٌ فِي دِيْنِهِ؛ أي دَافَعَ، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم:" لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ "والمعنى: (إنْ تَلْوُوا) اللِّسَانَ لِتُحَرِّفُوا الشهادةَ لتبطلُوا الحقَّ، وتُعرِضُوا عنها فتكتمُوها ولا تقيمُوها عندَ الحكَّام.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾، من إقامتِها وكتمانِها.
﴿ خَبِيراً ﴾.
ومن قرأ (تَلُواْ) بواو واحدة فهو مِن الوِلاَيَةِ، معناهُ: إنْ أقمتُمُ الشهادةَ وأعرَضْتُم، وعن ابْنِ عبَّاس: (أنَّ الْمُرَادَ بالآيَةِ: الْقَاضِي؛ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ، فَيُعْرِضُ عَنْ أحَدِهِمَا وَيُدَافِعُ فِي إمْضَاءِ الْحَقِّ؛ أوْ لاَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ وَالنَّظَرِ وَالإشَارَةِ). وَلاَ يَمْنَعُ أن يكونَ المرادُ بالآيةِ القاضي والشاهدُ وعامَّة الناسِ؛ لاحتمال اللَّفظِ للجميعِ. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ:" مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُقِمْ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَجْحَدْ حَقّاً هُوَ عَلَيْهِ؛ وَلِيُؤَدِّيهِ عَفْواً وَلاَ يُلْجِؤُهُ إلَى سُلْطَانٍ وَخُصُومَةٍ فَلْيَقْطَعْ بهَا حَقَّهُ. وَأَيَّمَا رَجُلٍ خَاصَمَ إلَيَّ فَقَضَيْتُ لَهُ عَلَى أخِيْهِ بحَقٍّ لَيْسَ عَلَيْهِ فَلاَ يَأْخُذْ بهِ؛ فَإنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ نَار جَهَنَّمَ "
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ﴾؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عنِ ابن عبَّاس:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ؛ وَأسَدِ بْنِ كَعْبٍ وَأَخِيْهِ أُسَيْدٍ؛ وَثَعْلَبَةِ بْنِ قَيْسٍ؛ وَسَلاَمِ ابْنِ أخْتِ عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ؛ وَسَلَمَةِ ابْنُ أخِيْهِ؛ وَيَامِيْنِ بْنِ يَامِيْنَ، فَهَؤُلاَءِ مُؤْمِنُو أهْلِ الْكِتَاب، أتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّا نُؤْمِنُ بكَ وَبكِتَابكَ وَبمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَبعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُب وَالرُّسُلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " بَلْ آمِنُواْ باللهِ وَبرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَبالرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَبكِتَابهِ الْقُرْآن وَبُكلِّ كِتَابٍ أنْزَلَهُ اللهُ " قَالُواْ: لاَ نَفْعَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". ومعناها: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ ومُوسى والتَّوراةِ ﴿ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ مُحَمَّدٍ ﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ﴾ يعني الكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ التَّوراةَ والإنْجِيْلَ والزَّبُورَ وسائرَ الكُتُب الْمُنَزَّلَةِ.
﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾؛ أي أخْطَأَ خَطَأً بَعِيْداً، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّا نُؤْمِنُ باللهِ وَبرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ؛ وَكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ؛ وَكُلِّ رَسُولٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ؛ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ، كما فَرَّقَتِ اليهودُ والنصارَى. ومعنى الآية: يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا بموسَى والتوراةِ وعيسَى والإنْجيلِ آمِنُواْ بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. قال أبُو العاليةِ وجماعةٌ من المفسِّرين: (هَذِهِ الآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ، وَتَأْوِيْلُهَا: يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُواْ آمِنُواْ؛ أيْ أقِيْمُواْ وَاثْبُتُواْ عَلَى الإيْمَانِ). وقال بعضُهم: إنَّها خطابٌ للمنافقينَ؛ ومعناها: يا أيُّها الذينَ آمَنُوا في الْمَلأ آمِنُواْ في الْخَلاءِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ أي من يَجْحَدْ بوحدانيَّةِ اللهِ تعالى وبملائكتهِ وكُتُبهِ ورسُلِهِ والبعثِ بعدَ الموتِ؛ فقد أخْطَأَ خَطأً بَعِيْداً عنِ الحقِّ والصواب.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً ﴾؛ اختلفَ المفسِّرون في هذه الآيةِ، فَقِيْلَ: إنَّ المرادَ بهم اليهودُ. قال الكلبيُّ: (آمِنُواْ بمُوسَى؛ ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ آمَنُواْ بعُزَيْرٍ عليه السلام، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ عُزَيْرٍ بعِيْسَى عليه السلام، ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ). وقال مقاتلُ: (آمَنُواْ بمُوسَى عليه السلام، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ آمَنُوا بعِيْسَى عليه السلام، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ مَا رُفِعَ إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أقَامُواْ عَلَى كُفْرِهِمْ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ). وَقِيْلَ: آمنُوا بموسى عليه السلام، ثم كفرُوا بعدَه بعيسَى عليه السلام، ثم كفرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يُبْعَثَ، ثُم كفروا به بعدَ ما بُعِثَ، ثم أقاموا على كفرهمِ. وقال قتادةُ: (آمَنَ الْيَهُودُ بمُوسَى ثُمَّ كَفَرُواْ بهِ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، ثُمَّ آمِنُواْ بالتَّوْرَاةِ، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ ذلِكَ بعِيْسَى، ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً بنَبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ﴾؛ أي ما دَامُوا على كُفْرِهم؛ ﴿ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ﴾؛ أي ولا يُوَفِّقُهُمْ طَريقاً إلى الإسلامِ، ولكن يَخْذُلُهُمْ مُجَازاةً لَهم على كُفْرِهم. فإنْ قيلَ: إنَّ الله لا يغفرُ كُفْرَ مرَّةٍ؛ فما الفائدةُ في قوله ﴿ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ﴾؟ قِيْلَ: إنَّ الكافرَ إذا آمَنَ غُفِرَ لَهُ كفرُه، فإذا كَفَرَ بعد إيْمانهِ لم يُغْفَرْ لهُ كفرُه الأول، وهو مُطَالَبٌ بجَمِيْعِ كُفْرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ خَوِّفِ المنافقين عَبْدَاللهِ بْنَ أبَيِّ وأصحابَه، ومن يكونُ على سبيلِهم إلى يومِ القيامة بأنَّ لَهم عذاباً وَجِيْعاً يخلصُ وجعه إلى قلوبهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي همُ الذين يتَّخذونَ اليهودَ أحبَّاء في العَوْنِ والنُّصْرَةِ من دون المؤمنينَ المخلصين الموحِّدين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ ﴾؛ هذا استفهامٌ بمعنى الإنكار؛ أي كيفَ يطلبون عند الكفَّار العزَّة وهم أذلاَّءُ في حُكْمِ اللهِ تعالى: ﴿ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾؛ أي فإنَّ القوةَ وَالْمَنَعَةَ للهِ جميعاً، فمن أرادَ طَلَبَ العزَّةِ فليطلُبْها من اللهِ تعالى؛ لأنه المقدِّرُ بجميع مَن لهُ العزَّةُ مِن خلقهِ لِجميع العزَّةِ لَهُ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾؛ أي قد نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ سُورَةَ الأنْعَامِ بمَكَّةَ أنْ سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُجْحَدُ بها، وَيُسْخَرُ مِنْهَا فلا تَجْلِسُواْ مَعَهُمْ حتَّى يكونَ خَوْضُهُمْ في حديثٍ غيرِ القُرْآنِ، وأرادَ بذلك المذكورَ في الأنعامِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾[الأنعام: ٦٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾؛ أي من جَالَسَهُمْ راضياً بما هُم عليه من الكُفْرِ والاستهزاءِ بآيَاتِ الله فهو مِثْلُهُمْ في الكُفْرِ؛ لأن الرِّضَا بالكفرِ والاستهزاء كُفْرٌ، ومَن جَلَسَ معهُم سَاخِطاً لذلكَ منهم لم يَكْفُرْ، ولكنه يكونُ عاصِياً بالقعودِ معهم؛ فيكونُ معنى قولهِ تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ أي في أصْلِ العِصْيَِانِ وإن لم تبلُغْ معصيةُ المؤمنين معصيةَ الكفَّار، إذا لم يكن جلوسُ المؤمنينَ معهم لإقامةِ فَرْضٍ أو سُنَّةٍ، أما إذا كان جلوسُه هنالكَ لإقامةِ عبادَةٍ وهو سَاخِطٌ لتلكَ الحالِ لا يقدرُ على تغييرها، فلا بأسَ بالجلوسِ. كما روي عن الحسن: (أنَّهُ حَضَرَ هُوَ وَابْنُ سِيْرِيْنَ جِنَازَةً وَهُناكَ نَوْحٌ؛ فَانْصَرَفَ ابْنُ سِيْرِيْنَ؛ فَذُكِرَ ذلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ: إنَّا كُنَّا مَتَى رَأَيْنَا بَاطِلاً تَرَكْنَا حَقّاً؛ أشُرِعَ ذلِكَ فِي دِيْنِنَا!). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾؛ أي يَجْمَعُهُمْ فِي جهنَّم مجازاةً لَهم لاجتماعهم في الدُّنيا للاستهزاءِ، فمَن شاءَ لا يكونُ معهم في جهنَّم فلا يكونُ معهم في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ﴾؛ أي هم الذين يَنْتَظِرُونَ بكم الدَّوَائِرَ، ويرامون أحوالَكم يعني المنافقين، وَالْمُتَرَبصُ لِلشَّيْءِ: هُوَ الْمُتَوَقِّعُ لأَسْبَابه، ويسمَّى الْمُحْتَكِرُ مُتَرَبصاً لِتَوَقُّعِهِ غَلاَءَ السِّعرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي اذا كان لكم ظَفَرٌ ودَوْلَةٌ وغَنِيْمَةٌ.
