تفسير سورة النساء

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مدنية إلا آية واحدة، نزلت بمكة عام الفتح، وهي ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾[ النساء : ٥٨ ] الآية، وفي البخاري ( عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تعني قد بنى بها.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة النّساء مدنيّة
إلّا آية واحدة نزلت بمكّة عام الفتح، وهي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها... [النساء: ٥٨] الآية: وفي البخاريُّ: عَن عائشَة (رضي الله عنها) أنَّها قالت:
ما نزلت سورة النّساء إلّا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تعني: قد بنى بها «١».
[سورة النساء (٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ... الآية: في الآية تنبيهٌ على الصانع، وعلى افتتاحِ الوجودِ، وفيها حضٌّ على التواصل لحرمةِ هذا النَّسَب، والمرادُ بالنَّفْس آدم صلّى الله عليه وسلّم، وقال: واحِدَةٍ على تأنيث لفظ النّفس، وزَوْجَها، يعني: حَوَّاء، قال ابن عَبَّاس وغيره: خَلَق اللَّه آدم وَحِشاً في الجنة وحده، ثم نام، فانتزع اللَّهُ إحدى أضلاعه القصيرى مِنْ شِمَاله «٢»، وقيل: مِنْ يمينه، فَخَلَقَ منها حَوَّاء، ويعضد هذا- الحديث الصحيح في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ... » الحديث «٣»، وَبَثَّ: معناه: نَشَرَ كقوله تعالى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤] أي: المنتشر، وفي تكرير الأمر بالتقوى
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٠٥)، وعزاه للبخاري.
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٤).
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ٤١٨) في أحاديث الأنبياء: باب خلق آدم وذريته (٣٣٣١)، و (٩/ ١٦٠) في النكاح: باب المداراة مع النساء (٥١٨٤)، وباب الوصاة بالنساء (٥١٨٦)، ومسلم (٢/ ١٠٩٠- ١٠٩١) في الرضاع، باب الوصية بالنساء (١٤٦٨)، والترمذي (٣/ ٤٩٣- ٤٩٤) في الطلاق: باب ما جاء في مداراة النساء (١١٨٨)، وأحمد (٢/ ٤٢٨، ٤٤٩، ٤٩٧)، والدارمي (٢/ ١٤٨) في النكاح: باب مداراة الرجل أهله، من طرق عن أبي هريرة رفعه- واللفظ لمسلم-: «أن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها».
وقال الترمذي: حسن صحيح، وإسناده جيد.
ويشهد له حديث سمرة رواه أحمد (٥/ ٨)، وحديث أبي ذر عند أحمد (٥/ ١٥٠- ١٥١)، والدارمي (٢/ ١٤٧- ١٤٨) وحديث عائشة رواه أحمد (٦/ ٢٧٩).
159
تأكيد لنفوس المأمورين، وتَسائَلُونَ: معْنَاه: تتعاطَفُون به، فيقول أحدكم: أسألكَ باللَّه، وقوله: وَالْأَرْحامَ، أي: واتقوا الأرحَامَ، وقرأ حمزةُ «والأَرْحَامِ» (بالخفض) عطفًا على الضميرِ كقولهم: أسألك باللَّه وبالرَّحِمِ قاله مجاهد وغيره.
قال ع «١» : وهذه القراءةُ عند نحاة البَصْرة لا تَجُوز لأنه لا يجوزُ عندهم أنْ يعطف ظَاهِرٌ على مضمرٍ مخفوضٍ إلا في ضرورة الشِّعْرِ كقوله: [البسيط]
................... فاذهب فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ «٢»
لأن الضميرَ المخفوضَ لا ينفصلُ فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرفٍ، واستسهلَ بعضُ النحاة هذه القراءة. انتهى كلام ع.
قال ص: والصحيحُ جوازُ العَطْف على الضميرِ المجرورِ من غير إعادة الجَارِّ كمذهب الكوفيِّين، ولا تُرَدُّ القراءة المتواترةُ بمثل مذهب البصريّين «٣»، قال: وقد أمعنّا
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤).
(٢) عجز بيت، وصدره:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا.............................
