تفسير سورة النساء

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة النساء من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة النساء
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية. وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجناية والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية ؛ لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد. ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول : إن هذه السورة ألفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة١. ولعل ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة، فألحقت بها ؛ لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا، ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله ابن مسعود قال :( ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة ) وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لاحظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا٢ وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.
١ انظر كتابنا سيرة الرسول ج٢ ص ٩ والإتقان ج١ ص ١٠ـ ١٢.
٢ الإتقان ج١ ص ١٨.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ( ١ ) وَالأَرْحَامَ ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( ١ ) ﴾
( ١ ) تساءلون به : تتساءلون به، وقرئت بتشديد السين والمعنى واحد. وهو الذي تناشدون وتستحلفون به بعضكم ؛ حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لأجل الاطمئنان باليقين : نشدتك بالله، أو سألتك بالله.
( ٢ ) الأرحام : هي على قول الجمهور معطوفة على محل ( به ) أي اتقوا الأرحام التي تناشدون وتستحلفون بها بعضكم ؛ حيث كان من عادة العرب أن يقولوا لبعضهم : نشدتك بالرحم أو سألتك بالرحم إذا أرادوا أن يطلبوا مطلبا أو يستحلفوا أحدا. وقد يرد أن تكون معطوفة على الله بمعنى واتقوا الأرحام وقطيعتها.
تعليق على الآية الأولى من السورة.
عبارة الآية واضحة. والخطاب فيها موجه للناس يدعون فيه إلى تقوى الله الذي يناشد بعضهم به بعضا، وتقوى الأرحام بمعنى حفظها وعدم قطيعتها وهي التي يناشد كذلك بعضهم بعضا بحقها. وينبهون فيه إلى أن الله رقيب عليهم محص لجميع أعمالهم. وهو الذي خلقهم من نفس واحدة، ثم خلق منها زوجها وأخرج منها الكثير من الرجال والنساء.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها جعلت فاتحة السورة كبراعة استهلال لما احتوته من الأحكام والتشريعات المتعددة في حقوق النساء وذوي الأرحام، فلكل من هؤلاء حقوق يجب على الناس تقوى الله ومراقبته فيها وأداؤها إلى أهلها. وعلى ذلك يقوم المجتمع البشري قويا مطمئنا. ويتوطد التعاطف والتعاون بين أفراده الذين هم أخوة من أب واحد وأم واحدة. ومع أن المتبادر من روح الآية أن الخطاب موجه في الدرجة الأولى إلى المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويتلقون ما جاء فيه نبراسا وهدى لهم، وهم أهل الدعوة إلى تقوى الله فإن استعمال لفظ ( الناس ) لا يخلو من معنى جليل في صدد الدعوة إلى تقوى الله في الحقوق التي هي قدر مشترك بين جميع الناس الذي يتألف منهم المجتمع البشري. وبهذا كله تبدو الآية رائعة في أسلوبها ومداها.
ويلحظ أن في الآية تكرار لما ورد في سور سابقة في النزول من الإشارة إلى وحدة النفس الإنسانية وخلق زوجها منها ؛ حيث يمكن أن يلمح من هذا التكرار قصد توكيد التنويه الرباني بشأن بني آدم ومركزهم بين خلق الله والتذكير بما يوجبه عليهم هذا التوكيد من تقوى الله تعالى، على اعتبار أنهم هم المكلفون بذلك على ما شرحناه في آخر سورة الأحزاب السابقة لهذه السورة في النزول. وهناك أحاديث نبوية عديدة في تعظيم حرمة الأرحام والنهي عن قطيعتها ؛ حيث يبدو من ذلك حكمة ما جاء في الآية من مناشدة الناس بالأرحام التي يتساءلون بها ووجوب تقوى الله فيها. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي أيوب جاء فيه ( إن رجلا قال : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ فقال : تعبد الله لا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم )١وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يبسط الله رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ). وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي جاء فيه ( ليس الواصل بالمكافئ. ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) إن الرحم شجنة من الرحمان، فقال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته. وحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جبير ابن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدخل الجنة قاطع رحم ).
١ التاج ٥ ص ٨ـ ١٠ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم..
( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا( ١ )كَبِيرًا ( ٢ ) )
حوبا : إثما أو ذنبا
وعبارة الآية واضحة. وقد احتوت أمر ربانيا بوجوب أداء أموال اليتامى وحقوقهم وعدم أكلها وإساءة استعمالها، وتبديل الخبيث بالطيب منها. وبيانا لما في ذلك من ذنب عظيم عند الله.
تعليق على الآية
( وآتوا اليتامى أموالهم ) إلخ
وقد روى بعض المفسرين١ أن الآية نزلت في يتيم بلغ رشده، فامتنع عمه ووصيه عن أداء أمواله إليه فشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية فاستجاب العم واستعاذ من الحوب الكبير. والرواية لم ترد في الصحاح بل في كتب التفسير القديمة كالطبري. ومع احتمال أن يكون قد حدث شيء مما ذكرته، فإن نصف الآية المطلق واحتواءها حالات أخرى غير حالة الامتناع عن دفع مال اليتيم، وورود آيات أخرى بعدها في صدد التشديد على حق اليتيم يجعلنا نرجح أنها لم تنزل لحدتها بسبب الحادث المروي، وأنها استمرار لما قبلها بالدعوة إلى تقوى الله في أموال اليتيم ومتصلة بما بعدها في الوقت نفسه.
ويدل نصها على أن بعض الأوصياء كانوا يتحايلون على أموال الأيتام الذين تحت وصايتهم، فيتصرفون فيها لمصالحهم ويجعلون الرديء من ماشية وغلة ونقود محل الطيب فاقتضت حكمة التنزيل أن تكون الآية مطلقة العبارة شاملة لمختلف الحالات.
وننبه على أن القرآن المكي قد أمر مرارا بمراقبة الله في أموال اليتامى وحقوقهم. ولا بد من أن يكون هذا بسبب استشراء عادة البغي عليها والإساءة فيها، فلما توطد سلطان الإسلام في المدينة اقتضت حكمة التنزيل أن يعار الأمر اهتماما تشريعيا. وقد بدأ ذلك فعلا في الآية ( ٢٢٠ ) من سورة البقرة.
وورد في هذه السورة آيات عديدة بسبيل ذلك هذه أولاها. وهكذا تتسق المبادئ القرآنية في المكي والمدني من القرآن، وتتطور في المدني وفقا لتطور حالة الإسلام فتغدو تشريعا بعد أن كانت تنبيها ووعظا وإنذارا ولقد علقنا على هذا الموضوع، وأوردنا ما روي فيه من أحاديث في سياق سورة الفجر فنكتفي بهذا التنبيه.
١ انظر تفسير الخازن للآية..
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ( ١ ) فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ( ٢ ) فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ( ٣ ) ( ٣ ) ).
( ١ )ألا تقسطوا : أن لا تعدلوا
( ٢ )مثنى وثلاث ورباع : معدولة عن اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث، وأربع أربع
( ٣ ) ذلك أدنى ألا تعولوا : فسر بعضهم ( ألا تعولوا ) بأن لا يكثر عيالكم وتفقروا. وفسرها بعضهم بأن ( هذا أحرى أن يمنعكم من الجور والجنف ) والكلمة لغويا تتحمل المعنيين. غير أن المقام يجعل المعنى الثاني هو الأوجه. وهو ما أخذناه به.
في الآية تنبيه للمسلمين على أنهم في حال احتمال خوفهم من عدم العدل مع البنات واليتيمات فلهم في غيرهن متسع فليتزوجوا بما يطيب لهم من غيرهن بواحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع، ثم تنبيه آخر في مقام الاستطراد على أنهم إذا خافوا من احتمال عدم العدل الواجب مع أكثر من زوجة واحدة فعليهم أن يكتفوا بواحدة أو بما في ملك يمينهم من الإماء فقط. فهذا هو أحرى أن يجنبهم إثم الجور والجنف.
تعليق على الآية
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) الخ
وتمحيص مسألة تعدد الزوجات
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. ويتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآية السابقة لها التي تنهى عن أكل أموال اليتامى، وهادفة إلى حماية البنات اليتيمات. أما بقية الآية فقد احتوت استطرادا متسقا مع مداها.
ولقد روى البخاري ومسلم عن عروة قال :( سألت عائشة عن قول الله تعالى :( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) فقالت : يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه جمالها ومالها، فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فنهوا عن ذلك إلا أن يبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن )١.
وقد روى الطبري حديثا آخر عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة جاء فيه ( أن الآية الأولى نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل، وهي ذات مال فلعله ينكحها لمالها، وهي لا تعجبه ثم يضربها ويسيء صحبتها فنهوا عن ذلك ) وتبدو حكمة النهي في هذا الحديث أظهر مما هي في الحديث الأول كما هو واضح. فإن احتمال الخوف من الجور أحرى أن يكون من ناحية زواج الوصي على اليتيمة غير الجميلة طمعا في مالها فقط. والمتبادر أن هذه الحالة تكون في ذوي القربى ؛ حيث تكون اليتيمة ذات المال في حجر أحد أقاربها، فيضن بمالها أن يأخذه الغريب فيتزوجها أو يزوجها لابنه، ولا يكون لها من جمالها عاصم فتتعرض للأذى. وهذا المعنى ذكر بصراحة أكثر في آية أخرى من هذه السورة وهي :
( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ١٢٧ ).
هذا في صدد الفقرة الأولى من الآية. وواضح من روحها أن الأمر الوارد في الفقرة الثانية أي ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) هو في حالة الخوف من عدم العدل والإنصاف في حالة التزوج باليتيمات. وأنه لا حرج من التزوج بهن في حالة انتفاء هذا الخوف.
والمتبادر أن الفقرة الثالثة التي جاءت بعدها أي ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) قد جاءت في مقام الاستدراك في حالة الخوف من عدم العدل بين الزوجات العديدات اللاتي جعلت الفقرة الثانية فيهن مندوحة عن عدم الإسقاط باليتيمات، وفي الجملة الأخيرة من الفقرة تعليل لذلك ؛ حيث يكون الاقتصار على زوجة واحدة أو ملك اليمين من الإماء مانعا للجور وعدم العدل.
وهكذا تكون الآية قد هدفت إلى حماية اليتيمات ثم إلى منع الجور عن الزوجات في حالة التعدد. وهذا وذاك من روائع الأهداف القرآنية التي تكررت بأساليب متعددة مر بعضها في سياق أحكام الطلاق التي تضمنتها آيات البقرة ( ٢٢١ ٢٤٢ ) على ما شرحناه في مكانها وفي هذه السورة فصول أخرى من هذا الباب أيضا.
ومع أن صيغة الفقرة الثانية في إباحة تعدد الزوجات في عصمة الرجل ليست تشريعية في التحديد، وإنما هي بسبيل المخرج من خوف عدم الإقساط في اليتيمات فإن معظم العلماء اعتبروها تحديدا لعدد الزوجات اللاتي يسوغ للرجل جمعهن في عصمته وهو أربع زوجات ؛ حيث رووا أن الرجل كان قبلها ومنذ ما قبل الإسلام يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات ويصل العدد أحيانا إلى عشر. ومن ذلك أنه كان تحت النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية عشر نساء. وهناك أحاديث نبوية ساعدت على هذا الاعتبار. منها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( إن غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعا )٢ وحديث رواه أبو داود عن عميرة الأسدي جاء فيه ( إني أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اختر منهن أربعا ) ٣ وحديث رواه الشافعي عن نوفل ابن معاوية الديلي جاء فيه ( أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختر أربعا منهن أيهن شئت وفارق الأخرى ) ٤ ولقد قال الذين اعتبروا الآية تحديدا إن الله قد أحل للنبي أن يحتفظ بزوجاته اللاتي كن في عصمته زائدات عن الحد، واستندوا في ذلك إلى آيات سورة الأحزاب ( ٥٠ ٥٢ ) التي مر تفسيرها.
على أن هناك أقوالا ومذاهب مخالفة لذلك٥ حيث ذهب قائلوها إلى أن الفقرة ليست لأجل الحصر والتحديد وإنما هي للترغيب ؛ لأجل تفادي ظلم اليتيمات وحسب، وأن من السائغ أن يجمع الرجل في عصمته ما شاء أكثر من أربع.
وذهبت الشيعة والظاهرية التي تأخذ ألفاظ القرآن على ظاهرها على ما ذكره ابن كثير إلى جواز جمع تسع نساء ؛ حيث اعتبروا كلمات مثنى وثلاث ورباع معدولة عن اثنين وثلاث وأربع، وجمعوا هذه الأرقام فصار الجمع تسعا. وأورد المفسر القاسمي أقوالا مطولة للرازي والشوكاني في تبرير جمع أكثر من أربع، وفي كون الفقرة لا تعني التحديد وفي إيراد أدلة على ضعف الأحاديث المروية عن غيلان وعميرة ونوفل وإبراز عللها، وكون حديث الصحابي إذا صح لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته وفي أنه لم يقم دليل على كون جمع النبي لعشر نساء كان من قبيل الاختصاص.
غير أن العمل المتواتر بعدم جواز جمع أكثر من أربع في عصمة الرجل من لدن العهد النبوي والخلفاء الراشدين قد عده أهل المذاهب السنية وعلماء الحديث دليلا على ذلك، وهو الحق الذي يجب الالتزام به والوقوف عنده.
أما القول : إنه لم يقم دليل على أن جمع النبي لعشر نساء هو من قبيل الاختصاص فهو غريب. ففي آية سورة الأحزاب ( ٥٠ ) وبخاصة في جملة ( خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ) من هذه الآية دليل لا يدحض على ذلك فيما هو المتبادر وعلى ما شرحناه في سياق تفسير الآيات ( ٥٠ ٥٢ ) من سورة الأحزاب. ومن العجيب أن يتجاهله القائلون. بل وفيها دليل على صحة مذهب جمهور أهل السنة في التحديد.
ولقد قلنا في مقدمة السورة : إن مضامين بعض فصولها تلهم أن بعضها نزل قبل فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب. وآية النساء التي نحن في صددها من الأمثلة على ذلك يتبادر أنها نزلت قبل آيات سورة الأحزاب المذكورة التي نزلت للاستدراك بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت هذه الآية متصلة موضوعا وسياقا بما قبلها وما بعدها فقد يصح القول : إن الفصل كله قد نزل قبل آيات الأحزاب المذكورة التي هي فصل قائم بذاته. ولو أن رواة الترتيب جعلوا سورة الأحزاب بعد هذه السورة لكان ذلك معقولا بسبب تقدم هذا الفصل على آيات سورة الأحزاب المذكورة. ولو كان هناك قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة لكنا نرى مبررا لتقديم هذه السورة على سورة الأحزاب في الترتيب.
ويبدئ بعض الأغيار ويعيدون في أمر إباحة الإسلام لتعدد الزوجات، والإنصاف يقتضي القول : إن هناك ظروفا يكون فيها التعدد مفيدا من دون ريب، وإن هناك ظروفا يكون فيها مضرّا من دون ريب أيضا. فهناك احتمال بأن يكون الرجل أو المجتمع في حاجة إلى كثرة النسل لأسباب اقتصادية واجتماعية عامة وخاصة.
وهناك احتمال بأن تكون زوجة الرجل عاقرا أو مريضة لا يرى من الرأفة والإنصاف ما يسوغ له طلاقها. وهناك احتمال بتفوق عدد النساء في مجتمع ما على عدد الرجال وتعرض الزائدات للشقاء والعوز والسقوط. وهناك احتمال السفر والتغرب لمدة طويلة لأسباب متنوعة لا يكون في الإمكان اصطحاب الزوجة فيها، ففي مثل ذلك يكون التعدد سائغا أو واجبا أو مرغوبا فيه.
أما عدا هذه الحالات فإن التعدد يسبب المشاكل والبغضاء والتناحر في داخل الأسرة فيجعل حياتها جحيما. وهذا عدا الاحتمال الغالب بعدم العدل بين الزوجات العديدات سواء من ناحية المعاشرة أم من ناحية النفقة أم من ناحية تفضيل بعضهن على بعض الأسباب متنوعة نفسية واجتماعية واقتصادية مما يؤدي كذلك إلى المشاكل والبغضاء والتناحر في داخل الأسرة فيجعل حياتها بدوره جحيما.
وتنبيه القرآن إلى ذلك في جملة ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) يتسق مع طبيعة الأشياء والوقائع. وفي هذه السورة آيات تذكر ما يمكن أن يقع من نشوز وإهمال من الرجال لبعض زوجاتهم العديدات ومن الميل الشديد لواحدة دون أخرى منهن، وتقرر استحالة العدل بينهن وتوصي ببعض الحلول والمعالجات وهي الآيات ( ١٢٧ ١٣٠ ) وهي إن كانت لا تمنع التعدد بالمرة بسبب تلك الضرورات الملزمة فيما هو المتبادر، فإنها تلهم بوجوب الاكتفاء بواحدة في حالة عدم قيام تلك الضرورات على ما سوف يأتي شرحه بعد.
وهكذا تكون الحكمة التشريعية القرآنية قد توخت إباحة التعدد لمعالجة حالة قائمة وسائغة فيها غلو وإفراط، ولتكون بعد ذلك مخرجا للحالات السابقة الذكر والتشديد على وجوب العدل والاقتصار على زوجة واحدة في الحالات الأخرى بحيث يمكن أن يقال : إن تلقين الاقتصار هو الأقوى وإن إباحة التعدد هو المخرج للحالات والضرورات الاستثنائية المتنوعة الدواعي. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. ولقد اقتضت حكمة الله ووعده أن يكون الدين الإسلامي والشرائع الإسلامية دين البشرية وشرائعها مما احتوت توكيده آيات عديدة. منها آية سورة الفتح هذه ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيد ٢٨ ) فكان من ذلك أن احتوت الشرائع الإسلامية ما احتوته في هذا الصدد كما في غيره من حل مختلف المشاكل والانطباق على كل حالة وظرف.
ولعل فيما هو منتشر في الأمم والبلاد التي تجعلها شرائعها تقتصر على زوجة واحدة من الشذوذ والتحايل على هذه الشرائع ونقضها بمختلف الأشكال، ومن جملة ذلك استباحة الأعراض المحرمة والسفاح والتخالل السري والعلني دليلا حاسما على حكمة التشريع الإسلامي٦.
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا
١ التاج ج ٤ص ٧٩ـ ٨٠.
٢ هذه النصوص من ابن كثير وقد وردت في كتب التفسير الأخرى انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن والقاسمي.
٣ انظر المصدر نفسه.
٤ انظر المصدر نفسه.
٥ انظر المصدر نفسه.
٦ انظر تفسير الآية في المنار حيث ساق الإمام رشيد رضا له وللإمام محمد عبده من الأقوال والتعليلات ما فيه الحجة المقنعة التي لا يماري فيها منصف وعاقل. وهي في جملتها متسقة مع ما قررناه.
.

﴿ وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ( ١ )نِحْلَةً( ٢ )فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ( ٤ ) ﴾
١- صدقاتهن : مهورهن والصداق هو المهر
٢- نحلة : أمرا واجبا أو فريضة واجبة أو عطاء واجبا لا بد منه
عبارة الآية واضحة. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزولها. والمتبادر أنها متصلة بموضوع الآية السابقة اتصال استطراد. فعلى الذين أبيح لهم نكاح ما يطيب لهم من الزوجات في نطاق التحديد الذي انطوى في الآية السابقة أن يدفعوا لزوجاتهم المهور المتفق عليها كعطية واجبة ولا ينقصوا منها شيئا بدون موافقتهن ورضائهن. فإذا تنازلن لهم عن شيء منها بطيب نفس ورضاء فهو لهم سائغ حلال.
وهدف حماية حق الزوجات في الآية بارز أيضا مثله في الآية السابقة.
ولقد روى الطبري عن بعض المؤولين أن الآية هدفت إلى منع عادة كانت جارية، وهي تبادل الزواج بدون مهر فيزوج الرجل أخته أو ابنته لرجل ويتزوج أخت الرجل أو ابنته مقابل ذلك بدون مهر. وأوجبت أداء المهر الزوجة لها حين البناء عليها. وهذا وارد ووجيه. وفيه حماية للمرأة وعدم إضاعة حقها في مهرها لأي سبب. وهذه العادة كانت تسمى الشغار. وقد رويت أحاديث نبوية في ذلك. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا شغار في الإسلام ) ١. وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر جاء فيه ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق ) وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال ( الشغار : أن يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي أو زوجني أختك وأزوجك أختي ) والمتبادر أن يكون تزويج رجل ابنته لابن رجل آخر مقابل تزويج هذا ابنته لابن ذلك الرجل بدون مهر ينسحب عليه ذلك المنع. والله تعالى اعلم.
١ التاج: ج٢ ص ٣٠٥.
﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء( ١ ) أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً( ٢ ) وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ( ٣ ) وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ( ٥ ) ﴾.
( ١ )السفهاء : أوجه تأويلات الكلمة أنهم ضعفاء العقل والتمييز صغارا كانوا أم كبارا.
( ٢ ) التي جعل الله لكم قياما : التي جعلها الله قوام حياتكم ومعيشتكم
( ٣ ) ارزقوهم فيها : أجروا عليهم معيشتهم منها.
تعليق على الآية
( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) الخ
عبارة الآية أيضا واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة في نزولها. ويتبادر لنا أنها استمرار استطرادي للسياق السابق الذي احتوى أوامر ونواهي تناولت المعاملات والحقوق المالية والشخصية.
وقد نهت المسلمين عن وضع أموالهم في أيدي ضعفاء العقل والتمييز. ونبهتهم إلى أن المال قوام الحياة ووسيلة المعاش، فيجب عدم التفريط فيه وإضاعته بتصرف السفهاء. وهذا مظهر اتساق تعاليم القرآن مع واقع الحياة الإنسانية وعنايتها وتوجيهاتها في الشؤون الاقتصادية والمعاشية.
وقد نبهت الآية إلى وجوب الإنفاق على السفهاء ما هم في حاجة إليه من طعام وكساء ووجوب التصرف معهم بالحسنى. وهذا من مظاهر عناية القرآن بهذه الطبقة.
وروح الآية وتنبيهاتها تدل على أن السفهاء المقصودين في الآية هم الذين يكونون من ذوي رحم وقربى أصحاب الأموال الذين تجب عليهم نفقتهم.
ولقد أورد المفسرون١ أقوالا عديدة في المقصود بكلمة السفهاء معزوة إلى ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم من الصحابة والتابعين. منها أنهم الصبيان والنساء، ومنها أنهم النساء خاصة، ومنها أنهم كل ضعيف في عقله وتمييزه قاصرا كان أم بالغا وذكرا كان أو أنثى. ولقد أورد القائلون بأنهم النساء حديثا نبويا لم يرد في كتب الحديث لو صح لا يصح أن يساق كدليل على تأويل الكلمة بالنساء، فهو يصف المتزوجات اللاتي لا يطعن قيمهن بالسفه لا جميع النساء، وهؤلاء ليسوا إلا قلة ضئيلة. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآيات ( ٨ ١٤ ) من سورة البقرة والآية ( ٢٠ ) من سورة الروم فلا حاجة للإعادة والزيادة. إلا أن نقول : إن نص الآية وروحها يتسقان مع القول الأخير الذي يقول : إن المقصود من الكلمة كل ضعيف في عقله وتمييزه.
ومن العجيب أن الذين يقولون : إنهم النساء خاصة ينسون أن في الآية السابقة لهذه الآية مباشرة صراحة بوجوب إعطاء الزوجة مهرها تاما دون ابتزاز منه وبتقرير حقها في التصرف فيه ؛ حيث ينقض هذا ذلك القول الذي يراد منه عدم قدرة المرأة على حسن التصرف والتدبير.
ويأتي بعد قليل آيات تقرر حق المرأة في الإرث وأهليتها في الدين والاستدانة والتملك والوصية والتصرف في كل ما اكتسبت. ومن جملة ذلك آية تنهي الزوج عن أخذ شيء مما أعطاه لزوجته، ولو كان قنطارا مما فيه ضمنا إقرار بإعطاء لزوجات المال الكثير. وكل هذا يزيد في أسباب العجب ويكون فيه دعم حاسم.
والآية وإن كانت موجهة إلى أصحاب الأموال لتدبير أمورهم بأنفسهم وتحذرهم من تمكين ضعفاء العقل والإدراك من أولادهم ونسائهم منها وتفاديا من الإساءة في استعمالها، فإنها تنطوي على ما يمكن أن تلهمه روحها على مبدأ تشريعي وهو عدم تمكين ضعفاء العقل والتمييز من أموالهم أنفسهم لغلبة الظن بتفريطهم وإساءة تصرفهم بحيث يجب الحجر عليهم من قبل ولي الأمر وإقامة أوصياء يدبرون لهم أموالهم ويقومون بالإنفاق عليهم بالمعروف والحسنى. وقد قال المفسر القاسمي : إن العلماء قد استدلوا بهذه الآية على وجوب الحجر على السفيه البالغ سواء أطرأ عليه السفه أم كان من حين البلوغ.
١ انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي والطبرسي.
﴿ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ( ١ )فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ( ٢ )وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ( ٦ ) ﴾
( ١ )حتى إذا بلغوا النكاح : الجملة بمعنى حتى إذا بلغوا سن الاحتلام والقدرة على المعاشرة الجنسية.
( ٢ ) وبدارا أن يكبروا : استعجالا لأكلها قبل أن يكبروا وتبقى لهم أموالهم.
الخطاب في هذه الآية أيضا موجه للمسلمين كسابقتها. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا باختبار اليتامى حينما يبلغون سن الحلم ودفع أموالهم إليهم إذا ثبت لهم رشدهم وتمييزهم.
( ٢ ) نهيا عن أكل أموالهم بحجة تدبير أمور أصحابها أكلا فيه إسراف وفيه استعجال قبل أن يكبروا
( ٣ ) وتحديدا للموقف الذي يجب أن يقفوه من مال الأيتام الذي في عهدتهم. وهو أن يعف الغني ولا يمد يده إليه. أما الفقير فله أن يأخذ أجرا بالمعروف أي بدون مبالغة فيما يأخذ.
( ٤ )أمرا بالإشهاد حينما يدفع الوصي لليتيم أمواله.
تعليق على الآية
( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ... ) إلخ.
روى الشيخان عن عائشة قالت : إن الآية ( وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف ١ وليس في الحديث إشارة إلى مناسبة معينة وإنما فيه توضيح لمدى الآية. وهو ظاهر من نصها. وهناك رواية٢ تذكر أنها نزلت في مناسبة استفتاء شخص من النبي صلى الله عليه وسلم عما يحق له من مال ابن أخيه اليتيم الذي تحت يده ومتى يدفعه إليه. والرواية وإن كانت لم ترد في الصحاح فإنها محتملة الصحة. ولكن المتبادر من روح الآية ونصها أنها بسبيل تشريع أساسي وعام في صدد أموال اليتامى في حال صغرهم وفي حال بلوغهم سن الحلم والرشد. وهي من هذه الناحية متصلة نوعا ما بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، وقد يكون استفتاء العم قد جاء وسيلة إلى ذلك.
ولقد احتوت الآية وسيلتين متلازمتين للاستيثاق من قابلية اليتيم :
أولاهما : بلوغه سن النكاح أي سن الاحتلام والقدرة الجنسية.
وثانيتهما : ثبوت رشده في التصرف. أي أنه لا يكفي لدفع مال اليتيم إليه أن يبلغ سن الحلم بل ينبغي أن يثبت رشده أيضا. وهذا يستتبع القول فيما يتبادر لنا إنه إذا لم يثبت رشده بعد بلوغه سن الحلم يدخل في حكم الآية السابقة فيعتبر سفيها ويظل محجورا عليه، ويدبر ماله من قبول الولي أو الوصي وينفق عليه منه إلى أن يثبت رشده.
والمتبادر من روح الآية والرواية ثم من روح الآيات المكية والمدنية عامة التي نزلت في التشديد على حق اليتيم وحفظ ماله أن أولياء اليتامى كانوا من عصبتهم وأقاربهم الأدنين كالأخوة الكبار والأعمام، وأن أموال اليتامى التي كانت على الأعم الأغلب من المواشي والزروع والثمار كانت مختلطة بأموالهم ؛ ولذلك كانوا محل تهمة أكل أموالهم وتبديل الطيب منها بالخبيث.
ومن هنا تبدو حكمة التشديد القرآني المتوالي ؛ لأن هذا المجال ليس بمجال الغريب ؛ ولأن الغريب لا يجرؤ على ما يجرؤ عليه عصبة اليتيم وأقاربه الأدنون.
وحديث الشيخين عن عائشة الذي أوردناه قبل يفيد هذا أن ولي اليتيم كان يرى لنفسه حقا في أخذ شيء من مال اليتيم القاصر مقابل النظر عليه وتدبيره، فأباحت الآية هذا للفقير مع شرط الأكل بالمعروف أي عدم تجاوز الحد المتعارف على أنه حق معقول، وسائغ. وأمرت الغني بالتعفف لأنه ليس في حاجة. فكان ذلك متسقا مع ما تكرر من مظاهر عناية حكمة التنزيل ورعايتها لليتيم. وفيه في الوقت نفسه دليل على أن أولياء اليتامى كانوا في العادة من ذوي عصبة اليتامى وأقربائهم الأدنين.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث النبوية في صدد ما يجوز للولي غير الغني أكله من مال اليتيم من ذلك حديث رواه الإمام أحمد جاء فيه ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لي مال ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا أن تقي مالك أو قال تفدي مالك بماله ) ٣ مما فيه توضيح تطبيقي للآية واتساق مع هدفها.
ولقد روى المفسرون أقوالا عن بعض الصحابة والتابعين في صدد ما إذا كان ما يأخذه الفقير من مال اليتيم قرضا يجب رده إذا أيسر أم لا. فمنهم من قال : إنه قرض ومنهم من قال : إنه مقابل الجهد والنظر. والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر والأكثر اتساقا مع روح الآية والأحاديث، وبخاصة مع صراحة الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها.
والخطاب في الآية وإن كان موجها للأولياء، فإن الذي يتبادر لنا إن هذا لا يعني أنه ليس لولي الأمر والحكام حق الإشراف على تطبيق أحكامها سواء أفي اختيار اليتامى والتثبت من بلوغهم الرشد بعد الحلم أم في مراقبة الأولياء ومنع إساءة تصرفهم في أموال اليتامى التي تحت أيديهم بأي وجه. فإن هذا مما يحقق الهدف القرآني.
ولقد تعددت الأقوال في سن الرشد ودلائله وكيفية التثبت منه. ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وقد عزا بعض المفسرين إلى ابن عباس وسعيد ابن جبير وغيرهم أن دلائل ذلك صلاح الدين وحفظ المال، وقال بعضهم : إن من ذلك اجتناب الفواحش والتبذير، ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة، فإن عدم تفصيل ذلك في القرآن والسنة الصحيحة قد يعني أنه ترك للمسلمين والحكام حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. ولقد قال بعضهم إن سن الرشد هي السابعة عشرة أو الثامنة عشرة. وروح الآية يفيد أن القصد من جملة ( فإن آنستم منهم رشدا ) هو ثبوت رشدهم بعد بلوغهم الحلم. وهذا منوط بالتمييز والإدراك والأخلاق، وليس بالسن. فإذا بلغ اليتيم الحلم ولم يثبت رشده بذلك يظل محجورا عليه كما قلنا قبل. وهذا المتفق عليه عند الجمهور.
وهناك نقطة يحسن الإشارة إليها، وهي تأخر ظهور القدرة الجنسية في اليتيم. وهو ما عبرت عنه الآية في جملة ( حتى إذا بلغوا النكاح ) لم نطلع على حديث نبوي وراشدي في ذلك. ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه تعرض لهذه النقطة، والاحتلام في البلاد الحارة قد يكون قبل الخامسة عشرة، وقد يتأخر في غيرها إلى بعدها. وقد يتأخر لسبب جسماني أو صحي أيضا. ولقد روى ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه ( رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يحتلم أو يستكمل الخمس عشرة... ) وروى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه ) ٤. والآية قد هدفت إلى إيجاب التثبت من بلوغ اليتيم سن الرجولة والرشد معا. وقد يمكن الاستئناس بالحديثين على أن سن الرجولة يمكن أن يكون في الخامسة عشرة، ولو لم يكن احتلام بحيث يسوغ القول على ضوء ذلك إن اليتيم إذا بلغ الخامسة ولم يكن قد احتلم وثبت رشده يكون قد تحققت صلاحيته للتصرف بماله وساغ دفعه إليه. والله تعالى أعلم.
١ التاج ج٤ ص ٨٠.
٢ انظر تفسير الخازن.
٣ انظر تفسير ابن كثير. وقد روى هذا المفسر أحاديث أخرى من باب هذا الحديث فاكتفينا بما أوردناه. انظر أيضا تفسير الخازن والزمخشري والطبري والطبرسي. ومعنى غير متأثل: غير مدخر ومكتنز..
٤ التاج ج ٢ ص ٢٤٤ و٢٤٥.
( ١ )الأقربون وأولو القربى : يلفت النظر إلى الفرق في دلالة اللفظين ؛ حيث استعملا في موضعين متغايرين :
فالأول استعمل في موضع الدلالة على الاستحقاق في الإرث ؛ حيث يفيد أنه يعني القربى القريبة التي تخول الإرث.
والثاني استعمل في موضع الهبة والعطية ؛ حيث يفيد أنه يعني القربى البعيدة التي لا تخول الإرث.
( ٢ ) الرجال والنساء : المتبادر من روح الآيات ونصها أن الجملة تعني الذكور والإناث البالغين والقاصرين.
﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ( ١ ) وَلِلنِّسَاء ( ٢ ) نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ٧ ) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ( ٨ ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ( ١٠ ) ﴾
تعليق على الآية
( لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ) إلخ
والآيات الثلاث التالية لها

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) تقريرا بحق كل من الرجال والنساء في ما يتركه والدوهم وأقاربهم القريبون من إرث كنصيب مفروض من الله
( ٢ ) وحثا على منح ذوي القربى الذين لا تخولهم درجة قرابتهم الإرث والمساكين واليتامى منحا مما قسم على أصحاب الحق فيه تطييب خاطرهم إذا ما حضروا قسمة التركة.
( ٣ ) ودعوة قوية إلى تقوى الله في تنفيذ أوامره. وقد انطوت الدعوة على تذكير وتمثيل قويين : فكل امرئ يخاف على ذريته إذا مات عنها وهي ضعيفة قاصرة أن يصيبها أذى وتهضم، فعليه والحالة هذه أن يتقي الله فلا يتسبب بقول أو عمل فيهما أذى وهضم لذرية ضعيفة قاصرة ولا يقول ويعمل إلا ما فيه الحق والخير والصلاح.
( ٤ ) وعودة إلى التنبيه على حق اليتامى بإنذار شديد لآكلي أموالهم وحقوقهم ومضيعيها بغيا وظلما وطمعا. فليعلم هؤلاء أنهم بذلك إنما يأكلون النار المحرقة، وأنهم سيصلون هذه النار في الآخرة.
وقد روى المفسرون رواية مختلفة في صيغها متفقة في مداها عن عكرمة وغيره مفادها أن الآية الأولى نزلت بمناسبة امرأة أنصارية مات زوجها وتركها مع يتيمة أو ثلاث يتيمات وخلف مالا فأبى عم أو أعمام أو أبناء عم البنات أن يعطوهن شيئا من تركته على عادتهم قبل الإسلام في عدم توريث النساء، فشكت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تركب فرسا ولا تحمل كلا، ولا تنكأ عدوا يكسب عليها، ولا تكتسب فنزلت، فأرسل إليهم بعدم التصرف بالتركة حتى ينظر ما ينزل في أمرها مفصلا، ثم نزلت بعدها آيات المواريث فأمر بقسمة التركة وفقا لذلك١ورووا أن الآية الرابعة أي ﴿ ١٠ ﴾ نزلت في رجل من غطفان أكل مال ابن أخيه اليتيم٢.
والروايات متسقة مع مدى الآيات. وإن لم ترد في الصحاح وهذا لا يمنع احتمال صحتها على أن الذي يتبادر لنا أن الآيات منسجمة مع بعضها أولا، وليست منقطعة الصلة بسابقتها ولاحقتها موضوعا وسياقا ثانيا. وجملة ( نصيبا مفروضا ) بخاصة قرينة على صلتها بلاحقاتها التي تبين نصيب كل صاحب حق في الإرث بحيث يصح أن يقال : إن هذه الآيات وما بعدها قد نزلت معا. وأن ما روته الروايتان من أحداث كانت مناسبة لنزول هذا الفصل.
وقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيما إذا كانت الآية ( ٨ ) منسوخة بآيات المواريث الواردة بعد أم محكمة٣ وقد عزي القولان لابن عباس، والقول الثاني هو الأوجه فيما هو المتبادر، وهو ما عليه الجمهور ؛ لأن هذه الآية كما يتبادر من روحها ومن الآية السابقة لها أنها في صدد الذين لا تخولهم درجة قرابتهم نصيبا في الإرث. فلا محل للقول : إنها نسخت بآيات المواريث.
ولقد روى المفسرون٤ عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم أن هذه الآية في معرض الإيعاز على المشرف على الموت بالوصية للفئات المذكورة فيها. ونص الآية لا يتحمل ذلك فيما نرى ؛ لأنه يقرر أمرا بعد موت صاحب المال وإن كان القول في حد ذاته لا يخلو من وجاهة متسقة مع إيجاب القرآن على المسلم الذي يحضره الموت الوصية إذ ترك خيرا أي مالا على ما جاء في الآية ( ١٨٠ ) من سورة البقرة التي مر تفسيرها والتعليق عليها. ثم مع توكيد القرآن على وجوب تنفيذ وصية الميت على ما جاء في آيات تأتي بعد هذه الآيات ؛ حيث يفيد هذا أن وصية المسلم لغير ورثته بقصد صلة الرحم والبر مما كان مأمورا ومعمولا به ومرغوبا فيه.
والمتبادر أن الذين حثت الآية على رزقهم من التركة من أولي القربى هم الذين لا تخولهم درجة قرابتهم نصيبا من التركة ويكونون فقراء بدليل جمعهم مع المساكين، والمتبادر كذلك أن اليتامى الذين حثت الآية على إعطائهم هم اليتامى الفقراء بالدليل نفسه. والآية مطلقة بحيث لا تمنع أن يكون اليتامى والمساكين من الغرباء عن الميت أو أقاربه.
وقد روى بعض المفسرين٥ أن الآية ( ٩ ) في صدد التنبيه على أصحاب المال بعدم تبذير أموالهم بالهبات والوصايا تبذيرا يؤدي إلى حرمان ذريتهم من بعدهم. ومنهم من قال : إنها في صدد تنبيه أصحاب الأموال إلى وجوب الوصية لأقاربهم الفقراء واليتامى والمساكين٦. ومنهم من قال : إنها في صدد التحذير من الإلحاح على صاحب المال في الإكثار من الهبات والوصايا لغير ذريته وتنبيههم إلى ما يؤدي ذلك إليه من حرمان ذرية الرجل والإهابة بهم إلى تذكر حالة ذريتهم أنفسهم إذا تركوها محرومة ضعيفة، وإلى ألا يقولوا إلا المعروف الذي ليس فيه حرمان وأذى.
ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة. وبخاصة القول الأخير الذي قد يتسق مع نص الآية على أنه يتبادر لنا أن الآية مرتبطة بالتي بعدها التي تنذر آكلي مال اليتيم ظلما ؛ حيث تهيب بهم إلى تقوى الله في أفعالهم وأقوالهم والخوف على أولادهم من أن يصيروا أيتاما مهضومي الحق مأكولي المال من بعدهم.
هذه والآية ( ٨ ) جديرة بالتنويه من حيث كونها حاسمة في صدد تثبيت حق النساء خاصة في الإرث ؛ لأن هذا الحق لم يكن معترفا به مما فيه توكيد للعناية الربانية بالمرأة على اختلاف حالاتها، وفي تثبيت هذا الحق لأهليتها للتصرف في المال، وتوهين من ناحية ما لما يساق من تطبيق وصف السفهاء عليها في مثل هذا المقام.
كذلك فإن الآية ( ١٠ ) جديرة بالتنويه أيضا لقوة ما فيها من إنذار وزجر ضد آكلي أموال اليتامى وظالميهم مما كان موضوع عناية القرآن في آيات كثيرة مكية ومدنية.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة متساوقة مع مدى وهدف الآية، وإن لم ترد بنصها في الصحاح. منها حديث أخرجه ابن مردويه عن أبي برزة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا. قيل : يا رسول الله من هم قال ( الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) الآية.
( ١ )ولد : هذا اللفظ ومعه في الآيات يعني الذكور والإناث.
﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ( ١ ) فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا( ١١ ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً( ٢ ) أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( ١٢ ) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٣ ) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ١٤ ) ﴾
تعليق على الآية
( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ) الخ
والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات
عبارة الآية واضحة وقد احتوت بيان ما اقتضت الحكمة بيانه من الأنصبة المفروضة للرجال والنساء أو الذكور والإناث في إرث الأموات كما يلي :
( ١ ) نصيب الذكر هو ضعف نصيب الأنثى.
( ٢ ) إذا كان الميت أبا ولم يترك إلا بنتا فلها نصف تركته. وإن ترك أكثر من بنتين فلهن ثلثاها.
( ٣ ) إذا كان للميت والدان وأولاد فلكل من والديه السدس.
( ٤ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد فلوالده الثلثان ولأمه الثلث.
( ٥ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد وله إخوة فيكون للأم السدس بدلا من الثلث.
( ٦ ) للزوج النصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد. فإن كان لها ولد فله ربعها.
( ٧ ) للزوجات ربع تركة زوجهن إن لم يكن له ولد. فإن كان له ولد فلهن الثمن.
( ٨ ) إذا لم يكن للميت والدان ولا أولاد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما سدس التركة، وإذا كان الإخوة والأخوات أكثر فهم شركاء في ثلث التركة.
( ٩ ) التركة التي تقسم على الورثة هي ما يبقى منها بعد سداد دين الميت وتنفيذ وصيته.
وقد انتهت الآية الأولى بفقرة توطيدية لهذا التقسيم. فالناس لا يدرون حقيقة الأنفع لهم من آباء وأبناء ولكن الله أعلم بذلك. وقد أمر بما هو الأصلح لهم وجعله فريضة واجبة التنفيذ وهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصلاح.
وقد انتهت الآية الثانية بالتنبيه على عدم تعمد الإضرار والإجحاف بحقوق أحد. وعلى أن هذا التقسيم هو فريضة الله العليم الحليم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويرأف بكل ذي حق ويعامله بمقتضى حلمه.
وفي الآيتين الأخيرتين توطيد تعقيبي أيضا : فما تقدم من الأحكام هي حدود الله التي يجب الوقوف عندها، وعدم الانحراف عنها والتلاعب فيها. ومن أطاع الله ورسوله والتزم حدود الله كانت له الجنة والفوز العظيم. ومن عصاهما وانحرف عن حدود الله وتجاوزها أدخله الله النار وكان له عنده العذاب المهين.
ولقد رويت بعض الأحاديث والروايات في مناسبة نزول الآيات. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال ( عادني النبي صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ورش علي، فأفقت فقلت : يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في مالي ؟ فنزلت ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )١ ومنها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال ( كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ) ٢ ومنها حديث رواه أبو داود والترمذي عن جابر قال ( جاءت امرأة سعد ابن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال : يقضي الله في ذلك فنزلت آيات المواريث ( يوصيكم الله في أولادكم... ) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي هو لك ) ٣ ومنها رواية عن السدي قال ( كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ـ أي البنات ـ ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمان ابن ثابت وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة فأخذوا ماله، فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات٤.
وهذه الأحاديث تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة في مناسبات مختلفة، ويلحظ أن بعضها سيق كمناسبة لبعض الآيات السابقة. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات والآيات السابقة واحد ونزلت معا. بل الذي يتبادر لنا من انسجام الآيات من أول السورة إلى آخر هذه الآيات وتسلسلها سياقا وموضوعا أنها نزلت في ظرف واحد دفعة واحدة، أو تباعا لتحتوي ما احتوته من تشريعات وتحذيرات وتحديدات متنوعة متناسبة في صدد حقوق الأيتام واليتيمات وأموالهم وحقوق الزوجات ومهورهن والعدل بينهن وحقوق أصحاب الحق في التركات من رجال ونساء.
وهذا لا يمنع طبعا أن تكون وقعت مناسبات، ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكايات وتظلمات واستفتاءات مما احتوته الأحاديث والروايات فكان ذلك مناسبات لنزول هذه السلسة التشريعية.
ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة ( آبائكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) وكلمة ( نفعا ) حيث قيل : إن النفع المذكور هو نفع الدنيا أو نفع الدنيا والدين أو نفع الآخرة، وحيث قيل في تأويل الجملة كلها ( إن الله قد عين أنصبة الوارثين من الآباء والأبناء بمقتضى حكمته التي يعرف بها ما هو الأنفع للناس، ولم يترك ذلك لهم ؛ لأنهم لا يدرون أي شيء أنفع فيخطئون في تعيين الأنصبة وتقسيم التركة ) وفي هذا سداد كما هو الظاهر.
ويلحظ أن في الأحكام شيئا من الاقتضاب والإطلاق والفراغ. مثل إغفال الفقرة الأولى من الآية الأولى ذكر حالة وحق البنتين اللتين ترثان وحدهما أباهما، والاكتفاء بذكر حالة وحق بنت واحدة أو نساء فوق اثنتين. ومثل إغفال الفقرة الثانية من نفس الآية ذكر مستحق الباقي إذا كان الوارث والدين وبنتا واحدة، حيث ذكر فيها أن الوالدين يأخذان السدسين والبنت النصف. ومثل السكوت عن مستحق السدس الذي ينقص من نصيب الأم إذا كان للوارث أخوة مع الوالدين. ومثل إغفال ذكر مستحق النصف الثاني من تركة الزوجة التي ليس لها ولد، ومستحق الأرباع الثلاثة من تركة الزوج الذي ليس له ولد. ومثل إغفال ذكر مستحق الثلثين الباقيين من تركة من يموت كلالة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات احتوت الأسس والأحكام الرئيسية التي اقتضت حكمة التنزيل بيانها. وقد أكملت بعض الآيات والسنن المأثورة النبوية والراشدية بيان وأحكام ما فيها من اقتضاب وإطلاق وفراغ. وصار كل ذلك موضوع أبحاث واستنباطات وتفريعات تكون منه علم واسع وخطير من العلوم الإسلامية الفقهية المعروف بعلم الفرائض.
وجملة ( فريضة من الله ) هي كما هو المتبادر لبيان كون أحكام الإرث التي احتوتها الآيات مما رسمه الله وفرضه. وكلمة الفرائض التي سمى بها العلم المذكور آنفا هي جمع فريضة كما هو واضح. وقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على أحكام الإرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء في حديث نبوي رواه الترمذي عن أبي هريرة ( تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس فإني مقبوض ) ٥.
ومما جاء في القرآن للتوضيح التحديد والإتمام وسد الفراغ الآية الأخيرة من سورة النساء التي جعلت للأخ جميع تركة أخته المتوفاة كلالة، وجعلت للأختين ثلثي تركة أخيهما المتوفي كلالة، وجعلت جميع التركة لأخواته وإخوته إذا كانوا أكثر من ذلك على أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد بدأت الآية بجملة ( يستفتونك ) حيث يدل ذلك على أنه وقع التباس في صدد ما احتوته الآية ( ١٢ ) من الآيات التي نحن في صددها من حكم إرث الذي يموت كلالة وهو السدس لكل من أخته وأخيه، والثلث إذا كانوا أكثر من ذلك، فجاءت الآية الأخيرة من السورة في بيان حكم التوارث بين الإخوة الأشقاء أو الإخوة من أب الذين يورثون كلالة واعتبرت الآية ( ١٢ ) في صدد حكم التوارث بين الإخوة من أم على ما رواه جمهور المفسرين من طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وقالوا : إن هذا متفق عليه٦.
ومن ذلك الحالة التي أغفلتها الفقرة الأولى من الآية الأولى على الآية ( ١٠ ) ونبهنا عليها، وهي عدم ذكر حكم البنتين ؛ حيث قيست على ما احتوته الآية الأخيرة من سورة النساء بالإضافة إلى الحديث النبوي الذي أوردناه قبل، والذي روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين ثلثي تركة والدهما.
ومن ما جاء في الأحاديث المأثورة أحاديث نبوية منعت التوارث بين المسلمين والكفار. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أسامة ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم ) ٧ وحديث آخر رواه أصحاب السنن جاء فيه ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) ٨ ومن ذلك حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه ( القاتل لا يرث ) ٩.
ومن ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه ( أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ) ١٠.
ومن ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود عن شرحبيل ابن هذيل ( أن ابن مسعود سئل عن حق بنت وبنت ابن أخت فقال :( أقضي بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت ) ١١ حيث يفيد هذا أن بنت الابن المتوفي في حياة أبيه ترث من جدها إن لم يكن له ولد ذكر آخر يحجبها.
وقد قيس على ذلك ابن الابن أيضا. وقد روي عن زيد ابن ثابت حديث فيه توضيح أكثر لهذه الحالة جاء فيه ( أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون. ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع وجود ابن ذكر آخر ) ١٢ وننبه على أن العلماء نبهوا على أن هذا بالنسبة لابن الابن، دون ابن البنت ؛ لأنه ليس من ذوي عصبة المورث١٣.
( ٢ ) الكلالة : تطلق الكلمة على الميت بدون وارث أصلي أو فرعي مباشر أي الذي لا يكون له والد وأم وولد. والكلال هو : الإعياء أي الضعف والعجز. كأنما الكلمة استعيرت لبيان عجز الميت وضعفه بفقده الوالد والولد من قبل. وأكثر المفسرين على أن الميت إذا ترك ابن ابن لا يعد موته كلالة١
﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ( ١ ) فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا( ١١ ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً( ٢ ) أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( ١٢ ) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٣ ) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ١٤ ) ﴾
تعليق على الآية
( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ) الخ
والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات
عبارة الآية واضحة وقد احتوت بيان ما اقتضت الحكمة بيانه من الأنصبة المفروضة للرجال والنساء أو الذكور والإناث في إرث الأموات كما يلي :
( ١ ) نصيب الذكر هو ضعف نصيب الأنثى.
( ٢ ) إذا كان الميت أبا ولم يترك إلا بنتا فلها نصف تركته. وإن ترك أكثر من بنتين فلهن ثلثاها.
( ٣ ) إذا كان للميت والدان وأولاد فلكل من والديه السدس.
( ٤ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد فلوالده الثلثان ولأمه الثلث.
( ٥ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد وله إخوة فيكون للأم السدس بدلا من الثلث.
( ٦ ) للزوج النصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد. فإن كان لها ولد فله ربعها.
( ٧ ) للزوجات ربع تركة زوجهن إن لم يكن له ولد. فإن كان له ولد فلهن الثمن.
( ٨ ) إذا لم يكن للميت والدان ولا أولاد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما سدس التركة، وإذا كان الإخوة والأخوات أكثر فهم شركاء في ثلث التركة.
( ٩ ) التركة التي تقسم على الورثة هي ما يبقى منها بعد سداد دين الميت وتنفيذ وصيته.
وقد انتهت الآية الأولى بفقرة توطيدية لهذا التقسيم. فالناس لا يدرون حقيقة الأنفع لهم من آباء وأبناء ولكن الله أعلم بذلك. وقد أمر بما هو الأصلح لهم وجعله فريضة واجبة التنفيذ وهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصلاح.
وقد انتهت الآية الثانية بالتنبيه على عدم تعمد الإضرار والإجحاف بحقوق أحد. وعلى أن هذا التقسيم هو فريضة الله العليم الحليم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويرأف بكل ذي حق ويعامله بمقتضى حلمه.
وفي الآيتين الأخيرتين توطيد تعقيبي أيضا : فما تقدم من الأحكام هي حدود الله التي يجب الوقوف عندها، وعدم الانحراف عنها والتلاعب فيها. ومن أطاع الله ورسوله والتزم حدود الله كانت له الجنة والفوز العظيم. ومن عصاهما وانحرف عن حدود الله وتجاوزها أدخله الله النار وكان له عنده العذاب المهين.
ولقد رويت بعض الأحاديث والروايات في مناسبة نزول الآيات. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال ( عادني النبي صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ورش علي، فأفقت فقلت : يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في مالي ؟ فنزلت ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )١ ومنها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال ( كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ) ٢ ومنها حديث رواه أبو داود والترمذي عن جابر قال ( جاءت امرأة سعد ابن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال : يقضي الله في ذلك فنزلت آيات المواريث ( يوصيكم الله في أولادكم... ) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي هو لك ) ٣ ومنها رواية عن السدي قال ( كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ـ أي البنات ـ ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمان ابن ثابت وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة فأخذوا ماله، فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات٤.
وهذه الأحاديث تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة في مناسبات مختلفة، ويلحظ أن بعضها سيق كمناسبة لبعض الآيات السابقة. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات والآيات السابقة واحد ونزلت معا. بل الذي يتبادر لنا من انسجام الآيات من أول السورة إلى آخر هذه الآيات وتسلسلها سياقا وموضوعا أنها نزلت في ظرف واحد دفعة واحدة، أو تباعا لتحتوي ما احتوته من تشريعات وتحذيرات وتحديدات متنوعة متناسبة في صدد حقوق الأيتام واليتيمات وأموالهم وحقوق الزوجات ومهورهن والعدل بينهن وحقوق أصحاب الحق في التركات من رجال ونساء.
وهذا لا يمنع طبعا أن تكون وقعت مناسبات، ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكايات وتظلمات واستفتاءات مما احتوته الأحاديث والروايات فكان ذلك مناسبات لنزول هذه السلسة التشريعية.
ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة ( آبائكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) وكلمة ( نفعا ) حيث قيل : إن النفع المذكور هو نفع الدنيا أو نفع الدنيا والدين أو نفع الآخرة، وحيث قيل في تأويل الجملة كلها ( إن الله قد عين أنصبة الوارثين من الآباء والأبناء بمقتضى حكمته التي يعرف بها ما هو الأنفع للناس، ولم يترك ذلك لهم ؛ لأنهم لا يدرون أي شيء أنفع فيخطئون في تعيين الأنصبة وتقسيم التركة ) وفي هذا سداد كما هو الظاهر.
ويلحظ أن في الأحكام شيئا من الاقتضاب والإطلاق والفراغ. مثل إغفال الفقرة الأولى من الآية الأولى ذكر حالة وحق البنتين اللتين ترثان وحدهما أباهما، والاكتفاء بذكر حالة وحق بنت واحدة أو نساء فوق اثنتين. ومثل إغفال الفقرة الثانية من نفس الآية ذكر مستحق الباقي إذا كان الوارث والدين وبنتا واحدة، حيث ذكر فيها أن الوالدين يأخذان السدسين والبنت النصف. ومثل السكوت عن مستحق السدس الذي ينقص من نصيب الأم إذا كان للوارث أخوة مع الوالدين. ومثل إغفال ذكر مستحق النصف الثاني من تركة الزوجة التي ليس لها ولد، ومستحق الأرباع الثلاثة من تركة الزوج الذي ليس له ولد. ومثل إغفال ذكر مستحق الثلثين الباقيين من تركة من يموت كلالة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات احتوت الأسس والأحكام الرئيسية التي اقتضت حكمة التنزيل بيانها. وقد أكملت بعض الآيات والسنن المأثورة النبوية والراشدية بيان وأحكام ما فيها من اقتضاب وإطلاق وفراغ. وصار كل ذلك موضوع أبحاث واستنباطات وتفريعات تكون منه علم واسع وخطير من العلوم الإسلامية الفقهية المعروف بعلم الفرائض.
وجملة ( فريضة من الله ) هي كما هو المتبادر لبيان كون أحكام الإرث التي احتوتها الآيات مما رسمه الله وفرضه. وكلمة الفرائض التي سمى بها العلم المذكور آنفا هي جمع فريضة كما هو واضح. وقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على أحكام الإرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء في حديث نبوي رواه الترمذي عن أبي هريرة ( تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس فإني مقبوض ) ٥.
ومما جاء في القرآن للتوضيح التحديد والإتمام وسد الفراغ الآية الأخيرة من سورة النساء التي جعلت للأخ جميع تركة أخته المتوفاة كلالة، وجعلت للأختين ثلثي تركة أخيهما المتوفي كلالة، وجعلت جميع التركة لأخواته وإخوته إذا كانوا أكثر من ذلك على أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد بدأت الآية بجملة ( يستفتونك ) حيث يدل ذلك على أنه وقع التباس في صدد ما احتوته الآية ( ١٢ ) من الآيات التي نحن في صددها من حكم إرث الذي يموت كلالة وهو السدس لكل من أخته وأخيه، والثلث إذا كانوا أكثر من ذلك، فجاءت الآية الأخيرة من السورة في بيان حكم التوارث بين الإخوة الأشقاء أو الإخوة من أب الذين يورثون كلالة واعتبرت الآية ( ١٢ ) في صدد حكم التوارث بين الإخوة من أم على ما رواه جمهور المفسرين من طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وقالوا : إن هذا متفق عليه٦.
ومن ذلك الحالة التي أغفلتها الفقرة الأولى من الآية الأولى على الآية ( ١٠ ) ونبهنا عليها، وهي عدم ذكر حكم البنتين ؛ حيث قيست على ما احتوته الآية الأخيرة من سورة النساء بالإضافة إلى الحديث النبوي الذي أوردناه قبل، والذي روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين ثلثي تركة والدهما.
ومن ما جاء في الأحاديث المأثورة أحاديث نبوية منعت التوارث بين المسلمين والكفار. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أسامة ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم ) ٧ وحديث آخر رواه أصحاب السنن جاء فيه ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) ٨ ومن ذلك حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه ( القاتل لا يرث ) ٩.
ومن ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه ( أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ) ١٠.
ومن ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود عن شرحبيل ابن هذيل ( أن ابن مسعود سئل عن حق بنت وبنت ابن أخت فقال :( أقضي بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت ) ١١ حيث يفيد هذا أن بنت الابن المتوفي في حياة أبيه ترث من جدها إن لم يكن له ولد ذكر آخر يحجبها.
وقد قيس على ذلك ابن الابن أيضا. وقد روي عن زيد ابن ثابت حديث فيه توضيح أكثر لهذه الحالة جاء فيه ( أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون. ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع وجود ابن ذكر آخر ) ١٢ وننبه على أن العلماء نبهوا على أن هذا بالنسبة لابن الابن، دون ابن البنت ؛ لأنه ليس من ذوي عصبة المورث١٣.
١ انظر تفسير الآيات في الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي..
﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ( ١ ) فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا( ١١ ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً( ٢ ) أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( ١٢ ) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٣ ) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ١٤ ) ﴾
تعليق على الآية
( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ) الخ
والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات
عبارة الآية واضحة وقد احتوت بيان ما اقتضت الحكمة بيانه من الأنصبة المفروضة للرجال والنساء أو الذكور والإناث في إرث الأموات كما يلي :
( ١ ) نصيب الذكر هو ضعف نصيب الأنثى.
( ٢ ) إذا كان الميت أبا ولم يترك إلا بنتا فلها نصف تركته. وإن ترك أكثر من بنتين فلهن ثلثاها.
( ٣ ) إذا كان للميت والدان وأولاد فلكل من والديه السدس.
( ٤ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد فلوالده الثلثان ولأمه الثلث.
( ٥ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد وله إخوة فيكون للأم السدس بدلا من الثلث.
( ٦ ) للزوج النصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد. فإن كان لها ولد فله ربعها.
( ٧ ) للزوجات ربع تركة زوجهن إن لم يكن له ولد. فإن كان له ولد فلهن الثمن.
( ٨ ) إذا لم يكن للميت والدان ولا أولاد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما سدس التركة، وإذا كان الإخوة والأخوات أكثر فهم شركاء في ثلث التركة.
( ٩ ) التركة التي تقسم على الورثة هي ما يبقى منها بعد سداد دين الميت وتنفيذ وصيته.
وقد انتهت الآية الأولى بفقرة توطيدية لهذا التقسيم. فالناس لا يدرون حقيقة الأنفع لهم من آباء وأبناء ولكن الله أعلم بذلك. وقد أمر بما هو الأصلح لهم وجعله فريضة واجبة التنفيذ وهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصلاح.
وقد انتهت الآية الثانية بالتنبيه على عدم تعمد الإضرار والإجحاف بحقوق أحد. وعلى أن هذا التقسيم هو فريضة الله العليم الحليم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويرأف بكل ذي حق ويعامله بمقتضى حلمه.
وفي الآيتين الأخيرتين توطيد تعقيبي أيضا : فما تقدم من الأحكام هي حدود الله التي يجب الوقوف عندها، وعدم الانحراف عنها والتلاعب فيها. ومن أطاع الله ورسوله والتزم حدود الله كانت له الجنة والفوز العظيم. ومن عصاهما وانحرف عن حدود الله وتجاوزها أدخله الله النار وكان له عنده العذاب المهين.
ولقد رويت بعض الأحاديث والروايات في مناسبة نزول الآيات. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال ( عادني النبي صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ورش علي، فأفقت فقلت : يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في مالي ؟ فنزلت ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )١ ومنها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال ( كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ) ٢ ومنها حديث رواه أبو داود والترمذي عن جابر قال ( جاءت امرأة سعد ابن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال : يقضي الله في ذلك فنزلت آيات المواريث ( يوصيكم الله في أولادكم... ) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي هو لك ) ٣ ومنها رواية عن السدي قال ( كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ـ أي البنات ـ ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمان ابن ثابت وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة فأخذوا ماله، فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات٤.
وهذه الأحاديث تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة في مناسبات مختلفة، ويلحظ أن بعضها سيق كمناسبة لبعض الآيات السابقة. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات والآيات السابقة واحد ونزلت معا. بل الذي يتبادر لنا من انسجام الآيات من أول السورة إلى آخر هذه الآيات وتسلسلها سياقا وموضوعا أنها نزلت في ظرف واحد دفعة واحدة، أو تباعا لتحتوي ما احتوته من تشريعات وتحذيرات وتحديدات متنوعة متناسبة في صدد حقوق الأيتام واليتيمات وأموالهم وحقوق الزوجات ومهورهن والعدل بينهن وحقوق أصحاب الحق في التركات من رجال ونساء.
وهذا لا يمنع طبعا أن تكون وقعت مناسبات، ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكايات وتظلمات واستفتاءات مما احتوته الأحاديث والروايات فكان ذلك مناسبات لنزول هذه السلسة التشريعية.
ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة ( آبائكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) وكلمة ( نفعا ) حيث قيل : إن النفع المذكور هو نفع الدنيا أو نفع الدنيا والدين أو نفع الآخرة، وحيث قيل في تأويل الجملة كلها ( إن الله قد عين أنصبة الوارثين من الآباء والأبناء بمقتضى حكمته التي يعرف بها ما هو الأنفع للناس، ولم يترك ذلك لهم ؛ لأنهم لا يدرون أي شيء أنفع فيخطئون في تعيين الأنصبة وتقسيم التركة ) وفي هذا سداد كما هو الظاهر.
ويلحظ أن في الأحكام شيئا من الاقتضاب والإطلاق والفراغ. مثل إغفال الفقرة الأولى من الآية الأولى ذكر حالة وحق البنتين اللتين ترثان وحدهما أباهما، والاكتفاء بذكر حالة وحق بنت واحدة أو نساء فوق اثنتين. ومثل إغفال الفقرة الثانية من نفس الآية ذكر مستحق الباقي إذا كان الوارث والدين وبنتا واحدة، حيث ذكر فيها أن الوالدين يأخذان السدسين والبنت النصف. ومثل السكوت عن مستحق السدس الذي ينقص من نصيب الأم إذا كان للوارث أخوة مع الوالدين. ومثل إغفال ذكر مستحق النصف الثاني من تركة الزوجة التي ليس لها ولد، ومستحق الأرباع الثلاثة من تركة الزوج الذي ليس له ولد. ومثل إغفال ذكر مستحق الثلثين الباقيين من تركة من يموت كلالة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات احتوت الأسس والأحكام الرئيسية التي اقتضت حكمة التنزيل بيانها. وقد أكملت بعض الآيات والسنن المأثورة النبوية والراشدية بيان وأحكام ما فيها من اقتضاب وإطلاق وفراغ. وصار كل ذلك موضوع أبحاث واستنباطات وتفريعات تكون منه علم واسع وخطير من العلوم الإسلامية الفقهية المعروف بعلم الفرائض.
وجملة ( فريضة من الله ) هي كما هو المتبادر لبيان كون أحكام الإرث التي احتوتها الآيات مما رسمه الله وفرضه. وكلمة الفرائض التي سمى بها العلم المذكور آنفا هي جمع فريضة كما هو واضح. وقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على أحكام الإرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء في حديث نبوي رواه الترمذي عن أبي هريرة ( تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس فإني مقبوض ) ٥.
ومما جاء في القرآن للتوضيح التحديد والإتمام وسد الفراغ الآية الأخيرة من سورة النساء التي جعلت للأخ جميع تركة أخته المتوفاة كلالة، وجعلت للأختين ثلثي تركة أخيهما المتوفي كلالة، وجعلت جميع التركة لأخواته وإخوته إذا كانوا أكثر من ذلك على أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد بدأت الآية بجملة ( يستفتونك ) حيث يدل ذلك على أنه وقع التباس في صدد ما احتوته الآية ( ١٢ ) من الآيات التي نحن في صددها من حكم إرث الذي يموت كلالة وهو السدس لكل من أخته وأخيه، والثلث إذا كانوا أكثر من ذلك، فجاءت الآية الأخيرة من السورة في بيان حكم التوارث بين الإخوة الأشقاء أو الإخوة من أب الذين يورثون كلالة واعتبرت الآية ( ١٢ ) في صدد حكم التوارث بين الإخوة من أم على ما رواه جمهور المفسرين من طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وقالوا : إن هذا متفق عليه٦.
ومن ذلك الحالة التي أغفلتها الفقرة الأولى من الآية الأولى على الآية ( ١٠ ) ونبهنا عليها، وهي عدم ذكر حكم البنتين ؛ حيث قيست على ما احتوته الآية الأخيرة من سورة النساء بالإضافة إلى الحديث النبوي الذي أوردناه قبل، والذي روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين ثلثي تركة والدهما.
ومن ما جاء في الأحاديث المأثورة أحاديث نبوية منعت التوارث بين المسلمين والكفار. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أسامة ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم ) ٧ وحديث آخر رواه أصحاب السنن جاء فيه ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) ٨ ومن ذلك حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه ( القاتل لا يرث ) ٩.
ومن ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه ( أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ) ١٠.
ومن ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود عن شرحبيل ابن هذيل ( أن ابن مسعود سئل عن حق بنت وبنت ابن أخت فقال :( أقضي بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت ) ١١ حيث يفيد هذا أن بنت الابن المتوفي في حياة أبيه ترث من جدها إن لم يكن له ولد ذكر آخر يحجبها.
وقد قيس على ذلك ابن الابن أيضا. وقد روي عن زيد ابن ثابت حديث فيه توضيح أكثر لهذه الحالة جاء فيه ( أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون. ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع وجود ابن ذكر آخر ) ١٢ وننبه على أن العلماء نبهوا على أن هذا بالنسبة لابن الابن، دون ابن البنت ؛ لأنه ليس من ذوي عصبة المورث١٣.
﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ( ١ ) فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا( ١١ ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً( ٢ ) أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( ١٢ ) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٣ ) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ١٤ ) ﴾
تعليق على الآية
( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ) الخ
والآيات الثلاث التالية لها وشرح إجمالي لأحكام الإرث وتلقينات الآيات
عبارة الآية واضحة وقد احتوت بيان ما اقتضت الحكمة بيانه من الأنصبة المفروضة للرجال والنساء أو الذكور والإناث في إرث الأموات كما يلي :
( ١ ) نصيب الذكر هو ضعف نصيب الأنثى.
( ٢ ) إذا كان الميت أبا ولم يترك إلا بنتا فلها نصف تركته. وإن ترك أكثر من بنتين فلهن ثلثاها.
( ٣ ) إذا كان للميت والدان وأولاد فلكل من والديه السدس.
( ٤ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد فلوالده الثلثان ولأمه الثلث.
( ٥ ) إذا كان للميت والدان وليس له أولاد وله إخوة فيكون للأم السدس بدلا من الثلث.
( ٦ ) للزوج النصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد. فإن كان لها ولد فله ربعها.
( ٧ ) للزوجات ربع تركة زوجهن إن لم يكن له ولد. فإن كان له ولد فلهن الثمن.
( ٨ ) إذا لم يكن للميت والدان ولا أولاد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما سدس التركة، وإذا كان الإخوة والأخوات أكثر فهم شركاء في ثلث التركة.
( ٩ ) التركة التي تقسم على الورثة هي ما يبقى منها بعد سداد دين الميت وتنفيذ وصيته.
وقد انتهت الآية الأولى بفقرة توطيدية لهذا التقسيم. فالناس لا يدرون حقيقة الأنفع لهم من آباء وأبناء ولكن الله أعلم بذلك. وقد أمر بما هو الأصلح لهم وجعله فريضة واجبة التنفيذ وهو العليم الحكيم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويأمر بما فيه الحكمة والصلاح.
وقد انتهت الآية الثانية بالتنبيه على عدم تعمد الإضرار والإجحاف بحقوق أحد. وعلى أن هذا التقسيم هو فريضة الله العليم الحليم الذي يعلم مقتضيات الأمور ويرأف بكل ذي حق ويعامله بمقتضى حلمه.
وفي الآيتين الأخيرتين توطيد تعقيبي أيضا : فما تقدم من الأحكام هي حدود الله التي يجب الوقوف عندها، وعدم الانحراف عنها والتلاعب فيها. ومن أطاع الله ورسوله والتزم حدود الله كانت له الجنة والفوز العظيم. ومن عصاهما وانحرف عن حدود الله وتجاوزها أدخله الله النار وكان له عنده العذاب المهين.
ولقد رويت بعض الأحاديث والروايات في مناسبة نزول الآيات. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال ( عادني النبي صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ورش علي، فأفقت فقلت : يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في مالي ؟ فنزلت ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )١ ومنها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال ( كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ) ٢ ومنها حديث رواه أبو داود والترمذي عن جابر قال ( جاءت امرأة سعد ابن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال : يقضي الله في ذلك فنزلت آيات المواريث ( يوصيكم الله في أولادكم... ) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي هو لك ) ٣ ومنها رواية عن السدي قال ( كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ـ أي البنات ـ ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمان ابن ثابت وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة فأخذوا ماله، فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات٤.
وهذه الأحاديث تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة في مناسبات مختلفة، ويلحظ أن بعضها سيق كمناسبة لبعض الآيات السابقة. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات والآيات السابقة واحد ونزلت معا. بل الذي يتبادر لنا من انسجام الآيات من أول السورة إلى آخر هذه الآيات وتسلسلها سياقا وموضوعا أنها نزلت في ظرف واحد دفعة واحدة، أو تباعا لتحتوي ما احتوته من تشريعات وتحذيرات وتحديدات متنوعة متناسبة في صدد حقوق الأيتام واليتيمات وأموالهم وحقوق الزوجات ومهورهن والعدل بينهن وحقوق أصحاب الحق في التركات من رجال ونساء.
وهذا لا يمنع طبعا أن تكون وقعت مناسبات، ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكايات وتظلمات واستفتاءات مما احتوته الأحاديث والروايات فكان ذلك مناسبات لنزول هذه السلسة التشريعية.
ولقد تعددت تأويلات المؤولين التي يرويها المفسرون لجملة ( آبائكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) وكلمة ( نفعا ) حيث قيل : إن النفع المذكور هو نفع الدنيا أو نفع الدنيا والدين أو نفع الآخرة، وحيث قيل في تأويل الجملة كلها ( إن الله قد عين أنصبة الوارثين من الآباء والأبناء بمقتضى حكمته التي يعرف بها ما هو الأنفع للناس، ولم يترك ذلك لهم ؛ لأنهم لا يدرون أي شيء أنفع فيخطئون في تعيين الأنصبة وتقسيم التركة ) وفي هذا سداد كما هو الظاهر.
ويلحظ أن في الأحكام شيئا من الاقتضاب والإطلاق والفراغ. مثل إغفال الفقرة الأولى من الآية الأولى ذكر حالة وحق البنتين اللتين ترثان وحدهما أباهما، والاكتفاء بذكر حالة وحق بنت واحدة أو نساء فوق اثنتين. ومثل إغفال الفقرة الثانية من نفس الآية ذكر مستحق الباقي إذا كان الوارث والدين وبنتا واحدة، حيث ذكر فيها أن الوالدين يأخذان السدسين والبنت النصف. ومثل السكوت عن مستحق السدس الذي ينقص من نصيب الأم إذا كان للوارث أخوة مع الوالدين. ومثل إغفال ذكر مستحق النصف الثاني من تركة الزوجة التي ليس لها ولد، ومستحق الأرباع الثلاثة من تركة الزوج الذي ليس له ولد. ومثل إغفال ذكر مستحق الثلثين الباقيين من تركة من يموت كلالة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات احتوت الأسس والأحكام الرئيسية التي اقتضت حكمة التنزيل بيانها. وقد أكملت بعض الآيات والسنن المأثورة النبوية والراشدية بيان وأحكام ما فيها من اقتضاب وإطلاق وفراغ. وصار كل ذلك موضوع أبحاث واستنباطات وتفريعات تكون منه علم واسع وخطير من العلوم الإسلامية الفقهية المعروف بعلم الفرائض.
وجملة ( فريضة من الله ) هي كما هو المتبادر لبيان كون أحكام الإرث التي احتوتها الآيات مما رسمه الله وفرضه. وكلمة الفرائض التي سمى بها العلم المذكور آنفا هي جمع فريضة كما هو واضح. وقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على أحكام الإرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء في حديث نبوي رواه الترمذي عن أبي هريرة ( تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس فإني مقبوض ) ٥.
ومما جاء في القرآن للتوضيح التحديد والإتمام وسد الفراغ الآية الأخيرة من سورة النساء التي جعلت للأخ جميع تركة أخته المتوفاة كلالة، وجعلت للأختين ثلثي تركة أخيهما المتوفي كلالة، وجعلت جميع التركة لأخواته وإخوته إذا كانوا أكثر من ذلك على أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. وقد بدأت الآية بجملة ( يستفتونك ) حيث يدل ذلك على أنه وقع التباس في صدد ما احتوته الآية ( ١٢ ) من الآيات التي نحن في صددها من حكم إرث الذي يموت كلالة وهو السدس لكل من أخته وأخيه، والثلث إذا كانوا أكثر من ذلك، فجاءت الآية الأخيرة من السورة في بيان حكم التوارث بين الإخوة الأشقاء أو الإخوة من أب الذين يورثون كلالة واعتبرت الآية ( ١٢ ) في صدد حكم التوارث بين الإخوة من أم على ما رواه جمهور المفسرين من طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وقالوا : إن هذا متفق عليه٦.
ومن ذلك الحالة التي أغفلتها الفقرة الأولى من الآية الأولى على الآية ( ١٠ ) ونبهنا عليها، وهي عدم ذكر حكم البنتين ؛ حيث قيست على ما احتوته الآية الأخيرة من سورة النساء بالإضافة إلى الحديث النبوي الذي أوردناه قبل، والذي روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين ثلثي تركة والدهما.
ومن ما جاء في الأحاديث المأثورة أحاديث نبوية منعت التوارث بين المسلمين والكفار. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أسامة ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم ) ٧ وحديث آخر رواه أصحاب السنن جاء فيه ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) ٨ ومن ذلك حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه ( القاتل لا يرث ) ٩.
ومن ذلك حديث رواه الترمذي جاء فيه ( أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ) ١٠.
ومن ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود عن شرحبيل ابن هذيل ( أن ابن مسعود سئل عن حق بنت وبنت ابن أخت فقال :( أقضي بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت ) ١١ حيث يفيد هذا أن بنت الابن المتوفي في حياة أبيه ترث من جدها إن لم يكن له ولد ذكر آخر يحجبها.
وقد قيس على ذلك ابن الابن أيضا. وقد روي عن زيد ابن ثابت حديث فيه توضيح أكثر لهذه الحالة جاء فيه ( أولاد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهم ابن، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون كما يرثون. ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع وجود ابن ذكر آخر ) ١٢ وننبه على أن العلماء نبهوا على أن هذا بالنسبة لابن الابن، دون ابن البنت ؛ لأنه ليس من ذوي عصبة المورث١٣.
( ١ ) الفاحشة : هنا بمعنى الزنا على قول الجمهور، وهو ما تلهمه الآية أيضا.
﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ( ١ ) مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ١٥ ) وَاللَّذَانَ( ٢ ) يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ١٦ ) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾
احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين :
( ١ ) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا، ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما.
( ٢ ) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته
أما الآيتان الأخريان، فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش، ثم يستشعرون حالا بخطأهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت، ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون : تبنا أو الذين يموتون، وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله.
ولقد شرحنا الآية ( ١٦ ) على اعتبار أن ( والذان ) جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية ( ١٥ ) فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية ( فآذوهما ) و ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) هي للتساوق وحسب. على أن هناك من يقول إن الآية ( ١٥ ) هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية ( ١٦ ) هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء وهناك من يقول : إن الآية ( ١٦ ) تعني لواط الذكر بالذكر١ ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ٢ ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها، والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور، بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة ( اللذان ) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى اعلم.
تعليق على الآية
( والتي يأتين الفاحشة من نسائكم )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع وأنها نزلت بعدها.
ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة، وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان ( ٦٨ـ ٦٩ ) والإسراء ( ٣٢ ).
وهذا الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي ؛ لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.
ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة ﴿ والذان ﴾ على ما رجحناه على جملة ﴿ فئاذوهما ﴾ وبالنسبة للنساء على جملة ( فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره : إن ( فآذوهما ) بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال٣ وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة ؛ لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت، من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفى في عقوبته بالضرب والتعزير، ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة ابن الصامت قال ( كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سرى عنه قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة )٤ ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.
وجمهور المفسرين والعلماء٥ على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا : أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة، وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا.
ويلحظ ثانيا : أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال : إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة.
والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى، ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة ؛ لأنها تنص على وجوب اتباع الحد على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم.
وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نص الآية الثانية، حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة، ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا، وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات، ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور ( ٤و٥ ) ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ٤ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم٥ ) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحد لهذا، وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها، ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور٦.
وجملة ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت... ) لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط، بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا، بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم ( إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت... ) ومع أن الجمهور٧ على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإن نص العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصر على القول : إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك، ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها٨ وقد عبر الحديث الذي يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة ( إذا قامت البينة ) وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال : إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا، وإذا صح هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى اعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه ( إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكر وشبل ابن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستنبطا المرأة ؛ لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم ) ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث.
والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة، وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا : إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة، وأنهم لا بد من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.
وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة... ). وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.
ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهز كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع، وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك : أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.
وكلمة ( منكم ) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحش
اللذان : الكلمة جمع مذكر في مقام اللذين على قول الجمهور.
﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ( ١ ) مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ١٥ ) وَاللَّذَانَ( ٢ ) يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ١٦ ) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾
احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين :
( ١ ) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا، ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما.
( ٢ ) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته
أما الآيتان الأخريان، فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش، ثم يستشعرون حالا بخطأهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت، ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون : تبنا أو الذين يموتون، وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله.
ولقد شرحنا الآية ( ١٦ ) على اعتبار أن ( والذان ) جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية ( ١٥ ) فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية ( فآذوهما ) و ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) هي للتساوق وحسب. على أن هناك من يقول إن الآية ( ١٥ ) هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية ( ١٦ ) هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء وهناك من يقول : إن الآية ( ١٦ ) تعني لواط الذكر بالذكر١ ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ٢ ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها، والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور، بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة ( اللذان ) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى اعلم.
تعليق على الآية
( والتي يأتين الفاحشة من نسائكم )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع وأنها نزلت بعدها.
ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة، وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان ( ٦٨ـ ٦٩ ) والإسراء ( ٣٢ ).
وهذا الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي ؛ لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.
ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة ﴿ والذان ﴾ على ما رجحناه على جملة ﴿ فئاذوهما ﴾ وبالنسبة للنساء على جملة ( فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره : إن ( فآذوهما ) بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال٣ وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة ؛ لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت، من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفى في عقوبته بالضرب والتعزير، ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة ابن الصامت قال ( كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سرى عنه قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة )٤ ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.
وجمهور المفسرين والعلماء٥ على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا : أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة، وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا.
ويلحظ ثانيا : أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال : إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة.
والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى، ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة ؛ لأنها تنص على وجوب اتباع الحد على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم.
وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نص الآية الثانية، حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة، ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا، وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات، ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور ( ٤و٥ ) ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ٤ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم٥ ) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحد لهذا، وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها، ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور٦.
وجملة ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت... ) لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط، بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا، بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم ( إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت... ) ومع أن الجمهور٧ على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإن نص العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصر على القول : إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك، ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها٨ وقد عبر الحديث الذي يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة ( إذا قامت البينة ) وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال : إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا، وإذا صح هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى اعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه ( إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكر وشبل ابن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستنبطا المرأة ؛ لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم ) ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث.
والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة، وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا : إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة، وأنهم لا بد من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.
وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة... ). وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.
ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهز كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع، وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك : أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.
وكلمة ( منكم ) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحش
﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ( ١ ) مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ١٥ ) وَاللَّذَانَ( ٢ ) يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ١٦ ) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾
احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين :
( ١ ) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا، ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما.
( ٢ ) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته
أما الآيتان الأخريان، فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش، ثم يستشعرون حالا بخطأهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت، ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون : تبنا أو الذين يموتون، وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله.
ولقد شرحنا الآية ( ١٦ ) على اعتبار أن ( والذان ) جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية ( ١٥ ) فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية ( فآذوهما ) و ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) هي للتساوق وحسب. على أن هناك من يقول إن الآية ( ١٥ ) هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية ( ١٦ ) هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء وهناك من يقول : إن الآية ( ١٦ ) تعني لواط الذكر بالذكر١ ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ٢ ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها، والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور، بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة ( اللذان ) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى اعلم.
تعليق على الآية
( والتي يأتين الفاحشة من نسائكم )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع وأنها نزلت بعدها.
ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة، وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان ( ٦٨ـ ٦٩ ) والإسراء ( ٣٢ ).
وهذا الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي ؛ لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.
ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة ﴿ والذان ﴾ على ما رجحناه على جملة ﴿ فئاذوهما ﴾ وبالنسبة للنساء على جملة ( فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره : إن ( فآذوهما ) بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال٣ وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة ؛ لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت، من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفى في عقوبته بالضرب والتعزير، ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة ابن الصامت قال ( كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سرى عنه قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة )٤ ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.
وجمهور المفسرين والعلماء٥ على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا : أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة، وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا.
ويلحظ ثانيا : أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال : إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة.
والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى، ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة ؛ لأنها تنص على وجوب اتباع الحد على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم.
وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نص الآية الثانية، حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة، ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا، وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات، ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور ( ٤و٥ ) ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ٤ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم٥ ) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحد لهذا، وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها، ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور٦.
وجملة ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت... ) لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط، بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا، بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم ( إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت... ) ومع أن الجمهور٧ على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإن نص العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصر على القول : إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك، ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها٨ وقد عبر الحديث الذي يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة ( إذا قامت البينة ) وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال : إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا، وإذا صح هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى اعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه ( إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكر وشبل ابن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستنبطا المرأة ؛ لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم ) ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث.
والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة، وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا : إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة، وأنهم لا بد من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.
وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة... ). وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.
ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهز كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع، وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك : أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.
وكلمة ( منكم ) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحش
﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ( ١ ) مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ١٥ ) وَاللَّذَانَ( ٢ ) يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ١٦ ) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾
احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين :
( ١ ) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا، ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما.
( ٢ ) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته
أما الآيتان الأخريان، فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش، ثم يستشعرون حالا بخطأهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت، ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون : تبنا أو الذين يموتون، وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله.
ولقد شرحنا الآية ( ١٦ ) على اعتبار أن ( والذان ) جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية ( ١٥ ) فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية ( فآذوهما ) و ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) هي للتساوق وحسب. على أن هناك من يقول إن الآية ( ١٥ ) هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية ( ١٦ ) هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء وهناك من يقول : إن الآية ( ١٦ ) تعني لواط الذكر بالذكر١ ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ٢ ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها، والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور، بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة ( اللذان ) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى اعلم.
تعليق على الآية
( والتي يأتين الفاحشة من نسائكم )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع وأنها نزلت بعدها.
ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة، وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان ( ٦٨ـ ٦٩ ) والإسراء ( ٣٢ ).
وهذا الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي ؛ لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.
ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة ﴿ والذان ﴾ على ما رجحناه على جملة ﴿ فئاذوهما ﴾ وبالنسبة للنساء على جملة ( فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره : إن ( فآذوهما ) بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال٣ وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة ؛ لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت، من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفى في عقوبته بالضرب والتعزير، ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة ابن الصامت قال ( كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سرى عنه قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة )٤ ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.
وجمهور المفسرين والعلماء٥ على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا : أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة، وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا.
ويلحظ ثانيا : أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال : إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة.
والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى، ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة ؛ لأنها تنص على وجوب اتباع الحد على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم.
وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نص الآية الثانية، حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة، ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا، وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات، ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور ( ٤و٥ ) ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ٤ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم٥ ) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحد لهذا، وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها، ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور٦.
وجملة ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت... ) لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط، بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا، بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم ( إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت... ) ومع أن الجمهور٧ على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإن نص العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصر على القول : إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك، ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها٨ وقد عبر الحديث الذي يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة ( إذا قامت البينة ) وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال : إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا، وإذا صح هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى اعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه ( إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكر وشبل ابن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستنبطا المرأة ؛ لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم ) ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث.
والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة، وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا : إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة، وأنهم لا بد من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.
وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة... ). وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.
ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهز كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع، وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك : أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.
وكلمة ( منكم ) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحش
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( ١٩ ) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( ٢٠ ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا( ٢١ ) ﴾. [ ١٩-٢١ ]