﴿ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ ﴾؛ أي قالَ المنافقون: ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دِينِكم فَأَعطُونا من الغنيمةِ.
﴿ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ﴾؛ أي ظُهُورٌ على المسلمين؛ ﴿ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي قالَ المنافقون: ألَمْ نُخْبرْكُمْ بعَزِيْمَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونُطْلِعْكُمْ على سِرِّهِمْ ونكتُبْ ذلكَ إليكُم ونحذِّرْكُم عنهُم ونُجِبْهم عنكُم ونُوَاليكُم.
﴿ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ فاللهُ يقضِي بينَ المؤمنين والمنافقينَ والكفار ﴿ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾؛ أي لم يجعلِ اللهُ لليهود ظُهُوراً على المؤمنينَ. وَقِيْلَ السبيلُ: الْحُجَّةُ، ولن يجعلَ اللهُ للكافرين مِن اليهودِ وغيرِهم حُجَّةً على المسلمينَ في الدُّنيا والآخرةِ، وَقِيْلَ: معنى السَّبيْلِ: الدَّوْلَةُ الدَّائِمَةُ. وَقِيْلَ: معناهُ: لن يُدْخِلَ اللهُ الكافرين الجنةَ؛ فيقولون للمؤمنين: ما أغْنَى عنكُم تَعَبُكُمْ في الدُّنيا، وما ضَرَّنَا كُفْرُنَا بعد أن تَسَاوَيْنَا.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾؛ أي يُخَادِعُونَ أولياءَ اللهِ بإظهارهم الإيْمانِ وإبطانِهم الكفرَ؛ ليحقِنُوا بذلك دماءَهم ويشاركُوا المسلمين في غنائمِهم، وجعلَ اللهُ مُخَادَعَةً أوليائهِ مخادعةً لهُ كما قال تعالى﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ ﴾[الفتح: ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ أي مُجَازيْهِمْ جزاءَ أعمالِهم؛ وذلك أنَّهم على الصِّراطِ يُعْطَوْنَ نُوراً كما يعطَى المؤمنونَ؛ فإذا مَضَوا بهِ على الصِّراطِ طُفِئَ نورُهم، ويبقى المؤمنون ينظرُون بنورهم، فينادُون المؤمنينَ: أنْظِرُونَا نَقْتَبسْ من نوركم، فيناديهم الملائكةُ على الصِّراطِ: ارجعوا وراءَكم فالتمسُوا نوراً، وقد علمُوا أنَّهم لا يستطيعون الرجوعَ، قال: فيخافُ المؤمنونَ حينئذٍ أن يُطْفَأَ نورُهم، فيقولون: ربَّنَا أتْمِمْ لنا نورَنا، واغْفِرْ لنا إنَّكَ على كُلِ شيءٍ قديرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ﴾؛ يعني المنافقينَ؛ ﴿ قَامُواْ كُسَالَىٰ ﴾؛ أي مُتَثَاقِلِيْنَ لا يريدون بها وَجْهَ اللهِ تعالى.
﴿ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ ﴾؛ ولا يريدُون الصلاةَ إلاّ مُرَاءَةً للناسِ خَوْفاً منهم.
﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي لا يُصَلُّونَ للهِ إلاّ قليلاً ريَاءً وسُمْعَةً، ولو كانوا يريدون بذلكَ القليلِ وجهَ اللهِ لكانَ كثيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ ﴾؛ نصبَ على الذمِّ؛ ومعناهُ: مُتَرَدِّدِيْنَ بين كُفْرِ السِّرِّ وإيْمانِ العلانيةِ، ليسُوا من المؤمنين فيجبُ لَهم ما يجبُ للمسلمين؛ وليسُوا من الكفَّار فيجبُ عليهم ما يجبُ على الكفَّار. وَقِيْلَ: معناهُ: مُتَحَيِّرِيْنَ بين الكفرِ والإيْمان.
﴿ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ ﴾؛ أي ليسُوا من المؤمنينَ فيجبُ عليهم ما يجبُ عليهم، وليسُوا من الكفَّار فيؤخَذُ منهم ما يؤخذُ من الكفَّار؛ أي ما هُم بمؤمنين مُخلصين، ولا مشركينَ مصرِّحين بالشِّركِ. وكان صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ مَثَلاً لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَالْكَافِرِيْنَ كَمَثَلِ ثَلاَثَةٍ دُفِعُواْ إلَى نَهْرٍ؛ فَقَطَعَهُ الْمُؤْمِنُ؛ وَوَقَفَ الْكَافِرُ؛ وَنَزَلَ فِيْهِ الْمُنَافِقُ، حَتَّى إذا تَوَسَّطَهُ عَجَزَ؛ فَنَادَاهُ الْكَافِرُ: هَلُمَّ إلَيَّ لاَ تَغْرَقْ، وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ: هَلُمَّ إلَيَّ لِتَخْلَصَ. فَمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذا أتَى عَلَيْهِ مَاءٌ فَغَرَّقَهُ، فَكَانَ الْمُنَافِقُ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ حَتَّى يَأَتِيْهِ الْمَوْتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾؛ أي من يَخْذُلْهُ اللهُ عن الْهُدَى، فلن تَجِدَ له يا مُحَمَّدُ طريقاً إلى الْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لا تفعلُوا أيُّها الؤمنونَ كفعلِ المنافقين.
﴿ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾؛ أي أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ حجَّةً ظاهرةً توجِبُ العقوبةَ عليكم في الدُّنيا والآخرةِ. والسُّلْطَانُ في اللغة: هُوَ الْحُجَّةُ؛ يقالُ للأميرِ: سُلْطَانٌ؛ يرادُ بذلك أنه حُجَّةٌ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾؛ أي في الطَّبَقِ الأسفلِ؛ وهي الْهَاوِيَةُ لِمَكْرِهِمْ وخيانتهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مع إبْطَانِ الكُفر، قال أبو عُبيد: (جَهَنَّمُ أدْرَاكٌ مَنَازلٌ، كُلُّ مَنْزِلَةٍ مِنْهُ دَرْكٌ). ومن قرأ (الدَّرْكِ) بإسكان الرَّاء، وهو لغةٌ؛ وأكثرُ القرَّاء على فتحِها. والدَّرَكَاتُ في النَّار مثلُ الدرجَاتِ في الجنَّة، كل ما كان من درجاتِ الجنَّة أعلَى؛ فثوابُ مَن فيه أعظمُ، وما كان من دَرَكَاتِ النار أسفلَ؛ فعقابُ مَن فيه أشَدُّ. وسُئل ابنُ مسعودٍ عن الدَّرْكِ الأسْفَلِ؛ فقالَ: (هُوَ تَوَابيْتُ مِنْ حَدِيْدٍ؛ مُبْهَمَةٌ عَلَيْهِمْ لاَ أبْوَابَ لَهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ﴾؛ أي مانعاً يَمنع عنهُم العذابَ، وعن عبدِالله بنِ عمرَ؛ (أنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ: الْمُنافِقُونَ؛ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أصْحَاب الْمَائِدَةِ؛ وَآلُ فِرْعَوْنَ). قال اللهُ تعالى في أصحاب المائدة:﴿ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[المائدة: ١١٥] وقالَ:﴿ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴾[غافر: ٤٦] وقالَ: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾.
فإن قِيْلَ: مَا وجهُ التَّوْفِيْقِ بين هذه الآيةِ وبينَ قولهِ تعالى:﴿ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴾[غافر: ٤٦]؟ قِيْلَ: لا يَمتنعُ أن يجتمعَ القومُ في موضعٍ واحد ويكون عذابُ بعضِهم أشدَّ من عذاب بعضٍ، ألا ترَى أن البيتَ الداخلَ في الحمَّامِ يجتمعُ فيه الناس، فيكون بعضُهم أشدَّ أذىً بالنار؛ لكونه أدنَى إلى موضعِ الوَقُودِ. وكذلك يجتمعُ القوم في القعودِ في الشَّمس، ويتأذى الصَّفْرَاويُّ منها أشدُّ وأكثر من تأذِّي السَّوْدَاوِيِّ. والْمُنَافِقُ في اللغة: مأخوذ من النَّفَقِ؛ وهو السِّرْبُ؛ أي استَترَ بالإسلامِ كما يَسْتَتِرُ الرجلُ بالسِّرْب. وَقِيْلَ: هو مأخوذٌ من قولِهم: نَافَقَ الْيَرْبُوعُ؛ إذا دخل نَافِقَاءَهُ؛ فإذا طُلِبَ من النَّافِقَاءِ خرج من النافقاء؛ والنَّفْقَاءُ؛ والقَاصِعَةُ؛ والرَّاهِطَاءُ؛ وَالدَّامَّاءُ حُجْرَةُ اليربوعِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي إلا الذين تَابوُا من النِّفَاق، وأصلحُوا العملَ فيما بينهم وبين ربهم وتَمسَّكوا بتوحيدِ الله ودِينه.