وهو بلا نسبة في «الإنصاف» (ص ٤٦٤) و «خزانة الأدب» (٥/ ١٢٣- ١٢٦ ١٢٨، ١٢٩، ١٣١) و «شرح الأشموني» (٢/ ٤٣٠) و «الدرر» (٢/ ٨١) (٦/ ١٥١) و «شرح أبيات سيبويه» (٢/ ٢٠٧) و «شرح ابن عقيل» (ص ٥٠٣) و «شرح عمدة الحافظ» (ص ٦٦٢) و «شرح المفصّل» (٣/ ٧٨، ٧٩) و «الكتاب» (٢/ ٣٩٢) و «اللمع في العربية» (ص ١٨٥) و «المقاصد النحوية» (٤/ ١٦٣) و «المقرب» (١/ ٢٣٤) و «همع الهوامع» (٢/ ١٣٩).
(٣) اختلف النحاة في العطف على الضمير المجرور على ثلاثة مذاهب:
أحدها: وهو مذهب الجمهور من البصريين-: وجوب إعادة الجار إلا في ضرورة.
الثاني: أنه يجوز ذلك في السّعة مطلقا، وهو مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيون.
والثالث: التفصيل، وهو إن أكّد الضمير جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو: «مررت بك نفسك وزيد»، وإلا فلا يجوز إلا ضرورة، وهو قول الجرميّ. والذي ينبغي أنه يجوز مطلقا لكثرة السماع الوارد به، وضعف دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أما السّماع: ففي النثر كقولهم: «ما فيها غيره وفرسه» بجرّ «فرسه» عطفا على الهاء في «غيره». وقوله:
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ في قراءة جماعة كثيرة، منهم حمزة. وفي النظم وهو كثير جدا، فمنه قول العباس بن مرداس: [الوافر]
أكرّ على الكتيبة لا أبالي أفيها كان حتفي أم سواها
وأمّا القياس فلأنه تابع من التوابع الخمسة، فكما يؤكّد الضمير المجرور ويبدل منه فكذلك يعطف عليه.
وينظر: «الدر المصون» (١/ ٥٢٩- ٥٣١)، و «البحر المحيط» (٢/ ١٥٥).
160
الكلام عليه في قوله تعالى: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ٢١٧] انتهى، وهو حسنٌ، ونحوه للإمام الفَخْر «١».
وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً: ضرْبٌ من الوعيدِ، قال المُحَاسِبِيُّ:
سألتُ أبا جَعْفَرٍ محمدَ بْنَ موسى، فقلْتُ: أجمل حالاتِ العارفين ما هِيَ؟ فقال: إن الحال التي تَجْمَعُ لك الحالاتِ المَحْمُودةَ كلَّها في حالةٍ واحدةٍ هي المراقبةُ، فَألْزِمْ نفْسَكَ، وقَلْبَكَ دَوَامَ العِلْمِ بنَظَرِ اللَّه إليك في حركَتِك، وسكونِكِ، وجميعِ أحوالِكِ/ فإنَّك بعَيْنِ اللَّهِ (عزَّ وجلَّ) في جميعِ تقلُّباتك، وإنَّك في قبضته حيث كُنْتَ، وإنَّ عين اللَّه على قلبك، ونَاظِرٌ إلى سِرِّك وعلانيتِكَ، فهذه الصفةُ، يا فتى، بحْرٌ ليس له شطٌّ، بَحْر تجري منْه السواقِي والأنهارُ، وتسيرُ فيه السُّفُن إلى معادِنِ الغنيمةِ. انتهى من كتاب «القصد إلى الله سبحانه».
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
وقوله سبحانه: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ... الآية: قال ابنُ زَيْدٍ: هذه مخاطبةٌ لِمَنْ كانَتْ عادتُهُ من العَرَب ألاَّ يَرِثَ الصَّغيرُ من الأولاد «٢»، وقالتْ طائفة: هذه مخاطبةٌ للأوصياءِ.
قال ابنُ العَرَبِيِّ «٣» : وذلك عند الابتلاء والإرشاد. انتهى.
وقوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، قال ابن المسيِّب وغيره: هو ما كان يفعله بعضهم من إبدال الشاة السَّمينة مِنْ مال اليتيم بالهَزِيلة مِنْ ماله، والدِّرْهَمِ الطَّيِّبِ بالزِّائِفِ، وقيل «٤» : المراد: لا تأكلوا أموالهم خبيثًا، وتَدَعُوا أموالكم طيبًا، وقيل غيرُ هذا.
والطَّيِّب هنا: الحلالُ، والخبيث: الحرام.
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (٩/ ١٢٩).
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٥٧١) برقم (٨٤٤٦)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٠٨)، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٣٠٨).
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٥٧١) برقم (٨٤٤١)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٥) والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٠٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
161
وقوله: إِلى أَمْوالِكُمْ: التقدير: ولا تُضِيفُوا أموالهم إلى أموالكم في الأكْل، والضميرُ في «إنَّهُ» : عائدٌ على الأَكْلِ، والحُوبُ: الإثم قاله ابن عباس وغيره «١» وتَحَوَّبَ الرَّجُلُ، إذا ألْقى الحُوبَ عن نَفْسه، وكذلك تَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ فَإن هذه الأربعة بخلافِ «تَفَعَّلَ» كلِّه لأنَّ «تَفَعَّلَ» معناه: الدُّخُول في الشَّيْء ك «تَعَبَّد»، و «تَكَسَّبَ»، وما أشبهه ويلحق بهذه الأربعةِ «تَفَكَّهُونَ» في قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: ٦٥] أي: تطرّحون الفاكهة عَنْ أنفسكم.
وقوله تعالى: كَبِيراً: نصٌّ على أنَّ أكل مال اليتيم مِنَ الكَبَائر.
وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى... الآية: قال أبو عبيدة: خفتم هاهنا بمعنى أيْقَنْتُمْ.
قال ع «٢» : وما قاله غيرُ صحيحٍ، ولا يكون الخَوْفُ بمعنى اليَقِينِ بوجْهٍ، وإنما هو من أَفْعَالِ التوقُّع، إلاَّ أنه قد يَمِيلُ فيه الظنُّ إلى إحدى الجِهَتَيْنِ قُلْتُ: وكذا رَدَّ الدَّاوُودِيُّ على أبي عْبَيْدة، ولفظه: وعن أبي عُبَيْدة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا: مجازه:
أيْقَنْتُمْ «٣»، قال أبو جعفر «٤» : بل هو على ظاهر الكلمة. انتهى.
وتُقْسِطُوا: معناه: تَعْدِلُوا يقال: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إذا عَدَلَ، وقَسَطَ إذا جَار قالتْ عائشةُ (رضي اللَّه عنها) : نزَلَتْ هذه الآيةُ في أولياء اليتامَى الَّذِينَ يُعْجِبُهم جمالُ وليَّاتهم، فيريدُونَ أنْ يبخَسُوهُنَّ في المَهْر لمكانِ وَلاَيَتِهِمْ عَلَيْهِنَّ، فقيل لهم: اقسطوا في مهورِهِنَّ، فمَنْ خَافَ ألاَّ يُقْسطَ، فليتزوَّج ما طَابَ له مِنَ الأجنبيَّات اللَّوَاتِي يُكَايِسْنَ «٥» في حقوقِهِنَّ، وقاله ربيعة.
قال الحسَنُ وغيره: ما طابَ: معناه «٦» ما حلّ.
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٦).
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٦).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٦).
(٤) ينظر: الطبري (٣/ ٥٧٩).
(٥) الكيس: الخفّة والتّوقّد، والكيّس: العاقل، ويقال: كايست فلانا فكسته أكيسه كيسا: أي غلبته بالكيس، وكنت أكيس منه.
ينظر: «لسان العرب» (٣٩٦٦، ٣٩٦٧).
(٦) أخرجه الطبري (٣/ ٥٧٧) برقم (٨٤٧٩)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٠)، وعزاه لابن جرير.