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) نهيا للمسلمين عن إمساك الزوجات مع الكراهية والبغض بقصد الكيد والإعنات وابتزاز أموالهن من مهور وغيرها.
( ٢ ) وأمرا لهم بمعاشرتهن بالحسنى والمعروف وتحملهن حتى في حال الشعور بكرههن. فليس كل ما يكرهه المرء شرا حقا. وقد يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا.
( ٣ ) وتحذيرا لهم في حال اعتزامهم على تركهن للتزوج بغيرهن ألا يأخذوا شيئا مما أعطوهن مهما كان كثيرا. ففي ذلك إثم وظلم كبيران بعد ما كان بينهما ما كان من صلة الزوجية العظمى والميثاق والعهد الذي تم به التراضي.
( ٤ ) واستثناء لحالة صدور فاحشة ثابتة منهن. فهذه حالة استثنائية خطيرة تسوغ للزوج الكره والفراق ومحاولة استرداد ما أعطاه كله أو بعضه.
تعليق على الآية
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ... ) الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات
ولقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال :( كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ )١.
وهناك روايات أخرى يرويها الطبري وغيره ذكر في بعضها أسماء وأحداث معينة وفي بعضها أن ابن الزوج وأقاربه كانوا يمسكون الزوجة إذا توفي زوجها حتى تفتدي نفسها برد المهر وفي بعضها أنهم كانوا يلقون عليها ثوابا كإعلان بأنهم سيمسكونها عندهم. وفي بعضها أن أهل ابن الزوج يفعلون ذلك إذا كان هذا الابن صغيرا حتى يكبر فيمسكها أو يتركها. وأن الآية الأولى نزلت في منع العادات المجحفة.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية الأولى تنطوي على قرينة حاسمة على أن الخطاب فيها موجه للأزواج في صدد معاملتهم لزوجاتهم ؛ حيث يجعل ذلك رواية نزولها بسبب عادة إمساك ابن الزوج أو أقاربه لزوجة الأب لأنفسهم أو لأخذ الفدية منها غريبة. وقد يكون تعبير ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) من ما سوغ للمؤولين ولابن عباس ما قالوه كسبب لنزول الآية. ولقد رأينا الزمخشري يؤولها تأويلا وجيها متسقا مع ملاحظتنا وهو ( لا يحل لكم أن تمسكوا زوجاتكم على كراهيتكم لهن حتى يمتن عندكم بقصد أن ترثوهن ) وقد يكون من القرائن على أن الآية في صدد معاملة الأزواج لزوجاتهم ورود نهي عن نكاح زوجات الآباء في آية مستقلة بعد الآيات التي نحن في صددها. ونرجح أن الروايات المساقة في صدد هذه الآية، وأن سوقها في صدد الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من قبيل الالتباس.
والذي يتبادر لنا أن الآيات نزلت في مناسبة شكوى رفعها بعض الزوجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حق أزواجهن بسبب ما بدا من بعض المحاولات والمواقف التي تضمنتها الآية الأولى. والله أعلم.
ومع أن الآيات تبدو فصلا مستقلا، فإن موضوعها متصل بموضوع النساء وحمايتهن وحقوقهن مما احتوت الآيات السابقة توطيده حتى ليصح أن يقال : إنها استمرار لها. ومن المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها إن لم تكن نزلت معها فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية.
ولقد سبقت وصايا ونواه وتحذيرات مماثلة في الآيات ( ٢٢٢ـ ٢٤٧ ) من سورة البقرة مما يؤكد ما كان يلقاه الزوجات من أزواجهن من المكايدة والأذى، وما كان يعمد إليه الأزواج من أساليب لابتزاز أموالهن فاقتضت الحكمة مواصلة توكيد النواهي والتحذيرات للقضاء على هذه التصرفات المكروهة المتناقضة مع الحق والعدل والواجب والعهد الزوجي.
وأسلوب الآيات هنا قوي رائع حقا. ينطوي على أبلغ التلقين وأروع العظة في حماية الزوجات وتعظيم شأن الصلة الزوجية ووجوب حسن معاشرتهن ومعاملتهن وحمل النفس على ما تكره في هذا السبيل والتعفف عن أموالهن ولو كانوا هم الذين أعطوها لهن ؛ لأنها صارت حقهن وعدم التسرع في التخلي عنهن وتطليقهن. فإذا أضيف إليها ما احتوته الآيات العديدة الأخرى المكية والمدنية من مثل ذلك وفي صدده وقد مر منها أمثلة كثير وبدا الأمر فذا بالنسبة لجميع الشرائع، وصار من خصوصيات القرآن والشريعة الإسلامية ومرشحاتها للخلود والشمول.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا مقتطعا من حديث خطبة حجة وداع رسول الله رواه مسلم وأبو داود جاء فيه ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله )٢ وفي مجمع الزوائد حديث رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني في وجوب إحسان معاملة الزوجات والبر بهن، وهناك حديث آخر مهم رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلفا رضي منها بآخر ) ٣. وجمهور المفسرين والمؤولين على أن جملة ( يأتين بفاحشة مبينة ) في الآية الأولى كناية عن الزنا. وإن للزوج في حالة ثبوت ذلك على زوجته حقا في استرداد مهرها وما قد يكون أعطاها إياه من مال أو بعضه بالأسلوب الذي لا يخالف شرعا ولا عرفا. وهذا متسق مع روح الآية كما هو المتبادر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( ١٩ ) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( ٢٠ ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا( ٢١ ) ﴾. [ ١٩-٢١ ]

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) نهيا للمسلمين عن إمساك الزوجات مع الكراهية والبغض بقصد الكيد والإعنات وابتزاز أموالهن من مهور وغيرها.
( ٢ ) وأمرا لهم بمعاشرتهن بالحسنى والمعروف وتحملهن حتى في حال الشعور بكرههن. فليس كل ما يكرهه المرء شرا حقا. وقد يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا.
( ٣ ) وتحذيرا لهم في حال اعتزامهم على تركهن للتزوج بغيرهن ألا يأخذوا شيئا مما أعطوهن مهما كان كثيرا. ففي ذلك إثم وظلم كبيران بعد ما كان بينهما ما كان من صلة الزوجية العظمى والميثاق والعهد الذي تم به التراضي.
( ٤ ) واستثناء لحالة صدور فاحشة ثابتة منهن. فهذه حالة استثنائية خطيرة تسوغ للزوج الكره والفراق ومحاولة استرداد ما أعطاه كله أو بعضه.
تعليق على الآية
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ... ) الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات
ولقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال :( كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ )١.
وهناك روايات أخرى يرويها الطبري وغيره ذكر في بعضها أسماء وأحداث معينة وفي بعضها أن ابن الزوج وأقاربه كانوا يمسكون الزوجة إذا توفي زوجها حتى تفتدي نفسها برد المهر وفي بعضها أنهم كانوا يلقون عليها ثوابا كإعلان بأنهم سيمسكونها عندهم. وفي بعضها أن أهل ابن الزوج يفعلون ذلك إذا كان هذا الابن صغيرا حتى يكبر فيمسكها أو يتركها. وأن الآية الأولى نزلت في منع العادات المجحفة.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية الأولى تنطوي على قرينة حاسمة على أن الخطاب فيها موجه للأزواج في صدد معاملتهم لزوجاتهم ؛ حيث يجعل ذلك رواية نزولها بسبب عادة إمساك ابن الزوج أو أقاربه لزوجة الأب لأنفسهم أو لأخذ الفدية منها غريبة. وقد يكون تعبير ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) من ما سوغ للمؤولين ولابن عباس ما قالوه كسبب لنزول الآية. ولقد رأينا الزمخشري يؤولها تأويلا وجيها متسقا مع ملاحظتنا وهو ( لا يحل لكم أن تمسكوا زوجاتكم على كراهيتكم لهن حتى يمتن عندكم بقصد أن ترثوهن ) وقد يكون من القرائن على أن الآية في صدد معاملة الأزواج لزوجاتهم ورود نهي عن نكاح زوجات الآباء في آية مستقلة بعد الآيات التي نحن في صددها. ونرجح أن الروايات المساقة في صدد هذه الآية، وأن سوقها في صدد الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من قبيل الالتباس.
والذي يتبادر لنا أن الآيات نزلت في مناسبة شكوى رفعها بعض الزوجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حق أزواجهن بسبب ما بدا من بعض المحاولات والمواقف التي تضمنتها الآية الأولى. والله أعلم.
ومع أن الآيات تبدو فصلا مستقلا، فإن موضوعها متصل بموضوع النساء وحمايتهن وحقوقهن مما احتوت الآيات السابقة توطيده حتى ليصح أن يقال : إنها استمرار لها. ومن المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها إن لم تكن نزلت معها فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية.
ولقد سبقت وصايا ونواه وتحذيرات مماثلة في الآيات ( ٢٢٢ـ ٢٤٧ ) من سورة البقرة مما يؤكد ما كان يلقاه الزوجات من أزواجهن من المكايدة والأذى، وما كان يعمد إليه الأزواج من أساليب لابتزاز أموالهن فاقتضت الحكمة مواصلة توكيد النواهي والتحذيرات للقضاء على هذه التصرفات المكروهة المتناقضة مع الحق والعدل والواجب والعهد الزوجي.
وأسلوب الآيات هنا قوي رائع حقا. ينطوي على أبلغ التلقين وأروع العظة في حماية الزوجات وتعظيم شأن الصلة الزوجية ووجوب حسن معاشرتهن ومعاملتهن وحمل النفس على ما تكره في هذا السبيل والتعفف عن أموالهن ولو كانوا هم الذين أعطوها لهن ؛ لأنها صارت حقهن وعدم التسرع في التخلي عنهن وتطليقهن. فإذا أضيف إليها ما احتوته الآيات العديدة الأخرى المكية والمدنية من مثل ذلك وفي صدده وقد مر منها أمثلة كثير وبدا الأمر فذا بالنسبة لجميع الشرائع، وصار من خصوصيات القرآن والشريعة الإسلامية ومرشحاتها للخلود والشمول.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا مقتطعا من حديث خطبة حجة وداع رسول الله رواه مسلم وأبو داود جاء فيه ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله )٢ وفي مجمع الزوائد حديث رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني في وجوب إحسان معاملة الزوجات والبر بهن، وهناك حديث آخر مهم رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلفا رضي منها بآخر ) ٣. وجمهور المفسرين والمؤولين على أن جملة ( يأتين بفاحشة مبينة ) في الآية الأولى كناية عن الزنا. وإن للزوج في حالة ثبوت ذلك على زوجته حقا في استرداد مهرها وما قد يكون أعطاها إياه من مال أو بعضه بالأسلوب الذي لا يخالف شرعا ولا عرفا. وهذا متسق مع روح الآية كما هو المتبادر.
مسألة المغالاة في المهور
ولقد روى المفسرون في سياق الآية ( ٢٠ ) أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في خلافته فقال ( ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان الصداق في عهد النبي وأصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان في الإكثار تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال : نعم. فقالت : أما سمعت ما أنزل الله ؟ قال وأي ذلك ؟ فقالت :( وآتيتم إحداهن قنطارا ) فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وفي رواية فمن طابت نفسه فليفعل ) ١ ورووا روايات أخرى من بابها جاء في إحداها أن عمر ابن الخطاب قال : لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته٢. وجاء في إحداها أن عمر قال :( لا تزيدوا في مهور النساء فقالت امرأة : ما ذاك لك، قال : ولم ؟ قالت : إن الله قال ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ ) ٣ وجاء في إحداها أن عمر قال : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من الفضة، فمن زاد جعلت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة : ما ذاك لك ؟ قال لم ؟ قالت : إن الله يقول :( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية فقال : امرأة أصابت وأخطأ عمر٤.
وهذه الروايات لم ترد في الصحاح، وقد روى أصحاب السنن حديثا فيه نهي من عمر عن المغالاة في المهور فقط عن أبي العجفاء قال ( خطبنا عمر فقال : ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ) ٥.
على أن عدم ورود قصة اعتراض إحدى النساء على عمر في هذا الحديث لا يمنع أن تكون روايته المروية بصيغ وطرق عديدة صحيحة. ولئن صحت فيكون فيه صورة رائعة عن العهد الراشدي. منها نباهة المرأة العربية وقدرتها على استنباط الأحكام من القرآن. وجرأتها على الدفاع عن حقوقها. وإقرار الرجال وفي مقدمتهم الخليفة وبذلك منها تراجع الخليفة عن وصية وصاها حينما نبهته المرأة إلى احتمال مخالفة الوصية للتلقين القرآني.
والمتبادر أن إيعاز عمر كان اجتهادا منه فيه مصلحة للمسلمين. وهناك حديث رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( إن من خير النساء أيسرهن صداقا )٦ وحديث ثان رواه أحمد والحاكم والبيهقي جاء فيه ( إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها٧ ومن المحتمل أن يكون عمر قد استأنس بهذه الأحاديث وأمثالها في إيعازه.
وفي سورة النور آية على تلقين قوي بوجوب تيسير الزواج لكل فئة وبخاصة للفقراء مما لا تيسير إلا بعدم المغالاة في المهور وهي ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم٣٢ ).
وحتى على فرض صحة رواية احتجاج المرأة على عمر وتراجعه عن إيعازه، فإنه ليس في الآية ما يصح الاستدلال به على أن المبلغ الكبير الذي عنته بلفظ القنطار هو المهر فقط ؛ حيث يمكن أن يكون مجموعة عطايا من الزوج. وعبارتها تهدف إلى حماية المرأة وعدم ابتزاز ما صار حقها الشرعي من مال أعطاه لها زوجها فيه المهر وغير المهر مهما كثر. ويظل تلقين آية سورة النور والأحاديث النبوية وإيعاز عمر واردا واجب الاحترام بل ومخولا للحكام الإشراف على مقادير المهور ومنع المغالاة فيها في كثير من الظروف التي لا يكون أكثر الناس فيها قادرين على دفع مهور عالية ؛ حيث يؤدي هذا إلى تعسير الزواج وتزايد الأيامى أي العزاب من رجال ونساء وعبيد وإماء وبعبارة أخرى إلى تعطيل أمر الله الوارد في آية سورة النور. أما القادرون فالذي يتبادر لنا أنه ليس في التلقين المشار إليه ما يحول دون زيادة المهر بينهم عن المقدار المحدد في الروايات المروية. ولعل حكمة عدم تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير وهم الأكثرية الساحقة تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين، بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه. وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف، وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود. ولقد روى أبو داود والنسائي وأحمد حديثا عن أم حبيبة أم المؤمنين قالت :( إنها كانت تحت عبد الله ابن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها منه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل ابن حسنة )٨ حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه. والله سبحانه أعلم.
١ النص منقول عن ابن كثير.
٢ النص منقول عن ابن كثير.
٣ المصدر نفسه.
٤ من رشيد رضا.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٧٠ وقيمة الاثنتي عشرة أوقية (٤٨٠) درهما على ما جاء في شرح الحديث وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة يؤيد ما جاء في الحديث المروي عن عمر جاء فيه (سألت عائشة كم كان صداق رسول الله قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا. أتدري ما النش قال لا. قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) انظر التاج ج ٢ ص ٢٦٩..
٦ انظر تفسير الآية في تفسير المنار.
٧ المصدر نفسه.
٨ التاج ج ٢ ص ٢٧٠.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( ١٩ ) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( ٢٠ ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا( ٢١ ) ﴾. [ ١٩-٢١ ]

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) نهيا للمسلمين عن إمساك الزوجات مع الكراهية والبغض بقصد الكيد والإعنات وابتزاز أموالهن من مهور وغيرها.
( ٢ ) وأمرا لهم بمعاشرتهن بالحسنى والمعروف وتحملهن حتى في حال الشعور بكرههن. فليس كل ما يكرهه المرء شرا حقا. وقد يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا.
( ٣ ) وتحذيرا لهم في حال اعتزامهم على تركهن للتزوج بغيرهن ألا يأخذوا شيئا مما أعطوهن مهما كان كثيرا. ففي ذلك إثم وظلم كبيران بعد ما كان بينهما ما كان من صلة الزوجية العظمى والميثاق والعهد الذي تم به التراضي.
( ٤ ) واستثناء لحالة صدور فاحشة ثابتة منهن. فهذه حالة استثنائية خطيرة تسوغ للزوج الكره والفراق ومحاولة استرداد ما أعطاه كله أو بعضه.
تعليق على الآية
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ... ) الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات
ولقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال :( كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ )١.
وهناك روايات أخرى يرويها الطبري وغيره ذكر في بعضها أسماء وأحداث معينة وفي بعضها أن ابن الزوج وأقاربه كانوا يمسكون الزوجة إذا توفي زوجها حتى تفتدي نفسها برد المهر وفي بعضها أنهم كانوا يلقون عليها ثوابا كإعلان بأنهم سيمسكونها عندهم. وفي بعضها أن أهل ابن الزوج يفعلون ذلك إذا كان هذا الابن صغيرا حتى يكبر فيمسكها أو يتركها. وأن الآية الأولى نزلت في منع العادات المجحفة.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية الأولى تنطوي على قرينة حاسمة على أن الخطاب فيها موجه للأزواج في صدد معاملتهم لزوجاتهم ؛ حيث يجعل ذلك رواية نزولها بسبب عادة إمساك ابن الزوج أو أقاربه لزوجة الأب لأنفسهم أو لأخذ الفدية منها غريبة. وقد يكون تعبير ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) من ما سوغ للمؤولين ولابن عباس ما قالوه كسبب لنزول الآية. ولقد رأينا الزمخشري يؤولها تأويلا وجيها متسقا مع ملاحظتنا وهو ( لا يحل لكم أن تمسكوا زوجاتكم على كراهيتكم لهن حتى يمتن عندكم بقصد أن ترثوهن ) وقد يكون من القرائن على أن الآية في صدد معاملة الأزواج لزوجاتهم ورود نهي عن نكاح زوجات الآباء في آية مستقلة بعد الآيات التي نحن في صددها. ونرجح أن الروايات المساقة في صدد هذه الآية، وأن سوقها في صدد الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من قبيل الالتباس.
والذي يتبادر لنا أن الآيات نزلت في مناسبة شكوى رفعها بعض الزوجات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حق أزواجهن بسبب ما بدا من بعض المحاولات والمواقف التي تضمنتها الآية الأولى. والله أعلم.
ومع أن الآيات تبدو فصلا مستقلا، فإن موضوعها متصل بموضوع النساء وحمايتهن وحقوقهن مما احتوت الآيات السابقة توطيده حتى ليصح أن يقال : إنها استمرار لها. ومن المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها إن لم تكن نزلت معها فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية.
ولقد سبقت وصايا ونواه وتحذيرات مماثلة في الآيات ( ٢٢٢ـ ٢٤٧ ) من سورة البقرة مما يؤكد ما كان يلقاه الزوجات من أزواجهن من المكايدة والأذى، وما كان يعمد إليه الأزواج من أساليب لابتزاز أموالهن فاقتضت الحكمة مواصلة توكيد النواهي والتحذيرات للقضاء على هذه التصرفات المكروهة المتناقضة مع الحق والعدل والواجب والعهد الزوجي.
وأسلوب الآيات هنا قوي رائع حقا. ينطوي على أبلغ التلقين وأروع العظة في حماية الزوجات وتعظيم شأن الصلة الزوجية ووجوب حسن معاشرتهن ومعاملتهن وحمل النفس على ما تكره في هذا السبيل والتعفف عن أموالهن ولو كانوا هم الذين أعطوها لهن ؛ لأنها صارت حقهن وعدم التسرع في التخلي عنهن وتطليقهن. فإذا أضيف إليها ما احتوته الآيات العديدة الأخرى المكية والمدنية من مثل ذلك وفي صدده وقد مر منها أمثلة كثير وبدا الأمر فذا بالنسبة لجميع الشرائع، وصار من خصوصيات القرآن والشريعة الإسلامية ومرشحاتها للخلود والشمول.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا مقتطعا من حديث خطبة حجة وداع رسول الله رواه مسلم وأبو داود جاء فيه ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله )٢ وفي مجمع الزوائد حديث رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني في وجوب إحسان معاملة الزوجات والبر بهن، وهناك حديث آخر مهم رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلفا رضي منها بآخر ) ٣. وجمهور المفسرين والمؤولين على أن جملة ( يأتين بفاحشة مبينة ) في الآية الأولى كناية عن الزنا. وإن للزوج في حالة ثبوت ذلك على زوجته حقا في استرداد مهرها وما قد يكون أعطاها إياه من مال أو بعضه بالأسلوب الذي لا يخالف شرعا ولا عرفا. وهذا متسق مع روح الآية كما هو المتبادر.
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً٢٢ ﴾
تعليق الآية
( وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ )الخ
عبارة الآية واضحة. وهي في نهي المسلمين عن عادة بشعة جاهلية وتشنيعها وإبطالها.
وقد روى المفسرون١ أنه كان من عادة العرب قبل الإسلام، ومنهم من روى ذلك عن أهل المدينة خاصة إذا مات رجل منهم عن زوجة وله ابن بالغ من غيرها وألقى عليها ثوبا، فإن ذلك يكون بمثابة إعلان رغبته فيها فيصبح أحق بها من نفسها إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها لغيره وإن شاء أمسكها في بيته وإن شاء سرحها مقابل فدية تفدي بها نفسها من مال تدفعه أو حق تتنازل عنه له. وقد رووا هذا في سياق الآيات السابقة كما ذكرنا قبل. ورووا إلى هذا أن الآية نزلت في مناسبة مراجعة امرأة كانت زوجة لأبي قيس ابن الأسلت الأنصاري، فلما مات خطبها ابنه فأتت رسول الله وأخبرته وقالت : إني أعد ابنه ابنا لي، فما لبثت الآية أن نزلت بالنهي. كذلك مما رووه أن الآية نزلت في مناسبة حالات متعددة من هذا الباب ذكروا أسماء أصحابها من قريش ؛ حيث خلف صفوان بن أمية والأسود بن خلف على زوجتي أبويهما.
ويلحظ أولا : أن الآية منصبة على النهي عن نكاح زوجات الآباء وتشنيعه فقط.
وثانيا : أنه جاء بعدها فصل فيه بيان المحرم على المسلمين من الأنكحة والحلال لهم ؛ حيث يسوغ القول : إنها غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق موضوعا وظرفا، وهذا لا يمنع أن يكون بعض الروايات أو جميعها وقعت، أو مما كان يقع وإن امرأة شكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية وما بعدها من ما فيه محرمات الأنكحة.
وأسلوب الآية قوي في التشنيع حاسم في النهي. والمتبادر أن استثناء ما قد سلف قد استهدف تسوية نتائجه الطبيعية كالذرية التي نتجت من هذا النكاح تسوية شرعية وحقوقية. وفي هذا من الحكمة والحق ما هو ظاهر.
ويستفاد من أقوال المفسرين٢ ورواياتهم عن أهل التأويل أن الاستثناء أي جملة ( إلا ما قد سلف ) هو من أجل الأولاد الذين ولدوا من هذه الحالة قبل تحريمها ليعتبروا أولادا شرعيين ؛ لأنهم من نكاح كان سائغا، وليس للسماح باستمرار الزوجية بين زوجة الأب وابن الزوج. وهو حق سديد ولقد روى الترمذي حديثا عن فيروز الديلمي قال ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني أسلمت وتحتي أختان. فقال : اختر أيتهما شئت وفي رواية طلق أيتهما شئت ) ٣ وقد حرمت آية تأتي بعد هذا جمع الأختين إلا ما قد سلف ؛ حيث يدعم هذا ذلك القول.
ولقد قال المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية : إن من يتزوج زوجة أبيه بعد تحريم ذلك يكون مرتدا عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. وأورد للتدليل على ذلك حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن البراء ابن عازب قال ( لقيت عمي ومعه راية فقلت : أين تريد ؟ قال : بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله ) ٤ حيث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع هذه العقوبة لمثل هذا الجرم الفظيع حينما اقترف في الإسلام رغم التحريم والتسفيه الشديدين اللذين احتوتهما الآية.
وهناك أقوال يوردها المفسرون، ومنهم من يعزوها أو يعزو بعضها إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآية٥ من ذلك أن لفظ الآباء يشمل الجد بحيث يكون التحريم شاملا لنكاح ما نكحه الجد من قبل حفيده. ومنها أن زوجة الأب تحرم على الابن، ولو لم يدخل بها إن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول. ومنها أن التحريم يشمل ما استفرشه الآباء من إمائهم وما باشروه مباشرة بدون جماع من إمائهم وزوجاتهم، بل ومن يكونون خلوا بهن منهن أو رأوهن مجردات أي عاريات. ثم تخلوا عنهن بدون جماع، وهذه أقوال وجيهة. وهناك اختلاف في ما جمعه الآباء سفاحا وما باشروه مباشرة وقبلوه بشهوة بدون جماع من نساء حرائر وإماء ولم يكن زوجاتهم وملك يمينهم. فبعض المؤولين والفقهاء أخذوا جملة ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) على معنى الجماع بالزواج أو بالسفاح وألحق به المباشرة والتقبيل بشهوة. وقال : إن ذلك يحرم المرأة المزنى بها أو المباشرة أو المقبلة بشهوة على الأبناء. وعزا الخازن هذا القول إلى عمران بن الحصين وجابر بن زيد والحسن وفقهاء العراق. ورتب أصحاب هذا الرأي حرمة المصاهرة عليه بحيث تكون بنت الزنا محرمة على أخيها الشرعي وعلى والد أبيها. وبعضهم أخذوا الجملة على معنى عقد الزواج، وقالوا بعدم حرمة من ليس زوجة بعقد يجب فيه الصداق على الزوج، ويلحق به الولد وتجب فيه العدة على الزوجة، وعزا الخازن هذا القول إلى على وابن عباس وسعيد ابن المسيب وعروة ابن الزبير والزهري ومالك والشافعي وفقهاء الحجاز، ومعنى هذا أن زواج الابن من امرأة زنى بها الأب غير محرم فضلا عن ما باشره أو خلا بها، أو قبله بشهوة من نساء حراما. وهذا الرأي مستفاد من الجزء الثاني من موطأ مالك.
وإذا لحظنا أن القرآن إنما استعمل كلمة ( النكاح ) ومشتقاتها في مقام الزواج وعقده دون استثناء مما مثاله ما جاء في آية البقرة ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) ( ٢٢١ ) وفي آية الأحزاب ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) ( ٤٩ ) ومما سوف يأتي أمثلة له في هذه السورة وما بعدها يكون القول الثاني هو الأوجه. وإن كان ضمير المرء يشعر أن القول الأول لا يخلو من وجاهة أيضا باستثناء اللمس والتقبيل بشهوة والمباشرة بدون جماع للمرأة غير الزوجة ؛ لأن هذه الأفعال لا يمكن أن تدخل في وصف النكاح ولو حمل على محمل الجماع. والمتبادر أن الإماء يلحقن بالحرائر في كلا القولين. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي..
٢ انظر بخاصة تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن لهذه الآيات.
٣ التاج ج ٢ ص ٣٢٤.
٤ التاج ج ٣ ص ٢٦.
٥ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن مثلا..
( ١ ) ربائبكم : جمع ربيبة وهي بنت الزوجة. والمتبادر أن التسمية من معنى كون الزوج يرب أو يربي بنت زوجته في كنفه
( ٢ ) في حجوركم : بمعنى في كفالتكم مع أمهاتهن.
( ٣ ) حلائل : جمع حليلة وهي الزوجة
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ( ١ ) اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم( ٢ ) مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ( ٣ )أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٣ ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء( ٤ ) إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم به مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ( ٥ ) فَرِيضَةً( ٦ ) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم به مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٢٤ ) ﴾
الخطاب في الآيتين موجه إلى المسلمين، وقد أوذنوا فيه بما كتب الله لهم من الحلال والحرام في الأنكحة كما يلي :
١ ـ حرم عليهم التزوج بأمهاتهم وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم، وخالاتهم، وبنات إخوتهم، وبنات أخواتهم، ومرضعاتهم اللاتي يعتبرن أمهاتهم، وبنات مرضعاتهم اللاتي يعتبرن أخواتهم، وأمهات زوجاتهم، وبنات زوجاتهم من أزواج غيرهم إذا كانوا قد دخلوا بهن استثناء اللاتي يطلقوهن قبل الدخول بهن، وزوجات أبنائهم الذين من أصلابهم، وجمع الأختين في آن واحد مع العفو عما كان من ذلك قبل نزول الآيات والنساء المتزوجات باستثناء ما ملكته أيمانهم.
٢ ـ وأبيح لهم أن يتزوجوا بغير هذه المحرمات مع تنبيههم إلى وجوب أن تكون غايتهم الإحصان والعفة عن الزنا والسفاح. وإلى وجوب أدائهم مهرا للمرأة التي يتزوجون بها كفرض متفق عليه مع إباحة التراضي في شأنه بعد تسميته وأدائه زيادة أو نقصا حسب التراضي.
تعليق على الآية
( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم... ) الخ
والآية التالية لها وما يتصل بهما من أحكام
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين. وما احتوتاه هو تشريعات رئيسية قد لا تحتاج إلى مناسبات خاصة. غير أن الذي نرجحه أنهما نزلتا بسبب حوادث متنوعة في صدد حرام الأنكحة وحلالها كثرت في مناسباتها الاستفتاءات والمناقشات. وهو المتسق مع ما جرت عليه حكمة التنزيل في التشريع وغير التشريع في الأعم الأغلب.
والتناسب الموضوعي الخاص بين الآيتين والآية السابقة لها أولا، والتناسب الموضوعي العام بينهما وبين الآيات السابقة جملة واضح. فإما أن تكون الآيتان نزلتا بعد السياق السابق بدون فاصل فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي والظرفي، وإما أن تكونا نزلتا لحدتهما بعد وقت ما فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.
ولم نطلع على روايات تفيد أن شيئا من المحرمات المذكورة وبخاصة الرئيسية منها مثل الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وزوجة الابن من الصلب كان مباحا عند العرب قبل الإسلام، وقد تكون جملة ( إلا ما قد سلف ) في صدد نكاح زوجات الآباء والجمع بين الأختين قرينة على أن المحرمات المذكورة في الآيتين، وبخاصة الرئيسية كانت محرمة قبل الإسلام.
ولعلهم كانوا يتساهلون في غير هذه المحرمات الرئيسية كأمهات الرضاع وأخوات الرضاع والربائب مثل تساهلهم في نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. وكانوا إلى هذا يتشددون في تحريم نكاح أرامل ومطلقات الأبناء، حتى شمل ذلك مطلقات الأبناء بالتبني فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء هذه الآيات لتكون أحكاما صريحة شاملة لجميع الحالات بأسلوب حاسم.
والنص على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط وقيد تحريم الربائب بالدخول بأمهاتهن وما ورد من أحاديث حرمة الرضاع على ما سوف نورده بعد قد يكون قرائن على ما نقول.
والنص على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط الذي خرج به تحريم زوجة الابن بالتبني من المحرمات قد يدل على أن هذه الآيات قد نزلت بعد إبطال تقليد التبني وتوابعه في سورة الأحزاب، ولعل ذلك من أسباب تقديم سورة الأحزاب على هذه السورة في روايات ترتيب النزول.
وقد نبه المفسرون١ والفقهاء ومنهم من عزا قوله إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على أن تعبير الأب في المحرمات يشمل الجد وتعبير الأم ويشمل الجدة، وتعبير الابن يشمل ابن الابن وبنت الابن وتعبير البنت يشمل ابن البنت وبنت البنت، وتعبير العمة يشمل عمة الأب وعمة الأم، وتعبير الخالة يشمل خالة الأب وخالة الأم، وهذا وجيه ومتسق مع روح الآيات وأساليب اللغة العربية.
ونبهوا كذلك على حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ) ٢ وهذا تشريع نبوي لحالة سكت القرآن عنها.
ونبهوا كذلك على حرمة وطء الرجل والدة أمته التي يستفرشها ولا بناتها من غيره ولا بنات أبنائها وبناتهم أيضا، ولو كن ملك يمينه. وهو قول سديد. ولم نقع على قول في عمات الأمة التي يستفرشها سيدها وخالاتها أو الجمع بينها وبينهن.
ويتبادر لنا أن هذا أن ينسحب عليه ذلك الأصل لن تعليله جنسي ولا يتبدل في حالة الحرية والرق. والله أعلم، ونبهوا أيضا على أن زوجات الكفار داخلات في مدى عبارة ( والمحصنات من النساء ) محرمات على المسلمين على اعتبار أنهن ذوات أزواج، سواء أكن مشركات أم كتابيات باستثناء ما يسبيه المسلمون من أعدائهم الكفار نتيجة لحرب وقتال من نساء ؛ حيث أبيح لهم أن يستفرشوهن لأنهن غدون ملك يمين لهم على ما تفيده جملة ( إلا ما ملكت أيمانكم ) مما سوف نزيده شرحا بعد.
وفي موطأ مالك٣ حالات أخرى. منها عزوا إلى زيد ابن ثابت ( عدم صحة زواج رجل من أم زوجة عقد عليها ثم طلقها قبل أن يمسها لأنه صارت أم زوجته على كل حال ) وهذا متسق مع إطلاق العبارة القرآنية. ومنها بدون عزو إلى أحد ( حالة الرجل تكون تحته امرأة فيجامع أمها. حيث تحرم عليه زوجته وأمها معا ) وهذا اجتهاد تطبيقي للجملة القرآنية إذا أخذ بقول من يقول بحرمة المرأة التي يصيبها الرجل ولو سفاحا. وقد علقنا على هذا سابقا.
ولم يذكر شيء في الآيات عن دين النساء اللاتي يحل للمسلم أن يتزوجهن.
غير أن الآية التالية لهذه الآيات مباشرة ذكرت ذلك بأسلوب يفيد وجوب كونهن من المؤمنات. ولقد حرمت آية البقرة ( ٢٢٠ ) نكاح المشركات على ما شرحناه قبل. ولقد أدخل تعديل على ذلك بإباحة الكتابيات في آية سورة المائدة ( ٥ ) على ما سوف نشرحه بعد.
وفي صدد حرمة الرضاع روى الخمسة عن عائشة رضي الله عنها حديثا جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ) ٤ وحديثا ثانيا رواه الشيخان جاء فيه ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم ) ٥ وحديثا ثالثا رواه جميعهم عدا الترمذي عن أم حبيبة ( قالت : يا رسول الله، إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال : بنت أم سلمة، قلت : نعم. قال : فوالله لو لم تكن في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ) ٦ وحديثا رابعا رواه الخمسة إلا البخاري عن أم الفضل جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحرم الرضعة أو الرضعتان أو المصة أو المصتان ) ٧ وحديثا خامسا رواه البخاري والترمذي عن عقبة ابن الحارث قال :( تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت : أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، وقلت إن المرأة كاذبة فأعرض، فأتيته من قبل وجهه وقلت : إنها كاذبة. قال : كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك٨. وحديثا سادسا رواه الترمذي جاء فيه ( أن ابن عباس سئل عن امرأتين في عصمة رجل واحد أرضعت إحداهما جارية ( بنت ) والأخرى غلاما أتحل الجارية للغلام ؟ فقال : لا إن اللقاح واحد ) ٩ وحديثا سابعا رواه الترمذي عن أم سلمة قالت ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام ) ١٠ وحديثا ثامنا عن ابن عباس رواه الدارقطني جاء فيه ( قال رسول الله : لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين ) ١١.
وفي موطأ مالك أحاديث أخرى. منها حديث عن عائشة قالت :( جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي، فأبيت أن آذن حتى أسأل رسول الله فسألته فقال : إنه عمك فأذني له. قالت : يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. قال : إنه عمك فليلج عليك ) ١٢ وحديث عن عبد الرحمان ابن القاسم عن أبيه أنه أخبره ( أن عائشة زوج النبي كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها. ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أخواتها ) ١٣.
وليس في أحاديث ما ينقض الجملة الواردة في الآية الأولى في تحريم المرضعات وبناتهن، وإنما فيها توضيح وتوسيع، ومن الواجب الأخذ بها بحيث يصح القول على ضوئها وضوء الجملة القرآنية أن الرضاعة المشبعة في سن الرضاعة هي التي تحرم النكاح، وأن الرضاعة بهذا الوصف تحرم من الأنكحة ما يحرمه الرحم والولادة ؛ حيث تغدو المرضعة بمثابة أم الطفل أو الطفلة التي رضعت منها فتحرم هي على الطفل كما يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها وخالاتها وبنات أبنائها وبنات بناتها، ويحرم على الطفلة أبو المرضعة وأبناؤها وإخوتها وأعمامها وأخوالها ويحرم على الطفل من رضع معه منها من بنات غير بناتها ويحرم على الطفلة من رضع معها منها من صبيان غير صبيان مرضعتها، مع التنبيه على أن هناك بعض اختلافات مذهبية لا يتحمل منهج التفسير بسطها.
ولقد روى الخمسة إلا البخاري حديثا عن عائشة جاء فيه ( كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن : ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن ) ١٤ ونحن في حيرة من هذا الحديث. ففي عهد أبيها حرر مصحف رسمي ليكون الإمام والمرجع على ملأ من المسلمين، ولا يعقل أن تسكت على عدم إثبات قرآن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو قرآن في المصحف، ولا يعقل أن ترد شهادتها في ذلك، ونرجح أن في الأمر التباسا، وقد ناقش رشيد رضا هذه المسألة وقال ما مفاده : إن رواية الخمس عنها هي المعتمدة وبها يقول أهل الحديث، ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث. ورواية القرآن كقرآن لا تثبت إلا بالتواتر، وليس هناك تواتر يؤيد صحة ما روي في هذا عن عائشة رضي الله عنها.
وعلى كل حال فإن قصارى الأمر تقرير كون حرمة الرضاع منوطة بالرضاعة الكثيرة المشبعة لا بالمصة والمصتين، وهو ما تضمنت الأحاديث الأخرى تقريره.
ولقد روى مالك قولا عن سعيد ابن المسيب١٥ ( إن كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة يحرم ) وعن ابن شهاب ( إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا كانت في الحولين تحرم ) ولا يروي الإمام مالك ما رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الخمسة وأوردناه آنفا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري إذا كانت لم تبلغه، أو لم تثبت عنده وعند سعيد وابن شهاب. وما دامت
( ٤ ) المحصنات من النساء : كلمة المحصنات جاءت في مقامات في القرآن في معان متنوعة. منها الحرائر ومنها العفيفات ومنها المتزوجات والجمهور على أنها هنا بالمعنى الأخير، وهو الملموح من روح الآية.
( ٥ ) أجورهن : بمعنى مهورهن
( ٦ ) فريضة : مفروضة متفقا عليها
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ( ١ ) اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم( ٢ ) مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ( ٣ )أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٣ ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء( ٤ ) إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم به مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ( ٥ ) فَرِيضَةً( ٦ ) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم به مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٢٤ ) ﴾
الخطاب في الآيتين موجه إلى المسلمين، وقد أوذنوا فيه بما كتب الله لهم من الحلال والحرام في الأنكحة كما يلي :
١ ـ حرم عليهم التزوج بأمهاتهم وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم، وخالاتهم، وبنات إخوتهم، وبنات أخواتهم، ومرضعاتهم اللاتي يعتبرن أمهاتهم، وبنات مرضعاتهم اللاتي يعتبرن أخواتهم، وأمهات زوجاتهم، وبنات زوجاتهم من أزواج غيرهم إذا كانوا قد دخلوا بهن استثناء اللاتي يطلقوهن قبل الدخول بهن، وزوجات أبنائهم الذين من أصلابهم، وجمع الأختين في آن واحد مع العفو عما كان من ذلك قبل نزول الآيات والنساء المتزوجات باستثناء ما ملكته أيمانهم.
٢ ـ وأبيح لهم أن يتزوجوا بغير هذه المحرمات مع تنبيههم إلى وجوب أن تكون غايتهم الإحصان والعفة عن الزنا والسفاح. وإلى وجوب أدائهم مهرا للمرأة التي يتزوجون بها كفرض متفق عليه مع إباحة التراضي في شأنه بعد تسميته وأدائه زيادة أو نقصا حسب التراضي.
تعليق على الآية
( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم... ) الخ
والآية التالية لها وما يتصل بهما من أحكام
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين. وما احتوتاه هو تشريعات رئيسية قد لا تحتاج إلى مناسبات خاصة. غير أن الذي نرجحه أنهما نزلتا بسبب حوادث متنوعة في صدد حرام الأنكحة وحلالها كثرت في مناسباتها الاستفتاءات والمناقشات. وهو المتسق مع ما جرت عليه حكمة التنزيل في التشريع وغير التشريع في الأعم الأغلب.
والتناسب الموضوعي الخاص بين الآيتين والآية السابقة لها أولا، والتناسب الموضوعي العام بينهما وبين الآيات السابقة جملة واضح. فإما أن تكون الآيتان نزلتا بعد السياق السابق بدون فاصل فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي والظرفي، وإما أن تكونا نزلتا لحدتهما بعد وقت ما فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.
ولم نطلع على روايات تفيد أن شيئا من المحرمات المذكورة وبخاصة الرئيسية منها مثل الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وزوجة الابن من الصلب كان مباحا عند العرب قبل الإسلام، وقد تكون جملة ( إلا ما قد سلف ) في صدد نكاح زوجات الآباء والجمع بين الأختين قرينة على أن المحرمات المذكورة في الآيتين، وبخاصة الرئيسية كانت محرمة قبل الإسلام.
ولعلهم كانوا يتساهلون في غير هذه المحرمات الرئيسية كأمهات الرضاع وأخوات الرضاع والربائب مثل تساهلهم في نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. وكانوا إلى هذا يتشددون في تحريم نكاح أرامل ومطلقات الأبناء، حتى شمل ذلك مطلقات الأبناء بالتبني فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء هذه الآيات لتكون أحكاما صريحة شاملة لجميع الحالات بأسلوب حاسم.
والنص على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط وقيد تحريم الربائب بالدخول بأمهاتهن وما ورد من أحاديث حرمة الرضاع على ما سوف نورده بعد قد يكون قرائن على ما نقول.
والنص على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط الذي خرج به تحريم زوجة الابن بالتبني من المحرمات قد يدل على أن هذه الآيات قد نزلت بعد إبطال تقليد التبني وتوابعه في سورة الأحزاب، ولعل ذلك من أسباب تقديم سورة الأحزاب على هذه السورة في روايات ترتيب النزول.
وقد نبه المفسرون١ والفقهاء ومنهم من عزا قوله إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على أن تعبير الأب في المحرمات يشمل الجد وتعبير الأم ويشمل الجدة، وتعبير الابن يشمل ابن الابن وبنت الابن وتعبير البنت يشمل ابن البنت وبنت البنت، وتعبير العمة يشمل عمة الأب وعمة الأم، وتعبير الخالة يشمل خالة الأب وخالة الأم، وهذا وجيه ومتسق مع روح الآيات وأساليب اللغة العربية.
ونبهوا كذلك على حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ) ٢ وهذا تشريع نبوي لحالة سكت القرآن عنها.
ونبهوا كذلك على حرمة وطء الرجل والدة أمته التي يستفرشها ولا بناتها من غيره ولا بنات أبنائها وبناتهم أيضا، ولو كن ملك يمينه. وهو قول سديد. ولم نقع على قول في عمات الأمة التي يستفرشها سيدها وخالاتها أو الجمع بينها وبينهن.
ويتبادر لنا أن هذا أن ينسحب عليه ذلك الأصل لن تعليله جنسي ولا يتبدل في حالة الحرية والرق. والله أعلم، ونبهوا أيضا على أن زوجات الكفار داخلات في مدى عبارة ( والمحصنات من النساء ) محرمات على المسلمين على اعتبار أنهن ذوات أزواج، سواء أكن مشركات أم كتابيات باستثناء ما يسبيه المسلمون من أعدائهم الكفار نتيجة لحرب وقتال من نساء ؛ حيث أبيح لهم أن يستفرشوهن لأنهن غدون ملك يمين لهم على ما تفيده جملة ( إلا ما ملكت أيمانكم ) مما سوف نزيده شرحا بعد.
وفي موطأ مالك٣ حالات أخرى. منها عزوا إلى زيد ابن ثابت ( عدم صحة زواج رجل من أم زوجة عقد عليها ثم طلقها قبل أن يمسها لأنه صارت أم زوجته على كل حال ) وهذا متسق مع إطلاق العبارة القرآنية. ومنها بدون عزو إلى أحد ( حالة الرجل تكون تحته امرأة فيجامع أمها. حيث تحرم عليه زوجته وأمها معا ) وهذا اجتهاد تطبيقي للجملة القرآنية إذا أخذ بقول من يقول بحرمة المرأة التي يصيبها الرجل ولو سفاحا. وقد علقنا على هذا سابقا.
ولم يذكر شيء في الآيات عن دين النساء اللاتي يحل للمسلم أن يتزوجهن.
غير أن الآية التالية لهذه الآيات مباشرة ذكرت ذلك بأسلوب يفيد وجوب كونهن من المؤمنات. ولقد حرمت آية البقرة ( ٢٢٠ ) نكاح المشركات على ما شرحناه قبل. ولقد أدخل تعديل على ذلك بإباحة الكتابيات في آية سورة المائدة ( ٥ ) على ما سوف نشرحه بعد.
وفي صدد حرمة الرضاع روى الخمسة عن عائشة رضي الله عنها حديثا جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ) ٤ وحديثا ثانيا رواه الشيخان جاء فيه ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم ) ٥ وحديثا ثالثا رواه جميعهم عدا الترمذي عن أم حبيبة ( قالت : يا رسول الله، إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال : بنت أم سلمة، قلت : نعم. قال : فوالله لو لم تكن في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ) ٦ وحديثا رابعا رواه الخمسة إلا البخاري عن أم الفضل جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحرم الرضعة أو الرضعتان أو المصة أو المصتان ) ٧ وحديثا خامسا رواه البخاري والترمذي عن عقبة ابن الحارث قال :( تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت : أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، وقلت إن المرأة كاذبة فأعرض، فأتيته من قبل وجهه وقلت : إنها كاذبة. قال : كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك٨. وحديثا سادسا رواه الترمذي جاء فيه ( أن ابن عباس سئل عن امرأتين في عصمة رجل واحد أرضعت إحداهما جارية ( بنت ) والأخرى غلاما أتحل الجارية للغلام ؟ فقال : لا إن اللقاح واحد ) ٩ وحديثا سابعا رواه الترمذي عن أم سلمة قالت ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام ) ١٠ وحديثا ثامنا عن ابن عباس رواه الدارقطني جاء فيه ( قال رسول الله : لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين ) ١١.
وفي موطأ مالك أحاديث أخرى. منها حديث عن عائشة قالت :( جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي، فأبيت أن آذن حتى أسأل رسول الله فسألته فقال : إنه عمك فأذني له. قالت : يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. قال : إنه عمك فليلج عليك ) ١٢ وحديث عن عبد الرحمان ابن القاسم عن أبيه أنه أخبره ( أن عائشة زوج النبي كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها. ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أخواتها ) ١٣.
وليس في أحاديث ما ينقض الجملة الواردة في الآية الأولى في تحريم المرضعات وبناتهن، وإنما فيها توضيح وتوسيع، ومن الواجب الأخذ بها بحيث يصح القول على ضوئها وضوء الجملة القرآنية أن الرضاعة المشبعة في سن الرضاعة هي التي تحرم النكاح، وأن الرضاعة بهذا الوصف تحرم من الأنكحة ما يحرمه الرحم والولادة ؛ حيث تغدو المرضعة بمثابة أم الطفل أو الطفلة التي رضعت منها فتحرم هي على الطفل كما يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها وخالاتها وبنات أبنائها وبنات بناتها، ويحرم على الطفلة أبو المرضعة وأبناؤها وإخوتها وأعمامها وأخوالها ويحرم على الطفل من رضع معه منها من بنات غير بناتها ويحرم على الطفلة من رضع معها منها من صبيان غير صبيان مرضعتها، مع التنبيه على أن هناك بعض اختلافات مذهبية لا يتحمل منهج التفسير بسطها.
ولقد روى الخمسة إلا البخاري حديثا عن عائشة جاء فيه ( كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن : ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن ) ١٤ ونحن في حيرة من هذا الحديث. ففي عهد أبيها حرر مصحف رسمي ليكون الإمام والمرجع على ملأ من المسلمين، ولا يعقل أن تسكت على عدم إثبات قرآن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو قرآن في المصحف، ولا يعقل أن ترد شهادتها في ذلك، ونرجح أن في الأمر التباسا، وقد ناقش رشيد رضا هذه المسألة وقال ما مفاده : إن رواية الخمس عنها هي المعتمدة وبها يقول أهل الحديث، ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث. ورواية القرآن كقرآن لا تثبت إلا بالتواتر، وليس هناك تواتر يؤيد صحة ما روي في هذا عن عائشة رضي الله عنها.
وعلى كل حال فإن قصارى الأمر تقرير كون حرمة الرضاع منوطة بالرضاعة الكثيرة المشبعة لا بالمصة والمصتين، وهو ما تضمنت الأحاديث الأخرى تقريره.
ولقد روى مالك قولا عن سعيد ابن المسيب١٥ ( إن كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة يحرم ) وعن ابن شهاب ( إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا كانت في الحولين تحرم ) ولا يروي الإمام مالك ما رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الخمسة وأوردناه آنفا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري إذا كانت لم تبلغه، أو لم تثبت عنده وعند سعيد وابن شهاب. وما دامت
تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة
ولقد كانت جملة ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) موضوع تأويلات وروايات عديدة ومختلفة١. منها أنها في معنى كون المهور الواجب إعطاؤها للنساء هي مقابل استمتاع الرجال بهن بالنكاح وكونها يجب أن تكون مقدارا معينا متفقا عليه، مع رفع الحرج عن الزوجين فيما يتراضيان عليه بعد ذلك فيه، إذا ما طرأت ظروف تدعو إلى تبديل من زيادة أو نقص أو تسامح... الخ وأن الاستمتاع هو كناية عن الوطء الذي يباح للرجال بعد العقد وأداء المهر. ومنها أن الجملة احتوت إباحة نكاح المتعة. وهو عقد بين امرأة ورجل على مدة معينة يستمتع بها فيها لقاء أجر معين، فإذا انتهت المدة انفسخ العقد دون تطليق مع جواز التراضي على تمديد المدة لقاء أجر جديد. وكان هذا جاريا عند العرب قبل الإسلام.
ومع أن في استنباط إباحة نكاح المتعة من العبارة تحميلا لا تتحمله هي وبقية الآية والآيات السابقة، وأن التأويل الذي تقدم هو الأوجه حسب ما يتبادر لنا مع التنبيه إلى نقطة هامة، وهي أن المهر ليس مقابل الوطء فحسب، وإنما هو لتوطيد الميثاق الزوجي بصورة عامة، فإن المفسرين جميعهم أداروا الكلام في سياق هذه الآية على نكاح المتعة.
ولقد عزوا إلى ابن عباس أقوالا ليس منها شيء واردا في الصحاح. منها أن الآية محكمة في إباحة نكاح المتعة، وأنه كان يزيد بعد عبارة ( فما استمتعتم به منهن ) جملة ( إلى أجل مسمى ) ( البقرة : ٢٨٢ ) وأن أبا نضرة قال له : ما أقرؤها كذلك، فقال له : والله إن الله أنزلها كذلك ثلاث مرات. ومنها أن عمارا سأل ابن عباس عن المتعة فقال له : هي متعة لا سفاح ولا نكاح ولا طلاق ولا توارث، ومنها أنه قال لما كثر كلام الناس عن إباحته للمتعة وانتشارها : أنا ما أفتيت بها على الإطلاق، وإنما قلت تحل للمضطر كما تحل الميتة له. ومنها أنه رجع عن قوله وقال بتحريمها وأن الآية الأولى من سورة الطلاق نسختها.
ولقد أوردوا أحاديث فيها إباحة للمتعة ثم تحريم لها. وفي بعضها تناقض في الوقت نفسه. حيث روي النهي في ظروف وقعة خيبر، بينما رويت الإباحة في ظروف فتح مكة التي كانت بعد خيبر بسنتين. ومن هذه الأحاديث حديث رواه الشيخان عن جابر وسلمة قالا ( كنا في جيش فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا ) ٢ ومنها حديث عن سبرة الجهني رواه الإمام أحمد جاء فيه ( أن سبرة غزا مع رسول الله في فتح مكة قال : فأقمنا بها خمس عشرة، فأذن لنا رسول الله في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال، وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد، وبردي خلق وبرد ابن عمي جديد غض. حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها تلقتنا فتاة مثل البكرة العطنطة. فقلنا : هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ فقالت : وماذا تبذلان ؟ فنشر كل منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبي تنظر إلي بعطفها. فقال : إن برد هذا خلق وبردي جديد غض فتقول : برد هذا لا بأس به ثلاث مرات أو مرتين ثم استمتعت منها ) ٣ ومنها حديث رواه الخمسة عن علي ابن أبي طالب ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية ) ٤ ومنها حديث رواه مسلم عن سلمة قال ( رخص النبي عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها ) ٥ ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن سبرة قال ( رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول : يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) ٦ ومنها عن عمر بن الخطاب أنه قال ( نهى النبي عن المتعة وأيما رجل أو امرأة يأتوني بهما فسوف أرجمهما بالحجارة ).
ومع أن الخمسة رووا عن علي ابن أبي طالب أن النبي نهى عن المتعة يوم خيبر على ما أوردناه قبل، فقد روى عنه قوله ( لولا أن عمر نهى عن المتعة لما زنى إلا شقي ) ٧ حيث توهم الرواية أن عمر نهى عنها اجتهادا. ويستعبد جدا صدور هذا القول من علي الذي روى أن النبي هو الذي نهى عنها ؛ ولأن فيه اتهاما لعمر أنه نهى عن شيء كان سائغا في حياة النبي. والرواية المروية عن عمر التي تذكر أنه نهى عن المتعة استنادا إلى نهي النبي عنها هي الأكثر وجاهة وورودا.
ومن باب الرواية الآنفة الذكر المروية عن علي ثلاث روايات أخرى. واحدة عن عمران بن الحصين أنه قال ( إن آية المتعة نزلت في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها، وإن رسول الله أذن لنا وتمتعنا ولم ينهنا عنها. فقال رجل بعده وبرأيه ما شاء ) ٨ والرجل المقصود هو عمر. وواحدة جاء فيها ( سئل جابر ابن عبد الله عن المتعة فقال : نعم استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ) ٩ وواحدة بدون راو عن عمر ابن الخطاب أنه قال :( متعتان كانتا على عهد رسول الله حلال وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، وهما متعة النكاح ومتعة الحج ) ١٠.
والروايات الأربع التي يرويها الطبرسي الشيعي لم ترد في الصحاح ولم يوردها الطبري ولا البغوي ولا ابن كثير ولا الخازن الذين اهتموا لاستيفاء الروايات والأحاديث المأثورة في سياق الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم باستثناء الأولى التي أوردها الطبري وحده. وإيراده لها لا يثبتها ؛ لأن الحديث الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها والذي يرويه الخمسة هو الأوثق. ورواية الروايات الأربع مجتمعة في تفسير الطبرسي الشيعي، والراجح أنها وردت في كتب تفسير شيعية قبله وبعده تثير الشبهة في صنعها من الشيعة الذين يحللون المتعة ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يحرمها وإنما حرمها عمر، والذين يحاولون تشويه اسم عمر رضي الله عنه في كل مناسبة لهواهم الحزبي، ولو كان ذلك في مناسبات وصيغ لا تتسق معه عقل ومنطق وتخرج عمر من ربقة الإسلام في نسبة تحريم ما أحله الله ورسوله والعياذ بالله كما جاء في الرواية الرابعة مما أوردنا منه أمثلة كثيرة. ولا يمكن أن يعقل صدور هذا من عمر، وأن يسكت أصحاب رسول الله ويرضوا عنه ومن جملتهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وعلى كل حال فإن جل أئمة السنة وعلمائها انتهوا إلى القول بأن تحريم المتعة صار محكما. أما أئمة الشيعة فإنهم انتهوا إلى القول بأن إباحتها هي التي ظلت محكمة ؛ حيث يبدو أنهم لا يثبتون أحاديث تحريمها ويثبتون أحاديث حلها من جهة، وما روي عن ابن عباس في صدد تأويله للآية واعتباره إياها محكمة في حل المتعة من جهة ثم ما روى عن علي وعمران ابن الحصين وعبد الله ابن جابر من أن عمر هو الذي حرمها وأنها كانت حلالا ممارسا في عهد النبي، ثم في عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر من جهة.
والنفس تطمئن بما انتهى إليه أئمة السنة أكثر، ولا سيما إن الآية التي جاءت فيها العبارة والآيات السابقة لها منصبة على الزواج وتعظيم رابطته ووجوب الاحتفاظ بالزوجات وحسن معاشرتهن وتحمل ما يكره منهن والإحصان والأولاد والمواريث والمهور وما يحل التزوج به من النساء وإبطال بعض عادات الجاهلية منه مثل نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. ثم ننبه على كون الزواج هو للإحصان وليس للشهوة فحسب وننهى عن قصد السفاح. والمتعة على كل حال ليست نكاحا ولا إحصانا في معناهما ومداهما الصحيحين، ولا تخرج عن كونها نوعا من أنواع المخادنة، وليس فيها قصد تأسيس علاقة زوجية ثابتة وإقامة كيان أسروي وإنجاب ذرية مما هو منطو في الآيات. ويتبادر لنا من كل ما روي وقيل : إن مسألة المتعة وحلها وتحريمها متصلة بما روي من أحاديث أكثر مما هي منطوية في الجملة القرآنية. وإن من المحتمل أن تكون مما أباحها رسول الله في ظرف ثم نهى عنها.
ولقد روي حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير جاء فيه ( إن خولة بنت حكيم دخلت على عمر ابن الخطاب فقالت له : إن ربيعة ابن أمية استمتع بامرأة فحملت منه، فخرج فزعا يجر رداءه فقال : هذه المتعة لو كنت تقدمت فيها لرجمت ) وحديث آخر أخرجه الإمام مسلم عن عروة أيضا جاء فيه ( إن عبد الله ابن الزبير قام بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى بصائرهم يفتون بالمتعة، يعرض بذلك بعبد الله بن عباس - فناداه عبد الله إنك لجلف جاف لعمري، لقد كانت المتعة على عهد إمام المتقين ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجاري ) والحديثان يفيدان أن عبد الله ابن الزبير يعتبر المتعة زنا يستحق حد الزنا. وأن عمر أوشك أن يعتبرها كذلك. غير أن الحديثين لم يردا في الصحاح، وأن المستفاد من أقوال جمهور الفقهاء السنيين أنها وإن كانت محرمة فلا يوقع فيها حد الزنا للشبهة القائمة حول حلها وحرمتها عملا بالقاعدة الشرعية المشهورة ( ادرأوا الحدود بالشبهات ) ١١ ونعتقد أن بين أئمة الشيعة الذين يقولون بإباحتها علماء مجتهدين وأتقياء ورعون يبعد أن يحرموا ويحللوا جزافا دون قناعة بقطع النظر عن احتمال الخطأ والصواب في ذلك. هذا إلى أنهم قد يرون في إباحة هذا النكاح حكمة وهي منع المسلم من الوقوع في إثم الزنا أو العنت الشديد بالحرمان. والله أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وغيرهم، وقد ألم بهذا الموضوع وما دار حوله وما ورد فيه جميع المفسرين، ومنهم من تبسط ومنهم من أوجز، ومنهم من أورد الروايات والأقوال والتأويلات المختلفة أيضا..
٢ انظر أيضا التاج ج ٢ ص ٣٠٦.
٣ انظر أيضا مجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٦٤.
٤ انظر أيضا التاج ج ٢ ص ٣٠٦.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه.
٧ أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي..
٨ أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي.
٩ روى الروايتين الطبرسي أيضا.
١٠ المصدر نفسه.
١١ هذه القاعدة مستمدة من أحاديث عديدة منها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي جاء فيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) التاج ج٣ ص ٣٣ ومنها حديث رواه ابن ماجة عن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا) ومنها حديث رواه عبد الله ابن مسعود مرفوعا (ادرأوا الحدود بالشبهات. ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم) نيل الأوطار للشوكاني ج ٧ ص ٢٧١ـ ٢٧٢ الطبعة المنيرية.
( ١ ) طولا : سعة وقدرة مالية أو فضلا من مال. وفسرها بعضهم بالإمكان والقدرة مطلقا ومنها ( يد فلان طائلة ) بمعنى قادرة ماديا ومعنويا.
( ٢ ) المحصنات : في المرتين اللتين وردت فيهما الكلمة بمعنى الحرائر.
( ٣ ) فتياتكم : إمائكم وكان العرب يسمون الصبيان من عبيدهم فتيانا والبنات فتيات.
( ٤ ) محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان : الجملة على سبيل وصف ما ينبغي أن يكون حالهن بعد الزواج أو القصد من زواجهن، وهو أن يكن متعففات لا يرتكسن في الزنا ولا في اتخاذ الأخدان. والخدن هو الخليل في السر. والمسافحة هي الزنا إطلاقا مع أي كان.
( ٥ ) فإذا أحصن : فإذا تزوجن وصرن محصنات بالزواج
( ٦ )فاحشة : هنا بمعنى الزنا
( ٧ ) العذاب : هنا بمعنى حد الزنا وعقوبته
( ٨ ) العنت : الشدة وهنا كناية عن غلبة الشهوة وحملها صاحبها على الإثم.
﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً( ١ ) أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ( ٢ ) الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ( ٣ ) الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ( ٤ ) فَإِذَا أُحْصِنَّ( ٥ ) فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ( ٦ ) فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ( ٧ ) ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ( ٨ ) مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٥ ) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٦ ) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ( ٢٧ ) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ( ٢٨ ) ﴾. [ ٢٥-٢٨ ]
تضمنت الآية الأولى تشريعا في صدد تزوج الرجال الأحرار بالإماء المؤمنات كما تضمنت حكمة ذلك. ووجه الخطاب فيها للمؤمنين لتقرر لهم :
( ١ ) أنه ليس من بأس على الذين لا قدرة مالية لهم على التزوج بامرأة حرة مؤمنة أن يتزوجوا بإماء مؤمنات.
( ٢ ) وبأن الله أعلم بإيمانهم جميعا، وبأن بعضهم من بعض أحرارا كانوا أم أرقاء.
( ٣ ) وبأن على من أراد ذلك أن يحصل على إذن أهل الفتاة، ويؤدي لها مهرها بالحسنى وبالقدر المتعارف عليه بين الناس والأمثال.
( ٤ ) وبأن الأمة حينما تتزوج من حر تكون قد تحصنت من السفاح والتخادن ويصبح من واجبها التعفف عن ذلك، والحذر من الارتكاس فيه وغدت زوجة شرعية لزوجها فإذا اقترفت الفاحشة فيترتب عليها نصف الحد الذي يترتب على الحرة المتزوجة.
وانتهت الآية بالتنبيه على أن التشريع والإذن الرباني قد جعل لمن يخشى على نفسه العنت والأذى والإثم وعلى أن الصبر والتحمل خير وأفضل وعلى أن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم في كل حال.
أما الآيات الثلاث الأخريات فهي معقبة على محتويات الآية والآيات السابقة لها معا كما هو المتبادر من نصها وروحها. وأسلوبها ونصها رائعان قويا النفوذ. وقد وجه الخطاب فيها كذلك للمؤمنين :
( ١ ) لتنبههم على أن الله فيما شرعه لهم قد أراد لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ويهديهم إلى طريق الحق الذي بينه لمن قبلهم وهداهم إليه ويتوب عليهم فيحول بينهم وبين الإثم والطرق المعوجة المنحرفة ويخفف عنهم. فهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
( ٢ ) ولتهيب بهم إلى وجوب اتباع ما أنزله الله وعدم اتباع وساوس الذين يندفعون وراء الشهوات. فهؤلاء لا يريدون لهم إلا الانحراف عن جادة الهدى والصواب. وقد أراد الله بما أنزل التسهيل لهم والتخفيف عليهم لما يعلمه من ضعف الطبيعة الإنسانية.
وورود كلمتي ( مسافحات ومتخذات أخدان ) معا ينطوي على صورة من صور ما كان جاريا. حيث كان بعض الإماء أو النساء يتخذن المسافحة أي الزنا مع أي كان مهنة وبعضهن يتخذن الأخدان والأخلاء الحقيقيين في السر وحسب.
ولقد روى عن ابن مسعود والسدي والشعبي أنهم كانوا يؤولون جملة ( فإذا أحصن ) بمعنى ( فإذا أسلمن ) ويقولون إحصانها إسلامها. غير أن جمهور المؤولين على أنها بمعنى ( فإذا تزوجن ) حيث يصرن بذلك محصنات. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومداها.
تعليق على الآية
( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ١ الْمُؤْمِنَاتِ )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة مع سابقتها موضوعا، ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أيضا وأن تكون سياقا واحدا منذ الآية ( ٢٢ ).
وجملة ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) تدل على أنها نزلت بعد الآيات الأولى من سورة النور التي عين فيها حد الزنا. هذا في حين أن الآيات ( ١٥ ـ ١٨ ) نزلت قبل آيات سورة النور المذكورة ؛ لأنها كانت الخطوة التشريعية الأولى في عقوبة الزنا، بينما جاءت آيات النور خطوة ثانية على ما نبهنا عليه قبل. وفي هذا وذاك مثل آخر من وجود بعض فصول في السورة نزلت بعد فصول سورة أخرى متأخرة عنها في الترتيب وصورة من صور تأليف السورة معا على ما ذكرناه في مقدمة السورة.
ويلحظ أن الفقرة الأولى من الآية الأولى تضمنت تقرير كون المؤمنات من حرائر وإماء هن اللائي يصح أن يتزوج بهن المؤمنون وحسب. وقد عدل هذا القيد بآية في سورة المائدة وهي ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) ( ٥ ) حيث أحل فيها للمؤمنين المحصنات من أهل الكتاب أيضا.
ونقول استطرادا لصلته بموضوع الآيات : إن المفسرين٢ أوردوا روايات وأقوالا مختلفة معزوة إلى ابن عباس، وبعض علماء التابعين ومفسريهم في تأويل كلمة ( المحصنات ) في آية المائدة حيث قيل : إنها بمعنى ( الحرائر ) كما قيل إنها بمعنى ( العفائف ) ثم بنوا على القول الأول عدم جواز تزوج المؤمن بالأمة الكتابية، وعلى القول الثاني جواز تزوج المؤمن بالكتابيات إطلاقا، سواء أكن حرائر أم إماء إذا ما تيقن من عفافهن، والكلمة تتحمل المعنيين. غير أن الأكثر على القول الثاني. هذا مع التنبيه إلى أن هناك من يقول٣ : إن الكتابيات إنما يحللن بعد إسلامهن، وإن الوصف هو على اعتبار ما كن عليه قبل إسلامهن. غير أن الأكثر على خلاف ذلك. وظاهر الآية يؤيد هذا إذ ذكر فيها المحصنات من المؤمنات مع المحصنات من أهل الكتاب. وما نقوله هو في صدد التزوج بعقد. أما استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن فليس هناك خلاف على جوازه فيما اطلعنا عليه. وجملة ( فمن ما ملكت أيمانكم ) مطلقة تتضمن إباحة ذلك، بل إباحة استفراش غير المسلمات إطلاقا سواء أكن كتابيات أم مشركات على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وظاهر من نص الآية وروحها أن التزوج بالإماء يعني التزوج بهن بعقد، وأن الزوج هو غير مالكهن. إذ ليس على الملك قيد وشرط في استفراش ملك يمينه على ما ذكرناه قبل.
ومن المؤولين من أول جملة ( بإذن أهلهن ) بمعنى بإذن مالكيهن. ومنهم من أولها بمعنى أوليائهن من أقاربهن كالآباء والأخوة والأعمام. والجملة تتحمل المعنيين وإن كان المعنى الأول هو الأكثر ورودا ؛ لأن إذن الأولياء الأقارب لا يحسم الأمر إذا لم يأذن المالك. وقد نبه أصحاب الرأي الأول على أن ذلك متصل باستمرار ملكية المالك عليهن بعد زواجهن، وعلى أن تزوج الأمة بغير إذن مالكها باطل٤ وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر وفي رواية فنكاحه باطل ٥ وقد يكون أصحاب القول استلهموا هذا الحديث وقاسوا الأمة على العبد. وهو وجيه والله أعلم.
ومع ذلك فإن أمر الآية بإعطائهن أجورهن أي مهورهن قد يدل على أن حالة الأمة حينما تتزوج بإذن مالكها تتبدل بعض الشيء. ويكون لها الحق في أن تقبض مهرها وتتصرف فيه. وقد يكون لمالكها أن يبيعها أو يهبها لغيره، وقد تنتقل ملكيتها لورثته بعد موته. ولكن ذلك لا يغير كما هو المتبادر حالتها الجديدة. وبكلمة أخرى عن مالك الأمة المتزوجة بإذنه لا يملك أن يسترجعها من زوجها، أو أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا كما كان له ذلك قبل زواجها فضلا عن أنه يحرم عليه جماعها ؛ لأنها صارت ذات زوج محصنة. وإن هذا هو شأن مالكها الجديد إذ باعها المالك الأول أو وهبها أو أورثها بعد موته. والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر القاسمي أن مالكا استدل بجملة ( وآتوهن أجورهن ) على أنهن أحق بمهورهن، وإنه لا حق لمالكهن فيه، ثم قال : وذهب الجمهور إلى أن المهر للمالك، وإن إضافته إليهن ؛ لأن التأدية لهن هي تأدية لمالكهن لأنهن ماله. ونحن نرى رأي الإمام مالك هو الأوجه المتسق مع نص الآية وروحها. ويظل ما ذكرناه في محله إن شاء الله.
ومما قالوه : إن أولاد الإماء المتزوجات يلحقون بأمهاتهم فيكونون أرقاء ملكا لمالكي الأمهات٦ ولم نطلع على أثر نبوي أو راشدي في ذلك. ونحن نراه عجيبا ومحلا للتوقف. فالأولاد عند العرب ينسبون إلى آبائهم ويلحقون بهم. وفي جملة ( ادعوهم لأبائهم ) في آية الأحزاب ( ٥ )قرينة على ذلك فما دام الزوج حرا فأحرى أن يكون ابنه حرا. وقد يصح أن يقاس هذا على أبناء مالكي الإماء من مستفرشاتهم منهن. فالعلماء والمفسرون متفقون على أنهم أحرار، بل ويحررون أمهاتهم فلا يبقى لمالكيهم حتى بيعهن ولا هبتهن ويتحررن بالمرة عند وفاة مالكيهن ويطلق عليهن اسم خاص للتمييز، وهو ( أم ولد ) وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه ) ٧ مع التنبيه على أن حالة ولد الأمة المتزوجة بعقد ومهر أقوى من حالة الأمة المستفرشة.
ونص العبارة القرآنية ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) وروحها يلهمان أن ذلك رخصة للمؤمنين الأحرار في حال عدم استطاعتهم أن يتزوجوا من الحرائر. وفيها تقرير ضمني بعدم جواز تزوج الحر من أمة إذا كان قادرا على التزوج من حرة. وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا. وينطوي في جملة ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) حكمة الرخصة والتشريع كما هو المتبادر. ومع ذلك فإن جملة ( وأن تصبروا خير لكم ) تنطوي على الحث على عدم التسرع في التزوج بالإماء، وتحمل عنت الشهوة ما أمكن ذلك.
وما تقدم مضافا إليه ما انطوى في جملة ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) على ما شرحناه قبل وأولا، وجعل عقوبة الزنا على الأمة في الآية نصف عقوبة الحرة ثانيا، وتعبير ( بعضكم من بعض ) الذي قد يلهم أنه أريد به التخفيف عن النفس ثالثا، يلهم أن الإماء كن عرضة للتورط والارتكاس في الفاحشة، ومظنة لها أكثر من الحرائر. وأن العرب كانوا يأنفون التزوج بهن بسبب ذلك أولا، وبسبب عدم التكافؤ ثانيا. ثم بسبب ما كان جاريا على ما يستفاد من روايات المفسرين من استمرار ملكية مالكي الإماء لهن بعد زواجهن وإلحاق أولادهن بحالتهن وغدوهم مملوكين لمالكيهن دون آبائهم ثالثا. وفي هذا ما فيه من الثقل والغضاضة والمتاعب.
ومع ما قلناه فيما تلهمه جملة ( بعضكم من بعض ) فإنه ينطوي فيها تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد الأخوة والمساواة في الإسلام وشمولهما لكل المسلمين الأحرار منهم والأرقاء على السواء.
وقد استدللنا من جملة ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) على أن الآية قد نزلت بعد آيات سورة النور الأولى التي حددت عقوبة الزاني والزانية بمائة جلدة. وهذا يعني أن عقوبة الأمة المتزوجة خمسون جلدة. ولما كان هناك أحاديث شددت فيها عقوبة الزنا فغدت على غير المتزوجين مائة جلدة وتغريب سنة وع
﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً( ١ ) أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ( ٢ ) الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ( ٣ ) الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ( ٤ ) فَإِذَا أُحْصِنَّ( ٥ ) فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ( ٦ ) فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ( ٧ ) ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ( ٨ ) مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٥ ) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٦ ) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ( ٢٧ ) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ( ٢٨ ) ﴾. [ ٢٥-٢٨ ]
تضمنت الآية الأولى تشريعا في صدد تزوج الرجال الأحرار بالإماء المؤمنات كما تضمنت حكمة ذلك. ووجه الخطاب فيها للمؤمنين لتقرر لهم :
( ١ ) أنه ليس من بأس على الذين لا قدرة مالية لهم على التزوج بامرأة حرة مؤمنة أن يتزوجوا بإماء مؤمنات.
( ٢ ) وبأن الله أعلم بإيمانهم جميعا، وبأن بعضهم من بعض أحرارا كانوا أم أرقاء.
( ٣ ) وبأن على من أراد ذلك أن يحصل على إذن أهل الفتاة، ويؤدي لها مهرها بالحسنى وبالقدر المتعارف عليه بين الناس والأمثال.
( ٤ ) وبأن الأمة حينما تتزوج من حر تكون قد تحصنت من السفاح والتخادن ويصبح من واجبها التعفف عن ذلك، والحذر من الارتكاس فيه وغدت زوجة شرعية لزوجها فإذا اقترفت الفاحشة فيترتب عليها نصف الحد الذي يترتب على الحرة المتزوجة.
وانتهت الآية بالتنبيه على أن التشريع والإذن الرباني قد جعل لمن يخشى على نفسه العنت والأذى والإثم وعلى أن الصبر والتحمل خير وأفضل وعلى أن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم في كل حال.
أما الآيات الثلاث الأخريات فهي معقبة على محتويات الآية والآيات السابقة لها معا كما هو المتبادر من نصها وروحها. وأسلوبها ونصها رائعان قويا النفوذ. وقد وجه الخطاب فيها كذلك للمؤمنين :
( ١ ) لتنبههم على أن الله فيما شرعه لهم قد أراد لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ويهديهم إلى طريق الحق الذي بينه لمن قبلهم وهداهم إليه ويتوب عليهم فيحول بينهم وبين الإثم والطرق المعوجة المنحرفة ويخفف عنهم. فهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
( ٢ ) ولتهيب بهم إلى وجوب اتباع ما أنزله الله وعدم اتباع وساوس الذين يندفعون وراء الشهوات. فهؤلاء لا يريدون لهم إلا الانحراف عن جادة الهدى والصواب. وقد أراد الله بما أنزل التسهيل لهم والتخفيف عليهم لما يعلمه من ضعف الطبيعة الإنسانية.
وورود كلمتي ( مسافحات ومتخذات أخدان ) معا ينطوي على صورة من صور ما كان جاريا. حيث كان بعض الإماء أو النساء يتخذن المسافحة أي الزنا مع أي كان مهنة وبعضهن يتخذن الأخدان والأخلاء الحقيقيين في السر وحسب.
ولقد روى عن ابن مسعود والسدي والشعبي أنهم كانوا يؤولون جملة ( فإذا أحصن ) بمعنى ( فإذا أسلمن ) ويقولون إحصانها إسلامها. غير أن جمهور المؤولين على أنها بمعنى ( فإذا تزوجن ) حيث يصرن بذلك محصنات. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومداها.
تعليق على الآية
( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ١ الْمُؤْمِنَاتِ )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة مع سابقتها موضوعا، ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أيضا وأن تكون سياقا واحدا منذ الآية ( ٢٢ ).
وجملة ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) تدل على أنها نزلت بعد الآيات الأولى من سورة النور التي عين فيها حد الزنا. هذا في حين أن الآيات ( ١٥ ـ ١٨ ) نزلت قبل آيات سورة النور المذكورة ؛ لأنها كانت الخطوة التشريعية الأولى في عقوبة الزنا، بينما جاءت آيات النور خطوة ثانية على ما نبهنا عليه قبل. وفي هذا وذاك مثل آخر من وجود بعض فصول في السورة نزلت بعد فصول سورة أخرى متأخرة عنها في الترتيب وصورة من صور تأليف السورة معا على ما ذكرناه في مقدمة السورة.
ويلحظ أن الفقرة الأولى من الآية الأولى تضمنت تقرير كون المؤمنات من حرائر وإماء هن اللائي يصح أن يتزوج بهن المؤمنون وحسب. وقد عدل هذا القيد بآية في سورة المائدة وهي ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) ( ٥ ) حيث أحل فيها للمؤمنين المحصنات من أهل الكتاب أيضا.
ونقول استطرادا لصلته بموضوع الآيات : إن المفسرين٢ أوردوا روايات وأقوالا مختلفة معزوة إلى ابن عباس، وبعض علماء التابعين ومفسريهم في تأويل كلمة ( المحصنات ) في آية المائدة حيث قيل : إنها بمعنى ( الحرائر ) كما قيل إنها بمعنى ( العفائف ) ثم بنوا على القول الأول عدم جواز تزوج المؤمن بالأمة الكتابية، وعلى القول الثاني جواز تزوج المؤمن بالكتابيات إطلاقا، سواء أكن حرائر أم إماء إذا ما تيقن من عفافهن، والكلمة تتحمل المعنيين. غير أن الأكثر على القول الثاني. هذا مع التنبيه إلى أن هناك من يقول٣ : إن الكتابيات إنما يحللن بعد إسلامهن، وإن الوصف هو على اعتبار ما كن عليه قبل إسلامهن. غير أن الأكثر على خلاف ذلك. وظاهر الآية يؤيد هذا إذ ذكر فيها المحصنات من المؤمنات مع المحصنات من أهل الكتاب. وما نقوله هو في صدد التزوج بعقد. أما استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن فليس هناك خلاف على جوازه فيما اطلعنا عليه. وجملة ( فمن ما ملكت أيمانكم ) مطلقة تتضمن إباحة ذلك، بل إباحة استفراش غير المسلمات إطلاقا سواء أكن كتابيات أم مشركات على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وظاهر من نص الآية وروحها أن التزوج بالإماء يعني التزوج بهن بعقد، وأن الزوج هو غير مالكهن. إذ ليس على الملك قيد وشرط في استفراش ملك يمينه على ما ذكرناه قبل.
ومن المؤولين من أول جملة ( بإذن أهلهن ) بمعنى بإذن مالكيهن. ومنهم من أولها بمعنى أوليائهن من أقاربهن كالآباء والأخوة والأعمام. والجملة تتحمل المعنيين وإن كان المعنى الأول هو الأكثر ورودا ؛ لأن إذن الأولياء الأقارب لا يحسم الأمر إذا لم يأذن المالك. وقد نبه أصحاب الرأي الأول على أن ذلك متصل باستمرار ملكية المالك عليهن بعد زواجهن، وعلى أن تزوج الأمة بغير إذن مالكها باطل٤ وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر وفي رواية فنكاحه باطل ٥ وقد يكون أصحاب القول استلهموا هذا الحديث وقاسوا الأمة على العبد. وهو وجيه والله أعلم.
ومع ذلك فإن أمر الآية بإعطائهن أجورهن أي مهورهن قد يدل على أن حالة الأمة حينما تتزوج بإذن مالكها تتبدل بعض الشيء. ويكون لها الحق في أن تقبض مهرها وتتصرف فيه. وقد يكون لمالكها أن يبيعها أو يهبها لغيره، وقد تنتقل ملكيتها لورثته بعد موته. ولكن ذلك لا يغير كما هو المتبادر حالتها الجديدة. وبكلمة أخرى عن مالك الأمة المتزوجة بإذنه لا يملك أن يسترجعها من زوجها، أو أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا كما كان له ذلك قبل زواجها فضلا عن أنه يحرم عليه جماعها ؛ لأنها صارت ذات زوج محصنة. وإن هذا هو شأن مالكها الجديد إذ باعها المالك الأول أو وهبها أو أورثها بعد موته. والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر القاسمي أن مالكا استدل بجملة ( وآتوهن أجورهن ) على أنهن أحق بمهورهن، وإنه لا حق لمالكهن فيه، ثم قال : وذهب الجمهور إلى أن المهر للمالك، وإن إضافته إليهن ؛ لأن التأدية لهن هي تأدية لمالكهن لأنهن ماله. ونحن نرى رأي الإمام مالك هو الأوجه المتسق مع نص الآية وروحها. ويظل ما ذكرناه في محله إن شاء الله.
ومما قالوه : إن أولاد الإماء المتزوجات يلحقون بأمهاتهم فيكونون أرقاء ملكا لمالكي الأمهات٦ ولم نطلع على أثر نبوي أو راشدي في ذلك. ونحن نراه عجيبا ومحلا للتوقف. فالأولاد عند العرب ينسبون إلى آبائهم ويلحقون بهم. وفي جملة ( ادعوهم لأبائهم ) في آية الأحزاب ( ٥ )قرينة على ذلك فما دام الزوج حرا فأحرى أن يكون ابنه حرا. وقد يصح أن يقاس هذا على أبناء مالكي الإماء من مستفرشاتهم منهن. فالعلماء والمفسرون متفقون على أنهم أحرار، بل ويحررون أمهاتهم فلا يبقى لمالكيهم حتى بيعهن ولا هبتهن ويتحررن بالمرة عند وفاة مالكيهن ويطلق عليهن اسم خاص للتمييز، وهو ( أم ولد ) وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه ) ٧ مع التنبيه على أن حالة ولد الأمة المتزوجة بعقد ومهر أقوى من حالة الأمة المستفرشة.
ونص العبارة القرآنية ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) وروحها يلهمان أن ذلك رخصة للمؤمنين الأحرار في حال عدم استطاعتهم أن يتزوجوا من الحرائر. وفيها تقرير ضمني بعدم جواز تزوج الحر من أمة إذا كان قادرا على التزوج من حرة. وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا. وينطوي في جملة ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) حكمة الرخصة والتشريع كما هو المتبادر. ومع ذلك فإن جملة ( وأن تصبروا خير لكم ) تنطوي على الحث على عدم التسرع في التزوج بالإماء، وتحمل عنت الشهوة ما أمكن ذلك.
وما تقدم مضافا إليه ما انطوى في جملة ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) على ما شرحناه قبل وأولا، وجعل عقوبة الزنا على الأمة في الآية نصف عقوبة الحرة ثانيا، وتعبير ( بعضكم من بعض ) الذي قد يلهم أنه أريد به التخفيف عن النفس ثالثا، يلهم أن الإماء كن عرضة للتورط والارتكاس في الفاحشة، ومظنة لها أكثر من الحرائر. وأن العرب كانوا يأنفون التزوج بهن بسبب ذلك أولا، وبسبب عدم التكافؤ ثانيا. ثم بسبب ما كان جاريا على ما يستفاد من روايات المفسرين من استمرار ملكية مالكي الإماء لهن بعد زواجهن وإلحاق أولادهن بحالتهن وغدوهم مملوكين لمالكيهن دون آبائهم ثالثا. وفي هذا ما فيه من الثقل والغضاضة والمتاعب.
ومع ما قلناه فيما تلهمه جملة ( بعضكم من بعض ) فإنه ينطوي فيها تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد الأخوة والمساواة في الإسلام وشمولهما لكل المسلمين الأحرار منهم والأرقاء على السواء.
وقد استدللنا من جملة ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) على أن الآية قد نزلت بعد آيات سورة النور الأولى التي حددت عقوبة الزاني والزانية بمائة جلدة. وهذا يعني أن عقوبة الأمة المتزوجة خمسون جلدة. ولما كان هناك أحاديث شددت فيها عقوبة الزنا فغدت على غير المتزوجين مائة جلدة وتغريب سنة وع
﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً( ١ ) أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ( ٢ ) الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ( ٣ ) الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ( ٤ ) فَإِذَا أُحْصِنَّ( ٥ ) فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ( ٦ ) فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ( ٧ ) ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ( ٨ ) مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٥ ) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٦ ) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ( ٢٧ ) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ( ٢٨ ) ﴾. [ ٢٥-٢٨ ]
تضمنت الآية الأولى تشريعا في صدد تزوج الرجال الأحرار بالإماء المؤمنات كما تضمنت حكمة ذلك. ووجه الخطاب فيها للمؤمنين لتقرر لهم :
( ١ ) أنه ليس من بأس على الذين لا قدرة مالية لهم على التزوج بامرأة حرة مؤمنة أن يتزوجوا بإماء مؤمنات.
( ٢ ) وبأن الله أعلم بإيمانهم جميعا، وبأن بعضهم من بعض أحرارا كانوا أم أرقاء.
( ٣ ) وبأن على من أراد ذلك أن يحصل على إذن أهل الفتاة، ويؤدي لها مهرها بالحسنى وبالقدر المتعارف عليه بين الناس والأمثال.
( ٤ ) وبأن الأمة حينما تتزوج من حر تكون قد تحصنت من السفاح والتخادن ويصبح من واجبها التعفف عن ذلك، والحذر من الارتكاس فيه وغدت زوجة شرعية لزوجها فإذا اقترفت الفاحشة فيترتب عليها نصف الحد الذي يترتب على الحرة المتزوجة.
وانتهت الآية بالتنبيه على أن التشريع والإذن الرباني قد جعل لمن يخشى على نفسه العنت والأذى والإثم وعلى أن الصبر والتحمل خير وأفضل وعلى أن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم في كل حال.
أما الآيات الثلاث الأخريات فهي معقبة على محتويات الآية والآيات السابقة لها معا كما هو المتبادر من نصها وروحها. وأسلوبها ونصها رائعان قويا النفوذ. وقد وجه الخطاب فيها كذلك للمؤمنين :
( ١ ) لتنبههم على أن الله فيما شرعه لهم قد أراد لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ويهديهم إلى طريق الحق الذي بينه لمن قبلهم وهداهم إليه ويتوب عليهم فيحول بينهم وبين الإثم والطرق المعوجة المنحرفة ويخفف عنهم. فهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
( ٢ ) ولتهيب بهم إلى وجوب اتباع ما أنزله الله وعدم اتباع وساوس الذين يندفعون وراء الشهوات. فهؤلاء لا يريدون لهم إلا الانحراف عن جادة الهدى والصواب. وقد أراد الله بما أنزل التسهيل لهم والتخفيف عليهم لما يعلمه من ضعف الطبيعة الإنسانية.
وورود كلمتي ( مسافحات ومتخذات أخدان ) معا ينطوي على صورة من صور ما كان جاريا. حيث كان بعض الإماء أو النساء يتخذن المسافحة أي الزنا مع أي كان مهنة وبعضهن يتخذن الأخدان والأخلاء الحقيقيين في السر وحسب.
ولقد روى عن ابن مسعود والسدي والشعبي أنهم كانوا يؤولون جملة ( فإذا أحصن ) بمعنى ( فإذا أسلمن ) ويقولون إحصانها إسلامها. غير أن جمهور المؤولين على أنها بمعنى ( فإذا تزوجن ) حيث يصرن بذلك محصنات. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومداها.
تعليق على الآية
( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ١ الْمُؤْمِنَاتِ )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة مع سابقتها موضوعا، ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أيضا وأن تكون سياقا واحدا منذ الآية ( ٢٢ ).
وجملة ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) تدل على أنها نزلت بعد الآيات الأولى من سورة النور التي عين فيها حد الزنا. هذا في حين أن الآيات ( ١٥ ـ ١٨ ) نزلت قبل آيات سورة النور المذكورة ؛ لأنها كانت الخطوة التشريعية الأولى في عقوبة الزنا، بينما جاءت آيات النور خطوة ثانية على ما نبهنا عليه قبل. وفي هذا وذاك مثل آخر من وجود بعض فصول في السورة نزلت بعد فصول سورة أخرى متأخرة عنها في الترتيب وصورة من صور تأليف السورة معا على ما ذكرناه في مقدمة السورة.
ويلحظ أن الفقرة الأولى من الآية الأولى تضمنت تقرير كون المؤمنات من حرائر وإماء هن اللائي يصح أن يتزوج بهن المؤمنون وحسب. وقد عدل هذا القيد بآية في سورة المائدة وهي ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) ( ٥ ) حيث أحل فيها للمؤمنين المحصنات من أهل الكتاب أيضا.
ونقول استطرادا لصلته بموضوع الآيات : إن المفسرين٢ أوردوا روايات وأقوالا مختلفة معزوة إلى ابن عباس، وبعض علماء التابعين ومفسريهم في تأويل كلمة ( المحصنات ) في آية المائدة حيث قيل : إنها بمعنى ( الحرائر ) كما قيل إنها بمعنى ( العفائف ) ثم بنوا على القول الأول عدم جواز تزوج المؤمن بالأمة الكتابية، وعلى القول الثاني جواز تزوج المؤمن بالكتابيات إطلاقا، سواء أكن حرائر أم إماء إذا ما تيقن من عفافهن، والكلمة تتحمل المعنيين. غير أن الأكثر على القول الثاني. هذا مع التنبيه إلى أن هناك من يقول٣ : إن الكتابيات إنما يحللن بعد إسلامهن، وإن الوصف هو على اعتبار ما كن عليه قبل إسلامهن. غير أن الأكثر على خلاف ذلك. وظاهر الآية يؤيد هذا إذ ذكر فيها المحصنات من المؤمنات مع المحصنات من أهل الكتاب. وما نقوله هو في صدد التزوج بعقد. أما استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن فليس هناك خلاف على جوازه فيما اطلعنا عليه. وجملة ( فمن ما ملكت أيمانكم ) مطلقة تتضمن إباحة ذلك، بل إباحة استفراش غير المسلمات إطلاقا سواء أكن كتابيات أم مشركات على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وظاهر من نص الآية وروحها أن التزوج بالإماء يعني التزوج بهن بعقد، وأن الزوج هو غير مالكهن. إذ ليس على الملك قيد وشرط في استفراش ملك يمينه على ما ذكرناه قبل.
ومن المؤولين من أول جملة ( بإذن أهلهن ) بمعنى بإذن مالكيهن. ومنهم من أولها بمعنى أوليائهن من أقاربهن كالآباء والأخوة والأعمام. والجملة تتحمل المعنيين وإن كان المعنى الأول هو الأكثر ورودا ؛ لأن إذن الأولياء الأقارب لا يحسم الأمر إذا لم يأذن المالك. وقد نبه أصحاب الرأي الأول على أن ذلك متصل باستمرار ملكية المالك عليهن بعد زواجهن، وعلى أن تزوج الأمة بغير إذن مالكها باطل٤ وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر وفي رواية فنكاحه باطل ٥ وقد يكون أصحاب القول استلهموا هذا الحديث وقاسوا الأمة على العبد. وهو وجيه والله أعلم.
ومع ذلك فإن أمر الآية بإعطائهن أجورهن أي مهورهن قد يدل على أن حالة الأمة حينما تتزوج بإذن مالكها تتبدل بعض الشيء. ويكون لها الحق في أن تقبض مهرها وتتصرف فيه. وقد يكون لمالكها أن يبيعها أو يهبها لغيره، وقد تنتقل ملكيتها لورثته بعد موته. ولكن ذلك لا يغير كما هو المتبادر حالتها الجديدة. وبكلمة أخرى عن مالك الأمة المتزوجة بإذنه لا يملك أن يسترجعها من زوجها، أو أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا كما كان له ذلك قبل زواجها فضلا عن أنه يحرم عليه جماعها ؛ لأنها صارت ذات زوج محصنة. وإن هذا هو شأن مالكها الجديد إذ باعها المالك الأول أو وهبها أو أورثها بعد موته. والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر القاسمي أن مالكا استدل بجملة ( وآتوهن أجورهن ) على أنهن أحق بمهورهن، وإنه لا حق لمالكهن فيه، ثم قال : وذهب الجمهور إلى أن المهر للمالك، وإن إضافته إليهن ؛ لأن التأدية لهن هي تأدية لمالكهن لأنهن ماله. ونحن نرى رأي الإمام مالك هو الأوجه المتسق مع نص الآية وروحها. ويظل ما ذكرناه في محله إن شاء الله.
ومما قالوه : إن أولاد الإماء المتزوجات يلحقون بأمهاتهم فيكونون أرقاء ملكا لمالكي الأمهات٦ ولم نطلع على أثر نبوي أو راشدي في ذلك. ونحن نراه عجيبا ومحلا للتوقف. فالأولاد عند العرب ينسبون إلى آبائهم ويلحقون بهم. وفي جملة ( ادعوهم لأبائهم ) في آية الأحزاب ( ٥ )قرينة على ذلك فما دام الزوج حرا فأحرى أن يكون ابنه حرا. وقد يصح أن يقاس هذا على أبناء مالكي الإماء من مستفرشاتهم منهن. فالعلماء والمفسرون متفقون على أنهم أحرار، بل ويحررون أمهاتهم فلا يبقى لمالكيهم حتى بيعهن ولا هبتهن ويتحررن بالمرة عند وفاة مالكيهن ويطلق عليهن اسم خاص للتمييز، وهو ( أم ولد ) وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه ) ٧ مع التنبيه على أن حالة ولد الأمة المتزوجة بعقد ومهر أقوى من حالة الأمة المستفرشة.
ونص العبارة القرآنية ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) وروحها يلهمان أن ذلك رخصة للمؤمنين الأحرار في حال عدم استطاعتهم أن يتزوجوا من الحرائر. وفيها تقرير ضمني بعدم جواز تزوج الحر من أمة إذا كان قادرا على التزوج من حرة. وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا. وينطوي في جملة ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) حكمة الرخصة والتشريع كما هو المتبادر. ومع ذلك فإن جملة ( وأن تصبروا خير لكم ) تنطوي على الحث على عدم التسرع في التزوج بالإماء، وتحمل عنت الشهوة ما أمكن ذلك.
وما تقدم مضافا إليه ما انطوى في جملة ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) على ما شرحناه قبل وأولا، وجعل عقوبة الزنا على الأمة في الآية نصف عقوبة الحرة ثانيا، وتعبير ( بعضكم من بعض ) الذي قد يلهم أنه أريد به التخفيف عن النفس ثالثا، يلهم أن الإماء كن عرضة للتورط والارتكاس في الفاحشة، ومظنة لها أكثر من الحرائر. وأن العرب كانوا يأنفون التزوج بهن بسبب ذلك أولا، وبسبب عدم التكافؤ ثانيا. ثم بسبب ما كان جاريا على ما يستفاد من روايات المفسرين من استمرار ملكية مالكي الإماء لهن بعد زواجهن وإلحاق أولادهن بحالتهن وغدوهم مملوكين لمالكيهن دون آبائهم ثالثا. وفي هذا ما فيه من الثقل والغضاضة والمتاعب.
ومع ما قلناه فيما تلهمه جملة ( بعضكم من بعض ) فإنه ينطوي فيها تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد الأخوة والمساواة في الإسلام وشمولهما لكل المسلمين الأحرار منهم والأرقاء على السواء.
وقد استدللنا من جملة ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) على أن الآية قد نزلت بعد آيات سورة النور الأولى التي حددت عقوبة الزاني والزانية بمائة جلدة. وهذا يعني أن عقوبة الأمة المتزوجة خمسون جلدة. ولما كان هناك أحاديث شددت فيها عقوبة الزنا فغدت على غير المتزوجين مائة جلدة وتغريب سنة وع
﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً( ١ ) أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ( ٢ ) الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ( ٣ ) الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ( ٤ ) فَإِذَا أُحْصِنَّ( ٥ ) فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ( ٦ ) فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ( ٧ ) ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ( ٨ ) مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٥ ) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٦ ) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ( ٢٧ ) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ( ٢٨ ) ﴾. [ ٢٥-٢٨ ]
تضمنت الآية الأولى تشريعا في صدد تزوج الرجال الأحرار بالإماء المؤمنات كما تضمنت حكمة ذلك. ووجه الخطاب فيها للمؤمنين لتقرر لهم :
( ١ ) أنه ليس من بأس على الذين لا قدرة مالية لهم على التزوج بامرأة حرة مؤمنة أن يتزوجوا بإماء مؤمنات.
( ٢ ) وبأن الله أعلم بإيمانهم جميعا، وبأن بعضهم من بعض أحرارا كانوا أم أرقاء.
( ٣ ) وبأن على من أراد ذلك أن يحصل على إذن أهل الفتاة، ويؤدي لها مهرها بالحسنى وبالقدر المتعارف عليه بين الناس والأمثال.
( ٤ ) وبأن الأمة حينما تتزوج من حر تكون قد تحصنت من السفاح والتخادن ويصبح من واجبها التعفف عن ذلك، والحذر من الارتكاس فيه وغدت زوجة شرعية لزوجها فإذا اقترفت الفاحشة فيترتب عليها نصف الحد الذي يترتب على الحرة المتزوجة.
وانتهت الآية بالتنبيه على أن التشريع والإذن الرباني قد جعل لمن يخشى على نفسه العنت والأذى والإثم وعلى أن الصبر والتحمل خير وأفضل وعلى أن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم في كل حال.
أما الآيات الثلاث الأخريات فهي معقبة على محتويات الآية والآيات السابقة لها معا كما هو المتبادر من نصها وروحها. وأسلوبها ونصها رائعان قويا النفوذ. وقد وجه الخطاب فيها كذلك للمؤمنين :
( ١ ) لتنبههم على أن الله فيما شرعه لهم قد أراد لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ويهديهم إلى طريق الحق الذي بينه لمن قبلهم وهداهم إليه ويتوب عليهم فيحول بينهم وبين الإثم والطرق المعوجة المنحرفة ويخفف عنهم. فهو العليم بمقتضيات الأمور الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
( ٢ ) ولتهيب بهم إلى وجوب اتباع ما أنزله الله وعدم اتباع وساوس الذين يندفعون وراء الشهوات. فهؤلاء لا يريدون لهم إلا الانحراف عن جادة الهدى والصواب. وقد أراد الله بما أنزل التسهيل لهم والتخفيف عليهم لما يعلمه من ضعف الطبيعة الإنسانية.
وورود كلمتي ( مسافحات ومتخذات أخدان ) معا ينطوي على صورة من صور ما كان جاريا. حيث كان بعض الإماء أو النساء يتخذن المسافحة أي الزنا مع أي كان مهنة وبعضهن يتخذن الأخدان والأخلاء الحقيقيين في السر وحسب.
ولقد روى عن ابن مسعود والسدي والشعبي أنهم كانوا يؤولون جملة ( فإذا أحصن ) بمعنى ( فإذا أسلمن ) ويقولون إحصانها إسلامها. غير أن جمهور المؤولين على أنها بمعنى ( فإذا تزوجن ) حيث يصرن بذلك محصنات. وهذا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومداها.
تعليق على الآية
( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ١ الْمُؤْمِنَاتِ )
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة مع سابقتها موضوعا، ومن المحتمل أن تكون نزلت معها أيضا وأن تكون سياقا واحدا منذ الآية ( ٢٢ ).
وجملة ( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) تدل على أنها نزلت بعد الآيات الأولى من سورة النور التي عين فيها حد الزنا. هذا في حين أن الآيات ( ١٥ ـ ١٨ ) نزلت قبل آيات سورة النور المذكورة ؛ لأنها كانت الخطوة التشريعية الأولى في عقوبة الزنا، بينما جاءت آيات النور خطوة ثانية على ما نبهنا عليه قبل. وفي هذا وذاك مثل آخر من وجود بعض فصول في السورة نزلت بعد فصول سورة أخرى متأخرة عنها في الترتيب وصورة من صور تأليف السورة معا على ما ذكرناه في مقدمة السورة.
ويلحظ أن الفقرة الأولى من الآية الأولى تضمنت تقرير كون المؤمنات من حرائر وإماء هن اللائي يصح أن يتزوج بهن المؤمنون وحسب. وقد عدل هذا القيد بآية في سورة المائدة وهي ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) ( ٥ ) حيث أحل فيها للمؤمنين المحصنات من أهل الكتاب أيضا.
ونقول استطرادا لصلته بموضوع الآيات : إن المفسرين٢ أوردوا روايات وأقوالا مختلفة معزوة إلى ابن عباس، وبعض علماء التابعين ومفسريهم في تأويل كلمة ( المحصنات ) في آية المائدة حيث قيل : إنها بمعنى ( الحرائر ) كما قيل إنها بمعنى ( العفائف ) ثم بنوا على القول الأول عدم جواز تزوج المؤمن بالأمة الكتابية، وعلى القول الثاني جواز تزوج المؤمن بالكتابيات إطلاقا، سواء أكن حرائر أم إماء إذا ما تيقن من عفافهن، والكلمة تتحمل المعنيين. غير أن الأكثر على القول الثاني. هذا مع التنبيه إلى أن هناك من يقول٣ : إن الكتابيات إنما يحللن بعد إسلامهن، وإن الوصف هو على اعتبار ما كن عليه قبل إسلامهن. غير أن الأكثر على خلاف ذلك. وظاهر الآية يؤيد هذا إذ ذكر فيها المحصنات من المؤمنات مع المحصنات من أهل الكتاب. وما نقوله هو في صدد التزوج بعقد. أما استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن فليس هناك خلاف على جوازه فيما اطلعنا عليه. وجملة ( فمن ما ملكت أيمانكم ) مطلقة تتضمن إباحة ذلك، بل إباحة استفراش غير المسلمات إطلاقا سواء أكن كتابيات أم مشركات على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وظاهر من نص الآية وروحها أن التزوج بالإماء يعني التزوج بهن بعقد، وأن الزوج هو غير مالكهن. إذ ليس على الملك قيد وشرط في استفراش ملك يمينه على ما ذكرناه قبل.
ومن المؤولين من أول جملة ( بإذن أهلهن ) بمعنى بإذن مالكيهن. ومنهم من أولها بمعنى أوليائهن من أقاربهن كالآباء والأخوة والأعمام. والجملة تتحمل المعنيين وإن كان المعنى الأول هو الأكثر ورودا ؛ لأن إذن الأولياء الأقارب لا يحسم الأمر إذا لم يأذن المالك. وقد نبه أصحاب الرأي الأول على أن ذلك متصل باستمرار ملكية المالك عليهن بعد زواجهن، وعلى أن تزوج الأمة بغير إذن مالكها باطل٤ وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر وفي رواية فنكاحه باطل ٥ وقد يكون أصحاب القول استلهموا هذا الحديث وقاسوا الأمة على العبد. وهو وجيه والله أعلم.
ومع ذلك فإن أمر الآية بإعطائهن أجورهن أي مهورهن قد يدل على أن حالة الأمة حينما تتزوج بإذن مالكها تتبدل بعض الشيء. ويكون لها الحق في أن تقبض مهرها وتتصرف فيه. وقد يكون لمالكها أن يبيعها أو يهبها لغيره، وقد تنتقل ملكيتها لورثته بعد موته. ولكن ذلك لا يغير كما هو المتبادر حالتها الجديدة. وبكلمة أخرى عن مالك الأمة المتزوجة بإذنه لا يملك أن يسترجعها من زوجها، أو أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا كما كان له ذلك قبل زواجها فضلا عن أنه يحرم عليه جماعها ؛ لأنها صارت ذات زوج محصنة. وإن هذا هو شأن مالكها الجديد إذ باعها المالك الأول أو وهبها أو أورثها بعد موته. والله تعالى أعلم.
ولقد ذكر القاسمي أن مالكا استدل بجملة ( وآتوهن أجورهن ) على أنهن أحق بمهورهن، وإنه لا حق لمالكهن فيه، ثم قال : وذهب الجمهور إلى أن المهر للمالك، وإن إضافته إليهن ؛ لأن التأدية لهن هي تأدية لمالكهن لأنهن ماله. ونحن نرى رأي الإمام مالك هو الأوجه المتسق مع نص الآية وروحها. ويظل ما ذكرناه في محله إن شاء الله.
ومما قالوه : إن أولاد الإماء المتزوجات يلحقون بأمهاتهم فيكونون أرقاء ملكا لمالكي الأمهات٦ ولم نطلع على أثر نبوي أو راشدي في ذلك. ونحن نراه عجيبا ومحلا للتوقف. فالأولاد عند العرب ينسبون إلى آبائهم ويلحقون بهم. وفي جملة ( ادعوهم لأبائهم ) في آية الأحزاب ( ٥ )قرينة على ذلك فما دام الزوج حرا فأحرى أن يكون ابنه حرا. وقد يصح أن يقاس هذا على أبناء مالكي الإماء من مستفرشاتهم منهن. فالعلماء والمفسرون متفقون على أنهم أحرار، بل ويحررون أمهاتهم فلا يبقى لمالكيهم حتى بيعهن ولا هبتهن ويتحررن بالمرة عند وفاة مالكيهن ويطلق عليهن اسم خاص للتمييز، وهو ( أم ولد ) وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه ) ٧ مع التنبيه على أن حالة ولد الأمة المتزوجة بعقد ومهر أقوى من حالة الأمة المستفرشة.
ونص العبارة القرآنية ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ) وروحها يلهمان أن ذلك رخصة للمؤمنين الأحرار في حال عدم استطاعتهم أن يتزوجوا من الحرائر. وفيها تقرير ضمني بعدم جواز تزوج الحر من أمة إذا كان قادرا على التزوج من حرة. وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا. وينطوي في جملة ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) حكمة الرخصة والتشريع كما هو المتبادر. ومع ذلك فإن جملة ( وأن تصبروا خير لكم ) تنطوي على الحث على عدم التسرع في التزوج بالإماء، وتحمل عنت الشهوة ما أمكن ذلك.
وما تقدم مضافا إليه ما انطوى في جملة ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) على ما شرحناه قبل وأولا، وجعل عقوبة الزنا على الأمة في الآية نصف عقوبة الحرة ثانيا، وتعبير ( بعضكم من بعض ) الذي قد يلهم أنه أريد به التخفيف عن النفس ثالثا، يلهم أن الإماء كن عرضة للتورط والارتكاس في الفاحشة، ومظنة لها أكثر من الحرائر. وأن العرب كانوا يأنفون التزوج بهن بسبب ذلك أولا، وبسبب عدم التكافؤ ثانيا. ثم بسبب ما كان جاريا على ما يستفاد من روايات المفسرين من استمرار ملكية مالكي الإماء لهن بعد زواجهن وإلحاق أولادهن بحالتهن وغدوهم مملوكين لمالكيهن دون آبائهم ثالثا. وفي هذا ما فيه من الثقل والغضاضة والمتاعب.
ومع ما قلناه فيما تلهمه جملة ( بعضكم من بعض ) فإنه ينطوي فيها تلقين قرآني جليل مستمر المدى في صدد الأخوة والمساواة في الإسلام وشمولهما لكل المسلمين الأحرار منهم والأرقاء على السواء.
وقد استدللنا من جملة ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) على أن الآية قد نزلت بعد آيات سورة النور الأولى التي حددت عقوبة الزاني والزانية بمائة جلدة. وهذا يعني أن عقوبة الأمة المتزوجة خمسون جلدة. ولما كان هناك أحاديث شددت فيها عقوبة الزنا فغدت على غير المتزوجين مائة جلدة وتغريب سنة وع
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( ٢٩ ) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ( ٣١ ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ به بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٣٢ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة : والخطاب فيها موجه للمسلمين وقد تضمن :
( ١ ) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي.
( ٢ ) ونهيا عن قتل أنفسهم
( ٣ ) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية، فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض.
( ٤ ) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عز وجل.
( ٥ ) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها. ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية ؛ حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم.
( ٦ ) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق. مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن، وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا، وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء.
تعليق على الآية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.. )الخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون١
أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال. وقد روى هذا الترمذي أيضا، وهذا لفظه عن أم سلمة قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية. وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران ( ١٩٥ ) وسورة الأحزاب ( ٣٥ ) على ما ذكرناه سابقا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث، وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل، وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا. ويجعلنا نميل إلى القول : إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا. بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء، من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق، فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر.
وإذا صح هذا التوجيه كما نرجو، فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما. بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار.
والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة. وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار. وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا ؛ لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه.
ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة، وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء، فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به. وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي. مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة، بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك.
وجملة ( ألا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية. وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة ( ١٨٨ ) وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار، إلا أن نقول : إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين، وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد وقف المفسرون٢ عند جملة ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذا لم يرد في آية سورة البقرة. وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة، حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء. وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران ابن ميمون جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما ) وحديثا آخر عن أبي قلابة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترق بيعان إلا عن رضا ) وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع، ثم قال له : اختر. فقال : اخترت. فقال : هكذا البيع ).
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها، وإن لم تكن نصا فروحا وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها. منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه ( إن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال : إذا بايعت فقل لا خلابة، وفي رواية : لا خيابة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يفترق اثنان إلا عن تراض ) ٤. وحديث رواه الخمسة عن حكيم ابن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما ) ٥ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم٦ وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما.
وهناك من قال : إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع، وهناك من لم ير ذلك ضروريا. وأصحاب هذا المذهب أولوا جملة ( ما لم يتفرقا ) في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول٧ وقد صوب الطبري القول الأول، إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق. ولعل هذا هو الأسد الأوجه.
ولقد حمل بعض المفسرين جملة ( ولا تقتلوا أنفسكم ) على ظاهرها. ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو الهلاك بالموبقات٨ ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل.
فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي، وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها بعقوبة الله. وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله، ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعت على البغي والجريمة. ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان. ولعل الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله.
وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها، من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلم بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة ( إن الله كان بكم رحيما ) التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين : إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا ) ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ) ٩ وحديث رواه البخاري عن جندب ابن عبد الله البجلي قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة ) ١٠ ؛ حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا له الحرية فيه، وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر ابن سمرة قال ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) ١١
ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم.
وبعض المفسرين أولوا المدخل الكريم بالجنة. ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا. ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين٣٠ ) ١٢.
ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة.
ومع أن المتبادر أن جملة ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات ؛ لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله ابن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة. ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحث على اجتناب ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر.
وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها.
ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية ( ٣١ ) من سورة النجم فنكتفي بهذ
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
٣ التاج ج ٢ص ١٧٩ والراجح أن في الحديث تعليما بأنه إذا كان في البيع خلابة أو خيابة أي غش وتغرير فهو غير ملزم.
٤ المصدر نفسه ص ١٨٥.
٥ المصدر نفسه ١٨٥.
٦ المصدر نفسه ١٧٩ـ ١٨٥.
٧ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وفيها بيان مذاهب أئمة الفقه في هذه المسائل.
٨ المصدر نفسه.
٩ التاج ج ٣ ص ٤.
١٠ التاج ج ٥ ص ٢٢.
١١ التاج ج ١ ص ٣٢٨ والمشقص: نصل أو حديدة عريضة.
١٢ هناك آيات أخرى من هذا الباب مثل آيتي النحل (٤١ و ٩٧) والنور (٥٤) مثلا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( ٢٩ ) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ( ٣١ ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ به بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٣٢ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة : والخطاب فيها موجه للمسلمين وقد تضمن :
( ١ ) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي.
( ٢ ) ونهيا عن قتل أنفسهم
( ٣ ) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية، فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض.
( ٤ ) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عز وجل.
( ٥ ) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها. ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية ؛ حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم.
( ٦ ) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق. مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن، وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا، وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء.
تعليق على الآية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.. )الخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون١
أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال. وقد روى هذا الترمذي أيضا، وهذا لفظه عن أم سلمة قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية. وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران ( ١٩٥ ) وسورة الأحزاب ( ٣٥ ) على ما ذكرناه سابقا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث، وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل، وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا. ويجعلنا نميل إلى القول : إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا. بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء، من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق، فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر.
وإذا صح هذا التوجيه كما نرجو، فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما. بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار.
والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة. وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار. وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا ؛ لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه.
ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة، وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء، فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به. وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي. مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة، بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك.
وجملة ( ألا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية. وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة ( ١٨٨ ) وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار، إلا أن نقول : إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين، وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد وقف المفسرون٢ عند جملة ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذا لم يرد في آية سورة البقرة. وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة، حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء. وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران ابن ميمون جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما ) وحديثا آخر عن أبي قلابة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترق بيعان إلا عن رضا ) وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع، ثم قال له : اختر. فقال : اخترت. فقال : هكذا البيع ).
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها، وإن لم تكن نصا فروحا وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها. منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه ( إن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال : إذا بايعت فقل لا خلابة، وفي رواية : لا خيابة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يفترق اثنان إلا عن تراض ) ٤. وحديث رواه الخمسة عن حكيم ابن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما ) ٥ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم٦ وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما.
وهناك من قال : إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع، وهناك من لم ير ذلك ضروريا. وأصحاب هذا المذهب أولوا جملة ( ما لم يتفرقا ) في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول٧ وقد صوب الطبري القول الأول، إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق. ولعل هذا هو الأسد الأوجه.
ولقد حمل بعض المفسرين جملة ( ولا تقتلوا أنفسكم ) على ظاهرها. ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو الهلاك بالموبقات٨ ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل.
فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي، وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها بعقوبة الله. وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله، ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعت على البغي والجريمة. ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان. ولعل الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله.
وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها، من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلم بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة ( إن الله كان بكم رحيما ) التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين : إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا ) ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ) ٩ وحديث رواه البخاري عن جندب ابن عبد الله البجلي قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة ) ١٠ ؛ حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا له الحرية فيه، وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر ابن سمرة قال ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) ١١
ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم.
وبعض المفسرين أولوا المدخل الكريم بالجنة. ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا. ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين٣٠ ) ١٢.
ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة.
ومع أن المتبادر أن جملة ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات ؛ لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله ابن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة. ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحث على اجتناب ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر.
وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها.
ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية ( ٣١ ) من سورة النجم فنكتفي بهذ
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
٣ التاج ج ٢ص ١٧٩ والراجح أن في الحديث تعليما بأنه إذا كان في البيع خلابة أو خيابة أي غش وتغرير فهو غير ملزم.
٤ المصدر نفسه ص ١٨٥.
٥ المصدر نفسه ١٨٥.
٦ المصدر نفسه ١٧٩ـ ١٨٥.
٧ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وفيها بيان مذاهب أئمة الفقه في هذه المسائل.
٨ المصدر نفسه.
٩ التاج ج ٣ ص ٤.
١٠ التاج ج ٥ ص ٢٢.
١١ التاج ج ١ ص ٣٢٨ والمشقص: نصل أو حديدة عريضة.
١٢ هناك آيات أخرى من هذا الباب مثل آيتي النحل (٤١ و ٩٧) والنور (٥٤) مثلا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( ٢٩ ) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ( ٣١ ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ به بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٣٢ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة : والخطاب فيها موجه للمسلمين وقد تضمن :
( ١ ) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي.
( ٢ ) ونهيا عن قتل أنفسهم
( ٣ ) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية، فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض.
( ٤ ) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عز وجل.
( ٥ ) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها. ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية ؛ حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم.
( ٦ ) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق. مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن، وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا، وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء.
تعليق على الآية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.. )الخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون١
أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال. وقد روى هذا الترمذي أيضا، وهذا لفظه عن أم سلمة قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية. وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران ( ١٩٥ ) وسورة الأحزاب ( ٣٥ ) على ما ذكرناه سابقا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث، وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل، وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا. ويجعلنا نميل إلى القول : إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا. بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء، من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق، فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر.
وإذا صح هذا التوجيه كما نرجو، فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما. بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار.
والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة. وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار. وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا ؛ لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه.
ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة، وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء، فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به. وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي. مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة، بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك.
وجملة ( ألا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية. وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة ( ١٨٨ ) وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار، إلا أن نقول : إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين، وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد وقف المفسرون٢ عند جملة ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذا لم يرد في آية سورة البقرة. وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة، حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء. وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران ابن ميمون جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما ) وحديثا آخر عن أبي قلابة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترق بيعان إلا عن رضا ) وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع، ثم قال له : اختر. فقال : اخترت. فقال : هكذا البيع ).
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها، وإن لم تكن نصا فروحا وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها. منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه ( إن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال : إذا بايعت فقل لا خلابة، وفي رواية : لا خيابة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يفترق اثنان إلا عن تراض ) ٤. وحديث رواه الخمسة عن حكيم ابن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما ) ٥ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم٦ وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما.
وهناك من قال : إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع، وهناك من لم ير ذلك ضروريا. وأصحاب هذا المذهب أولوا جملة ( ما لم يتفرقا ) في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول٧ وقد صوب الطبري القول الأول، إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق. ولعل هذا هو الأسد الأوجه.
ولقد حمل بعض المفسرين جملة ( ولا تقتلوا أنفسكم ) على ظاهرها. ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو الهلاك بالموبقات٨ ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل.
فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي، وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها بعقوبة الله. وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله، ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعت على البغي والجريمة. ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان. ولعل الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله.
وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها، من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلم بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة ( إن الله كان بكم رحيما ) التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين : إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا ) ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ) ٩ وحديث رواه البخاري عن جندب ابن عبد الله البجلي قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة ) ١٠ ؛ حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا له الحرية فيه، وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر ابن سمرة قال ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) ١١
ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم.
وبعض المفسرين أولوا المدخل الكريم بالجنة. ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا. ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين٣٠ ) ١٢.
ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة.
ومع أن المتبادر أن جملة ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات ؛ لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله ابن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة. ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحث على اجتناب ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر.
وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها.
ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية ( ٣١ ) من سورة النجم فنكتفي بهذ
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
٣ التاج ج ٢ص ١٧٩ والراجح أن في الحديث تعليما بأنه إذا كان في البيع خلابة أو خيابة أي غش وتغرير فهو غير ملزم.
٤ المصدر نفسه ص ١٨٥.
٥ المصدر نفسه ١٨٥.
٦ المصدر نفسه ١٧٩ـ ١٨٥.
٧ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وفيها بيان مذاهب أئمة الفقه في هذه المسائل.
٨ المصدر نفسه.
٩ التاج ج ٣ ص ٤.
١٠ التاج ج ٥ ص ٢٢.
١١ التاج ج ١ ص ٣٢٨ والمشقص: نصل أو حديدة عريضة.
١٢ هناك آيات أخرى من هذا الباب مثل آيتي النحل (٤١ و ٩٧) والنور (٥٤) مثلا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( ٢٩ ) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ( ٣١ ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ به بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٣٢ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة : والخطاب فيها موجه للمسلمين وقد تضمن :
( ١ ) نهيا عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل مستثنيا ما يدخل على بعضهم من بعض من الربح عن طريق التجارة والتراضي.
( ٢ ) ونهيا عن قتل أنفسهم
( ٣ ) وتعقيبا على ما نهوا عنه يتضمن تقرير كون الله بهم رحيما ييسر لهم الرزق الحلال ويشملهم بالرحمة والعناية، فلا يجوز أن يتحايل بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا ويعتدي بعضهم على بعض.
( ٤ ) وإنذارا لمن يفعل ذلك منهم بالنار مما هو يسير على الله عز وجل.
( ٥ ) وتنبيها على وجوب اجتناب الكبائر التي ينهاهم الله عنها. ووعدا بتسامح الله مع من يجتنبها فيما يمكن أن يصدر منه من هفوات ثانوية ؛ حيث يغفرها له وييسر له الدخول في المدخل الكريم.
( ٦ ) ونهيا عن التنافس والتحاسد وتشهي ما فضل الله به بعضهم على بعض في القسمة والأنصبة والربح والرزق. مع تقرير حق الرجال فيما أحرزوا وكسبوا وحق النساء فيما أحرزن وكسبن، وتقرير كون الله عز وجل هو المتفضل عليهم جميعا، وأن عليهم أن يسألوه من فضله فهو العليم بمقتضيات كل شيء.
تعليق على الآية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.. )الخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على مناسبة خاصة في نزول الآيات الثلاث الأولى. وقد روى المفسرون١
أن الآية الرابعة نزلت في مناسبة قول أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وجعل نصيب النساء نصف نصيب الرجال. وقد روى هذا الترمذي أيضا، وهذا لفظه عن أم سلمة قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت الآية. وشيء من هذا روي عن أم سلمة في سياق آيات سورة آل عمران ( ١٩٥ ) وسورة الأحزاب ( ٣٥ ) على ما ذكرناه سابقا. والذي يتبادر لنا أن هذه الآية غير منفصلة عن الآيات الثلاث، وأن النهي فيها متصل بالنهي عن أكل بعض الناس أموال بعضهم بالباطل، وهذا ما جعلنا نعرض الآيات الأربع معا. ويجعلنا نميل إلى القول : إن في رواية نزولها في مناسبة ما قالته أم سلمة التباسا. بل ويتبادر لنا من روحها وانسجامها مع الآيات الثلاث أن فيها نهيا عن أكل أموال النساء، من حيث كون الرجال اعتادوا أن يتحايلوا على أموال النساء بشتى الطرق، فاحتوت الآية بمناسبة النهي الوارد في الآية الأولى تثبيتا لحقوقهن ونهيا عن العدوان والتحايل عليها بأسلوب آخر جعلها تدخل في عموم النهي وفي مشمول الكبائر.
وإذا صح هذا التوجيه كما نرجو، فتكون الآية الرابعة قد انطوت على تنبيه حاسم على حق المرأة فيما يدخل إلى يدها من مال مشروع من مختلف الطرق وحرية تصرفها فيه وأهليتها الاستقلالية لهذا التصرف ثم على حقها في النشاط والاكتساب وأهليتها لهما. بل إن هذا منطو في الآية على كل حال على ما تلهمه روحها ومضمونها بالإضافة إلى الآيات العديدة الأخرى التي مرت في هذه السورة وفي سورة البقرة وشرحناها شرحا يغني عن التكرار.
والآيات الأربع كما قلنا وحدة تامة. وفيما احتوته من أوامر ونواه وإنذار وتبشير ووعيد تلقينات جليلة مستمرة المدى في صدد المواضيع المتنوعة التي تضمنتها على ما شرحناه في تأويلها شرحا يغني عن التكرار. وقد تكرر مثل ذلك بمختلف الأساليب في فصول عديدة مكية ومدنية معا ؛ لأن ما احتوته متصل بمختلف أعمال الناس وصلاتهم ببعضهم وحياتهم ومصالحهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الفصول فيه.
ومع ما شرحناه لمدى الآية الأخيرة، وقولنا باتصال مداها بمسائل أنصبة الإرث التي عينها الله تعالى في آيات المواريث للرجال والنساء، فإن فيها تلقينا عاما يجدر التنويه به. وهو عدم طمع الناس فيما عند غيرهم مما هو من كسبهم وجهدهم وحقهم الشرعي. مع التنبيه على أن هذا لا يعني عدم التمني بأن يكون لهم مثل ذلك أو عدم الجهد في الحصول عليه من طرقه الشرعية السائغة، بل إن الفقرة الأخيرة من الآية تتضمن حثا على ذلك.
وجملة ( ألا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) في الآية الأولى تأتي للمرة الثانية. وقد جاءت قبل في آية سورة البقرة ( ١٨٨ ) وشرحنا مداها بما يغني عن التكرار، إلا أن نقول : إن تكرارها يفيد أن حكمة التنزيل قد توخت التوكيد على وجوب قيام التعامل بين المسلمين، وبخاصة في الشؤون المالية على الحق والإنصاف واجتناب كل جنف وحيلة ووسيلة باطلة. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد وقف المفسرون٢ عند جملة ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وهذا لم يرد في آية سورة البقرة. وقد رووا عن أهل التأويل أن التراضي الذي يجب أخذ المسلمين أموال بعضهم به في التجارة هو منح الخيار للبائع والشاري في النقض والإمضاء بعد عقد الصفقة، حتى لا يبقى في نفس أي من البائع والشاري أي شيء. وروى الطبري في صدد ذلك حديثا عن مهران ابن ميمون جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما ) وحديثا آخر عن أبي قلابة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفترق بيعان إلا عن رضا ) وحديثا آخر عن ابن عباس جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم بايع، ثم قال له : اختر. فقال : اخترت. فقال : هكذا البيع ).
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها، وإن لم تكن نصا فروحا وهناك أحاديث وردت في الصحاح من بابها. منها حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه ( إن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال : إذا بايعت فقل لا خلابة، وفي رواية : لا خيابة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يفترق اثنان إلا عن تراض ) ٤. وحديث رواه الخمسة عن حكيم ابن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما ) ٥ وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما تقدم٦ وينطوي في الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني وتعليم وتوضيح نبويان يجب الوقوف عندهما.
وهناك من قال : إن الخيار الممنوح في الأحاديث يجب أن يكون في مجلس البيع، وهناك من لم ير ذلك ضروريا. وأصحاب هذا المذهب أولوا جملة ( ما لم يتفرقا ) في الحديث بأنها ما لم يتفرقا في القول٧ وقد صوب الطبري القول الأول، إلا إذا تراضى المتبايعان على الخيار بعد الافتراق. ولعل هذا هو الأسد الأوجه.
ولقد حمل بعض المفسرين جملة ( ولا تقتلوا أنفسكم ) على ظاهرها. ومنهم من حملها على النهي عن تعريض النفس للقتل بقتل الغير أو بأكل مال الغير بالباطل أو الهلاك بالموبقات٨ ويتبادر لنا أن النهي متصل بموضوع الآيات ولا سيما أنه جزء من الآية الأولى التي تنهى الناس عن أكل أموال بعضهم بالباطل.
فإما أن تكون الآية رمت إلى مفهوم معنوي، وهو ما يكون في أكل الناس أموال بعضهم بالباطل الذي يكون قتل النفس في معنى من معانيه وفي تعريضها بعقوبة الله. وإما أن تكون رمت إلى النهي عن العدوان على النفس بسبيل الإرث ومشاكله، ولا سيما أن مشاكل الإرث كثيرا ما تبعت على البغي والجريمة. ولعل التشريع الإرثي الجديد قد أحدث بعض الأحقاد وساق بعض الناس إلى البغي والعدوان. ولعل الآية الرابعة رمت فيما رمت إليه إلى تهدئة النفوس في صدد ذلك وتوطينها على الامتثال لما شرع الله.
وهذا الذي نقوله لا يقلل وجاهة حمل الجملة على ظاهرها، من حيث كون قتل الإنسان نفسه مما يقدم عليه بعض الناس في كل ظرف ومكان بسبب ما يلم بهم من أزمات نفسية ومادية وجملة ( إن الله كان بكم رحيما ) التي جاءت بعد الجملة تنطوي في هذا المقام على تهدئة ومعالجة حيث تهتف بالمسلمين : إن الله يظل شاملا إياهم برحمته فيجب أن لا ييأسوا ويقدموا على قتل أنفسهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذلك بعض الأحاديث النبوية. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا ) ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ) ٩ وحديث رواه البخاري عن جندب ابن عبد الله البجلي قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة ) ١٠ ؛ حيث يفيد هذا أن قاتل نفسه مخلد في النار وحيث ينطوي فيه على كل حال تنبيه على أن قتل الإنسان نفسه ليس أمرا شخصيا له الحرية فيه، وإنما هو جريمة كبرى يعاقب الله عليها. ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي حديثا عن جابر ابن سمرة قال ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) ١١
ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة داخلة في جملة الكبائر المنهي عنها التي نبهت الآية الثالثة من الآيات على وجوب تجنبها ووعدت من يتجنبها بالمدخل الكريم.
وبعض المفسرين أولوا المدخل الكريم بالجنة. ومع وجاهة هذا التأويل فإن إطلاق الجملة القرآنية يسوغ القول باحتمال أن يكون ذلك في الحياة أيضا. ولقد وعد المتقون بالحياة الحسنة في الدنيا بالإضافة إلى ما هو أحسن في الآخرة كما جاء في آية سورة النحل هذه ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين٣٠ ) ١٢.
ولا شك في أن اجتناب الكبائر يضمن للمسلم حياة كريمة مطمئنة في الدنيا بالإضافة إلى ما يضمنه من نعيم ورضوان في الآخرة.
ومع أن المتبادر أن جملة ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) راجعة إلى ما ذكرته الآية الأولى من الآيات ؛ لأنها متصلة بها مباشرة فإن الطبري روى عن عبد الله ابن مسعود وغيره أن ذلك يشمل كل ما ورد من المنهيات في جميع الآيات من أول السورة. ومع ذلك فإن جمهور المفسرين أخذوها على إطلاقها أيضا واعتبروها شاملة على الحث على اجتناب ما نهى الله ورسوله عنه من كبائر.
وليس في هذا بعد عن مفهوم الجملة ظاهر فيما نرى.
ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة فيها بيان كبائر الذنوب وموبقاتها.
ولقد أوردنا طائفة من هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية ( ٣١ ) من سورة النجم فنكتفي بهذ
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
٣ التاج ج ٢ص ١٧٩ والراجح أن في الحديث تعليما بأنه إذا كان في البيع خلابة أو خيابة أي غش وتغرير فهو غير ملزم.
٤ المصدر نفسه ص ١٨٥.
٥ المصدر نفسه ١٨٥.
٦ المصدر نفسه ١٧٩ـ ١٨٥.
٧ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وفيها بيان مذاهب أئمة الفقه في هذه المسائل.
٨ المصدر نفسه.
٩ التاج ج ٣ ص ٤.
١٠ التاج ج ٥ ص ٢٢.
١١ التاج ج ١ ص ٣٢٨ والمشقص: نصل أو حديدة عريضة.
١٢ هناك آيات أخرى من هذا الباب مثل آيتي النحل (٤١ و ٩٧) والنور (٥٤) مثلا.

﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ( ١ ) مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ٣٣ ﴾.
موالي : جمع مولى في معنى الوارث على قول الجمهور
تعليق على الآية
( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ... ) الخ
لم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآية. وقد يتبادر أنها استمرار للآيات السابقة، وأن الضمير المخاطب فيها راجع إلى المؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في تلك الآيات.
ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم الفقرة الأولى من الآية.
فهناك من قال : إن الفقرة تقرر أن الله قد جعل لكل ميت ورثة يرثون ما تركه وهم الآباء والأقربون والمتعاقدون. وهناك من قال : إن الله قد جعل لكل ما يتركه الآباء والأقربون والمتعاقدون وراثا. وكلمة ( لكل ) تجعل فيما يتبادر لنا المعنى الأول أوجه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة ولكل ميت جعلنا ورثة مما ترك من آباء وأقربين ومتعاقدين.
كذلك تعددت أقوالهم١ في مدلول جملة ( والذين عقدت أيمانكم )، وهناك من قرأها عاقدت بدلا من عقدت. وقال بعضهم : إنها تعني الحليف حيث كان من العادات الجارية عند العرب قبل الإسلام أن يلتحق شخص بآخر باسم الولاء أو الحلف فيتعاقدا على تحمل كل منهما تبعة الآخر العصبية. فإذا مات أحدهما ورث الآخر سدس تركته. وقال بعضهم٢ : إنها تعني الأبناء بالتبني ؛ حيث كان التبني يتم بعقد وصيغة مماثلة لعقد الولاء والحلف. وقال بعضهم : إنها تعني ما تم في أول عهد الهجرة من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي اعتبرت بمثابة عقد ولاء وحلف. وقال بعضهم : إنها تعني حق الأزواج في الإرث، على اعتبار أن الزوجية تمت بين الزوجين بالتعاقد فصار لكل منهما حق في إرث الآخر وتركته٣ وننبه على أن المفسرين الذين أوردوا هذه الأقوال عزوها إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم.
ويلحظ أن تقليد التبني قد ألغي في آيات سورة الأحزاب وألغيت نتائجه، ومنها التوارث على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة. وتعيين حرمة حلائل الأبناء من الأصلاب فقط في الآية ( ٢٣ ) من سورة النساء قد يدل على أن هذا الإلغاء قد تم قبل نزول الآية التي نحن في صددها.
ورواية التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار ليست وثيقة على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال ( ٧٢ ) ومع ذلك فآية الأنفال ( ٧٥ ) ثم آية الأحزاب ( ٦ ) وكلتاهما نزلتا على ما نرجحه قبل الآية التي نحن في صددها قد أكدتا أولوية التوارث بين ذوي الأرحام. وهذا يجعل القول إن الجملة في صدد ذلك في غير محله أيضا، فضلا عن أنها لا يصح أن توصف بالوصف الذي جاء في الآية ( والذين عقدت أيمانكم ) ويبقى من الأقوال عقد الولاء أو الحلف وعقد الزوجية. وكل منهما وارد في دلالة الجملة. وقد أوردنا حديثا في ذيل سابق يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الحلف في الإسلام، ولكنه أقر ما كان منه قبل ذلك٤.
ونحن نرجح أن الجملة قد قصدت عقد الزوجية. فقد جعل الله الإرث في آيات المواريث للوالدين والأقربين وهم الأولاد والأخوة وللزوجين. فحيث ذكر الوالدان والأقربون، فيتعين أن تعني الجملة عقد الزوجية فيتسق ذلك مع آيات المواريث.
وبناء على هذا فإن الآية فيما يتبادر لنا ونرجو أن يكون صوابا، تقرر أن الله تعالى قد جعل لكل ميت ورثة يرثونه وهم والداه وأقاربه وزوجه. وأن لكل من هؤلاء حقا لا يصح لأحد منعه منه، وأن من الواجب إعطاءه إياه. فيكون في هذا توطيد لتشريع الإرث من جهة وتدعيم للآية السابقة لهذه الآية التي نهت المسلمين على أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض، والتي قررت في الوقت نفسه أن لكل من الرجال والنساء حقا فيما نالوا واكتسبوا.
ولقد قال بعض المفسرين٥ استنادا إلى أقوال مروية عن بعض الصحابة والتابعين : إن هذه الآية نسخت بآيات المواريث، ولسنا نرى القول في محله ؛ بناء على ما تقدم من شرحها من جهة ؛ ولأن كل ما فيها هو تقرير مبدأ حق الورثة بالإرث مطلقا من جهة أخرى.
١ انظر الكتب السابقة الذكر.
٢ مما رواه الخازن أنه كان يستعمل في التعاقد على الولاء والحلف والتبني هذه الصيغة يقولها كل من المتعاقدين للآخر ماسكا كل منهما بيد صاحبه (دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب لي واطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك) والجملة الأخيرة تعني أن يدفع الواحد منهما نصيبا من الديات التي تطلب من الآخر؛ لأن الديات تدفع من ذوي العصبية حينما تطلب من واحد منهم لأناس آخرين. وقد روى ابن كثير حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: (لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة؛ حيث يفيد أن النبي ألغى هذا التقليد مع إقرار ما كان من قبل..
٣ هذا القول معزو إلى أبي مسلم الأصفهاني على ما جاء في تفسير القاسمي. ومما قاله المفسر لتدعيم القول: إن النكاح يسمى عقدا اقتباسا من جملة (ولا تعزموا عقدة النكاح) في آية سورة البقرة (٢٣٥).
٤ إن الطبري أورد في سياق الآيات أحاديث عن أحلاف كانت قبل الإسلام تفيد أن الحلف المقصود هو حلف حربي تعقده عشائر أو قبائل عديدة للتناصر ضد عشائر وقبائل أخرى فيكون في هذا أيضا نفي لمدى الحلف والولاء في الآية والله تعالى أعلم..
٥ انظر ابن كثير والخازن والطبري.
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ( ١ ) حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ( ٢ ) نُشُوزَهُنَّ( ٣ ) فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( ٣٤ ) ﴾.
( ١ ) قانتات : مطيعات
( ٢ ) تخافون : هنا بمعنى تتوقعون أو تتيقنون من وقوعه
( ٣ ) نشوزهن : عصيانهن وتمردهن
تعليق على الآية
( الرجال قوامون على النساء ) الخ وتمحيص مسألة قوامة الرجل على النساء وحدودها وتأديب الزوجة ومداه.
الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين. وقد تضمنت :
( ١ ) تقرير حق القوامة والإشراف للرجال على النساء، مع تعليل ذلك بأنه بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من مزايا خاصة، ثم بسبب ما ينفقونه من الأموال.
( ٢ ) تنويها بالمرأة الصالحة ووصفا لها. فهي المطيعة المسالمة الحافظة بما أمر الله حفظه من حقوق زوجها في غيبته.
( ٣ ) إشارة إلى المرأة التي لا تتصف بهذا الوصف. ويبدر منها بوادر العصيان والانحراف عن واجبها، وإيجاب عظتها وردعها بالكلام أولا، فإذا لم تتعظ وترتدع فبالهجر، فإذا لم يجد فبالضرب. وإيجاب توقف الرجل عن ذلك، حالما يبدو من زوجته طاعة وإذعان. وتقرير كون الله لم يجعل للرجل حق الاستمرار في الموقف الخشن من المرأة بدون حق وضرورة وهو العلي فوق الجميع، الكبير الذي يجب أن يطاع ويخشى.
ولقد روى المفسرون١ أن الآية نزلت في مناسبة لطم أحد الأنصار لزوجته فأخذها أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا. فأمر النبي بالاقتصاص من الزوج، فلما انصرفا استرجعهما وقال : أتاني جبريل بهذه الآية، ولقد أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير.
والرواية لم ترد في الصحاح، ولا نراها متسقة مع الآية وفحواها وهدفها.
والذي يتبادر لنا أن الآية غير منقطعة عن سابقاتها. فالسابقات احتوت تثبيت حقوق المرأة المالية والزوجية وتعظيم شأنها، ووصت بالاعتراف بها واحترامها، فجاءت هذه الآية لتستدرك ذكر ما للرجال من حق على النساء.
ويلحظ أن الآية مع جعلها الرجال قوامين على النساء وفي منحها لهم حق تأديب الناشزات منهن تظل كما هو ظاهر من فحواها وروحها في نطاق التلقين القرآني العام الذي يوجب على الرجال عدم اضطهاد النساء وإعناتهم ومخاشنتهم بدون مبرر مشروع معقول.
وجملة ( الرجال قوامون على النساء ) وإن كانت مطلقة فإن روح الآية التي وردت فيها ونصها معا يسوغان القول : إنها في صدد تقرير قوامة على الزوجة في الحياة الزوجية دون الشؤون الأخرى. والآية التي تأتي بعد هذه الآية من الأدلة الحاسمة على ذلك ؛ لأنها تذكر احتمال الشقاق بينهما. ( وكلمة ( بينهما ) لا يمكن أن تعني إلا الزوجين والحياة الزوجية بالتالي. ويؤيد هذا تقريرات القرآن لحق المرأة في تزويج نفسها وقبض مهرها والتصرف فيه وحقها في التصرف في نفسها بعد الطلاق وبعد وفاة زوجها في ما يدخل في يدها من مال من طريق الإرث وغيره وأهليتها في التصرف فيه هبة ووصية وإدانة، وحقها في الاستدانة.
وتملك العقار والمماليك والتصرف في كل ذلك مما سبق شرحه في سياق آيات سابقة. ويساق بعض الأحاديث الموهمة نقضا لما نقرره. منها حديث رواه الطبراني عن الأسقع ابن واثلة جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا إلا بإذن زوجها إذا ملك عصمتها ) وقد قال الطبري : إن بين رواة هذا الحديث من لا يعرفهم مما يوجب التوقف فيه. ومنها حديث قد يكون أقوى سندا رواه أصحاب السنن جاء فيه ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النساء خير قال : التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره ) ٢ وواضح أنه ليس في هذا الحديث منع الزوجة عن التصرف بمالها وممارسة أي نشاط مشروع آخر. بل فيه إقرار لحقها في ذلك. وكل ما فيه تحذير بأن لا يكون في ذلك عصيان لأمره أو ما يكرهه. وفرق كبير بين هذا النص والنص السابق. ومع ذلك فإن الزوجة إذا رأت أن تفعل ما تراه حقا مشروعا في مالها ونفسها وكرهه زوجها ورأت في موقفه تعسفا، وأدى ذلك إلى شقاق فيكون لها الرجوع إلى الحاكم لحل الأمر في نطاق الآية التالية على ما سوف نشرحه بعد. وهذا يكون للزوجة حتى في صحة الحديث الأول.
وإذا كان القرآن سكت عن حريتها في النشاط الاجتماعي والسياسي، فلا يعني ذلك أنها محرومة من حقها بذلك بدون قوامة الرجل أيضا بدليل أن القرآن خاطبها بكل ما خاطب الرجل ورتب عليها كل ما رتب على الرجل من إيمان وعمل وعلم وتدبر وتفكر وتذكر وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة إلى الخير وتواص بالحق والصبر وإنفاق في سبيل الله وهجرة في سبيله. وذكر مشاركتها في كل ذلك على ما أوردناه نصوصه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير آيات البقرة ( ٩ ١٤ ) وآل عمران ( ١٩٥ ) والأحزاب ( ٧٢ ٧٣ ) مما يدخل فيه ذلك النشاط وحقها فيه. وفي سورة التوبة آية تقرر واقع المؤمنات وممارستهن للشؤون العامة كالمؤمنين مما فيه تأييد لذلك أيضا، وهي ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ).
ومع ما قلناه من أن قوامة الرجال على النساء في الآية هي في صدد الحياة الزوجية، فإننا نقول أيضا : إن آيات عديدة مرت في هذه السورة وفي سورتي البقرة والروم يمكن أن يكون فيها قيود وضوابط لهذه القوامة ؛ حيث تأمر برعاية الزوجية وتنوه بعظمة شأن الرابطة الزوجية وكونها قائمة على المودة والرحمة، وتثبت للزوجة حقوقا على زوجها مثل الذي عليها مما يدخل فيه حسن المعاشرة والتحمل وعدم البغي عليها والطمع في مالها ومكايدتها ومضارتها والوفاء والأمانة والانسجام والتشاور في شؤون البيت والأسرة والتكريم والترفيه والمساعدة الخ. وما ذكرته آية البقرة من الدرجة للزوج على الزوجة هي هذه القوامة الزوجية التي جعلت له المزايا الطبيعية والاجتماعية التي امتاز بها وللأموال التي ينفقها، ومما كان ولا يزال ولن يزال متسقا مع طبائع الأمور، ومما ليس فيه ما يثقل على الطبيعة البشرية أو يتناقض معها مهما وصل الإنسان إليه من حضارة وثقافة.
ولقد قال بعض الأئمة والمفسرين : إن حق القوامة للزوج يزول إذا قصر أو امتنع عن النفقة، وهذا وجيه متفق مع ما يلهمه روح ونص الآية التي جعلت الإنفاق من أسباب منحه هذا الحق.
ولقد روى المفسرون : أن جملة ( وبما أنفقوا من أموالهم ) عنت ما دفعوه من مهور. ومنهم من قال : إنها المهور وما بعدها من نفقات الكساء والغذاء المستمرة، وهذا هو الأوجه. وهناك أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في مدى العبارات الأخرى في الآية.
ففي صدد وصف ( فالصالحات ) روى الطبري حديثا بصراحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها، ثم قرأ الآية ) وهذا الحديث مقارب لما رواه أصحاب السنن وأوردناه قبل. وهناك حديث رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ) ٣ وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش. أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده ) ٤ والأحاديث الرائعة في وصفها وتنويهها بالمرأة الصالحة، ثم في حثها المرأة المسلمة على الاتصاف بالصفات المحببة التي تجعلها كذلك. وفي صدد جملة ( حافظات للغيب بما حفظ الله ) روى الطبري وغيره أنها بمعنى ( حافظات لما استودعهن الله من حقه ولغيب أزواجهن ) أو ( حافظات لفروجهن ومال أزواجهن ) والأقوال سديدة متسقة مع روح الآية.
وفي صدد ( النشوز ) رووا أنه الامتناع عن الاستجابة لطلب الزوج الجنسي أو عدم إطاعته في ما أوجب الله عليها إطاعته فيه أو جنوح الزوجة إلى المعصية والتمرد وكراهية زوجها وأهله. وكل هذا سديد كذلك. مع التنبيه على أن الطبري نبه عزوا إلى عكرمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أن طاعة الزوجة لزوجها مشروطة بأن تكون في معروف. أي أن ما يأمرها به ويجب طاعتها له، وهو ما يكون فيه توافق مع كتاب الله وسنة رسوله ومكارم الأخلاق المتعارف أنها كذلك. وصحة ما يرويه الطبري عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم محتملة، وهو متسق مع التلقينات القرآنية والنبوية الوثيقة.
فالله حينما أمر النبي بأخذ البيعة من النساء كان من جملة ذلك ( ولا يعصينك في معروف ) على ما جاء في آية سورة الممتحنة ( ١٢ ) التي سوف يأتي شرحها في مناسبتها. ومن باب أولى أن يكون ذلك في صدد ما نحن فيه. بحيث يمكن أن يقال بجزم : إنه ليس للزوج في أي حال أن يسيء استعمال القوامة التي منحها الله له على زوجته. إذا ما أطاعته في ما هو حق ومعروف وغير معصية في ذات نفسها وفي نطاق الحياة الزوجية، وكانت وفية أمينة له حافظة لما له وسمعته وعرضه في الحضور والغياب. وفي هذا تلقين مزدوج ؛ حيث يكون من جهة ضابطا تنتظم به الصلات الزوجية، ومن جهة زاجرا لسيئ الأخلاق من الأزواج الذين يحاولون قهر زوجاتهم بالعنف والشتائم بدون داع ولا مبرر، وإذا تجاوز الزوج النطاق المشروع، فللزوجة أن لا تمتثل لأمره، فإذا أصر فيكون الأمر حالة شقاق، وللزوجة أن ترفع أمرها للقضاء لحلها وفاقا للآية ( ٣٤ ) على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل.
وحق التأديب الذي منح للزوج على زوجته إنما يكون والحالة هذه في حالة نشوزها الموصوف مداه وعدم طاعتها في ما هو حق ومعروف وشذوذها في أخلاقها ومعاملتها له ولأهله بالسوء والأذى وعدم وفائها وأمانتها، ولا يمكن لعاقل منصف أن يرى فيه حيفا أو جنفا وهو متدرج بحيث تكون العظة والنصيحة أولا، فإذا استمر فالهجر في المضاجع الذي يقصد منه على ما عليه الجمهور الامتناع عن وطئها وتحويل وجهه عنها في الفراش الواحد إشعارا لها بعدم رضائه عنها. فإذا استمر النشوز جاز له ضربها. وإذا لاحظنا أن الضرب جاء كآخر وسيلة أولا، وأنه على سبيل الإباحة لا الإيجاب ثانيا، ولا يكون إلا بعد استنفاد وسيلتي العظة والنصح والهجران ثالثا. وبعبارة أخرى إلا في حالة التمرد الشديد والإصرار على النشوز والشذوذ وسوء الخلق والتصرف بدا لنا ما قد يبدو غريبا ليس هو كذلك في حقيقة الأمر، بل هو احتياط حكيم في شريعة مرشحة لكل ظرف وفئة من حيث إن ظروف الناس وحالاتهم لا تدخل تحت حصر. فقد يكون هناك ظروف وحالات خاصة من حيث الوقائع وطبقات الناس يكون الضرب فيها وسيلة لا بد منها، وليس من وسيلة غيرها للردع والتأديب أو وسيلة يتفادى بها كارثة الطلاق وغيرها من كوارث الزوجية مما هو جائز الوقوع وسائغ في العقول وممارس فعلا في كل ظرف ومكان.
وهناك مأثورات نبوية في صدد الضرب، إذا ما أتت الزوجة ما يستحق ؛ حيث جاء في خطبة حجة وداع ال
١ انظر الخازن وابن كثير والطبرسي والطبري والبغوي.
٢ التاج ج٢ ص ٢٥٨.
٣ التاج ج ٢ ص ٢٥٧.
٤ المصدر نفسه.
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ( ١ ) شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( ٣٥ ) ﴾
١ إن خفتم : بمعنى إن توقعتم أو غلب ظنكم
عبارة الآية واضحة ولم نطلع على رواية في مناسبة نزولها. والمتبادر أنها استمرار للآية السابقة التي احتوت تقرير قوامة الرجل على الزوجة ومعالجة حالة نشوز الزوجة ؛ حيث جاءت هذه معها أو بعدها تباعا لمعالجة حالة احتمال الشقاق بين الزوجين. فأمرت المسلمين المخاطبين بالمداخلة والنظر في الأمر من قبل حكم من جانب الزوج وأهله وحكم من جانب الزوجة وأهلها فيما ينبغي عمله في سبيل الإصلاح بينهما الذي قد يوفق الله إليه إن أراده الفريقان.
ويتبادر لنا أن الفقرة الأخيرة من الآية أسلوبية، وأن فيها معنى الحث على الإصلاح والتأميل في توفيق الله إليه مع عدم إغفال إرادة الزوجين مما هو متسق مع التقريرات القرآنية في أهلية المرء للإرادة والاختيار التي أودعها الله فيه.
تعليق على الآية
( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا... )الخ.
لقد تعددت الأقوال التي يوردها المفسرون١ لأنفسهم أو لأهل التأويل وأئمة الفقه في مدى الإجراءات التي تضمنتها الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي، مع التنبيه على أننا لم نطلع على أثر نبوي وثيق في ذلك، وأن الراجح أن الأقوال المساقة هي من قبيل الاجتهاد.
( ١ ) قال المفسرون : إن المخاطبين في الآية يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلمك أو أهل الزوجين أو ذوي الشأن والعلاقة من المسلمين. ونقول : إن من المحتمل أن يكون كل من الجهات الثلاث معا مخاطبة. فكل منها يصح أن تتدخل وتتوسط في الإصلاح بين الزوجين. ولما كانت صيغة الآية تشريعية مطلقة لتكون محل تطبيق وتنفيذ في كل ظرف فيكون ولي أمر المؤمنين أو نائبه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بعده. ومع ذلك فإن من المتبادر أنه الأقوى هو أن الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان المرجح فيما كان ينشب بين المسلمين من خلافات والقادر على التنفيذ المطاع فيه. وإذا صح هذا فيكون الخطاب بعد النبي موجها لولي أمر المؤمنين في الدرجة الأولى. وإن كان هذا لا يقلل من احتمال توجيه لذوي الشأن في أسرة الزوجين ومجتمعهما.
( ٢ ) هناك من قال : إن الزوجين المتشاقين هما اللذان يختاران حكميهما. فيخبر كل منهما حكمه المختار بما يطلب ويشكو. وهناك من قال : إن هذا شأن ذوي الشأن من الأسرة أو المجتمع أو السلطان على اختلاف تحمل مدى العبارة القرآنية ويكون للطرف المتضرر من موقف الآخر أن يرفع أمره وحسب. والآية تخاطب المخاطبين ببعث الحكمين وهذا يجعل الرجحان للقول الثاني. ويوجهه كون كل من الطرفين قد يختار حكما متعصبا له فيتعسر إيجاد الحل الوسط.
( ٣ ) هناك من قال : للحكمين أن يجدا الحلول المناسبة، ويلزما بها الطرفين عدا التفريق الذي لا يتم إلا بتفويض وموافقة الفريقين. وهناك من قال : إن الحكمين يرفعان ما يريانه من حلول إلى من عينهما. وأن هؤلاء هم الذين يلزمون الزوجين بما يرونه موافقا منها مع اختلاف فيما إذا كان هؤلاء أيضا يستطيعون أن يقرروا التفريق ويلزموا به الزوجين بدون موافقتهما أم لا بد من موافقتهما ؛ حيث قال فريق بحقهم في الإلزام بالتفريق. وقال آخر : إنه لابد من موافقة الزوجين على ذلك. وجميع هذه الأقوال واردة ووجيهة.
ومهما يكن من أمر هذه الاجتهادات فالذي يتبادر لنا صورة عامة ومبدئية أن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق بين الزوجين في حالة حدوث نزاع بينهما أو احتمال ذلك اتساقا مع هدف القرآن العام في تعظيم الرابطة الزوجية والإبقاء عليها ما استطيع إلى ذلك، وخاطبت ذوي الشأن في سبيل تحقيق ذلك.
والاختلاف في التفريق هو كما يبدو بسبب كون الآية هدفت إلى التوفيق والإصلاح وحسب. ويتبادر لنا أن التفريق يصح أن يرد في مجال الحلول استلهاما من المبدأ القرآني العام للحياة الزوجية الذي شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، وهو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالمعروف والإحسان وعدم الإمساك للضرر والعدوان. ويكون التفريق وفق الخطط القرآنية المشروحة في تلك الآيات أيضا، وهو الخلع والفداء أو الطلاق الرجعي والبائن أو البات.
هذا مع توكيد القول : إن الآية هدفت إلى إزالة الشقاق وتوطيد الوفاق، وإن على الحكمين أو من يتدخل بذل كل جهد في سبيل ذلك في الدرجة الأولى.
ومع صحته واحتمال أن يكون التدخل من ذوي الأسرة والشأن في المجتمع والسلطان، فالذي يتبادر لنا أن هذا متروك للظروف. فما أمكن حله بدون تدخل السلطان حل. وما كان يحتاج إلى سلطان رفع إليه. وإن كان رفع الأمر إلى السلطان يظل هو ضمن للحسم والتنفيذ.
وقد يصح القول بالإضافة إلى ما تقدم واستلهاما من فحوى الآية أن المخاطبين فيها مدعوون إلى التدخل للإصلاح والتوفيق إذا ما خيف من تسوية نزاع وشقاق بين الزوجين، ولو لم يرفع الزوجان أمرهما إليهم. والله تعالى أعلم.
ولم نقع على قول بما يجب إذا اختلف الحكمان والمتبادر أن للذي عينهما أن ينتدب مكانهما أو يمحص الأمر بوسائله الأخرى، أو يرجح رأي أحد الحكمين على الآخر أو يفرض الحل المناسب، وهذا ما يوحيه ما قلناه أن السلطان يظل هو الأضمن للحسم والتنفيذ والأكثر ورودا في الخطاب. والله تعالى أعلم.
حكمة تفصيل القرآن لشؤون الأسرة
هذا، وهذه الآية هي خاتمة فصل طويل في شؤون الأسرة المتنوعة، ومن المحتمل أن يكون بعض آياته نزلت متتابعة فوضعت في مكانها للمناسبة الظرفية والموضوعية. ومن المحتمل أن يكون بعض آياته الأخرى نزلت في غير ظرف نزول الباقي فوضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ويلحظ من هذا الفصل الطويل أن حكمة التنزيل قد أعارت هذه الشؤون عناية كبيرة، واقتضت نتيجة لذلك أن يحتوي القرآن بيانات وتشريعات كثيرة حولها.
وهذا يلحظ كذلك في الفصل الطويل الذي احتوته آيات سورة البقرة ( ٢٢٠ ٢٤١ ) والذي هو من هذا الباب لأنه متصل بالطلاق والعدة والمهر وحالة الزوجة التي يتوفى عنها زوجها وحالة الزوجة التي يطلقها زوجها قبل الدخول ومسألة الرضاع الخ.
وليس هذان الفصلان كل ما جاء في هذا الباب في القرآن. ففي سورة الأحزاب التي مر تفسيرها فصل منه، ومعظم سورة الطلاق من الباب نفسه، وفي سورة النور فصول عديدة منه أيضا.
والمتبادر أن من حكمة ذلك كون هذه الشؤون متصلة بحياة جميع الأفراد من آباء وأمهات وزوجات وأولاد، وبعبارة أخرى : أن لكل إنسان صلة بها بشكل من الأشكال واحتمال أن تكون مثار خلاف ونزاع وشقاق وبلبلة وضغائن بل وجرائم واردة باستمرار في كل ظرف ومكان، وكل هذا مما يؤدي إلى اضطراب أسروي واجتماعي واقتصادي ومعاشي وسلوكي، فإذا ما حددت وأوضحت انتفت أسباب ذلك وضمنت الطمأنينة والهدوء والتراضي للأسرة الإسلامية ثم للمجتمع الإسلامي. والله أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
( ١ ) الجار ذي القربى : قيل إنه القريب رحما، وقيل إنه القريب دينا
( ٢ ) الجار الجنب : قيل إنه الأجنبي رحما، وقيل إنه الأجنبي دينا
( ٣ ) الصاحب بالجنب : الذي بينه وبين الآخر رفقة وصحبة. وبعضهم قال : إن الجملة تعني زوجة الرجل.
( ٤ ) ابن السبيل : الغريب
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا
( ٥ ) من المؤولين من قال : إن هذه الآية عنت اليهود الذين وصفوا بمثل ذلك في آيات أخرى.
ومن قال : إنها عنت من يبخل بعلمه ويكتمه من العلماء مطلقا، ومن قال : إنها على المعنى الظاهر، وهو الشح بالمال وكتمانه وأمر الناس بذلك، والقول الأخير هو الأوجه بقرينة في الآية التالية.
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا
( ٦ ) لو تسوى بهم الأرض : الجملة كما يتبادر لنا أنها في معنى ( لو تنشق الأرض وتبلعهم، ثم تعود إلى حالها مسواة، ويبقون في بطنها ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:( ١ ) الجار ذي القربى : قيل إنه القريب رحما، وقيل إنه القريب دينا
( ٢ ) الجار الجنب : قيل إنه الأجنبي رحما، وقيل إنه الأجنبي دينا
( ٣ ) الصاحب بالجنب : الذي بينه وبين الآخر رفقة وصحبة. وبعضهم قال : إن الجملة تعني زوجة الرجل.
( ٤ ) ابن السبيل : الغريب
﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى( ١ ) وَالْجَارِ الْجُنُبِ( ٢ ) وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ( ٣ ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( ٤ ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ( ٣٦ ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ( ٥ ) واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ( ٣٨ ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا ( ٣٩ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٤٠ ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ( ٤١ ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ( ٦ ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ( ٤٢ ) ﴾ [ ٣٦-٤٢ ]
تعليق على الآية
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقينات
في صدد سلوك المسلم تجاه غير على اختلاف الفئات
الخطاب في الآيات موجه للمؤمنين السامعين كالآيات السابقة. وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بعبادة الله وحده وعدم إشراك شيء بأي هدف وشكل وبحسن معاملة الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران والأقارب والغرباء والأصحاب والمعارف وأبناء السبيل والأرقاء والبر بهم ومعاونتهم.
( ٢ ) وتشنيعا على المتكبرين المتفاخرين الذين لا يعاملون الناس بالبر والحسنى، ويبخلون بأموالهم في سبيل الخير ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولا يكتفون بما في ذلك من إثم عليهم بل يأمرون غيرهم بمثل عملهم. وتشنيعا كذلك بالمرائين الذين إذا أنفقوا شيئا أنفقوه مراءاة للناس وطلبا للثناء وتفاخرا لا عن إيمان بالله ورغبة في رضائه ولا عن إيمان باليوم الآخر ورغبة في تقديم العمل الصالح بين أيديهم. وهؤلاء وأولئك هم قرناء الشيطان، ومن كان الشيطان قرينه فقد ساء قرينه وتعس وشقي.
( ٣ ) وتنديدا بهؤلاء بأسلوب السؤال التعجبي عما دهاهم حتى جعلهم ينحرفون هذا الانحراف، في حين أن العقل والمنطق يقضيان بالبداهة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر وينفقوا مما رزقهم الله، وهم يعترفون بوجوده أنه عليم بجميع أحوالهم وأعمالهم.
( ٤ ) وتقريرا بأن الله لا يظلم أحدا ولا يبخس حق أحد وعمله ولو كان مثقال ذرة واحدة. وإذا كان هذا العمل خيرا ضاعفه وآتاه عليه أجرا عظيما.
( ٥ ) وسؤالا موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تنديد وإنذارا لهم عما يكون حالهم حينما يجمع الله الناس، ويأتي بشهيد من كل أمة عليها ويأتي به شهيدا عليهم.
( ٦ ) وجوابا عما يكون حال الذين كفروا وعصوا الرسول ؛ حيث يتولاهم الندم والحسرة ويتمنون لو انشقت الأرض وبلعتهم حتى لا يقفوا أمام الله هذا الموقف العصيب، أو حتى لا يضطروا إلى كتمان حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا وإنكار شركهم بسبيل الدفاع عن أنفسهم.
ولم نطلع على مناسبة في نزول الآيات. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن الآيات السابقة ولو من قبيل الصلة التعقيبية أو الاستطرادية. فالآيات السابقة احتوت بيان حقوق والواجبات بين الأزواج والرجال والنساء فاقتضت حكمة التنزيل بوحي هذه الآيات تعقيبا أو استطرادا لتنبيه المسلمين على ما يجب عليهم من حسن المعاملة والبر نحو جميع الطبقات عامة من آباء وأقارب وأباعد وجيران وأصحاب وغرباء ومساكين وأيتام وأرقاء، وللتشنيع على من يقصر في ذلك ويتعاظم ويختال على الناس اغترارا بماله وجاهه ومركزه ؛ ليتم الاتساق بين التلقينات الخاصة بالأسرة وبغير الأسرة معا.
وأسلوب الآيات قوي نافذ وبعض ما احتوته من أوامر ونواه ورد في سور مكية ومدنية سبق تفسيرها. غير أنها جاءت هنا مجموعة بحيث يصح وصفها بأنها من جوامع الآيات في بابها. وقد انطوت على تلقينات جليلة فياضة بواجب الإحسان والبر بالناس على اختلاف طبقاتهم وجعلت للطبقات الضعيفة والمحتاجة خاصة نصيبا واضحا في ذلك وبتقبيح إهمال هذا الواجب والتقصير فيه والتكبر على الناس وأذيتهم وحرمان المحتاجين والتحريض على ذلك وإنكار فضل الله ورزقه بسبيل ذلك وبكون القيام بهذا الواجب لا يؤدي على وجهه الصحيح إلا بالإخلاص فيه والصدور فيه عن إيمان بالله واليوم الآخر، وعن رغبة صادقة في أدائه كواجب أوجبه الله عليه ابتغاء مرضاته مجردا عن مراءاة الناس وقصد اكتساب ثنائهم أو نيل جزائهم، وكل هذا متسق مع وصايا على ما شرحناه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في صدد ما احتوته هذه الآيات فيها الأمر وفيها النهي. ومنها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما أخرجه الإمام أحمد أو روى من طرق أخرى. منها في صدد حق الجار عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ١ وعنها قالت ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا ) ٢. ٣ وحديث آخر جاء فيه ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ٣ وحديث رابع أخرجه الإمام أحمد جاء فيه ( لا يشبع الرجل دون جاره ) ٤ وحديث خامس جاء فيه ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره، ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ) ٥ وحديث سادس جاء فيه ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق. فالأول جار مشرك فله حق الجوار، والثاني جار مسلم فله حق الإسلام والجوار، والثالث جار مسلم ذو رحم، فله حق الجوار والإسلام والرحم ) ٦ وحديث سابع : جاء فيه ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) ٧ ومنها في صدد حق الجار والصاحب معا حديث جاء فيه ( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) ٨ ومنها في صدد الأقارب وذوي الرحم حديث عن أبي هريرة جاء فيه ( من سره أن يبسط الله في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ٩ وحديث عنه أيضا ( إن رجلا قال يا رسول الله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال : لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) ١٠.
ومنها في حق الخدم والمماليك حديث رواه عبادة ابن الصامت جاء فيه ( سمع رسول الله يقول : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ) ١١ وثان عن أبي مسعود قال ( كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود مرتين أن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله قال : أما لو لم تفعل للفحتك النار ) ١٢ وثالث : عن أبي هريرة عن النبي قال ( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حدا ) ١٣ ورابع عن ابن عمر جاء فيه ( جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله كم نعفو عن الخادم ؟ فصمت فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال : في كل يوم سبعين مرة ) ١٤ وخامس عن أبي ذر جاء فيه ( قال رسول الله : من لاءمكم من مملوككم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله ) ١٥ وسادس عن رافع جاء فيه ( أن النبي قال : حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم ) ١٦ وسابع عن جابر جاء فيه ( ثلاث من كن فيه ستر الله عليه كنفه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك ) ١٧ وثامن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ) ١٨ وتاسع عن أبي ذر جاء فيه ( خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ) ١٩ وعاشر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمته في مرض الموت فيقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، ويردد ذلك حتى ما يفيض بها لسانه ) ٢٠. وحادي عشر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) ٢١.
ومنها في صدد الخيلاء حديث رواه مسلم والترمذي جاء فيه ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ) ٢٢ وحديث ثان رواه الترمذي جاء فيه ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ) ٢٣ وحديث ثالث رواه الترمذي جاء فيه ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان ) ٢٤ وفي صدد البخل والشح حديث عن أبي بكر رواه الترمذي جاء فيه ( لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل ) ٢٥ وحديث عن أبي سعيد رواه الترمذي كذلك جاء فيه ( خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق ) ٢٦ وفي صدد الإنفاق مرآة للناس روى مسلم والترمذي والنسائي حديثا عن أبي هريرة ( في من يقضي عليهم أول ما يقضي يوم القيامة : رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها المال إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ٢٧ وروى البغوي بطرقه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : الرياء ) ٢٨.
ونختم هذه السلسلة بحديث جامع لما يجب على المسلم تجاه أخيه رواه الأربعة عن أبي هريرة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ويكررها ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٢٩.
وهكذا تتسق التلقينات النبوية بهذه السعة مع التلقينات القرآنية في هذا الموضوع المهم في صلات الناس ومعاملاتهم وسلوكهم مع بعضهم على اختلاف فئاتهم وبقطع النظر عن أي اعتبار طبقي أو مالي، بل أو ديني كما هو الشأن في كل موضوع آخر.
هذا، ولقد روى عن عبد الله قال ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي. قلت : أقرأ عليك وعليك نزل. قال فإني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان ) ٣٠ حيث ينطوي في الحديث صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بخطورة مهمته العظمى ومسؤوليتها.
وقد يكون في هذا قرينة على أن سورة النساء كانت قد ألفت في حياة النبي صلى ا