﴿ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ ﴾؛ وأخلصُوا توحيدَهم وعملَهم.
﴿ للَّهِ ﴾؛ أي أخلصُوا ذلك من شَوْب الرِّيَاءِ، وطلب عَرَضِ الدُّنيا.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ في الجنَّة والثواب، لا يضرُّهم النفاقُ السابق إذا أصلَحُوا وتابُوا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ وهو الجنَّة. ولَمَّا حُذِفَتِ الياءُ من (يُؤْتَ) في الخطِّ، كما حذفت في اللفظ بسكونِها وسكون اللام في اسم اللهِ، فكذلكَ﴿ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ﴾[العلق: ١٨] و﴿ يَدْعُ ٱلدَّاعِ ﴾[القمر: ٦].
ويحتملُ أن يكون معنَى الآية: بَيَانُ زيادةِ الثواب لِمَنْ يَسْبقُ منه كفرٌ ولا نفاق، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾.
﴿ وَسَوْفَ ﴾ كلمة تَرْجِيَةٍ وإطْمَاعٍ؛ وهي من اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيجابٌ؛ لأنه أكرمُ الأكرمِين، وَوَعْدُ الكريمِ إنجازٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾؛ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ المنافقين هم الذينَ أوقعُوا أنفسَهم في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار، واستحقُّوا ذلك بنفاقِهم، وإنه ليسَ في حكمةِ الله تعذيبُ مَن شَكَرَ وآمَنَ، وإنَّما في حكمتهِ أن يَجْزِيَ كلَّ عامل بما عَمِلَ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ﴾ أي ما حَاجَتُهُ إلى تعذيبكم أيُّها المنافقونَ إن وحَّدتُم في السِّرِّ وصدَقتُم في إيْمانكم. ويقالُ معنى: ﴿ إِن شَكَرْتُمْ ﴾ نِعَمَ اللهِ ﴿ وَآمَنْتُمْ ﴾ بهِ وبكتبه ورُسُلهِ. وَقِيْلَ: فيه تقديمٌ وتأخير؛ أي إن آمنتُم وشكرتُم؛ لأنَّ الشُّكْرَ لا يقعُ مع عدمِ الإيْمان. وبيَّنَ اللهُ تعالى أن تعذيبَ عبادهِ لا يزيدُ في مُلْكِهِ، وأن تركَ عقوبتِهم على فعلهم لا يُنْقِصُ من سُلْطَانِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾؛ أي شَاكِراً للقليلِ من أعمالكم؛ مُثِيْباً عليها؛ يقبلُ اليَسِير؛ ويعطي الجزيلَ عليها بأضعافِها لكم؛ واحدةٌ إلى عشرةٍ إلى سبعمائة إلى ما شاءَ اللهُ من الأضْعَافِ. والشُّكرُ من العبدِ: هو الاعترافُ بالنِّعمة الواصلةِ إليه مع صِدْقٍ من التعظيمِ، والشُّكْرُ من اللهِ تعالى: هو مجازاتهُ العبدَ على طاعتهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾؛ قال ابن عبَّاس: (مَعْنَاهُ: لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بالدُّعَاءِ الشَّرِّ عَلَى أحَدٍ إلاَّ أنْ يُظْلَمَ فِيْهِ؛ فَيَدْعُو عَلَى ظَالِمِهِ فَلاَ يُعَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي أنْ يَشْكُو ظَالِمَهُ وَيَدْعُو عَلَيْهِ). ويقالُ: ﴿ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ ﴾ استثناءٌ منقطع؛ معناهُ: لكن المظلومُ يجهر بظَلاَمَتِهِ تَشَكِّياً. وفي تفسير الحسنِ: (لاَ يُحِبُّ اللهُ الْمُشَتِّمَ فِي الانْتِصَار إلاَّ مَنْ ظُلِمَ، فَلاَ بَأْسَ لَهُ أنْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ بمَا يَجُوزُ لَهُ الانْتِصَارُ بهِ فِي الدِّيْنِ). ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾[الشعراء: ٢٢٧].
قال الحسنُ: (لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ " إذا قِيْلَ لَهُ ": يَا زَانِي، أنْ يَقُولَ بمثْلِ ذلِكَ أوْ نَحْوِهِ مِنْ أنْوَاعِ الشَّتْمِ). وقال مجاهدُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الضَّيْفِ إذا لَمْ يُضَفْ وَمُنِعَ حَقَّهُ، فَقَدْ أذِنَ لَهُ أنْ يَشْكُو)، والضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ. ومن قرأ (إلاَّ مَنْ ظَلَمَ) بنصب الظّاء، فمعناهُ: لكن الظالِمُ يجهرُ بذلك ظُلماً واعتداءً. وَقِيْلَ: لكن الظالِمُ إجْهَرُوا لهُ بالسُّوءِ من القولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ﴾؛ أي ﴿ سَمِيعاً ﴾ لدُعاءِ الْمَظْلُومِ؛ ﴿ عَلِيماً ﴾ بعقوبةِ الظالِم. ويقالُ: ﴿ سَمِيْعاً ﴾ لجميع المسمُوعات؛ ﴿ عَلِيماً ﴾ لجميع المظلُومات. فقولهُ تعالى: ﴿ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ في موضعِ نصبٍ على الاستثناء المنقطعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾؛ معناه: إنْ تُظْهِرُوا خيراً أو تُسِرُّوهُ أو تعفُوا عن مَظْلَمَةٍ ظُلِمْتُمْ بها؛ فَإنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا. العَفُوُّ: كَثِيْرُ الْعَفْوِ من غيرِ حَصْرٍ، والقديرُ والقادر بمعنى واحدٍ؛ أي أنَّ اللهَ قادرٌ على العقوبة به، ثم يعفُو عن عبادهِ مع قدرته على الانتقامِ. وَقِيْلَ: معنَى الآية: إن تَرُدُّوا جواباً حَسَناً أو تَسْكُتُوا عن الظالِم ولا تُحَقِّرُوهُ ولا تؤاخذوه بظُلْمِهِ؛ فإن يُعفَ عن الظالِم ذنوبُهُ؛ فإن عَفْوَ اللهِ عن معاصيكم أكثرُ من عفوِكم عمن ظلمَكم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً ﴾؛ نزلت هذه الآية في اليهودِ والنَّصارى؛ آمنتِ اليهودُ بموسى والتوراةِ؛ وكفرَتْ بعيسى والإنجيلِ، وآمنَتِ النصارَى بعيسى والإنجيلِ؛ وكفرت بموسى والتوراة وبمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ؛ وكلُّهم كَفَرَ بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ، فأعْلَمَ اللهُ: أنْ ليسَ من الإيْمان بالبعضِ، والكفرِ بالبعضِ دينٌ يُتَّخَذُ ذلك طريقاً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة هُمُ الْكَافِرُونَ البتَّةَ، وانتصبَ قولهُ ﴿ حَقّاً ﴾ على المصدر؛ والفائدةُ في قوله: ﴿ حَقّاً ﴾ بيانُ أنَّ إيْمانَهم بالبعضِ لا ينفعُهم، ولا يسلبُ اسمَ الكفرِ عنهم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾؛ يعني في الإيْمان والتصديقِ؛ ﴿ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾؛ أي ثوابَهم، وسُمِّي الثوابُ أجراً؛ لأنه مُسْتَحَقٌّ كالأُجرة.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾؛ أي يسألك يا مُحَمَّدُ كعبُ بنُ الأشرفِ وجماعةٌ من اليهود أن تُنَزِّلَ علَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً واحدةً كما أنْزِلَتِ التوراةُ على موسى، وهذا حينَ قولوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ ﴾؛ أي لا تَعْجَبْ من مسأَلَتِهم إنزالَ الكتاب من السماء بعد أن جاءتْهُم البيِّنات على نبوَّتكَ، فإنَّهم سألُوا موسى بعدما رَأوا الآياتِ أعظمَ من ذلك.