162
وقيلَ: «ما» ظرفيةٌ، أي: ما دُمْتُم تستحسنُون النِّكَاحَ، وضُعِّفَ قُلْتُ: وفي تضعيفه نَظَرٌ، فتأمَّله.
قال الإمام الفَخْر: وفي تفسير «١» مَا طابَ بِما حَلَّ- نَظَرٌ وذلك أنَّ قوله تعالى:
فَانْكِحُوا: أمْرُ إباحةٍ، فلو كان المرادُ بقوله: مَا طابَ لَكُمْ، أي: ما حَلَّ لكم- لتنزَّلت الآية منزلةَ ما يُقَالُ: أبَحْنَا لكم نِكَاحَ مَنْ يكون نكاحُها مباحاً لكم، وذلك يُخْرِجُ الآيةَ عن الفائدةِ، ويصيِّرها مُجْمَلَةً لا محالةَ، أما إذا حَمَلْنا «طَابَ» على استطابةِ النَّفْسِ، ومَيْلِ القلبِ، كانَتِ الآيةُ عامَّة دخَلَها التخْصيصُ، وقد ثَبَتَ في أصول الفقْهِ أنه إذا وقع التعارُضُ بَيْن الإجمال/ والتَّخْصِيص، كان رَفْع الإجمال أولى لأنَّ العامَّ المخصَّص حُجَّةٌ في غَيْر محلِّ التخصيص «٢»، والمُجْمَلُ لا يكونُ حجّة أصلا. انتهى، وهو حسن،
(١) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٠/ ١٤١).
(٢) اقتضت حكمة الله أن تكون التكاليف المشروعة في كتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم موضوعة على طريقة العموم وكثيرا ما تكون كذلك في البعض، وعلى طريقة الخصوص في البعض الآخر..
غير أن أغلب ما احتواه القرآن من عام وما اشتملت عليه السنة منه قد تطرق إليه التخصيص، فأخرجه عن عمومه وشموله لجميع الأفراد.. وحكم العام قبل التخصيص دال على أفراده قطعا عند البعض، وظنّا عند آخرين... ودليل التخصيص تارة يكون عقلا، وتارة يكون كلاما، وتارة لا يكون عقلا ولا كلاما، كالحس، والزيادة، والنقصان، فإن كان المخصص هو العقل، كان العام قطعيا في الباقي إذ ليس فيه ما يورث الشبهة لأن ما يقتضي العقل إخراجه فهو مخرج وغيره باق على ما كان إذ هو في حكم الاستثناء لكنه حذف اعتمادا على العقل، فمثلا ليس في قوله الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] ونظائر ذلك- شبهة في دلالته مع خروج الصبي والمجنون بالعقل، وإلا لما أجمعوا على كفر من جحد العمل بمقتضى الخطابات الواردة بالفرائض من مثل ما معنا، وليس لقائل أن يقول: من الجائز أن تكون قطعيتها بواسطة الإجماع لأنا نقول: هذه الخطابات قطعية قبل أن يتحقق الإجماع.
هكذا أطلق صدر الشريعة في «توضيحه»، ولم يفصل بين ما إذا كان المخرج بالعقل معلوما أو مجهولا إذ العقل قد يقتضي إخراج بعض معلوم، وقد يقتضي إخراج بعض مجهول، بأن يكون الحكم مما يمتنع على الكل دون البعض مثل: «الرجال في الدار».
وقد نبه صاحب «التلويح» وغيره على أن المخرج به إن كان مجهولا فهو لا يصلح حجة حتى يتبين المراد منه لأن جهالة المخرج أورثت جهالة في الباقي..
ولا شك أن القول بالقطعية إنما يكون على مذهب من يرى قطعية العام قبل التخصيص، أما من يرى ظنيته فظاهر أنه يكون ظنيا بعده كما كان قبله لأن الاحتمال الذي كان من أجله الحكم بالظنية عندهم باق بعد التخصيص بالعقل، فالحق أن إطلاق القول بالقطعية ليس على ما ينبغي، اللهم إلا إن كان الإطلاق بناء على مذهبه.