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الغائط ( ١ ) أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ( ٢ ) صَعِيدًا( ٣ ) طَيِّبًا( ٤ ) فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ( ٤٣ ) ﴾
( ١ ) الغائط : المحل المنخفض ولعله أريد بالكلمة ( الحفرة ) أو ( الجورة ) العميقة في الأرض التي كانوا يقضون حاجتهم فيها. وقد ذكرت بعض الروايات أن الناس كانوا يذهبون إلى البراري، ويقضون حاجاتهم في منخفضاتها. وهناك روايات تذكر أنه كان في جانب المساكن أماكن تسمى كنفا ( مفردها كنيف ) لقضاء الحاجة، وهو ما نسميه بيت الماء أو بيت الخلاء. وهذا أو ذاك بمثابته هو المعقول ؛ لأن خروج الناس إلى البراري لقضاء الحاجة من أهل المدن غير معقول. ولا بد من أن يكون لهم أماكن لذلك ( حفرا أو جورا ) قريبة من المساكن.
( ٢ ) تيمموا : معناها اللغوي : اتجهوا نحو الشيء أو تحروا أو اختاروا وكلمة ( التيمم ) التي هي اصطلاح إسلامي، والتي صارت تطلق على عملية المسح من الصعيد الطاهر بدلا من الماء مشتقة منها
( ٣ ) صعيدا : قيل إنه بمعنى الأرض الملساء أو بمعنى الأرض المستوية أو الأرض المرتفعة. وقيل إنها بمعنى وجه الأرض مطلقا ترابا كان أم حجرا أو صخرا.
( ٤ ) طيبا : طاهرا
الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين وقد تضمنت :
( ١ ) نهيا عن الصلاة، وهم في حالة السكر حتى يعلموا ما يقولون ؛ لأن السكران لا يدري ما يقول أو يفعل.
( ٢ ) ونهيا آخر عن الصلاة، وهم على جنابة حتى يغتسلوا مع الترخيص لعابري السبيل١.
( ٣ ) وترخيصا لهم إذا كانوا مرضى.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى... ) الخ
وما فيها من أحكام التيمم والجنابة والوضوء والاغتسال.
أولا : روى المفسرون٢ روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الأول من هذه الآية. وقد روى أبو داود والترمذي عن علي صيغة نكتفي بإيرادها ؛ لأنها الأوثق سندا جاء فيها ( صنع لنا عبد الرحمان بن عوف طعاما وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة٣ وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ٤ وروى المفسرون روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الثاني من الآية. ومن ذلك حديث رواه البخاري عن عائشة قالت ( هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء، ولم يجدوا ماء فصلوا على غير وضوء. فأنزل الله آية التيمم ) ٥ ومن ذلك رواية يرويها الطبري تذكر أنه نال أصحاب رسول الله جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا إلى رسول الله فنزلت وإن كنتم مرضى. ورواية أخرى يرويها الطبري أيضا أنه كان للنبي خادم اسمه : الأسلع فناداه ليلة يا أسلع، قم فارحل لي. فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة، فأتاه جبريل بآية الصعيد، فناداه أن قم فتيمم، ووصف له ضربتين للتيمم واحدة للوجه، وواحدة لليدين إلى المرفقين، ثم مروا على ما فأمره أن يغتسل. وهذه الرواية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر أيضا.
والأحاديث والروايات تفيد أن الآية نزلت مجزأة وفي مناسبات متعددة أنها وحدة تامة كما تبدو. وفيها نقاط أخرى لم ترد في الروايات والأحاديث مثل ملامسة النساء وعبور المساجد. وهذا يسوغ القول : إن الآية نزلت مرة واحدة واحتوت مواضيع متناسبة.
ولا يمنع هذا بطبيعة الحال أن تكون المناسبات المروية صحيحة، فكانت سببا لنزول الآية جامعة لما كان، ولما يفرض أن يكون ليكون الموضوع تاما.
ثانيا : والآية بعد فصل جديد وتام. وهذا النوع من الآيات التشريعية غير نادر في النظم القرآني، وقد مر منه أمثلة في سورة البقرة. وفي هذه السورة. والتناسب قائم بين الآية والآيات السابقة من ناحية كون الجميع فصولا تشريعية. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الفصل السابق لها فوضعت بعده للمناسبة الظرفية والموضوعية.
ومن المحتمل أن تكون نزلت في ظرف، فوضعت بعده المناسبة الموضوعية.
ثالثا : إن النهي عن الصلاة في حالة السكر في الآية يأتي كخطوة تشريعية ثانية في الخمر. والخطوة الأولى جاء في آية سورة البقرة ( ٢١٩ ) التي ذكرت أن إثم الخمر أكبر من نفعها. وقد عرض القرآن المكي بآثار خمر الدنيا وما تحدثه من أعراض كريهة ضارة أكثر من مرة في سياق وصفه خمر الآخرة وكونها مبرأة من ذلك. وهذه الخطوة الثانية ليست حاسمة أيضا ؛ لأنها إنما تنهى عن الصلاة في حالة السكر التي تنجم عن شرب الخمر. وقد نزل التشريع الحاسم الأمر بالانتهاء من شربها والجامع في الإثم بينها وبين الميسر والأنصاب والأزلام بعد مدة ما من هذه الآية في سورة المائدة. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور التشريعي، ودليل على تأصل تعاطي الخمر وشيوعه والانتفاع به اقتصاديا، حتى اقتضت حكمة التنزيل هذا التدرج.
رابعا : إن الأمر بالاغتسال من الجنابة يأتي هنا لأول مرة. وقد تكرر مرة ثانية في سورة المائدة في صيغة ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) ( ٦ ) وهذه وتلك من الآيات المدنية. وليس هناك حديث يمكن وصفه بأنه مكي الصدور عن النبي صلى الله عليه وسلم يوجب الاغتسال من الجنابة. غير أن المفسر القاسمي ينقل عن ابن عبد البر قوله : إن أهل السير متفقون على أن الغسل من الجنابة قد فرض في مكة وإن هذا مما لا يجهله عالم. وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن أبي كعب جاء فيه ( إن الفتيا التي يفتون بها إنما الماء من الماء كانت رخصة رخصها النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد ) وجملة إنما الماء من الماء تفيد أن نزول المني هو الذي يكون به الجنابة، ويوجب الاغتسال. والحديث يفيد أن هذا التشريع نبوي مكي. ولعل العلماء الذين يحكي ابن عبد البر اتفاقهم استندوا إلى هذا الحديث.
وشراح الحديث يذكرون أن الحديث يعني أن النبي أوجب في بدء الإسلام الاغتسال إذا ما حدث إنزال في جماع ثم أوجبه في حالة الجماع مطلقا ولو بدون إنزال. وليس هناك ما يمكن الاستناد إليه فيما اطلعنا عليه في ما إذا كان أمر النبي بالاغتسال من الجماع، ولو لم يكن إنزال مكيا. وهناك حديث في ذلك رواه مسلم عن عائشة قالت ( إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل هل عليهما الغسل وعائشة جالسة فقال رسول الله إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل ) ٦ وهذا الحديث مدني يقينا. وصار الاغتسال من الجماع بدون إنزال على كل حال تشريعا.
على أن قول الشراح : إن معنى إنما الماء من الماء هو : إيجاب الغسل إذا نزل مني في الجماع محل نظر في ما نرى. ونرى الأوجه، والله أعلم أن يؤخذ الكلام على ظاهره، فيكون نزول المني في غير حالة الجماع أيضا موجبا للاغتسال. وإذا صح هذا فيكون أيضا تشريعا تبعا لأصل الحديث الذي يذكر أن الفتيا بأن الماء من الماء كان في بدء الإسلام.
وننبه أن هناك أحاديث صريحة باعتبار نزول الماء في الاحتلام حالة جنابة وبإيجاب الاغتسال من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم جاء فيه ( إن أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت قال : نعم إذا رأت الماء ) ٧ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت ( سئل النبي عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال : يغتسل. وعن الرجل أنه قد احتلم ولا يجد ماء قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم : المرأة ترى ذلك أعليها غسل قال : نعم. إنما النساء شقائق الرجال ) ٨ والأحاديث مدنية الصدور. ولكنها لا تفيد أن التشريع النبوي جديد لأمر لم يكن، ويجوز أن يكون استمرارا للجاري منذ بدء الإسلام الذي أساسه ( إنما الماء من الماء ) ولم نطلع على حديث نبوي في صدد الإنزال في اليقظة نتيجة للتهيج الجنسي. ويقاس هذا على نزول الماء في الاحتلام، بل يكون الأوجب للاغتسال. والله تعالى اعلم.
وهناك أحاديث نبوية توجب الغسل، ولو لم يكن إنزال إذا التقى الختانان. من ذلك حديث رواه الخمسة إلا الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها وجب الغسل وفي رواية وإن لم ينزل وفي رواية ومس الختان بالختان ) ٩ وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا ) ١٠ فصار هذا بدوره تشريعا وفي حكم الجنابة. والأحاديث مدنية الصدور، ولا يمكن الجزم بما إذا كان الأمر استمرار لما كان جاريا في العهد المكي.
وهناك أحاديث عن المذي الذي يخرج من ذكر الرجل حين يدنو من أهله. وهو غير المني الذي ينقذف في الجماع أو الاحتلام أو اشتداد الشهوة تسوغ المناسبة إيرادها. منها حديث يرويه الإمام مالك عن المقداد ابن الأسود قال ( سئل رسول الله عنه فقال : إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه، وليتوضأ وضوءه للصلاة ) ١١ وحديث آخر يرويه نفس الإمام عن زيد ابن أسلم عن أبيه أن عمر ابن الخطاب قال ( إني لأجده ينحدر مني مثل الحريرة، فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة يعني المذي ) ١٢. ولقد تكفلت السنة النبوية في بيان كيفية الاغتسال من الجنابة. من ذلك حديث رواه الخمسة عن ميمونة قالت :( وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه وفي رواية ثم غسل رأسه ثلاثا، وفي رواية فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض الماء بيده ) ١٣ وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت ( كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه ) ١٤ وحديث رواه الخمسة عن أم سلمة إلا البخاري قالت ( قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة. قال : لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) ١٥.
وهناك أحاديث مهمة في صدد السلوك في حالة الجنابة من المفيد إيرادها.
منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال ( لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة في طريق من طرق المدينة وأنا جنب فاختنست. وفي رواية : فانسللت فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال : أين كنت يا أبا هريرة قلت : إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة قال سبحان الله إن المسلم لا ينجس ) ١٦ وحديث رواه الخمسة أيضا عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا، فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة ) ١٧ وحد
١ فارغ؟؟؟؟؟.
٢ سيأتي شرح لمدى جملة (عابري سبيل).
٣ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا الخ.
٤ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
٥ التاج ج ٤ ص ٨٢ و ٨٣.
٦ التاج ج ١ ص٩٦و ٩٧.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه ص ٩٦ و ٩٧.
٩ التاج ج ١ ص ٩٦.
١٠ المصدر نفسه.
١١ الموطأ ج ١ ص ٢١.
١٢ المصدر نفسه.
١٣ التاج ج ١ ص ١٠١.
١٤ المصدر نفسه.
١٥ المصدر نفسه ص ١٠٢ و ١٠٣.
١٦ المصدر نفسه.
١٧ المصدر نفسه.
( ١ ) يشترون الضلالة : أول المؤولون الجملة بمعنى يختارون الضلالة ويتعمدونها ويستبدلونها بالهدى. وهو وجيه ومتسق مع ما جاء في آيات عديدة مثل آيات البقرة ( ١٦ و ٤١ ) وآل عمران ( ٧٧ ).
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
( ٢ ) اسمع غير مسمع : قيل إنها كلمة هجو بمعنى : اسمع لا سمعت. وقيل : إنها كلمة تمرد بمعنى اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه.
( ٣ ) راعنا ليا بألسنتهم : كانوا يلوون ألسنتهم بكلمة راعنا لتكون بمعنى الرعونة استهزاء بالنبي. وفي سورة البقرة آية من هذا الباب نهى المسلمون فيها عن ترديد هذه الكلمة تقليدا لليهود وهي الآية ( ١٠٤ ).
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
( ٤ ) لا يظلمون فتيلا : لا ينقص من أجرهم وحقهم مقدار فتلة من خيط والعبارة لأجل التقليل وتمثيل الضآلة.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
( ٥ ) الجبت والطاغوت : أول المؤولون الجبت بالأصنام والطاغوت بما يشرك به الله عموما وهناك من أول الجبت بالسحر والطاغوت بالسحرة والكهان أو بسدنة الأصنام، والتأويل الأول هو الأوجه المتساوق مع مدى الآية.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
( ٦ ) نقيرا : قشرة النواة أو شقها أو نقرتها التي تكون في ظهرها. والقصد أقل شيء مهما كان تافها.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٤:( ١ ) يشترون الضلالة : أول المؤولون الجملة بمعنى يختارون الضلالة ويتعمدونها ويستبدلونها بالهدى. وهو وجيه ومتسق مع ما جاء في آيات عديدة مثل آيات البقرة ( ١٦ و ٤١ ) وآل عمران ( ٧٧ ).
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ( ١ ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( ٤٤ ) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ( ٤٥ ) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ( ٢ ) وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ( ٣ ) وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٤٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ( ٤٧ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٤ ) ( ٤٩ ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى به إِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٠ )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ٥ ) وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( ٥٢ ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا( ٦ ) ( ٥٣ ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( ٥٤ ) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ به وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( ٥٥ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً ( ٥٧ ) ﴾
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) الخ.
وما بعدها لآخر الآية ( ٥٧ )
عبارة الآيات واضحة. وفيها إشارات تنديدية إلى مواقف عداء وكيد وكفر وهزء وتمرد وتآمر بدرت من اليهود وحملة شديدة عليهم بسببها وكشف عن أخلاقهم وطبائعهم الكريهة ودعوة مجددة لهم إلى الإيمان بالرسالة المحمدية التي جاءت مصدقة لما معهم والسير في طريق الإخلاص والصلاح، وتذكير بما كان من نكال الله لأهل السبت منهم وإنذار بنكال مماثل إذا لم يستجيبوا بالإضافة إلى النار الأخروية الدائمة الرهيبة.
وهي فصل جديد لا يبدو أن له صلة بالفصول السابقة. وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزولها١ من ذلك أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في صدد ما كان اليهود يستعملونه من أساليب الخطاب التي كانوا يقصدون بها السخرية بالنبي والطعن في دينه ويقولون : إنه لو كان نبيا لعرف ذلك. وقد ذكروا في سياق ذلك اسم رفاعه ابن التابوت من زعمائهم وقالوا : إنه كان يلوي لسانه سخرية بالنبي ويطعن في الإسلام. وأن الآية الرابعة نزلت في صدد دعوة بعض أحبار اليهود أو يهود بني قينقاع إلى الإيمان وإبائهم. وأن الآية الخامسة نزلت في وحشي الحبشي قاتل حمزة ورفاق له، وكتبوا للنبي من مكة أنهم يريدون أن يتبعوه إذا كانت رحمة الله تتسع لذنوبهم، وفي رواية أنها نزلت جوابا على سؤال رجل من المسلمين عن احتمال غفران الله للشرك حينما نزلت الآية ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ( ٥٣ ) من سورة الزمر حيث سكت النبي عن الجواب فأعاد الرجل سؤاله مرتين ثانيتين فنزلت. وأن الآيتين السادسة والسابعة نزلتا في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي فسألوه : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا. فقالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما علمناه بالليل يكفر عنا بالنهار ؛ لأننا أحباء الله. وأن الآيتين الثامنة والتاسعة نزلتا في وفد زعماء من اليهود ذهبوا إلى مكة برئاسة زعماء بني النضير الذين تزعموا يهود خيبر بعد إجلائهم من المدينة ليحرضوا قريشا على النبي والمسلمين ويتحالفون معهم، فطلب القرشيون أن يسجدوا لأصنامهم، فأجابوهم وسألوهم بصفتهم أهل علم وكتاب عمن هو الأهدى أهم أم محمد ؟ فقالوا لهم : إنهم هم الأهدى وحلفوا لهم عند أصنامهم على وعدهم بنصرتهم عليه. وألصقوا أكبادهم بالأصنام كالمشركين. وأن الآية العاشرة نزلت بمناسبة انتقاد اليهود النبي على ما صار من تبدل حاله من ضعف إلى قوة وما صار يسير فيه من مظاهر السلطان أو بمناسبة ما ظهر منهم من حسد وغيظ مما آتى الله نبيه وأصحابه من نصر وفضل وهدى.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح من جهة، ومنها ما لا يستقيم مع موضوع الآيات وروحها وظروف نزولها من جهة أخرى وإن كان بعضها يتسق إجمالا مع مضمون الآيات ورواية نزول الآية في وحشي ورفاقه أوردت في سياق آيات الزمر ( ٥٤ـ ٥٩ ) وقد فندناها ونبهنا على عدم اتساقها مع روح الآية وظروفها.
والذي يتبادر لنا ويلهمه أسلوب الآيات ونظمها وانسجامها أنها سلسة تامة نزلت فصلا واحدا في حق اليهود. وهذا لا يمنع أن يكون قد بدر من اليهود بوادر عديدة في مناسبات مختلفة مما روته وما لم تروه. فجاءت الآيات تنعى عليهم وتندد بهم وتفضحهم وتنذرهم في سياق مناسبة من المناسبات لا نستطيع أن نعينها بجزم وإن كنا نظن أنها مناسبة ذهاب وفد اليهود إلى مكة لتحريض القريشيين على النبي والمسلمين وما فعلوه في مكة وما قالوه لقريش على ما ذكرته الروايات، وفيه اتساق لمضمون الآية ( ٥١ ) وهي أشد المناسبات استدعاء للحملة عليهم والتنديد بهم وإنذارهم بهذا الأسلوب القارع الذي جاء في الآيات. وقد يبدو لأول وهلة أن الآية ( ٤٨ ) لا صلة لها باليهود، غير أن المناسبة المذكورة تجعل صلتها بهم قائمة بل شديدة. فقد أعلنوا أيمانهم بالأصنام وحلفوا عندها وتبركوا بها أو سجدوا لها وقالوا لقريش المشركين : إنهم أهدى من محمد وهو الداعي إلى وحدة الله ومكارم الأخلاق. فجاءت الآية لتعظم جريمة الشرك ولتشير إلى هذا الموقف الشركي البشع ولتقول : إن الله وإن كان غفورا يغفر كل ذنب فهو لا يمكن أن يغفر ذنب الشرك به.
وننبه على أن في هذه السورة آية أخرى قريبة للآية ( ٤٨ ) وهي الآية ( ١١٦ ) غير أن هذه جاءت في سياق آخر ومدى آخر متصلين بالشرك العربي فكان أن اقتضت حكمة التنزيل التكرار. وبينما وصف مشركو العرب في الآية ( ١١٦ ) بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا وصف اليهود في الآية ( ٤٨ ) بأنهم افتروا إثما عظيما فتناسق الوصف مع كل من الفريقين.
وجملة ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) بعد التنديد بالذين يزكون أنفسهم بدون تعيين هويتهم تعيين هذه الهوية وكونهم اليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أحباء الله وأبناؤه وشعبه المختار الذين يرعاهم وهو رب إسرائيل٢ فكذبتهم الآية وأعلنت أن هذا افتراء على الله تعالى.
وهذا الفصل يدل على استمرار اليهود في مواقفهم التي وقفوها منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صدا عن سبيل الله ومكايدة وتشكيكا ووسوسة وتآمر وسوء أدب وهزء مع الزهو والتبجح وعريض الدعوى مما احتوته الفصول العديدة الطويلة في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أكثره، وتدل على أن هذا الاستمرار إنما كان ينشأ عن الغيظ الذي أكل صدورهم من انتشار دعوة النبي وتوطد أمره وسلطانه وعلى أن هذه المواقف كانت تحدث بعض النتائج المؤذية نفسيا وظرفيا للنبي والمسلمين.
ولعل أشنع ما حكته عنهم الآيات وأبشعه أن يدفعهم الحقد والحسد والعداء إلى الإيمان بالأصنام والسجود لها وعدم التورع عن الشهادة الفاجرة بأن المشركين هم أهدى من المسلمين الموحدين. وهو موقف يدمغهم بطابع من العار لا يمكن أن يمحى.
ومن المعلوم أن اليهود في المدينة كانوا ثلاث قبائل أو كتل وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد أجلي بنو قينقاع في السنة الثانية، وبنو النضير في السنة الثالثة، ونكل ببني قريظة في السنة الخامسة للهجرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والحشر والأحزاب. ولا بد من أن يكون هذا الفصل قد نزل وبعض هؤلاء موجود في المدينة يواجه النبي والمسلمين ويقف منهم هذه المواقف التي ذكرتها الآيات ؛ لأن الحملة لا يكون لها مكان لو كان نزل بعد جلاء جميع اليهود عن المدينة.
ورواية وفد اليهود إلى مكة تذكر أنهم كانوا زعماء بني النضير الذين حلوا بعد جلائهم عن المدينة في خيبر وتزعموا يهودها وقد نتج عن ذلك زحف الأحزاب على المدينة ومظاهرة بني قريظة لها على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وهكذا يمكن أن يقال : إن هذا الفصل نزل قبل التنكيل ببني قريظة، وأنه قد يكون شاملا في إنذاره وتنديده ليهود خيبر وزعماء بني النضير الذين تزعموهم أيضا. بل ليس هناك ما يمنع أن يكون نزل قبل جلاء بني النضير، وأن ما روي من مواقف الوفد اليهودي وأقواله في مكة كان في مناسبة أخرى والله أعلم. وروايات السيرة٣ تذكر أن زعماء بني النضير جاؤوا من خيبر إلى المدينة وألحوا على بني قريظة الذين بقوا فيها حتى نقضوا عهدهم مع النبي والمسلمين، وأن النبي زحف عليهم ونكل بهم عقب ارتداد الأحزاب عن المدينة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب.
وحكمة وضع هذا الفصل في مكانه من السورة خافية علينا ؛ لأنه لا يبدو له صلة بما سبقه وبما لحقه من آيات إلا أن يكون نزل بعد الآية السابقة له مباشرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه بعدها للمناسبة الظرفية.
وعلى كل حال فهو مثال آخر مما ذكره في مقدمة السورة عن كيفية تأليفها ؛ حيث يرجح أنه نزل قبل فصل وقعتي الأحزاب وبني قريظة اللتين ذكرتا في سورة الأحزاب المتقدمة على هذه السورة في روايات النزول.
وآيات الفصل تحتوي وصفا قويا لأخلاق اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من خبث ومكر وكيد ودس وتحريف كلام وليّ لسان وتبجح وزهو وغرور وتزكية نفس وسوء أدب وبخل بأي شيء مهما تفه على أي غريب وحسد لأية نعمة وخير وفضل يصيب غيرهم وطمع بما في أيدي غيرهم مع ما تفضل الله عليهم وعلى آبائهم من خيرات وبركات وملك عظيم، وعدم تورع عن أي تناقض مهما كان شديد البشاعة قوي الخزي ب
﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم به إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( ٥٨ ) ﴾
في الآية خطاب للسامعين الذين تلهم أنهم المسلمون بأن الله تعالى يأمرهم بحفظ الأمانات وردها إلى أصحابها. وبالعدل بين الناس إذا حكموهم في مشاكلهم وحكموا بينهم. وأعقب الأمرين تعقيب تنويه بهذه الأوامر وخطورة شأنها، وتنبيه على أن الله سميع بصير تجب مراقبته في كل موقف وعمل وحال.
تعليق على الآية
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل... ) الخ.
روى المفسرون روايات عديدة متفقة المدى مختلفة الصيغة في نزول الآية خلاصتها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم فتح مكة مفتاح الكعبة من سادنها عثمان ابن طلحة، ودخل إلى الكعبة، ثم خرج منها فسأله عمه العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بذلك السقاية والسدانة، فأنزل الله الآية فرد المفتاح إلى عثمان قائلا له : فخذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم وقال له إن الله قد أنزل في شأنه قرآنا وتلا الآية فكان هذا سبب إسلامه. والروايات لم ترد في الصحاح إلا حديث رواه الخمسة عن ابن عمر ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ المفتاح من عثمان ودخل الكعبة وصلى فيها دون ذكر لنزول الآية، ورد المفتاح إلى عثمان )١.
ويلحظ أن الآية جاءت في سياق نرجح أنه نزل قبل فتح مكة بمدة غير قصيرة، ولقد جاء بعد هذه الآية آية فيها أمر للمسلمين بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله، ثم آيات بعدها فيها حكاية لموقف وقفه المنافقون فيه صد عن التقاضي عند رسول الله ؛ حيث يجعل كل هذا صلة وثيقة بين الآية والآيات التي بعدها فضلا عن أنه لا تفهم أية حكمة في وضع آية في شأن وقع يوم الفتح المكي في هذا السياق. والذي يتبادر لنا نظرا للروايات العديدة التي تروى في مسألة مفتاح الكعبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هذا مفتاح إلى سادن الكعبة بتلقين هذه الآية التي روي أنه تلاها حينئذ، وأن الأمر التبس مع الرواة أن الآية نزلت حينئذ والله أعلم.
والآية وما بعدها فصل جديد كما هو المتبادر، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي. والله
أعلم.
والآية فصل تام لذاتها، ومن الآيات المحكمة وهذا ما جعلنا نوردها لحدتها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أنها في صدد تشريع عام بوجوب رد الأمانات والحقوق إلى أصحابها، والحكم بين الناس بالعدل، والحق وأن الخطاب فيها موجه لأولي الأمر من المسلمين وهذا سديد وجيه. غير أن إطلاق العبارة في الآية وتوجيه الخطاب بصيغة الجمع أولا، وموضوعه العام ثانيا، يجعلان الآية عامة التوجيه والشمول للمسلمين جميعهم عامتهم وحكامهم وأولي الأمر منهم في كل ظرف ومكان على ما هو المتبادر، ولا سيما إنه يكون أحيانا كثيرة عند الناس أمانات لبعضهم وينتدب أناس أحيانا كمحكمين بين غيرهم ؛ حيث يكون في هذا الإطلاق أولا، وفي تعبير ( الناس ) ثانيا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث إيجاب العدل وتقريره وحفظ الأمانات والحقوق وردها إلى المسلمين وأولياء أمرهم معا في كل وقت وبقطع النظر عن أي اعتبار وصفة وطبقة ونحلة وملة وجنس. وهذا من طوابع الشرع الإسلامي الخالدة. قد تكرر وروده بهذا الإطلاق في مواضع كثيرة من القرآن. منها ما مر ومنها ما يأتي، ومما يأتي آيتان في سورة المائدة : إحداهما تأمر المسلمين بأن لا يمنعهم أي عداء وبغضاء بينهم وبين الغير من العدل، وبأن يكونوا قوامين لله شهداء بالقسط في كل حال ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( ٨ ) وثانيتهما تأمر النبي بالحكم بين اليهود بالقسط إذا حكموه مهما بدا منهم من مواقف الدس والتحريض ( سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ( ٤٢ ) حيث ينطوي في الآيتين ما قلناه من انطواء الآية التي نحن في صددها على وجوب العدل بين الناس بقطع النظر عن أي اعتبار. ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية في سياق هذه الآية في صدد العدل في قضاء والأئمة العادلين والجائرين منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة. ومن ذلك حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن المقسطين عند الله على منائر من نور عن يمين الرحمان عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ) ٢ وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدانهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر ) ٣. وحديث رواه الترمذي كذلك عن رسول الله قال ( إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان ) ٤ وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث رواه أبو داود بسند صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله على جوره فله الجنة ومن غلب جوره على عدله فله النار ) ٥ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ) فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) ٦ وحديث رواه أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تعظيم لخطورة مهمة القضاء جاء فيه ( من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ) ٧.
وينطوي في الأحاديث تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني في واجب العدل بين الناس، كما ينطوي في الآية والأحاديث تقرير كون ذلك مبدأ محكما من مبادئ الدين الإسلامي الذي يجب على المسلمين وقضائهم وأمرائهم الالتزام به.
والآية احتوت أمر آخر وهو أداء الأمانات إلى أهلها. ولقد علقنا على موضوع الأمانة وخطورتها في كتاب الله وسنة رسوله، وأوردنا طائفة من الآيات والأحاديث في ذلك سياق تفسير الآيات الأولى من سورة ( المؤمنون ) فلا نرى ضرورة للتكرار ويحسن مراجعة ذلك حين قراءة هذا التعليق لتكون الصورة بارزة للقارئ.
على أن بعض الأئمة نبهوا على معان خاصة في الجملة الواردة في الآية ذلك. وفي تفسير القاسمي نبذة عن الإمام ابن تيمية خلاصتها : أن أداء الأمانات نوعان :
أحدهما : تولية أمور المسلمين إلى أهلها الأصلح لها فإن ذلك أمانة في عنق المسلمين وأولياء أمورهم. وأورد حديثا وصفه بالصحيح أخرجه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) وحديثا آخر رواه البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر قيام الساعة ) قيل : يا رسول الله وما إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله ) وأما ثاني نوعي أداء الأمانات فهو أداء المسلم ما اؤتمن عليه من مال وودائع ورهن الخ. وأورد في صدد ذلك أحاديث أوردناها في تعليقنا على آيات سورة ( المؤمنون ).
وفي تفسير رشيد رضا نبذة طويلة أيضا في صدد هذه الجملة جاء فيها فيما جاء أن أداء الأمانة يشمل بالإضافة إلى أداء مسلم ما اؤتمن عليه العلماء الذين يكون العلم فيهم بمثابة أمانة يجب عليهم أداؤها بما يفيد الناس. وبالأسلوب المفيد، بحيث يكون مخالفة هذا وذاك خيانة للأمانة. وأورد في صدد ذلك الآية ( ١٨٧ ) من سورة آل عمران التي تندد بالذين يكتمون ما أتوا من علم وينبذونه وراء ظهورهم ويشترون به ثمنا قليلا. ويشمل كذلك حفظ الأسرار التي يؤتمن المسلم عليها. ويشمل أمانة المسلم في معاملته مع غيره بصدق وإخلاص وحسن نية وبعد المكر والغش والاحتيال. وكل هذه الأقوال وجيه سديد. وفي الأحاديث النبوية تعليم وتلقين وتحذير واجب الالتزام.
ولم يترك مفسرو الشيعة هذه الآية ؛ حيث رووا عن بعض الأئمة أنها تعني أمانة الحكم والولاية للأئمة وأمر الله بتسليمها إليهم ؛ لأنهم أهلها. والتكلف والتعسف والهوى يطبع هذه الرواية كما هو ظاهر٨.
١ انظر التاج ج ٣ ص ٣٨٧.
٢ التاج ج ٣ ص ٤٥.
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر نفسه ص ٥٢.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه ص٥٣.
٧ المصدر نفسه.
٨ انظر الجزء الثاني من كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ص ١٧٣ و ١٨٩.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( ١ ) ( ٥٩ ) ﴾.
١ تأويلا : هنا بمعنى مخرجا وعاقبة ونتيجة ومصيرا. وهذه المعاني لا تخرج عن نطاق معنى الكلمة اللغوي الذي هو من آل بمعنى صار.
تعليق على الآية
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ )
وشرح ما في صددها من مبادئ وأحكام.
عبارة الآية واضحة وقد تضمنت أمرا للمسلمين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم. وبرد كل خلاف ونزاع بينهم في أي شيء إلى الله ورسوله. وقد جعلت الآية هذا دليلا أو شرطا لصحة إيمان المسلمين بالله واليوم الآخر. وقررت أن في ذلك الخير وأحسن الحلول والمخارج والأحكام.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية. منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أميرا على سرية اختلف في اسمه ؛ حيث روت رواية أنه عبد الله ابن حذافة، ورواية أنه خالد بن الوليد وأن أحد رجال السرية أجار شخصا من الذين أرادت السرية الإغارة عليهم أعلن إسلامه بدون الرجوع إلى أميره، فاعترض الأمير ورفع الأمر إلى النبي فأجاز الإجارة مع التنبيه على أن لا يتكرر ذلك بدون علم الأمير. فنزلت الآية لتوطيد طاعة الأمير. ومن الروايات أن تمردا وقع من أفراد سرية على أميرها، فشكى القائد إلى النبي فنزلت الآية بسبيل ذلك وبعض المفسرين ً١ يعزون بعض هذه الروايات باستثناء رواية خالد ابن الوليد إلى البخاري ومسلم والترمذي. ولم نجدها في الكتب التي بين أيدينا وخالد ابن الوليد لم يكن أسلم في ظروف نزول الآية على ما نرجح، ونخشى أن يكون اسمه قد أقحم لغرض دعائي ؛ لأن الرواية تذكر أنه اختلف مع عمار وصار بينهما تشاد وتشاتم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أبغض عمارا أبغضه الله... والذي يتبادر لنا أن الآية في صدد أعم مما جاءت في الروايات، وأنها هدفت إلى توطيد طاعة الله ورسوله وأولي الأمر على المسلمين بصورة عامة في مناسبة ما، مما كانت حكمة التنزيل تقتضيه في العهد المدني بسبب تركيب المجتمع الإسلامي فيه على ما نبهنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة الأنفال. ونرجح أن المناسبة التي نزلت فيها هي المذكورة في الآيات التالية لها على ما سوف ما نشرحه بعد بحيث يمكن أن يقال : إن السياق واحد، بل وإنه بدأ بالآية ( ٥٨ ) واستمر إلى الآية ( ٦٥ ) وهذا يبدو قوي الوضوح إذا ما أنعم النظر فيه. وبقطع النظر عن تعدد الروايات فإن ترجيحنا لا يمنع أن يكون وقع حادث اختلاف بين أمير سرية وأحد أفرادها أو جماعة منهم فرفع الأمر إلى رسول الله فتلا الآية بسبيل لا توطيد طاعة الأمير، فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى أعلم.
والآية على كل حال جملة تشريعية تامة مثل سابقتها. وهذا ما جعلناه نفردها عن السياق أيضا. وإطلاقها يفيد كما هو المتبادر أن ما احتوته هو تشريع مستمر للمسلمين في كل ظرف ومكان.
والجمهور متفقون على أن طاعة الله تتمثل في طاعة القرآن، والتزام ما فيه من حدود وأحكام ومبادئ وأوامر ونواه. وأن طاعة الرسول تتمثل في السير وفق أوامره ونواهيه وتعليماته وإرشاداته في حياته ووفق سننه القولية والفعلية بعد مماته.
وينطوي في الآية في الوقت نفسه تقرير كون القرآن والسنة هما المرجعان الرئيسيان اللذان يجب الرجوع إليهما في كل نزاع بين المسلمين والوقوف عند ما فيهما من حدود ورسوم. وهذا الواجب يترتب على المسلمين وعلى أولي الأمر منهم. وسواء أكان النزاع فيما بين المسلمين أو فيما بينهم وبين أولي الأمر منهم. ويتبادر لنا أن جملة ( فإن تنازعتم ) تعني أيضا الاختلاف في الاجتهاد والمواقف جدلا نظريا أو مواقف فعلية. ويلفت النظر بخاصة إلى نقطة هامة وهي أمر الآية برد الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله حصرا ؛ حيث ينطوي في هذا أنه ليس للمسلمين أن يردوا ذلك إلى أولى الأمر الذين أمرت الآية بطاعتهم بالإضافة إلى الله ورسوله. بل يكون كتاب الله وسنة رسوله هما الحكم في ذلك، وأنه ليس لأولي الأمر أن يصدوا في ذلك أوامر غير ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله وأن يحملوا المسلمين على طاعتهم فيما يصدرون.
على أن هناك ما يمكن قوله ففي القرآن والسنة تشريعات وأوامر ونواه محددة كما فيهما مبادئ وتلقينات وتوجيهات وخطوط عامة. وهذه بخاصة شاملة واسعة ؛ بحيث يسوغ القول : إن من الممكن على ضوئها حل كل نزاع أو مشكلة أو مسألة ليس فيها تحديد صريح وقطعي في كتاب الله وسنة رسوله. وهذا من أسرار ترشح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول فيما يتبادر لنا.
ومرجعية كتاب الله وسنة رسوله تصدق على هذه كما تصدق على تلك بطبيعة الحال.
والأمور المحددة القطعية في كتاب الله وسنة رسوله تظل محكمة لا يجوز فيها اجتهاد ولا تحويل ولا تبديل. أما عدا ذلك فيصح أن يجتهد في حله في نطاق المبادئ والتلقينات والتوجيهات والخطوط العامة في كتاب الله وسنة رسوله التي ذكرنا شمولها وسعتها. وفي هذه السورة هذه الآية ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم... ) ( ٨٣ ) التي يمكن على ما يتبادر لنا أن يقال على ضوئها : إن حل الأمور المتنازع فيها والتي يحتاج حلها إلى اجتهاد لعدم ورودها محددة وقطعية في كتاب الله وسنة رسوله يناط بأولي الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد والعلم. منهم الذين يؤهلهم علمهم وعقلهم وتجربتهم وممارستهم لاستنباط الأحكام من مآخذها. واستلهام تلك المبادئ والتوجيهات والتلقينات والخطوط العامة في كتاب الله وسنة رسوله. وقد يصح أن نذكر جملة ( وشاورهم في الأمر ) في الآية ( ١٥٩ ) من سورة آل عمران وجملة ( وأمرهم شورى بينهم ) في الآية ( ٣٨ ) من سورة الشورى في هذا السياق. وهذا شامل لكل ظرف ومكان وشأن كما هو المتبادر.
وننبه في هذه المناسبة على أن لعلماء الأصول في العصور الإسلامية الأولى تقريرات في الخطة التي ينبغي أن يسار عليها في حل ما ليس فيه في القرآن والسنة شيء صريح ومحدد يقوم على أساسا حل ذلك وفقا لإجماع علماء المسلمين.
وما لا يكون وما لا يمكن أن يكون فيه إجماع يسار فيها على مقتضى القياس على أمثال جرت في عهد النبي وخلفائه الراشدين. وما لا يكون فيه أمثال يسار فيه على الاستحسان أو الاستصلاح حسب الترتيب. مع واجب التنبيه على أن هذه التقريرات ليست مجمعا عليها ؛ حيث اختلف الأصوليون في إمكانية وواقعية الإجماع وحجيته. وفي الاعتماد على القياس وتعيين مداه أو التوسع فيه وفي الاستحسان والاستصلاح وظروفهما ومبرراتهما. وهناك من قال بإمكانية وواقعية حجية إجماع صدر الإسلام أو أصحاب رسول الله فقط ؛ لأن مجتهدي هذا العهد وعلماءه قليلون والرقعة غير منبسطة في حين أن المسلمين تفرقوا في أبعاد شاسعة. وصارت واقعية الإجماع وإمكانيته متعذرتين.
وهذا الخلاف من جهة وما هناك من خلافات اجتهادية، فما ليس فيه نص محدود وقطعي ورتب الأحاديث والأخذ بالاستحسان والقياس والمصالح وعدمه من جهة أخرى من أسباب تعدد المذاهب الفقهية في ذلك.
وهناك خلاف بين العلماء المتأخرين في وجوب الوقوف عند أقوال واجتهادات أئمة الفقه المشهورين، وفي جواز الاجتهاد لمن يؤهله علمه وخبرته وممارسته وعقله لاستنباط الأحكام من مآخذها فيما ليس فيه نص صريح أو محدد من قرآن وسنة. ونحن مع جواز ففضل الله لا يجوز حصره وتحريمه على أحد ولا زمن ولا جيل. وكتاب الله وسنن رسوله موجهة للمؤمنين في كل ظرف ومكان. وفي كتاب الله آيات كثيرة تهتف بالمؤمنين إطلاقا ليتدبروا كتاب الله ويتفكرون فيه ويعقلوه مع واجب القول : إن أقوال واجتهادات أئمة الفقه وعلمائه في القرون الإسلامية الأولى كنوز " ثمينة يجب أن تكون ملهمات ومآخذ لمن يتصدون للاجتهاد والنظر من المتأخرين.
وبديهي أن الأمر الذي تتضمنه الآية من جهة والإيمان بالله ورسوله من جهة أخرى موجبات إطاعة الله ورسوله وما يمثلهما من القرآن والسنن بدون قيد وشرط. أما أولو الأمر فقد رويت أحاديث عديدة تفيد أن طاعتهم منوطة بما فيه مصلحة المسلمين وما لا يتناقض مع ما في كتاب الله وسنن رسوله من أوامر ونواه وحدود وأنه لا طاعة لهم في معصية ولا فيما ليس فيه مصلحة للمسلمين ولا فيما يتناقض مع القرآن والسنة. من ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) ً٢ وحديث رواه مسلم عن أبي ذر قال ( أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف. وفي رواية إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا ) ً٣ وحديث رواه الشيخان عن عبادة ابن الصامت قال ( بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثره علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ) ً٤ وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم وإن أساؤوا فعليهم ) وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. وقد ورد في الصحاح أحاديث من بابه. منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية ) ً٥ وحديث رواه مسلم وأبو داود جاء فيه ( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ) فمن كره فقد برئ. ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قيل يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما وصلوا ) ً٦ وحديث رواه مسلم عن عرفجة قال ( سمعت رسول الله يقول : ستكون هناك هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان )٧ وحديث رواه مسلم عن عوف ابن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل : يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال : لا ما أقاموا الصلاة فيكم، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة )ً٨.
وكلمة منكم في الآية تعني أن أولي الأمر الذين تجب على المسلمين طاعتهم هم الذين يكونون منهم أي ( المسلمين ) وينطوي في هذا عدم جواز طاعة المسلم لحاكم أو سلطان أو أمير غير مسلم كما هو المتبادر.
وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بعدم الرضا لحكم الأجنبي والخضوع والاستسلام له وحفز المسلم على التمرد عليه والتخلص من سيطرته وبذل ما يستطيع من جهد في هذ
١ انظر تفسير ابن كثير والقاسمي.
٢ التاج ج ٣ ص ٤٠ ومعنى (فيما أحب أو كره) في الحديث الأول هو أن السمع والطاعة واجبة في غير المعصية سواء أحب المسلم ما أمر به أو كرهه.
٣ المصدر نفسه.
٤ التاج ج ٣ ص ٤٠ ـ ٤٢.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه.
١ الطاغوت : قال الجمهور إن الكلمة هنا عنت أحد حكام اليهود أو أحد كهان العرب.
﴿ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( ١ ) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ به وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ٦٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( ٦١ ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( ٦٢ ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( ٦٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ٦٤ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ٢ ) ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت :
( ١ ) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله علي النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدوا عن ذلك.
( ٢ ) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفاـ لا إيمانا ـ ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلها بالمعروف والحسنى.
( ٣ ) وإشارة تقريعية إليهم : فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
( ٤ ) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف ثم ارتضوا بحكمه رضاء تاما ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
( ٥ ) والتفاتا تأنيبيا إلى المحكي عنهم : فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ... ) الخ.
وما بعدها إلى آخر الآية ( ٦٥ )
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآية عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبي المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود : كعب ابن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير ابن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير ؛ لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك ٢ ومنها ٣ أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما : أنتما على ما قضى رسول الله، فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله، فاشتكى أهله إلى النبي فقال : ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيا عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) في الآية ( ٦٤ ) ثم الآية ( ٦٥ ) من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية ( ٥٩ ) والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة، وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسية الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدس والتمرد واللجاج التي يقفها مرضى القلوب اتجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية ( ٦٥ ) وقال : إن كل حديث صح عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديدة وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله : إن العلماء استدلوا بالآية على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نص الآية. ثم قال : والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله وإذا كان للعامي أن يتبع العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران ( ٢١ و ٢٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها، وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإن اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك. والله تعالى أعلم.
﴿ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( ١ ) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ به وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ٦٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( ٦١ ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( ٦٢ ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( ٦٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ٦٤ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ٢ ) ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت :
( ١ ) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله علي النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدوا عن ذلك.
( ٢ ) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفاـ لا إيمانا ـ ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلها بالمعروف والحسنى.
( ٣ ) وإشارة تقريعية إليهم : فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
( ٤ ) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف ثم ارتضوا بحكمه رضاء تاما ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
( ٥ ) والتفاتا تأنيبيا إلى المحكي عنهم : فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ... ) الخ.
وما بعدها إلى آخر الآية ( ٦٥ )
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآية عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبي المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود : كعب ابن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير ابن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير ؛ لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك ٢ ومنها ٣ أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما : أنتما على ما قضى رسول الله، فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله، فاشتكى أهله إلى النبي فقال : ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيا عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) في الآية ( ٦٤ ) ثم الآية ( ٦٥ ) من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية ( ٥٩ ) والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة، وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسية الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدس والتمرد واللجاج التي يقفها مرضى القلوب اتجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية ( ٦٥ ) وقال : إن كل حديث صح عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديدة وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله : إن العلماء استدلوا بالآية على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نص الآية. ثم قال : والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله وإذا كان للعامي أن يتبع العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران ( ٢١ و ٢٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها، وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإن اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك. والله تعالى أعلم.
﴿ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( ١ ) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ به وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ٦٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( ٦١ ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( ٦٢ ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( ٦٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ٦٤ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ٢ ) ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت :
( ١ ) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله علي النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدوا عن ذلك.
( ٢ ) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفاـ لا إيمانا ـ ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلها بالمعروف والحسنى.
( ٣ ) وإشارة تقريعية إليهم : فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
( ٤ ) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف ثم ارتضوا بحكمه رضاء تاما ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
( ٥ ) والتفاتا تأنيبيا إلى المحكي عنهم : فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ... ) الخ.
وما بعدها إلى آخر الآية ( ٦٥ )
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآية عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبي المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود : كعب ابن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير ابن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير ؛ لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك ٢ ومنها ٣ أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما : أنتما على ما قضى رسول الله، فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله، فاشتكى أهله إلى النبي فقال : ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيا عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) في الآية ( ٦٤ ) ثم الآية ( ٦٥ ) من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية ( ٥٩ ) والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة، وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسية الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدس والتمرد واللجاج التي يقفها مرضى القلوب اتجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية ( ٦٥ ) وقال : إن كل حديث صح عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديدة وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله : إن العلماء استدلوا بالآية على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نص الآية. ثم قال : والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله وإذا كان للعامي أن يتبع العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران ( ٢١ و ٢٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها، وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإن اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك. والله تعالى أعلم.
﴿ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( ١ ) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ به وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ٦٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( ٦١ ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( ٦٢ ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( ٦٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ٦٤ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ٢ ) ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت :
( ١ ) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله علي النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدوا عن ذلك.
( ٢ ) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفاـ لا إيمانا ـ ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلها بالمعروف والحسنى.
( ٣ ) وإشارة تقريعية إليهم : فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
( ٤ ) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف ثم ارتضوا بحكمه رضاء تاما ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
( ٥ ) والتفاتا تأنيبيا إلى المحكي عنهم : فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ... ) الخ.
وما بعدها إلى آخر الآية ( ٦٥ )
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآية عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبي المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود : كعب ابن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير ابن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير ؛ لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك ٢ ومنها ٣ أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما : أنتما على ما قضى رسول الله، فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله، فاشتكى أهله إلى النبي فقال : ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيا عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) في الآية ( ٦٤ ) ثم الآية ( ٦٥ ) من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية ( ٥٩ ) والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة، وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسية الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدس والتمرد واللجاج التي يقفها مرضى القلوب اتجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية ( ٦٥ ) وقال : إن كل حديث صح عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديدة وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله : إن العلماء استدلوا بالآية على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نص الآية. ثم قال : والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله وإذا كان للعامي أن يتبع العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران ( ٢١ و ٢٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها، وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإن اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك. والله تعالى أعلم.
﴿ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( ١ ) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ به وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ٦٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( ٦١ ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( ٦٢ ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( ٦٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ٦٤ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ٢ ) ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت :
( ١ ) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله علي النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدوا عن ذلك.
( ٢ ) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفاـ لا إيمانا ـ ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلها بالمعروف والحسنى.
( ٣ ) وإشارة تقريعية إليهم : فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
( ٤ ) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف ثم ارتضوا بحكمه رضاء تاما ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
( ٥ ) والتفاتا تأنيبيا إلى المحكي عنهم : فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ... ) الخ.
وما بعدها إلى آخر الآية ( ٦٥ )
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآية عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبي المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود : كعب ابن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير ابن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير ؛ لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك ٢ ومنها ٣ أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما : أنتما على ما قضى رسول الله، فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله، فاشتكى أهله إلى النبي فقال : ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيا عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) في الآية ( ٦٤ ) ثم الآية ( ٦٥ ) من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية ( ٥٩ ) والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة، وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسية الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدس والتمرد واللجاج التي يقفها مرضى القلوب اتجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية ( ٦٥ ) وقال : إن كل حديث صح عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديدة وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله : إن العلماء استدلوا بالآية على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نص الآية. ثم قال : والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله وإذا كان للعامي أن يتبع العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران ( ٢١ و ٢٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها، وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإن اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك. والله تعالى أعلم.
٢ شجر بينهم : نشب بينهم.
﴿ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( ١ ) وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ به وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ٦٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( ٦١ ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( ٦٢ ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ( ٦٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ٦٤ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ( ٢ ) ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت :
( ١ ) سؤالا فيه معنى التنديد بفريق من المسلمين يدعون الإيمان بما أنزل الله علي النبي والأنبياء من قبله ثم يناقضون أنفسهم فيريدون أن يتحاكموا إلى طاغية أمروا أن يكفروا بحكمه لأنه ليس من عند الله وبذلك يستسلمون لوساوس الشيطان التي تبعدهم عن جادة الحق والهدى وتورطهم في مهاوي الضلال العميقة. وإذا ما نبهوا إلى تصرفهم المنحرف ودعوا إلى التحاكم أمام النبي بما أنزل الله أبى المنافقون وصدوا عن ذلك.
( ٢ ) وتساؤلا آخر فيه معنى الإنذار والفضيحة لهم عما يكون أمرهم إذا حلت فيهم مصيبة من جراء انحرافهم عن الحق حيث كانوا يشعرون بالخزي ويتراجعون خوفاـ لا إيمانا ـ ويأتون إلى الرسول ليحلفوا له أنهم لم يريدوا صدا عنه ولا جحودا بما أنزل الله وأن نيتهم حسنة وأن كل ما أرادوه هو التوفيق في الخصومة وحلها بالمعروف والحسنى.
( ٣ ) وإشارة تقريعية إليهم : فالله يعلم ما في قلوبهم من سوء قصد وطوية. وعلى النبي أن لا ينزعج من موقفهم من جهة وأن يعظهم من جهة ثانية. ويؤنبهم بأسلوب قوي بليغ يؤثر فيهم ويجعلهم يدركون بشاعة تصرفهم.
( ٤ ) وتقريرا ربانيا فيه توطيد لواجب الطاعة للنبي والاحتكام إليه بأن الله تعالى لم يرسل رسولا للناس إلا أوجب عليهم طاعته وقيض له من يطيعه فعلا وبأن هؤلاء الذين يدعون الإسلام لن يصدقوا في إيمانهم إلا إذا تحاكموا لدى النبي في كل ما يقع بينهم من خلاف ثم ارتضوا بحكمه رضاء تاما ظاهرا وباطنا وسلموا به ونفذوه بدون لجاجة وتردد.
( ٥ ) والتفاتا تأنيبيا إلى المحكي عنهم : فلقد كان من واجبهم لو كانوا صادقين في اعتذارهم وحسن نيتهم أن يشعروا بشناعة موقفهم وظلم أنفسهم به وأن يسرعوا إلى النبي نادمين مستغفرين الله على ما بدا منهم وملتمسين من النبي أن يستغفر لهم الله. ولو فعلوا هذا لوجدوا الله توابا رحيما فيقبل توبتهم ويصفح عن زلتهم ويشملهم بعفوه.
تعليق على الآية
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ... ) الخ.
وما بعدها إلى آخر الآية ( ٦٥ )
ولقد روى المفسرون١ في صدد هذه الآية عدة روايات. منها أنها نزلت في يهودي ومنافق بينهما خصومة فطلب اليهودي الاحتكام إلى النبي وأبي المنافق ذلك وطلب الاحتكام إلى أحد طواغيت اليهود : كعب ابن الأشرف وكان شاعرا وعرف بشدة عدائه للنبي والمسلمين وكانوا يسمونه الطاغوت ومنها أنها نزلت في جماعة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام نفاقا واختلفوا مع جماعة من مسلمي الخزرج على مسألة قصاص ودية قتلى فقال المسلمون ننطلق إلى النبي فنحكمه فأبى المنافقون اليهود وطلبوا الاحتكام إلى كاهن اسمه أبو برزة الأسلمي. ومنها أن الخلاف على الدية كان بين فريقين من اليهود فطلب فريق الاحتكام إلى النبي ورفض الآخر وطلب الاحتكام إلى الكاهن المذكور. ومنها أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة خصومة على ماء بين الزبير ابن العوام وجار لأرضه من الأنصار حكم فيها النبي للزبير فطعن الأنصاري في حكمه واتهمه بمحاباة الزبير ؛ لأنه ابن عمته حتى تغير وجه النبي من ذلك ٢ ومنها ٣ أن هذه الآية نزلت في مناسبة احتكام شخصين إلى النبي في أمر فلم يرض المحكوم عليه بالحكم وطلب الاحتكام إلى أبي بكر فذهبا إليه فقال لهما : أنتما على ما قضى رسول الله، فطلب الاحتكام إلى عمر فلما سمع عمر كلامهما دخل بيته فتقلد سيفه ثم خرج فضرب به رأس الذي أبى حكم النبي فقتله، فاشتكى أهله إلى النبي فقال : ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن فنزلت الآية تنفي عن القتيل صدق إيمانه. وباستثناء الرواية التي فيها خصومة بين الزبير والأنصاري ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح وليس في حديث هذه الخصومة ما يفيد أن الآية نزلت في مناسبتها بأسلوب صريح. وهذا بالإضافة إلى أن الآية المذكورة تبدو كنتيجة للآيات السابقة. وهذا لا ينفي تلك الخصومة ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية فالتبس الأمر على الرواة.
وباستثناء رواية نزول الآيات في جماعة من اليهود المنافقين فإن الروايات الأخرى لا تتطابق مع الآيات. وجملة ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) قد تعني اليهود وبالتالي قد تجعل الرواية التي استثنيناها أكثر ورودا كما هو المتبادر كمناسبة لنزول الآيات التي تبدو وحدة منسجمة لتحتوي تنديدا باليهود المنافقين ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم القضائية. وما زلنا عند ترجيحنا بأن تكون الآيتان السابقتان لهذه الآيات نزلتا مع هذه الآيات لتكونا تمهيدا تشريعيا عاما في توطيد طاعة الله ورسوله وردّ الأمور إليهما والحكم بين الناس بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها.
ولعل جملة ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) في الآية ( ٦٤ ) ثم الآية ( ٦٥ ) من القرائن على ذلك حيث ينطوي فيهما توكيد بوجوب طاعة رسول الله وتحكيمه والرضاء بحكمه وهو تكرار بأسلوب آخر للأمر الوارد في الآية ( ٥٩ ) والله أعلم.
والآيات قوية حاسمة في صدد الهدف الذي استهدفته وفيها صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني وما كان يلقاه النبي من مواقف ومشاكل مزعجة ممضة، وبخاصة من المنافقين ومرضى القلوب. وقد انطوى فيها معالجة بأسلوب في منتهى الروعة والبلاغة امتزجت فيه الشدة والتنديد والتكذيب والإنذار بالعظة والرفق والتأميل والرغبة في الارعواء. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل أخلاقي واجتماعي. وبخاصة سياسية الرعية والحكم الصالح. بالإضافة إلى ما في الآيات من مثل ذلك في تقبيح مواقف الكيد والدس والتمرد واللجاج التي يقفها مرضى القلوب اتجاه الحق والعدل مما يمكن أن يحدث في كل ظرف ومكان.
ولقد وقف المفسر القاسمي عند الآية ( ٦٥ ) وقال : إن كل حديث صح عن رسول الله يدخل فيها بحيث إنه يتعين على كل مسلم أن يلتزم به في أي شأن كان وأن الذي لا يفعل ذلك يدخل في وعيد الآية الشديدة وأورد أقوالا للشافعي وابن تيمية في سبيل توكيد ذلك في سياق طويل.
ولقد وقف عندها رشيد رضا أيضا. وقال فيما قاله : إن العلماء استدلوا بالآية على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، وأن من بلغه حديث للرسول ورده بمخالفة قياسية فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان في نص الآية. ثم قال : والآية تدل من باب أولى على بطلان التقليد. فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ورسوله وإذا كان للعامي أن يتبع العلماء فليس معنى ذلك أن يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة. وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا على آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص.
والأقوال سديدة وجيهة وفي القرآن آيات أخرى مؤيدة لذلك مثل آيات آل عمران ( ٢١ و ٢٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وواضح أن هذا يقتضي التحري الشديد في سند الحديث ومتنه معا حتى تصبح صحته يقينية. ومع أن أئمة الحديث رحمهم الله قد بذلوا جهدا عظيما شكره الله لهم في تصنيف الأحاديث النبوية ونقد رواتها، وأنه صار هناك نتيجة لذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث الصحيحة التي يجب تلقيها بالقبول والوقوف عندها فإن اهتمامهم لتدقيق المتون لم يكن بقدر اهتمامهم لتدقيق الرواة مما أدى إلى إشكالات كثيرة. وهناك أحاديث توصف بالصحاح فيها أحكام متغايرة يمكن أن يكون بعضها متقدما على بعض وبعضها ناسخا لبعض أو بعضها أقوى من بعض أو بعضها يثير الحيرة لأنه يتعارض مع نصوص قرآنية ووقائع تعيينية. ولعل ما بين المذاهب الفقهية من خلافات ومناقضات ناتج عن ذلك. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا( ٦٦ )وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ( ٦٧ ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٦٨ ) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( ٦٩ ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا( ٧٠ ) ﴾.
في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به :
( ١ ) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك.
( ٢ ) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم ؛ لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون.
تعليق على الآية
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم... ) الخ.
والآيات الثلاث بعدها
وقد روى المفسرون١ أن مسلما ويهوديا تفاخرا فقال اليهودي : لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا. فقال مسلم : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريا محزونا فسأله عن سبب حزنه. فقال له : نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات.
والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة منسجمة وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه.
وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق والله أعلم.
هذا، والتنويه يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى ؛ حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حد )وكل حث وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو ابن مرة قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله : من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا، ونصب أصبعيه، ما لم يعق والديه ).
ولقد وقف المفسرون عند كلمة ( والشهداء ) في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله )٢ ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحض على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح والله أعلم.
ولقد وقفوا عند كلمة ( والصديقين ) وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله.
ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ). وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) ٣ ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة.
والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم.
ولمفسري الشيعة يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه ( إن كلمتي الصديق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة ) وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر.
١ انظر الطبري وابن كثير والخازن.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٩٦ والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.
٣ التاج ج ٥ ص ٥٠.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٦:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا( ٦٦ )وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ( ٦٧ ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٦٨ ) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( ٦٩ ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا( ٧٠ ) ﴾.
في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به :
( ١ ) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك.
( ٢ ) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم ؛ لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون.
تعليق على الآية
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم... ) الخ.
والآيات الثلاث بعدها
وقد روى المفسرون١ أن مسلما ويهوديا تفاخرا فقال اليهودي : لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا. فقال مسلم : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريا محزونا فسأله عن سبب حزنه. فقال له : نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات.
والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة منسجمة وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه.
وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق والله أعلم.
هذا، والتنويه يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى ؛ حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حد )وكل حث وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو ابن مرة قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله : من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا، ونصب أصبعيه، ما لم يعق والديه ).
ولقد وقف المفسرون عند كلمة ( والشهداء ) في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله )٢ ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحض على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح والله أعلم.
ولقد وقفوا عند كلمة ( والصديقين ) وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله.
ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ). وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) ٣ ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة.
والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم.
ولمفسري الشيعة يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه ( إن كلمتي الصديق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة ) وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر.
١ انظر الطبري وابن كثير والخازن.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٩٦ والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.
٣ التاج ج ٥ ص ٥٠.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٦:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا( ٦٦ )وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ( ٦٧ ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٦٨ ) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( ٦٩ ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا( ٧٠ ) ﴾.
في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به :
( ١ ) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك.
( ٢ ) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم ؛ لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون.
تعليق على الآية
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم... ) الخ.
والآيات الثلاث بعدها
وقد روى المفسرون١ أن مسلما ويهوديا تفاخرا فقال اليهودي : لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا. فقال مسلم : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريا محزونا فسأله عن سبب حزنه. فقال له : نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات.
والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة منسجمة وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه.
وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق والله أعلم.
هذا، والتنويه يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى ؛ حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حد )وكل حث وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو ابن مرة قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله : من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا، ونصب أصبعيه، ما لم يعق والديه ).
ولقد وقف المفسرون عند كلمة ( والشهداء ) في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله )٢ ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحض على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح والله أعلم.
ولقد وقفوا عند كلمة ( والصديقين ) وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله.
ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ). وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) ٣ ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة.
والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم.
ولمفسري الشيعة يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه ( إن كلمتي الصديق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة ) وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر.
١ انظر الطبري وابن كثير والخازن.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٩٦ والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.
٣ التاج ج ٥ ص ٥٠.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٦:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا( ٦٦ )وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ( ٦٧ ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٦٨ ) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( ٦٩ ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا( ٧٠ ) ﴾.
في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به :
( ١ ) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك.
( ٢ ) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم ؛ لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون.
تعليق على الآية
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم... ) الخ.
والآيات الثلاث بعدها
وقد روى المفسرون١ أن مسلما ويهوديا تفاخرا فقال اليهودي : لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا. فقال مسلم : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريا محزونا فسأله عن سبب حزنه. فقال له : نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات.
والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة منسجمة وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه.
وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق والله أعلم.
هذا، والتنويه يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى ؛ حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حد )وكل حث وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو ابن مرة قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله : من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا، ونصب أصبعيه، ما لم يعق والديه ).
ولقد وقف المفسرون عند كلمة ( والشهداء ) في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله )٢ ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحض على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح والله أعلم.
ولقد وقفوا عند كلمة ( والصديقين ) وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله.
ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ). وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) ٣ ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة.
والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم.
ولمفسري الشيعة يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه ( إن كلمتي الصديق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة ) وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر.
١ انظر الطبري وابن كثير والخازن.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٩٦ والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.
٣ التاج ج ٥ ص ٥٠.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٦:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا( ٦٦ )وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ( ٦٧ ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٦٨ ) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( ٦٩ ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا( ٧٠ ) ﴾.
في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلا قليل منهم. أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به :
( ١ ) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك.
( ٢ ) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم. ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم ؛ لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ونعمت هذه الرفقة. وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون.
تعليق على الآية
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم... ) الخ.
والآيات الثلاث بعدها
وقد روى المفسرون١ أن مسلما ويهوديا تفاخرا فقال اليهودي : لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا. فقال مسلم : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريا محزونا فسأله عن سبب حزنه. فقال له : نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره. رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات.
والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة منسجمة وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة. وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه.
وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق والله أعلم.
هذا، والتنويه يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى ؛ حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله. وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حد )وكل حث وكل نهي. وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو ابن مرة قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وصليت الخمس. وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله : من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا، ونصب أصبعيه، ما لم يعق والديه ).
ولقد وقف المفسرون عند كلمة ( والشهداء ) في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله )٢ ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى. ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحض على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح والله أعلم.
ولقد وقفوا عند كلمة ( والصديقين ) وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين. وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله.
ونحن نرجح القول الأول. ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ). وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) ٣ ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق. وقد علل ذلك بأنه شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله. فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة. وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم. وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة.
والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم.
ولمفسري الشيعة يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه ( إن كلمتي الصديق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد. وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة ) وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر.
١ انظر الطبري وابن كثير والخازن.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٩٦ والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح.
٣ التاج ج ٥ ص ٥٠.

( ١ ) ثبات : جماعة بعد جماعة أو سرية بعد سرية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ( ١ ) أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ( ٧١ ) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ( ٢ ) فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ( ٧٢ ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٧٣ )فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ( ٣ ) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٧٤ ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ( ٤ ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ٥ ) وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( ٧٥ ) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( ٦ ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( ٧ ) إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( ٧٦ ) ﴾.

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
( ٢ ) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.
( ٣ ) وتحريض للمؤمنين المخلصين فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند لله سواء أقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
( ٤ ) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحث عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقبض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
( ٥ ) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
وما بعدها لآخر الآية ( ٧٦ )
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد ؛ لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذين يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخد يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا١ فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر ـ وهو ما يلهمه مضمون الآيات ـ أن فريقا من المسلمين، والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآية داعية حاثة مهونة منددة، وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم ؛ لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان وهذه القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر ؛ لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
( ٢ ) ليبطئن : بمعنى التثبيط والتعويق عن القتال والتخويف منه
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ( ١ ) أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ( ٧١ ) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ( ٢ ) فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ( ٧٢ ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٧٣ )فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ( ٣ ) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٧٤ ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ( ٤ ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ٥ ) وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( ٧٥ ) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( ٦ ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( ٧ ) إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( ٧٦ ) ﴾.

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
( ٢ ) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.
( ٣ ) وتحريض للمؤمنين المخلصين فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند لله سواء أقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
( ٤ ) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحث عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقبض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
( ٥ ) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
وما بعدها لآخر الآية ( ٧٦ )
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد ؛ لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذين يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخد يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا١ فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر ـ وهو ما يلهمه مضمون الآيات ـ أن فريقا من المسلمين، والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآية داعية حاثة مهونة منددة، وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم ؛ لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان وهذه القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر ؛ لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ( ١ ) أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ( ٧١ ) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ( ٢ ) فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ( ٧٢ ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٧٣ )فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ( ٣ ) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٧٤ ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ( ٤ ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ٥ ) وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( ٧٥ ) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( ٦ ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( ٧ ) إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( ٧٦ ) ﴾.

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
( ٢ ) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.
( ٣ ) وتحريض للمؤمنين المخلصين فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند لله سواء أقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
( ٤ ) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحث عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقبض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
( ٥ ) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
وما بعدها لآخر الآية ( ٧٦ )
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد ؛ لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذين يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخد يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا١ فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر ـ وهو ما يلهمه مضمون الآيات ـ أن فريقا من المسلمين، والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآية داعية حاثة مهونة منددة، وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم ؛ لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان وهذه القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر ؛ لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
( ٣ ) يشرون : هنا بمعنى يبيعون على ما قاله المؤولون. وليس من مانع أن تكون في معناها اللغوي المعروف فيكون معنى الجملة ( الذين يشترون الحياة الآخر بالدنيا ) ولقد كان الخوارج يسمون أنفسهم ( الشراة ) على هذا المعنى على الأرجح واقتباسا من الكلمة ومداها على كل حال.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ( ١ ) أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ( ٧١ ) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ( ٢ ) فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ( ٧٢ ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٧٣ )فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ( ٣ ) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٧٤ ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ( ٤ ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ٥ ) وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( ٧٥ ) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( ٦ ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( ٧ ) إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( ٧٦ ) ﴾.

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
( ٢ ) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.
( ٣ ) وتحريض للمؤمنين المخلصين فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند لله سواء أقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
( ٤ ) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحث عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقبض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
( ٥ ) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
وما بعدها لآخر الآية ( ٧٦ )
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد ؛ لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذين يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخد يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا١ فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر ـ وهو ما يلهمه مضمون الآيات ـ أن فريقا من المسلمين، والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآية داعية حاثة مهونة منددة، وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم ؛ لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان وهذه القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر ؛ لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
والآية ( ٧٤ ) بخاصة جديرة بالتنويه والتنبيه من حيث انطوائها على أمر رباني حاسم لكل مسلم بأن يقاتل في سبيل الله دون حساب للعاقبة والنتيجة في الدنيا، ودون أن يكون قلة المقاتلين وكثرة الأعداء مانعتين لهم من القتال ودون مبالاة بالتثبيط والتبطيء اللذين يحاولهما مرضى القلوب إذا كان القتال هو السبيل الوحيد للدفاع عن الإسلام والمسلمين ولمكافحة الظلم والظالمين.
ولقد أورد الخازن في سياق هذه الآية حديثا ورد في صحيحي البخاري ومسلم بصيغة أوفى وهي ( تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة حين كلم لونه لون دم وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلّفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل. ولفظ البخاري لوددت أني أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل ) ١ حيث ينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين القرآني من حث وتشويق وترغيب بأسلوب نافذ. وهناك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم يحسن أن يورد في هذا المقام جاء فيه ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. ولفظ أبي داود ظاهرين على ما ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال. وفي لفظ مسلم لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) ٢ حيث ينطوي في الحديث بشرى وتطمين نبويان رائعان في مداهما بأن أمر الله تعالى وهتافه في الآية سوف يظل متحققا مطاعا.
١ التاج ج ٤ ص ٣٢٧.
٢ التاج ج ٤ ص ٣٠٤ و ٣٠٥.
( ٤ ) والمستضعفين : الذين استضعفهم الكفار فتسلطوا عليهم أو ضعفوا عن نضالهم والجملة المعطوفة على سبيل الله أي وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل إنقاذ المستضعفين ونصرتهم.
( ٥ ) القرية الظالم أهلها. جمهور المفسرين على أن الجملة تعني مكة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ( ١ ) أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ( ٧١ ) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ( ٢ ) فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ( ٧٢ ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٧٣ )فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ( ٣ ) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٧٤ ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ( ٤ ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ٥ ) وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( ٧٥ ) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( ٦ ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( ٧ ) إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( ٧٦ ) ﴾.

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
( ٢ ) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.
( ٣ ) وتحريض للمؤمنين المخلصين فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند لله سواء أقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
( ٤ ) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحث عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقبض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
( ٥ ) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
وما بعدها لآخر الآية ( ٧٦ )
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد ؛ لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذين يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخد يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا١ فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر ـ وهو ما يلهمه مضمون الآيات ـ أن فريقا من المسلمين، والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآية داعية حاثة مهونة منددة، وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم ؛ لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان وهذه القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر ؛ لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
( ٦ ) الطاغوت والشيطان : هنا مترادفان بمعنى الشيطان
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ( ١ ) أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا ( ٧١ ) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ( ٢ ) فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا ( ٧٢ ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٧٣ )فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ( ٣ ) الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٧٤ ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ( ٤ ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا( ٥ ) وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( ٧٥ ) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ( ٦ ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( ٧ ) إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( ٧٦ ) ﴾.