﴿ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾؛ أي مُعَايَنَةً ظاهرةً مكشفةً؛ وهم السَّبعون الذين كانوا معه عند الجبلِ حين كلَّمَهُ اللهُ، فسألوهُ أن يَرَوا ربَّهم رؤيةً يدركونَهُ بأبصارهم في الدُّنيا. وقال أبو عُبيد: (مَعْنَى الآيَةِ: قَالُواْ جَهْرَةً أرنَا اللهَ) فَجَعَلَ جَهْرَةً صِفَةً لِقَوْلِهِمْ؛ قال: (لأَنَّ الرُّؤْيَةَ لاَ تَكُونُ إلاَّ جَهْرَةً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾؛ أي أخذتْهُم النارُ عقوبةً لَهم بسؤالِهم موسى ما لَمْ يستحقُّوه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾؛ أي عَبَدُوا العجلَ من بعد ما جاءتْهُم الدَّلالاتُ على توحيدِ الله، وفي هذا بيانُ جَهْلِ اليهودِ وتَعَنُّتِهِمْ وعِنَادِهِمْ، وأيُّ جَهْلٍ أعظمُ من اتِّخَاذِ العِجْلِ إلَهاً، بعد ظُهُور المعجزاتِ وثُبوتِ الآيات البيِّنات. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ ﴾؛ أي تَجَاوَزْنَا عنهم بعد توبتِهم مع عِظَمِ جنايتِهم وجريْمَتهم ولم نَسْتَأْصِلْهُمْ، دلَّ اللهُ تعالى بذلكَ على سَعَةِ رحمتهِ ومغفرته وتَمام نِعْمَتِهْ ومِنَّتِه، بيَّنَ ذلك أنهُ لا جريْمَة تضيقُ عنها مغفرةُ اللهِ، وفي هذا مَنْعٌ من القُنُوطِ واستدعاءٌ إلى التوبة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾؛ أي أعطيناهُ حُجَّةً على مَن خالفَهُ بيِّنةً ظاهرةً؛ وهي اليَدُ والعصَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ﴾؛ أي ورفعنَا فوقَ رؤوسِهم الجبلَ بإقرارهم بالله وبنبوَّة موسَى، وذلك حين أبَوا قَبُولَ التَّوراةِ، فرفعَ اللهُ فوقَهم الطُّورَ، فقبلُوها فَخَرُّوا سُجَّداً، فرفعَ اللهُ الطُّورَ عنهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً ﴾؛ أي قلنا لَهم: ادخُلُوا بابَ أريْحَيا إذا دخلتمُوها خاشعينَ للهِ مُنْحَنِيَةٌ أصلابُكم، فدخلوا زَحْفاً وبدَّلُوا ما قِيْلَ لَهم. ويقالُ أراد بالباب: البابَ الذي عَبَدُوا فيه العِجْلَ، أمَرَهُم اللهُ أن يدخلوه بعدَ تَوْبَتِهِمْ عن عبادةِ العِجْلِ ساجدين للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فيصيرُ ذلك كفَّارَةً لعبادةِ العجل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾؛ أي قُلْنَا لَهم مع هذا أيضاً: لا تَسْتَحِلُّوا أخْذ السَّمَكِ في يوم السَّبتِ. ومن قرأ (لاَ تَعَدُّوا) بتشديد الدَّال؛ فأصلهُ: لا تَعْتَدُوا؛ فَأُدْغِمَتِ الدالُ في الدال وأقيمَ التشديدُ مقامه. والقراءةُ بالتخفيف من عَدَا يَعْدُو عُدْوَاناً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾، أي إقْرَاراً وثيقاً شَدِيداً يعني العَهْدَ الذي أخذهُ الله في التَّوراةِ فَأَبَواْ إلاّ مُضِيّاً على المعصيةِ وخُرُوجاً عن الطاعةِ استخفافاً بأمرِ الله.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾؛ أي فَبنَقْضِهِمُ الميثاقَ الذي أخِذ عليهم في التَّوراةِ وبجَحْدِهِمْ القُرْآنَ والإنْجِيْلَ وبما في التَّوراةِ من نَعْتِ الإسلامِ وصِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقتلِهم الأنبياءَ بغيرِ جُرْمٍ.
﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾؛ أي في أوْعِيَةٍ لا تَعِي شيئاً، يقولُ الله تعالى: ﴿ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾؛ أي ليسَ كما قالُوا، ولكن خَتَمَ اللهُ على قلوبهم مجازاةً على كفرهم.
﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي إلاّ إيْماناً قليلاً لا يَجِبُ أن يسمَّوا به مؤمنين، فذلك أنَّهم آمنُوا ببعضِ الرُّسُلِ والكتُب دون البعضِ. وقال الحسنُ: (فِي هَذا تَقْدِيْمٌ وَتأخِيْرٌ؛ مَعْنَاهُ: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بكُفْرِهِمْ إلاَّ قَلِيْلاً فَلاَ يُؤْمِنُونَ، وَالْمُرَادُ بالْقَلِيْلِ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ). أما دخولُ (مَا) في قولهِ تعالى ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾ فمعناه التأكيدُ؛ كأنه قالَ: فَبنَقْضِهِمُ الْعَهْدَ، وجوابُ قولهِ تعالى ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾ مضمرٌ في الآية؛ تقديرهُ: فَبمَا نَقْضِهِمْ مِيْثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ، هذا لأنَّ أولَ الآيةِ ذمٌّ على الكفرِ، ومَن ذمَّهُ اللهُ فقد لَعَنَهُ، يعني مَن ذمَّهُ على الكُفْرِ. ويقالُ: إن الجالبَ للباقي قولَهُ: ﴿ فَبِمَا ﴾ قولُهُ تعالى مِنْ بَعْدُ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾[النساء: ١٦٠] فقوله تعالى ﴿ فَبِظُلْمٍ ﴾ بدلٌ من ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾، وجوابُهما جميعاً﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ ﴾[النساء: ١٦٠].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ﴾؛ عَطْفٌ على ما تقدَّم؛ أي وَبجَحْدِهِمْ عِيْسَى وَالإنْجِيْلَ وَمُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَرَمْيهِمْ مَرْيَمَ بالزِّنَا؛ وَهُوَ الْبُهْتَانُ الْعَظِيْمُ. وذلك: أنَّ عِيْسَى عليه السلام اسْتَقْبَلَ رَهْطاً مِنَ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَ السَّاحِرُ بْنُ السَّاحِرَةِ؛ وَالْفَاعِلُ بْنُ الْفَاعِلَةِ، فَقَذَفُوهُ وَأمَّهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بذلِكَ عِيْسَى، قَالَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبي وَأنَا عَبْدُكَ؛ بقُدْرَتِكَ خَرَجْتُ وَبكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي، وَلَم أتَّهَمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ سَبَّنِي وَسَبَّ وَالِدَتِي. فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَمَسَخَ ذَلِكَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ سَبُّوهُ وَسَبُّوا أُمَّهُ خَنَازِيْرَ، وَكَانُواْ رَمَوا أمُّهُ بيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مَانَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذَلِكَ أنَّهُ لَمَّا مُسِخَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ سَبُّواْ عِيْسَى وَأمَّهُ، فَمَسَخَ اللهُ مَنْ سَبَّهُمَا قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ؛ فَزِعَتِ اليَهُودُ وخَافَتْ دَعْوَتَهُ؛ فَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ؛ فثَارُواْ إلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ؛ فَهَرَبَ مِنْهُمْ وَدَخَلَ بَيْتاً فِي سَقْفِهِ روْزَنَةٌ - أيْ كُوَّةٌ - فَرَفَعَهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام إلَى السَّمَاءِ؛ وَأمَرَ يَهُودِيّاً مَلِكُ الْيَهُودِ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ طِيْطَانُوسُ أنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ فَيَقْتُلَهُ؛ فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَلْقَى اللهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيْسَى عليه السلام، فَلَمَّا خَرَجَ إلَى أصْحَابهِ قَتَلُوهُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أنَّهُ عِيْسَى، ثُمَّ صَلَبُوهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلْنَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ وَجْهَهُ وَجْهُ عِيْسَى وَجَسَدَهُ جَسَدُ صَاحِبنَا، فَإنْ كَانَ هَذا عِيْسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا؟ وَإنْ كَانَ هَذَا صَاحِبُنَا فَأَيْنَ عِيْسَى؟ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَاخْتَلَفُواْ فِيْهِ، ثُمَّ بُعِثَ عَلَيْهِمْ طَاطُوسُ بْنُ اسْتِيبَانْيُوسُ الرُّومِيُّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيْمَةَ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾ قولُ اللهِ خاصَّة لا قولَ اليهودِ، وكانت اليهودُ تقول: عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ، قال اللهُ تعالى: ﴿ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾ أي يَعْنُونَ الذي هو رَسُولُ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾؛ أي ومَا قَتَلُوا عيسَى وما صَلَبُوهُ ولكن ألْقَى اللهُ على طِيْطَانُوسُ شَبَهَ عِيْسَى فقتلوهُ؛ وَرُفِعَ عِيْسَى إلى السَّماءِ. قال الحسنُ: (إنَّ عِيْسَى عليه السلام قَالَ لِلْحَوَاريِّيْنَ: أيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ فَيَدْخُلَ الجَنَّةَ؛ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَوَارِيِّيْنَ فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَلْقَى اللهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيْسَى؛ فَقُتِلَ وَصُلِبَ، وَرَفَعَ اللهُ عِيْسَى إلَى السَّمَاءِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾؛ أي مِنْ قَتْلِهِ، قال الكلبيُّ: (اخْتِلاَفُهُمْ فِيْهِ: أنَّ الْيَهُودَ قَالُواْ: نَحْنُ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى: بَلْ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ، فَمَا قَتَلَهُ هَؤُلاَءِ وَلاَ هَؤُلاَءِ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ). ويقال: إنَّ الله تعالى لَمَّا ألقَى شَبَهَ عيسَى على طيطانوسُ ألقاهُ على وجههِ دون جَسَدِهِ، فَلَمَّا قَتَلُوا طيطانوس؛ نَظَرُوا إليهِ فإذا وجههُ وجهُ عيسَى وجسَدُه غيرُ جَسَدِ عيسَى، فقالوا: إن كان هذا عيسَى، فأينَ صاحبُنا؟ وإن كانَ صاحِبُنا فأينَ عيسَى؟ فقال اللهُ تعالى: ﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴾؛ نَعْتٌ كمصدر محذوف تقديرهُ: وَمَا عَلِمُوهُ عِلْماً يَقِيْناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ﴾؛ أي بَلْ رَفَعَهُ الله إلى السَّماء، وإنَّما سَمَّى ذلكَ رَفْعاً إليهِ؛ لأنه رُفِعَ إلى موضعٍ لا يَملكُ فيه أحدٌ شيئاً إلاّ (اللهَ). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾؛ قد ذكرنا معناهُ غيرَ مرَّة، وفائدةُ ذكرهِ ها هنا: بيانُ قدرةِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على نَجَاةِ من يشاءُ، وبيانُ حكمتهِ فيما فعلَ ويفعلُ وحَكَمَ ويحكمُ، فلما رَفَعَ اللهُ عيسى عليه السلام كَسَاهُ الرِّيْشَ وألبسَهُ النورَ وقطعَ عنهُ شهواتِ الْمَطْعَمِ والْمَشْرَب وطارَ مع الملائكةِ؛ فهو معهم حولَ العرشِ فكأنه إنْسِيّاً ملكياً سَمَاوِيّاً أرْضِيّاً. قال وهبُ بن مُنَبهٍ: (يُبْعَثُ عِيْسَى عَلَى رَأسِ ثَلاَثِيْنَ سَنَةٍ، وَرَفَعَهُ اللهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً، وَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلاَثَ سِنِيْنَ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾؛ لمَّا ذكرَ اللهُ تعالى اختلافَ اليهودِ والنَّصارى في عيسَى؛ بَيَّنَ بعدهُ أن هذا الشَّكَّ سيزولُ عن كل كتابيٍّ، فقالَ تعالى: ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ أي ما أحدٌ مِن أهلِ الكتاب إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بعيسَى قبلَ أن يَموتَ الكتابيُّ يعني: إذا عَايَنَ اليهوديُّ أمرَ الآخرةِ وَحَضَرَتْهُ الوفاةُ؛ ضَرَبَتِ الملائكةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ؛ وقالت: أتاكَ عيسى نبيّاً فَكَذبْتَ بهِ؛ فيؤمنُ حين لا ينفعهُ إيْمانهُ، ويقول للنصرانِيِّ: أتاكَ عيسى عليه السلام نَبيّاً فَكَذبْتَ عبدَاللهِ ورسولَهُ، فزعمتَ أنهُ هو اللهُ وابن اللهِ، فيؤمنُ بأنهُ عبدُاللهِ حين لا ينفعهُ إيْمانهُ. وَقِيْلَ: معناهُ: قبلَ موتِ عيسَى، وهذا قولُ الحسنِ وقتادةَ والربيعِ؛ جعلوا هاتَين الكنايَتين في (بهِ) و (مَوْتِهِ) راجعينَ إلى عيسَى عليه السلام، والقولُ الأولُ هو قول عكرمةَ ومجاهدُ والسُّدِّيُّ؛ جعلوا الهاءَ في قولهِ (به) راجعةً إلى عيسَى، وفي قوله (مَوْتِهِ) راجعةً إلى الكتابيِّ الذي يؤمنُ به إذا عايَن الموتَ، وهي روايةٌ عنِ ابن عبَّاس؛ قالوا: (لاَ يَمُوتُ يَهُودِيٌّ وَلاَ صَاحِبُ كِتَابٍ حَتَّى يُؤْمِنَ بعِيْسَى؛ وَإنِ احْتَرَقَ أوْ غَرِقَ أوْ تَرَدَّى أوْ سَقَطَ عَلَيْهِ جِدَارٌ أوْ أكَلَهُ سَبُعٌ أوْ أيِّ مِيْتَةٍ كَانَتْ) حَتَّى قيلَ لابنِ عبَّاس: (أرَأيْتَ إنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قال: تَكَلَّمَ بهِ فِي الْهَوْيِ؛ قِيلَ لَهُ: رَأَيْتَ لَوْ ضُرِبَتْ عُنُقُ أحَدِهِمْ؟ قَالَ: تَلَجْلَجَ بهِ لِسَانُهُ). يدلُّ على صحَّة هذا التأويلِ قراءةُ أبَيٍّ (قَبْلَ مَوْتِهِمْ). قال شَهْرُ بن الْحَوْشَب: (قَالَ لِيَ الْحَجَّاجُ يَوْماً: إنَّ آيَةً مِنْ كِتَاب اللهِ مَا قَرَأتُهَا إلاَّ تَلَجْلَجَ لِي فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قالَ: ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ وَإنِّي لأُوْتَى بالأَسِيرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَمَا أسْمَعُهُ يَقُولُ شَيْئاً. قُلْتُ: إنَّ الْيَهُودِيَّ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ؛ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ؛ وَتَقُولُ لَهُ: يَا عَدُوَّ اللهِ؛ أتَاكَ عِيْسَى عَبْداً نَبيّاً فَكَذبْتَ بهِ، فَيَقُُولُ: إنِّي آمَنْتُ بهِ إنَّهُ عَبدٌ نَبيٌّ، فَيُؤْمِنُ بهِ حِيْنَ لاَ يَنْفَعُهُ إيْمَانُهُ، وَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ لِلنَّصْرَانِيِّ: يَا عَدُوَّ اللهِ؛ أتَى عِيْسَى عَبْداً نَبيّاً فَكَذْبتَ بهِ وَقُلْتَ: إنَّهُ اللهُ وَابْنُ اللهِ، فَيَقُولُ: إنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ حِيْنَ لاَ يَنْفَعُهُ إيْمَانُهُ. قَالَ الْحَجَّاجُ: وَمَنْ حَدَّثَكَ بهَذا الْحَدِيْثِ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي بهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: - وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ - ثُُمَّ نَكَثَ فِي الأَرْضِ بقَضِيبَةٍ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ إلَيَّ وَقَالَ: أخَذْتَهَا مِنْ عَيْنٍ صَافِيَةٍ، أخَذْتَهَا مِنْ مَعْدَنِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَقُلْتُ لِشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: وَمَا الَّذِي أرَدْتَ بقَوْلِكَ لِلْحَجَّاجِ: حَدَّثَنِي بذلِكَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ يَكْرَهُهُ، وَيَكْرَهُ مَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ؟ قَالَ: أرَدْتُ أنْ أغِيْظَهُ). وحُجَّةُ من قال: إنَّ الهاءَ في قوله ﴿ مَوْتِهِ ﴾ راجعةٌ إلى عيسَى: ما رويَ في الخبرِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" أنَا أوْلَى النَّاسِ بعِيْسَى؛ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبيٌّ، وَيُوْشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمْ حَكَماً عَدْلاً، فَإذا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الْخَلْْقِ إلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، كَأَنَّ رَأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيْرَ؛ وَيُرِيْقُ الْخَمْرَ؛ وَيَكْسِرُ الصَّلِيْبَ؛ وَيُذْهِبُ السَّحَرَةَ؛ وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإسْلاَمِ؛ وَتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ، وَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيْحَ الضَّلاَلَةِ الْكَذَابَ الدَّجَّالَ؛ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب وَقْتَ نُزُولِهِ إلاَّ يُؤْمِنُ بهِ، وَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِي زَمَانِهِ حَتَّى تَرْتَعَ الإبلُ مَعَ الأُسُودِ؛ وَالْبَقَرُ مَعَ النُّمُورِ؛ وَالْغَنَمُ مَعَ الذِّئَاب، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بالْحَيَّاتِ، لاَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً، ثُمَّ يَلْبَثُ فِي الأَرْضِ أرْبَعيْنَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُوهُ "وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنَّ الْمَسِيْحَ جَاءٍ، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُقْرِؤْهُ مِنِّي السَّلاَمَ "وروي: أنهُ خَلِيْفَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أمَّتِهِ ينْزِل على ثَمانيةِ جِبَالِ بيتِ المقدسِ وفي يده عصًى من حديدٍ، فيمكثُ في الأرضِ أربعين سنةً إمَاماً مهدياً، وَقِيْلَ: إنَّ المرادَ بقوله ﴿ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يؤمنُ به أهلُ الكتاب في وقت المشاهدةِ ولكن لا ينفعُهم، والقول الأوَّل أصَحُّ؛ لأن الآيةَ في قصَّة عيسَى عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾؛ أي يَشْهَدُ عيسى عليه السلام على نفسِه يومَ القيامةِ بالعبوديَّة، وعلى النصارَى بأنَّهم عَبَدُوهُ بغَيْرِ حَقٍّ، وعلى اليهودِ بأنَّهم كَذبوهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾؛ أي فَبكُفْرِ اليهودِ وجُرمِهم حرَّمنا عليهم أشياءَ كانت طَيِّبَةً لَهم في التوراةِ؛ منها: لُحُومُ الإبلِ وألبانُها والشُّحومُ، وكانوا إذا أصابُوا ذنباً عظيماً حَرَّمَ اللهُ عليهم طعاماً طَيِّباً.
﴿ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً ﴾؛ معناهُ: بسبب مَنْعِهِمُ الناسَ عن دينِ الله وهو الإسلامُ، وَ؛ بسَبَب؛ ﴿ وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ﴾؛ وقد نُهوا عن ذلك في التَّوراة، وَ؛ بسبب؛ ﴿ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ ﴾؛ أكلِ أموال الناس بالظُّلمِ، وأخذِ الرِّشَا في الحكمِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ أي خَلَقْنَا وهيَّأْنَا للكافرينَ منهم عذاباً وَجِيْعاً يَخْلُصُ وجعهُ إلى قلوبهم، وإنَّما خَصَّ الكافرينَ لبيانِ أن مَن يؤمنُ منهم غيرُ داخلٍ في هذا الوعيدِ. ثُمَّ استثنىَ اللهُ تعالى منهم مَن آمَنَ، فقال تعالى: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾؛ أي لكن التائبون مِن أهلِ الكتاب وهم عبدُالله بنُ سلامٍ وأصحابُه، وسَمَّاهم ﴿ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ ﴾ لثباتِهم في العِلْمِ وتَبَحُّرِهِمْ فيه؛ لا يضطربون ولا تَميلُ بهم الشُّبَهُ، بمنْزِلة الشجرةِ الرَّاسخةِ بعروقِها في الأرضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي والمؤمنونَ مِن غيرِ أهل الكتاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدِّقون بما أنْزِلَ إليكَ من الفُرْقَانِ، وما فيه من تَحريم هذهِ الأشياءِ عليهم، ويصدِّقون بما أنْزِلَ من قبلِكَ على الأنبياءِ من الكُتُب.