وإن كان المخصص غير العقل والكلام فالظاهر أنه لا يبقى قطعيا لاختلاف العادات وخفاء الزيادة والنقصان وعدم إطلاع الحس على تفاصيل الأشياء، اللهم إلا أن يعلم القدر المخصوص قطعا. -
163
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: موضعها من الإعراب نَصْبٌ على البدل من «مَا طَابَ»، وهي نكراتٌ لا تنصرف لأنها معدولة وصفة.
- وإن كان المخصص كلاما وكان مبهما كما لو قال: «أحسن إلى الناس» ثم يقول عقيب ذلك: «لا تحسن إلى بعضهم»، وكما لو قال: «اقتلوا المشركين إلا بعضهم»، فقد نقل الآمدي في «الإحكام» اتفاق الكل على أنه لا يبقى حجة على معنى أن يتوقف في الاحتجاج به حتى يجيء البيان لأنه قد صار مجملا، وقد جرى على هذا النحو من حكاية الاتفاق العضد حيث قال: قد اختلف في العام المخصص بمبين هل هو حجة فيما بقي أم لا، أما المخصص بمجمل نحو هذا العام مخصوص أو لم يرد به كل ما يتناوله، فليس حجة بالاتفاق. وحكى في «إرشاد الفحول» أن ممن نقل الإجماع على هذا جماعة، منهم:
القاضي أبو بكر، وابن السمعاني، والأصفهاني..
وفي حكاية الاتفاق في هذا المقام نظر، ففي «المسلّم» وقال الجمهور: العام المخصوص بمبهم ليس حجة خلافا لفخر الإسلام. قال شارحه: «والإمام شمس الأئمة، والقاضي الإمام أبي زيد، وأكثر معتبري مشايخنا في المستقل بل لا مخصص عندهم إلا هو، فإنه عندهم حجة ظنية، وقيل: إذا كان المخصص مستقلا مبهما يسقط المبهم، ويبقى العام كما كان، وإليه مال أبو المعين من الحنفية.
وعبارة «كشف الأسرار»
على «البزدوي» : والصحيح من المذهب أن العام يبقى حجة بعد الخصوص، معلوما كان المخصص أو مجهولا، إلا أن فيه ضرب شبهة.
ثم حكى أن القاضي الإمام أبا زيد ذكر في «التقويم» أن الذي ثبت عنده من مذهب السلف أنه يبقى على عمومه بعد التخصيص.
وفي «أصول الجصاص» :«والذي عندي من مذهب أصحابنا في هذا المعنى أن تخصيص العموم لا يمنع الاستدلال به فيما عدا المخصوص، وعليه يدل أصولهم واحتجاجهم للمسائل».
ونقل صاحب «إرشاد الفحول» عن الزركشي في «البحر» أن ما نقلوه من الاتفاق، فليس بصحيح.
وقال المحلّي بعد حكاية الخلاف في المعين: وما اقتضاه كلام الآمدي وغيره من الاتفاق على أنه في المبهم غير حجة مدفوع بنقل ابن برهان وغيره الخلاف فيه.
والذي تطمئن النفس إليه بصدد حكاية الاتفاق على عدم الحجية إن خص بمبهم وأقوال من نقلنا عنهم الخلاف في الحجية أن حكاية الاتفاق على عدم حجيته فيما كان غير مستقل، يرشح ذلك تمثيل الأسنوي بعد أن ذكر ما قاله الآمدي وغيره من الاتفاق على عدم الحجية بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: ١] فإن المخصص فيه مبهم غير مستقل، ولذلك قال البدخشي: العام إن خص بغير مستقل من اللفظ مبهم نحو: «اقتلوا المشركين إلا بعضهم»، فليس بحجة وفاقا، لأن المجموع كلام واحد لكون الغير المستقل بمنزلة وصف قائم بالأول، فتسري جهالته إليه، فيتوقف على البيان. اهـ.
فخص موضع الوفاق بالمخصص المبهم غير المستقل..
أما المستقل فمما تقدم نعلم أن للأصوليين فيه أقوالا ثلاثة:
الأول: عدم الحجية مطلقا، وإليه ذهب الجمهور...