وفي هذه الآيات :

( ١ ) نداء موجه للمسلمين يؤمرون فيه بالحذر والاستعداد للعدو والنفرة إلى الجهاد جماعة بعد جماعة أو جمعا واحدا.
( ٢ ) وإشارة تنديدية إلى فريق منهم يثبط همم المسلمين عن الجهاد ويبطئهم فيه، ويظهر ارتياحه وغبطته إذا أصاب سرية من المجاهدين مصيبة وهزيمة لأنه لم يخرج فيها، ويعد ذلك من مظاهر نعمة الله عليه وعنايته به. ثم هو لا يخجل من حسد سرية يفتح الله عليها بنصر وغنيمة ولا يمنع نفسه من التمني أن لو كان فيها فيكون له نصيب فيما نالته كأنه لم يكن بينه وبين أفرادها مودة توجب عليه أن يفرح لما تناله من نصر وغنيمة ويحزن لما يصيبها من مصيبة وهزيمة.
( ٣ ) وتحريض للمؤمنين المخلصين فعلى الذين يفضلون الآخرة على الدنيا وما عند الله على ما في الحياة أن يقاتلوا في سبيل الله. ووعد لهم بعظيم الأجر عند لله سواء أقتلوا وماتوا شهداء أم انتصروا وفازوا على الأعداء.
( ٤ ) وسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والحث عن سبب قعود القاعدين من المسلمين عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المسلمين الذين تسلط عليهم الكفار في مكة وأرهقوهم بالأذى والظلم مما جعلهم يجأرون إلى الله مبتهلين أن يهيء لهم أسباب النجاة من الظالمين وبلدهم وأن يقبض لهم نصيرا ينصرهم وينقذهم.
( ٥ ) وبيان لحالة المسلمين والكفار من القتال على سبيل التحريض والحث أيضا. فالمؤمنون إذا قاتلوا فإنما يقاتلون في سبيل الله ولهم منه التأييد والأجر في حين أن الكفار إنما يقتلون في سبيل الشيطان. فعلى المؤمنين أن لا يهابوا الكفار فإنما هم يقاتلون أولياء الشيطان وإن كيد الشيطان ضعيف لن يقف أمام تأييد الله ونصره.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
وما بعدها لآخر الآية ( ٧٦ )
والآيات فصل جديد أو بالأحرى جزء من فصل جديد ؛ لأن الآيات التالية لها استمرار لها موضوعا وسياقا. وليس بينها وبين السياق السابق وموضوعه صلة. وإن كان يلمح شيء من التناسب بينها وبين سابقتها من حيث إنها تحتوي تنديدا بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الجهاد في سبيل الله ودعوته والمجاهدين مشابها للتنديد الذي احتوته الآيات السابقة بفريق من المسلمين يقف موقفا غير مستحب من الاحتكام لرسول الله والتسليم بحكمه. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها بسبب اتصال ظرف النزول أو تكون نزلت لحدتها في وقت آخر ووضعت بعد الفصل السابق بسبب ذلك التناسب.
ولم يرو المفسرون على ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. والذين يتبادر لنا ويلهمه مضمونها وروحها أنها نزلت في ظرف أخد يصل فيه إلى النبي أخبار عن اشتداد الأذى والضغط على المسلمين المستضعفين الذين تسلط عليهم أقاربهم في مكة ومنعوهم من الالتحاق بالنبي وقد ذكرت ذلك الروايات وذكرت أسماء بعضهم معا١ فأخذ النبي يستثير حمية المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله وسبيل إنقاذهم وإزعاج الكفار في مكة من أجل ذلك. ويظهر ـ وهو ما يلهمه مضمون الآيات ـ أن فريقا من المسلمين، والمرجح أنهم من المنافقين ومرضى القلوب كانوا يقفون من ذلك موقف المعارض المثبط. فكان ذلك كله سبب نزول الآية داعية حاثة مهونة منددة، وفي كل هذا صور من صور السيرة النبوية في العهد المدني.
وليس في الآيات ما يساعد على تعيين الظروف التي نزلت فيها الآيات وإن كان من الممكن أن يلمح فيها وفي الآيات التالية لها قرينة على أنها نزلت في وقت مبكر.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة وشاملة وأوجبت على المسلمين واجبات دائمة واحتوت علاجا روحيا يمدهم بالقوة. فالجهاد ضد من يناصبهم العداء ويتربص بهم الدوائر واجب. والاستعداد له والحذر منه وعدم الاطمئنان بما يبدو منه أحيانا من سكون واجب. ومساعدة المسلمين لإخوانهم المستضعفين الذين توقعهم الظروف في أيدي الأعداء وتحكم البغاة والطغاة لتحريرهم منهم واجب. والتكاسل عن هذه الواجبات تقصير يسخط الله والتثبيط عنها إثم منكر عنده. والإقبال عليها عنوان على الإيمان والإخلاص والمقبلون عليها مؤيدون بنصر الله ونائلون للأجر العظيم عنده. وليس لأعدائهم قوة روحية تساعدهم على الصبر الدائم ؛ لأنهم يسيرون بوساوس الشيطان وهذه القوة متوفرة للمسلمين لأنهم يجاهدون في سبيل الله. ولهم الفوز والأجر العظيم على كل حال سواء غلبوا أو غلبوا وقتلوا.
يضاف إلى هذا ما في الصورة التي رسمتها الآيات للمنافقين ومرضى القلوب والجبناء من تلقين مستمر ؛ لأنها من الصور التي تظهر في كل ظرف من ظروف الجهاد والنضال حيث تعمد هذه الفئات إلى التثبيط والتعويق والتخويف ولا تتورع عن إظهار الحسد والغيظ إذا كان فوز ونصر، والشماتة والفرح إذا كانت هزيمة ومصيبة. والجملة القرآنية تنطوي على تقبيح هذه الفئات والتشنيع عليهم والإهابة بالمسلمين إلى اجتناب أخلاقهم وحضهم على الوقوف منهم موقف الشدة والزراية.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( ٧٧ ) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ( ١ ) وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( ٧٨ ) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( ٧٩ ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ( ٨٠ ) ﴾.
في هذه الآيات :
( ١ ) تساؤل إنكاري وتعجبي في مقام التنديد بفريق من المسلمين بسبب ارتياعهم من فرض القتال عليهم وإظهارهم الخوف من الناس كخوفهم من الله أو أشد وتساؤلهم تساؤل الفزع المستنكر عن سبب فرض ربهم القتال عليهم وتمنيهم أو لو أخره مدة أخرى مع أن منهم من كانوا يستعجلونه ولم يؤذن لهم به، واكتفى منهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأمروا بكف أيديهم عن القتال.
( ٢ ) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنا مهونا : فمدة الدنيا قصيرة ومتاعها تافه ضئيل. والآخرة خير وأبقى لمن يتقي الله ويستجيب لأوامره. ولن ينقص من أجرهم عنده شيء إذا ساروا في طريق واجبهم وماتوا قبل إتمامه. والموت عليهم محتم حينما يأتي أجلهم وهو مدركهم سواء أكانوا في ساحات القتال أم في حصون عالية منيعة.
( ٣ ) وحكاية تنطوي على التقريع لما كان يقوله هذا الفريق فإذا أصابتهم حسنة قالوا إنها من الله وإذا أصابتهم سيئة قالوا إنها من النبي بسبب أوامره وحركته. وأمر للنبي بالرد عليهم بأن كل ذلك من الله وأن قولهم هذا لا يصدر إلا عن أناس لا يكادون يفهمون معنى الكلام ومرماه ومداه.
( ٤ ) وتقرير قرآني مباشر وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما أصابه من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه، وبأن الله تعالى إنما أرسله رسولا مبلغا والله شهيد على كل شيء وكفى به شهيدا. وبأن الرسول إنما يبلغ أمر الله فمن أطاعه فإنما يطيع الله ومن أعرض عن الاستجابة إلى ما يدعو إليه ويأمر به فليس عليه تبعة فإن الله لم يرسله ليكون مسؤولا عن أعمال الناس ومكلفا بحفظهم من الانحراف والإعراض.
تعليق على الآية
( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال... )
الخ وما بعدها إلى آخر الآية ( ٨٠ )
ولقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل من التابعين١ في صدد الآية الأولى رواية تفيد أن بعض كبار المسلمين وأقويائهم مثل : عبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد ابن الأسود استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بمقابلة أذية المشركين لهم وللمسلمين بالمثل وقالوا له : لقد كنا ونحن مشركون في عز ونكون الآن في ذل إذا رضينا بما يفعله فينا المشركون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم ؛ لأن الله لم يكن قد أذن بذلك وأمرهم بالصبر والمثابرة على ما كتب الله عليهم من صلاة وزكاة فلما فرض القتال على المسلمين بعد الهجرة وأذن لهم بقتال أعدائهم وأخذ النبي يدعوهم إلى ذلك ارتاع بعض المستأذنين وبدا منهم ما حكته الآيات. ومن الذين رووا هذه الرواية من روى أن الاستئذان وقع من أصحاب رسول الله الأولين وأن الاعتراض بدا من المنافقين. ومنهم من روى أن الاعتراض وقع حين نزول فرض الجهاد ثم تاب المعترضون وصاروا يستجيبون لدعوة النبي إلى الجهاد بإخلاص باستثناء المنافقين. وهناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآية نزلت في اليهود الذين فعلوا في سابق تاريخهم ما حكته الآيات تحذيرا للمسلمين من أن يصنعوا صنيعهم وقد رووا٢ في صدد الآية الثانية أن الفقرة الأولى منها نزلت ردا على المنافقين الذين قالوا إنه لو لم يخرج الذين قتلوا في وقعة أحد إلى القتال لما قتلوا وأن الفقرة الثانية منها حكاية لقول اليهود والمنافقين بأن النبي منذ قدم إلى المدينة جلب عليها وعلى أهلها المصائب لما كان من سوء المواسم وقلة الخصب ثم حكاية لقولهم إن نصر بدر كان من تيسير الله وفضله وإن هزيمة أحد كانت بسبب سوء تدبير النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس شيئا من هذه الروايات واردا في الصحاح. والذي يتبادر لنا وتلهمه الآيات مضمونا وروحا أنها وحدة منسجمة لا تتحمل هذا التقطيع والتفاوت في الفترات الذي يفيده تعدد الروايات وتباعد ظروفها وأن الآيات مع سابقاتها ولاحقاتها سياق واحد. وأن ما فيها من حكاية الفزع والارتياع من فرض الجهاد متصلة بالدعوة الواردة في الآيات السابقة. وأن ذلك إنما كان من المنافقين ومرضى القلوب الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وأقوالهم. وأن الآيات استهدفت فيما استهدفته توكيد الحث على الجهاد وتوكيد واجب طاعة النبي وتسليته في هذا الموقف الممض الذي يقفه بعض المتظاهرين بالإسلام من الدعوة إلى الجهاد ومن التبرم به والتشاؤم منه. ولقد روت الروايات أن الحركات الجهادية الأولى بعد الهجرة وقبل وقعة بدر كانت من قبل المهاجرين فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذا عهدا من الأنصار بالدفاع عنه ومن أجل هذا استشارهم قبل نشوب القتال في وقعة بدر فكان منهم ذلك الموقف الرائع على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات البقرة ( ١٩٠ ١٩٤ و ٢١٥ ٢١٨ ) وفي سياق تفسير السورة الأنفال. وعلى ضوء هذا يمكن القول إن المعنيين في الفقرة الأولى هم أهل المدينة الذين لم يكلفوا في بدء الأمر بحرب وقتال هجومي واكتفى منهم بالدفاع والقيام بواجب الصلاة والزكاة. فلما كتب القتال وقف المنافقون هذا الموقف الذي حكته الآيات فنزلت الآيات تندد بهم. وفي سورة محمد آية تؤيد كون المنافقين هم أصحاب هذا الموقف وهي ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ٣٠ طاعة... ) حيث تفيد أن المؤمنين المخلصين كانوا ينتظرون منذ أوائل عهد المدينة أن يأذن الله لهم بالقتال، وأن المنافقين وقفوا نفس الموقف الذي حكته الآيات التي نحن في صددها حينما أنزلت آية محكمة فرض فيها القتال أو ذكر فيها القتال وظهر عليهم الفزع الشديد كالذين يغشى عليهم من الموت.. وبناء على هذا نستطيع القول بشيء من الجزم : إن ما تفيده الرواية من كون بعض المسلمين الأولين الذين كانوا يستأذنون النبي بمقابلة المشركين على أذاهم وعدوانهم في مكة فلا يؤذن لهم أو بعض والذين حكت الروايات ذلك عنهم في سياق تفسير بعض الآيات المكية ومنها آية سورة الجاثية ( ١٤ ) على ما شرحناه في سياقها هم أو بعضهم الذين خافوا واعترضوا حينما كتب الله على المسلمين الجهاد لا يمكن أن يكون صحيحا لاسيما والروايات مجمعة على أن السرايا والحركات الجهادية التي جرت قبل وقعة بدر إنما كانت منهم ومن أمثالهم حالما أذن الله لهم بمقابلة العدوان بمثله وبمقابلة أعدائهم المشركين الذين كانوا يقاتلونهم ويؤذونهم في آيات سورة الحج ( ٣٩ ٤١ ) وسورة البقرة ( ٢١٥ ) على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
ويمكن القول والحالة هذه : إن هذه الآيات قد نزلت كذلك مبكرة كسابقاتها.
وربما نزلت بعد وقعة بدر أو وقعة أحد. ولعل هذا من أسباب جعل هذه السورة في ترتيبها المتقدم بعض الشيء. وهذا الفصل مثل آخر مما قلناه في مقدمة السورة من وجود فصول فيها متقدمة في النزول على فصول في سور أخر متقدمة عليها في الترتيب.
تعليق على الجملة
( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ) وعلى جملة ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ).
ولقد كانت هاتان الجملتان موضوع بحوث كلامية٣ وقد توهم بعضهم أن بينهما تناقضا، وقد تصدى المفسر الخازن للتوفيق بينهما فقال : إن إضافة كل شيء إلى الله هي على الحقيقة، وإن إضافة السيئة للإنسان هي على المجاز لبيان كون ذلك بسبب ذنب اقترفه أو تقصير وقع فيه ومن قبيل ( وإذا مرضت فهو يشفين ) في الآية ( ٨٠ ) من سورة الشعراء حيث احتوت الجملة حكاية قول إبراهيم الذي نسب المرض وأسبابه لنفسه والشفاء لله تعالى.
ولقد تصدى السيد رشيد رضا في تفسير للمسألة فقال : إن فيها حقيقتين الأولى كون الله تعالى خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار وواضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان. والثانية كون الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه استبانة الأسباب وتعرف السنن. ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا من سياق الآيات وروحها أنها لا تتحمل حيرة ولا جدلا. ولم تستهدف تقرير أصول كلامية. وأن التقريرات التي احتوتها هي ما اقتضاه سياق الكلام وظروفه. ففي الجملة الأولى حكاية لأقوال المنافقين الذين كانوا ينكرون أن ما نالهم من خير هو من بركة هجرة النبي إليهم وينسبونه إلى الله حتى لا يعترف بفضل هذه الهجرة وليس عن إيمان صادق. وكانوا في نفس الوقت ينسبون ما يصيبهم من كوارث حربية وغير حربية إلى النبي وهجرته إليهم. فنددت الآية الأولى بأقوالهم وردت عليهم. ثم احتوت الآية الثانية تقريرا توضيحيا وتعقيبيا على ذلك. فما يصيب النبي أو الإنسان من خير وتوفيق فهو من فضل الله حيث يكون قد سار وفق توجيهه. وما يصيبه من شر فهو من نفسه حيث يكون انحرف عن هذا التوجيه. وعلى هذا فلا يكون في الجملتين ما يفيد عدم مسؤولية الإنسان عن عمله وعدم تأثير تقصير الإنسان فيما يقع عليه أحيانا من مصائب ونوائب. وهذه النقطة بخاصة أكثر ما دار حولها الجدل. مع أن في القرآن المكي والمدني تقريرات عديدة صريحة ومحكمة في ذلك. وهي التي ينبغي أن تكون الضابط في ما تحتويه العبارة القرآنية في بعض الآيات من إطلاق وعدم حسم مما تكون اقتضته حكمة التنزيل وسياق الكلام وظروفه على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة.
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن كلمة ( حسنة ) في الجملة الأولى عنت ما كان يناله المقاتلون من غنائم ونصر ورخاء، وأن كلمة ( سيئة ) فيما عنت ما كان ينالهم من شظف وهزيمة وجراح. وكانوا يقولون : إن ما ينالهم من هذا هو من سوء تدبير النبي ومن ذاك هو من فضل الله ولا أثر للنبي فيه. وأن الآية بسبيل الرد عليهم وتسفيههم. كما روى قولهم : أن الجملة الثانية إما أن تكون موجهة للسامع مطلقا أو للنبي صلى الله عليه وسلم لتؤذنه بأن ما يصيبه من خير هو من فضل الله وما يصيبه من شر هو عقوبة على ما اجترحت يداه.
وهذا التأويل يدعم ما قلناه من أنه ليس في الآيات تناقض ولا
١ انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
٢ انظر الشرح السابق.
٣ انظر الآيات في تفسير الكشاف للزمخشري وذيله لابن المنير.
( ١ ) بروج مشيدة : البروج هنا بمعنى الحصون العالية. وهناك من قرأ ( مشيدة ) بضم الميم وتشديد الياء بمعنى المبنية بالجص الأبيض الذي كان من أسباب متانة البناء، وهناك من قرأها بفتح الميم وكسر الشين مزينة أو حصينة.
سورة النساء
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية. وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجناية والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية ؛ لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد. ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول : إن هذه السورة ألفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة١. ولعل ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة، فألحقت بها ؛ لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا، ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله ابن مسعود قال :( ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة ) وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لاحظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا٢ وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.
١ انظر كتابنا سيرة الرسول ج٢ ص ٩ والإتقان ج١ ص ١٠ـ ١٢.
٢ الإتقان ج١ ص ١٨.
سورة النساء
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية. وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجناية والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية ؛ لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد. ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول : إن هذه السورة ألفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة١. ولعل ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة، فألحقت بها ؛ لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا، ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله ابن مسعود قال :( ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة ) وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لاحظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا٢ وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.
١ انظر كتابنا سيرة الرسول ج٢ ص ٩ والإتقان ج١ ص ١٠ـ ١٢.
٢ الإتقان ج١ ص ١٨.
سورة النساء
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية. وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجناية والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية ؛ لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد. ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول : إن هذه السورة ألفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة١. ولعل ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة، فألحقت بها ؛ لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا، ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله ابن مسعود قال :( ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة ) وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لاحظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا٢ وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.
١ انظر كتابنا سيرة الرسول ج٢ ص ٩ والإتقان ج١ ص ١٠ـ ١٢.
٢ الإتقان ج١ ص ١٨.
( ١ ) ويقولون طاعة : ويقولون سمعا وطاعة لما تقول.
( ٢ ) فإذا برزوا : فإذا خرجوا.
( ٣ ) بيّت : نوى في نفسه. وأصل التبييت ما يقرر في الليل من أمور وهجوم العدو على عدوه ليلا مفاجأة وهو غار في ليله ونومه وبيوته. ومنه جملة ﴿ أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ﴾ في آية سورة يونس ( ٥٠ ).
﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ( ١ ) فَإِذَا بَرَزُواْ( ٢ ) مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ( ٣ ) طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ٨١ ) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ( ٨٢ ) ﴾.

وفي الآيتين :

( ١ ) إشارة تنطوي على التنديد بالفريق الذي هو موضوع التقريع في الكلام السابق، حيث كانوا يقولون سمعا وطاعة لما كان النبي يأمرهم به، ثم لا يلبثون حينما يخرجون عنده أن يقرروا فيما بينهم خطة مخالفة لما أبرموه ووافقوا عليه.
( ٢ ) وتنديد رباني لهم فالله مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم ونياتهم ومجزيهم بما يستحقون.
( ٣ ) وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهوين لأمرهم : فلا ينبغي أن يعبأ أو ينزعج من مواقفهم وليجعل اتكاله على الله ونعم هو الوكيل والمعتمد.
( ٤ ) وتساؤل إنكاري ينطوي على التقريع لهم والتعجب من أمرهم : فالنبي إنما يتلو عليهم القرآن الذي يوحي به الله إليه. وإنما يأمرهم بالسير بمقتضى أمر الله فيه. ولو تدبروا فيه لما وجدوا فيما يتلوه عليهم ويأمرهم به اختلاف وتناقض. وهذا دليل على أنه من عند الله عز وجل. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا واستمرار لها. وفيها صورة أخرى من صور مواقف المنافقين الذين هم موضوع الكلام والتنديد في الآيات السابقة. وهي صورة خبيثة ممضة ؛ ولذلك انطوى في الآيتين جواب وتحد قويان وتسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد تلهم الآية الثانية أن المنافقين كانوا يظنون أن ما كان يأمر به النبي هو من عنده أو أنهم كانوا يشكون فيما يتلو من الفصول القرآنية بسبب ما كانوا يرونه من تنوع الأساليب. وقد نددت الآية بهم ؛ لأنهم يظنون يشكون بغير نظر وتدبر. وقررت أنهم لو نظروا فيه وتدبروا لما وجدوا أي اختلاف في حين لو كان من عند غير الله لوجدوا من ذلك الشيء الكثير.
﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ( ١ ) فَإِذَا بَرَزُواْ( ٢ ) مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ( ٣ ) طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ٨١ ) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ( ٨٢ ) ﴾.

وفي الآيتين :

( ١ ) إشارة تنطوي على التنديد بالفريق الذي هو موضوع التقريع في الكلام السابق، حيث كانوا يقولون سمعا وطاعة لما كان النبي يأمرهم به، ثم لا يلبثون حينما يخرجون عنده أن يقرروا فيما بينهم خطة مخالفة لما أبرموه ووافقوا عليه.
( ٢ ) وتنديد رباني لهم فالله مراقبهم ومحص عليهم أعمالهم ونياتهم ومجزيهم بما يستحقون.
( ٣ ) وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهوين لأمرهم : فلا ينبغي أن يعبأ أو ينزعج من مواقفهم وليجعل اتكاله على الله ونعم هو الوكيل والمعتمد.
( ٤ ) وتساؤل إنكاري ينطوي على التقريع لهم والتعجب من أمرهم : فالنبي إنما يتلو عليهم القرآن الذي يوحي به الله إليه. وإنما يأمرهم بالسير بمقتضى أمر الله فيه. ولو تدبروا فيه لما وجدوا فيما يتلوه عليهم ويأمرهم به اختلاف وتناقض. وهذا دليل على أنه من عند الله عز وجل. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا واستمرار لها. وفيها صورة أخرى من صور مواقف المنافقين الذين هم موضوع الكلام والتنديد في الآيات السابقة. وهي صورة خبيثة ممضة ؛ ولذلك انطوى في الآيتين جواب وتحد قويان وتسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد تلهم الآية الثانية أن المنافقين كانوا يظنون أن ما كان يأمر به النبي هو من عنده أو أنهم كانوا يشكون فيما يتلو من الفصول القرآنية بسبب ما كانوا يرونه من تنوع الأساليب. وقد نددت الآية بهم ؛ لأنهم يظنون يشكون بغير نظر وتدبر. وقررت أنهم لو نظروا فيه وتدبروا لما وجدوا أي اختلاف في حين لو كان من عند غير الله لوجدوا من ذلك الشيء الكثير.
تعليق على الآية
﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾.
ولقد تعددت الروايات المفسرين عن أهل التأويل في صدد الاختلاف الذي كان يمكن أن يجدوه في القرآن لو كان من عند غير الله. من ذلك : الخلط والتناقض فيما هو حق وما هو باطل، وما هو خير وما هو شر، وما هو صواب وما هو خطأ. ومن ذلك أنه التفاوت البياني حيث لا يأتي القرآن على وتيرة واحدة أو طبقة واحدة من البلاغة والفصاحة. ومن ذلك أنه التناقض في الأخبار والتقريرات الغيبية والكونية. ومن ذلك أنه التناقض في التحليل والتحريم والحل والإباحة. ومن ذلك أنه التناقض في المبادئ والمقاصد. وأكثر هذه الأقوال معزوة إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
ومع أن جميع هذه الأقوال واردة في صدد مدى الآية العام، فإن الذي يتبادر لنا ونراه متسقا مع سياق الآيات السابقة والآيتان جزء من السياق كما قلنا أن المنافقين اتخذوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكف الأيدي عن القتال ثم فرضه والدعوة إليه، وهذه ما أشير إليه في بعض الآيات السابقة حجة للقول بأن النبي متناقض في أوامره ونواهيه. فاحتوت الآية ما احتوته من رد وتحد على النحو الذي شرحناه بأسلوب قوي التقرير بأن ذلك هو الحق الذي لا يتحمل مراء.
ومع أن المتبادر أن ذلك التقرير متصل مباشرة بموضوع الكلام السابق على ما نبهنا عليه فإن الرد والتحدي جاءا بأسلوب عام مطلق ينطبقان ويشملان كل ما جاء في القرآن المكي والمدني على السواء إذا ما نظر فيه بتدبر وتفكر مرتفعين إلى مستوى سمو الهدف القرآني ومجردين عن الغرض والتعنت والرغبة في المراء واللعب بالألفاظ والتمحل في المسائل الوسائلية والمتشابهات، حيث يجد المتدبر فيه بهذه الروح أن الأسس والمبادئ والأهداف والتقريرات والآيات المحكمات الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية متساوقة متطابقة تامة الانسجام والأحكام ليس بينها اختلاف وتناقض. وما قد يراه من تنوع وتبدل لا يعدو أن يكون أسلوبيا وصورا تطورية وخطوات تشريعية اقتضتها ظروف الدعوة وسيرها وظروف المجتمع الذي نزلت فيه لأول مرة، واقتضتها كذلك أهداف التدعيم. وليس هذه مع ذلك متناقضة أو جامدة لتكون محل تطبيق في الظرف الذي نزلت فيه فقط وهي في الوقت نفسه متساوقة مع الأسس والأهداف والمبادئ. ومن الأمور الهامة في هذا الأمر وجوب اعتبار القرآن كلا متكاملا يوضح بعضه بعضا ويتمم بعضه بعضا ويعطف بعضه على بعض. والناظر فيه إذا استوعب كل ما فيه واجد لكل ما قد يبدو له موهما تفسيرا، ولكل ما قد يبدو له ناقصا تتمة، ولكل ما قد يثير الحيرة تأويلا، ويلمس بالتالي المعجزة الكبرى التي فيها مصداق الآية الكريمة ولقد اهتممنا بهذه المسألة في مناسبات كثيرة مرت في السور التي سبق تفسيرها ففسرنا بعض الآيات ببعض وعطفنا بعضها على بعض وأتممنا بعضها ببعض فأثبتنا بالنصوص ما قررته الآية. ومن واجب المسلم على كل حال أن يؤمن بالآية. فإذا لم يستطع أن يستوعب القرآن ولم يتبين له تأويل لما قد يتوهمه أو ما يظنه مشكلا في إحدى الآيات فعليه أن يسأل أهل العلم المستوعبين أو يكل الأمر إلى الله تعالى ولا يجوز أن يظن أن في القرآن اختلافا وتناقضا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة أوردناها في سياق تفسير آية المحكمات والمتشابهات في سورة آل عمران تذكر غضب رسول الله من الجدل القرآن وتنهى عن ضرب بعضه ببعض وتقرر أن الله إنما أنزله ليصدق بعضه بعضا وتأمر بإيكال ما لم يتبين لناظره الوجه الحق لتأويله وحكمته إلى الله تعالى. حيث ينطوي فيها تلقين نبوي يجب الالتزام به وتأييد لما قررناه آنفا.
﴿ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ به ( ١ ) وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ( ٢ ) مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ٨٣ ) ﴾.
١-أذاعوا به : أفشوه بين الناس.
٢-الذين يستنبطونه : الذين يستطيعون معرفة الحقيقة فيه. والاستنباط في اللغة استخراج ما في الباطن وأكثر ما كان يطلق على استخراج الماء من جوف الأرض.
في هذه الآية :
( ١ ) تنديد بالمنافقين الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق لأنهم كانوا مما يفعلونه حينما يصل إليهم خبر من أخبار الحرب والسياسة وسواء أكان سارا أو مسيئا ومطمئنا أو مثيرا للخوف أن يذيعوه بين الناس.
( ٢ ) وبيان لما كان يوجبه عليهم الإخلاص والطاعة والإيمان وهو إبلاغه لرسول الله ولأولي الأمر منهم والوقوف عند هذا الحد، حيث ينظر النبي وأولوا الأمر في الأمر ويستعينوا بأهل الخبرة في معرفة الحقيقة ويتصف في الأمر وفقا لما تقضي به المصلحة.
( ٣ ) وتذكير للمسلمين بفضل الله تعالى ورحمته وعنايته وهدايته. وأنهم لولا ذلك لكان أكثرهم متبعين للشيطان.
تعليق على الآية
( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ به وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ … )
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. والمتبادر أنها متصلة سياقا وموضوعا بالآيات السابقة أيضا. وفيها صورة خبيثة ممضة أخرى من مواقف المنافقين. وتوطيد لسلطان النبي صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر والعلم. وتأديب للمسلمين فيما يجب أن يسيروا عليه في مثل هذا الموقف وتقريع للذين يخالفون ذلك.
والمقصد من ذكر أولي الأمر مع الرسول يحتمل أن يكون كما هو المتبادر إيجاب رد الأمر إلى أولي الأمر أو الرؤساء في حال غيبة الرسول عنهم أو غيبتهم عنه أو في حالة وجودهم في سرية جهادية، حيث كان قواد السرايا يلقبون بالأمراء وبأمراء المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم١.
ومع خصوصية الآية الزمنية، فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي صدد ما يجب على أفراد المسلمين أم على أولي الأمر منهم، فليس للأفراد أن يقوموا بأعمال منفردة مما هو متصل بشؤون الدولة وأمنها وسلامتها. وعليهم حينما يتصل بعلمهم خبر متعلق بمثل ذلك أن يرفعوه إلى أولي الأمر فيهم. وعلى أولي الأمر أن يوكلوا أمور الدولة ومسائل سلامتها وأمنها إلى الخبراء المختصين أو يستشيروا فيها الخبراء المختصين أو يفعلوا الأمرين معا ؛ لأنهم هم القادرون على فهم الأمور واستنباط الحقائق من الوقائع وتحديد ما هو الأفضل والأصلح والأقوم. وقد يتفرع عن هذا أنه ليس للأفراد أن ينفردوا في تنفيذ ما قد يتراءى لهم من أعمال متصلة بشؤون الدولة. فهذا من شأن أولي الأمر والحل والعقد والعلم والخبرة. وعلى الأفراد أن يرفعوا ما يتراءى لهم أن فيه مصلحة إلى هؤلاء وأن يسمعوا ويطيعوا لهم. فإن الانفراد في ذلك مؤد إلى الفتنة والفوضى فضلا عن أنه غير مضمون الصواب.
والآية وإن كانت للتنديد بمن يتسرع في إذاعة ما يبلغه من أمر متصل بالأمن والخوف، فإنه يتبادر لنا أن تلقينها شامل لكل من يتسرع في الكلام على عواهنه ويندمج في إشاعة الشائعات بغير تثبت وبكثير من الخوض فيما ليس فيه خير ومصلحة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية بعض الأحاديث النبوية التي تنهى عن ذلك حيث يكون هذا المفسر قد استلهم منها ما ستلهمناه من التلقين العام. ومما أورده حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ) ٢ وحديث رواه الشيخان عن المغيرة ابن شعبة قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال ) وحديث رواه أبو داود جاء فيه :( بئس مطية الرجل زعموا ) وهناك أحاديث أخرى يمكن أن تساق في هذا المساق منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وفي رواية إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها سبعين خريفا في النار ) ٣ وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) ٤ وحديث رواه الترمذي والحاكم وأحمد عن علي ابن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ٥.
وفي الأحاديث تلقين وتأديب نبويان رائعان استلهمناهما من الآية من الشمول والله أعلم.
وكما أول بعض المفسرين جملة ( وأولي الأمر ) في الآية ( ٥٩ ) من هذه السورة بعلماء الدين وفقهائه أوّلوا الجملة هنا بذلك أيضا. وقالوا : إن على الأفراد أن يردوا كل أمر من أمور الدين إليهم ويسيروا وفق ما يستنبطونه من قواعد وأحكام٦ ولقد علقنا على ذلك ورجحنا أن المقصود بأولي الأمر هم أولوا الأمر السياسيون والعسكريون في الدرجة الأولى.
والعبارة القرآنية هنا أكثر صراحة ودلالة على كون المقصود بأولي الأمر هم أصحاب الحكم والسلطان والقيادة لأن الأمر الذي يجب على الناس رده إليهم هو مسائل الأمن والخوف وبعبارة ثانية مسائل الحرب والسياسة.
على أن محتوى الآية يمكن أن يكون موضع قياس من حيث إيجاب رد كل شيء إلى أولى العلم والخبرة والشأن فيه والسير فيه وفق ما يستنبطونه من مآخذه القرآنية والنبوية والأمثلة والعرف والمصلحة وحيث يدخل في ذلك الشؤون الفقهية والشؤون الاجتماعية والسياسية والحربية.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن ذلك منوط بقدرة هؤلاء على الاستنباط علما وعقلا وخبرة وأنه شامل لكل ظرف ودور.
ولقد روى الطبري أقوالا عديدة في مدى جملة ( إلا قليلا ). منها أنهم أكابر أصحاب رسول الله. ومنها أنهم القادرون على الاستنباط ومعرفة الحقائق منهم. ومنها أنهم الذين لا يذيعون ما يصل إليهم ويرفعونه إلى الرسول وأولي الأمر والعلم.
وجميع هذه الأقوال واردة. مع القول : إن روح العبارة تسوغ القول بأنها هدفت إلى تحذير الجمهور من التصرف الفردي الاعتباطي ورفعها إلى القادرين على التصرف فيها وهم عادة الأقل. والله تعالى أعلم.
١ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٨ ـ ٤٩.
٢ التاج ج ٥ ص ٤٢.
٣ المصدر نفسه ص ١٨٣.
٤ المصدر نفسه ص ١٨٦.
٥ المصدر نفسه ص ١٨٦.
٦ انظر تفسير الآية في المنار حيث عزى القول إلى الرازي، ورد السيد رشيد رضا عليه ردا قويا محكما.
﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( ٨٤ ) ﴾.
الخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتضمن :
( ١ ) تقرير ما يجب عليه : فعليه أن يقاتل في سبيل الله. وهو في هذا الأمر مسؤول عن نفسه غير ملزم بإجباره غيره. وعليه كذلك أن يحرض المؤمنين على القتال.
( ٢ ) وتأميلا للنبي والمؤمنين فعسى الله إذا ما وقفوا من الأعداء موقف الاستعداد والجهاد والتضامن أن يكف عنهم بأسهم وضررهم ويعينهم. وهو القادر على ذلك لأنه الأشد بأسا والأشد تنكيلا.
تعليق على الآية
( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك )
ومسألة الإجبار على الجهاد والجندية.
وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة دعوة النبي المسلمين إلى الخروج إلى موعد أبي سفيان الذي واعده بعد وقعة أحد من سنتها القابلة حيث تثاقل الناس. فأعلن النبي بناء على هذه الآية أنه ذاهب إلى الموعد ولو بنفسه فانضم إليه من أصحابه سبعون ووصلوا المكان المتفق عليه وهو بدر فلم يجدوا أعداءهم لأن أبا سفيان أخلف الوعد بحجة الجدب١.
والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ولم يروها الطبري، ولكنا نرى صحتها محتملة بل إنه يرد على الخاطر أن السياق السابق منذ الآية ( ٧١ ) قد نزل والله أعلم في هذه المناسبة، فمن المحتمل أن يكون فريق من المسلمين المستجدين أو الذين في قلوبهم مرض ولم يرسخ إيمانهم قد ترددوا في الاستجابة إلى دعوة النبي إلى الخروج للقاء المشركين القرشيين بناء على موعد أبي سفيان وتذمروا بعد أن وقع عليهم ما وقع من هزيمة وخسائر في وقعة أحد فنزلت الآيات منددة مذكرة منذرة واعظة، ثم جاءت الأخيرة التي نحن في صددها لحسم الموقف، فأوجبت على النبي القتال بنفسه على كل حال وأعفته من المسؤولية عن غيره والاكتفاء بتحريض المسلمين على القتال.
وفي الآية ثم في الآيات السابقة لها من الآية ( ٧٠ ) وما بعد صورة لما كان عليه الحال حين نزولها في أمر الجهاد كما هو المتبادر، حيث كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوطد توطيدا يجعله قادرا على التجنيد الإجباري إن صح التعبير. وقد استمر هذا طيلة حياته أيضا على ما تفيده آيات عديدة منها فصل طويل في سورة التوبة نزل في مناسبة غزوة تبوك التي كانت في السنة التاسعة للهجرة، ولعل ذلك متصل بحياة العرب الاجتماعية والمعاشية. غير أن المنافقين وبعض المسلمين في المدينة والبادية كانوا يقفون نتيجة لذلك مواقف سلبية من دعوة النبي إلى الجهاد ويتثاقلون ويترددون فكان ذلك مما يؤلم النبي ويحزنه ويثيره وقد نزل في ذلك آيات قوية منددة منذرة. ومن أقوى ما نزل في هذا الباب آيات التوبة هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ٣٨ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ٣٩ ﴾ وآيات سورة الصف هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ٢ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون٣ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ٤ ﴾.
وفي الآية معنى قوي، حيث تأمر النبي بقتال من يجب قتاله في سبيل الله ولو كان وحده ؛ لأن عليه أن يقوم بهذا الواجب على كل حال. والفرق بين هذه الآية والآية ( ٧٤ ) هو أن الآية ( ٧٤ ) هتفت بكل من يشري الحياة الدنيا بالآخرة أن يقاتل ويدخل في الهتاف النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وجماعات المسلمين وأفرادهم بعده، في حين أن هذه الآية توجب ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم شخصيا ولو كان لوحده ولقد قال بعضهم٢ : إن الله لم يأمره بذلك إلا لما عرف من شجاعته وقدرته على مواجهة أعدائه مهما كثروا ويتبادر لنا أن ما ذكرناه هو الأكثر وجاهة وورودا. وفي الآية ( ٧٤ ) دعم لذلك حيث تأمر كل مسلم ولو كان فردا بالقيام بهذا الواجب.
ولقد أورد ابن كثير٣ حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال :( سألت البراء ابن عازب عن الرجل يلقي المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال : لا. لقد قال الله تعالى لنبيه ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) والحديث ليس من الصحاح، ولكنه صحته محتملة وهو تفسير لأحد كبار أصحاب رسول الله لآية متطابق مع مداها نصا وروحا وفي النطاق تبادر لنا أنه الأوجه والله تعالى أعلم.
ونستطرد إلى القول أنه ليس في هذا فيما نعتقد ما يمنع السلطان في الإسلام على إجبار القادرين من المسلمين على التجنيد والقتال ضد البغي والعدوان إذا قدر على ذلك. فالجهاد فرض من فروض الإسلام كالزكاة. وكونه فرض كفاية لا يضعف من فرضيته. ولقد ضلت أساليب الدعوة إلى أداء الزكاة هي الأخرى في نطاق الترغيب والترهيب والتشويق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان هذا هو المتسق مع الحياة الاجتماعية والمعاشية القائمة. ثم صار السلطان الإسلامي آمرا مجبرا عليها، وصار هذا الإجبار نظاما محكما من أنظمة الدولة في عهد أبي بكر ومن بعده حتى إن أبا بكر قاتل الممتنعين عن أداء الزكاة واعتبرهم مرتدين عن الإسلام. فليس ما يمنع أن يقاس الجهاد على الزكاة وأن يكون للسلطان الإسلامي حق إجبار القادرين عليه في نطاق ما تتطلبه المصلحة من ضمان سلامة المسلمين وكيانهم وحريتهم ودفع الأذى والبغي عنهم. وفي سورة التوبة آية تأمر بالمناوبة في النفرة إلى الجهاد وتجعل ذلك كفرض على مختلف فئات المسلمين وهي هذه ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ولعلهم يحذرون ) والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا، ومع خصوصية الآية الزمنية من حيث صلتها بالسيرة النبوية وبشخص النبي الكريم فإن فيها تلقينا جليلا شاملا وهو أن على كل مسلم أن يعتبر نفسه مخاطبا بالآية ؛ لأن له الأسرة الحسنة برسول الله. وأن على كل مسلم حينما يدعو داعي القتال في سبيل الله والقيام بواجب من الواجبات التي تتصل بمصلحة المسلمين العامة وأمنهم وسلامتهم أن يسارع إلى ذلك ويقدم عليه دون أن يعتذر بغيره أو يبالي بكثرة عدوه وصعوبة العمل المدعو إليه. وأن هذا مما يجب كذلك ومن باب أولى على أولى الأمر وأصحاب الشأن في المسلمين مع واجب آخر هو أن يكونوا في الطليعة في الإقدام على القيام بذلك الواجب ليكونوا الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة لغيرهم.
ولقد ضرب الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه المثل العظيم في ذلك بعد رسول الله حينما نشبت حركة الردة، واتسع نطاقها حيث أبى أن يتراجع أو يتساهل حينما طلب إليه بعض كبار أصحابه ذلك بسبب الظروف الصعبة وخوفا من تفاقم الخطب فقال قولته الشهيرة بأنه لو لم يبق إلا وحده لقاتلهم٤.
١ انظر تفسير الآيات في الخازن والطبرسي وانظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٠ ـ ١٠٢.
٢ انظر تفسير الآية في كتب الخازن ورشيد رضا.
٣ أورد ابن كثير صيغة أخرى مقاربة برواية للإمام أحمد أيضا.
٤ انظر تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٧٦ وبعدها.
﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ( ١ ) شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ( ٢ ) مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا( ٣ ) ٨٥ ﴾.
( ١ ) من يشفع : قيل في تأويلها في مقامها إنها من شفاعة الناس بعضهم ببعض أو بعضهم لبعض وقيل إنها بمعنى التأييد والمساندة والموالاة ولعل هذا المعنى أكثر ورودا في مقامها مع سياق الآيات.
( ٢ ) كفل : هنا بمعنى نصيب أو قسم أو تبعة
( ٣ ) مقيتا : قادرا أو مراقبا أو حسيبا
في الآية تقرير عام يتضمن كون الذي يدعو إلى الخير ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه الحسنة. وكون الذي يدعو إلى شر ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه السيئة والله قادر على كل شيء مجز كلا بما يستحق.
تعليق على الآية
( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها... ) الخ.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية. ولكنهم رووا عن بعض التابعين أنها نزلت في شفاعات الناس في بعضهم أو لبعضهم١ وقد صرف الطبري الشفاعة الحسنة إلى الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ضد الكفار الأعداء والشفاعة السيئة إلى موالاة ضد المسلمين.
والذي يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة وأن القصد من الشفاعة الحسنة هو الدعوة إلى الجهاد وتعضيده والإقدام عليه. ومن الشفاعة السيئة التثبيط عنه والمعارضة فيه. وهذا وذاك كان من متناول الآيات السابقة تنويها وتنديدا، ويأتي بعد الآية التالية لهذه الآية آيات فيها حملة وتحريض على المنافقين موضوع الكلام السابق حيث يؤيد هذا ما قلناه من صلة الآية بالسياق السابق وكونها استمرارا له.
ولقد رأينا رشيد رضا يذكر وجها آخر لتأويل الآية، وهو أن من المحتمل أن يكون بعضهم اعتذر عن المنافقين الذين يقفون من الدعوة إلى الجهاد موقف المثبط والمتثاقل. أو يكون بعضهم تشفعوا فيهم فنزلت الآية لتنبههم إلى أن لكل صاحب شفاعة نصيبا من مدى شفاعته. من يشفع في مقام فيه خير ومصلحة يكن مصيبا وله الحسنى. ومن يشفع في مقام فيه شر وضرر لمصلحة المسلمين يكن مخطئا وعليه وزر ذلك. ولا يخلوا هذا من وجاهة. وهو متصل بمدى الآية وشرحنا لها. ويجعل الاتصال بينها وبين ما قبلها قائما أيضا.
وينطوي في الآية تلقين مستمر المدى بتجنيد كل دعوة إلى الخير والسعي فيه وتقبيح كل دعوة إلى الضرر والسعي فيه، وتبشير لفاعلي الخير والساعين فيه والداعين إليه وإنذار الضرر والساعين فيه والداعين إليه.
ولقد اعتبر المفسرون الآية كما قلنا في صدد الشفاعة أي الوساطة بين الناس في قضاء مصالحهم وتجنيبهم ضرر بعضهم. والعبارة القرآنية بإطلاقها تتحمل هذا أيضا. ولقد أوردوا في سياق ذلك حديثا نبويا في حث على الشفاعة بين الناس جاء فيه عن أبي موسى قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل، فأقبل علينا بوجهه وقال : اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء ) ٢.
١ انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.
٢ انظر تفسير الآيات في الخازن وابن كثير وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بزيادة مهمة وهذا هو نصه (عن أبي موسى عن النبي قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه، وكان جالسا إذا جاء رجل يسأل، أو صاحب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال: اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء) انظر التاج ج ٥ ص ٤٩ و ٥٠.
﴿ وإذا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ( ٨٦ ) ﴾.
في الآية خطاب موجه للمسلمين فيه تنبيه على أنهم إذا ما حياهم أحد بتحية فواجبهم أن يجيبوا عليها بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وأن الله محص على الناس أعمالهم ومحاسبهم عليها.
تعليق على الآية
( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها... ) الخ.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وكلام المفسرين فيها كلام عن آية مستقلة فيها تأديب وتعليم للمسلمين في صدد السلام. والذي يتبادر لنا أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة كسابقاتها اتصال تعقيب وعظة وتأديب وتمثيل. فالمسلمون قد دعوا إلى الجهاد وهي دعوة إلى الخير. والمنافقون يقفون من هذه الدعوة موقف المعارضة والتثبيط. وواجب المسلمين الإجابة على الدعوة وأن لا يقصروا في ذلك أو يثبطوا عنها كما هو الأمر في حالة ما إذا حيوا بتحية. حيث يجب عليهم أن يقابلوها بما هو أحسن منها أو بمثلها.
والآية بحد ذاتها فصل تام المعنى تحتوي تلقينا تأديبيا رفيعا للمسلمين في كل ظرف بوجوب مقابلة التحية بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وروحها تلهم أن التلقين التأديبي شامل للتحية أو الكلمة الطيبة أو الدعوة الطيبة أو العمل الطيب على السواء وتوجب على المسلم حسن المقابلة على أي قول وعمل فيه خير وأدب وعطف وبر ونفع.
وإطلاق الجملة القرآنية وصيغة المجهول في جملة ( وإذا حييتم ) تسوغان القول عن الأمر فيها عام يشمل كل فئة من الناس بقطع النظر عن الجنس والدين والعمر.
ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في السلام وآدابه ومنها ما رواه أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة وفيها تأييد للشمول الذي ذكرناه آنفا.
ومن ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم )١ وحديث عن أبي هريرة رواه الترمذي ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام ) ٢ وحديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن النبي ( يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير )وحديث عن أنس رواه الترمذي قال ( قال لي النبي : يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك ) ٣ وحديث عن سيار رواه الخمسة قال ( كنت أمشي مع ثابت البناني فمر بصبيان فسلم عليهم وقال : كنت أمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنس أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم ) ٤ وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أنس جاء فيه ( انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا ) ٥ وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت زيد قالت ( مر علينا النبي في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم٦ وحديث رواه البخاري والترمذي عن أسامة ابن زيد جاء فيه ( إن النبي مر بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم ) ٧ وحديث رواه أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ) ٨ وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة قال ( قال النبي : إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة ) ٩ وحديث رواه الترمذي عن أبي جريّ أن النبي قال ( إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل : السلام عليكم ورحمة الله ) ١٠ وحديث عن جابر أن النبي قال ( السلام قبل الكلام ) ١١ وعنه قال ( لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلم ) وكلا الحديثين رواهما الترمذي بسند واحد.
وحديث رواه الترمذي وأبو داود جاء فيه ( قيل يا رسول الله : الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام أولاهما بالله ) ١٢ ولقد أثر عن ابن عباس أنه قال ( من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا ) ١٣.
وجمهور العلماء متفقون على أن البدء بالسلام سنة مستحبة والرد عليه واجب والممتنع عن الرد آثم١٤ وهذا متسق مع روح الآية ومضمونها.
ولقد روى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه ( إن بعض أصحاب رسول الله قالوا له إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم فقال : قولوا وعليكم ) ١٥ ومع هذا الحديث أحاديث مفسرة ومعللة منها حديث عن ابن عمر عن النبي رواه البخاري ومسلم وأبو داود جاء فيه ( إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم : السام عليك، فقولوا وعليك ) ١٦ ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت ( دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا : السام عليك : ففهمتها فقلت : عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله، مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : فقد قلت وعليكم ) وفي رواية لمسلم ( فسمعت عائشة فسبتهم فقال رسول الله : مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) ١٧ وواضح من هذا أن التعليم النبوي متصل بما كان من مواقف اليهود الكيدية والعدائية والمؤذية، بحيث يسوغ القول : إنه ليس من شأنه أن يمنع المسلم من رد التحية على غير المسلم بأحسن منها أو بمثلها إذا كانت بريئة من الكيد واللمز صادرة عن رغبة المسالمة والموادة عملا بنص الآية وبنص آية سورة الممتحنة هذه ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين٨ ) بل وليس من شأنه أن يمنع المسلم من التسليم على جماعة من أهل الكتاب أو فيهم أهل كتاب استنادا إلى الحديث الذي رواه البخاري والترمذي الذي أوردناه آنفا. والله أعلم.
ويلحظ أن بعض الأحاديث لا تقتصر في تلقينها على التساوق مع الآية في إيجاب رد التحية بالأحسن أو بالمثل بل احتوت تأديبا ببدء الغير بالتحية أيضا. وليس في هذا تناقض مع الآية وإنما هو توضيح وتتمة نبويان واجب الالتزام بهما أيضا.
ولقد علقنا في سورة الزخرف على موضوع السلام في القرآن والحديث ومداه فننبه على ذلك في هذه المناسبة.
١ التاج ج ٥ ص ٢٢٣.
٢ المصدر نفسه ص ٢٢٢ ـ ٢٢٨.
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر نفسه.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه.
٧ التاج ج ٥ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٨.
٨ المصدر نفسه.
٩ المصدر نفسه.
١٠ المصدر نفسه.
١١ المصدر نفسه.
١٢ انظر تفسير الخازن وابن كثير.
١٣ المصدر نفسه.
١٤ المصدر نفسه.
١٥ انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٧.
١٦ النظر التاج ج ٥ ص ٢٢٧ وقد فسر الشراح كلمة السام بالموت.
١٧ انظر المصدر نفسه.
﴿ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ( ٨٧ ) ﴾.
في الآية خطاب موجه إلى السامعين يؤكد له بأن الله تعالى جامعهم إلى يوم القيامة وأن هذا أمر حتم لا يحتمل أي شك، فالله منتزه عن الإخلاف بوعده ووعيده ولا يمكن أن يقول إلا صدقا.
ولم يرو المفسرون كذلك في ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق اتصالا تعقيبا كسابقاتها. فقد احتوت الآيات السابقة وعدا ووعيدا وتقرير كون الله تعالى حسيبا وقادرا على كل شيء ومحصيا أعمال الناس ومجزيا عليها بما تستحق فجاءت هذه الآية لتؤكد هذا بتوكيد جمع الناس إلى القيامة الذي يكون فيه الحساب والجزاء.
( ١ ) أركسهم : أخزاهم وردهم وأهلكهم.
( ٢ ) من أضل الله : في بعض الأقوال أنها هنا في معنى من خذله الله وأخزاه وأشقاه. وعلى كل حال فجملة ﴿ بما كسبوا ﴾ تجعل جملة ﴿ من أضل الله ﴾ من باب ﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ ( البقرة : ٢٦ )
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم( ١ ) بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ( ٢ ) وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ٨٨ ) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( ٨٩ ) ﴾

في هاتين الآيتين :

( ١ ) سؤال موجه إلى المؤمنين على سبيل الإنكار والتعجب عن سبب انقسامهم فرقتين في أمر المنافقين في حين أن أمرهم لا يتحمل ذلك ؛ لأن ما بدا منهم من نفاق ومواقف أظهر حالتهم التي ارتدوا بها إلى الكفر واستحقوا بها خزي الله وخذلانه وإضلاله.
( ٢ ) وسؤال استنكاري عما إذا كان المؤمنون يريدون أو يظنون أنهم يستطيعون أن يهدوا من أضله الله وأخزاه في حين أن من يخلده الله ويخزيه لن يكون له سبيل للخلاص من خزيه وخذلانه.
( ٣ ) وتقرير لواقع نية المنافقين نحو المؤمنين. فهم يودون أن يكفروا كما كفروا ويرتكسوا في الخزي والضلال والكفر كما ارتكسوا حتى يكونوا وإياهم سواء.
( ٤ ) ونهي للمؤمنين عن اتخاذ أولياء ونصراء منهم إلا إذا هاجروا في سبيل الله وأخلصوا وقاموا بما عليهم من واجبات.
( ٥ ) وإهدار لدمائهم إذا لم يرجعوا عن غيهم ولم يتعظوا من هذا الإنذار، حيث يجب على المسلمين في هذه الحالة أن يقتلوهم حيث وجدوهم وأن لا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا في أي حال.
تعليق على الآية
( فما لكم في المنافقين فئتين )الخ والآية التالية لها.
وقد روى المفسرون١ في سبب نزول هذه الآيات ثلاث روايات : منها أنها نزلت بحق أناس أسلموا وهاجروا إلى المدينة ثم احتالوا ولحقوا بدار الكفر زاعمين أنهم استوبؤوا المدينة واستثقلوا المقام فيها. ومنها أنها بحق أناس أسلموا ولم يهاجروا إلى المدينة مع قدرتهم على الهجرة. ومنها أنها بحق منافقي المدينة الذين خذلوا المسلمين في وقعة أحد حيث اختلف المخلصون في أمرهم فقالت فرقة بقتلهم وقالت فرقة بعدم قتلهم. والروايتان الأوليان لم تردا في الصحاح وقد ورد في معنى الرواية الثالثة حديث رواه البخاري والترمذي عن زيد ابن ثابت جاء فيه ( رجع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وكان الناس فيهم فرقتين : فريق يقول : اقتلهم. وفريق يقول : لا. فنزلت ( فما لكم في المنافقين فئتين ) ٢.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لمعنى جملة ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) منها٣ أنها بمعنى الهجرة والانتقال إلى المدينة والالتحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنها تعني طاعة الله ورسوله والإخلاص لهما. والتضامن مع النبي والمسلمين، وروح الآية تتحمل هذه التأويلات غير أن ظروف السيرة النبوية وانصباب الكلام والتنديد على المنافقين يجعل المعنى الأخير هو الأكثر ورودا، والله أعلم.
وبدء الآيات بحرف الفاء الذي فيه معنى التعقيب على ما سبق وذكر مواقف التثبيط والتبطيء والمراوغة والاعتراض على القتال في السياق السابق يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة. وأصحاب تلك المواقف هم منافقو المدينة بحيث يمكن أن يكون في هذا تأييد لحديث زيد. غير أننا مع ذلك نتوقف أن تكون الآيات نزلت في أمر وقعة أحد لأننا لا نرى مناسبة لذلك في هذا السياق. وقد ورد تفصيل ما جرى في هذه الوقعة في سورة آل عمران وندد فيها بالمنافقين تنديدا شديدا. ونرجح أنها في صدد مواقفهم المحكية في السياق السابق وإن في الحديث التباسا أو تطبيقا والله أعلم.
ولقد رأينا القاسمي يستشكل أن يكون المقصودون منافقي المدينة من ناحية أنهم كانوا بين المسلمين فلا يكون محل للقول ( فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ) ولسنا نرى إشكالا، ونرى أن العبارة يمكن أن تصدق على منافقي المدينة ولاسيما إذا أخذ بتأويل جملة ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) بمعنى حتى يطيعوا الله ورسوله ويتضامنوا مع المسلمين. والله تعالى أعلم.
لقد جاءت الآيات حاسمة لاختلاف المسلمين في منافقي المدينة حيث أمرتهم إذا ظلوا على موقفهم وإعراضهم عن الجهاد في سبيل الله والإخلاص في طاعة الله ورسوله بأن يقتلوا حيث وجدوهم ولا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا.
وهذه هي المرة الثانية التي يأمر القرآن المسلمين فيها بقتل المنافقين حيث وجدوهم والمرة الأولى جاءت في آية سورة الأحزاب ( ٦٠ ) باختلاف في الشرط والتعبير حيث ذكر في آية الأحزاب جملة ( لئن لم ينته المنافقون... ) وذكر في هذه الآيات جملة ( فإن تولوا... ).
ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق آية الأحزاب بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة.
هذا، ولقد انطوى في الآيات تلقين جليل المدى بتحريم كل من يدعي الإسلام ثم لا يتضامن مع المسلمين في الأزمات والمواقف العصبية التي تلم بهم ولا يقيم البرهان بذلك على صحة إسلامه وإخلاصه، بل ويرتكس في الخزي أكثر فيود أن يكون المسلمون مثله في التخاذل. وهذه الصورة تظهر في كل ظرف ومكان في الأزمات والمواقف العصيبة والنضالية. وقد أمرت الآيات هنا وهناك بوجوب الوقوف منهم موقف الشدة والمطاردة والتنكيل. فضلا عن عدم التناصر والتضامن والتسامح معهم.
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم( ١ ) بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ( ٢ ) وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ٨٨ ) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( ٨٩ ) ﴾

في هاتين الآيتين :

( ١ ) سؤال موجه إلى المؤمنين على سبيل الإنكار والتعجب عن سبب انقسامهم فرقتين في أمر المنافقين في حين أن أمرهم لا يتحمل ذلك ؛ لأن ما بدا منهم من نفاق ومواقف أظهر حالتهم التي ارتدوا بها إلى الكفر واستحقوا بها خزي الله وخذلانه وإضلاله.
( ٢ ) وسؤال استنكاري عما إذا كان المؤمنون يريدون أو يظنون أنهم يستطيعون أن يهدوا من أضله الله وأخزاه في حين أن من يخلده الله ويخزيه لن يكون له سبيل للخلاص من خزيه وخذلانه.
( ٣ ) وتقرير لواقع نية المنافقين نحو المؤمنين. فهم يودون أن يكفروا كما كفروا ويرتكسوا في الخزي والضلال والكفر كما ارتكسوا حتى يكونوا وإياهم سواء.
( ٤ ) ونهي للمؤمنين عن اتخاذ أولياء ونصراء منهم إلا إذا هاجروا في سبيل الله وأخلصوا وقاموا بما عليهم من واجبات.
( ٥ ) وإهدار لدمائهم إذا لم يرجعوا عن غيهم ولم يتعظوا من هذا الإنذار، حيث يجب على المسلمين في هذه الحالة أن يقتلوهم حيث وجدوهم وأن لا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا في أي حال.
تعليق على الآية
( فما لكم في المنافقين فئتين )الخ والآية التالية لها.
وقد روى المفسرون١ في سبب نزول هذه الآيات ثلاث روايات : منها أنها نزلت بحق أناس أسلموا وهاجروا إلى المدينة ثم احتالوا ولحقوا بدار الكفر زاعمين أنهم استوبؤوا المدينة واستثقلوا المقام فيها. ومنها أنها بحق أناس أسلموا ولم يهاجروا إلى المدينة مع قدرتهم على الهجرة. ومنها أنها بحق منافقي المدينة الذين خذلوا المسلمين في وقعة أحد حيث اختلف المخلصون في أمرهم فقالت فرقة بقتلهم وقالت فرقة بعدم قتلهم. والروايتان الأوليان لم تردا في الصحاح وقد ورد في معنى الرواية الثالثة حديث رواه البخاري والترمذي عن زيد ابن ثابت جاء فيه ( رجع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وكان الناس فيهم فرقتين : فريق يقول : اقتلهم. وفريق يقول : لا. فنزلت ( فما لكم في المنافقين فئتين ) ٢.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لمعنى جملة ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) منها٣ أنها بمعنى الهجرة والانتقال إلى المدينة والالتحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنها تعني طاعة الله ورسوله والإخلاص لهما. والتضامن مع النبي والمسلمين، وروح الآية تتحمل هذه التأويلات غير أن ظروف السيرة النبوية وانصباب الكلام والتنديد على المنافقين يجعل المعنى الأخير هو الأكثر ورودا، والله أعلم.
وبدء الآيات بحرف الفاء الذي فيه معنى التعقيب على ما سبق وذكر مواقف التثبيط والتبطيء والمراوغة والاعتراض على القتال في السياق السابق يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة. وأصحاب تلك المواقف هم منافقو المدينة بحيث يمكن أن يكون في هذا تأييد لحديث زيد. غير أننا مع ذلك نتوقف أن تكون الآيات نزلت في أمر وقعة أحد لأننا لا نرى مناسبة لذلك في هذا السياق. وقد ورد تفصيل ما جرى في هذه الوقعة في سورة آل عمران وندد فيها بالمنافقين تنديدا شديدا. ونرجح أنها في صدد مواقفهم المحكية في السياق السابق وإن في الحديث التباسا أو تطبيقا والله أعلم.
ولقد رأينا القاسمي يستشكل أن يكون المقصودون منافقي المدينة من ناحية أنهم كانوا بين المسلمين فلا يكون محل للقول ( فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ) ولسنا نرى إشكالا، ونرى أن العبارة يمكن أن تصدق على منافقي المدينة ولاسيما إذا أخذ بتأويل جملة ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) بمعنى حتى يطيعوا الله ورسوله ويتضامنوا مع المسلمين. والله تعالى أعلم.
لقد جاءت الآيات حاسمة لاختلاف المسلمين في منافقي المدينة حيث أمرتهم إذا ظلوا على موقفهم وإعراضهم عن الجهاد في سبيل الله والإخلاص في طاعة الله ورسوله بأن يقتلوا حيث وجدوهم ولا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا.
وهذه هي المرة الثانية التي يأمر القرآن المسلمين فيها بقتل المنافقين حيث وجدوهم والمرة الأولى جاءت في آية سورة الأحزاب ( ٦٠ ) باختلاف في الشرط والتعبير حيث ذكر في آية الأحزاب جملة ( لئن لم ينته المنافقون... ) وذكر في هذه الآيات جملة ( فإن تولوا... ).
ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق آية الأحزاب بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة.
هذا، ولقد انطوى في الآيات تلقين جليل المدى بتحريم كل من يدعي الإسلام ثم لا يتضامن مع المسلمين في الأزمات والمواقف العصبية التي تلم بهم ولا يقيم البرهان بذلك على صحة إسلامه وإخلاصه، بل ويرتكس في الخزي أكثر فيود أن يكون المسلمون مثله في التخاذل. وهذه الصورة تظهر في كل ظرف ومكان في الأزمات والمواقف العصيبة والنضالية. وقد أمرت الآيات هنا وهناك بوجوب الوقوف منهم موقف الشدة والمطاردة والتنكيل. فضلا عن عدم التناصر والتضامن والتسامح معهم.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ( ١ ) أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ( ٢ ) فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ( ٩٠ ) ﴾.
( ١ ) حصرت صدورهم : بمعنى ضاق عليهم الأمر أو تضايقوا من قتالكم أو قتال قومهم.
( ٢ ) السلم : بمعنى الانقياد أو المسالمة
في الآية استدراك استثنائي من حكم الآيتين السابقتين لمن ينتسبون إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق سلم، ولمن جاءوا إلى المسلمين يعتذرون عن قتالهم وقتال قومهم ويعلنون لهم أنهم لا يريدون أن يقاتلوهم مع قومهم، ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم معهم. فهؤلاء وأولئك إذا وقفوا فعلا موقف الكاف عن قتال المسلمين، وأظهروا لهم المسالمة الصادقة فليس للمسلمين عليهم سبيل لعداء وقتال. وجملة ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ) جاءت معترضة لبيان فضل الله على المسلمين بإلهام هؤلاء المسالمة وتعليل أو تدعيم عدم جعل الله للمسلمين عليهم سبيلا.
تعليق على الآية
( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق... ) الخ.
وحكم العلاقة المسالمين بالمسلمين
وقد روى المفسرون١ أن المعني بالفريق الأول، إما هو هلال ابن عويمر السلمي الذي واثق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه على أن لا يحيف على من أتاه منهم ولا يحيفون على من أتاهم منه. وإما سراقة ابن مالك المدلجي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ منه ميثاقا بأن لا يغزو قومه فإن أسلمت قريش أسلموا ؛ لأنهم كانوا في عقد مع قريش. ورووا أن المعنى بالفريق الثاني هم قبيلة أشجع التي قدم منها إلى المدينة نحو سبعمائة فحلوا في ضواحيها فأرسل النبي إليهم أحمالا من التمر ضيافة ثم سألهم ما الذي جاء بكم قالوا قرب دارنا منك وكراهيتنا حربك وحرب قومنا يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد فجئنا لنوادعك فقبل النبي ووادعهم.
وإلى هذه الروايات رووا أيضا أن الآية في صدد بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش وبني خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي وهما قبيلتان في ناحية مكة متعاديتان حينما عقد النبي مع قريش الصلح المعروف بصلح الحديبية حيث خيروا القبيلتين فاختار بنو بكر أن يكونوا مع قريش واختار بنو خزاعة أن يكونوا مع النبي. فصار بين بني خزاعة وبين النبي والمسلمين ميثاق، وصار بنو بكر يصلون إلى قريش الذين صار بينهم وبين النبي والمسلمين ميثاق. وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والآية متصلة بالآيات السابقة، وقد رجحنا نزول هذه الآيات في وقت مبكر ؛ ولهذا فإننا نستبعد احتمال كون الآية في صدد بني بكر وبني خزاعة ؛ لأن صلح الحديبية كان متأخرا نوعا أي في السنة الهجرية السادسة. وروح الآية تلهم أن الاستثناء عائد إلى أناس معاهدين وإلى أناس يريدون الموادعة والوقوف موقف الحياد. وهذا ذاك ينطبقان على الروايات الأولى والثانية أكثر. غير أن الذي يشكل علينا في الآية هو ما إذا كان المستثنون فيها ممن يدعي الإسلام أو ممن يصح عليه نعت المنافقين أو من الكفار. فصيغة الاستثناء تفيد أن المستثنين من نوع الفريق الذي هو موضوع الحديث في الآيات السابقة وهم المنافقون أو الذين اعتبروا كذلك ؛ لأنهم لم يقيموا الدليل على إيمانهم بالتضامن والقتال مع المسلمين والإخلاص في الطاعة ولرسوله. غير أن فحوى الآية يحتمل كثيرا معنى كون المستثنين غير المسلمين. فالمعاهدون والذين تنقبض صدورهم عن قتال المسلمين والذين لو شاء الله لسلطهم على المسلمين فقاتلوهم لا يكونون مسلمين بطبيعة الحال. وتعبير ( أو جاءوكم ) مما يزيد الإشكال أيضا. فإنه قد يفيد أن يكونوا جاءوا مسلمين وأرادوا أن يقفوا في قتال المسلمين مع قومهم موقف الحياد. كما يفيد أنهم جاءوا معتذرين معلنين حيادهم. وفحوى الآية يفيد أن حكمة التنزيل تعذرهم على هذا الموقف. ولم يشف صدرنا ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين في هذا الصدد.
على أننا مع كل هذا نرى النفس تطمئن إلى ترجيح كون الفريقين موضوع الحديث غير المسلمين وهو ما تفيده الروايات أيضا. ولعل الاستثناء عائد إلى الفقرة الأخيرة من الآية السابقة التي تنهى عن الأمر بالقتل وإذا صح هذا كما نرجو، تكون الآية استطرادية ويزول الإشكال.
ومهما يكن من أمر فالآية تنهى المسلمين عن قتال وقتل من ينتسب إلى معاهديهم أو من يدخل في عهد معاهديهم، أو من يقف منهم موقف الحياد والسلم ولو كان منتسبا إلى قوم محاربين للمسلمين. وهكذا تكون قد احتوت تنظيما للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ووصفا لثلاث فئات من غير المسلمين وهي :
( ١ ) المعاهدون :( ٢ ) ومن يدخل في جوارهم وميثاقهم ( ٣ ) والحياديون اللذين يعلنون موقفا مسالما نحو المسلمين، ويعتزلون قتالهم مع قومهم المحاربين للمسلمين. وقد قررت أنه ليس للمسلمين أن يقاتلوا أية فئة من هذه الفئات. وفي هذا من الحكمة ما يظل في أعلى مرتبة من أصول تنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين على مدى الدهر. ويقوم على أسمى أسس الحق والعدل والإنصاف.
ولقد روى المفسرون٢ أن هذه الآية قد نسخت بآية في سورة التوبة تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا عن الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهي الآية ( ٥ ) ونصها ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) والآيات التي جاءت قبل آية سورة التوبة هذه وبعدها تستثني الذين بينهم وبين المسلمين عهد وتأمر بإتمام عهدهم إلى مدته بالنسبة لمن بينهم وبين المسلمين مدة محددة وبالاستقامة معهم على العهد ما استقاموا لمن لم يكن بينهم مدة محددة. وبالتالي تجعل القول بنسخها وبخاصة بالنسبة للمعاهدين غريبا بل في غير محله. وقد لاحظ ذلك بعضهم٣ وتساءل تساؤل المستنكر عما إذا كان يصح أن تكون منسوخة بشأن المعاهدين لأن ذلك يعني نقضا للعهد. وهي ملاحظة حق.
ولقد علقنا على هذه المسألة بما فيه الكفاية في مناسبات سابقة٤ وإن كان من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو كون ما تقدم هنا وفي المناسبات السابقة يسوغ التوكيد بمحكمية الآية. وهناك آثار نبوية وراشدية يستند إليها أئمة الفقه في إيجاب الدية على قاتل الذمي خطأ وفي إيجاب الدية المغلظة أي المضاعفة في قول، وإيجاب القصاص في قول على قاتل الذمي عمدا٥ وفي هذا توكيد بمحكمية حكم الآية. وتعبير الذمي مرادف للمعاهد. والتسمية آتية من كون المعاهدين يعطون العهد على ذمة الله ورسوله والمؤمنين أي كفالتهم وضمانهم. ولقد روى البخاري والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ) ٦ حيث ينطوي في هذا توثيق لما قررناه. وليس في الآثار ما يمنع أن يقاس على هذا المسالم والحيادي بحيث يصح أن يقال : إن حكم الآية شامل للمعاهدين والمسالمين والحياديين والله أعلم.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن حكم الآية ينطبق على الفئات الثلاث المستثناة سواء أكانوا أفرادا أو جماعة، فلا يجوز قتال أحد منهم ولا قتله. وهذا مثلهم من الآية بالإضافة إلى أنه المتسق مع المبدأ القرآني العام ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( الأنعام : ١٦٤ ).
١ انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.
٢ انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي ويعزو المفسرون الأقوال إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
٣ انظر تفسير الخازن.
٤ انظر تفسيرنا لسورة (الكافرون) ولآيات البقرة (١٩٠ ـ ١٩٤).
٥ انظر تفسير الآية التي نحن في صددها والآية (٩٢) من سورة النساء في تفسير الخازن والطبرسي وانظر التاج ج ٣ ص ٩ ـ ١٠.
٦ انظر التاج ج ٣ ص ٦.
﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ٩١ ) ﴾
في هذه الآية إشارة إلى فريق آخر ينتسبون إلى قوم أعداء للمسلمين يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين وجانب قومهم معا، ولكنهم مذبذبون لا يستقرون على حال ولا يمتنعون من الانسياق مع الفتنة إذا واجهوها. فهؤلاء لا يصح الاطمئنان بدعواهم الحياد وبتظاهرهم بالمودة إلا إذا أقاموا الدليل على ذلك فعلا باعتزال المسلمين، وإعلان المسالمة لهم بصراحة وكف أيديهم عنهم بصدق وإخلاص.
فإذا لم يفعلوا هذا فحكمهم حكم قومهم. وللمسلمين أن يقاتلوهم ويقتلوهم أنى وجدوهم. وقد جعل الله لهم عليهم الحجة البالغة.
تعليق على الآية :
( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم... ) الخ. وحكم المذبذبين في علاقاتهم بالمسلمين.
وقد روى المفسرون : أن الفريق المعني في الآية هو بعض جماعات من قبيلتي أسد وغطفان، حيث كانوا يأتون إلى المدينة فيتظاهرون بالإسلام والولاء ليأمنوا المسلمين، فإذا ما رجعوا إلى قومهم أظهروا الشرك والعداء للمسلمين مثلهم بحجة أنهم يريدون بذلك أن يأمنوا قومهم وهناك روايات تذكر أنهم جماعات من قريش أو من قبائل أخرى كانوا يفعلون ذلك ١.
والروايات لم ترد في الصحاح وفحوى الآية وروحها يسوغان القول : إنها متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا، وهذا لا يمنع صحة ما روي في الروايات وأن يكون الوصف الذي وصفت به الفريق الموصوف فيها متحققا في جماعة من أسد وغطفان أو جماعة من مشركي قريش أو غيرهم فكان ذلك مناسبة لنزولها محتوية للحكم التشريعي في حق هذه الفئة لتتم بذلك السلسلة التشريعية في حق المنافقين والمعاهدين والمسالمين والمذبذبين.
والحجة التي يقوم عليها الحكم في الآية قوية مستقيمة متمشية مع الحق والإنصاف كما هو واضح. ويظل تلقينها قائما مستمرا ينطبق على كل حالة مماثلة بطبيعة الحال. والأساس الذي تلقنه هو أن يدع المسلمون من يطمئنون بصدق حياده وكف يده وبموافقة السلمي وشأنه ولا يبادئوه بعداء وقتال. ولو كان من قوم عدو محارب. وأن لا يقاتلوا إلا الذين لا يثبتون لهم صدق دعواهم بالحياد والمسالمة فعلا باعتزال قتالهم وكف أيديهم ويرون فيهم تذبذبا ودورانا مع الظروف، سواء أكانت مع المسلمين أو مع أعدائهم من قومهم لنجاة أنفسهم وأمنهم وحسب.
١ انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٩٢ ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( ٩٣ ) ﴾.
تعليق على الآية
( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا... ) الخ
والآية التالية لها وأحكام القتل الخطأ والعمد بالنسبة للمسلمين والمعاهدين
عبارة الآيتين واضحة وفيها :
( ١ ) تقرير بعدم جواز قتل مؤمن لمؤمن ألبتة بأسلوب فيه استبعاد احتمال وقوع ذلك إلا أن يكون خطأ.
( ٢ ) وإنذار قاصم لمن يقتل مؤمنا عمدا.
( ٣ ) وتشريع في صدد قتل المؤمن خطأ في نطاق الأسس التالية :
١ إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل مؤمنين فعلى القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة عن عمله وتوبة لله، وأن يدفع الدية لأهله إلا إذا عفوا وتنازلوا عنها صدقة لوجه الله تعالى.
٢ إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا وأعداء المسلمين فعلى القاتل أن يعتق رقبة كفارة عن عمله وتوبة لله كفى.
٣ إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا ومعاهدين للمسلمين فالحكم في ذلك حكم الأول. أي تحرير رقبة مؤمنة ودية مؤداة إلى أهله.
٤ إذا لم يكن للقاتل أن يجد أو يعتق رقبة مؤمنة فتكون الكفارة والتوبة بدلا من ذلك صيام شهرين متتابعين.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول كل من الآيتين : فرووا في نزول الأولى أنها نزلت في مسلم اسمه عياش ابن أبي ربيعة قتل شخصا اسمه : الحرث ابن يزيد العامري كان احتال عليه وخطفه من المدينة، ثم عذبه وجلده، فحلف أن يقتله إذا تمكن منه، ثم لقيه في حرة المدينة، وكان جاء من مكة مسلما مهاجرا، فقتله دون أن يعلم أنه أسلم.
كما رووا أنها نزلت في أبي الدرداء وكان في سرية جهاد فلقي رجلا معه غنم فبادره هذا بكلمة التوحيد فلم يصدقه وقتله وسلب الغنم. فلما رجعوا إلى النبي أنبه وغضب لعدم تصديقه وقال له فيما قال :( هلا شققت قلبه ).
ورووا في نزول الآية الثانية أنها نزلت في شخص مسلم اسمه مقبس وجد أخاه مقتولا في محلة بني النجار في المدينة، فراجع النبي فأرسل معه رجلا من بني النجار يبلغهم عن لسانه أن يسلموا القاتل للقصاص منه إذا كانوا يعرفونه، أو يدفعوا الدية لأخيه إذا لم يكونوا يعرفونه، فأنكروا معرفة القاتل ودفعوا الدية، ولكن الأخ بعد قبضه الدية غدر بالنجاري الذي أرسله معه رسول الله فقتله بدم أخيه، ثم رحل إلى مكة حيث كان قومه مرتدا كافرا. وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال ( لن أؤمنه في حل أو حرم ولا سلم ولا حرب ) فقتل يوم الفتح.
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح، وقد رويت رواية مماثلة للرواية التي ذكر فيها أبو الدرداء في مناسبة نزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات.
ويلحظ أن الروايات تجعل الآيتين منفصلتين وتفيد نزول كل منهما في مناسبة وظرف غير مناسبة وظرف نزول الأخرى. في حين أنهما كما يبدو من أسلوبهما وحدة منسجمة تسوغ القول : إنهما نزلتا معا. ولقد بنيت الآيات السابقة حكم غير المسلمين في مواقفهم من المسلمين ومواقف المسلمين منهم، وبينت هاتان الآيتان حكم قتل المؤمن للمؤمن مما فيه تناسب ما. وقد تكون الآيتان نزلتا بعد سابقاتهما فوضعتا في مكانهما بسبب التناسب الموضوعي والظرفي، أو تكونان نزلتا في ظرف آخر فوضعتا مكانهما بسبب التناسب الموضوعي، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن يكون وقع أحداث مماثلة لبعض ما روي في الروايات فتليت الآيات لبيان حكم فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الآية ( ٩٢ ) اقتصرت على الإنذار القاصم الأخروي للمؤمن الذي يقتل مؤمنا عمدا دون تعيين عقاب دنيوي. ويمكن أن يقال : إن روح الآيتين تلهم أن هدفهما الرئيسي هو تعظيم دم المؤمن على المؤمن والتشديد فيه، حتى ولو كان خطأ ثم تغليظ إثمه وجريمته بالإنذار الرهيب إذا كان عمدا والذي هو على سمع المؤمن ونفسه أشد وقعا وأكثر هولا فاقتضت حكمة التنزيل الاقتصار عليه في هذا المقام توكيدا لذلك الهدف والاكتفاء بتشريع قتل الخطأ الذي يعفو الله عنه إذا أدى فاعله الدية وتقدم إلى الله بالتوبة والكفارة.
وواضح أن هذا يظل تلقينا مستمر المدى بوجوب احترام المؤمن لدم أخيه وشدة احترازه من سفكه ولو خطأ فضلا عن العمد.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في تعظيم دم المؤمن على المؤمن وعظم إثم قتله. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء. وفي رواية : أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء )١.
وحديث ثان رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسل : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ) ٢ وحديث ثالث : رواه أبو داود والنسائي جاء فيه ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ) ٣ وحديث رابع رواه الترمذي والنسائي جاء فيه ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ) ٤ وحديث خامس رواه الترمذي جاء فيه ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ) ٥ حيث يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي في هذا الأمر شأنهما في كل أمر.
ولقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه ( من قتل في عميا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا، فهو خطأ وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل ) ٦ والمتبادر من روح الحديث وفحواه أنه لم يرد به حصر قتل الخطأ في الكيفية التي ذكرت فيه، فمن السائغ توسيع النطاق ليشمل كل قتل لم يكن القتل فيه مقصودا بأية آلة وفي أية حالة.
ومن تحصيل الحاصل أن يعد من قبيل الخطأ قتل مؤمن لشخص يظنه المؤمن خطأ أنه كافر محارب مما ذكرته الروايات كسبب لنزول الآيات.
ولقد روى المفسرون عن بعض المؤولين القدماء أن جملة ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ) تعني أن يكون القتيل غير مؤمن من قوم معاهدين كما رووا عن بعض آخر : أنها تعني مؤمنا من معاهدين غير مؤمنين. وحجة الأولين ومنهم ابن عباس أن الجملة لم تقل ( وهو مؤمن ) كما قالت عن الذي ذكر قبلها. والآية في صدد قتل المؤمن للمؤمن خطأ وهذا يجعل القول الثاني هو الوارد. والمتبادر أن حكمة التنزيل اكتفت بالوصف الأول ولم تكرره والله أعلم.
ولقد وقف المؤولون الذين يروي المفسرون أقوالهم عند صفة ( رقبة مؤمنة ) فقال بعضهم : إن هذه الصفة لا يمكن أن تتحقق إلا في مملوك راشد مؤمن يقوم بواجباته. وقال آخرون : إن كل من يولد من أبوين مسلمين يصح أن يكون ممن عنتهم الآية، ولو لم يكن بالغا إذا كان في حالة رق. وروى الطبري القول الثاني. ونرى في ذلك وجاهة وسدادا.
ولقد نبه المفسرون على أن التتابع في صيام شهرين شرط في صحة الكفارة، بحيث لو تعمد الإفطار في آخر يوم وجب إعادة الصوم كله. وهذا مستلهم من نص الآية. ولم نر أحدا ذكر الحالات التي يسوغ لصائم رمضان أن يفطر فيها ويقضي ما أفطره أو التي ينسى فيها الصائم أنه صائم فيأكل ويشرب، وقد يكون من السائغ أن يقاس ذاك على هذا. والله تعالى اعلم.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات طائفة من الأحاديث في مقادير دية قتلى الرجال والنساء والعبيد والكفار. ولقد أوردناها في سياق تفسير آية البقرة ( ١٧٨ ) فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه على أن القتل العمد لم يبق بدون عقوبة دنيوية وقاصرا على الإنذار الأخروي الرهيب كما يبدو من الآية الثانية، حيث رويت أحاديث نبوية عديدة فيها بيان لذلك. ولقد شرحنا هذه النقطة وأوردنا ما ورد فيها من أحاديث مع بيان ما هو القتل العمد وما هو شبه العمد وما هي عقوبة كل منهما في سياق تفسير الآية ( ١٧٨ ) من سورة البقرة ( فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
ولقد كان الأسلوب القاصم الذي جاءت به الآية الثانية موضوع بحوث من ناحية إمكان قبول توبة القاتل العمد وعدمه، ومن ناحية خلوده في النار مع كونه مؤمنا حيث قال بعضهم٧ استنادا إلى أحاديث نبوية وصحابية : إن الآية محكمة، وإن القاتل العمد مخلد في النار ولا توبة له. وحيث قال بعضهم٨ استنادا إلى أحاديث نبوية وآيات قرآنية إن الله يقبل توبته إذا شاء، وإنه لا يخلد في النار إذا مات وهو يشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ومما يورد في صدد القول الأول حديث رواه أبو داود والنسائي جاء فيه ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ) ٩ وحديث رواه الشيخان عن سعيد ابن جبير قال ( قلت لابن عباس : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال لا. فقرأت عليه آية الفرقان إلى ( إلا من تاب ) ( ٧٠ ) قال هذه مكية نسختها آية مدنية ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) ١٠.
ومما يورد في صدد القول الثاني ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ) و ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا... ) ( الزمر : ٥٣ ) وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق وكررتها فكررها ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر ) ١١ وحديث ثان رواه كذلك الشيخان والترمذي عن معاذ عن النبي ( ما من أحد يشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ) ١٢ وحديث ثالث رواه مسلم عن أنس عن النبي قال ( يخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان ) ١٣ وحديث رابع رواه مسلم عن جابر قال ( أتى النبي رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ) ١٤ ولقد أورد الشيخان تتمة للحديث الذي روياه عن سعيد ابن جبير جاء فيه : أن هذا ذكر لمجاهد وهو من كبار التابعين ومفسريهم ما سمعه من ابن عباس فقال ( إلا من ندم ) ١٥.
ومع ما لكل من القولين من وجاهة على ضوء الأحاديث التي يستند إليها أصحابها، فإنه يتبادر لنا على ضوء ما أوردناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج أن
١ التاج ج ٣ ص ٣.
٢ التاج ج ٣ ص ٤.
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر نفسه.
٥ المصدر نفسه.
٦ التاج ج ٣ ص ١١ و ١٢ والعميا تعني حالة الهياج والشجار العامة التي تؤدي إلى المضاربة والتقاتل بين جماعتين.
٧ انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
٨ انظر التاج ج ٣ ص ٤ ـ ٦.
٩ المصدر نفسه.
١٠ التاج ج ١ ص ٢٦.
١١ المصدر نفسه ص ٢٦ ـ ٢٨.
١٢ المصدر نفسه.
١٣ المصدر نفسه.
١٤ التاج= ج ١ ص ٢٦ ـ ٢٨.
١٥ التاج ج ٤ ص ٨٤.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٩٢ ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( ٩٣ ) ﴾.
تعليق على الآية
( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا... ) الخ
والآية التالية لها وأحكام القتل الخطأ والعمد بالنسبة للمسلمين والمعاهدين