﴿ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ ﴾؛ يجوزُ أن يكونَ معناهُ: يؤمنونَ بالنبيِّين المقيمينَ الصلاةَ، فيكون قولهُ ﴿ وَٱلْمُقِيمِينَ ﴾ نَسَقاً على قولهِ ﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾.
ويجوزُ أن يكون نَصْباً على المدحِ على معنى: أعْنِي الْمُقِيْمِيْنَ الصَّلاَةَ؛ وَهُمْ: ﴿ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾؛ كما يقال: جاءنِي قومُكَ الْمُطْعِمُونَ فِي الْمَحَلِّ؛ وَالْمُعِيْنُونَ فِي الشَّدَائِدِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ أي الْمُصَدِّقُونَ باللهِ وبالبعثِ بعدَ الموتِ أولئكَ سنعطيهم ثَوَاباً وافِراً في الجنَّة.
قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ﴾؛ أي أنْزَلْنَا جبريلَ عليكَ بهذا القُرْآنِ كما أوحينَا إلى نوحٍ؛ فأمرَ بالاستقامةِ على التَّوحيدِ ودعوةِ الخلقِ إليه، وكما أوحيْنَا إلى النبيِّين مِن بعدِ نوحٍ أوحينَا إليك. قِيْلَ: إنَّ نوحاً عليه السلام عَمَّرَ ألفَ سنةٍ لم تَنْقُصْ لهُ سِنٌّ ولا قوَّة، ولم يَشِبْ له شَعْرٌ، ولم يبلُغْ أحدٌ من الأنبياءِ في الدَّعوةِ ما بَلَغَ، ولم يَصْبرْ على أذى قومهِ ما صَبَرَ، وكان يدعُو قومَهُ لَيلاً ونَهاراً، وسِرّاً وإعْلاَناً، وكان الرجلُ من قومهِ يضربهُ فيُغْمَى عليه، فإذا أفَاقَ دَعَا وَبَلَّغْ، وَقِيْلَ: هو أوَّلُ مَن تَنْشَقُّ عنهُ الأرضُ يومَ القيامةِ بعد مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ ﴾؛ وهم بَنُو يعقوبٍ عليه السلام وهم اثْنَا عشرَ رَجُلاً، وَ؛ إلَى؛ ﴿ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا ﴾؛ أي أعْطَيْنَا؛ ﴿ دَاوُودَ زَبُوراً ﴾؛ والزَّبُورُ: هو الكتابُ، مأخوذٌ من الزُّبْرِ؛ وهو الكتابةُ، ومن قرأ زُبُوراً بضَمِّ الزَّاي وهو الأعمشُ وحمزةُ وابن وثَّاب؛ فمعناهُ: الكتُبُ على الْجَمْعِ. فإن قيلَ: كيفَ قدَّمَ اللهُ ذكر عِيْسَى على ذِكْرِ أيُّوبَ ويونُسَ وهارونَ وسليمان وداوُدَ، وهو مِنْ بعدِهم؟ قِيْلَ: لأنَّ الواوَ للجمعِ دون الترتيب، فتقديمُ ذِكْرِهِ في الآيةِ لا يوجبُ تقديْمَهُ في الْخَلْقِ والإرسالِ، والفائدةُُ في تقديْمهِ في الذكرِ: الردُّ على اليهودِ، وَلِغُلُوِّهِمْ في الطَّعْنِ فيه وفي نَسَبهِ، فقدَّمهُ اللهُ في الذكرِ؛ لأن ذلك أبلغُ في كُتُب اليهودِ وفي تَنْزِيْهِهِ مِمَّا رُمِيَ به ونُسِبَ إليهِ.
قَوْلُهُ جَلَّ وَعزَّ: ﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ﴾؛ عَطْفُ على﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾[النساء: ١٦٣]، كأنهُ قالَ: إنا أرسلناكَ مُوحِيْنَ إليكَ، وأرسلنا رُسُلاً قد قَصَصْنَا عليكَ، ويجوزُ أن يكون مَنْصُوباً بالفعلِ الذي بعدَه، كأنهُ قالَ: وقد قَصَصْنَا رُسُلاً عليكَ، ومعناه: قَصَصْنَاهُمْ؛ أي سَمَّيْنَاهُمْ لكَ في القُرْآنِ، وعرَّفناكَ قِصَّتَهُمْ.
﴿ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾؛ أي وأرسلنَا رُسُلاً لم نُسَمِّهِمْ لكَ وأمرناهم بالاستقامةِ على التَّوْحِيْدِ ودعوةِ الْخَلْقِ إلى الله. وعن أبي ذرٍّ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَمْ كَانَتِ الأَنْبيَاءُ؟ وَكَمْ كَانَ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: [كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ مِائَةَ ألْفٍ وَأرْبَعَةً وَعُشْرِيْنَ ألْفاً، وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ ثَلاثَمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ). وعن كعب الأحبار أنه قالَ: (الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ألفَا ألفٍ ومائتا ألفٍ وخمسَةٌ وعشرون ألفاً، والمرسلُ ثلاثُمائة وثلاثة عشر. وكان داودُ عليه السلام قد أنْزِلَ عليه الزبورُ، وكان يَنْزِلُ إلى البرِّية ويقرأ الزبورَ؛ فيقومُ معه علماءُ بني إسرائيلَ خَلْفَهُ؛ ويقومُ الناسُ خَلْفَ العلماءِ، وتقومُ الْجِنُّ خلفَ الناسِ، وتجيءُ الدوابُّ التي في الجبالِ إذا سَمعت صوتَ داودَ فِيَقُمْنَ بين يديه تَعَجُّباً لِمَا يسمعنَ من صوتهِ، وتجيءُ الطيرُ حتى يُظَلِّلْنَ على داودَ في خلائقِ لا يحصيهنَّ إلاّ اللهُ يُرَفْرِفْنَ على رأسهِ، وتجيءُ السِّبَاعُ حتى تحيطَ بالدواب والوحشِ لما يسمعنَ، ولما قَارَنَ الذنْبَ لم يَرَ ذلك، فقيل لهُ: ذلكَ أنْسُ الطاعةِ، وهذه وَحْشَةُ المعصيةِ. وعن أبي موسَى الأشعريِّ قالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" " لَوْ رَأيْتَنِي الْبَارحَةَ وَأنَا أسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ، لَقَدْ أعْطِيْتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ " فَقَالَ: فَقُلْتُ: أمَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ تَحْبيْراً. وكان عمرُ رضي الله عنه اذا رأىَ أبَا موسَى عليه السلام قال: " ذكِّرْنَا يَا أبَا مُوسَى " فيقرأهُ عندَهُ "وعن أبي عثمان النَّهْدِيِّ؛ قالَ: (مَا سَمِعْتُ قَطُّ بُرْبُطاً وَلاَ مِزْمَاراً وَلاَ عُوْداً أحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أبي مُوسَى، وَكَانَ يَؤُمُّنَا فِي صَلاَةِ الْغَدَاةِ فَنَوَدُّ أنَّهُ يَقْرَأ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مِنْ حُسْنِ صَوْتِهِ). وفي تفسير الكلبيُّ: (أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أنْزَلَ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ؛ وَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ؛ قَالَ الْيَهُودُ فِيْمَا بَيْنَهُمْ: مَا نَرَى مُحَمَّداً يَقْرَأ بمَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى؛ وَلَقَدْ أوْحِيَ إلَيْهِ كَمَا أوْحِيَ إلَى النَّبِيِّيْنَ مِنْ قَبْلِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ فَقَرَاَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالُواْ؛ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ ذكَرَهُ فِيْمَنْ ذَكَرَهُ وَفَضَّلَهُ بالْكَلاَمِ عَلَيْهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ ﴾؛ وفائدة تخصيصِ موسَى عليه السلام بالكلامِ مع أنَّ اللهَ تعالى كَلَّمَ غيرَه من الأنبياءِ، ؛ لأنه تعالى كَلَّمَهُ من غيرِ واسطةٍ؛ وَكَلَّمَ غيرَه من الأنبياء بالْوَحْيِ إليهم على لِسَانِ بعضِ الملائكةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَكْلِيماً ﴾؛ يدلُّ على التأكيدِ كَيْلاَ يحملَ كلامُ الله إياهُ على معنى الوَحْيِ إليه.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾؛ معناه: فَأَرْسَلْنَا هؤلاءِ رُسُلاً مُبَشِّرِيْنَ بالجنَّةِ لمن أطاعَ وَمُخَوِّفِيْنَ بالنار لمن عصَى؛ ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ ﴾؛ لئلاَّ يكونَ للناس على اللهِ حُجَّةٌ يومَ القيامةِ بعد إرسال الرُّسُلِ إليهم؛ فيقولوا: رَبَّنَا لولاَ أرسلتَ إلينا رَسُولاً فَنَتَّبعَ آيَاتِكَ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾؛ ظاهرُ المرادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذَلِكَ أنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ أتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ: سَأَلْنَا الْيَهُودَ عَنْ نَعْتِكَ وَصِفَتِكَ؛ فَزَعَمُواْ أنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَكَ فِي كُتُبهِمْ، فَأْتِنَا بمَنْ يَشْهَدُ لَكَ أنَّ اللهَ بَعَثَكَ إلَيْنَا رَسُولاً، فَأَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، وَأنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾[الأنعام: ١٩]). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾؛ أي على عِلْمٍ منهُ بأنَّكَ أهْلٌ لإنزالهِ عليكَ، وعَلِمَ من يَقْبَلُ ومن لا يقبلُ كما قالَ اللهُ تعالى:﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾[الأنعام: ١٢٤].