الثاني: حجية ظنية، وإليه ذهب فخر الإسلام، وشمس الأئمة، والقاضي الإمام أبو زيد.
الثالث: سقوط المبهم كأن لم يكن وبقاء العام كما كان من كونه حجة قطعية كما هو عند الحنفية، أو ظنية كما هو عند الشافعية، وإليه مال أبو المعين من الحنفية. -
164
وقوله: فَواحِدَةً، أي: فانكحوا واحدةً أو ما ملَكَتْ أيْمَانُكُم، يريد به الإماءَ، والمعنى: إنْ خَافَ ألاَّ يَعْدِلَ في عِشْرةٍ واحدةٍ، فما ملكت يمينه، وأسند المِلْكَ إلى اليمين إذ هي صفةُ مَدْحٍ، واليمينُ مخصوصةٌ بالمحاسِنِ أَلاَ ترى أنّها المنفقة كما قال
- ونذكر آراءهم في المخصص المبين وهي كما جاءت في كتبهم من تقدم منهم ومن تأخر ستة أقوال:
الأول: فمن ذاهب إلى أنه حجة في الباقي، وهم الجمهور، غير أن الذين يرون قطعية العام قبل التخصيص يرون ظنيته هنا به.
الثاني: ومن ذاهب إلى أنه ليس بحجة مطلقا فيما بقي، وإليه ذهب أبو ثور في رواية، وفي أخرى أنه ليس بحجة إلا في أخص الخصوص، وهو رأي الكرخي والجرجاني وعيسى بن أبان، كذا في «التحرير». وفي «أصول الجصاص» : كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول في العام إذا ثبت خصوصه:
سقط الاستدلال باللفظ، وصار حكمه موقوفا على دلالة أخرى من غيره، فيصير بمنزلة اللفظ المجمل المفتقر إلى البيان. وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ إذا أوجب التخصيص، فيقول: إن الاستثناء غير مانع من بقاء حكم اللفظ فيما عدا المستثنى لأن الاستثناء لا يجعل اللفظ مجازا ولا يزيله عن حقيقته. ودلالة التخصيص من غير جهة اللفظ تجعل اللفظ مجازا وتزيله عن حقيقته لأن الحقيقة هي العموم، وكان يقول: هذا مذهب، ولا يمكنني أن أعزيه إلى أصحابي. وكان محمد بن شجاع يذهب هذا المذهب، وقد ذكره في بعض كتبه. اهـ.
ثالثا: ومنهم من ذهب إلى أن العام إن كان منبئا عن الباقي ودالا عليه بسرعة، كلفظ «المشركين» في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] إذا خص بأهل الذمة، كان حجة لأن المراد من «المشركين» بعد تخصيصه بأهل الذمة ظاهر ينتقل الذهن بسرعة إلى أن المراد منه حينئذ المربيون. وأما إذا كان لا يدل عليه بسرعة لا يكون حجة لتوقفه على البيان، وذلك كلفظ «السارق» في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨] فإنه بعد تخصيصه بذي الشبهة لا يعلم المراد منه لأنه يحتمل سرقة نصاب وغيره، من حرز أم لا، فيحتاج إلى بيان الشارع، فلا ينتقل الذهن إلى سارق نصاب من حرز قبل بيان الشارع. وإلى هذا الرأي ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي.
رابعا: وقال القاضي عبد الجبار: إن كان العام قبل التخصيص ظاهرا لا يتوقف على البيان ولا يحتاج إليه، فهو حجة كما في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فإنه بين في أفراده قبل إخراج أهل الذمة. وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه، فليس بحجة كما في قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء: ٧٧] فإنه لا يدري المراد منه قبل بيان الشارع بقوله وفعله، بل هو مفتقر إلى البيان قبل إخراج الحائض، ولذلك بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفعله فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وهذا المذهب قريب من سابقه.
خامسا: ومن الناس من ذهب إلى أنه حجة في أقل الجمع، وهو اثنان أو ثلاثة- على الخلاف- ولا يكون حجة فيما زاد على ذلك. قال في «إرشاد الفحول» : حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر وابن القشيري، وقال: إنه تحكم. وقال الصفي الهندي: لعله قول من لا يجوز تخصيص التثنية، وحكى الغزالي في «المستصفى» أن فريقا من القدرية ذهبوا إلى هذا المذهب.