عبارة الآيتين واضحة وفيها :

( ١ ) تقرير بعدم جواز قتل مؤمن لمؤمن ألبتة بأسلوب فيه استبعاد احتمال وقوع ذلك إلا أن يكون خطأ.
( ٢ ) وإنذار قاصم لمن يقتل مؤمنا عمدا.
( ٣ ) وتشريع في صدد قتل المؤمن خطأ في نطاق الأسس التالية :
١ إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل مؤمنين فعلى القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة عن عمله وتوبة لله، وأن يدفع الدية لأهله إلا إذا عفوا وتنازلوا عنها صدقة لوجه الله تعالى.
٢ إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا وأعداء المسلمين فعلى القاتل أن يعتق رقبة كفارة عن عمله وتوبة لله كفى.
٣ إذا قتل مؤمن مؤمنا خطأ وكان أهل القتيل كفارا ومعاهدين للمسلمين فالحكم في ذلك حكم الأول. أي تحرير رقبة مؤمنة ودية مؤداة إلى أهله.
٤ إذا لم يكن للقاتل أن يجد أو يعتق رقبة مؤمنة فتكون الكفارة والتوبة بدلا من ذلك صيام شهرين متتابعين.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول كل من الآيتين : فرووا في نزول الأولى أنها نزلت في مسلم اسمه عياش ابن أبي ربيعة قتل شخصا اسمه : الحرث ابن يزيد العامري كان احتال عليه وخطفه من المدينة، ثم عذبه وجلده، فحلف أن يقتله إذا تمكن منه، ثم لقيه في حرة المدينة، وكان جاء من مكة مسلما مهاجرا، فقتله دون أن يعلم أنه أسلم.
كما رووا أنها نزلت في أبي الدرداء وكان في سرية جهاد فلقي رجلا معه غنم فبادره هذا بكلمة التوحيد فلم يصدقه وقتله وسلب الغنم. فلما رجعوا إلى النبي أنبه وغضب لعدم تصديقه وقال له فيما قال :( هلا شققت قلبه ).
ورووا في نزول الآية الثانية أنها نزلت في شخص مسلم اسمه مقبس وجد أخاه مقتولا في محلة بني النجار في المدينة، فراجع النبي فأرسل معه رجلا من بني النجار يبلغهم عن لسانه أن يسلموا القاتل للقصاص منه إذا كانوا يعرفونه، أو يدفعوا الدية لأخيه إذا لم يكونوا يعرفونه، فأنكروا معرفة القاتل ودفعوا الدية، ولكن الأخ بعد قبضه الدية غدر بالنجاري الذي أرسله معه رسول الله فقتله بدم أخيه، ثم رحل إلى مكة حيث كان قومه مرتدا كافرا. وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال ( لن أؤمنه في حل أو حرم ولا سلم ولا حرب ) فقتل يوم الفتح.
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح، وقد رويت رواية مماثلة للرواية التي ذكر فيها أبو الدرداء في مناسبة نزول الآية التي تأتي بعد هذه الآيات.
ويلحظ أن الروايات تجعل الآيتين منفصلتين وتفيد نزول كل منهما في مناسبة وظرف غير مناسبة وظرف نزول الأخرى. في حين أنهما كما يبدو من أسلوبهما وحدة منسجمة تسوغ القول : إنهما نزلتا معا. ولقد بنيت الآيات السابقة حكم غير المسلمين في مواقفهم من المسلمين ومواقف المسلمين منهم، وبينت هاتان الآيتان حكم قتل المؤمن للمؤمن مما فيه تناسب ما. وقد تكون الآيتان نزلتا بعد سابقاتهما فوضعتا في مكانهما بسبب التناسب الموضوعي والظرفي، أو تكونان نزلتا في ظرف آخر فوضعتا مكانهما بسبب التناسب الموضوعي، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن يكون وقع أحداث مماثلة لبعض ما روي في الروايات فتليت الآيات لبيان حكم فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ويلحظ أن الآية ( ٩٢ ) اقتصرت على الإنذار القاصم الأخروي للمؤمن الذي يقتل مؤمنا عمدا دون تعيين عقاب دنيوي. ويمكن أن يقال : إن روح الآيتين تلهم أن هدفهما الرئيسي هو تعظيم دم المؤمن على المؤمن والتشديد فيه، حتى ولو كان خطأ ثم تغليظ إثمه وجريمته بالإنذار الرهيب إذا كان عمدا والذي هو على سمع المؤمن ونفسه أشد وقعا وأكثر هولا فاقتضت حكمة التنزيل الاقتصار عليه في هذا المقام توكيدا لذلك الهدف والاكتفاء بتشريع قتل الخطأ الذي يعفو الله عنه إذا أدى فاعله الدية وتقدم إلى الله بالتوبة والكفارة.
وواضح أن هذا يظل تلقينا مستمر المدى بوجوب احترام المؤمن لدم أخيه وشدة احترازه من سفكه ولو خطأ فضلا عن العمد.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في تعظيم دم المؤمن على المؤمن وعظم إثم قتله. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ) : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء. وفي رواية : أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء )١.
وحديث ثان رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسل : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ) ٢ وحديث ثالث : رواه أبو داود والنسائي جاء فيه ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ) ٣ وحديث رابع رواه الترمذي والنسائي جاء فيه ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ) ٤ وحديث خامس رواه الترمذي جاء فيه ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ) ٥ حيث يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي في هذا الأمر شأنهما في كل أمر.
ولقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا جاء فيه ( من قتل في عميا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا، فهو خطأ وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل ) ٦ والمتبادر من روح الحديث وفحواه أنه لم يرد به حصر قتل الخطأ في الكيفية التي ذكرت فيه، فمن السائغ توسيع النطاق ليشمل كل قتل لم يكن القتل فيه مقصودا بأية آلة وفي أية حالة.
ومن تحصيل الحاصل أن يعد من قبيل الخطأ قتل مؤمن لشخص يظنه المؤمن خطأ أنه كافر محارب مما ذكرته الروايات كسبب لنزول الآيات.
ولقد روى المفسرون عن بعض المؤولين القدماء أن جملة ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ) تعني أن يكون القتيل غير مؤمن من قوم معاهدين كما رووا عن بعض آخر : أنها تعني مؤمنا من معاهدين غير مؤمنين. وحجة الأولين ومنهم ابن عباس أن الجملة لم تقل ( وهو مؤمن ) كما قالت عن الذي ذكر قبلها. والآية في صدد قتل المؤمن للمؤمن خطأ وهذا يجعل القول الثاني هو الوارد. والمتبادر أن حكمة التنزيل اكتفت بالوصف الأول ولم تكرره والله أعلم.
ولقد وقف المؤولون الذين يروي المفسرون أقوالهم عند صفة ( رقبة مؤمنة ) فقال بعضهم : إن هذه الصفة لا يمكن أن تتحقق إلا في مملوك راشد مؤمن يقوم بواجباته. وقال آخرون : إن كل من يولد من أبوين مسلمين يصح أن يكون ممن عنتهم الآية، ولو لم يكن بالغا إذا كان في حالة رق. وروى الطبري القول الثاني. ونرى في ذلك وجاهة وسدادا.
ولقد نبه المفسرون على أن التتابع في صيام شهرين شرط في صحة الكفارة، بحيث لو تعمد الإفطار في آخر يوم وجب إعادة الصوم كله. وهذا مستلهم من نص الآية. ولم نر أحدا ذكر الحالات التي يسوغ لصائم رمضان أن يفطر فيها ويقضي ما أفطره أو التي ينسى فيها الصائم أنه صائم فيأكل ويشرب، وقد يكون من السائغ أن يقاس ذاك على هذا. والله تعالى اعلم.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات طائفة من الأحاديث في مقادير دية قتلى الرجال والنساء والعبيد والكفار. ولقد أوردناها في سياق تفسير آية البقرة ( ١٧٨ ) فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه على أن القتل العمد لم يبق بدون عقوبة دنيوية وقاصرا على الإنذار الأخروي الرهيب كما يبدو من الآية الثانية، حيث رويت أحاديث نبوية عديدة فيها بيان لذلك. ولقد شرحنا هذه النقطة وأوردنا ما ورد فيها من أحاديث مع بيان ما هو القتل العمد وما هو شبه العمد وما هي عقوبة كل منهما في سياق تفسير الآية ( ١٧٨ ) من سورة البقرة ( فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
ولقد كان الأسلوب القاصم الذي جاءت به الآية الثانية موضوع بحوث من ناحية إمكان قبول توبة القاتل العمد وعدمه، ومن ناحية خلوده في النار مع كونه مؤمنا حيث قال بعضهم٧ استنادا إلى أحاديث نبوية وصحابية : إن الآية محكمة، وإن القاتل العمد مخلد في النار ولا توبة له. وحيث قال بعضهم٨ استنادا إلى أحاديث نبوية وآيات قرآنية إن الله يقبل توبته إذا شاء، وإنه لا يخلد في النار إذا مات وهو يشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ومما يورد في صدد القول الأول حديث رواه أبو داود والنسائي جاء فيه ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ) ٩ وحديث رواه الشيخان عن سعيد ابن جبير قال ( قلت لابن عباس : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال لا. فقرأت عليه آية الفرقان إلى ( إلا من تاب ) ( ٧٠ ) قال هذه مكية نسختها آية مدنية ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) ١٠.
ومما يورد في صدد القول الثاني ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ) و ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا... ) ( الزمر : ٥٣ ) وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق وكررتها فكررها ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر ) ١١ وحديث ثان رواه كذلك الشيخان والترمذي عن معاذ عن النبي ( ما من أحد يشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ) ١٢ وحديث ثالث رواه مسلم عن أنس عن النبي قال ( يخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان. ويخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان ) ١٣ وحديث رابع رواه مسلم عن جابر قال ( أتى النبي رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ) ١٤ ولقد أورد الشيخان تتمة للحديث الذي روياه عن سعيد ابن جبير جاء فيه : أن هذا ذكر لمجاهد وهو من كبار التابعين ومفسريهم ما سمعه من ابن عباس فقال ( إلا من ندم ) ١٥.
ومع ما لكل من القولين من وجاهة على ضوء الأحاديث التي يستند إليها أصحابها، فإنه يتبادر لنا على ضوء ما أوردناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج أن
١ التاج ج ٣ ص ٣.
٢ التاج ج ٣ ص ٤.
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر نفسه.
٥ المصدر نفسه.
٦ التاج ج ٣ ص ١١ و ١٢ والعميا تعني حالة الهياج والشجار العامة التي تؤدي إلى المضاربة والتقاتل بين جماعتين.
٧ انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
٨ انظر التاج ج ٣ ص ٤ ـ ٦.
٩ المصدر نفسه.
١٠ التاج ج ١ ص ٢٦.
١١ المصدر نفسه ص ٢٦ ـ ٢٨.
١٢ المصدر نفسه.
١٣ المصدر نفسه.
١٤ التاج= ج ١ ص ٢٦ ـ ٢٨.
١٥ التاج ج ٤ ص ٨٤.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ( ١ ) فَتَبَيَّنُواْ( ٢ ) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ١ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ٩٤ ) ﴾.
( ١ ) إذا ضربتم في سبيل الله : هنا بمعنى إذا خرجتم للجهاد في سبيل الله
( ٢ ) تبينوا : بمعنى تثبتوا وقد قرئت ( تثبتوا ) أيضا
( ٣ ) السلام : قرئت ( السلم ) أيضا واختلفت الأقوال في معناها حيث قيل إنها المسالمة. وقيل إنها تحية الإسلام. وقيل إنها إعلان الإسلام
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا )الخ.
وجه الخطاب في الآية للمسلمين وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا لهم بالتثبت من حقائق الناس الذين يلقونهم إذا ما خرجوا للجهاد في سبيل الله فلا يقاتلون إلا العدو الكفر ولا يقولون لمن ألقى إليهم السلام أو أعلن المسالمة أو الإسلام لست مؤمنا اجتهادا منهم بأنه غير صادق فيما ألقاه وطمعا في المغانم التي ينالونها منه.
( ٢ ) وتنبيها تأديبيا وتذكيريا : فعند الله مغانم كثيرة دنيوية وأخروية للمخلصين فلا ينبغي أن يكون عرض الحياة الدنيا باعثا فيهم الطمع ومذهلا لهم عن الحق وصارفا إياهم عن التثبت. وعليهم أن يذكروا أنهم كانوا غير مسلمين فمن الله عليهم وهداهم، وأن من الممكن أن يمن على غيرهم ويهديهم أيضا.
( ٣ ) وتوكيدا ثانيا بوجوب وتنبيها فيه معنى الإنذار بأن الله خبير بما يعملون وبنواياهم التي يضمرونها وراء أعمالهم.
ولقد أول بعض المؤولين٢ جملة ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) بمعنى أنكم كنتم أيضا تخفون إسلامكم في مكة فمن الله عليكم بالنصر والعزة ولا يخلو هذا من وجاهة، وإن كنا نرى التأويل أولنا به الجملة والذي روي عن مؤولين آخرين٣ هو الأوجه. والله أعلم.
وقد روى المفسرون٤ في سبب نزول الآية روايات متعددة ومختلفة الأشخاص والوقائع متحدة الموضوع ملخصها : أن بعض المسلمين خرجوا في سرية جهادية فلقوا شخصا معه غنم أو عنده مال فحياهم بالسلام أو بادرهم بكلمة التوحيد فلم يصدقوه، وظنوا أن ذلك منه تقية وخداع فقتلوه واستولوا على غنمه أو ماله. وبعض الروايات تذكر أنه كان بين القتيل والقاتل إحنة في الجاهلية. وقد كان الحادث باعثا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولاتهامه إياهم بالطمع في ماله حتى قال لهم على سبيل التثريب :( هلا شققتم عن قلبه ) حينما اعتذروا له فلم تلبث أن نزلت الآية. فأمر النبي بأداء دية القتيل ورد ماله أو غنمه إلى أهله واعتبر القتل من نوع الخطأ وأمر القاتل بعتق رقبة.
ومن جملة الروايات المروية التي أوردناها عن أبي الدرداء في سياق الآيات السابقة. ومن جملة أسماء قواد السرية الذين ذكروا في الروايات أسامة ابن زيد والمقداد ابن الأسود ومحلم ابن جثامة وهذا هو الذي روى أنه كان بينه وبين القتيل إحنة في الجاهلية. وإحدى الروايات فقط رواها الشيخان والترمذي وأبو داود عن ابن عباس بهذا النص ( مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عيه وسلم غنم فسلم عليهم فقالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله فنزلت الآية٥.
وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود عن أسامة فيه حادث مشابه ولكن لا يذكر أن الآية نزلت فيه جاء فيه ( قال أسامة : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال : لا إلاه إلا الله فضربناه حتى قتلناه، فذكرت ذلك للنبي فقال : من لك بلا إلاه إلا الله يوم القيامة فقلت : يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح. قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ؟ من لك بلا إلاه إلا الله يوم القيامة ؟ فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ٦ وبقطع النظر عن التعدد والتباين في الروايات فإن الآية متسقة مع ما جاء فيها بحيث يسوغ إن حادثا مما ذكر فيها كان سبب نزول الآية.
ويبدو شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الآيات السابقة لها. فإما أن تكون نزلت بعدها فوصفت في ترتيبها وإما أن تكون نزلت لحدتها فوصفت في ترتيبها للتناسب الموضوعي.
والآية في حد ذاتها جملة تشريعية تامة. وقد احتوت حكما محكما رائعا وتلقينا جليلا ودرسا وتوجيها بليغين مستمري المدى في كل ظرف ومكان من مداهما أنه لا ينبغي أن تكون الغنائم هدفا جوهريا من أهداف الجهاد أولا، ويجب أن يقبل من الناس ثانيا ظواهرهم إذا لم يكن هناك ما يكذبها فعلا وبخاصة دعوى السلام والإسلام والمسالمة. وإيذان بأن الإسلام أو المسالمة ثالثا هما المطلوبان من كل كافر، فإن تحققا امتنع سواغ القتل والقتال. ويظل كل هذا متلألئا في غرة الشريعة الإسلامية على مدى الدهر.
١ السلام: قرئت (السلم) أيضا واختلفت الأقوال في معناها حيث قيل: إنها المسالمة. وقيل: إنها تحية الإسلام. وقيل: إنها إعلان الإسلام.
٢ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر نفسه.
٥ التاج ج ٤ ص ٨٤ و ٨٥.
٦ انظر المصدر نفسه ص ٢٣١.
( ١ ) غير أولي الضرر : غير ذوي الضرر أي الذين فيهم ضرر يمنعهم من الجهاد كالمرضى وذوي العاهات. وهناك أحاديث تفيد أن ذوي الأعذار المشروعة يدخلون في الجملة.
﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَر( ١ ) وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٩٥ ) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا( ٩٦ ) ﴾.
تعليق على الآية
( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله... )الخ.
والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها عظيما بزيادة فضل وأجر المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد من المؤمنين من غير ذوي الضرر والأعذار المروعة مع استحقاقهم الحسنى الموعودة للمؤمنين جميعا مجاهدين وقاعدين.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس : أن المقصود من القاعدين والمجاهدين هم الذين خرجوا مع رسول الله إلى بدر والذين قعدوا عنها. فإنه لما نزل الأمر بغزوة بدر قال عبد الله ابن أم مكتوم وأبو أحمد ابن جحش ابن قيس الأسدي : يا رسول الله إننا أعميان فهل لنا رخصة ؟ فنزلت الآية. وهناك حديث يرويه البخاري والترمذي عن زيد ابن ثابت جاء فيه ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال : يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله ( غير أولي الضرر ) ِ١ وليس في الحديث الصحيح هذا ذكر لغزوة بدر بل وليس فيه أن الآيات نزلت في صدد ابن أم مكتوم وكل ما فيه أن حكمة التنزيل استجابت لهتافه فأنزلت الجملة الاستثنائية ليدخل هو ومن في بابه في الاستثناء وليكون ذلك تشريعا عاما. ووقائع غزوة بدر نزلت متصلة في سورة الأنفال وقد نزلت بعد الغزوة وليس فيها قبلها. وليس من حكمة لوضع آية يقال إنها نزلت في ظرف وقعة بدر في هذه السورة.
ولما كانت الآيات ( ٧١ ـ ٨٩ ) قد احتوت حملة على مرضى القلوب والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد ويخلفون وعدهم بذلك وأهدرت دم المنافقين إذا ظلوا على موقفهم ولم يتضامنوا في الجهاد مع المؤمنين على ما شرحناه في سياقها.
فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المخلصين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الذي يقعد عن الجهاد أحيانا لسبب ما وهو مخلص في إيمانه عقب نزول الآيات المذكورة فأوحي بالآيتين جوابا على ذلك مؤذنين بتسامح الله عز وجل للمخلصين الذين لا يعتذرون كذبا ولا تهربا ولو لم تكن أعذارهم قوية ظاهرة. هذا وما جاء في النص باستثناء ذوي الضرر فالحكمة فيه جلية. وقد تكرر هذا في آيات سورة الفتح في سياق الحض على الجهاد حيث جاء فيه ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) ( ١٧ ) وفي سياق آيات تندد بالممترين في سورة التوبة حيث جاء فيه ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) ( ٩١ ).
ولا يبعد أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات التي سبقتها فوضعتا مكانهما للتناسب الظرفي والموضوعي وإلا فتكونان قد وضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.
ولفت النظر إلى ما في جملة ( وكلا وعد الله الحسنى ) من لفتة ربانية كريمة إلى القاعدين من المؤمنين لأسباب مقبولة فيها تطمين لهم بسبب ما يعرف من إخلاصهم وفي هذا كذلك تلقين مستمر المدى في صدد من يعرف منه الإخلاص وحسن النية وصدق الطوية ولو لم يشترك اشتراكا فعليا في الحركات الجهادية لأسباب مقبولة.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس حديثا جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال : إن أقواما بالمدينة خلفنا من سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر ) حيث ينطوي في الحديث توضيح وتدعيم.
ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أنه يصح أن يضاف إلى ما قلناه أن تكون الآيتان احتوتا أيضا بيانا في حالة المؤمنين المخلصين إزاء الجهاد إذا كان الظرف لا يقتضي أن ينفروا جميعهم فيندب بعضهم أو ينفر بعضهم دون بعض فغير المنتدبين أو غير النافرين في هذه الحالة ليسوا موضع تثريب وسخط ربانيين، بل هم والمنتدبون أو النافرون معا موضع وعد الله الحسنى الذي وعد به كل مؤمن مخلص. غير أن المنتدبين يظلون على كل حال أفضل عند الله وأعظم أجرا وفي هذا ما فيه من حث قوي على النفرة إلى الجهاد والتسابق إليه.
وهذا نرى أن نلفت النظر إلى حديث ابن أم مكتوم من حيث انطواؤه على مشهد من مشاهد التنزيل القرآني من جهة وعلى دليل على تدوين القرآن فورا حين نزوله من جهة أخرى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٥:( ١ ) غير أولي الضرر : غير ذوي الضرر أي الذين فيهم ضرر يمنعهم من الجهاد كالمرضى وذوي العاهات. وهناك أحاديث تفيد أن ذوي الأعذار المشروعة يدخلون في الجملة.
﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَر( ١ ) وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٩٥ ) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا( ٩٦ ) ﴾.
تعليق على الآية
( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله... )الخ.
والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنتا تنويها عظيما بزيادة فضل وأجر المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد من المؤمنين من غير ذوي الضرر والأعذار المروعة مع استحقاقهم الحسنى الموعودة للمؤمنين جميعا مجاهدين وقاعدين.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس : أن المقصود من القاعدين والمجاهدين هم الذين خرجوا مع رسول الله إلى بدر والذين قعدوا عنها. فإنه لما نزل الأمر بغزوة بدر قال عبد الله ابن أم مكتوم وأبو أحمد ابن جحش ابن قيس الأسدي : يا رسول الله إننا أعميان فهل لنا رخصة ؟ فنزلت الآية. وهناك حديث يرويه البخاري والترمذي عن زيد ابن ثابت جاء فيه ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال : يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله ( غير أولي الضرر ) ِ١ وليس في الحديث الصحيح هذا ذكر لغزوة بدر بل وليس فيه أن الآيات نزلت في صدد ابن أم مكتوم وكل ما فيه أن حكمة التنزيل استجابت لهتافه فأنزلت الجملة الاستثنائية ليدخل هو ومن في بابه في الاستثناء وليكون ذلك تشريعا عاما. ووقائع غزوة بدر نزلت متصلة في سورة الأنفال وقد نزلت بعد الغزوة وليس فيها قبلها. وليس من حكمة لوضع آية يقال إنها نزلت في ظرف وقعة بدر في هذه السورة.
ولما كانت الآيات ( ٧١ ـ ٨٩ ) قد احتوت حملة على مرضى القلوب والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد ويخلفون وعدهم بذلك وأهدرت دم المنافقين إذا ظلوا على موقفهم ولم يتضامنوا في الجهاد مع المؤمنين على ما شرحناه في سياقها.
فالذي يتبادر لنا أن فريقا من المخلصين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الذي يقعد عن الجهاد أحيانا لسبب ما وهو مخلص في إيمانه عقب نزول الآيات المذكورة فأوحي بالآيتين جوابا على ذلك مؤذنين بتسامح الله عز وجل للمخلصين الذين لا يعتذرون كذبا ولا تهربا ولو لم تكن أعذارهم قوية ظاهرة. هذا وما جاء في النص باستثناء ذوي الضرر فالحكمة فيه جلية. وقد تكرر هذا في آيات سورة الفتح في سياق الحض على الجهاد حيث جاء فيه ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) ( ١٧ ) وفي سياق آيات تندد بالممترين في سورة التوبة حيث جاء فيه ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) ( ٩١ ).
ولا يبعد أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات التي سبقتها فوضعتا مكانهما للتناسب الظرفي والموضوعي وإلا فتكونان قد وضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.
ولفت النظر إلى ما في جملة ( وكلا وعد الله الحسنى ) من لفتة ربانية كريمة إلى القاعدين من المؤمنين لأسباب مقبولة فيها تطمين لهم بسبب ما يعرف من إخلاصهم وفي هذا كذلك تلقين مستمر المدى في صدد من يعرف منه الإخلاص وحسن النية وصدق الطوية ولو لم يشترك اشتراكا فعليا في الحركات الجهادية لأسباب مقبولة.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس حديثا جاء فيه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال : إن أقواما بالمدينة خلفنا من سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر ) حيث ينطوي في الحديث توضيح وتدعيم.
ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أنه يصح أن يضاف إلى ما قلناه أن تكون الآيتان احتوتا أيضا بيانا في حالة المؤمنين المخلصين إزاء الجهاد إذا كان الظرف لا يقتضي أن ينفروا جميعهم فيندب بعضهم أو ينفر بعضهم دون بعض فغير المنتدبين أو غير النافرين في هذه الحالة ليسوا موضع تثريب وسخط ربانيين، بل هم والمنتدبون أو النافرون معا موضع وعد الله الحسنى الذي وعد به كل مؤمن مخلص. غير أن المنتدبين يظلون على كل حال أفضل عند الله وأعظم أجرا وفي هذا ما فيه من حث قوي على النفرة إلى الجهاد والتسابق إليه.
وهذا نرى أن نلفت النظر إلى حديث ابن أم مكتوم من حيث انطواؤه على مشهد من مشاهد التنزيل القرآني من جهة وعلى دليل على تدوين القرآن فورا حين نزوله من جهة أخرى.

( ١ ) توفاهم : تتوفاهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ( ١ ) الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( ٩٧ ) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ( ٩٨ ) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا( ٩٩ ) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً( ٢ ) وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم... ) الخ.
والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) تنديدا بفريق من المسلمين آثروا الرضوخ في دار العدو وكانوا يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين. وكان اعتذراهم غير صادق. وإفحاما لهم وإنذارا بسوء المصير الأخروي لأنهم بذلك ظلموا أنفسهم.
( ٢ ) واستثناء من هذا التنديد والإنذار لفريق آخر من رجال ونساء وولدان كانوا حقا مستضعفين مغلوبين على أمرهم ولم يكن لهم سبيل حقا. وتطمينا بأن الله قد يشملهم بعفوه وغفرانه.
( ٣ ) وتنويها بفائدة الهجرة في سبيل الله وإيجابا لها وحثا عليها : فالذين يهاجرون في سبيل الله يجدون أسبابا كثيرة لمراغمة عدوهم وقهره وإزعاجه. وأبوابا واسعة للرزق. والذي يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فيموت في هذا السبيل فيكون قد حق على الله أجره وهو الغفور الرحيم.
ومع واجب الإيمان بما حكته الآية الأولى مما سوف يكون من حوار بين الملائكة والمتخلفين عن الهجرة بدون عذر فإن قصد التثريب والإنذار من الحكمة المملوحة فيها.
والآيات فصل جديد، والتناسب مع ذلك ملموح بينها وبين السياق السابق. فإما أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في صدد الآيات. فرووا أن الآية الأولى نزلت في حق أشخاص كانوا أسلموا وبقوا في مكة وكانوا يكتمون إسلامهم، وقد اشتركوا مع المشركين في وقعة بدر ومنهم من قتل ومنهم من أسر في هذه الوقعة. ورووا في سياق ذلك أن العباس عم النبي وعقيلا ابن عمه كانوا ممن خرجوا مع المشركين وأسروا، ولم يقبل الله عذرهم حين اعتذروا بأنهم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم. وأن العباس قال لرسول الله لما طلب منه الفداء عنه وعن عقيل : كيف ذلك ونحن نصلي قبلتك ونشهد بشهادتك ؟ فقال له : إنكم خاصمتم فخصمتم ثم تلا الآية. وهذا يعني أن الآية نزلت قبل وقعة بدر، وهو في اعتقادنا بعيد الاحتمال. وهناك رواية أخرى يرويها المفسرون في صدد الآية وهي أنها في حق الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة من مكة بدون عذر وبقوا وماتوا فيها. وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عباس جاء فيه ( إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) الآية. ثم خفف الله تعالى عن الضعفاء الذين مع المشركين فقال ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ٩٩ ) وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذر الله ) ٢.
وروى المفسرون٣ كذلك أن الآية الثانية نزلت في حق جماعة كانوا فعلا مغلوبين على أمرهم ومنهم الوليد وسلمة ابن هشام وعياش ابن أبي ربيعة. وأن جملة ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ) إلى آخر الآية الثالثة نزلت في مسلم طاعن في السن كان يقيم في مكة بادر إلى الهجرة حينما بلغته الآية الأولى رغم ممانعة أهله وسخرية قومه به فمات في الطريق. وقد اختلفت الروايات فيه فمنها من ذكر أنه جندب ابن ضمرة أو رجل من بني الليث أو رجل من بني كنانة أو من خزاعة.
وهناك رواية تذكر أن الجملة في صدد جماعة من المسلمين كانوا في مكة فكتب إليهم المهاجرون حينما نزلت الآية الأولى بأنهم لم يبق لهم عذر فخرجوا فلحق بهم المشركون فقتلوا من قدروا عليه ونجا من نجا. ورواية تذكر أنها نزلت في خالد ابن حرام حين هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق.
وباستثناء حديث البخاري عن ابن عباس فإنه ليس شيء من الروايات الأخرى واردا في الصحاح. وبعض الروايات يقتضي أن تكون بعض الآيات أو جملة منها مكية ؛ لأن الهجرة إلى الحبشة إنما كانت أثناء العهد المكي. وبعضها يقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة بل أن يكون بعض جمل من الآيات نزلت لحدتها في حين أنها وحدة تامة منسجمة، ويلحظ بالإضافة إلى هذا ثم بالإضافة إلى ما لحظناه من بعد احتمال نزول الآيات قبل أو عقب وقعة بدرـ أنه ليس فيها ما يساعد على التسليم بصحة ما جاء في الروايات من اشتراك المسلمين المتخلفين في وقعة بدر إلى جانب المشركين. وكل ما تفيده أنهم كانوا يعتذرون بكونهم مستضعفين فقط. ولقد أهدرت الآيات ( ٨٨ ـ ٨٩ ) من هذه السورة دم المنافقين لأنهم لم يتضامنوا في الجهاد مع المسلمين واعتبرتهم كفارا على ما شرحناه قبل. وما روته الروايات عن المسلمين المتخلفين أشد وأبشع من ذلك. ولو كان هذا صحيحا لما كان أي معنى للاحتجاج الذي حكته الآيات عن لسانهم.
يضاف إلى هذا كله : أن أسلوب الآيات التي هي كما قلنا وحدة تامة منسجمة مطلق وشامل.
والذي يتبادر لنا أن بعض أصحاب رسول الله من المهاجرين ذكروا الذين تخلفوا من المسلمين في مكة أو تذاكروا في أمرهم ومصيرهم في مناسبة ما. ولعلها كانت الآيات ( ٨٨ـ ٨٩ ) من السورة التي تهدر دم المنافقين لعدم هجرتهم في سبيل الله وتضامنهم مع المسلمين في الجهاد في هذا السبيل فاقتضت حكمة التنزيل وحي الآيات بالأسلوب الذي جاءت به. ونميل إلى القول بأن الروايات التي قد يكون بعض ما جاء فيها صحيحا من حيث الوقائع قد سيقت على هامش الآيات على سبيل التطبيق وفيها صور من السيرة النبوية في عهدها المدني، وقولنا ينطبق على حديث البخاري عن ابن عباس. وأسلوبه وفحواه يدلان بقوة على أن كلامه كان من قبيل التطبيق والاجتهاد والله أعلم.
وعلى كل حال فالآية الأولى تدل على رضوخ أناس من المسلمين وعدم هجرتهم والالتحاق بالنبي والمسلمين مع قدرتهم على ذلك إما جبنا أو تكاسلا أو إيثارا للاستمتاع بما لهم من أموال وهنئ العيش. والآية الثانية تدل على أنه كان إلى جانب هؤلاء فريق من الرجال ونساء وولدان مسلمين ـ وهذا لا يعني أسر إسلامية ـ مغلوبين على أمرهم فعلا ولا يستطيعون عمل شيء ما. ( وهناك آيات أخرى تؤيد ذلك منها آية سورة الأنفال ( ٧٢ ) التي جاء فيها هذه الجملة ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ومنها آية سورة الفتح هذه ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لو تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم... ) ومنها آية سورة الممتحنة هذه ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) آية الفتح بخاصة صريحة بأن الذين أشير فيها هم في مكة.
والآيات تنطوي كما قلنا على ما كان من واقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تنديد بالمسلمين الذين آثروا الرضوخ والبقاء في كنف الأعداء وعدم الهجرة مع قدرتهم عليها. بل إيجاب وتأثيم لمن لا يناضل العدو أو يهاجر لأجل التوسل لمناضلته. ولقد روى أبو داود والترمذي عن جرير ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين٤ ) وفي هذا تطور تشريعي بالنسبة لظروف السيرة النبوية ؛ لأن آية الأنفال التي أوردنا نصها آنفا والتي أشارت إلى هذا الفريق لم تتضمن التأثيم والإنذار والإلزام والإيجاب بل تضمنت إيجاب نصرتهم على المسلمين إذا استنصروهم في الدين. وكل ما تضمنته تقرير كون المهاجرين لا يتحملون تبعتهم. ولقد ظل ما انطوى في الآية الأولى محكما إلى فتح مكة الذي تم في السنة الثامنة للهجرة، حيث روى الخمسة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في ( لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ) ٥ فغدت الهجرة بعد ذلك اختيارية. وظاهر أن رفع واجب الهجرة عن المسلمين بعد الفتح متصل بظروف السيرة النبوية لأن مكة أيضا بل معظم جزيرة العرب غدت دار إسلام خاضعة لسلطان النبي والمسلمين٦.
ويلحظ أن آيات سورة النساء ( ٧٤ و ٧٥ ) التي مر تفسيرها احتوت أمرا المتبادر أنه للمؤمنين الذين هم خارج بلد الظالمين بالقتال في سبيل الله والمستضعفين من جهة أن هذه الآيات التي نحن في صددها هي في الذين هم في بلد الظالمين. وكلتا الصورتين مما كان واقعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح.
ومحتوى الآيتين الثانية والثالثة متسق مع المبادئ القرآنية من عدم تحميل المسلم ما لا طاقة له به وعذره وعدم مسؤوليته وإثمه فيما لا حيلة له فيه ولا حول له عليه. ومع ذلك فإن كلمة ( عسى ) في مقامها ذات دلالة هامة، حيث يمكن أن تفيد أن عفو الله عن المقيم في أرض الكفر والظلم بعذر ليس أكيدا وأن على هذا المقيم أن يبذل جهده في الخروج منها وعدم الاحتماء وراء الأعذار الخفيفة.
وصيغة الآيات تشريعية مطلقة مثل صيغة الآيات ( ٧٤ و ٧٥ ) وهي مثلها مستمرة المدى والتلقين لكل ظرف مماثل بحيث توجب على المسلمين المستطيعين أن لا يقيموا في دار عدو وتحت ظلمه مستكينين إذا عجزوا عن مكافحته وإرغامه وأن يهجروها إلى دار إسلام وعدل ليتوسلوا بأسباب مكافحته وإرغامه مهما تحملوا في سبيل ذلك من مشاق وأخطار مطمئنين بوعد الله لهم بالنصر والمغفرة والأجر العظيم، وحديث أبي داود والترمذي عن جرير بصيغته المطلقة يحتوي تلقينا مستمر المدى. والأحاديث الثلاثة التي أوردناها في الذيل السابق تجعل احتمالات ذلك وواجباته مستمرة.
وهناك حالات قد تحدث مما يتصل بمدى الآيات وتلقيناتها :
( ١ ) فقد يغزو عدو بلاد المسلمين ويسيطر عليها.
( ٢ ) وقد يقوم ظالم طاغية يزعم الإسلام ويتصرف بما يخالفه مخالفة صريحة وشديدة فيكون ظلمه على الناس قويا ويكون الحكم الإسلام وطابعه منتفيين.
( ٣ ) وهناك بلاد غير مسلمة بينها وبين المسلمين حالة حرب وعداء ويكون فيها مسلمون مقيمون دائما أو مؤقتا من أهلها أو طارئون. والمتبادر بالنسبة للحالة الأولى أن من واجب المسلمين أهل البلاد النضال والمقاومة بكل استطاعتهم ومهما تحملوا وعدم الهجرة منها إلا في حالة العج
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ( ١ ) الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( ٩٧ ) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ( ٩٨ ) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا( ٩٩ ) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً( ٢ ) وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم... ) الخ.
والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) تنديدا بفريق من المسلمين آثروا الرضوخ في دار العدو وكانوا يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين. وكان اعتذراهم غير صادق. وإفحاما لهم وإنذارا بسوء المصير الأخروي لأنهم بذلك ظلموا أنفسهم.
( ٢ ) واستثناء من هذا التنديد والإنذار لفريق آخر من رجال ونساء وولدان كانوا حقا مستضعفين مغلوبين على أمرهم ولم يكن لهم سبيل حقا. وتطمينا بأن الله قد يشملهم بعفوه وغفرانه.
( ٣ ) وتنويها بفائدة الهجرة في سبيل الله وإيجابا لها وحثا عليها : فالذين يهاجرون في سبيل الله يجدون أسبابا كثيرة لمراغمة عدوهم وقهره وإزعاجه. وأبوابا واسعة للرزق. والذي يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فيموت في هذا السبيل فيكون قد حق على الله أجره وهو الغفور الرحيم.
ومع واجب الإيمان بما حكته الآية الأولى مما سوف يكون من حوار بين الملائكة والمتخلفين عن الهجرة بدون عذر فإن قصد التثريب والإنذار من الحكمة المملوحة فيها.
والآيات فصل جديد، والتناسب مع ذلك ملموح بينها وبين السياق السابق. فإما أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في صدد الآيات. فرووا أن الآية الأولى نزلت في حق أشخاص كانوا أسلموا وبقوا في مكة وكانوا يكتمون إسلامهم، وقد اشتركوا مع المشركين في وقعة بدر ومنهم من قتل ومنهم من أسر في هذه الوقعة. ورووا في سياق ذلك أن العباس عم النبي وعقيلا ابن عمه كانوا ممن خرجوا مع المشركين وأسروا، ولم يقبل الله عذرهم حين اعتذروا بأنهم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم. وأن العباس قال لرسول الله لما طلب منه الفداء عنه وعن عقيل : كيف ذلك ونحن نصلي قبلتك ونشهد بشهادتك ؟ فقال له : إنكم خاصمتم فخصمتم ثم تلا الآية. وهذا يعني أن الآية نزلت قبل وقعة بدر، وهو في اعتقادنا بعيد الاحتمال. وهناك رواية أخرى يرويها المفسرون في صدد الآية وهي أنها في حق الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة من مكة بدون عذر وبقوا وماتوا فيها. وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عباس جاء فيه ( إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) الآية. ثم خفف الله تعالى عن الضعفاء الذين مع المشركين فقال ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ٩٩ ) وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذر الله ) ٢.
وروى المفسرون٣ كذلك أن الآية الثانية نزلت في حق جماعة كانوا فعلا مغلوبين على أمرهم ومنهم الوليد وسلمة ابن هشام وعياش ابن أبي ربيعة. وأن جملة ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ) إلى آخر الآية الثالثة نزلت في مسلم طاعن في السن كان يقيم في مكة بادر إلى الهجرة حينما بلغته الآية الأولى رغم ممانعة أهله وسخرية قومه به فمات في الطريق. وقد اختلفت الروايات فيه فمنها من ذكر أنه جندب ابن ضمرة أو رجل من بني الليث أو رجل من بني كنانة أو من خزاعة.
وهناك رواية تذكر أن الجملة في صدد جماعة من المسلمين كانوا في مكة فكتب إليهم المهاجرون حينما نزلت الآية الأولى بأنهم لم يبق لهم عذر فخرجوا فلحق بهم المشركون فقتلوا من قدروا عليه ونجا من نجا. ورواية تذكر أنها نزلت في خالد ابن حرام حين هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق.
وباستثناء حديث البخاري عن ابن عباس فإنه ليس شيء من الروايات الأخرى واردا في الصحاح. وبعض الروايات يقتضي أن تكون بعض الآيات أو جملة منها مكية ؛ لأن الهجرة إلى الحبشة إنما كانت أثناء العهد المكي. وبعضها يقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة بل أن يكون بعض جمل من الآيات نزلت لحدتها في حين أنها وحدة تامة منسجمة، ويلحظ بالإضافة إلى هذا ثم بالإضافة إلى ما لحظناه من بعد احتمال نزول الآيات قبل أو عقب وقعة بدرـ أنه ليس فيها ما يساعد على التسليم بصحة ما جاء في الروايات من اشتراك المسلمين المتخلفين في وقعة بدر إلى جانب المشركين. وكل ما تفيده أنهم كانوا يعتذرون بكونهم مستضعفين فقط. ولقد أهدرت الآيات ( ٨٨ ـ ٨٩ ) من هذه السورة دم المنافقين لأنهم لم يتضامنوا في الجهاد مع المسلمين واعتبرتهم كفارا على ما شرحناه قبل. وما روته الروايات عن المسلمين المتخلفين أشد وأبشع من ذلك. ولو كان هذا صحيحا لما كان أي معنى للاحتجاج الذي حكته الآيات عن لسانهم.
يضاف إلى هذا كله : أن أسلوب الآيات التي هي كما قلنا وحدة تامة منسجمة مطلق وشامل.
والذي يتبادر لنا أن بعض أصحاب رسول الله من المهاجرين ذكروا الذين تخلفوا من المسلمين في مكة أو تذاكروا في أمرهم ومصيرهم في مناسبة ما. ولعلها كانت الآيات ( ٨٨ـ ٨٩ ) من السورة التي تهدر دم المنافقين لعدم هجرتهم في سبيل الله وتضامنهم مع المسلمين في الجهاد في هذا السبيل فاقتضت حكمة التنزيل وحي الآيات بالأسلوب الذي جاءت به. ونميل إلى القول بأن الروايات التي قد يكون بعض ما جاء فيها صحيحا من حيث الوقائع قد سيقت على هامش الآيات على سبيل التطبيق وفيها صور من السيرة النبوية في عهدها المدني، وقولنا ينطبق على حديث البخاري عن ابن عباس. وأسلوبه وفحواه يدلان بقوة على أن كلامه كان من قبيل التطبيق والاجتهاد والله أعلم.
وعلى كل حال فالآية الأولى تدل على رضوخ أناس من المسلمين وعدم هجرتهم والالتحاق بالنبي والمسلمين مع قدرتهم على ذلك إما جبنا أو تكاسلا أو إيثارا للاستمتاع بما لهم من أموال وهنئ العيش. والآية الثانية تدل على أنه كان إلى جانب هؤلاء فريق من الرجال ونساء وولدان مسلمين ـ وهذا لا يعني أسر إسلامية ـ مغلوبين على أمرهم فعلا ولا يستطيعون عمل شيء ما. ( وهناك آيات أخرى تؤيد ذلك منها آية سورة الأنفال ( ٧٢ ) التي جاء فيها هذه الجملة ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ومنها آية سورة الفتح هذه ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لو تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم... ) ومنها آية سورة الممتحنة هذه ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) آية الفتح بخاصة صريحة بأن الذين أشير فيها هم في مكة.
والآيات تنطوي كما قلنا على ما كان من واقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تنديد بالمسلمين الذين آثروا الرضوخ والبقاء في كنف الأعداء وعدم الهجرة مع قدرتهم عليها. بل إيجاب وتأثيم لمن لا يناضل العدو أو يهاجر لأجل التوسل لمناضلته. ولقد روى أبو داود والترمذي عن جرير ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين٤ ) وفي هذا تطور تشريعي بالنسبة لظروف السيرة النبوية ؛ لأن آية الأنفال التي أوردنا نصها آنفا والتي أشارت إلى هذا الفريق لم تتضمن التأثيم والإنذار والإلزام والإيجاب بل تضمنت إيجاب نصرتهم على المسلمين إذا استنصروهم في الدين. وكل ما تضمنته تقرير كون المهاجرين لا يتحملون تبعتهم. ولقد ظل ما انطوى في الآية الأولى محكما إلى فتح مكة الذي تم في السنة الثامنة للهجرة، حيث روى الخمسة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في ( لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ) ٥ فغدت الهجرة بعد ذلك اختيارية. وظاهر أن رفع واجب الهجرة عن المسلمين بعد الفتح متصل بظروف السيرة النبوية لأن مكة أيضا بل معظم جزيرة العرب غدت دار إسلام خاضعة لسلطان النبي والمسلمين٦.
ويلحظ أن آيات سورة النساء ( ٧٤ و ٧٥ ) التي مر تفسيرها احتوت أمرا المتبادر أنه للمؤمنين الذين هم خارج بلد الظالمين بالقتال في سبيل الله والمستضعفين من جهة أن هذه الآيات التي نحن في صددها هي في الذين هم في بلد الظالمين. وكلتا الصورتين مما كان واقعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح.
ومحتوى الآيتين الثانية والثالثة متسق مع المبادئ القرآنية من عدم تحميل المسلم ما لا طاقة له به وعذره وعدم مسؤوليته وإثمه فيما لا حيلة له فيه ولا حول له عليه. ومع ذلك فإن كلمة ( عسى ) في مقامها ذات دلالة هامة، حيث يمكن أن تفيد أن عفو الله عن المقيم في أرض الكفر والظلم بعذر ليس أكيدا وأن على هذا المقيم أن يبذل جهده في الخروج منها وعدم الاحتماء وراء الأعذار الخفيفة.
وصيغة الآيات تشريعية مطلقة مثل صيغة الآيات ( ٧٤ و ٧٥ ) وهي مثلها مستمرة المدى والتلقين لكل ظرف مماثل بحيث توجب على المسلمين المستطيعين أن لا يقيموا في دار عدو وتحت ظلمه مستكينين إذا عجزوا عن مكافحته وإرغامه وأن يهجروها إلى دار إسلام وعدل ليتوسلوا بأسباب مكافحته وإرغامه مهما تحملوا في سبيل ذلك من مشاق وأخطار مطمئنين بوعد الله لهم بالنصر والمغفرة والأجر العظيم، وحديث أبي داود والترمذي عن جرير بصيغته المطلقة يحتوي تلقينا مستمر المدى. والأحاديث الثلاثة التي أوردناها في الذيل السابق تجعل احتمالات ذلك وواجباته مستمرة.
وهناك حالات قد تحدث مما يتصل بمدى الآيات وتلقيناتها :
( ١ ) فقد يغزو عدو بلاد المسلمين ويسيطر عليها.
( ٢ ) وقد يقوم ظالم طاغية يزعم الإسلام ويتصرف بما يخالفه مخالفة صريحة وشديدة فيكون ظلمه على الناس قويا ويكون الحكم الإسلام وطابعه منتفيين.
( ٣ ) وهناك بلاد غير مسلمة بينها وبين المسلمين حالة حرب وعداء ويكون فيها مسلمون مقيمون دائما أو مؤقتا من أهلها أو طارئون. والمتبادر بالنسبة للحالة الأولى أن من واجب المسلمين أهل البلاد النضال والمقاومة بكل استطاعتهم ومهما تحملوا وعدم الهجرة منها إلا في حالة العج
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ( ١ ) الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( ٩٧ ) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ( ٩٨ ) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا( ٩٩ ) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً( ٢ ) وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم... ) الخ.
والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) تنديدا بفريق من المسلمين آثروا الرضوخ في دار العدو وكانوا يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين. وكان اعتذراهم غير صادق. وإفحاما لهم وإنذارا بسوء المصير الأخروي لأنهم بذلك ظلموا أنفسهم.
( ٢ ) واستثناء من هذا التنديد والإنذار لفريق آخر من رجال ونساء وولدان كانوا حقا مستضعفين مغلوبين على أمرهم ولم يكن لهم سبيل حقا. وتطمينا بأن الله قد يشملهم بعفوه وغفرانه.
( ٣ ) وتنويها بفائدة الهجرة في سبيل الله وإيجابا لها وحثا عليها : فالذين يهاجرون في سبيل الله يجدون أسبابا كثيرة لمراغمة عدوهم وقهره وإزعاجه. وأبوابا واسعة للرزق. والذي يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فيموت في هذا السبيل فيكون قد حق على الله أجره وهو الغفور الرحيم.
ومع واجب الإيمان بما حكته الآية الأولى مما سوف يكون من حوار بين الملائكة والمتخلفين عن الهجرة بدون عذر فإن قصد التثريب والإنذار من الحكمة المملوحة فيها.
والآيات فصل جديد، والتناسب مع ذلك ملموح بينها وبين السياق السابق. فإما أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في صدد الآيات. فرووا أن الآية الأولى نزلت في حق أشخاص كانوا أسلموا وبقوا في مكة وكانوا يكتمون إسلامهم، وقد اشتركوا مع المشركين في وقعة بدر ومنهم من قتل ومنهم من أسر في هذه الوقعة. ورووا في سياق ذلك أن العباس عم النبي وعقيلا ابن عمه كانوا ممن خرجوا مع المشركين وأسروا، ولم يقبل الله عذرهم حين اعتذروا بأنهم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم. وأن العباس قال لرسول الله لما طلب منه الفداء عنه وعن عقيل : كيف ذلك ونحن نصلي قبلتك ونشهد بشهادتك ؟ فقال له : إنكم خاصمتم فخصمتم ثم تلا الآية. وهذا يعني أن الآية نزلت قبل وقعة بدر، وهو في اعتقادنا بعيد الاحتمال. وهناك رواية أخرى يرويها المفسرون في صدد الآية وهي أنها في حق الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة من مكة بدون عذر وبقوا وماتوا فيها. وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عباس جاء فيه ( إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) الآية. ثم خفف الله تعالى عن الضعفاء الذين مع المشركين فقال ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ٩٩ ) وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذر الله ) ٢.
وروى المفسرون٣ كذلك أن الآية الثانية نزلت في حق جماعة كانوا فعلا مغلوبين على أمرهم ومنهم الوليد وسلمة ابن هشام وعياش ابن أبي ربيعة. وأن جملة ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ) إلى آخر الآية الثالثة نزلت في مسلم طاعن في السن كان يقيم في مكة بادر إلى الهجرة حينما بلغته الآية الأولى رغم ممانعة أهله وسخرية قومه به فمات في الطريق. وقد اختلفت الروايات فيه فمنها من ذكر أنه جندب ابن ضمرة أو رجل من بني الليث أو رجل من بني كنانة أو من خزاعة.
وهناك رواية تذكر أن الجملة في صدد جماعة من المسلمين كانوا في مكة فكتب إليهم المهاجرون حينما نزلت الآية الأولى بأنهم لم يبق لهم عذر فخرجوا فلحق بهم المشركون فقتلوا من قدروا عليه ونجا من نجا. ورواية تذكر أنها نزلت في خالد ابن حرام حين هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق.
وباستثناء حديث البخاري عن ابن عباس فإنه ليس شيء من الروايات الأخرى واردا في الصحاح. وبعض الروايات يقتضي أن تكون بعض الآيات أو جملة منها مكية ؛ لأن الهجرة إلى الحبشة إنما كانت أثناء العهد المكي. وبعضها يقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة بل أن يكون بعض جمل من الآيات نزلت لحدتها في حين أنها وحدة تامة منسجمة، ويلحظ بالإضافة إلى هذا ثم بالإضافة إلى ما لحظناه من بعد احتمال نزول الآيات قبل أو عقب وقعة بدرـ أنه ليس فيها ما يساعد على التسليم بصحة ما جاء في الروايات من اشتراك المسلمين المتخلفين في وقعة بدر إلى جانب المشركين. وكل ما تفيده أنهم كانوا يعتذرون بكونهم مستضعفين فقط. ولقد أهدرت الآيات ( ٨٨ ـ ٨٩ ) من هذه السورة دم المنافقين لأنهم لم يتضامنوا في الجهاد مع المسلمين واعتبرتهم كفارا على ما شرحناه قبل. وما روته الروايات عن المسلمين المتخلفين أشد وأبشع من ذلك. ولو كان هذا صحيحا لما كان أي معنى للاحتجاج الذي حكته الآيات عن لسانهم.
يضاف إلى هذا كله : أن أسلوب الآيات التي هي كما قلنا وحدة تامة منسجمة مطلق وشامل.
والذي يتبادر لنا أن بعض أصحاب رسول الله من المهاجرين ذكروا الذين تخلفوا من المسلمين في مكة أو تذاكروا في أمرهم ومصيرهم في مناسبة ما. ولعلها كانت الآيات ( ٨٨ـ ٨٩ ) من السورة التي تهدر دم المنافقين لعدم هجرتهم في سبيل الله وتضامنهم مع المسلمين في الجهاد في هذا السبيل فاقتضت حكمة التنزيل وحي الآيات بالأسلوب الذي جاءت به. ونميل إلى القول بأن الروايات التي قد يكون بعض ما جاء فيها صحيحا من حيث الوقائع قد سيقت على هامش الآيات على سبيل التطبيق وفيها صور من السيرة النبوية في عهدها المدني، وقولنا ينطبق على حديث البخاري عن ابن عباس. وأسلوبه وفحواه يدلان بقوة على أن كلامه كان من قبيل التطبيق والاجتهاد والله أعلم.
وعلى كل حال فالآية الأولى تدل على رضوخ أناس من المسلمين وعدم هجرتهم والالتحاق بالنبي والمسلمين مع قدرتهم على ذلك إما جبنا أو تكاسلا أو إيثارا للاستمتاع بما لهم من أموال وهنئ العيش. والآية الثانية تدل على أنه كان إلى جانب هؤلاء فريق من الرجال ونساء وولدان مسلمين ـ وهذا لا يعني أسر إسلامية ـ مغلوبين على أمرهم فعلا ولا يستطيعون عمل شيء ما. ( وهناك آيات أخرى تؤيد ذلك منها آية سورة الأنفال ( ٧٢ ) التي جاء فيها هذه الجملة ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ومنها آية سورة الفتح هذه ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لو تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم... ) ومنها آية سورة الممتحنة هذه ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) آية الفتح بخاصة صريحة بأن الذين أشير فيها هم في مكة.
والآيات تنطوي كما قلنا على ما كان من واقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تنديد بالمسلمين الذين آثروا الرضوخ والبقاء في كنف الأعداء وعدم الهجرة مع قدرتهم عليها. بل إيجاب وتأثيم لمن لا يناضل العدو أو يهاجر لأجل التوسل لمناضلته. ولقد روى أبو داود والترمذي عن جرير ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين٤ ) وفي هذا تطور تشريعي بالنسبة لظروف السيرة النبوية ؛ لأن آية الأنفال التي أوردنا نصها آنفا والتي أشارت إلى هذا الفريق لم تتضمن التأثيم والإنذار والإلزام والإيجاب بل تضمنت إيجاب نصرتهم على المسلمين إذا استنصروهم في الدين. وكل ما تضمنته تقرير كون المهاجرين لا يتحملون تبعتهم. ولقد ظل ما انطوى في الآية الأولى محكما إلى فتح مكة الذي تم في السنة الثامنة للهجرة، حيث روى الخمسة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في ( لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ) ٥ فغدت الهجرة بعد ذلك اختيارية. وظاهر أن رفع واجب الهجرة عن المسلمين بعد الفتح متصل بظروف السيرة النبوية لأن مكة أيضا بل معظم جزيرة العرب غدت دار إسلام خاضعة لسلطان النبي والمسلمين٦.
ويلحظ أن آيات سورة النساء ( ٧٤ و ٧٥ ) التي مر تفسيرها احتوت أمرا المتبادر أنه للمؤمنين الذين هم خارج بلد الظالمين بالقتال في سبيل الله والمستضعفين من جهة أن هذه الآيات التي نحن في صددها هي في الذين هم في بلد الظالمين. وكلتا الصورتين مما كان واقعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح.
ومحتوى الآيتين الثانية والثالثة متسق مع المبادئ القرآنية من عدم تحميل المسلم ما لا طاقة له به وعذره وعدم مسؤوليته وإثمه فيما لا حيلة له فيه ولا حول له عليه. ومع ذلك فإن كلمة ( عسى ) في مقامها ذات دلالة هامة، حيث يمكن أن تفيد أن عفو الله عن المقيم في أرض الكفر والظلم بعذر ليس أكيدا وأن على هذا المقيم أن يبذل جهده في الخروج منها وعدم الاحتماء وراء الأعذار الخفيفة.
وصيغة الآيات تشريعية مطلقة مثل صيغة الآيات ( ٧٤ و ٧٥ ) وهي مثلها مستمرة المدى والتلقين لكل ظرف مماثل بحيث توجب على المسلمين المستطيعين أن لا يقيموا في دار عدو وتحت ظلمه مستكينين إذا عجزوا عن مكافحته وإرغامه وأن يهجروها إلى دار إسلام وعدل ليتوسلوا بأسباب مكافحته وإرغامه مهما تحملوا في سبيل ذلك من مشاق وأخطار مطمئنين بوعد الله لهم بالنصر والمغفرة والأجر العظيم، وحديث أبي داود والترمذي عن جرير بصيغته المطلقة يحتوي تلقينا مستمر المدى. والأحاديث الثلاثة التي أوردناها في الذيل السابق تجعل احتمالات ذلك وواجباته مستمرة.
وهناك حالات قد تحدث مما يتصل بمدى الآيات وتلقيناتها :
( ١ ) فقد يغزو عدو بلاد المسلمين ويسيطر عليها.
( ٢ ) وقد يقوم ظالم طاغية يزعم الإسلام ويتصرف بما يخالفه مخالفة صريحة وشديدة فيكون ظلمه على الناس قويا ويكون الحكم الإسلام وطابعه منتفيين.
( ٣ ) وهناك بلاد غير مسلمة بينها وبين المسلمين حالة حرب وعداء ويكون فيها مسلمون مقيمون دائما أو مؤقتا من أهلها أو طارئون. والمتبادر بالنسبة للحالة الأولى أن من واجب المسلمين أهل البلاد النضال والمقاومة بكل استطاعتهم ومهما تحملوا وعدم الهجرة منها إلا في حالة العج
( ٢ ) يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة : قيل إن معناها يجد في الأرض التي يهاجر إليها مضطربا فسيحا ومتحولا عما يكره. وراغم قومه مراغمة قاطعهم ونابذهم. ويرد بالبال أن يكون للكلمة صلة بالإرغام، وهو الإذلال والقهر وأن يكون معنى الجملة ( يجد في الأرض وسائل كثيرة لمراغمة ظالمه وقهره أو جعل أنفه في الرغام وهو التراب.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ( ١ ) الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( ٩٧ ) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ( ٩٨ ) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا( ٩٩ ) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً( ٢ ) وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم... ) الخ.
والآيتين التاليتين لها وواجب المسلمين في مكافحة الظلم والظالمين والهجرة من بلادهم بسبيل ذلك

عبارة الآيات واضحة : وقد تضمنت :

( ١ ) تنديدا بفريق من المسلمين آثروا الرضوخ في دار العدو وكانوا يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين. وكان اعتذراهم غير صادق. وإفحاما لهم وإنذارا بسوء المصير الأخروي لأنهم بذلك ظلموا أنفسهم.
( ٢ ) واستثناء من هذا التنديد والإنذار لفريق آخر من رجال ونساء وولدان كانوا حقا مستضعفين مغلوبين على أمرهم ولم يكن لهم سبيل حقا. وتطمينا بأن الله قد يشملهم بعفوه وغفرانه.
( ٣ ) وتنويها بفائدة الهجرة في سبيل الله وإيجابا لها وحثا عليها : فالذين يهاجرون في سبيل الله يجدون أسبابا كثيرة لمراغمة عدوهم وقهره وإزعاجه. وأبوابا واسعة للرزق. والذي يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله فيموت في هذا السبيل فيكون قد حق على الله أجره وهو الغفور الرحيم.
ومع واجب الإيمان بما حكته الآية الأولى مما سوف يكون من حوار بين الملائكة والمتخلفين عن الهجرة بدون عذر فإن قصد التثريب والإنذار من الحكمة المملوحة فيها.
والآيات فصل جديد، والتناسب مع ذلك ملموح بينها وبين السياق السابق. فإما أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
وقد روى المفسرون١ روايات عديدة في صدد الآيات. فرووا أن الآية الأولى نزلت في حق أشخاص كانوا أسلموا وبقوا في مكة وكانوا يكتمون إسلامهم، وقد اشتركوا مع المشركين في وقعة بدر ومنهم من قتل ومنهم من أسر في هذه الوقعة. ورووا في سياق ذلك أن العباس عم النبي وعقيلا ابن عمه كانوا ممن خرجوا مع المشركين وأسروا، ولم يقبل الله عذرهم حين اعتذروا بأنهم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم. وأن العباس قال لرسول الله لما طلب منه الفداء عنه وعن عقيل : كيف ذلك ونحن نصلي قبلتك ونشهد بشهادتك ؟ فقال له : إنكم خاصمتم فخصمتم ثم تلا الآية. وهذا يعني أن الآية نزلت قبل وقعة بدر، وهو في اعتقادنا بعيد الاحتمال. وهناك رواية أخرى يرويها المفسرون في صدد الآية وهي أنها في حق الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة من مكة بدون عذر وبقوا وماتوا فيها. وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عباس جاء فيه ( إن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) الآية. ثم خفف الله تعالى عن الضعفاء الذين مع المشركين فقال ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ٩٩ ) وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذر الله ) ٢.
وروى المفسرون٣ كذلك أن الآية الثانية نزلت في حق جماعة كانوا فعلا مغلوبين على أمرهم ومنهم الوليد وسلمة ابن هشام وعياش ابن أبي ربيعة. وأن جملة ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ) إلى آخر الآية الثالثة نزلت في مسلم طاعن في السن كان يقيم في مكة بادر إلى الهجرة حينما بلغته الآية الأولى رغم ممانعة أهله وسخرية قومه به فمات في الطريق. وقد اختلفت الروايات فيه فمنها من ذكر أنه جندب ابن ضمرة أو رجل من بني الليث أو رجل من بني كنانة أو من خزاعة.
وهناك رواية تذكر أن الجملة في صدد جماعة من المسلمين كانوا في مكة فكتب إليهم المهاجرون حينما نزلت الآية الأولى بأنهم لم يبق لهم عذر فخرجوا فلحق بهم المشركون فقتلوا من قدروا عليه ونجا من نجا. ورواية تذكر أنها نزلت في خالد ابن حرام حين هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق.
وباستثناء حديث البخاري عن ابن عباس فإنه ليس شيء من الروايات الأخرى واردا في الصحاح. وبعض الروايات يقتضي أن تكون بعض الآيات أو جملة منها مكية ؛ لأن الهجرة إلى الحبشة إنما كانت أثناء العهد المكي. وبعضها يقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة بل أن يكون بعض جمل من الآيات نزلت لحدتها في حين أنها وحدة تامة منسجمة، ويلحظ بالإضافة إلى هذا ثم بالإضافة إلى ما لحظناه من بعد احتمال نزول الآيات قبل أو عقب وقعة بدرـ أنه ليس فيها ما يساعد على التسليم بصحة ما جاء في الروايات من اشتراك المسلمين المتخلفين في وقعة بدر إلى جانب المشركين. وكل ما تفيده أنهم كانوا يعتذرون بكونهم مستضعفين فقط. ولقد أهدرت الآيات ( ٨٨ ـ ٨٩ ) من هذه السورة دم المنافقين لأنهم لم يتضامنوا في الجهاد مع المسلمين واعتبرتهم كفارا على ما شرحناه قبل. وما روته الروايات عن المسلمين المتخلفين أشد وأبشع من ذلك. ولو كان هذا صحيحا لما كان أي معنى للاحتجاج الذي حكته الآيات عن لسانهم.
يضاف إلى هذا كله : أن أسلوب الآيات التي هي كما قلنا وحدة تامة منسجمة مطلق وشامل.
والذي يتبادر لنا أن بعض أصحاب رسول الله من المهاجرين ذكروا الذين تخلفوا من المسلمين في مكة أو تذاكروا في أمرهم ومصيرهم في مناسبة ما. ولعلها كانت الآيات ( ٨٨ـ ٨٩ ) من السورة التي تهدر دم المنافقين لعدم هجرتهم في سبيل الله وتضامنهم مع المسلمين في الجهاد في هذا السبيل فاقتضت حكمة التنزيل وحي الآيات بالأسلوب الذي جاءت به. ونميل إلى القول بأن الروايات التي قد يكون بعض ما جاء فيها صحيحا من حيث الوقائع قد سيقت على هامش الآيات على سبيل التطبيق وفيها صور من السيرة النبوية في عهدها المدني، وقولنا ينطبق على حديث البخاري عن ابن عباس. وأسلوبه وفحواه يدلان بقوة على أن كلامه كان من قبيل التطبيق والاجتهاد والله أعلم.
وعلى كل حال فالآية الأولى تدل على رضوخ أناس من المسلمين وعدم هجرتهم والالتحاق بالنبي والمسلمين مع قدرتهم على ذلك إما جبنا أو تكاسلا أو إيثارا للاستمتاع بما لهم من أموال وهنئ العيش. والآية الثانية تدل على أنه كان إلى جانب هؤلاء فريق من الرجال ونساء وولدان مسلمين ـ وهذا لا يعني أسر إسلامية ـ مغلوبين على أمرهم فعلا ولا يستطيعون عمل شيء ما. ( وهناك آيات أخرى تؤيد ذلك منها آية سورة الأنفال ( ٧٢ ) التي جاء فيها هذه الجملة ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ومنها آية سورة الفتح هذه ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لو تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم... ) ومنها آية سورة الممتحنة هذه ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) آية الفتح بخاصة صريحة بأن الذين أشير فيها هم في مكة.
والآيات تنطوي كما قلنا على ما كان من واقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تنديد بالمسلمين الذين آثروا الرضوخ والبقاء في كنف الأعداء وعدم الهجرة مع قدرتهم عليها. بل إيجاب وتأثيم لمن لا يناضل العدو أو يهاجر لأجل التوسل لمناضلته. ولقد روى أبو داود والترمذي عن جرير ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين٤ ) وفي هذا تطور تشريعي بالنسبة لظروف السيرة النبوية ؛ لأن آية الأنفال التي أوردنا نصها آنفا والتي أشارت إلى هذا الفريق لم تتضمن التأثيم والإنذار والإلزام والإيجاب بل تضمنت إيجاب نصرتهم على المسلمين إذا استنصروهم في الدين. وكل ما تضمنته تقرير كون المهاجرين لا يتحملون تبعتهم. ولقد ظل ما انطوى في الآية الأولى محكما إلى فتح مكة الذي تم في السنة الثامنة للهجرة، حيث روى الخمسة حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في ( لا هجرة بعد الفتح وإنما جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ) ٥ فغدت الهجرة بعد ذلك اختيارية. وظاهر أن رفع واجب الهجرة عن المسلمين بعد الفتح متصل بظروف السيرة النبوية لأن مكة أيضا بل معظم جزيرة العرب غدت دار إسلام خاضعة لسلطان النبي والمسلمين٦.
ويلحظ أن آيات سورة النساء ( ٧٤ و ٧٥ ) التي مر تفسيرها احتوت أمرا المتبادر أنه للمؤمنين الذين هم خارج بلد الظالمين بالقتال في سبيل الله والمستضعفين من جهة أن هذه الآيات التي نحن في صددها هي في الذين هم في بلد الظالمين. وكلتا الصورتين مما كان واقعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح.
ومحتوى الآيتين الثانية والثالثة متسق مع المبادئ القرآنية من عدم تحميل المسلم ما لا طاقة له به وعذره وعدم مسؤوليته وإثمه فيما لا حيلة له فيه ولا حول له عليه. ومع ذلك فإن كلمة ( عسى ) في مقامها ذات دلالة هامة، حيث يمكن أن تفيد أن عفو الله عن المقيم في أرض الكفر والظلم بعذر ليس أكيدا وأن على هذا المقيم أن يبذل جهده في الخروج منها وعدم الاحتماء وراء الأعذار الخفيفة.
وصيغة الآيات تشريعية مطلقة مثل صيغة الآيات ( ٧٤ و ٧٥ ) وهي مثلها مستمرة المدى والتلقين لكل ظرف مماثل بحيث توجب على المسلمين المستطيعين أن لا يقيموا في دار عدو وتحت ظلمه مستكينين إذا عجزوا عن مكافحته وإرغامه وأن يهجروها إلى دار إسلام وعدل ليتوسلوا بأسباب مكافحته وإرغامه مهما تحملوا في سبيل ذلك من مشاق وأخطار مطمئنين بوعد الله لهم بالنصر والمغفرة والأجر العظيم، وحديث أبي داود والترمذي عن جرير بصيغته المطلقة يحتوي تلقينا مستمر المدى. والأحاديث الثلاثة التي أوردناها في الذيل السابق تجعل احتمالات ذلك وواجباته مستمرة.
وهناك حالات قد تحدث مما يتصل بمدى الآيات وتلقيناتها :
( ١ ) فقد يغزو عدو بلاد المسلمين ويسيطر عليها.
( ٢ ) وقد يقوم ظالم طاغية يزعم الإسلام ويتصرف بما يخالفه مخالفة صريحة وشديدة فيكون ظلمه على الناس قويا ويكون الحكم الإسلام وطابعه منتفيين.
( ٣ ) وهناك بلاد غير مسلمة بينها وبين المسلمين حالة حرب وعداء ويكون فيها مسلمون مقيمون دائما أو مؤقتا من أهلها أو طارئون. والمتبادر بالنسبة للحالة الأولى أن من واجب المسلمين أهل البلاد النضال والمقاومة بكل استطاعتهم ومهما تحملوا وعدم الهجرة منها إلا في حالة العج
( ١ ) أن تقصروا : بمعنى أن تختصروا
( ٢ ) إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا : قيل في تأويلها : إن خفتم أن يأخذكم الكافرون على غرة أو يلهوكم أو يأسروكم ويردوكم عن دينكم والجملة تتحمل كل ذلك.
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ( ١ ) مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ( ٢ ) إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ( ١٠١ ) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ( ٣ ) فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن ورائكم وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ( ٤ ) وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ( ٥ ) وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ١٠٢ ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ( ٦ ) إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا( ٧ ) ( ١٠٣ ) ﴾.
تعليق على الآية
( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة... ) الخ
والآيتين اللتين بعدها وسنة قصر الصلاة في حالة السفر بدون خوف

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إباحة اختصار الصلاة للمسلمين إذا خرجوا إلى قتال أعدائهم الكفار وخافوا أن يتعرضوا لكيدهم وعدوانهم حين انشغالهم بالصلاة.
( ٢ ) وتعليما للنبي لبعض كيفيات الصلاة في حالة الخوف.
( ٣ ) وتنبيها للمسلمين إلى وجوب الاحتفاظ بأسلحتهم وهم في الصلاة مع رفع الحرج عنهم في حالة المطر والمرض وإلى وجوب أخذ الحذر على كل حال حتى لا يميل عليهم الكفار ويأخذوا أسلحتهم وأمتعتهم.
( ٤ ) وأمرا لهم بذكر الله على كل حال وبإقامة الصلاة في أوقاتها تامة حين الاطمئنان والأمن.
والآيات فصل جديد ولكن التناسب ملموح بينها وبين الآيات السابقة. فإما أن تكون نزلت بعدها فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
ولقد روى المفسرون في سبب نزول الآيات عدة روايات منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأس المسلمين في عسفان وأمامهم المشركون وعليهم خالد ابن الوليد فصلى بهم الظفر فقال المشركون : لقد أصبنا غرة أو غفلة فلو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت الآيات بين الظهر والعصر فصلى النبي بالمسلمين العصر صلاة الخوف على النحو الذي علمته الآية الثانية. ومنها أن سليمان اليشكري سأل جابرا عن أي يوم نزل فيه قصر الصلاة ؟ فقال له : كنا مع رسول الله وراء عير لقريش فنزل بنخل فجاءه رجل فقال : يا محمد ألا تخاف مني ؟ قال : لا. قال : ما يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك. قال : فسل السيف فهدده وأوعده ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى النبي بالناس صلاة الخوف.
وقد روى الترمذي الرواية الأولى بخلاف يسير عن أبي هريرة دون أن يذكر بصراحة أنه سبب نزول الآيات حيث قال ( نزل النبي بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، فأتى جبريل النبي فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فتكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله ركعتان ) ١ وهناك رواية أخرى تذكر أن قوما من التجار سألوا النبي كيف يصلون وهم يضربون في الأرض فأنزل الله ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة ) فقد انقطع الوحي حتى مرت سنة على ذلك فغزا النبي غزوة فصلى بالمسلمين الظهر فقال المشركون : قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم فشدوا عليهم فقالوا : إن لهم صلاة أخرى بعدها، فأنزل الله بقية الآية بين الصلاتين فصلى العصر ركعتين. وقد صف المسلمين صفين فوقف جميعهم معه وسجد الصف الأول معه وظل الثاني حارسا ثم تأخر الصف الأول حله محله الثاني وسجد مع النبي في الركعة الثانية ولما جلس جلسوا جميعا معه وأتموا الصلاة.
ورواية سؤال التجار غريبة ؛ لأنها تقسم الآية الأولى إلى فترتين مع أنها هي والآيتين التاليتين لها وحدة تامة منسجمة. ورواية عسفان متصلة بوقعة الحديبية ونرجح أن الآيات نزلت قبلها. وقد ذكرت هذه الوقعة في سور متأخرة عن هذه السورة.
ولقد كانت الغزوات بقيادة النبي والسرايا بقيادة أصحابه متواصلة في العهد المدني، فالمتبادر أن حادثا ما وقع في وقت مبكر نوعا ما فكان سببا لنزول الآيات جملة تامة لتكون تشريعا مستمرا.
وينطوي في مضمون الآيات وروحها توكيد على عدم التهاون في أداء الصلاة في أوقاتها حتى في ظروف الخوف والخطر مع إباحة اختصارها في هذه الظروف وفي هذا ما فيه من تلقين عظيم بما للصلاة عند الله من خطورة عظمى مما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة العلق. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه فيما جاء ( فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء ) ٢ وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :( بعثني رسول الله في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع ) ٣ حيث ينطوي في الحديثين توكيد واجب أداء الصلاة في أوقاتها على كل حال.
ولقد روى المفسرون٤ بدون عزو : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الصلاة لوقت آخر إذا كان في حالة حرب أو خوف ويسمح للمسلمين بذلك إلى أن نزلت هذه الآيات وفي هذا إن صح ولا مانع من صحته توكيد لخطورة ذلك الواجب.
وهناك أحاديث صحيحة في كيفية الخوف التي صلاها النبي بأصحابه.
منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال ( صلى رسول الله صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة ) ٥ ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بكرة قال ( صلي النبي في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم إزاء العدو فصلى بمن خلفه ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم.
فكانت لرسول الله أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين٦ والجمهور والتواتر على الكيفية الأولى، وعلى أن صلاة الخوف مقصورة على ركعتين. ولقد قال بعض العلماء : إن جملة ( وإذا كنتم فيهم ) تفيد أن صلاة الخوف خاصة بالنبي وحياته. غير أن الجمهور والتواتر على أنها مستمرة الحكم بعده.
وكلام المفسرين والأحاديث في صدد الخوف جماعة. وفي ظروف المواجهة عدو محارب. وهو المستفاد من الآيات أيضا. غير أنه يرد على البال أمران : الأول أن يكون الذي يواجه الخطر واحدا، وأن يكون الخطر غير خطر عدو محارب مثل لصوص وقطاع طرق الخ ويتبادر لنا أن للمسلم أن يقصر ويصلي صلاة الخوف منفردا في أي حالات الخطر والخوف. والله تعالى أعلم.
ومع أن نص الآيات صريح بأن قصر الصلاة قاصر على ظروف الخوف من الأعداء فإن هناك آثارا تفيد أن السنة النبوية جعلته شاملا للسفر في حالة الأمن أيضا. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن يعلى ابن أمية قال ( قلت لعمر ابن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وقد أمن الناس. فقال : عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته ) ٧ والحديث يفيد أن تعميم القصر على السفر في حالة الأمن إلهام رباني وهذا هو المتواتر الذي عليه الجمهور. وهناك أحاديث نبوية تؤيد ذلك يأتي بعضها بعد هذا.
وفي مدة السفر التي يصح قصر الصلاة فيها روي الخمسة عن أنس قال ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا. قال راوي الحديث عن أنس قلت : ماذا أقمتم في مكة ؟ قال : أقمنا عشرا٨ وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال ( أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا ) ٩
وفي مسافة السفر روى البخاري ( أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا ) ١٠ وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن يحي ابن يزيد قال ( سألت أنس ابن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ) ١١ وبسبب التباين في المسافة في الأحاديث اختلف الفقهاء في المسافة التي يصح القصر فيها، فمنهم من أخذ بالمسافة الطويلة ومنهم من أخذ بالمسافة القصيرة. ويرد لبالنا أن نقول : إن ما ورد في الأحاديث اختلاف وفرق كبير قد يكون كله صحيحا ووقع في ظروف اختلفت فيها درجة الجهد والمشقة والتعب وحالة الطريق والموسم والماء والطعام الخ. وقد يتبادر أن هذا يظل المقياس في الأمر. وإن المسلم يوكل فيه إلى إيمانه وتقواه. فإذا شق عليه السفر وجهد في المسافة القصيرة جاز له أن يقصر والله تعالى أعلم.
وهناك حديث يرويه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ) وجملة ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) تفيد كما هو المتبادر أن القصر طارئ وليس أصيلا حيث يسوغ ذلك التوقف في الحديث.
هذا، والجمهور على أن القصر هو للصلوات الرباعية فقط. أي الظهر والعصر والعشاء. فتقصر على ركعتين. وإن صلاتي الفجر والمغرب تبقيان على حالهما وهذا مستفاد من الأحاديث التي اقتصر الكلام فيها على الركعتين بدلا من الأربع.
( ٣ ) وليأخذوا أسلحتهم : بمعنى وليحملوا أسلحتهم وهم يصلون
( ٤ ) فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك : فليتأخروا إلى الوراء حتى تأتي الطائفة التي كانت وراءكم للحراسة فتأخذ مكانهم وتصلي بدورها.
( ٥ ) أن تضعوا أسلحتكم : أن لا تحملوها
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ( ١ ) مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ( ٢ ) إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ( ١٠١ ) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ( ٣ ) فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن ورائكم وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ( ٤ ) وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ( ٥ ) وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ١٠٢ ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ( ٦ ) إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا( ٧ ) ( ١٠٣ ) ﴾.
تعليق على الآية
( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة... ) الخ
والآيتين اللتين بعدها وسنة قصر الصلاة في حالة السفر بدون خوف