وَقِيْلَ: معناهُ: ﴿ أنْزَلَهُ بعِلْمِهِ ﴾ أي عَلِمَ ما فيهِ من الأحكامِ وما تحتاجُ إليه العبادُ من أمرِ دِينهم ودُنياهم ثُمَّ أنْزَلَهُ. وَقِيْلَ: معناهُ: أنزلَهُ إليكَ من عندهِ لم يُبَدِّلْ ولم يُغَيَّرُ، بل وَصَلَ إليكَ كما كان في اللَّوحِ الْمَحْفُوظِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾؛ أي يشهدونَ على شهادَةِ اللهِ، وعلى شهادتِكَ بأنَّ الذي شَهِدْتَ به حَقٌّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾؛ أي اكْتَفُوا باللهِ شهيداً في شهَادَتِهِ أن تَشْهَدَ اليهودُ بما في كتابهم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلاً بَعِيداً ﴾؛ معناهُ: إنَّ الذين جَحَدُواْ وحدانيَّةَ اللهِ وَمُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم والْقُرْآنَ، وصَرَفُوا الناسَ عن دينِ الله وطاعتهِ فقد أخْطَأُواْ خَطَأً بعيداً عن الْهُدَى والثواب. بَيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ضَلاَلَتَهُمْ في الدُّنيا. ثم بيَّن عقوبتَهم في الآخرةِ فقالَ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ﴾؛ أي إنَّ الذينَ كفرُوا بما يجبُ الإيْمان به وظَلَمُوا أنفسَهم بكُفْرِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ مَا دامُوا على كُفْرِهم.
﴿ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ﴾؛ إلَى الإسلامِ.
﴿ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ﴾؛ لكن تَرَكَهُمْ على طريقِ جَهَنَّمَ وهو الكفرُ. وَقِيْلَ: معناهُ: لا يُرْشِدُهُمْ في الآخرةِ إلى طريقٍ غيرَ طريقِ جهنم، كما في قولهِ تعالى:﴿ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ ﴾[الصافات: ٢٣].
﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾؛ التَّخْلِيْدُ والتعذيبُ.
﴿ وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾؛ سَهْلاً هَيِّناً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ ﴾؛ خطابٌ لعامَّةِ الْخَلْقِ.
﴿ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بكلمةِ التَّوحيدِ والقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ رَبكُمْ.
﴿ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ ﴾؛ فصدِّقوا باللهِ ورسوله، وبما جاءَ به من عندهِ يكُنْ خيراً لكم من التَّكْذِيْب. قال الخليلُ والبصريُّون: (انْتَصَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَيْراً ﴾ لأنَّكَ إذا أمَرْتَ بفِعْلٍ دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ؛ تَقْدِيْرُهُ: إئْتُوا خَيْراً لَكُمْ، وَإذا نَهَيْتَ عَنْ فِعْلِ دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ؛ تَقْدِيْرُهُ: إئْتِ بَدَلَهُ خَيْراً لَكُمْ). وقال الفرَّاءُ: (انْتَصَبَ لأنَّهُ مُتَّصِلٌ بالأَمْرِ وَهُوَ مِنْ صِفَتِهِ) تَقْدِيْرُهُ: هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَلَمَّا سَقَطَ هُوَ اتَّصَلَ بَما قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذا: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. وقال الكسائيُّ: (انْتَصَبَ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْكَلاَمِ) وقال: (هَذا إنَّمَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلاَمِ التَّامِّ، نَحْوَ قَوْلِكَ: لَتَقُومَنَّ خَيْراً لَكَ، وَانْتَهِ خَيْراً لَكَ، وَإذا كَانَ الْكَلاَمُ نَاقِصاً رَفَعُواْ، فَقَالَ: أنِ انْتَهُواْ خَيْرٌ لَكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي إنْ تَكْفُرُوا يُعَاقِبْكُمُ اللهُ، فَإنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. وَقِيْلَ: إنْ تكفرُوا فإنَّ الله غَنِيٌّ عنكُم، لكونهِ مَالكَ السَّمَاوات والأرضِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي لَمْ يَزَلْ عَلِيْماً بخلقهِ، بمن يؤمنُ وبمن لا يؤمنُ، حَكِيْماً في أمرهِ، حَكمَ بالإسلامِ على عبادهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾؛ نزلَت في نصارَى نَجْرَانَ وهم: النَّسْطُوريِّةُ: الذين يقولونَ عيسى ابنُ الله، وَالْمَارْيَعْقُوبيَّةُ: الذين يقولون عيسى هو اللهُ، وَالْمَرْقُوسِيَّةُ: الذين يقولون ثالثُ ثلاثةٍ؛ ويقال هم الْملكانيَّة. ومعنى الآيةِ: يَا أهْلَ الْكِتَاب لاَ تُجَاوزُوا الحدِّ في الدينِ فتغيِّروا فيه. والغُلُوُّ في الدينِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فيهِ، وقد غَلَتِ النصارى في أمرِ عيسى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ الأنبياءِ فجعلوهُ إلَهاً. ويقالُ: إنَّ الآيةَ خطابٌ لليهودِ والنصارى؛ لأنَّ اليهودَ أيضاً غَلَوا في أمرِ عيسَى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ مَنْ وُلِدَ على غيرِ الطَّهارةِ فجعلوهُ لغيرِ رُشْدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾ أي لا تَصِفُوا اللهَ إلاّ بالحقِّ، والحقُّ أن يقالَ: إلَهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ، وينَزِّهُهُ عن القبائحِ والنَّقَائصِ وعن جميعِ صفاتِ الْمُحْدَثِيْنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ليسَ المسيحُ إلاَّ رَسُولَ اللهِ؛ لأن (إنَّمَا) تقتضِي تحقيقَ المذكور وتَمحِيْقَ ما سواهُ، كقولهِ تعالى: ﴿ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾، وفي قولهِ: ﴿ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾ بيانٌ أنهُ لا يجوز أن يكونَ إلَهاً؛ أي كيفَ يكون إلَهاً وهو ابنُ مَرْيَمَ أمَةُ اللهِ؟ وكيفَ يكون إلَهاً وَأُمُهُ قَبْلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ﴾؛ أي إنهُ كان بكلمتهِ عَزَّ وجَلَّ وهو قولهُ: (كُنْ) فَكَانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أمْرٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ أتَاهَا جِبْرِيْلُ بأَمْرِ اللهِ فَنَفَخَ فِي جَيْب دِرْعِهَا؛ فَدَخَلَتْ تِلْكَ الْنَّفْخَةُ بَطْنَهَا؛ فَخَلَقَ اللهُ عِيْسَى بنَفْخَةِ جِبْرِيْلَ عليه السلام). والنَّفْخُ في اللغة: يُسَمَّى رُوْحاً. وَقِيْلَ: سَمَّاهُ اللهُ تعالى رُوْحاً؛ لأنه كان يُحْيي بهِ الناسَ في الدينِ كما يُحْيَوْنَ بالأرواحِ. وَقِيْلَ: لأنه رُوْحٌ مِن الأرواحِ أضافَهُ اللهُ إليهِ تشريفاً لهُ، كما يقالُ: بَيْتُ اللهِ. وقال السُّدِّيُّ: (مَعْنَاهُ (وَرُوحٌ مِنْهُ) أيْ مَخْلُوقٌ مِنْهُ؛ أيْ مِنْ عِنْدِهِ). وَقِيْلَ: معناهُ: ورحمةٌ منهُ؛ أي جعله اللهُ رحمةً لمن آمَنَ بهِ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾[المجادلة: ٢٢] أي قَوَّاهُمْ برحمةِ منهُ. وَقِيْلَ: الرُّوحُ: الوَحْيُ؛ أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالْبشَارَةِ، وأوحَى إلى جبريلَ بالنَّفْخِ، وأوحَى إليه أن كُنْ؛ فَكَانَ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ ﴾[النحل: ٢] أي بالوحْيِ،﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾[الشورى: ٥٢] أي وَحْياً. ورويَ: أنَّهُ كَانَ لِهَارُونَ الرَّشِيْدِ طَبيْبٌ نَصْرَانِيٌّ، وَكَانَ غُلاَماً حَسَنَ الْوَجْهِ جِدّاً، وَكَانَ كَامِلَ الأَدَب جَامِعاً لِلْخِصَالِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بهَا إلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ مُولَعاً بأَنْ يُسْلِمَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ يُمَنِّيْهِ الأَمَانِيَّ إنْ أسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ ذاتَ يَوْمٍ: مَا لَكَ لاَ تُؤْمِنُ؟ قَالَ: إنَّ فِي كِتَابكُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ انْتَحَلَهُ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ فَعَبَّرَ بهَذا أنَّ عِيْسَى جُزْءٌ مِنْهُ. فَضَاقَ قَلْبُ الرَّشِيْدِ، وَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَمْ يَكُنْ فِيْهِمْ مَنْ يُزِيْلُ شُبْهَتَهُ حَتَّى قِيْلَ لَهُ: قَدْ وَفَدَ حُجَّاجُ خُرَاسَانَ وَفِيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ مِنْ أهْلِ مَرُو؛ وَهُوَ إمَامٌ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ؛ فَدَعَاهُ؛ فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُلاَمِ، فَسَأَلَهُ الْغُلاَمُ عَنْ ذلِكَ، فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمَ اللهُ؛ يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ؛ فِي سَابقِ عِلْمِهِ أنَّ الْخَبيْثَ يَسْأَلُنِي فِي مَجْلِسِكَ عَنْ هَذا؛ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ كِتَابَهُ مِنْ جَوَابهِ، وَأنَّهُ لَيْسَ يَحْضُرُنِي الآنَ، وَللهِ عَلَيَّ أنْ لاَ أطْعَمَ وَلاَ أشْرَبَ حَتَّى أُؤَدِّيَ الَّذِي يَجِبُ مِنَ الْحَقِّ إنْ شَاءَ اللهُ. وَدَخَلَ بَيْتَهُ مُظْلِماً؛ وأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ؛ وَانْدَفَعَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ حَتَّى بَلَغَ سُورَةَ الْجَاثِيَةِ إلَى قَوْلِهِ:﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾[الجاثية: ١٣] فَصَاحَ بَأَعْلَى صَوْتِهِ: افْتَحُواْ الْبَابَ؛ فَقَدْ وَجَدْتُ الْجَوَابَ، فَفَتَحُواْ وَدَعَا الْغُلاَمَ؛ فَقَرَأ عَلَيْهِ الآيَةََ بَيْنَ يَدَي الرَّشِيْدِ وَقَالَ: إنْ كَانَ قَوْلُهُ ﴿ رُوحٌ مِّنْهُ ﴾ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ عِيْسَى بَعْضاً مِنْهُ؛ وَجَبَ أنْ يَكُونَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ بَعْضاً مِنْهُ. فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ؛ وَفَرِحَ الرَّشِيْدُ فَرَحاً شَدِيْداً، وَوَصَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بصِلَةٍ جَيِّدَةٍ. فَلَمَّا عَادَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إلَى مَرُو؛ صَنَّفَ كِتَاباً سَمَّاهُ (كِتَابُ النَّظَائِرِ فِي الْقُرْآنِ) وَهُوَ كِتَابٌ لاَ يُوَازِيْهِ كِتَابٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾؛ أي صدَّقوا بوحدانيَّة اللهِ بما جاءَكم به الرُّسُلُ من الله؛ ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ﴾؛ أي تقُولُوا آلِهَتُنَا ثلاثةٌ: أبٌ؛ وابنٌ؛ وروحُ قدسٍ.
﴿ ٱنتَهُواْ ﴾؛ عنِ الكُفْرِ، عن هذهِ المقالةِ، وتُوبُوا إلى اللهِ هُوَ؛ ﴿ خَيْراً لَّكُمْ ﴾؛ من الإصرار على الكُفْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾؛ أي ما اللهُ إلاَّ إلهٌ واحدٌ؛ ﴿ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾؛ كلمةُ تَنْزِيْهٍ عن السُّوءِ؛ أي تَنْزِيْهاً لهُ أنْ يكون له ولدٌ؛ ﴿ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ كلُّهُم عَبيْدُهُ وإمَاؤُه وفي قبضتهِ؛ ويستحيلُ أن يكون الْمَمْلُوكُ ابْناً لِلْمَالِكِ؛ أي لا يجتمعُ الْمِلْكُ مع الولادةِ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً ﴾[مريم: ٩٢-٩٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾؛ أي اكتَفُوا برُبُوبيَّتِهِ وبكفالَتِه، فلا ولدَ لهُ ولا شريكَ؛ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمَّا يقولُ الظالِمُون عُلُوّاً كَبيْراً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾؛ نَزَلَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ؛" نَاظَرُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي أمْرِ عِيْسَى، فَقَالَ لَهُمْ: " هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ". فَقَالَُواْ: لاَ تَقُلْ هَكَذا؛ فَإنَّ عِيْسَى يَأَنَفُ مِنْ هَذا الْقَوْلِ؛ "فَنَزَلَ تَكْذِيْباً لِقَوْلِهِمْ: ﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ ﴾ أي لن يَأَنَفَ، ولم يَتَعَظَّمَ عن الإقرار والعبوديَّة لله عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾ أي ولن يستنكفَ الملائكةُ المقرَّبونَ عن العبوديَّة وهم حَمَلَةُ الْعَرْشِ. وإنَّما خصَّ الملائكةَ بعد عيسى؛ لأن النَّصارى كانوا يقولونَ: عيسى ابن الله، وبَنُو مُدْلَجٍ كانوا يقولونَ: الملائكةُ بنات اللهِ، فَرَدَّ اللهُ على الفريقين جَميعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ﴾؛ أي مَن يأْنَفُ ويَمْتنعُ عن توحيدهِ وطاعته وَيَتَعَظَّمُ عنِ الإيْمانِ؛ فَسَيَجْمَعُهُمُ إليه جميعاً: الْمُسْتَنْكِفُ وَالْمُسْتَكْبرُ؛ والْمُقِرُّ وَالْمُطِيْعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾؛ أي فالذينَ آمنُوا بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوفِرُ عليهم جزاءَ أعمالِهم في الجنَّة، وَيَزِيْدُهُمْ من عطائهِ مَا لاَ عَيْنٌ رَأتْ؛ وَلاَ أذُنٌ سَمِعَتْ؛ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾؛ أي وأما الذين أبَوا وامتنعُوا عنِ الإيْمانِ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ؛ ﴿ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ وَجِيْعاً.
﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾؛ ولا يَجِدُونَ لَهم سوَى اللهِ قريباً ينفعُهم، ولا مانعاً يَمنعُهم من النار.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾؛ خطابٌ للناس كلِّهم، والْبُرْهَانُ هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، سَمَّاهُ بُرْهَاناً لظهور المعجزةِ، والنورُ المبينُ الْقُرْآنُ؛ سَمَّاهُ نُوراً مُبيْناً؛ لأن النورَ هو الذي يُبَيِّنُ الأشياءَ حتى تُرَى، والقُرْآنُ مُبَيِّنُ الأشياءِ كلِّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ ﴾؛ أي فأمَّا الذينَ صَدَّقُوا بوحدانيَّةِ الله وتَمَسَّكُوا بدينهِ وكتابهِ، وسألُوا العصمةَ من مَعَاصِيهِ؛ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخرةِ جَنَّتَهُ وكراماتهِ التي أعدَّها لَهم فيها.
﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾؛ أي ويُعَرِّفُهُمْ في الدُّنيا سبيلَ الْهُدَى وهو الإسلامُ، وَيُثَبتُهُمْ عليهِ، وتقديرُ الآية: وَيَهْدِيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُهُمْ فِي الآخِرَةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ﴾؛ نزلت في جَابرِ بنِ عبدِالله حين جاءَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ لِي أُخْتاً؛ فَمَا لِي فِيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، فأنزلَ اللهُ هذه الآيَةَ، وقد تقدَّم تفسيرُ الكَلاَلَةِ، وابتدأ بالرجلِ، فيقالُ: إنهُ ماتَ قبل أختهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ ﴾؛ يعني مِن أُمٍّ وأبٍ أو من أبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ﴾؛ وحكمُ الثَّلاثِ والأربعِ فصاعداً حكمُ الاثنين كالبناتِ، وإنْ كانوا إخوةً؛ ﴿ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً ﴾؛ أي وإنْ كان الورثةُ إخوةً من أمٍّ وأبٍ، أو من أبٍ ذُكُوراً وإناثاً؛ ﴿ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾؛ أي يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ قِسْمَةَ المواريثِ؛ لِئَلاَّ تُخْطِئُوا في قِسْمَتِهَا، وقد حذفَ (لا) في الكلامِ ويرادُ إثباتُها كما في قوله تعالى:﴿ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾[لقمان: ١٠]، ويقال في القَسَمِ: واللهِ أبْرَحُ قَاعِداً؛ أي لاَ أبْرَحُ، وَتُذْكَرُ (لا) ويراد طرحُها كما في قولهِ تعالى:﴿ لاَ أُقْسِمُ ﴾[القيامة: ١] و﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾[الأعراف: ١٢].
وذهبَ البصريُّون إلى أنَّ معناهُ: كَرَاهَةَ أنْ تَضِلُّوا، فحذفَ المضافَ وأقامَ المضاف إليه مقامهُ، كما في قولهِ تعالى:﴿ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾[يوسف: ٨٢].
وقال الفرَّاءُ: (مَوْضِعُهُ نُصِبَ بنَزْعِ الْخَافِضِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. وعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ: أعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنِ اشْتَرَى ذا رَحِمٍ وَاَعْتَقَهُ، وَبُرِّئَ مِنَ الشِّرْكِ، وَكَانَ فِي مَشِيْئَةِ اللهِ مِنَ الَّذِيْنَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ "
Icon