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إباحة اختصار الصلاة للمسلمين إذا خرجوا إلى قتال أعدائهم الكفار وخافوا أن يتعرضوا لكيدهم وعدوانهم حين انشغالهم بالصلاة.
( ٢ ) وتعليما للنبي لبعض كيفيات الصلاة في حالة الخوف.
( ٣ ) وتنبيها للمسلمين إلى وجوب الاحتفاظ بأسلحتهم وهم في الصلاة مع رفع الحرج عنهم في حالة المطر والمرض وإلى وجوب أخذ الحذر على كل حال حتى لا يميل عليهم الكفار ويأخذوا أسلحتهم وأمتعتهم.
( ٤ ) وأمرا لهم بذكر الله على كل حال وبإقامة الصلاة في أوقاتها تامة حين الاطمئنان والأمن.
والآيات فصل جديد ولكن التناسب ملموح بينها وبين الآيات السابقة. فإما أن تكون نزلت بعدها فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
ولقد روى المفسرون في سبب نزول الآيات عدة روايات منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأس المسلمين في عسفان وأمامهم المشركون وعليهم خالد ابن الوليد فصلى بهم الظفر فقال المشركون : لقد أصبنا غرة أو غفلة فلو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت الآيات بين الظهر والعصر فصلى النبي بالمسلمين العصر صلاة الخوف على النحو الذي علمته الآية الثانية. ومنها أن سليمان اليشكري سأل جابرا عن أي يوم نزل فيه قصر الصلاة ؟ فقال له : كنا مع رسول الله وراء عير لقريش فنزل بنخل فجاءه رجل فقال : يا محمد ألا تخاف مني ؟ قال : لا. قال : ما يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك. قال : فسل السيف فهدده وأوعده ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى النبي بالناس صلاة الخوف.
وقد روى الترمذي الرواية الأولى بخلاف يسير عن أبي هريرة دون أن يذكر بصراحة أنه سبب نزول الآيات حيث قال ( نزل النبي بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، فأتى جبريل النبي فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فتكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله ركعتان ) ١ وهناك رواية أخرى تذكر أن قوما من التجار سألوا النبي كيف يصلون وهم يضربون في الأرض فأنزل الله ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة ) فقد انقطع الوحي حتى مرت سنة على ذلك فغزا النبي غزوة فصلى بالمسلمين الظهر فقال المشركون : قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم فشدوا عليهم فقالوا : إن لهم صلاة أخرى بعدها، فأنزل الله بقية الآية بين الصلاتين فصلى العصر ركعتين. وقد صف المسلمين صفين فوقف جميعهم معه وسجد الصف الأول معه وظل الثاني حارسا ثم تأخر الصف الأول حله محله الثاني وسجد مع النبي في الركعة الثانية ولما جلس جلسوا جميعا معه وأتموا الصلاة.
ورواية سؤال التجار غريبة ؛ لأنها تقسم الآية الأولى إلى فترتين مع أنها هي والآيتين التاليتين لها وحدة تامة منسجمة. ورواية عسفان متصلة بوقعة الحديبية ونرجح أن الآيات نزلت قبلها. وقد ذكرت هذه الوقعة في سور متأخرة عن هذه السورة.
ولقد كانت الغزوات بقيادة النبي والسرايا بقيادة أصحابه متواصلة في العهد المدني، فالمتبادر أن حادثا ما وقع في وقت مبكر نوعا ما فكان سببا لنزول الآيات جملة تامة لتكون تشريعا مستمرا.
وينطوي في مضمون الآيات وروحها توكيد على عدم التهاون في أداء الصلاة في أوقاتها حتى في ظروف الخوف والخطر مع إباحة اختصارها في هذه الظروف وفي هذا ما فيه من تلقين عظيم بما للصلاة عند الله من خطورة عظمى مما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة العلق. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه فيما جاء ( فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء ) ٢ وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :( بعثني رسول الله في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع ) ٣ حيث ينطوي في الحديثين توكيد واجب أداء الصلاة في أوقاتها على كل حال.
ولقد روى المفسرون٤ بدون عزو : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الصلاة لوقت آخر إذا كان في حالة حرب أو خوف ويسمح للمسلمين بذلك إلى أن نزلت هذه الآيات وفي هذا إن صح ولا مانع من صحته توكيد لخطورة ذلك الواجب.
وهناك أحاديث صحيحة في كيفية الخوف التي صلاها النبي بأصحابه.
منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال ( صلى رسول الله صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة ) ٥ ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بكرة قال ( صلي النبي في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم إزاء العدو فصلى بمن خلفه ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم.
فكانت لرسول الله أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين٦ والجمهور والتواتر على الكيفية الأولى، وعلى أن صلاة الخوف مقصورة على ركعتين. ولقد قال بعض العلماء : إن جملة ( وإذا كنتم فيهم ) تفيد أن صلاة الخوف خاصة بالنبي وحياته. غير أن الجمهور والتواتر على أنها مستمرة الحكم بعده.
وكلام المفسرين والأحاديث في صدد الخوف جماعة. وفي ظروف المواجهة عدو محارب. وهو المستفاد من الآيات أيضا. غير أنه يرد على البال أمران : الأول أن يكون الذي يواجه الخطر واحدا، وأن يكون الخطر غير خطر عدو محارب مثل لصوص وقطاع طرق الخ ويتبادر لنا أن للمسلم أن يقصر ويصلي صلاة الخوف منفردا في أي حالات الخطر والخوف. والله تعالى أعلم.
ومع أن نص الآيات صريح بأن قصر الصلاة قاصر على ظروف الخوف من الأعداء فإن هناك آثارا تفيد أن السنة النبوية جعلته شاملا للسفر في حالة الأمن أيضا. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن يعلى ابن أمية قال ( قلت لعمر ابن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وقد أمن الناس. فقال : عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته ) ٧ والحديث يفيد أن تعميم القصر على السفر في حالة الأمن إلهام رباني وهذا هو المتواتر الذي عليه الجمهور. وهناك أحاديث نبوية تؤيد ذلك يأتي بعضها بعد هذا.
وفي مدة السفر التي يصح قصر الصلاة فيها روي الخمسة عن أنس قال ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا. قال راوي الحديث عن أنس قلت : ماذا أقمتم في مكة ؟ قال : أقمنا عشرا٨ وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال ( أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا ) ٩
وفي مسافة السفر روى البخاري ( أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا ) ١٠ وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن يحي ابن يزيد قال ( سألت أنس ابن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ) ١١ وبسبب التباين في المسافة في الأحاديث اختلف الفقهاء في المسافة التي يصح القصر فيها، فمنهم من أخذ بالمسافة الطويلة ومنهم من أخذ بالمسافة القصيرة. ويرد لبالنا أن نقول : إن ما ورد في الأحاديث اختلاف وفرق كبير قد يكون كله صحيحا ووقع في ظروف اختلفت فيها درجة الجهد والمشقة والتعب وحالة الطريق والموسم والماء والطعام الخ. وقد يتبادر أن هذا يظل المقياس في الأمر. وإن المسلم يوكل فيه إلى إيمانه وتقواه. فإذا شق عليه السفر وجهد في المسافة القصيرة جاز له أن يقصر والله تعالى أعلم.
وهناك حديث يرويه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ) وجملة ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) تفيد كما هو المتبادر أن القصر طارئ وليس أصيلا حيث يسوغ ذلك التوقف في الحديث.
هذا، والجمهور على أن القصر هو للصلوات الرباعية فقط. أي الظهر والعصر والعشاء. فتقصر على ركعتين. وإن صلاتي الفجر والمغرب تبقيان على حالهما وهذا مستفاد من الأحاديث التي اقتصر الكلام فيها على الركعتين بدلا من الأربع.
( ٦ ) فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة : إذا ذهب الخوف وأمنتم فأقيموا الصلاة تامة بدون اختصار
( ٧ ) كتابا موقوتا : مكتوبة عليكم في أوقات معينة.
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ( ١ ) مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ( ٢ ) إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ( ١٠١ ) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ( ٣ ) فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن ورائكم وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ( ٤ ) وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ( ٥ ) وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ١٠٢ ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ( ٦ ) إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا( ٧ ) ( ١٠٣ ) ﴾.
تعليق على الآية
( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة... ) الخ
والآيتين اللتين بعدها وسنة قصر الصلاة في حالة السفر بدون خوف

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) إباحة اختصار الصلاة للمسلمين إذا خرجوا إلى قتال أعدائهم الكفار وخافوا أن يتعرضوا لكيدهم وعدوانهم حين انشغالهم بالصلاة.
( ٢ ) وتعليما للنبي لبعض كيفيات الصلاة في حالة الخوف.
( ٣ ) وتنبيها للمسلمين إلى وجوب الاحتفاظ بأسلحتهم وهم في الصلاة مع رفع الحرج عنهم في حالة المطر والمرض وإلى وجوب أخذ الحذر على كل حال حتى لا يميل عليهم الكفار ويأخذوا أسلحتهم وأمتعتهم.
( ٤ ) وأمرا لهم بذكر الله على كل حال وبإقامة الصلاة في أوقاتها تامة حين الاطمئنان والأمن.
والآيات فصل جديد ولكن التناسب ملموح بينها وبين الآيات السابقة. فإما أن تكون نزلت بعدها فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإلا فتكون وضعت فيه للتناسب الموضوعي.
ولقد روى المفسرون في سبب نزول الآيات عدة روايات منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأس المسلمين في عسفان وأمامهم المشركون وعليهم خالد ابن الوليد فصلى بهم الظفر فقال المشركون : لقد أصبنا غرة أو غفلة فلو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت الآيات بين الظهر والعصر فصلى النبي بالمسلمين العصر صلاة الخوف على النحو الذي علمته الآية الثانية. ومنها أن سليمان اليشكري سأل جابرا عن أي يوم نزل فيه قصر الصلاة ؟ فقال له : كنا مع رسول الله وراء عير لقريش فنزل بنخل فجاءه رجل فقال : يا محمد ألا تخاف مني ؟ قال : لا. قال : ما يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك. قال : فسل السيف فهدده وأوعده ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى النبي بالناس صلاة الخوف.
وقد روى الترمذي الرواية الأولى بخلاف يسير عن أبي هريرة دون أن يذكر بصراحة أنه سبب نزول الآيات حيث قال ( نزل النبي بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، فأتى جبريل النبي فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فتكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله ركعتان ) ١ وهناك رواية أخرى تذكر أن قوما من التجار سألوا النبي كيف يصلون وهم يضربون في الأرض فأنزل الله ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة ) فقد انقطع الوحي حتى مرت سنة على ذلك فغزا النبي غزوة فصلى بالمسلمين الظهر فقال المشركون : قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم فشدوا عليهم فقالوا : إن لهم صلاة أخرى بعدها، فأنزل الله بقية الآية بين الصلاتين فصلى العصر ركعتين. وقد صف المسلمين صفين فوقف جميعهم معه وسجد الصف الأول معه وظل الثاني حارسا ثم تأخر الصف الأول حله محله الثاني وسجد مع النبي في الركعة الثانية ولما جلس جلسوا جميعا معه وأتموا الصلاة.
ورواية سؤال التجار غريبة ؛ لأنها تقسم الآية الأولى إلى فترتين مع أنها هي والآيتين التاليتين لها وحدة تامة منسجمة. ورواية عسفان متصلة بوقعة الحديبية ونرجح أن الآيات نزلت قبلها. وقد ذكرت هذه الوقعة في سور متأخرة عن هذه السورة.
ولقد كانت الغزوات بقيادة النبي والسرايا بقيادة أصحابه متواصلة في العهد المدني، فالمتبادر أن حادثا ما وقع في وقت مبكر نوعا ما فكان سببا لنزول الآيات جملة تامة لتكون تشريعا مستمرا.
وينطوي في مضمون الآيات وروحها توكيد على عدم التهاون في أداء الصلاة في أوقاتها حتى في ظروف الخوف والخطر مع إباحة اختصارها في هذه الظروف وفي هذا ما فيه من تلقين عظيم بما للصلاة عند الله من خطورة عظمى مما نبهنا عليه في سياق تفسير سورة العلق. ولقد روى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه فيما جاء ( فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء ) ٢ وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :( بعثني رسول الله في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع ) ٣ حيث ينطوي في الحديثين توكيد واجب أداء الصلاة في أوقاتها على كل حال.
ولقد روى المفسرون٤ بدون عزو : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الصلاة لوقت آخر إذا كان في حالة حرب أو خوف ويسمح للمسلمين بذلك إلى أن نزلت هذه الآيات وفي هذا إن صح ولا مانع من صحته توكيد لخطورة ذلك الواجب.
وهناك أحاديث صحيحة في كيفية الخوف التي صلاها النبي بأصحابه.
منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال ( صلى رسول الله صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة ) ٥ ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بكرة قال ( صلي النبي في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم إزاء العدو فصلى بمن خلفه ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم.
فكانت لرسول الله أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين٦ والجمهور والتواتر على الكيفية الأولى، وعلى أن صلاة الخوف مقصورة على ركعتين. ولقد قال بعض العلماء : إن جملة ( وإذا كنتم فيهم ) تفيد أن صلاة الخوف خاصة بالنبي وحياته. غير أن الجمهور والتواتر على أنها مستمرة الحكم بعده.
وكلام المفسرين والأحاديث في صدد الخوف جماعة. وفي ظروف المواجهة عدو محارب. وهو المستفاد من الآيات أيضا. غير أنه يرد على البال أمران : الأول أن يكون الذي يواجه الخطر واحدا، وأن يكون الخطر غير خطر عدو محارب مثل لصوص وقطاع طرق الخ ويتبادر لنا أن للمسلم أن يقصر ويصلي صلاة الخوف منفردا في أي حالات الخطر والخوف. والله تعالى أعلم.
ومع أن نص الآيات صريح بأن قصر الصلاة قاصر على ظروف الخوف من الأعداء فإن هناك آثارا تفيد أن السنة النبوية جعلته شاملا للسفر في حالة الأمن أيضا. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن يعلى ابن أمية قال ( قلت لعمر ابن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وقد أمن الناس. فقال : عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته ) ٧ والحديث يفيد أن تعميم القصر على السفر في حالة الأمن إلهام رباني وهذا هو المتواتر الذي عليه الجمهور. وهناك أحاديث نبوية تؤيد ذلك يأتي بعضها بعد هذا.
وفي مدة السفر التي يصح قصر الصلاة فيها روي الخمسة عن أنس قال ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا. قال راوي الحديث عن أنس قلت : ماذا أقمتم في مكة ؟ قال : أقمنا عشرا٨ وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال ( أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا ) ٩
وفي مسافة السفر روى البخاري ( أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا ) ١٠ وروى مسلم وأبو داود وأحمد عن يحي ابن يزيد قال ( سألت أنس ابن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ) ١١ وبسبب التباين في المسافة في الأحاديث اختلف الفقهاء في المسافة التي يصح القصر فيها، فمنهم من أخذ بالمسافة الطويلة ومنهم من أخذ بالمسافة القصيرة. ويرد لبالنا أن نقول : إن ما ورد في الأحاديث اختلاف وفرق كبير قد يكون كله صحيحا ووقع في ظروف اختلفت فيها درجة الجهد والمشقة والتعب وحالة الطريق والموسم والماء والطعام الخ. وقد يتبادر أن هذا يظل المقياس في الأمر. وإن المسلم يوكل فيه إلى إيمانه وتقواه. فإذا شق عليه السفر وجهد في المسافة القصيرة جاز له أن يقصر والله تعالى أعلم.
وهناك حديث يرويه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ) وجملة ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) تفيد كما هو المتبادر أن القصر طارئ وليس أصيلا حيث يسوغ ذلك التوقف في الحديث.
هذا، والجمهور على أن القصر هو للصلوات الرباعية فقط. أي الظهر والعصر والعشاء. فتقصر على ركعتين. وإن صلاتي الفجر والمغرب تبقيان على حالهما وهذا مستفاد من الأحاديث التي اقتصر الكلام فيها على الركعتين بدلا من الأربع.
( وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١٠٤ ) }.
عبارة الآية واضحة. وهي تأمر المسلمين بعدم التهاون والضعف في طلب أعدائهم وملاحقتهم وقتالهم. وتبّث فيهم بسبيل ذلك الروح : فإذا كان ينالهم نصب وألم من ذلك فأعداؤهم ينالهم مثل ذلك مع فارق عظيم هو أنهم يرجون من نصر الله وتأييده وأجره ما لا رجاء لأعدائهم فيه. والله عليم حكيم يعلم مقتضيات كل أمر ويأمر بما فيه الحكمة والسداد.
وقد روى المفسرون : أن الآية نزلت في مناسبة انتداب النبي للمسلمين عقب وقعة أحد حينما بلغه أن قريشا تفكر في الكرة عليهم للخروج إليهم ليثبتوا لهم أنهم غير هائمين منهم، أو في مناسبة انتداب النبي للمسلمين للخروج إلى بدر، حيث واعدهم أبو سفيان باللقاء في العام القابل بعد الوقعة المذكورة، وقد تلكأ بعض المسلمين بسبب ما كان يشعر به من ألم وتعب١.
وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ولسنا نرى لها مناسبة في مقام الآية.
ويتبادر لنا أنها ليست منقطعة عن السياق السابق الذي فيه دعوة إلى الجهاد والهجرة ومراغمة العدو والحذر منه وتنديد بالمثبطين والمترددين وأنها جاءت معقبة وداعمة لذلك. والله اعلم.
ومع اتصال الآية بظروف السيرة النبوية فإن فيها تلقينا مستمر المدى في إطلاق عبارتها حيث تظل تهتف بالمؤمنين في كل ظرف ومكان بأن لا يتوانوا في مكافحة أعدائهم الذين يظل التفوق لهم عليهم بإيمانهم بنصر الله وأعداؤهم يفقدون هذا الإيمان الذي يمد صاحبه بقوة عظمى.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والطبرسي..
( ١ ) خصيما : مخاصما ومدافعا ومجادلا عنهم
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
( ٢ ) يختانون أنفسهم : يخونون أنفسهم ويضربونها بما يفعلون من أفعال سيئة
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
( ٣ ) خطيئة أو إثما : قال بعضهم : إن الأولى تعني السيئة الصغيرة والثاني يعني السيئة الكبيرة، وهو وجيه لأنه لا بد من أن يكون بينهما فرق.
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن للخائنين خَصِيمًا( ١ ) ( ١٠٥ ) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٠٦ ) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ( ٢ ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( ١٠٧ ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( ١٠٨ ) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( ١٠٩ ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١١٠ ) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١١١ ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا( ٣ ) ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ١١٢ ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( ١١٣ ) ﴾.

في هذه الآيات :

( ١ ) خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ينبه فيه إلى أن الله إنما اختاره وأنزل عليه الكتاب بالحق والصدق ؛ ليحكم بين الناس بما عمله الله، وينهاه فيه عن الدفاع عن الخائنين المذنبين والمجادلة عن الذين يورطون أنفسهم ويظلمونها بالخيانة. فالله لا يحب الخوان الأثيم، وعليه أن يستغفر الله مما كاد أن يقع فيه.
( ٢ ) ونعي على الخائنين الذين يرتكبون الإثم والخيانة، ثم يستترون من الناس ويحاولون التلبيس عليهم ؛ خشية منهم وحياء في حين أنهم أولى أن يخشوا الله ويستحيوا منه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستتروا منه ويخفوا إثمهم عنه. وعليهم أن يذكروا أنه معهم ومحيط بأعمالهم وأقوالهم حينما يتآمرون بالسر في الطريق التي يخفون بها جرائمهم، وأنه لا يمكن أن يرضى عنها.
( ٣ ) والتفات إلى النبي والمسلمين التفاتا ينطوي على التنديد والتثريب، فعلى فرض أنهم جادلوا عن الخائنين في الدنيا فنجحوا ونجوا من العقوبة الدنيوية، فمن الذي يجادل عنهم يوم القيامة ويكون وكيلا عليهم أمام الله وينقذهم من العقوبة الأخروية. وهو محيط بحقائق ما فعلوا ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.
( ٤ ) وتقريرات في الموقف تنطوي على التعقيب على ما احتوته الآيات الثلاث الأولى :
١ـ فمن يعمل سوءا أو يورط نفسه ويظلمها باقتراف الإثم، ثم يستشعر بخطئه ويندم ويستغفر الله، فإن الله يشمله بغفرانه ورحمته.
٢ـ ومن يرتكب إثما فإنه لا يضر في الحقيقة إلا نفسه ؛ لأن الله عليم بكل شيء حكيم لا يمكن أن يكون منه إلا الحق والحكمة.
( ٣ ) ومن يرتكب ذنبا كبيرا كان أو صغيرا ثم يرمي به الأبرياء فإنه يكون قد ارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا حيث يكون قد اقترف جريمتين معا وهما جريمة الذنب وجريمة إلصاقه بالأبرياء.
ثم احتوت الآية الأخيرة التفاتا تعقيبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله قد شمله بفضله ورحمته. وبصره بالأمور. ولولا ذلك لحاول بعض الذين هم موضوع الكلام السابق أن يلبسوا عليه ويضللوه بأقوالهم ومزاعمهم. ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن يخدعوا إلا أنفسهم، ولن يضروه في شيء. وكل ذلك بفضل الله العظيم عليه ورحمته به، وما آتاه من الكتاب ووهبه من الحكمة وعلمه ما لم يكن يعلمه.
تعليق على الآية
( إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله... ) الخ.
والتي بعدها لآخر الآية ( ١١٣ ).
والآيات فصل جديد ومع ذلك فإنه يلمح شيء من التناسب بينها وبين بعض الفصول السابقة التي احتوت حكاية مواقف مكروهة لبعض الفئات، وإذا لم تكن قد نزلت بعض الآيات السابقة، ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك فتكون قد وضعت فيه بسبب هذا التناسب على ما هو المتبادر.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات رواية رواها الترمذي عن قتادة ابن النعمان وهذا نصها ( قال قتادة : سرق طعام وسلاح لعمي رفاعة ابن زيد فأخبرني بذلك فسألني وتحسسنا في الدار، فقيل لنا إنهم بنو أبيرق وهم بشير وبشر ومبشر، وكان بشير منافقا يهجو أصحاب النبي بالشعر وينسبه إلى غيره. وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فأتيت النبي فأخبرته والتمست منه رد السلاح فقط. فقال : سآمر في ذلك. فسمع بنو أبيرق بهذا فأوفدوا إلى النبي أسيد ابن عروة. فقال : يا رسول الله بنو أبيرق منا أهل صلاح وإسلام يرمون بالسرقة من غير بينة.
قال قتادة : فكلمت النبي ثانيا فقال رميت بالسرقة أهل بيت فيهم إسلام وصلاح من غير بينة ولا ثبت. فرجعت وتمنيت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله، فجاءني عمي فأخبرته بما قال لي رسول الله فقال الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ) إلى آخر الآيات. فلما نزلت أتي رسول الله بالسلاح قال قتادة : وكنت أشك في إسلام عمي رفاعة ؛ لأنه كان شيخا قد عصى في الجاهلية فلما أتيته بالسلاح قال ابن أخي : هو في سبيل الله، فعرفت إن إسلامه كان صحيحا ) ١ وقد روى الطبري الذي روى هذا الحديث روايات أخرى في نزول الآيات. منها أن درعا سرقت لجماعة من الأنصار كانوا في غزاة فاتهموا بها طعمة ابن أبيرق، وكان هو سارقها، فلما رأى أنه سيفتضح عمد إلى الدرع، فألقاهما في بيت رجل بريء من الأنصار أو من اليهود وأخبر قومه، فجاءوا إلى النبي وقالوا له : إن صاحبنا بريء، وطلبوا أن يجادل عنه، فأنزل الله الآيات، ومنها أن يهوديا استودع طعمة درعا فدفنها في الأرض، وجاء اليهودي فطلبها، فأنكرها طعمة وكان بعض عشيرة اليهودي يعرفون مخبأها، فخشي طعمة من الفضيحة فأخرجها وألقاها في دار أنصاري آخر. ورفع اليهودي الأمر إلى النبي، فجاء قوم طعمة يبرءونه ويطلبون الجدال عنه فأنزل الله الآيات. ومنها أن رجلا استودع طعمة مشربة فيها درع، فلما عاد لم يجد الدرع ورمى طعمة بها رجلا من اليهود، وجاء قوم طعمة فكلموا النبي في براءة صاحبهم، وكادوا أن يقنعوا النبي بأيمانهم وتزويقهم الكلام وتنويههم بإسلامهم حتى كاد يحكم بقطع يد اليهودي، ثم عصمه الله ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت ببراءة اليهودي وخيانة طعمة وتضليل قومه، وأنزل الله الآيات في ذلك.
والروايات متسقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وإن كان ينبغي القول عن الرواية التي يرويها الترمذي هي التي ينبغي أن تكون الأقوى احتمالا. وفي الروايات صور عن المجتمع الإسلامي في العهد النبوي المدني وقد تضمنت الآيات إشارات إليها.
وواضح أن الآيات لم ترد لحكاية الحادث الحادث، وإنما اتخذت حكمة التنزيل وسيلة مناسبة للتأديب والتعليم والتحذير والعظة والإنذار وإيقاظ الضمير، وبعث الشعور بخشية الله ومراقبته في القلوب. وهو الأسلوب القرآني المتميز على ما نبهنا عليه مرارا عديدة. وقد تجلت فيها صورة رائعة من العصمة النبوية في إعلان ما أوحي إليه من عتاب. وانطوت على تلقينات جليلة ومبادئ قضائية وأخلاقية سامية مستمرة المدى من ذلك :
( ١ ) إن على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم، ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
( ٢ ) إن على المسلم أن يذكر دائما أن الله تعالى مطلع على حقائق الأمور ولا يخفى عنها عليه خافية، وأنه لا يجديه أن يلبس على الحق والحقيقة، ويخدع الناس عنهما فإنه إنما يزداد بذلك إثما عند الله. وعليه أن يذكر أن له بين الله موقفا لا يستطيع أحدا أن يجادل عنه فيه.
( ٣ ) إن من يرتكب ذنبا فإنه في الحقيقة إنما يضر به نفسه.
( ٤ ) إن الأجدر بمن يتورط في إثم أن يبادر إلى الاعتراف والندم واستغفار الله. وهو واجد عند الله حينئذ الرحمة والغفران.
( ٥ ) إن الذي يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا يجمع بين كبيرتين فيكون قد ارتكب إثم الذنب وإثم البهتان.
( ٦ ) إن على المسلمين أن يستنكروا الجرائم والخيانات، وأن لا يساعدوا المجرمين والخائنين بأي شكل إخفاء وتستيرا أو دفاعا وتبريرا مهما كانت الأسباب والصلاة التي تصل بينهم وبين المذنب.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال : إن البخاري ومسلم روياه عن أم سلمة قالت ( سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها )٢وحديثا قريبا من هذا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة، كان المخاطب به رجلان من الأنصار اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما. ومما جاء فيه ( أنهما لما سمعا ما قاله رسول الله بكيا، وقال كل منهما : حقي لأخي، فقال رسول الله : أما إذا قلتما فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه٣ وقد انطوى في الحديثين تلقين جليل مستمر المدى وصورة من صور أخلاق أصحاب رسول الله، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم فيما يرفع إليه من خلاف بالاجتهاد بعد أن يسمع لقول الطرفين.
ولقد وقف بعض المتكلمين عند أمر الله تعالى النبي بالاستغفار في الآية ( ١٠٦ ) وقالوا بجواز وقوع الذنب منه ؛ لأن الاستغفار إنما يكون عن ذنب. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن النبي لم يقع بالأيمان وتزويق الكلام وشهادة الزور، وإن أمر الله إياه بالاستغفار هو لأنه أوشك أن يقع منه خطأ في القضاء فيحكم على البريء ويبرئ المتهم نتيجة لذلك. وأن هذا ليس ذنبا٤ وفي هذا ما هو ظاهر من صواب ووجاهة وحق. فقد عصم الله تعالى نبيه من الذنب والمعصية، وكل ما يجوز أن يصدر منه اجتهاد في أمر لا يكون هو الأولى والأصح في علم الله فيعاتب عليه وينبه إلى ما هو الأولى. وقد مر من ذلك بعض الأمثلة في سور عبس والأحزاب والأنفال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لا يأتي هنا لأول مرة. فقد جاء في سور عديدة سبق تفسيرها وعلقنا على الموضوع بصورة عامة في سياق آية سورة غافر ( ٥٥ ) التي هي أولى الآيات التي ورد فيها وأوردنا من بعض الأحاديث المروية في ذلك فنكتفي بهذا التنبيه.
ونص الآية ( ١١٠ ) جدير بالتنويه لما فيه من دعوة المذنبين المسيئين إلى الاستغفار وتأميل لهم بغفران الله إذا استغفروا أي تابوا وطلبوا الغفران من الله.
وينطوي في هذا هدف سام من أهداف الإسلام، وهو استغفار الإنسان وصلاحه. وقد شرحنا هذا في سياق شرحنا مدى الاستغفار والتوبة. في سورتي المزمل والبروج فنكتفي بهذا التنبيه أيضا.
ولقد توقف بعض المفس
( ١ ) النجوى : التسارر والاجتماعات السرية وأصلها الاجتماع والكلام بين اثنين أو أكثر في نجوة عن الناس.
( ٢ ) معروف : هنا بمعنى كل ما تعارف عليه جمهور المسلمين أنه خير ونافع وليس فيه معصية ومنكر.
﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ( ١ ) إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ( ٢ ) أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١١٤ ) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ( ٣ ) نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا( ١١٥ ) ﴾.
في الآيتين بيان على سبيل التحذير والعظة بأنه لا خير في كثير مما يدور في الاجتماعات السرية التي يجتمع فيها الناس بعيدين عن أعين الرقباء إلا إذا كان الهدف صدقة تعطى، أو معونة تبذل. أو معروفا يؤمر به. أو إصلاحا بين الناس. وبأن الذين يستهدفون مثل هذه الأهداف في اجتماعاتهم ابتغاء وجه الله ورضائه لهم الأجر العظيم عند الله. أما الذين يستهدفون مكايدة النبي ومشاققته بعد ما ظهر لهم ما ظهر من الحق والهدى ويسيرون في غير الطريق القويم الذي يسير فيه المؤمنون الصالحون، والذي هو التزام ما أمر الله ورسوله به، واجتناب ما نهيا عنه، فإن الله يجعل أعمالهم السيئة ونياتهم الخبيثة تحيق بهم كما يجعل مصيرهم في الآخرة جهنم وساءت هي من مصير.
تعليق على الآية
( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس... ) الخ
والآية التالية لها واستطراد إلى مسألة إجماع المسلمين وسبيلهم
قال بعض المفسرون١ إن الآيتين تتمة للسياق السابق ولقد جاء في حديث الترمذي الذي أشرنا إليه قبل هذه العبارة ( فلما نزلت الآيات لحق بشير بين أبيرق بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد ابن سمية فنزلت ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) الآية فرمى حسان ابن ثابت سلافة بأبيات من الشعر فلما بلغتها أخذت رحل بشير ورمت به وقالت : أهديت لي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير ) وعلى هذا فتكون الآيتان متصلتين بالآيات السابقة ومنطويتين على تعقيب على الحادث.
غير أننا نلمح من الآية الثانية أن الآيتين في صدد أمر أعم من الحادث. وقد يكونان فصلا جديدا متصلا بالآيات التالية لهما. وفيهما على كل حال صورة من صور العهد النبوي في المدينة، من حيث إنه كان هناك مرضى النفوس ومخامرون يعقدون المجالس السرية للمكايدة والمشاقة. ومن هنا يكون بين الآيتين والآيات السابقة تناسب قد يكون سبب وضعهما في مكانهما إذا لم يصح ما ذكره المفسرون من صلتهما بحادث ابن أبيرق، وصح ما ذكرناه من صلتهما بالآيات التالية.
وفي الآيتين تلقينات جليلة مستمرة المدى ؛ حيث انطوى فيهما قصد تهذيب أخلاق المسلمين وتنقية قلوبهم وتوجيههم في وجه الحق والبر والمعروف والإصلاح في سرهم وعلنهم وفي اجتماعاتهم الخاصة والعامة، وتجنيبهم مواقف المكايدة والانشقاق والانحراف التي لا يجوز للمسلم أن يتورط فيها. وتنبيههم إلى ما في الاجتماعات السرية من شبهة التآمر والكيد ووجوب مراقبة الله فيها. وتقبيح الشذوذ عن السبيل القويم والرأي الحق الذي يكون عليه المسلمون، والذي يكون في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وتلقيناتهما.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى بعض أحاديث نبوية. منها حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن محمد ابن يزيد قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد ابن حسان فقال له الثوري : الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي فقال : حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلام ابن آدم كله عليه إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. فقال سفيان : أو ما سمعت الله في كتابه يقول ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) فهذا هو ٢. ومنها حديث أخرجه الحافظ البزار عن أنس قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ألا أدلك على تجارة ؟ قال : بلى يا رسول الله. قال : تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا ) وفي الأحاديث تساوق تلقيني مع الآية كما هو واضح.
وهناك أحاديث يصح أن تساق أيضا في صدد ما انطوى في الآية الثانية من لزوم سبيل المسلمين وعدم الشذوذ عنها. من ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) ٣ ومن ذلك ثلاثة أحاديث رواها الطبراني أحدها عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لن تجتمع أمتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ) ٤ وثانيهما عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما تختطف الذئب الشاة من الغنم ) وثالثها عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( عليك بتقوى الله والجماعة وإياك والفرقة، فإنها هي الضلالة، وإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ) ٥.
والآية الثانية جديرة بالتأمل من وجهة أخرى أي من وجهة كون الإنذار فيها موجها إلى الذين يشاقون الرسول، ويشذون عن سبيل المسلمين عن عمد وبينة. بحيث يرد على البال أنه لا يشمل من يفعل عن جهالة وعماء. على أن من الحق أن يقال : إن على الذين لا يعرفون وجه الحق والهدى في أمر ما يجب عليهم للنجاة من الإنذار أن يسألوا أهل العلم فيه. ولهم أن يطلبوا البرهان على ما يقولونه لهم، وإن الذين لا يفعلون ذلك ويفضلون البقاء على ما هم عليه من جهالة وعماء وعدم تبين وجه الحق والهدى يدخلون في شمول الإنذار أيضا.
ولقد أول بعضهم تعبير ( سبيل المؤمنين ) في الآية الثانية بأنه الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما. وأوله بعضهم بأنه ما اتفق عليه جمهور المسلمين من حق ومصلحة. والتعبير يتحمل التأويلين، بل ليس بينهما تعارض. والآية التي جاء فيها التعبير وإن كانت متصلة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مستمرة التلقين للمسلمين بعده. شأن أمثالها الكثيرة بحيث تكون قد انطوت على الإنذار الرهيب لمن يشذ ويسير في طريق كتاب الله وسنة رسوله وصالح المسلمين.
ولقد قال بعض المفسرين : إن في الآية حجة لوجوب اتباع ( الإجماع ) وعدم جواز مخالفته وعزا بعضهم ذلك إلى الإمام الشافعي. وليس المقصود بهذا الإجماع معناه اللغوي. بل ذلك الاصطلاح الفقهي الذي يجعله الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي. فالأصل الأول هو القرآن، والثاني هو سنة رسول الله، والثالث هو إجماع علماء المسلمين أو مجتهديهم أو من وصفوا بالقادرين على استنباط الأحكام من مآخذها ) على ما ليس فيه نصوص محكمة ومحددة في القرآن والسنة من مختلف الشؤون ؛ حيث تكون مخالفة ما يجمعون عليه حراما ويدخل في نطاق الإنذار الذي احتوته الآية.
وهذا وجيه من دون ريب لأنه يصح أن يدخل في متناول تعبير ﴿ سبيل المؤمنين ﴾ حسب التأويل الثاني لهذا التعبير مع التنبيه إلى أن هذا التعبير بالتأويل المذكور واسع الشمول، ويتناول فيما يتناوله ما يتفق عليه علماء المسلمين ومجتهدوهم من شؤون سياسية وعسكرية وتنظيمية فيها مصلحتهم.
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن المستفاد من بحوث العلماء أنه ليس هناك اتفاق على شروط الإجماع وعلى أوصاف الجماعة التي يحصل الإجماع باتفاقها. وأن الإجماع الاصطلاحي المذكور ظل وسيظل نظريا، وأنه لم يتحقق عمليا وليس من سبيل إلى ذلك، وأنه لم يكد يوجد مسألة فقهية إلا وفيها خلاف وأنه نتيجة لذلك انقسم المسلمون في عباداتهم وفي معاملاتهم إلى مذاهب عديدة. منها ما يجمعه جامعة السنية ومنها ما يجمعه جامعة الشيعية، بل ومنها ما يجمعه جامعة الخوارج الذين لا يزال منهم فرقة إلى اليوم تعمل به وبعضها يوجب ما لا يوجبه بعضها وبعضها يجيز ما لا يجيزه بعضها وبعضها يستكره ما يستحبه بعضها وبعضها يحرم ما يحله بعضها وبعضها يحل ما يحرمه بعضها، وبعضها يفسق بعضها بل يكفره٦.
ومن جهة أخرى فإن الباحثين لا يدخلون أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي في عداد الجماعة التي ينيطون بها ملكة القدرة على استنباط الأحكام من مأخذها ويجعلون إجماعها أصلا من أصول التشريع ؛ حيث يحصرون ذلك في المشتغلين بالعلوم الدينية مع أن تعبير ﴿ سبيل المؤمنين ﴾ يتناول كما قلنا قبل الشؤون السياسية والعسكرية والتنظيمية التي يكون لرأي أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي أثر مهم فيها.
وبناء على ذلك كله تظل ضرورة تعيين السبيل التي يجب على المسلمين اتباعها والتي تنذر الآية الشاذين عنها محلة في كل وقت وقطر بالنسبة لما لم يرد في شيء صريح أو قطعي أو محدد في القرآن والسنن النبوية من مختلف الشؤون التعاملية والسياسية والعسكرية والتنظيمية، ولما كان الإجماع على ذلك غير ممكن، وبقاء المسلمين مختلفين مذاهب وشيعا في ذلك على النحو الذي ذكرناه ضارا كل الضرر ومخالفا لتقريرات القرآن والسنة النبوية ومعطلا لتعيين سبيل المسلمين الواجب على المسلمين اتباعها، فلابد من الأخذ بما يتفق عليه الأكثرية. وسبيل ذلك الشورى التي وصف الله المسلمين بأنها من خصائصهم في آية سورة الشورى ( ٣٨ ) حيث جاء فيها ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾. وهذا المقام هو أوسع المقامات لتحقيق هذا الوصف ؛ حيث يجمتع ممثلو المذاهب الفقهية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الخلافية في العبادات والمعاملات فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه مناقضة لصريح القرآن والسنة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل ووجب اتباعه، وحيث يجتمع ممثلو العلوم والشؤون الدنيوية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الدنيوية السياسية والعسكرية والتنظيمية فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه كذلك مناقضة لصريح القرآن والسنة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل ووجب اتباعه.
وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى الفقهاء بعض ذوي العلم الدنيوية وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى العلماء الدنيويين بعض ذوي العلم الديني ؛ لأن الإسلام دين متكامل يجمع بين الشؤون الدينية والدنيوية. والله تعالى أعلم.
( ٣ ) سبيل المؤمنين : يمكن أن يكون القصد من التعبير الإيمان ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما، ويمكن أن يكون القصد هو ما يكون عليه جمهور المسلمين من أمور موافقة لكتاب الله وسنة رسوله.
﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ( ١ ) إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ( ٢ ) أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١١٤ ) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ( ٣ ) نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا( ١١٥ ) ﴾.
في الآيتين بيان على سبيل التحذير والعظة بأنه لا خير في كثير مما يدور في الاجتماعات السرية التي يجتمع فيها الناس بعيدين عن أعين الرقباء إلا إذا كان الهدف صدقة تعطى، أو معونة تبذل. أو معروفا يؤمر به. أو إصلاحا بين الناس. وبأن الذين يستهدفون مثل هذه الأهداف في اجتماعاتهم ابتغاء وجه الله ورضائه لهم الأجر العظيم عند الله. أما الذين يستهدفون مكايدة النبي ومشاققته بعد ما ظهر لهم ما ظهر من الحق والهدى ويسيرون في غير الطريق القويم الذي يسير فيه المؤمنون الصالحون، والذي هو التزام ما أمر الله ورسوله به، واجتناب ما نهيا عنه، فإن الله يجعل أعمالهم السيئة ونياتهم الخبيثة تحيق بهم كما يجعل مصيرهم في الآخرة جهنم وساءت هي من مصير.
تعليق على الآية
( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس... ) الخ
والآية التالية لها واستطراد إلى مسألة إجماع المسلمين وسبيلهم
قال بعض المفسرون١ إن الآيتين تتمة للسياق السابق ولقد جاء في حديث الترمذي الذي أشرنا إليه قبل هذه العبارة ( فلما نزلت الآيات لحق بشير بين أبيرق بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد ابن سمية فنزلت ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) الآية فرمى حسان ابن ثابت سلافة بأبيات من الشعر فلما بلغتها أخذت رحل بشير ورمت به وقالت : أهديت لي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير ) وعلى هذا فتكون الآيتان متصلتين بالآيات السابقة ومنطويتين على تعقيب على الحادث.
غير أننا نلمح من الآية الثانية أن الآيتين في صدد أمر أعم من الحادث. وقد يكونان فصلا جديدا متصلا بالآيات التالية لهما. وفيهما على كل حال صورة من صور العهد النبوي في المدينة، من حيث إنه كان هناك مرضى النفوس ومخامرون يعقدون المجالس السرية للمكايدة والمشاقة. ومن هنا يكون بين الآيتين والآيات السابقة تناسب قد يكون سبب وضعهما في مكانهما إذا لم يصح ما ذكره المفسرون من صلتهما بحادث ابن أبيرق، وصح ما ذكرناه من صلتهما بالآيات التالية.
وفي الآيتين تلقينات جليلة مستمرة المدى ؛ حيث انطوى فيهما قصد تهذيب أخلاق المسلمين وتنقية قلوبهم وتوجيههم في وجه الحق والبر والمعروف والإصلاح في سرهم وعلنهم وفي اجتماعاتهم الخاصة والعامة، وتجنيبهم مواقف المكايدة والانشقاق والانحراف التي لا يجوز للمسلم أن يتورط فيها. وتنبيههم إلى ما في الاجتماعات السرية من شبهة التآمر والكيد ووجوب مراقبة الله فيها. وتقبيح الشذوذ عن السبيل القويم والرأي الحق الذي يكون عليه المسلمون، والذي يكون في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وتلقيناتهما.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى بعض أحاديث نبوية. منها حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن محمد ابن يزيد قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد ابن حسان فقال له الثوري : الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي فقال : حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلام ابن آدم كله عليه إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. فقال سفيان : أو ما سمعت الله في كتابه يقول ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) فهذا هو ٢. ومنها حديث أخرجه الحافظ البزار عن أنس قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ألا أدلك على تجارة ؟ قال : بلى يا رسول الله. قال : تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا ) وفي الأحاديث تساوق تلقيني مع الآية كما هو واضح.
وهناك أحاديث يصح أن تساق أيضا في صدد ما انطوى في الآية الثانية من لزوم سبيل المسلمين وعدم الشذوذ عنها. من ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) ٣ ومن ذلك ثلاثة أحاديث رواها الطبراني أحدها عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لن تجتمع أمتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ) ٤ وثانيهما عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما تختطف الذئب الشاة من الغنم ) وثالثها عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( عليك بتقوى الله والجماعة وإياك والفرقة، فإنها هي الضلالة، وإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ) ٥.
والآية الثانية جديرة بالتأمل من وجهة أخرى أي من وجهة كون الإنذار فيها موجها إلى الذين يشاقون الرسول، ويشذون عن سبيل المسلمين عن عمد وبينة. بحيث يرد على البال أنه لا يشمل من يفعل عن جهالة وعماء. على أن من الحق أن يقال : إن على الذين لا يعرفون وجه الحق والهدى في أمر ما يجب عليهم للنجاة من الإنذار أن يسألوا أهل العلم فيه. ولهم أن يطلبوا البرهان على ما يقولونه لهم، وإن الذين لا يفعلون ذلك ويفضلون البقاء على ما هم عليه من جهالة وعماء وعدم تبين وجه الحق والهدى يدخلون في شمول الإنذار أيضا.
ولقد أول بعضهم تعبير ( سبيل المؤمنين ) في الآية الثانية بأنه الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما. وأوله بعضهم بأنه ما اتفق عليه جمهور المسلمين من حق ومصلحة. والتعبير يتحمل التأويلين، بل ليس بينهما تعارض. والآية التي جاء فيها التعبير وإن كانت متصلة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مستمرة التلقين للمسلمين بعده. شأن أمثالها الكثيرة بحيث تكون قد انطوت على الإنذار الرهيب لمن يشذ ويسير في طريق كتاب الله وسنة رسوله وصالح المسلمين.
ولقد قال بعض المفسرين : إن في الآية حجة لوجوب اتباع ( الإجماع ) وعدم جواز مخالفته وعزا بعضهم ذلك إلى الإمام الشافعي. وليس المقصود بهذا الإجماع معناه اللغوي. بل ذلك الاصطلاح الفقهي الذي يجعله الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي. فالأصل الأول هو القرآن، والثاني هو سنة رسول الله، والثالث هو إجماع علماء المسلمين أو مجتهديهم أو من وصفوا بالقادرين على استنباط الأحكام من مآخذها ) على ما ليس فيه نصوص محكمة ومحددة في القرآن والسنة من مختلف الشؤون ؛ حيث تكون مخالفة ما يجمعون عليه حراما ويدخل في نطاق الإنذار الذي احتوته الآية.
وهذا وجيه من دون ريب لأنه يصح أن يدخل في متناول تعبير ﴿ سبيل المؤمنين ﴾ حسب التأويل الثاني لهذا التعبير مع التنبيه إلى أن هذا التعبير بالتأويل المذكور واسع الشمول، ويتناول فيما يتناوله ما يتفق عليه علماء المسلمين ومجتهدوهم من شؤون سياسية وعسكرية وتنظيمية فيها مصلحتهم.
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن المستفاد من بحوث العلماء أنه ليس هناك اتفاق على شروط الإجماع وعلى أوصاف الجماعة التي يحصل الإجماع باتفاقها. وأن الإجماع الاصطلاحي المذكور ظل وسيظل نظريا، وأنه لم يتحقق عمليا وليس من سبيل إلى ذلك، وأنه لم يكد يوجد مسألة فقهية إلا وفيها خلاف وأنه نتيجة لذلك انقسم المسلمون في عباداتهم وفي معاملاتهم إلى مذاهب عديدة. منها ما يجمعه جامعة السنية ومنها ما يجمعه جامعة الشيعية، بل ومنها ما يجمعه جامعة الخوارج الذين لا يزال منهم فرقة إلى اليوم تعمل به وبعضها يوجب ما لا يوجبه بعضها وبعضها يجيز ما لا يجيزه بعضها وبعضها يستكره ما يستحبه بعضها وبعضها يحرم ما يحله بعضها وبعضها يحل ما يحرمه بعضها، وبعضها يفسق بعضها بل يكفره٦.
ومن جهة أخرى فإن الباحثين لا يدخلون أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي في عداد الجماعة التي ينيطون بها ملكة القدرة على استنباط الأحكام من مأخذها ويجعلون إجماعها أصلا من أصول التشريع ؛ حيث يحصرون ذلك في المشتغلين بالعلوم الدينية مع أن تعبير ﴿ سبيل المؤمنين ﴾ يتناول كما قلنا قبل الشؤون السياسية والعسكرية والتنظيمية التي يكون لرأي أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي أثر مهم فيها.
وبناء على ذلك كله تظل ضرورة تعيين السبيل التي يجب على المسلمين اتباعها والتي تنذر الآية الشاذين عنها محلة في كل وقت وقطر بالنسبة لما لم يرد في شيء صريح أو قطعي أو محدد في القرآن والسنن النبوية من مختلف الشؤون التعاملية والسياسية والعسكرية والتنظيمية، ولما كان الإجماع على ذلك غير ممكن، وبقاء المسلمين مختلفين مذاهب وشيعا في ذلك على النحو الذي ذكرناه ضارا كل الضرر ومخالفا لتقريرات القرآن والسنة النبوية ومعطلا لتعيين سبيل المسلمين الواجب على المسلمين اتباعها، فلابد من الأخذ بما يتفق عليه الأكثرية. وسبيل ذلك الشورى التي وصف الله المسلمين بأنها من خصائصهم في آية سورة الشورى ( ٣٨ ) حيث جاء فيها ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾. وهذا المقام هو أوسع المقامات لتحقيق هذا الوصف ؛ حيث يجمتع ممثلو المذاهب الفقهية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الخلافية في العبادات والمعاملات فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه مناقضة لصريح القرآن والسنة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل ووجب اتباعه، وحيث يجتمع ممثلو العلوم والشؤون الدنيوية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الدنيوية السياسية والعسكرية والتنظيمية فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه كذلك مناقضة لصريح القرآن والسنة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل ووجب اتباعه.
وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى الفقهاء بعض ذوي العلم الدنيوية وقد يفيد أن يكون في مجالس شورى العلماء الدنيويين بعض ذوي العلم الديني ؛ لأن الإسلام دين متكامل يجمع بين الشؤون الدينية والدنيوية. والله تعالى أعلم.
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.
( ١ ) إناثا : قيل إنها تعني الأوثان عامة ؛ حيث كان العرب يسمون أوثانهم إناثا. وقيل : إنها تعني أوثانهم المؤنثة الأسماء بخاصة كاللات والعزى ومناة ونائلة. وقيل : إنها تعني الأموات ؛ لأن العرب كانوا يسمون الأموات، وما لا روح فيه من حجر وخشب ومعدن إناثا. وقيل : إنها كناية عن الملائكة الذين كانوا يشركونهم مع الله ؛ لأنهم بنات الله في زعمهم سبحانه وتعالى عن ذلك. والعبارة في مقامها تتحمل كل هذا
( ٢ )مريدا : متمردا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٦:﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٦:﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

( ٣ )فليبتكن : من البتك وهو الشق أو الخرق
( ٤ )فليغيرن خلق الله : القصد من الجملة ما كان يفعله العرب في الحيوانات والأرقاء من خصي وكي ووشم الخ. وقيل : إن القصد منها تغيير فطرة الله ودينه، والقول الأول هو الأوجه في مقام الجملة، وهو متناسب مع البتك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٦:﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٦:﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

( ٥ ) محيصا : مهربا ومخلصا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٦:﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

( ٦ ) قيلا : قولا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٦:﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١١٦ ) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا( ١ ) وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( ٢ )( ١١٧ ) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ( ١١٨ ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ( ٣ )آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ٤ )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ( ١١٩ ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( ١٢٠ )أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا( ٥ )( ١٢١ )وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ٦ ) ( ١٢٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
( إن الله لا يغفر أن يشرك به... ) الخ
والآيات التالية لها إلى آخر الآية ( ١٢٢ ) ومدى المراد من تغيير خلق الله
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه ؛ لأنه إنما يدعوا من لا قدرة له على نفع وضرر، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضل من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة، وأن يجعلهم فيما يجعلهم أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.
ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة، والذي ارتد ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول : إني منهمك في ذنوب كثيرة، ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة، وإني تائب فما حالي ؟ فنزلت بالبشرى له.
والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة، في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات، فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كل ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها ؛ لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى، فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.
ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي آية ( ٤٨ ) حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية ( ٤٨ ) في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة، وجاءت هنا في حق مشركي العرب. ولقد علقنا على الآية ( ٤٨ ) وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك، فلم يعد محل للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.
ولقد أوردنا معاني كلمة ( إناثا ) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا : إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام، من حيث إنه كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة هم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين١٦ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ١٧ أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ ).
وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين ( ١١٨ و ١١٩ ) التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم، قد تكررت في آيات سابقة، وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأن ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته، ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحق والهدى، فاستحكم فيهم التنديد القرآني.
وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.
والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة ( فليغيرن خلق الله ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام ( ١٣٥ و ١٤٤ ) التي مر تفسيرها إلى بعض عادات متصلة الأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار، وفي سورة المائدة هذه الآية ( ما جعل لله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله، ومنها البحيرة التي تعنيها جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سن هذه العادات، ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو ابن عامر وأن رسول الله قال : إنه يجر قصبه في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال :( لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمى أم يعقوب فجاءت، فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله، ومن هو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال : لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا ) ( الحشر : ٧ ) قالت بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا ) ١ ومنها أنه التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة ( فليبتكن آذان الأنعام ) فيما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله عن الإخصاء في رواية عن خصاء الخيل والبهائم ) وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم ) وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم ) ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ).
ومما أورد الطبراني حديث عبد الله جاء فيه ( لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات ). وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.
وتعليقا على ذلك نقول : إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات، وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقول عن الحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان، وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزيين من وشم وتنمص ووصل شعر وتطويله وتفلج٢ فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة، والتنمص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت ( كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا ) ٣ وهناك أحاديث نبوية تحث المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت ( إن امرأة أو مأت من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال : ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت : بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحناء ) ٤ وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا ) ٥ وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله، والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة، حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري ( أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال : ما لها لعنها الله غيرت خلق الله ) حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النسا
١ التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.
٢ التنمص: هو نتف شعر اليدين والساق والتفلج. هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.
٣ انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.
٤ التاج ج ٣ ص ١٥٧.
٥ التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( ١٢٣ ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( ١٢٤ ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( ١٢٥ )وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ( ١٢٦ ) ﴾.
في الآيات :
( ١ ) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين، ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزي عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء.
( ٢ ) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحث والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا.
( ٣ ) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد.
تعليق على الآية
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزيه )
والآيات الثلاث التي بعدها
روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من المسلمون حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين ؛ حيث قال الكتابيون : كتبنا وأنبياؤنا أسبق، وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أوفى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبينا، فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الرد على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذي كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح، ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول : إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية ( ١٢٥ ) احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم. وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول : إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران ( ٦٥ و ٦٨ ) التي مر تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملة ؛ حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول : بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي ؛ لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة.
ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة، فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرئ أن يركن على الدعوى والأماني والانتساب والظواهر.
وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله، إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا. وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملة الإسلام لمستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سواءا مما تكرر في القرآن كثيرا، بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنته وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها، واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدأ روعهم وطمأنهم وبشرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال ( لما نزل ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ شق ذلك على المسلمين، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير )١ ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم مات في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ٨ ) وآية فصلت ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ) ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم، وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة التي تكون فيما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية ( ٣١ ) من هذه السورة. والله أعلم.
وبمناسبة جملة ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح.
ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة، فوجد عند أهله خبزا فقالوا له : هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشروه بأن الله اتخذه خليلا ؛ لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام، ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل ( ١٣٠ ١٣٢ ) التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ٨٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٣:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( ١٢٣ ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( ١٢٤ ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( ١٢٥ )وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ( ١٢٦ ) ﴾.

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين، ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزي عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء.
( ٢ ) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحث والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا.
( ٣ ) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد.
تعليق على الآية
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزيه )
والآيات الثلاث التي بعدها
روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من المسلمون حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين ؛ حيث قال الكتابيون : كتبنا وأنبياؤنا أسبق، وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أوفى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبينا، فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الرد على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذي كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح، ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول : إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية ( ١٢٥ ) احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم. وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول : إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران ( ٦٥ و ٦٨ ) التي مر تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملة ؛ حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول : بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي ؛ لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة.
ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة، فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرئ أن يركن على الدعوى والأماني والانتساب والظواهر.
وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله، إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا. وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملة الإسلام لمستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سواءا مما تكرر في القرآن كثيرا، بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنته وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها، واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدأ روعهم وطمأنهم وبشرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال ( لما نزل ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ شق ذلك على المسلمين، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير )١ ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم مات في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ٨ ) وآية فصلت ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ) ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم، وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة التي تكون فيما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية ( ٣١ ) من هذه السورة. والله أعلم.
وبمناسبة جملة ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح.
ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة، فوجد عند أهله خبزا فقالوا له : هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشروه بأن الله اتخذه خليلا ؛ لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام، ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل ( ١٣٠ ١٣٢ ) التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ٨٨..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٣:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( ١٢٣ ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( ١٢٤ ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( ١٢٥ )وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ( ١٢٦ ) ﴾.

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين، ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزي عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء.
( ٢ ) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحث والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا.
( ٣ ) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد.
تعليق على الآية
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزيه )
والآيات الثلاث التي بعدها
روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من المسلمون حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين ؛ حيث قال الكتابيون : كتبنا وأنبياؤنا أسبق، وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أوفى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبينا، فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الرد على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذي كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح، ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول : إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية ( ١٢٥ ) احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم. وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول : إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران ( ٦٥ و ٦٨ ) التي مر تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملة ؛ حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول : بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي ؛ لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة.
ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة، فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرئ أن يركن على الدعوى والأماني والانتساب والظواهر.
وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله، إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا. وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملة الإسلام لمستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سواءا مما تكرر في القرآن كثيرا، بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنته وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها، واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدأ روعهم وطمأنهم وبشرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال ( لما نزل ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ شق ذلك على المسلمين، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير )١ ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم مات في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ٨ ) وآية فصلت ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ) ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم، وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة التي تكون فيما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية ( ٣١ ) من هذه السورة. والله أعلم.
وبمناسبة جملة ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح.
ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة، فوجد عند أهله خبزا فقالوا له : هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشروه بأن الله اتخذه خليلا ؛ لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام، ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل ( ١٣٠ ١٣٢ ) التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ٨٨..


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٤:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٣:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( ١٢٣ ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( ١٢٤ ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( ١٢٥ )وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ( ١٢٦ ) ﴾.

في الآيات :

( ١ ) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين، ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزي عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء.
( ٢ ) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحث والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا.
( ٣ ) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد.
تعليق على الآية
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزيه )
والآيات الثلاث التي بعدها
روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من المسلمون حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين ؛ حيث قال الكتابيون : كتبنا وأنبياؤنا أسبق، وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أوفى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبينا، فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الرد على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذي كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.
وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح، ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول : إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية ( ١٢٥ ) احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم. وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول : إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران ( ٦٥ و ٦٨ ) التي مر تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملة ؛ حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول : بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي ؛ لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة.
ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة، فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي، وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرئ أن يركن على الدعوى والأماني والانتساب والظواهر.
وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله، إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا. وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملة الإسلام لمستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سواءا مما تكرر في القرآن كثيرا، بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنته وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها، واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدأ روعهم وطمأنهم وبشرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال ( لما نزل ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ شق ذلك على المسلمين، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير )١ ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم مات في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ٨ ) وآية فصلت ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ٤٦ ) ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم، وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة التي تكون فيما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية ( ٣١ ) من هذه السورة. والله أعلم.
وبمناسبة جملة ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح.
ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة، فوجد عند أهله خبزا فقالوا له : هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشروه بأن الله اتخذه خليلا ؛ لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام، ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل ( ١٣٠ ١٣٢ ) التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم.
١ التاج ج ٤ ص ٨٨..


﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ به عَلِيمًا ( ١٢٧ ) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ( ١ ) وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١٢٨ ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٢٩ )وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ( ١٣٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( ويستفتونك في النساء... ) الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين
في الآية الأولى :
( ١ ) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء.
( ٢ ) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن، وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن، ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن ثم في الأولاد المستضعفين.
( ٣ ) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط، فلا يظلموهم على أي حال.
( ٤ ) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم.
في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على ما يلي :
( ١ ) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها، فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشح وعدم التسامح مع التنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير.
( ٢ ) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست كطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله، فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل.
( ٣ ) وإذا لم يكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان، فخير للزوجين أن يتفرقا عن بعضهما، والله الواسع الحكيم ييسر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر.
والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي.
روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شق على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر ابن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها، فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها، فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة، وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها، فأنزل الله الآية. ومنها أن الآية توضيح للآية الثالثة من السورة ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) النساء ( ٣ ) حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال، وكانوا لا يؤتوهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية١.
ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر. منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حل. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت : لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع ابن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة، فأراد أن يتزوج ثانية جميلة، ويؤثرها على القديمة فقال لها : وإن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك٢ وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات التالية الأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي٣ فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات، ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات ( ٢ و ٣ و ٦ و ١١ ١٤ و ١٩ ٢١ ) فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة.
ولقد قال بعضهم : إن جملة ( ما كتب لهن ) تشمل الصداق والإرث معا ؛ حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق، ولا يؤتوهن إرثهن وهذا وجيه سديد.
ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح ولقد احتوت آيات السورة ( ٣٤ و ٣٥ ) معالجة حالة نشوز الزوجة، فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. ( وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة ( ٢٢٤ ٢٣٢ ) و النساء ( ١٩ ٢١ و ٣٥ ).
ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثلاثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا، ثم حذرتاه من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد، والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين.
وفي الروايات وبخاصة رواية رافع ابن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة، ولم ير بدا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى، وهي أن رجلا أتى إلى علي ابن أبي طالب يستفتيه في جملة ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبوا عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل، وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها ؛ لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما.
وعبارة الآيات الثلاث، وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن.
ولفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حث على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس ؛ حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلا إذا استنفدت كل وسيلة ؛ حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية بأسلوبها البليغ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها. منها حديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) ٤ وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك٥ وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها٦.
وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات، وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق، وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير المستطاع مهما حرص المرء عليه.
ولقد روى الطبري أن عمر ابن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة، فإن كانت حسناء فتية قال له : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له : تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي ابن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له : ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي ؟ فقال له : إن كنت خيرا لها فتزوجها، وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير ؛ حيث يصح أن يستأنس بذلك. فيقال : إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتداخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير، وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء..
٢ انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات..
٣ الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في تاج ج ٤ ص ٨٨ والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر..
٤ التاج ج ٢ ص ٢٩٤- ٢٩٥..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..
( ١ ) وأحضرت الأنفس الشح : الجملة استطرادية معترضة تشير في معرض الكلام عن الصلح إلى من طبعت عليه نفوس الناس من الشح والظن وعدم التسامح، ويصدق ذلك على الزوج والزوجة معا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٧:﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ به عَلِيمًا ( ١٢٧ ) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ( ١ ) وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١٢٨ ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٢٩ )وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ( ١٣٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( ويستفتونك في النساء... ) الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين

في الآية الأولى :

( ١ ) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء.
( ٢ ) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن، وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن، ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن ثم في الأولاد المستضعفين.
( ٣ ) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط، فلا يظلموهم على أي حال.
( ٤ ) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم.
في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على ما يلي :
( ١ ) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها، فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشح وعدم التسامح مع التنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير.
( ٢ ) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست كطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله، فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل.
( ٣ ) وإذا لم يكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان، فخير للزوجين أن يتفرقا عن بعضهما، والله الواسع الحكيم ييسر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر.
والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي.
روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شق على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر ابن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها، فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها، فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة، وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها، فأنزل الله الآية. ومنها أن الآية توضيح للآية الثالثة من السورة ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) النساء ( ٣ ) حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال، وكانوا لا يؤتوهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية١.
ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر. منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حل. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت : لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع ابن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة، فأراد أن يتزوج ثانية جميلة، ويؤثرها على القديمة فقال لها : وإن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك٢ وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات التالية الأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي٣ فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات، ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات ( ٢ و ٣ و ٦ و ١١ ١٤ و ١٩ ٢١ ) فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة.
ولقد قال بعضهم : إن جملة ( ما كتب لهن ) تشمل الصداق والإرث معا ؛ حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق، ولا يؤتوهن إرثهن وهذا وجيه سديد.
ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح ولقد احتوت آيات السورة ( ٣٤ و ٣٥ ) معالجة حالة نشوز الزوجة، فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. ( وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة ( ٢٢٤ ٢٣٢ ) و النساء ( ١٩ ٢١ و ٣٥ ).
ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثلاثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا، ثم حذرتاه من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد، والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين.
وفي الروايات وبخاصة رواية رافع ابن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة، ولم ير بدا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى، وهي أن رجلا أتى إلى علي ابن أبي طالب يستفتيه في جملة ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبوا عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل، وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها ؛ لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما.
وعبارة الآيات الثلاث، وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن.
ولفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حث على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس ؛ حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلا إذا استنفدت كل وسيلة ؛ حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية بأسلوبها البليغ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها. منها حديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) ٤ وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك٥ وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها٦.
وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات، وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق، وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير المستطاع مهما حرص المرء عليه.
ولقد روى الطبري أن عمر ابن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة، فإن كانت حسناء فتية قال له : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له : تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي ابن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له : ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي ؟ فقال له : إن كنت خيرا لها فتزوجها، وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير ؛ حيث يصح أن يستأنس بذلك. فيقال : إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتداخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير، وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء..
٢ انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات..
٣ الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في تاج ج ٤ ص ٨٨ والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر..
٤ التاج ج ٢ ص ٢٩٤- ٢٩٥..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٧:﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ به عَلِيمًا ( ١٢٧ ) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ( ١ ) وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١٢٨ ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٢٩ )وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ( ١٣٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( ويستفتونك في النساء... ) الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين

في الآية الأولى :

( ١ ) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء.
( ٢ ) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن، وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن، ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن ثم في الأولاد المستضعفين.
( ٣ ) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط، فلا يظلموهم على أي حال.
( ٤ ) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم.
في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على ما يلي :
( ١ ) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها، فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشح وعدم التسامح مع التنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير.
( ٢ ) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست كطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله، فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل.
( ٣ ) وإذا لم يكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان، فخير للزوجين أن يتفرقا عن بعضهما، والله الواسع الحكيم ييسر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر.
والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي.
روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شق على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر ابن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها، فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها، فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة، وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها، فأنزل الله الآية. ومنها أن الآية توضيح للآية الثالثة من السورة ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) النساء ( ٣ ) حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال، وكانوا لا يؤتوهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية١.
ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر. منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حل. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت : لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع ابن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة، فأراد أن يتزوج ثانية جميلة، ويؤثرها على القديمة فقال لها : وإن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك٢ وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات التالية الأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي٣ فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات، ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات ( ٢ و ٣ و ٦ و ١١ ١٤ و ١٩ ٢١ ) فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة.
ولقد قال بعضهم : إن جملة ( ما كتب لهن ) تشمل الصداق والإرث معا ؛ حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق، ولا يؤتوهن إرثهن وهذا وجيه سديد.
ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح ولقد احتوت آيات السورة ( ٣٤ و ٣٥ ) معالجة حالة نشوز الزوجة، فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. ( وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة ( ٢٢٤ ٢٣٢ ) و النساء ( ١٩ ٢١ و ٣٥ ).
ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثلاثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا، ثم حذرتاه من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد، والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين.
وفي الروايات وبخاصة رواية رافع ابن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة، ولم ير بدا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى، وهي أن رجلا أتى إلى علي ابن أبي طالب يستفتيه في جملة ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبوا عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل، وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها ؛ لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما.
وعبارة الآيات الثلاث، وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن.
ولفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حث على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس ؛ حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلا إذا استنفدت كل وسيلة ؛ حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية بأسلوبها البليغ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها. منها حديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) ٤ وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك٥ وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها٦.
وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات، وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق، وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير المستطاع مهما حرص المرء عليه.
ولقد روى الطبري أن عمر ابن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة، فإن كانت حسناء فتية قال له : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له : تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي ابن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له : ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي ؟ فقال له : إن كنت خيرا لها فتزوجها، وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير ؛ حيث يصح أن يستأنس بذلك. فيقال : إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتداخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير، وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء..
٢ انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات..
٣ الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في تاج ج ٤ ص ٨٨ والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر..
٤ التاج ج ٢ ص ٢٩٤- ٢٩٥..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٧:﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ به عَلِيمًا ( ١٢٧ ) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ( ١ ) وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١٢٨ ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٢٩ )وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ( ١٣٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
( ويستفتونك في النساء... ) الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين

في الآية الأولى :

( ١ ) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء.
( ٢ ) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن، وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن، ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن ثم في الأولاد المستضعفين.
( ٣ ) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط، فلا يظلموهم على أي حال.
( ٤ ) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم.
في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على ما يلي :
( ١ ) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها، فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشح وعدم التسامح مع التنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير.
( ٢ ) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست كطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله، فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل.
( ٣ ) وإذا لم يكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان، فخير للزوجين أن يتفرقا عن بعضهما، والله الواسع الحكيم ييسر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر.
والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي.
روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شق على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر ابن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها، فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها، فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة، وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها، فأنزل الله الآية. ومنها أن الآية توضيح للآية الثالثة من السورة ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) النساء ( ٣ ) حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال، وكانوا لا يؤتوهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية١.
ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر. منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حل. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت : لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع ابن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة، فأراد أن يتزوج ثانية جميلة، ويؤثرها على القديمة فقال لها : وإن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك٢ وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات التالية الأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي٣ فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات، ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات ( ٢ و ٣ و ٦ و ١١ ١٤ و ١٩ ٢١ ) فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة.
ولقد قال بعضهم : إن جملة ( ما كتب لهن ) تشمل الصداق والإرث معا ؛ حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق، ولا يؤتوهن إرثهن وهذا وجيه سديد.
ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح ولقد احتوت آيات السورة ( ٣٤ و ٣٥ ) معالجة حالة نشوز الزوجة، فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. ( وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة ( ٢٢٤ ٢٣٢ ) و النساء ( ١٩ ٢١ و ٣٥ ).
ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثلاثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا، ثم حذرتاه من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد، والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين.
وفي الروايات وبخاصة رواية رافع ابن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة، ولم ير بدا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى، وهي أن رجلا أتى إلى علي ابن أبي طالب يستفتيه في جملة ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبوا عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل، وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها ؛ لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما.
وعبارة الآيات الثلاث، وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن.
ولفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حث على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس ؛ حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلا إذا استنفدت كل وسيلة ؛ حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية بأسلوبها البليغ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها. منها حديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) ٤ وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك٥ وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها٦.
وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات، وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق، وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير المستطاع مهما حرص المرء عليه.
ولقد روى الطبري أن عمر ابن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة، فإن كانت حسناء فتية قال له : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له : تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي ابن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له : ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي ؟ فقال له : إن كنت خيرا لها فتزوجها، وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير ؛ حيث يصح أن يستأنس بذلك. فيقال : إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتداخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير، وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء..
٢ انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات..
٣ الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في تاج ج ٤ ص ٨٨ والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر..
٤ التاج ج ٢ ص ٢٩٤- ٢٩٥..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه..

﴿ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ( ١٣١ )وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٣٢ ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ( ١٣٣ ) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( ١٣٤ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة، وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها، ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها ؛ لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم : إن الله وصاهم بتقوى الله كما وصى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم ؛ لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا آمنوا وأخلصوا، وله ما في السماوات وما في الأرض، وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها، فإنهم إذا اتقوا وأخلصوا له يسر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة، فهو مالك الدنيا والآخرة وعنده ثوابهما، وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.
والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها، وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف، وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ.
ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( يقول الله : يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي : لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي أنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر، وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:﴿ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ( ١٣١ )وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٣٢ ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ( ١٣٣ ) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( ١٣٤ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة، وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها، ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها ؛ لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم : إن الله وصاهم بتقوى الله كما وصى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم ؛ لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا آمنوا وأخلصوا، وله ما في السماوات وما في الأرض، وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها، فإنهم إذا اتقوا وأخلصوا له يسر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة، فهو مالك الدنيا والآخرة وعنده ثوابهما، وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.
والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها، وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف، وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ.
ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( يقول الله : يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي : لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي أنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر، وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:﴿ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ( ١٣١ )وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٣٢ ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ( ١٣٣ ) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( ١٣٤ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة، وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها، ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها ؛ لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم : إن الله وصاهم بتقوى الله كما وصى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم ؛ لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا آمنوا وأخلصوا، وله ما في السماوات وما في الأرض، وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها، فإنهم إذا اتقوا وأخلصوا له يسر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة، فهو مالك الدنيا والآخرة وعنده ثوابهما، وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.
والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها، وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف، وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ.
ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( يقول الله : يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي : لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي أنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر، وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:﴿ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ( ١٣١ )وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٣٢ ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ( ١٣٣ ) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( ١٣٤ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة، وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها، ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها ؛ لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم : إن الله وصاهم بتقوى الله كما وصى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم ؛ لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا آمنوا وأخلصوا، وله ما في السماوات وما في الأرض، وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها، فإنهم إذا اتقوا وأخلصوا له يسر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة، فهو مالك الدنيا والآخرة وعنده ثوابهما، وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.
والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها، وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف، وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ.
ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( يقول الله : يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي : لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي أنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر، وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ( ١ )أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١٣٥ ) ﴾.
وإن تلووا : قال المؤولون : إنها بمعنى محاباة الحكام لأحد الخصمين كما قالوا : إنها بمعنى لي اللسان بتحريف الشهادة والدعاوى، وقد يكون هذا هو الأوجه وهو ما عليه الجمهور.
في الآية أمر موجه إلى المؤمنين :
( ١ ) بأن يكونوا شديدي الاهتمام للعدل والحق والتزامهم في كل حال وفيما يطلب من شهادة وقول في صددهما.
( ٢ ) وبأن لا يراقبوا في ذلك إلا الله تعالى وحده، ولو كانت الشهادة وقول الحق على نفس الواحد منهم أو على أبويه أو ذوي قرباه. وبقطع النظر عن أي اعتبار، وعن كون الذي يشهد بالحق عليه ويقال : كلمة العدل في حقه غنيا يخشى منه أو فقيرا يشفق عليه، فالله أولى بهما منه.
( ٣ ) وبأن عليهم في أي حال التزام هذا النهج وعدم اتباع الهوى والعاطفة وجعلهما مؤثرين فيما يجب عليهم من الحق والعدل. فالله سبحانه يعلم حقائق الأمور والنوايا عليهم أن يتقوه )ويحذروه ولا يغيروا أو يبدلوا أو يكتموا الشهادة أو يحرفوها أو يعرضوا عن القول الحق والعمل العدل وتوطيدها في أي حال.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط... ) الخ
ولقد روى الطبري عن السدي أن الآية نزلت تأديبا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث تخاصم عنده غني وفقير فكان ميله نحو الفقير باجتهاد أن الفقير لا يمكن أن يكون ظالما للغني، وروى الطبري إلى هذا أنها في صدد قضية لبني أبيرق، وما كان من اتجاه النبي إلى تبرئتهم بسبب تزويقهم الكلام مما أوردنا تفصيله قبل. والروايات لم ترد في الصحاح.
ويلحظ في صدد القول بصلة الآية بحادث بني أبيرق أن سياق هذا الحادث قد انتهى، وجاءت بعده فصول لا علاقة لها به. ويلحظ في صدد رواية السدي أنه لو كانت الآية في موقف النبي من الخصومة بين الغني والفقير لكان الخطاب فيها موجها له، كما كان الأمر في حادث بني أبيرق على ما جاء في الآية ( ١٠٥ ) وما بعدها.
والذي يتبادر لنا أن الآية جاءت هي الأخرى معقبة كسابقاتها على فصل الاستفتاء في النساء ويتاماهن ؛ حيث احتوت بدورها توكيدا بوجوب تقوى الله ومراقبته في حقوق الناس، وعدم التلاعب فيها بأي سبب واعتبار.
وفي التلقينات التي احتوت الآية من الجلالة والروعة ما يجعلها من أمهات الآيات القرآنية المحكمة في بابها. وغرة وهاجة السناء في جبهة الشريعة الإسلامية ؛ حيث تأمر بأسلوب قوي نافذ وحاسم وموجه إلى العقل والقلب معا بما يجب على المسلمين في كل ظرف ومكان وسواء في ذلك أفرادهم وجماعاتهم وحكامهم من قول الحق والشهادة بالحق وتسويد الحق على كل اعتبار وعاطفة ومصلحة خاصة، ولو على أنفسهم أو والديهم أو أقربائهم ودون خوف من أحد أو شفقة على أحد. والتضامن في ذلك أشد تضامن وأقواه. على اعتبار أن قوة البنيان الاجتماعي والطمأنينة الاجتماعية ومصلحة الأفراد والجماعات منوطة به وقائمة عليه. وعلى اعتبار أن استشعار كل فرد بواجب الإنصاف في كل موقف وحال هو أقوى عماد لصلاح المجتمع وقوته وسعادته.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

( ١ ) ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين : قال الزمخشري في تأويلها : ألم نتمكن من أمركم أو قتلكم فأبقينا عليكم، ولم نساعد المسلمين عليكم وثبطناهم عنكم، والاستحواذ بمعنى الإحاطة والحيازة. وروى الطبري عن أهل التأويل أنها بمعنى ﴿ ألم نكن نثبط عنكم المسلمين أو ألم نكن أعلناكم أنا معكم عليهم ﴾ ومما يرد في البال أن يكون معنى الجملة ﴿ ألم نحل دونكم ودون المسلمين الذين كانوا قادرين عليكم ونمنعكم بذلك منهم ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

يخادعون الله وهو خادعهم : تعبير وهو خادعهم أسلوبي للمشاكلة وللمقابلة على الجملة السابقة. من قبيل ومكروا ومكر الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

مذبذبين : حائرين أو متموجين أو مترددين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٣٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ( ١٣٧ ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٣٨ ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ( ١٣٩ ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بها وَيُسْتَهْزَأُ بها فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( ١٤٠ ) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ( ١ ) فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ١٤١ ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ( ٢ ) اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٤٢ ) مُّذَبْذَبِينَ( ٣ ) بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ١٤٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٤٤ )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( ١٤٥ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٤٦ ) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( ١٤٧ ) ﴾.
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله... )الخ
وما بعدها إلى آخر الآية ( ١٤٧ ) وما فيها من مواقف المنافقين
عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين، وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عنه تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي ؛ لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر، وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.
وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله ابن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود : إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط، فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى، ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية ( ١٤٠ ) نزلت في المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود الذين كانوا يستهزئون بالقرآن، وفيها توكيد بوجوب عدم مجالستهم. ومن المفسرين من روى أن المقصود من كلمة ( الكافرين ) في الآيات ( ١٣٩و ١٤١ و ١٤٤ ) المشركون ومنهم من روى أن المقصود اليهود. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح.
والمتبادر لنا من مضمون الآيات وروحها، أنها وحدة تامة لم تنزل منفصلة كما يقتضي ذلك الروايات. وهذا ما جعلنا نعرضها في سياق واحد، وأنها في حق المنافقين في الدرجة الأولى. وأن سبب نزولها هو مواقف المنافقين وتآمرهم مع اليهود وتذبذبهم أولا، وما كان يبدو من فريق من المسلمين المخلصين من ميل أو تضامن أو موالاة للمنافقين أو اليهود ثانيا. وأن الآيتين الأولى والثانية جاءتا تمهيدا لما احتوته بقية الآيات من صور وتنديد وتحذير. وأن تأويل كلمة ( الكافرين ) في الآيات باليهود هو الأوجه، وأن المخاطبين في الآية ( ١٤٠ ) هم فريق من المؤمنين المخلصين. وأن هذه الآية والآية ( ١٤٤ ) قد جاءتا استطرادا لتنبيه وتحذير هذا الفريق من مجالسة المنافقين أو اليهود، ثم من تولي اليهود من دون المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ولقد كان بنو قريظة آخر من نكل بهم في المدينة من اليهود وكان بنو قينقاع وبنو النضير منهم قد أجلوا عنها. وكل هذا قد تم قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة. وعلى هذا فعلى أقل تقدير تكون هذه الآيات قد نزلت قبل التنكيل ببني قريظة الذي كان بعد وقعة الخندق إن لم يكن قبل جلاء بني النضير الذي كان بعد وقعة أحد. على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأحزاب والحشر.
والصورة التي احتوتها الآية ( ١٤١ ) تدل على ما كان عليه المنافقون من خبث ومخامرة ؛ حيث كان شأنهم التربص والذبذبة بين المخلصين والكفار الذين رجحنا أنهم اليهود، وحيث كانوا للأولين يقولون : إذا كان النصر في جانبهم إنهم معهم، وإذا كان في جانب الآخرين إنهم لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه لو لم يحولوا بين المسلمين وبينهم.
والآية ( ١٣٩ ) تدل على المنافقين ظلوا متمسكين بقوة بما كان بينهم وبين اليهود من ولاء وحلف، فنددت بهم بالسؤال الاستنكاري فيما عما إذا كانوا يبتغون من ذلك العزة، مع أن العزة إنما هي لله ييسرها للمؤمنين به المخلصين له.
ويظهر أن فريقا من المخلصين، وهم على الأرجح من الأنصار ظلوا كذلك متمسكين بما كان بينهم وبين اليهود من حلف وولاء، تبعا لأقاربهم من المنافقين أو تمسكا بالعصبية، فاقتضت الحكمة التنديد بهم وتحذيرهم في الآية ( ١٤٤ ).
ويظهر أن فريقا من المخلصين كانوا يجالسون أقاربهم من زعماء المنافقين أو حلفائهم من اليهود وكان هؤلاء يستهزئون بالقرآن فيغضون عن ذلك فنبهتهم الآية ( ١٤٠ ) إلى ما في ذلك من خطأ ومخالفة لكتاب الله. وقد جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ٦٨ ﴾.
وفي كل ذلك صور من السيرة النبوية في عهدها المدني. وقد كانت في ظرف مبكر نوعا ما حيث كان كل من المنافقين واليهود أقوياء بعض الشيء على ما تدل عليه مضامين الآيات وروحها.
والآية ( ١٤٢ ) تفيد أن المنافقين كانوا يصلون. غير أنها تقرر أنهم كانوا حينما يقومون إليها يقومون كسالى ومراءاة للناس. والراجح أن هذا مما كان يشعر به المخلصون ويعرفون منه نفاقهم.
وبناء على هذه المواقف وأمثالها احتوت الآيات إنذارا رهيبا لهم. فلهم العذاب الأليم والله جامعهم مع الكافرين، ولن يحصلوا على غفران الله وتوفيقه. وسيكونون في الدرك الأسفل من النار باستثناء الذين يتوبون منهم ويصلحون ويعتصمون بالله ويخلصون دينهم لله فهم مع المؤمنين الذين سوف يؤتيهم الأجر العظيم.
وقد تضمنت الآية الأخيرة من الآيات معنى التعقيب والترغيب فليس لله تعالى غاية أو فائدة من تعذيب الناس. وإذا عذبهم فإنما يعذبهم على آثامهم وبغيهم. وإنه ليرضيه منهم أن يؤمنوا به ويشكروه بفعل الخير وأداء الواجب والتزام الحدود التي رسمها، وهذا هو ما يتوخاه في دعوتهم وإنذارهم حتى يستحقوا أجره بدلا من عذابه وشكره بدلا من غضبه وهو العليم بكل ما يعملون.
وهكذا تكون الآيات قد سجلت واقع أمر المنافقين حين نزولها. وفتحت لهم الباب لينالوا غفر الله ورحمته، وقررت أن العذاب والخزي إنما هو للمصرين على المواقف الخبيثة المؤذية.
وقد احتوت الآية ( ١٤١ ) تطمينا قويا للمسلمين حيث قررت أن الله لن يجعل للكافرين عليهم أي سبيل.
ولقد يرد في صدد النهي عن موالاة الكفار الذين رجحنا أنهم كفار اليهود أنه كان بين الأوس والخزرج وبين اليهود عهود ومواثيق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليها وجددها في كتاب الموادعة الذي كتبه حين استقر في المدينة بعد الهجرة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة. وأن تمسك فريق من الأوس والخزرج بها أو اعتبار أنفسهم مقيدين بها مما توجبه عليهم واجبات الوفاء بالعهد. وجوابا على هذا نقول أولا : إن الذين ندد بهم في الآيات بسبب موالاتهم اليهود هم فريق المنافقين فقط الذين وقفوا منذ بدء الهجرة من النبي ودعوته موقف الكيد والمناوأة والتآمر في حين أن تلك العهود والمواثيق كانت بين اليهود وسائر البطون الأوس والخزرج.
ومعنى هذا أن معظم المخلصين استجابوا لتحذيرات القرآن والنبي السابقة. وأن بعضهم تأخر فتكرر النهي لهم في الآية ( ١٤٤ ) وأن الذين لم يعبأوا بالتنديد والنهي بوقاحة وإصرار هم المنافقون فقط. وهذا يدل بصراحة وقوة على أن الباعث لهم على ذلك ليس الإخلاص للعهود والميثاق، وإنما ما جمع بينهم وبين اليهود من بغض للنبي والإسلام والكيد لهما. ولا يصح أن يعد من قبيل الحرص على الوفاء بالعهد ولو أن المنافقين كانوا يعتذرون بذلك. وثانيا : إن المواقف التي حكاها القرآن عن اليهود من شأنها أن تكون نقضا من جانبهم لتلك العهود والمواثيق. ولقد اعتبرها القرآن كذلك كما تلهمه آيات سورة البقرة ( ١٠٠ ) وسورة الأنفال ( ٥٥ و ٥٦ ) التي مر تفسيرها. وهذه الآيات مما نزل مبكرا ؛ حيث يفيد ذلك أن مواقفهم اعتبرت نفضا منذ وقت مبكر. وقد استمروا عليها وازدادوا فيها حتى صار عداء استوجب قتالهم على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأنفال والأحزاب والحشر. فدعوة القرآن إلى عدم الاستمرار على موالاتهم واتخاذهم بطانة وتحذيره منهم أمر طبيعي لا يتمحل فيه إلا مكابر مغرض.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات وعظات بليغة إيمانية وأخلاقية واجتماعية مستمرة المدى :
فالمؤمن الحق هو الذي يؤمن بكل ما جاء من عند الله على لسان محمد والأنبياء الذين من قبله صلوات الله عليهم.
والكفر بشيء من ذلك هو : انحراف وإخلال بهذا الإيمان الحق.
ولا يليق بمؤمن أن يبتغي عزا ونصرا من عند غير الله ومن غير إيمانه وإخلاصه وبخاصة من الكافرين بالله. ولا أن يواليهم أو يتناصر معهم من دون المؤمنين.
ومجالسة من يخوض في آيات الله خوض كفر واستهزاء هي من صور النفاق الخبيثة التي تستحق غضب الله ولا تليق بالمؤمن المخلص.
ومن هذه الصور كذلك عدم التضامن الصادق مع المسلمين في واقف نضالهم والتزلف لأعدائهم بأي شكل وسبب.
والمؤمن

﴿ لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ( ١٤٨ ) إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا( ١٤٩ ) ﴾
تعليق على ما في الآية
﴿ لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ... ﴾الخ
من تلقين وعظة
عبارة الآيتين واضحة وهما فصل جديد. ويلمح شيء من التناسب الموضوعي بينهما وبين الآية السابقة لهما مباشرة، فإذا لم تكونا نزلتا بعدها فيكون وضعهما في مكانهما بسبب ذلك على ما يتبادر.
روى الخازن رواية في نزول الآية الأولى، ورد صيغة مقاربة لها في سنن أبي داود عن أبي هريرة بهذا النص ( إن رجلا كان يسب أبا بكر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه، فقام رسول الله، فقال أبو بكر : أوجدت علي يا رسول الله ؟ قال : نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذا وقع الشيطان ) )١.
ويلحظ أن في الآية تبريرا لانتصار أبي بكر لنفسه في حين أن الحديث يذكر عدم رضاء النبي عن ذلك، وأن الآية الثانية هي متممة للأولى ومنسجمة معها، وهذا يسوغ الترجيح نزولهما معا. فإذا فرضنا أن حادث أبي بكر كان سبب نزولهما، وليس نزول الآية الأولى فقط فإن الملاحظة الأولى تبقى واردة. إلا أن يقال : إن حكمة التنزيل اقتضت تبرير موقف أبي بكر، ثم اقتضت ردف ذلك التبرير بالحث على العفو. ومهما يكن من أمر فيصح القول : إن الآيتين نزلتا في حادث سوء جهر به شخص ما. ولا ينفي هذا أن يكون هو الحادث الذي ذكر في الحديث. والله أعلم.
وقد جاءت الآيات بأسلوب مطلق عام لتكون عامة مستمرة المدى في ما احتوته من تعليم وتأديب وعظة وتلقين بما مفاده :
إن الجهر بالسوء مهما كان. وسواء أكان بذاءة أو شتيمة أو تعريضا أم تحريضا أم تقريعا أم سخرية أم استهتارا أو إشاعة فاحشة وشيوع ذلك بين المسلمين شيء قبيح لا يحبه الله تعالى.
ويستثنى من ذلك المظلوم الذي يقول ما يقول ردا على المعتدي بدءا.
ومع ذلك فعفو المسلمين عن بعضهم خير مستحب، وفيه اقتداء بالله عز وجل الذي يعفو عن الناس ويسع حلمه ما يبدو منهم من مواقف فيها سوء أدب وجحود مع قدرته على البطش والانتقام. وليعلموا أن الله يعلم كل ما يصدر منهم من خير سواء أأبدوه أو أخفوه. وعليهم أن يفعلوا الخير على كل حال والعفو خير.
وبعض هذه التلقينات ورد في آيات سورة الشورى ( ٣٩- ٤٣ } ؛ على ما شرحناه في مناسبتها ؛ حيث يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذا الأمر، كما هو في الأمور الأخرى. وقد يكون استثناء المظلوم وتبرير رده على ظالمه قد استهدف به عدم استشراء البذاءة والعدوان في المجتمع الإسلامي. وروح الآيات تلهم أن هذا لا ينبغي أن يكون إلا في نطاق هذا الهدف من جهة، وأن العفو هو الأفضل إذا كان لا يؤدي إلا ذلك الاستشراء من جهة أخرى. وفي هذا تتمة للتلقين الذي انطوى في الآيتين.
ومما قاله المفسرون لأنفسهم أو لعلماء آخرين : إن من الواجب أن يكون رد المظلوم على الظالم بما ليس فيه عدوان وفحش وافتراء، وهذا وجيه سديد.
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن تعبير ﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء ﴾ هو أسلوبي يستهدف التأديب بالنص على قبح الجهر بالسوء، وإنه لا يمكن أن يكون بمعنى أن الله عز وجل يرضى عن السوء إذا كان في مجلس خاص أو إذا كان صدر خفية من دون جهر علني. فالله سبحانه قد حرم الإثم والفواحش مطلقا ما ظهر منها وما بطن على السواء وآذان أنه لا يرضى ما بيت من سوء قولا وفعلا في آيات عديدة مكية ومدنية، ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات الأنعام ( ١٣٠و١٥١ ) والأعراف ( ٣٣ ) والآيات ( ١٠٨و١٢٣ ) من هذه السورة ومنها ما جاء في سور يأتي تفسيرها بعد.
وهنا أحاديث نبوية ساق بعضها بعض المفسرين في سياق الآيتين متساوقة في التلقين معهما. من ذلك حديثان رواهما أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما ( قال النبي : أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم ؟ قالوا : ومن أبو ضمضم ؟ قال : رجل فيمن كان قبلكم كان إذا أصبح قال : اللهم إني جعلت عرضي لمن شتمني )٢ وجاء في ثانيهما ( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق. ومن الكبائر السبتان بالسبة ) ٣ وحديث رواه البخاري جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته. وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) ٤ وحديث رواه الترمذي جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ) ٥ وحديث رواه الترمذي أيضا جاء فيه( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ندا وولدا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ) ٦ وحديث رواه مسلم جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) ٧ وحديث رواه الأربعة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) ٨.
١ التاج ج٥ ص ٤٧ ومعنى فانتصر منه أي رد على مؤذيه بالمثل مدافعا عن نفسه.
٢ انظر التاج ج ٥ ص ٢٤ و ٢٦.
٣ انظر التاج ج ٥ ص ٢٦ و ٢٤.
٤ التاج ج ٥ ص ١٩ و ٣٤ و ٤٥ و ٤٦ و ١٦٧ وهناك أحاديث عديدة من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٨:﴿ لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ( ١٤٨ ) إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا( ١٤٩ ) ﴾
تعليق على ما في الآية
﴿ لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ... ﴾الخ
من تلقين وعظة
عبارة الآيتين واضحة وهما فصل جديد. ويلمح شيء من التناسب الموضوعي بينهما وبين الآية السابقة لهما مباشرة، فإذا لم تكونا نزلتا بعدها فيكون وضعهما في مكانهما بسبب ذلك على ما يتبادر.
روى الخازن رواية في نزول الآية الأولى، ورد صيغة مقاربة لها في سنن أبي داود عن أبي هريرة بهذا النص ( إن رجلا كان يسب أبا بكر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه، فقام رسول الله، فقال أبو بكر : أوجدت علي يا رسول الله ؟ قال : نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذا وقع الشيطان ) )١.
ويلحظ أن في الآية تبريرا لانتصار أبي بكر لنفسه في حين أن الحديث يذكر عدم رضاء النبي عن ذلك، وأن الآية الثانية هي متممة للأولى ومنسجمة معها، وهذا يسوغ الترجيح نزولهما معا. فإذا فرضنا أن حادث أبي بكر كان سبب نزولهما، وليس نزول الآية الأولى فقط فإن الملاحظة الأولى تبقى واردة. إلا أن يقال : إن حكمة التنزيل اقتضت تبرير موقف أبي بكر، ثم اقتضت ردف ذلك التبرير بالحث على العفو. ومهما يكن من أمر فيصح القول : إن الآيتين نزلتا في حادث سوء جهر به شخص ما. ولا ينفي هذا أن يكون هو الحادث الذي ذكر في الحديث. والله أعلم.
وقد جاءت الآيات بأسلوب مطلق عام لتكون عامة مستمرة المدى في ما احتوته من تعليم وتأديب وعظة وتلقين بما مفاده :
إن الجهر بالسوء مهما كان. وسواء أكان بذاءة أو شتيمة أو تعريضا أم تحريضا أم تقريعا أم سخرية أم استهتارا أو إشاعة فاحشة وشيوع ذلك بين المسلمين شيء قبيح لا يحبه الله تعالى.
ويستثنى من ذلك المظلوم الذي يقول ما يقول ردا على المعتدي بدءا.
ومع ذلك فعفو المسلمين عن بعضهم خير مستحب، وفيه اقتداء بالله عز وجل الذي يعفو عن الناس ويسع حلمه ما يبدو منهم من مواقف فيها سوء أدب وجحود مع قدرته على البطش والانتقام. وليعلموا أن الله يعلم كل ما يصدر منهم من خير سواء أأبدوه أو أخفوه. وعليهم أن يفعلوا الخير على كل حال والعفو خير.
وبعض هذه التلقينات ورد في آيات سورة الشورى ( ٣٩- ٤٣ } ؛ على ما شرحناه في مناسبتها ؛ حيث يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذا الأمر، كما هو في الأمور الأخرى. وقد يكون استثناء المظلوم وتبرير رده على ظالمه قد استهدف به عدم استشراء البذاءة والعدوان في المجتمع الإسلامي. وروح الآيات تلهم أن هذا لا ينبغي أن يكون إلا في نطاق هذا الهدف من جهة، وأن العفو هو الأفضل إذا كان لا يؤدي إلا ذلك الاستشراء من جهة أخرى. وفي هذا تتمة للتلقين الذي انطوى في الآيتين.
ومما قاله المفسرون لأنفسهم أو لعلماء آخرين : إن من الواجب أن يكون رد المظلوم على الظالم بما ليس فيه عدوان وفحش وافتراء، وهذا وجيه سديد.
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن تعبير ﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء ﴾ هو أسلوبي يستهدف التأديب بالنص على قبح الجهر بالسوء، وإنه لا يمكن أن يكون بمعنى أن الله عز وجل يرضى عن السوء إذا كان في مجلس خاص أو إذا كان صدر خفية من دون جهر علني. فالله سبحانه قد حرم الإثم والفواحش مطلقا ما ظهر منها وما بطن على السواء وآذان أنه لا يرضى ما بيت من سوء قولا وفعلا في آيات عديدة مكية ومدنية، ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات الأنعام ( ١٣٠و١٥١ ) والأعراف ( ٣٣ ) والآيات ( ١٠٨و١٢٣ ) من هذه السورة ومنها ما جاء في سور يأتي تفسيرها بعد.
وهنا أحاديث نبوية ساق بعضها بعض المفسرين في سياق الآيتين متساوقة في التلقين معهما. من ذلك حديثان رواهما أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما ( قال النبي : أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم ؟ قالوا : ومن أبو ضمضم ؟ قال : رجل فيمن كان قبلكم كان إذا أصبح قال : اللهم إني جعلت عرضي لمن شتمني )٢ وجاء في ثانيهما ( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق. ومن الكبائر السبتان بالسبة ) ٣ وحديث رواه البخاري جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته. وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) ٤ وحديث رواه الترمذي جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ) ٥ وحديث رواه الترمذي أيضا جاء فيه( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ندا وولدا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ) ٦ وحديث رواه مسلم جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) ٧ وحديث رواه الأربعة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) ٨.
١ التاج ج٥ ص ٤٧ ومعنى فانتصر منه أي رد على مؤذيه بالمثل مدافعا عن نفسه.
٢ انظر التاج ج ٥ ص ٢٤ و ٢٦.
٣ انظر التاج ج ٥ ص ٢٦ و ٢٤.
٤ التاج ج ٥ ص ١٩ و ٣٤ و ٤٥ و ٤٦ و ١٦٧ وهناك أحاديث عديدة من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ( ١٥٠ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ١٥١ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا( ١٥٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بكون الكافرين حقا المستحقين لعذاب الله هم الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا في الإيمان بهم فيقولون نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، وبكون الذين يؤمنون بالله ورسله جميعا بدون تفريق هم المؤمنون حقا للذين يستحقون أجرهم عند الله الغفور الرحيم.
والآيات فصل جديد. وقد يلمح شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الفصل السابق لها وبخاصة الآية الأولى منه أي ( ١٣٦ ) وقد يكون هذا سبب وضعها في مكانها إن لم تكن نزلت بعد الآيات السابقة.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات، وكل ما هناك أن الخازن قال :( قيل إنها نزلت في اليهود ؛ لأنهم يؤمنون بموسى وأنبيائهم وكتبهم ولا يؤمنون بعيسى وإنجيله ومحمد وقرآنه، وقيل : إنها نزلت في النصارى الذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن ) وإن الطبري وابن كثير قالا : إنها في اليهود والنصارى معا ؛ لأن كلا منهم يؤمن ببعض الأنبياء والكتب ويكفر ببعض.
والآيات من حيث المدى تتحمل هذه الأقوال جميعها. غير أن الآيات التالية احتوت حملة على اليهود خاصة لجحودهم رسالة النبي وتحديهم إياه وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء ؛ حيث يبدو من ذلك أن بين هذه الآيات وبينها صلة موضوعية، وأنها جاءت كمقدمة وتمهيد لها.
والآيات مع خصوصية الموقف الذي نزلت بمناسبته تتضمن تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان عامة ومبدأ من مبادئ الدين الإسلامي خاصة : فالإيمان بموسى وغيره من الأنبياء دون الإيمان برسالة عيسى بالنسبة لمن عاش في عهد عيسى وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من رسل الله دون الإيمان بمحمد لمن عاش في عهد محمد وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بمحمد لا يجزي إلا مع الإيمان بمن قبله من رسل الله. والدين الحق هو الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم وسلامه، دون تفريق بين أحد منهم. ومن يكونون على ذلك فهم المؤمنون حقا. وهم المسلمون الذين يؤمنون بجميع أنبياء الله صلوات الله عليهم ورسله وكتبه. وما عداهم فهم عند الله كافرون، وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة خاص بحالة اليهود والنصارى، وإيجاب إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير النار مصيرا لغير المؤمنين به يمكن أن يساق في هذا المقام ونصه ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )١ والحديث غير محصور باليهود والنصارى، وإنما المناسبة هي التي جعلت النبي يذكرها بخاصة في الحديث على ما هو المتبادر، فالنبي رسول الله إلى الناس جميعا، فكل من سمع به ولم يؤمن به كافر من أصحاب النار، وقد جاء في هذا في آيات أخرى منها آية سورة البينة هذه ﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية٦ ﴾.
١ التاج ج ٥ ص ٣٠ والمتبادر أن معنى (هذه الأمة) في الحديث الناس الذين وجدوا في عهده وبعده إلى آخر الزمن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٠:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ( ١٥٠ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ١٥١ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا( ١٥٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بكون الكافرين حقا المستحقين لعذاب الله هم الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا في الإيمان بهم فيقولون نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، وبكون الذين يؤمنون بالله ورسله جميعا بدون تفريق هم المؤمنون حقا للذين يستحقون أجرهم عند الله الغفور الرحيم.
والآيات فصل جديد. وقد يلمح شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الفصل السابق لها وبخاصة الآية الأولى منه أي ( ١٣٦ ) وقد يكون هذا سبب وضعها في مكانها إن لم تكن نزلت بعد الآيات السابقة.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات، وكل ما هناك أن الخازن قال :( قيل إنها نزلت في اليهود ؛ لأنهم يؤمنون بموسى وأنبيائهم وكتبهم ولا يؤمنون بعيسى وإنجيله ومحمد وقرآنه، وقيل : إنها نزلت في النصارى الذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن ) وإن الطبري وابن كثير قالا : إنها في اليهود والنصارى معا ؛ لأن كلا منهم يؤمن ببعض الأنبياء والكتب ويكفر ببعض.
والآيات من حيث المدى تتحمل هذه الأقوال جميعها. غير أن الآيات التالية احتوت حملة على اليهود خاصة لجحودهم رسالة النبي وتحديهم إياه وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء ؛ حيث يبدو من ذلك أن بين هذه الآيات وبينها صلة موضوعية، وأنها جاءت كمقدمة وتمهيد لها.
والآيات مع خصوصية الموقف الذي نزلت بمناسبته تتضمن تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان عامة ومبدأ من مبادئ الدين الإسلامي خاصة : فالإيمان بموسى وغيره من الأنبياء دون الإيمان برسالة عيسى بالنسبة لمن عاش في عهد عيسى وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من رسل الله دون الإيمان بمحمد لمن عاش في عهد محمد وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بمحمد لا يجزي إلا مع الإيمان بمن قبله من رسل الله. والدين الحق هو الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم وسلامه، دون تفريق بين أحد منهم. ومن يكونون على ذلك فهم المؤمنون حقا. وهم المسلمون الذين يؤمنون بجميع أنبياء الله صلوات الله عليهم ورسله وكتبه. وما عداهم فهم عند الله كافرون، وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة خاص بحالة اليهود والنصارى، وإيجاب إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير النار مصيرا لغير المؤمنين به يمكن أن يساق في هذا المقام ونصه ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )١ والحديث غير محصور باليهود والنصارى، وإنما المناسبة هي التي جعلت النبي يذكرها بخاصة في الحديث على ما هو المتبادر، فالنبي رسول الله إلى الناس جميعا، فكل من سمع به ولم يؤمن به كافر من أصحاب النار، وقد جاء في هذا في آيات أخرى منها آية سورة البينة هذه ﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية٦ ﴾.
١ التاج ج ٥ ص ٣٠ والمتبادر أن معنى (هذه الأمة) في الحديث الناس الذين وجدوا في عهده وبعده إلى آخر الزمن.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٠:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ( ١٥٠ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ( ١٥١ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا( ١٥٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بكون الكافرين حقا المستحقين لعذاب الله هم الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا في الإيمان بهم فيقولون نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، وبكون الذين يؤمنون بالله ورسله جميعا بدون تفريق هم المؤمنون حقا للذين يستحقون أجرهم عند الله الغفور الرحيم.
والآيات فصل جديد. وقد يلمح شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الفصل السابق لها وبخاصة الآية الأولى منه أي ( ١٣٦ ) وقد يكون هذا سبب وضعها في مكانها إن لم تكن نزلت بعد الآيات السابقة.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات، وكل ما هناك أن الخازن قال :( قيل إنها نزلت في اليهود ؛ لأنهم يؤمنون بموسى وأنبيائهم وكتبهم ولا يؤمنون بعيسى وإنجيله ومحمد وقرآنه، وقيل : إنها نزلت في النصارى الذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن ) وإن الطبري وابن كثير قالا : إنها في اليهود والنصارى معا ؛ لأن كلا منهم يؤمن ببعض الأنبياء والكتب ويكفر ببعض.
والآيات من حيث المدى تتحمل هذه الأقوال جميعها. غير أن الآيات التالية احتوت حملة على اليهود خاصة لجحودهم رسالة النبي وتحديهم إياه وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء ؛ حيث يبدو من ذلك أن بين هذه الآيات وبينها صلة موضوعية، وأنها جاءت كمقدمة وتمهيد لها.
والآيات مع خصوصية الموقف الذي نزلت بمناسبته تتضمن تقرير مبدأ من مبادئ الإيمان عامة ومبدأ من مبادئ الدين الإسلامي خاصة : فالإيمان بموسى وغيره من الأنبياء دون الإيمان برسالة عيسى بالنسبة لمن عاش في عهد عيسى وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من رسل الله دون الإيمان بمحمد لمن عاش في عهد محمد وبعده لا يجزي عند الله. والإيمان بمحمد لا يجزي إلا مع الإيمان بمن قبله من رسل الله. والدين الحق هو الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم وسلامه، دون تفريق بين أحد منهم. ومن يكونون على ذلك فهم المؤمنون حقا. وهم المسلمون الذين يؤمنون بجميع أنبياء الله صلوات الله عليهم ورسله وكتبه. وما عداهم فهم عند الله كافرون، وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة خاص بحالة اليهود والنصارى، وإيجاب إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير النار مصيرا لغير المؤمنين به يمكن أن يساق في هذا المقام ونصه ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )١ والحديث غير محصور باليهود والنصارى، وإنما المناسبة هي التي جعلت النبي يذكرها بخاصة في الحديث على ما هو المتبادر، فالنبي رسول الله إلى الناس جميعا، فكل من سمع به ولم يؤمن به كافر من أصحاب النار، وقد جاء في هذا في آيات أخرى منها آية سورة البينة هذه ﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية٦ ﴾.
١ التاج ج ٥ ص ٣٠ والمتبادر أن معنى (هذه الأمة) في الحديث الناس الذين وجدوا في عهده وبعده إلى آخر الزمن.

﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٣:﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( ١٥٣ ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ١٥٤ ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ١٥٥ ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( ١٥٦ ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( ١٥٧ ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٥٨ ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( ١٥٩ )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء ﴾ والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٦١ ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء.
عبارة الآية واضحة. وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء. ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم.
وقد روى المفسرون١ أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة. وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك، فنزلت الآيات بالرد عليهم.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى. وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد. والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا. وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات. وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات.
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع. وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة.
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا. وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو٢ وواجب المسلم أن ينكر ذلك، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم.
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح. ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك.
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها. وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان. وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها. وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين٨٤ ﴾ دليل حاسم على ذلك. وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس. وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس، وهم من حواريي المسيح ورسله، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه. ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة. وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة. ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب. ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق، وهو ينكر الصلب، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى. وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال.
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك. فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص ﴿ ٥٢ ٥٥ ﴾ والإسراء ﴿ ١٠٧ ١٠٨ ﴾ والرعد ﴿ ٣٥ ﴾ والأنعام ﴿ ٢٠ و ١١٤ ﴾ والعنكبوت ﴿ ٤٧ ﴾ وغيرها وغيرها. ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن.
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله. وفي صدد جملة ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم، ومنها ما لم يرد. ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا. ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه. ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول، فقال جرجس : أنا. فقال له : أخرج إليهم، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه. ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى، فأخذوه وصلبوه. ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل. وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية ﴿ ١٥٧ ﴾ من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك. وهو ما ذكرناه آنفا.
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله. فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
٢ قرأنا ذلك في مصادر عديدة من آخرها العدد الخمسون من مجلة المعرفة التي تصدر في دمشق وهناك رواية أخرى تذكر أن اسم الجندي باندارا.

﴿ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ( ٢ )وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٦٢ ) ﴾.
( ١ ) المقيمين الصلاة : تعددت الأقوال في سبب مجيء ﴿ والمقيمين ﴾ منصوبة مع أن الكلمات المعطوفة عليها قبلها وبعدها مرفوعة أي ﴿ الراسخون ﴾ و ﴿ المؤمنون ﴾ ﴿ والمؤمنات ﴾ فهناك قول : إنها قرئت هي الأخرى على الرفع ﴿ والمقيمون ﴾ وإنها في مصحف أبي ابن كعب كذلك. وهناك قول : إنها على سبيل الاختصاص وتقديرها أخص بالذكر المقيمين للصلاة. وهناك قول إنها معطوفة على ﴿ منهم ﴾ بمعنى لكن الراسخين في العلم منهم ومن المقيمين للصلاة وقول إنها معطوفة على ﴿ بما ﴾ بمعنى أنهم يؤمنون بما أنزل من قبلك وبالمقيمين للصلاة. وقول إنها من غلط الكتاب وجمهور المفسرين يستعبدون الغلط ويرجحون الاختصاص١.
احتوت الآية استدراكا استثنائيا فيه تنويه وبشرى بشأن الراسخين في العلم من اليهود وغيرهم الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر. فهؤلاء يؤمنون بما أنزل إلى النبي وما أنزل إلى الأنبياء السابقين قبله. وسوف يؤتيهم الله الأجر العظيم.
وقد روي٢ عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله ابن سلام وثعلبة ابن سعية وأسد ابن سعية وأسد ابن عبيد من مسلمة اليهود. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح. والآية متصل كما هو واضح بالسياق السابق وثيقا، وإذا صحت الرواية فتكون الآية في صدد الإشارة إلى إيمان هؤلاء وأمثالهم من مسلمة اليهود على سبيل الاستثناء من الجملة التي حملت في الآيات السابقة على اليهود.
ويتبادر لنا أنها استهدفت بالإضافة إلى الاستثناء التنويهي تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وتدعيم موقفه. وقد يكون ضمير المخاطب في ﴿ إليك ﴾ قرينة على ذلك : فليس من موجب لانزعاجه واغتمامه. وإذا كان جمهور اليهود يقفون منه موقف الجحود، ويطلبون منه ما يطلبون بقصد تعجيزه وتحديه فالراسخون في العلم وذوو النيات الحسنة منهم قد أدركوا حقيقة الأمر فصدقوا برسالته وآمنوا. وفي هذا ما فيه من البرهان والكفاية بالنسبة للموقف القائم بينه وبين اليهود.
وننبه على أن مثل هذا الاستدراك والاستثناء قد تكرر في سياق حكاية مواقف اليهود وتعجيزاتهم والحملة عليهم مما مرت منه أمثلة عديدة في سورتي البقرة وآل عمران مستهدفا نفس الهدف أيضا. وفي كل هذا صور تتكرر عن إيمان ذوي النيات الحسنة من علماء اليهود وغيرهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم دون مكابرة وعناد فيها دلالة على ما تحتويه الرسالة المحمدية من عناصر الاستجابة القوية التي لا يمتنع عنها إلا ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
والمفسرون يروون دائما في المناسبات المماثلة أسماء معدودة قليلة ممن أسلموا، بل ويروون نفس الأسماء في كل مناسبة. في حين أن العبارة هنا قد تفيد أن الذين آمنوا من الراسخين في العلم وغيرهم من اليهود ليسوا بهذه القلة، وإن كانت الروايات لا تساعد على إثبات ذلك.
١ انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري..
٢ انظر تفسير ابن كثير.
﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( ١٦٣ ) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( ١٦٤ ) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٦٥ ) لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( ١٦٦ ) ﴾.
في الآيات خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقريرا :
( ١ ) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قص ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص.
( ٢ ) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال.
( ٣ ) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا.
تعليق على الآية
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... ﴾الخ
والآيات الثلاث التي بعدها
روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا : ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم، ومنها أن النبي لما تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم، ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين الأنعام ﴿ وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ ( ٩١ ) والروايات لم ترد في الصحاح ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها وهم وآباءهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا.
والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار، وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى.
وجملة ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال لله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جمع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة. حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.
وقد يقال : إن الله جل عن أن يكون للناس عليه حجة ما وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب ولكن لما اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعدما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري.
وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور سبق تفسيرها وعرفنا بهم ما يغني عن التكرار. وجملة ﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ في الآية ( ١٦٤ ) قد ورد ما يماثلها في الآية ( ٧٨ ) من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية يغني عن التكرار كذلك.
وقد وقف المفسرون عند جملة ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ من الآية ( ١٦٤ ) فقال الطبرسي : إن الله كلم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد. وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلم موسى مشافهة. وعن جزء ابن جابر أنه قال : سمعت كعبا يقول : إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلمه بلسانه فقال له : يا رب هكذا كلامك قال : لا، ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا، فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق ) وقال الزمخشري : إن معنى الجملة ( جرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام الله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب لاعتزال. ولقد فند ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف ﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ﴾ ( ١٤٣ ) كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام. وتعليقا على ذلك نقول :
أولا : إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروي عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه.
وثانيا : إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في ومجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها.
وثالثا : إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه ( ١١ ٢٤ ) والنمل ( ٨ ١٢ ) والقصص )٢٩ ٣٥ ).
ورابعا : إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك.
وخامسا : إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسر الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ( ١١ ) وآية الأنعام ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ ( ١٠٣ ) ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسر واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٣:﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( ١٦٣ ) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( ١٦٤ ) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٦٥ ) لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( ١٦٦ ) ﴾.
في الآيات خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقريرا :
( ١ ) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قص ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص.
( ٢ ) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال.
( ٣ ) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا.
تعليق على الآية
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... ﴾الخ
والآيات الثلاث التي بعدها
روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا : ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم، ومنها أن النبي لما تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم، ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين الأنعام ﴿ وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ ( ٩١ ) والروايات لم ترد في الصحاح ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها وهم وآباءهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا.
والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار، وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى.
وجملة ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال لله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جمع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة. حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.
وقد يقال : إن الله جل عن أن يكون للناس عليه حجة ما وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب ولكن لما اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعدما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري.
وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور سبق تفسيرها وعرفنا بهم ما يغني عن التكرار. وجملة ﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ في الآية ( ١٦٤ ) قد ورد ما يماثلها في الآية ( ٧٨ ) من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية يغني عن التكرار كذلك.
وقد وقف المفسرون عند جملة ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ من الآية ( ١٦٤ ) فقال الطبرسي : إن الله كلم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد. وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلم موسى مشافهة. وعن جزء ابن جابر أنه قال : سمعت كعبا يقول : إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلمه بلسانه فقال له : يا رب هكذا كلامك قال : لا، ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا، فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق ) وقال الزمخشري : إن معنى الجملة ( جرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام الله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب لاعتزال. ولقد فند ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف ﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ﴾ ( ١٤٣ ) كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام. وتعليقا على ذلك نقول :
أولا : إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروي عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه.
وثانيا : إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في ومجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها.
وثالثا : إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه ( ١١ ٢٤ ) والنمل ( ٨ ١٢ ) والقصص )٢٩ ٣٥ ).
ورابعا : إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك.
وخامسا : إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسر الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ( ١١ ) وآية الأنعام ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ ( ١٠٣ ) ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسر واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٣:﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( ١٦٣ ) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( ١٦٤ ) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٦٥ ) لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( ١٦٦ ) ﴾.
في الآيات خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقريرا :
( ١ ) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قص ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص.
( ٢ ) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال.
( ٣ ) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا.
تعليق على الآية
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... ﴾الخ
والآيات الثلاث التي بعدها
روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا : ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم، ومنها أن النبي لما تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم، ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين الأنعام ﴿ وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ ( ٩١ ) والروايات لم ترد في الصحاح ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها وهم وآباءهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا.
والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار، وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى.
وجملة ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال لله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جمع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة. حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.
وقد يقال : إن الله جل عن أن يكون للناس عليه حجة ما وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب ولكن لما اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعدما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري.
وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور سبق تفسيرها وعرفنا بهم ما يغني عن التكرار. وجملة ﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ في الآية ( ١٦٤ ) قد ورد ما يماثلها في الآية ( ٧٨ ) من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية يغني عن التكرار كذلك.
وقد وقف المفسرون عند جملة ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ من الآية ( ١٦٤ ) فقال الطبرسي : إن الله كلم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد. وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلم موسى مشافهة. وعن جزء ابن جابر أنه قال : سمعت كعبا يقول : إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلمه بلسانه فقال له : يا رب هكذا كلامك قال : لا، ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا، فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق ) وقال الزمخشري : إن معنى الجملة ( جرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام الله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب لاعتزال. ولقد فند ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف ﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ﴾ ( ١٤٣ ) كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام. وتعليقا على ذلك نقول :
أولا : إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروي عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه.
وثانيا : إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في ومجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها.
وثالثا : إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه ( ١١ ٢٤ ) والنمل ( ٨ ١٢ ) والقصص )٢٩ ٣٥ ).
ورابعا : إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك.
وخامسا : إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسر الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ( ١١ ) وآية الأنعام ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ ( ١٠٣ ) ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسر واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٣:﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( ١٦٣ ) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( ١٦٤ ) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٦٥ ) لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( ١٦٦ ) ﴾.
في الآيات خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقريرا :
( ١ ) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قص ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص.
( ٢ ) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال.
( ٣ ) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا.
تعليق على الآية
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... ﴾الخ
والآيات الثلاث التي بعدها
روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا : ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم، ومنها أن النبي لما تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم، ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين الأنعام ﴿ وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ ( ٩١ ) والروايات لم ترد في الصحاح ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها وهم وآباءهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا.
والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار، وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى.
وجملة ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال لله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جمع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة. حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.
وقد يقال : إن الله جل عن أن يكون للناس عليه حجة ما وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب ولكن لما اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعدما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري.
وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور سبق تفسيرها وعرفنا بهم ما يغني عن التكرار. وجملة ﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ في الآية ( ١٦٤ ) قد ورد ما يماثلها في الآية ( ٧٨ ) من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية يغني عن التكرار كذلك.
وقد وقف المفسرون عند جملة ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ من الآية ( ١٦٤ ) فقال الطبرسي : إن الله كلم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد. وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلم موسى مشافهة. وعن جزء ابن جابر أنه قال : سمعت كعبا يقول : إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلمه بلسانه فقال له : يا رب هكذا كلامك قال : لا، ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا، فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق ) وقال الزمخشري : إن معنى الجملة ( جرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام الله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب لاعتزال. ولقد فند ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف ﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ﴾ ( ١٤٣ ) كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام. وتعليقا على ذلك نقول :
أولا : إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروي عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه.
وثانيا : إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في ومجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها.
وثالثا : إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه ( ١١ ٢٤ ) والنمل ( ٨ ١٢ ) والقصص )٢٩ ٣٥ ).
ورابعا : إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك.
وخامسا : إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسر الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ( ١١ ) وآية الأنعام ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ ( ١٠٣ ) ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسر واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٦٧ )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ( ١٦٨ ) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا( ١٦٩ ) ﴾.
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وإنذار بناء على ذلك في صدد اليهود، وتدل على ما كان لمواقفهم ودسائسهم وتشكيكاتهم من أثر في عرقلة الدعوة الإسلامية.
وتعبير ﴿ كفروا وظلموا ﴾ مع سبق تعبير ﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ يدل على أن اليهود لم يكتفوا بالكفر برسالة النبي ومنع الناس عنها منعا هادئا بل تجاوزوا ذلك إلى البغي والعدوان أيضا. وفي هذا قرينة على ما قلنا من أن الفصل نزل في وقت كان اليهود فيه على شيء من القوة.
وأسلوب الآيات المطلق يجعل فيها إنذارا وتعنيفا عاما مستمرا لكل من يقف نفس المواقف بطبيعة الحال. وهذا مما جرى عليه النظم القرآني.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٧:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٦٧ )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ( ١٦٨ ) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا( ١٦٩ ) ﴾.
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وإنذار بناء على ذلك في صدد اليهود، وتدل على ما كان لمواقفهم ودسائسهم وتشكيكاتهم من أثر في عرقلة الدعوة الإسلامية.
وتعبير ﴿ كفروا وظلموا ﴾ مع سبق تعبير ﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ يدل على أن اليهود لم يكتفوا بالكفر برسالة النبي ومنع الناس عنها منعا هادئا بل تجاوزوا ذلك إلى البغي والعدوان أيضا. وفي هذا قرينة على ما قلنا من أن الفصل نزل في وقت كان اليهود فيه على شيء من القوة.
وأسلوب الآيات المطلق يجعل فيها إنذارا وتعنيفا عاما مستمرا لكل من يقف نفس المواقف بطبيعة الحال. وهذا مما جرى عليه النظم القرآني.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٧:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( ١٦٧ )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ( ١٦٨ ) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا( ١٦٩ ) ﴾.
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وإنذار بناء على ذلك في صدد اليهود، وتدل على ما كان لمواقفهم ودسائسهم وتشكيكاتهم من أثر في عرقلة الدعوة الإسلامية.
وتعبير ﴿ كفروا وظلموا ﴾ مع سبق تعبير ﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ يدل على أن اليهود لم يكتفوا بالكفر برسالة النبي ومنع الناس عنها منعا هادئا بل تجاوزوا ذلك إلى البغي والعدوان أيضا. وفي هذا قرينة على ما قلنا من أن الفصل نزل في وقت كان اليهود فيه على شيء من القوة.
وأسلوب الآيات المطلق يجعل فيها إنذارا وتعنيفا عاما مستمرا لكل من يقف نفس المواقف بطبيعة الحال. وهذا مما جرى عليه النظم القرآني.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ١٧٠ ﴾.
عبارة الآية واضحة هي الأخرى. ولم نطلع على رواية ما في سبب نزولها أيضا. ومن المحتمل أن تكون معقبة على الآية السابقة ومتصلة بها. ومن المحتمل كذلك أن تكون متصلة بالآيات اللاحقة لها اتصال تقديم وتمهيد. وهي على كل حال قوية نافذة موجهة إلى العقول والقلوب معا. وعامة التوجيه لكل نحلة وملة وجنس. فرسالة الرسول الذي جاءهم بالحق من ربهم هي دعوة لجميع الناس إلى الله وسبل الخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. والإيمان بها هو لمصلحة المؤمنين بها وخيرهم ؛ لأن الله غني عن الذين يكفرون بها وهو الذي له ما في السماوات والأرض وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه الحكمة والسداد.
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٧١ ) لَّن يَسْتَنكِفَ( ١ ) الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا ( ١٧٢ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا( ١٧٣ ) ﴾.
وجه الخطاب في الآيات إلى أهل الكتاب : وعبارتها واضحة وهي تلهم أنها تقصد النصارى وقد تضمنت :
١-دعوة إلى عدم الغلو في عقيدتهم في المسيح والكف عن القول : إن الله ثلاثة.
٢- وتقريرا لحقيقة ولادة المسيح وكونها معجزة ربانية بكلمة ألقاها الله إلى مريم وروح منه.
٣- وتقريرا للعقيدة الصحيحة في الله وهي أن الله واحد جل وتنزه عن أن يكون له ولد وله ما في السماوات وما في الأرض.
٤- وتقريرا لحقيقة موقف المسيح من الله فهو لن يأنف من أن يكون عبدا له ولن يستكبر كما أن الملائكة المقربين لن يأنفوا من ذلك ولن يستكبروا.
٥- وإنذارا للمستكنفين والمستكبرين وبشرى للمؤمنين. فالله سبحانه سوف يحشر الناس جميعا إليه، فيوفي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجورهم ويزيد عليها من فضله. ويعذب الذين استكبروا واستنكفوا عذابا أليما لا ينقذهم منه ولي ولا نصير.
تعليق على الآية
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات إلا ما جاء في تفسير الخازن في صدد الآية ( ١٧٢ ) حيث قال : وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد : إنك تعيب صاحبنا فتقول : إنه عبد الله فقال لهم ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت الآية.
ولسنا نرى هذه الرواية في محلها. وقد مرت الإشارة إلى وفد نجران وما جرى بينه وبين النبي في سورة آل عمران. والآيات بعد وحدة تامة منسجمة. والمتبادر منها أنها جاءت استطرادية لبيان حقيقة الأمر في عيسى عليه السلام والإهابة بالنصارى إلى الانتهاء هم الآخرون من غلوهم وتطرفهم وقولهم غير الحق على الله وعيسى. والإيمان بالله إلها واحدا منزها عن التعدد بأي تأويل كان.
والاستجابة إلى دعوة رسوله الذي جاء منه بالحق بعد ما سبق من حملة التقريع على اليهود من الإشارة إلى عقيدتهم في عيسى وأمه وموقفهم منه، واختلاف الناس في شأنه وفي صلبه اختلافا قائما على الظنون. وبعدما أشير إلى طبيعة الرسالة المحمدية واتساقها مع سنة الله في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة وتوكيد صحتها وإيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بها.
ومثل هذه الاستطرادات مألوف في النظم القرآني مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وأسلوب الآيات قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول معا. وفيه إنذار وبشرى وتنديد وعظة وبرهان في آن واحد.
والعبارات الواردة في الآيات في صدد معجزة ولادة المسيح مقاربة لما ورد في آيات أخرى. فقد وردت جملة ﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾ في آية سورة آل عمران ( ٤٥ ) والكلمة هنا وهناك في معنى أمر الله وإرادته المتمثلة في جملة ﴿ كن فيكون ﴾ الواردة في الآية ( ٤٧ ) من السورة نفسها على ما عليه الجمهور، وهذه الجملة وردت في الآية كجواب لمريم التي استغربت أن تلد دون أن يمسها رجل على ما حكته الآية ( ٤٦ ) وقد ورد في سورة الأنبياء هذه الآية ﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ﴾ وكلمة فنفخنا فيها من روحنا في معنى ( وروح منه ) على ما عليه الجمهور لذلك.
ولقد علقنا على مدى هذه العبارات في المناسبات المذكورة فلا نرى حاجة لتعليق جديد.
والإشارة إلى عقيدة التثليث القرآنية التي تضمنتها جملة ﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ في الآيات تأتي هنا لأول مرة. والمعروف أن جمهور النصارى اليوم يعتقدون بإلاه واحد في ثلاثة أقانيم متساوية بما يعرف بالأب والابن وروح القدس. غير أن العبارة القرآنية هنا تفيد أن النصارى الموجه إليهم الخطاب كانوا يقولون : إن الآلهة ثلاثة. ولقد ذكرت المدونات المسيحية القديمة أن من النصارى من كان لا يعتقد بالمساواة لتامة بين الأقانيم الثلاثة مع اعتبار الثلاثة واحد. وإن أكثر النصارى في الشام والعراق ومصر أو كثيرا منهم كان على ذلك١ بحيث يصح القول : إن الخطاب القرآني قد وجه إليهم في الدرجة الأولى والمباشر لأنهم الذين لهم صلة بالبيئة النبوية. وفي سورة المائدة آيتان هما ( ٧٢و ٧٣ ) واحدة تذكرة عقيدة نصارى بأن المسيح ابن مريم هو الله وأخرى تذكر عقيدة نصارى كون الله ثالث ثلاثة. ومما لا يتحمل مراء أن القرآن يقرر واقعا سواء أفي الآيات التي نحن في صددها أم في آيات سورة المائدة.
ومهما يكن من أمر فالآيات هي بسبيل تسفيه عقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله التي كانت عقيدة النصارى وتقرير كون ذلك مجافيا لأي عقل ومنطق. وتقرير وحدانية الله عز وجل بدون أي شائبة أو تأويل سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازا.
وهذه هي العقيدة الصافية الخالية من التعقيد التي جاء بها نبي الإسلام بلسان كتاب الله القرآن لتصحيح الانحراف وتقرير كون الله واحدا أحدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. ثم لتبرئة المسيح عليه السلام من دعوى تلك العقيدة ولتقرير عبوديته لله واستحالة استنطاقه أو استكباره عن ذلك.
وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن كل هذا مما قاله المسيح للناس منها في سور مر تفسيرها ومنها في سور يأتي تفسيرها ونكتفي بالإشارة إلى أرقامها وهي آيات الزخرف ( ٦٣و ٦٤ ) ومريم ( ٣٠ ٣٦ ) والصف ( ٦ ) والمائدة ( ٧٢، ١١٦، ١١٧ ) ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم طائفة من نصوص الأناجيل المتداولة التي فيها تطابق وتساوق مع ما قررته الآيات القرآنية عن شخصية عيسى ودعوته مع تعليقات وافية على هذا الأمر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن الأناجيل الأربعة المتداولة التي يعترف بها النصارى، والتي تروي أقوالا عن عيسى عليه السلام لا تنسب عقيدة التثليث إليه، بل وليست هذه العقيدة واردة فيها بصراحة وحبك. وكل ما فيها ألفاظ الأب والابن وروح القدس بدون جمع وحبك. وإن العقيدة حبكت بشكلها الذي يدين به النصارى اليوم في المجامع الدينية التي كانت تنعقد في زمن الدولة الرومانية بسبب الاختلافات التي كانت تنشب بين رجال الدين النصراني حول مدى هذه الألفاظ. وفي تفسير المنار لرشيد رضا فصل في عقيدة التثليث في سياق تفسير الآيات أورد فيها أقوالا عديدة لعدد من الباحثين في تقرير كون عقيدة التثليث ليست جديدة ونتيجة لما كان من تأويلات لأقوال عيسى المروية في الأناجيل بل هي قديمة تداولتها الأمم قبل النصرانية بقرون كثيرة ؛ حيث كانت عند المصرين والفرس والبراهمة والبوذيين٢ وقد تسربت إلى المسيحية من طريق الرومان الذين كان لهم الحكم في بلاد الشام في وقت ظهور المسيح وبعده إلى أمد طويل فنكتفي بالإشارة إلى ذلك.
وفي كتاب : العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير فصول عديدة مستندة إلى مدونات قديمة وحديثة غريبة كتابها ممن ينتسبون إلى النصرانية أصلا في قدم عقيدة التثليث والفداء والقيامة من الموت وتجسد الإلاه في ناسوت والصلب ومعجزة الولادة، بدون مس الخ بسبيل تقرير كون هذه العقائد مما تسرب إلى النصراينة من العقائد القديمة فنكتفي بالإشارة إلى ذلك كذلك.
ومن العجيب أن يتخطى المبشرون النصارى كل هذه الحقائق ويتجاهلونها، وتصل بهم الجرأة والصفاقة إلى القول : إن عقيدة التوحيد الإسلامية الصافية الخالية من كل تعقيد وشائبة هي بدائية تتناسب مع العرب البدائيين الذين جاء الإسلام إليهم٣ في حين أن عقيدة التثليث فيها معان فلسفية رفيعة تتناسب مع الأمم المتحضرة المثقفة التي انبعثت فيها النصرانية على ما قرأناه في رسالة نشرها مبشر اسمه موفق سعيد وفي كتب مبشر سمى نفسه : الأستاذ حداد اللذان، قالا فيما قالاه : إن الذين نعتهم القرآن بالكفر من النصارى هم نصارى العرب الذين حرفوا العقيدة النصرانية الفلسفية السامية ولم يفهموها. ولقد وقع كلاهما في تناقض مضحك ؛ حيث أرادوا تشبيه التثليث النصراني بمدى الآية القرآنية ﴿ الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم ﴾ على اعتبار أن تعدد الأقانيم هو تعدد صفات لإلاه واحد هذه الجملة هي عنوان من عناوين التوحيد الإسلامي الذي نعتوه بالبدائية.
وهذه المزاعم متهافتة لا تكاد تتحمل تفنيدا. وقد تكفل القرآن بالرد على كل ذلك. وقد ألممنا بهذه المسألة في كتابنا ( القرآن والمبشرون ) ووضعناهما في نصابها الحق بتوفيق الله فنكتفي الإشارة أيضا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس المجلد ٣ ج ٢ والمجلد ٤ ج ٢ وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ ص ٣٢٦ وما بعدها وج ٤ ص ٣١٦ وما بعدها وج ٥ ص ٣٧٣ وما بعدها.
٢ نضيف إلى هذا أن في عقائد الآراميين والآشوريين والبابليين والكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعنيين في اليمن شيئا من ذلك حيث كان عندهم ثالوث مؤلف من القمر كزوج والشمس كزوجة وعشتار كابن لهما انظر الأجزاء ١ و٢ و٣ و٤ من كتاب الجنس العربي.
٣ في هذا تجاهل وغباء آخر لأن في القرآن آيات كثيرة صريحة وقطعية بأن الإسلام جاء إلى الناس كافة من مختلف الأجناس والأديان وإلى أهل الكتاب نصا. وفيه آيات بأن الله سيظهر على الدين كله وقد اعتنقه ناس من مختلف الأجناس والأولون والأديان في حياة النبي واستمر بعده كذلك ومن جملتهم أهل كتاب فسقطت حجة كل مكابر.
( ١ )الاستنكاف : بمعنى الأنفة
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧١:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٧١ ) لَّن يَسْتَنكِفَ( ١ ) الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا ( ١٧٢ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا( ١٧٣ ) ﴾.
وجه الخطاب في الآيات إلى أهل الكتاب : وعبارتها واضحة وهي تلهم أنها تقصد النصارى وقد تضمنت :

١-
دعوة إلى عدم الغلو في عقيدتهم في المسيح والكف عن القول : إن الله ثلاثة.

٢-
وتقريرا لحقيقة ولادة المسيح وكونها معجزة ربانية بكلمة ألقاها الله إلى مريم وروح منه.

٣-
وتقريرا للعقيدة الصحيحة في الله وهي أن الله واحد جل وتنزه عن أن يكون له ولد وله ما في السماوات وما في الأرض.

٤-
وتقريرا لحقيقة موقف المسيح من الله فهو لن يأنف من أن يكون عبدا له ولن يستكبر كما أن الملائكة المقربين لن يأنفوا من ذلك ولن يستكبروا.

٥-
وإنذارا للمستكنفين والمستكبرين وبشرى للمؤمنين. فالله سبحانه سوف يحشر الناس جميعا إليه، فيوفي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجورهم ويزيد عليها من فضله. ويعذب الذين استكبروا واستنكفوا عذابا أليما لا ينقذهم منه ولي ولا نصير.
تعليق على الآية
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات إلا ما جاء في تفسير الخازن في صدد الآية ( ١٧٢ ) حيث قال : وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد : إنك تعيب صاحبنا فتقول : إنه عبد الله فقال لهم ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت الآية.
ولسنا نرى هذه الرواية في محلها. وقد مرت الإشارة إلى وفد نجران وما جرى بينه وبين النبي في سورة آل عمران. والآيات بعد وحدة تامة منسجمة. والمتبادر منها أنها جاءت استطرادية لبيان حقيقة الأمر في عيسى عليه السلام والإهابة بالنصارى إلى الانتهاء هم الآخرون من غلوهم وتطرفهم وقولهم غير الحق على الله وعيسى. والإيمان بالله إلها واحدا منزها عن التعدد بأي تأويل كان.
والاستجابة إلى دعوة رسوله الذي جاء منه بالحق بعد ما سبق من حملة التقريع على اليهود من الإشارة إلى عقيدتهم في عيسى وأمه وموقفهم منه، واختلاف الناس في شأنه وفي صلبه اختلافا قائما على الظنون. وبعدما أشير إلى طبيعة الرسالة المحمدية واتساقها مع سنة الله في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة وتوكيد صحتها وإيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بها.
ومثل هذه الاستطرادات مألوف في النظم القرآني مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وأسلوب الآيات قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول معا. وفيه إنذار وبشرى وتنديد وعظة وبرهان في آن واحد.
والعبارات الواردة في الآيات في صدد معجزة ولادة المسيح مقاربة لما ورد في آيات أخرى. فقد وردت جملة ﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾ في آية سورة آل عمران ( ٤٥ ) والكلمة هنا وهناك في معنى أمر الله وإرادته المتمثلة في جملة ﴿ كن فيكون ﴾ الواردة في الآية ( ٤٧ ) من السورة نفسها على ما عليه الجمهور، وهذه الجملة وردت في الآية كجواب لمريم التي استغربت أن تلد دون أن يمسها رجل على ما حكته الآية ( ٤٦ ) وقد ورد في سورة الأنبياء هذه الآية ﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ﴾ وكلمة فنفخنا فيها من روحنا في معنى ( وروح منه ) على ما عليه الجمهور لذلك.
ولقد علقنا على مدى هذه العبارات في المناسبات المذكورة فلا نرى حاجة لتعليق جديد.
والإشارة إلى عقيدة التثليث القرآنية التي تضمنتها جملة ﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ في الآيات تأتي هنا لأول مرة. والمعروف أن جمهور النصارى اليوم يعتقدون بإلاه واحد في ثلاثة أقانيم متساوية بما يعرف بالأب والابن وروح القدس. غير أن العبارة القرآنية هنا تفيد أن النصارى الموجه إليهم الخطاب كانوا يقولون : إن الآلهة ثلاثة. ولقد ذكرت المدونات المسيحية القديمة أن من النصارى من كان لا يعتقد بالمساواة لتامة بين الأقانيم الثلاثة مع اعتبار الثلاثة واحد. وإن أكثر النصارى في الشام والعراق ومصر أو كثيرا منهم كان على ذلك١ بحيث يصح القول : إن الخطاب القرآني قد وجه إليهم في الدرجة الأولى والمباشر لأنهم الذين لهم صلة بالبيئة النبوية. وفي سورة المائدة آيتان هما ( ٧٢و ٧٣ ) واحدة تذكرة عقيدة نصارى بأن المسيح ابن مريم هو الله وأخرى تذكر عقيدة نصارى كون الله ثالث ثلاثة. ومما لا يتحمل مراء أن القرآن يقرر واقعا سواء أفي الآيات التي نحن في صددها أم في آيات سورة المائدة.
ومهما يكن من أمر فالآيات هي بسبيل تسفيه عقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله التي كانت عقيدة النصارى وتقرير كون ذلك مجافيا لأي عقل ومنطق. وتقرير وحدانية الله عز وجل بدون أي شائبة أو تأويل سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازا.
وهذه هي العقيدة الصافية الخالية من التعقيد التي جاء بها نبي الإسلام بلسان كتاب الله القرآن لتصحيح الانحراف وتقرير كون الله واحدا أحدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. ثم لتبرئة المسيح عليه السلام من دعوى تلك العقيدة ولتقرير عبوديته لله واستحالة استنطاقه أو استكباره عن ذلك.
وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن كل هذا مما قاله المسيح للناس منها في سور مر تفسيرها ومنها في سور يأتي تفسيرها ونكتفي بالإشارة إلى أرقامها وهي آيات الزخرف ( ٦٣و ٦٤ ) ومريم ( ٣٠ ٣٦ ) والصف ( ٦ ) والمائدة ( ٧٢، ١١٦، ١١٧ ) ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم طائفة من نصوص الأناجيل المتداولة التي فيها تطابق وتساوق مع ما قررته الآيات القرآنية عن شخصية عيسى ودعوته مع تعليقات وافية على هذا الأمر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن الأناجيل الأربعة المتداولة التي يعترف بها النصارى، والتي تروي أقوالا عن عيسى عليه السلام لا تنسب عقيدة التثليث إليه، بل وليست هذه العقيدة واردة فيها بصراحة وحبك. وكل ما فيها ألفاظ الأب والابن وروح القدس بدون جمع وحبك. وإن العقيدة حبكت بشكلها الذي يدين به النصارى اليوم في المجامع الدينية التي كانت تنعقد في زمن الدولة الرومانية بسبب الاختلافات التي كانت تنشب بين رجال الدين النصراني حول مدى هذه الألفاظ. وفي تفسير المنار لرشيد رضا فصل في عقيدة التثليث في سياق تفسير الآيات أورد فيها أقوالا عديدة لعدد من الباحثين في تقرير كون عقيدة التثليث ليست جديدة ونتيجة لما كان من تأويلات لأقوال عيسى المروية في الأناجيل بل هي قديمة تداولتها الأمم قبل النصرانية بقرون كثيرة ؛ حيث كانت عند المصرين والفرس والبراهمة والبوذيين٢ وقد تسربت إلى المسيحية من طريق الرومان الذين كان لهم الحكم في بلاد الشام في وقت ظهور المسيح وبعده إلى أمد طويل فنكتفي بالإشارة إلى ذلك.
وفي كتاب : العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير فصول عديدة مستندة إلى مدونات قديمة وحديثة غريبة كتابها ممن ينتسبون إلى النصرانية أصلا في قدم عقيدة التثليث والفداء والقيامة من الموت وتجسد الإلاه في ناسوت والصلب ومعجزة الولادة، بدون مس الخ بسبيل تقرير كون هذه العقائد مما تسرب إلى النصراينة من العقائد القديمة فنكتفي بالإشارة إلى ذلك كذلك.
ومن العجيب أن يتخطى المبشرون النصارى كل هذه الحقائق ويتجاهلونها، وتصل بهم الجرأة والصفاقة إلى القول : إن عقيدة التوحيد الإسلامية الصافية الخالية من كل تعقيد وشائبة هي بدائية تتناسب مع العرب البدائيين الذين جاء الإسلام إليهم٣ في حين أن عقيدة التثليث فيها معان فلسفية رفيعة تتناسب مع الأمم المتحضرة المثقفة التي انبعثت فيها النصرانية على ما قرأناه في رسالة نشرها مبشر اسمه موفق سعيد وفي كتب مبشر سمى نفسه : الأستاذ حداد اللذان، قالا فيما قالاه : إن الذين نعتهم القرآن بالكفر من النصارى هم نصارى العرب الذين حرفوا العقيدة النصرانية الفلسفية السامية ولم يفهموها. ولقد وقع كلاهما في تناقض مضحك ؛ حيث أرادوا تشبيه التثليث النصراني بمدى الآية القرآنية ﴿ الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم ﴾ على اعتبار أن تعدد الأقانيم هو تعدد صفات لإلاه واحد هذه الجملة هي عنوان من عناوين التوحيد الإسلامي الذي نعتوه بالبدائية.
وهذه المزاعم متهافتة لا تكاد تتحمل تفنيدا. وقد تكفل القرآن بالرد على كل ذلك. وقد ألممنا بهذه المسألة في كتابنا ( القرآن والمبشرون ) ووضعناهما في نصابها الحق بتوفيق الله فنكتفي الإشارة أيضا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس المجلد ٣ ج ٢ والمجلد ٤ ج ٢ وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ ص ٣٢٦ وما بعدها وج ٤ ص ٣١٦ وما بعدها وج ٥ ص ٣٧٣ وما بعدها.
٢ نضيف إلى هذا أن في عقائد الآراميين والآشوريين والبابليين والكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعنيين في اليمن شيئا من ذلك حيث كان عندهم ثالوث مؤلف من القمر كزوج والشمس كزوجة وعشتار كابن لهما انظر الأجزاء ١ و٢ و٣ و٤ من كتاب الجنس العربي.
٣ في هذا تجاهل وغباء آخر لأن في القرآن آيات كثيرة صريحة وقطعية بأن الإسلام جاء إلى الناس كافة من مختلف الأجناس والأديان وإلى أهل الكتاب نصا. وفيه آيات بأن الله سيظهر على الدين كله وقد اعتنقه ناس من مختلف الأجناس والأولون والأديان في حياة النبي واستمر بعده كذلك ومن جملتهم أهل كتاب فسقطت حجة كل مكابر.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧١:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ( ١٧١ ) لَّن يَسْتَنكِفَ( ١ ) الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا ( ١٧٢ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا( ١٧٣ ) ﴾.
وجه الخطاب في الآيات إلى أهل الكتاب : وعبارتها واضحة وهي تلهم أنها تقصد النصارى وقد تضمنت :

١-
دعوة إلى عدم الغلو في عقيدتهم في المسيح والكف عن القول : إن الله ثلاثة.

٢-
وتقريرا لحقيقة ولادة المسيح وكونها معجزة ربانية بكلمة ألقاها الله إلى مريم وروح منه.

٣-
وتقريرا للعقيدة الصحيحة في الله وهي أن الله واحد جل وتنزه عن أن يكون له ولد وله ما في السماوات وما في الأرض.

٤-
وتقريرا لحقيقة موقف المسيح من الله فهو لن يأنف من أن يكون عبدا له ولن يستكبر كما أن الملائكة المقربين لن يأنفوا من ذلك ولن يستكبروا.

٥-
وإنذارا للمستكنفين والمستكبرين وبشرى للمؤمنين. فالله سبحانه سوف يحشر الناس جميعا إليه، فيوفي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجورهم ويزيد عليها من فضله. ويعذب الذين استكبروا واستنكفوا عذابا أليما لا ينقذهم منه ولي ولا نصير.
تعليق على الآية
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات إلا ما جاء في تفسير الخازن في صدد الآية ( ١٧٢ ) حيث قال : وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد : إنك تعيب صاحبنا فتقول : إنه عبد الله فقال لهم ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت الآية.
ولسنا نرى هذه الرواية في محلها. وقد مرت الإشارة إلى وفد نجران وما جرى بينه وبين النبي في سورة آل عمران. والآيات بعد وحدة تامة منسجمة. والمتبادر منها أنها جاءت استطرادية لبيان حقيقة الأمر في عيسى عليه السلام والإهابة بالنصارى إلى الانتهاء هم الآخرون من غلوهم وتطرفهم وقولهم غير الحق على الله وعيسى. والإيمان بالله إلها واحدا منزها عن التعدد بأي تأويل كان.
والاستجابة إلى دعوة رسوله الذي جاء منه بالحق بعد ما سبق من حملة التقريع على اليهود من الإشارة إلى عقيدتهم في عيسى وأمه وموقفهم منه، واختلاف الناس في شأنه وفي صلبه اختلافا قائما على الظنون. وبعدما أشير إلى طبيعة الرسالة المحمدية واتساقها مع سنة الله في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة وتوكيد صحتها وإيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بها.
ومثل هذه الاستطرادات مألوف في النظم القرآني مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وأسلوب الآيات قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول معا. وفيه إنذار وبشرى وتنديد وعظة وبرهان في آن واحد.
والعبارات الواردة في الآيات في صدد معجزة ولادة المسيح مقاربة لما ورد في آيات أخرى. فقد وردت جملة ﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾ في آية سورة آل عمران ( ٤٥ ) والكلمة هنا وهناك في معنى أمر الله وإرادته المتمثلة في جملة ﴿ كن فيكون ﴾ الواردة في الآية ( ٤٧ ) من السورة نفسها على ما عليه الجمهور، وهذه الجملة وردت في الآية كجواب لمريم التي استغربت أن تلد دون أن يمسها رجل على ما حكته الآية ( ٤٦ ) وقد ورد في سورة الأنبياء هذه الآية ﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ﴾ وكلمة فنفخنا فيها من روحنا في معنى ( وروح منه ) على ما عليه الجمهور لذلك.
ولقد علقنا على مدى هذه العبارات في المناسبات المذكورة فلا نرى حاجة لتعليق جديد.
والإشارة إلى عقيدة التثليث القرآنية التي تضمنتها جملة ﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ في الآيات تأتي هنا لأول مرة. والمعروف أن جمهور النصارى اليوم يعتقدون بإلاه واحد في ثلاثة أقانيم متساوية بما يعرف بالأب والابن وروح القدس. غير أن العبارة القرآنية هنا تفيد أن النصارى الموجه إليهم الخطاب كانوا يقولون : إن الآلهة ثلاثة. ولقد ذكرت المدونات المسيحية القديمة أن من النصارى من كان لا يعتقد بالمساواة لتامة بين الأقانيم الثلاثة مع اعتبار الثلاثة واحد. وإن أكثر النصارى في الشام والعراق ومصر أو كثيرا منهم كان على ذلك١ بحيث يصح القول : إن الخطاب القرآني قد وجه إليهم في الدرجة الأولى والمباشر لأنهم الذين لهم صلة بالبيئة النبوية. وفي سورة المائدة آيتان هما ( ٧٢و ٧٣ ) واحدة تذكرة عقيدة نصارى بأن المسيح ابن مريم هو الله وأخرى تذكر عقيدة نصارى كون الله ثالث ثلاثة. ومما لا يتحمل مراء أن القرآن يقرر واقعا سواء أفي الآيات التي نحن في صددها أم في آيات سورة المائدة.
ومهما يكن من أمر فالآيات هي بسبيل تسفيه عقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله التي كانت عقيدة النصارى وتقرير كون ذلك مجافيا لأي عقل ومنطق. وتقرير وحدانية الله عز وجل بدون أي شائبة أو تأويل سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازا.
وهذه هي العقيدة الصافية الخالية من التعقيد التي جاء بها نبي الإسلام بلسان كتاب الله القرآن لتصحيح الانحراف وتقرير كون الله واحدا أحدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. ثم لتبرئة المسيح عليه السلام من دعوى تلك العقيدة ولتقرير عبوديته لله واستحالة استنطاقه أو استكباره عن ذلك.
وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن كل هذا مما قاله المسيح للناس منها في سور مر تفسيرها ومنها في سور يأتي تفسيرها ونكتفي بالإشارة إلى أرقامها وهي آيات الزخرف ( ٦٣و ٦٤ ) ومريم ( ٣٠ ٣٦ ) والصف ( ٦ ) والمائدة ( ٧٢، ١١٦، ١١٧ ) ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم طائفة من نصوص الأناجيل المتداولة التي فيها تطابق وتساوق مع ما قررته الآيات القرآنية عن شخصية عيسى ودعوته مع تعليقات وافية على هذا الأمر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن الأناجيل الأربعة المتداولة التي يعترف بها النصارى، والتي تروي أقوالا عن عيسى عليه السلام لا تنسب عقيدة التثليث إليه، بل وليست هذه العقيدة واردة فيها بصراحة وحبك. وكل ما فيها ألفاظ الأب والابن وروح القدس بدون جمع وحبك. وإن العقيدة حبكت بشكلها الذي يدين به النصارى اليوم في المجامع الدينية التي كانت تنعقد في زمن الدولة الرومانية بسبب الاختلافات التي كانت تنشب بين رجال الدين النصراني حول مدى هذه الألفاظ. وفي تفسير المنار لرشيد رضا فصل في عقيدة التثليث في سياق تفسير الآيات أورد فيها أقوالا عديدة لعدد من الباحثين في تقرير كون عقيدة التثليث ليست جديدة ونتيجة لما كان من تأويلات لأقوال عيسى المروية في الأناجيل بل هي قديمة تداولتها الأمم قبل النصرانية بقرون كثيرة ؛ حيث كانت عند المصرين والفرس والبراهمة والبوذيين٢ وقد تسربت إلى المسيحية من طريق الرومان الذين كان لهم الحكم في بلاد الشام في وقت ظهور المسيح وبعده إلى أمد طويل فنكتفي بالإشارة إلى ذلك.
وفي كتاب : العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير فصول عديدة مستندة إلى مدونات قديمة وحديثة غريبة كتابها ممن ينتسبون إلى النصرانية أصلا في قدم عقيدة التثليث والفداء والقيامة من الموت وتجسد الإلاه في ناسوت والصلب ومعجزة الولادة، بدون مس الخ بسبيل تقرير كون هذه العقائد مما تسرب إلى النصراينة من العقائد القديمة فنكتفي بالإشارة إلى ذلك كذلك.
ومن العجيب أن يتخطى المبشرون النصارى كل هذه الحقائق ويتجاهلونها، وتصل بهم الجرأة والصفاقة إلى القول : إن عقيدة التوحيد الإسلامية الصافية الخالية من كل تعقيد وشائبة هي بدائية تتناسب مع العرب البدائيين الذين جاء الإسلام إليهم٣ في حين أن عقيدة التثليث فيها معان فلسفية رفيعة تتناسب مع الأمم المتحضرة المثقفة التي انبعثت فيها النصرانية على ما قرأناه في رسالة نشرها مبشر اسمه موفق سعيد وفي كتب مبشر سمى نفسه : الأستاذ حداد اللذان، قالا فيما قالاه : إن الذين نعتهم القرآن بالكفر من النصارى هم نصارى العرب الذين حرفوا العقيدة النصرانية الفلسفية السامية ولم يفهموها. ولقد وقع كلاهما في تناقض مضحك ؛ حيث أرادوا تشبيه التثليث النصراني بمدى الآية القرآنية ﴿ الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم ﴾ على اعتبار أن تعدد الأقانيم هو تعدد صفات لإلاه واحد هذه الجملة هي عنوان من عناوين التوحيد الإسلامي الذي نعتوه بالبدائية.
وهذه المزاعم متهافتة لا تكاد تتحمل تفنيدا. وقد تكفل القرآن بالرد على كل ذلك. وقد ألممنا بهذه المسألة في كتابنا ( القرآن والمبشرون ) ووضعناهما في نصابها الحق بتوفيق الله فنكتفي الإشارة أيضا.
١ انظر تاريخ سورية للدبس المجلد ٣ ج ٢ والمجلد ٤ ج ٢ وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ ص ٣٢٦ وما بعدها وج ٤ ص ٣١٦ وما بعدها وج ٥ ص ٣٧٣ وما بعدها.
٢ نضيف إلى هذا أن في عقائد الآراميين والآشوريين والبابليين والكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعنيين في اليمن شيئا من ذلك حيث كان عندهم ثالوث مؤلف من القمر كزوج والشمس كزوجة وعشتار كابن لهما انظر الأجزاء ١ و٢ و٣ و٤ من كتاب الجنس العربي.
٣ في هذا تجاهل وغباء آخر لأن في القرآن آيات كثيرة صريحة وقطعية بأن الإسلام جاء إلى الناس كافة من مختلف الأجناس والأديان وإلى أهل الكتاب نصا. وفيه آيات بأن الله سيظهر على الدين كله وقد اعتنقه ناس من مختلف الأجناس والأولون والأديان في حياة النبي واستمر بعده كذلك ومن جملتهم أهل كتاب فسقطت حجة كل مكابر.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ( ١٧٤ )فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا( ١٧٥ ) ﴾.
عبارة الآيتين واضحة، وفيها هتاف للمرة الثانية موجه للناس أن قد جاءهم برهان من الله ونور واضح على لسان رسوله. فلم يبق شيء غامض من حقائق ما يجب عليهم أن يسيروا فيه من سبيل الحق. وفيها بشرى للذين آمنوا بالله واعتصموا به وحده استجابة لله ورسوله فهم الذين يدخلهم الله في رحمته ويهديهم إلى طريقه المستقيم.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزولهما والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصالا موضوعيا وتعقيبيا. وأسلوبها قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول. ولعل حكمة عدم ذكر الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا هي في كون المهم في الأمر هو التنويه بالمؤمنين المستجيبين المعتصمين والحث على الاستجابة والاعتصام.
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن هذه الآيات وما قبلها مما هو موجه للنصارى واليهود وللناس انطوت على دلالة نصية حاسمة بأن الدعوة المحمدية موجهة للناس جميعهم على اختلاف نحلهم وأجناسهم. وهذه العمومية موطدة في النصوص المكية وفي غير هذه الآيات من السور المدنية أيضا على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة، وفي هذا وذاك رد حاسم على بعض المستشرقين الذين يحلو لهم أن يزعموا أن فكرة العمومية في الرسالة المحمدية لم تكن صريحة أو على الأقل كانت طارئة ومتأخرة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٤:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ( ١٧٤ )فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا( ١٧٥ ) ﴾.
عبارة الآيتين واضحة، وفيها هتاف للمرة الثانية موجه للناس أن قد جاءهم برهان من الله ونور واضح على لسان رسوله. فلم يبق شيء غامض من حقائق ما يجب عليهم أن يسيروا فيه من سبيل الحق. وفيها بشرى للذين آمنوا بالله واعتصموا به وحده استجابة لله ورسوله فهم الذين يدخلهم الله في رحمته ويهديهم إلى طريقه المستقيم.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزولهما والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصالا موضوعيا وتعقيبيا. وأسلوبها قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول. ولعل حكمة عدم ذكر الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا هي في كون المهم في الأمر هو التنويه بالمؤمنين المستجيبين المعتصمين والحث على الاستجابة والاعتصام.
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن هذه الآيات وما قبلها مما هو موجه للنصارى واليهود وللناس انطوت على دلالة نصية حاسمة بأن الدعوة المحمدية موجهة للناس جميعهم على اختلاف نحلهم وأجناسهم. وهذه العمومية موطدة في النصوص المكية وفي غير هذه الآيات من السور المدنية أيضا على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة، وفي هذا وذاك رد حاسم على بعض المستشرقين الذين يحلو لهم أن يزعموا أن فكرة العمومية في الرسالة المحمدية لم تكن صريحة أو على الأقل كانت طارئة ومتأخرة.

﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ( ١ ) وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ١٧٦ ﴾.
( ١ ) أن تضلوا : بمعنى لئلا تضلوا
تعليق على الآية
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة... ﴾الخ.
في الآية حكاية استفتاء أورد على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن إرث الكلالة، أي الذي يموت ولم يكن له ورثة أصليون أو فرعيون أي آباء وأولاد وجواب بفتوى الله في ذلك ينطوي على القواعد التالية :
١ إذا كان الميت كلالة رجل وله أخت واحدة فلها نصف تركته. وإذا كان له أختان فلهما ثلثاها.
٢ إذا كان الميت امرأة ولها أخ واحد فله جميع تركتها.
٣ إذا كان للميت رجلا كان أو امرأة- إخوة وأخوات عديدة فالتركة تقسم عليهم على أساس أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى.
وقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآية. منها أنها نزلت بناء على سؤال من عمر بن الخطاب أو أنها نزلت في أمر جابر بن عبد الله الذي مرض وعنده مال ولم يكن له إلا شقائق. أو أنها نزلت ؛ لأن المسلمين لم يكتفوا بالآية ( ١٢ ) من السورة التي فيها تشريع في صدد الكلالة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم في وجوه أخرى عنها. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والمجمع عليه أن حكم الآية ( ١٢ ) هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات من أمه. وأن حكم الآية التي نحن في صددها هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات أشقاء أو من أبيه. وهذا مستلهم من نص الآيتين. فالأولى تعطي الأخوة والأخوات الثلث وهذه تعطيهم جميع التركة إن كان فيهم ذكور وثلثيها إذا كان شقيقتان أو أكثر. بحيث يصح القول إن المسلمين استعظموا أن يكون نصيب الذي يموت أخوهم كلالة واحدا سواء أكانوا من أمه أم أشقاءه فاستفتوا النبي فأنزل الله الآية.
ويلحظ أن يبقى بواق في حالة إرث الأخت والأختين لأخيهما الشقيق.
ومثل هذه البواقي ملموح في آيات المواريث الواردة في أول هذه السورة... وقد تكفلت السنة النبوية إيضاح ذلك على ما شرحناه سابقا وهذا ينسحب على هذه الآية.
ولم نطلع على أثر نبوي أو صحابي في أمر الذي يموت كلالة إذا لم يكن له أشقاء وله أخوة من أبيه فقط. أو إذا كان له أشقاء وله في نفس الوقت أخوة من أبيه أيضا. وفي موطأ مالك ما يفيد أن من كان له أخوة أشقاء ثم أخوة لأبيه فقط.
فالأشقاء يحجبون الأخوة للأب فقط. وقد قال مالك : إنه لا يعرف خلافا لذلك عند أهل العلم. أيضا وفي صدد حديث الكلالة عن أخوة للأب فقط جاء في الموطأ أيضا " إن مما لا خلاف عليه عند أهل العلم أن الأخ للأب أولى من بني الأخ لأم وأب. وهذا يعني أن الوارث هو الأخوة من أب إذا لم يكن للميت أشقاء من أم وأب، وأنهم يحجبون أبناء الأخوة الأشقاء، والسداد والحق واضحان في هذا القول الذي يتفق فيه أهل العلم والذي يحتمل أن يكون مستندا إلى آثار نبوية وصحابية وفي الموطأ أولويات مستندة كذلك إلى اتفاق أهل العلم. رأينا من المفيد إيرادها وفيها حق وسداد كما هو المتبادر وهي : إن بني الأخ للأب والأم أولى من بني الأخ للأب. وبني الأخ للأب أولى من أبناء بني الأخ للأب والأم. وبني الأخ للأب أولى من العم أخي الأب للأب والأم. والعم أخو الأب والأم أولى من العم أخي الأب للأب. والعم أخو العم للأب أولى من بني العم أخي الأب للأم والأب.
وبني العم للأب والأم أولى من عم الأب أخي أبي الأب للأب والأم١.
وهناك مسألة أخرى وهي ما إذا كانت الآية التي نحن في صددها والتي تعطي جميع التركة للأشقاء إذا كانوا أكثر من رجل وامرأة وتعطي جميع تركة الأخت لشقيقها وثلثي تركة الشقيق لشقيقتيه ونصفها لشقيقته. نسخت حكم الآية ( ١٢ ) التي تعطي سدس التركة للأخ أو الأخت لأم وثلثها إذا كانوا أكثر. والجاري المتفق عليه أنها لم تنسخها فالآية ( ١٢ ) قد فرضت للأخوة للأم فرضا فيبقى وما بقي بعد ذلك يعطى للأشقاء أو الأخوة من أب على الوجه المشروح بالنسبة للآية التي نحن في صددها.
والمتفق والجاري أن نصيب الزوجة من زوجها الذي يموت كلالة يبقى قائما مع الآية التي نحن في صددها ؛ لأنه مفروض في القرآن فرضا. وهذا مثل ذاك. والله تعالى أعلم.
هذا ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة من طرق مختلفة في صيغ متقاربة تفيد أن الآية التي نحن في صددها آخر آية نزلت من القرآن. وقد روى الشيخان والترمذي صيغة من هذه الرواية عن البراء قال :( آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾٢ هذا مع التنبيه على أن هناك حديثا يرويه البخاري عن ابن عباس جاء فيه ( آخر آية نزلت على النبي آية الربا ) ٣ ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية التي نحن في صددها من أواخر ما نزل من آيات القرآن إن لم تكن آخرها. وقد يكون وضعها في آخر سورة النساء دون أن يكون لها أي صلة بالآيات السابقة لها دليلا قويا على ذلك. ثم على أن الآية نزلت بعد أن تم ترتيب وتأليف هذه السورة، وعلى أن ذلك كان بأمر النبي صلى الله عليه وسام وبالتالي على صحة ما ورد من آثار وأقوال بأن آيات السور القرآنية قد رتبت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره ؛ لأنه لو كان جرى ذلك بعده اجتهادا من أصحاب رسول الله كما يقول بعضهم لكان من المعقول أن توضع الآية في سياق آيات المواريث أو بعدها بقليل.
وننبه على أن هناك أحاديث صحيحة تذكر أن آخر سورة نزلت هي سورة براءة أو سورة النصر ولا نرى تعارضا. فالأحاديث السابقة هي في صدد نزول آيات، وهذه في صدد نزول سور، وسوف نزيد هذا شرحا في مناسباته إن شاء الله.
١ انظر كل ما تقدم في الموطأ ج٢ ص ١٣.
٢ التاج ج ٤ ص ٨٩.
٣ المصدر نفسه ص ٦٢ والمقصود من آية الربا هي على الأرجح آيات سورة البقرة (٢٧٥ ـ ٢٨٠) وقد نبهنا على ذلك في مناسبته السابقة.
Icon