سادسا: وذهب البلخي (وهو ممن يرى أن الدليل المتصل كالشرط والصفة تخصيص) إلى أن العام إن خص بمتصل فهو حجة نحو: «اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة»، وإن خص بمنفصل لم يكن حجة.
وإذا ما علمنا أن البلخي يرى المتصل تخصيصا، وأن الكرخي لا يراه- يظهر لنا الفرق بين ما ذهب إليه-
165
- عليه السلام-: «حتى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» «١»، وهي المعاهِدَةُ المُبَايِعَة.
قال ابن العَرَبِيِّ «٢» : قال علماؤُنَا: وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مِلْكَ اليمينِ لا حَقَّ له في الوَطْءِ والقَسْمِ «٣» لأنَّ المعنى: فَإنْ خفتم ألاَّ تعدِلُوا في القَسْم، فواحدةٌ، أو ما مَلَكَتْ أيمانكم، فجعل سبحانه مِلْكَ اليمينِ كلَّه بمنزلةِ الوَاحِدَة، فانتفى بذلك أنْ يكون للأَمَةِ حَقٌّ في وَطْءٍ أوْ قَسْم. انتهى من «الأحكام».
وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا، أدنى: معناه: أقرب ألاَّ تعولُوا، أيْ: ألاَّ تميلوا، قاله ابن عباس وغيره «٤»، وقالَتْ فرقة: معناه: أدنى ألاَّ يكثر عِيَالُكُمْ «٥»، وقَدَحَ في هذا الزَّجَّاج وغيره.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
وقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الآيةُ خطابٌ للأزواج «٦» وقال أبو صَالِحٍ: هي خطابٌ لأوليَاءِ النِّسَاءِ لأنَّ عادَةَ بَعْض العرب
- البلخي وما ذهب إليه الكرخي، ويكون للتفصيل وجه عند البلخي، ولا وجه له عند الكرخي، وعليه فما في «التقرير والتحبير» شرح «التحرير» من أن قول البلخي هو بعينه قول الكرخي غير وجيه، اللهم إلا باعتبار المآل والنتيجة إذ على المذهبين المنفصل يجعل العام غير حجة في الباقي، والمتصل يجعله حجة وإن سماه البلخي تخصيصا دون الثاني.
ينظر: «العام» لشيخنا محمد حسن ص ٢١٧ وما بعدها.
(١) تقدم تخريجه، وهو حديث: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظل إلا ظله».
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٣١٤).
(٣) القسم والنشوز:
القسم: بفتح القاف مع سكون السين بمعنى العدل بين الزوجات في المبيت، وهو المراد هنا، ومع فتح السين: اليمين، وبكسر القاف مع سكون السين بمعنى: الحظ، والنصيب، ومع فتح السين: جمع قسمة، وقد تطلق على النصيب أيضا. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٥٨٢) برقم (٨٥٠٢)، (٨٥٠٣).
وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١١)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في «المصنف»، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.
(٥) أخرجه الطبري (٣/ ٥٨٣) برقم (٨٥٠٧) عن ابن زيد، وذكره البغوي (١/ ٣٩٢) عن الشافعي.
وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٨) عن زيد بن أسلم، وابن زيد، والشافعي.
وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١١)، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
(٦) ذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (٢/ ٨).
166
كانَتْ أنْ يأكل وليُّ المرأة مَهْرها، فرفَعَ اللَّه ذلكَ بالإسْلام «١»، وقيل: إن الآية في المتشاغِرِينَ «٢» الذين يتزوَّجون امرأةً بأخرى، فُأمِرُوا أنْ يضربوا المهور.
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٥٨٣) برقم (٨٥١٢)، وذكره البغوي (١/ ٣٩٢)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٢)، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) الشّغار في اللغة: الرفع، من قولهم: شغر البلد عن السلطان، إذا خلا عنه لخلوه عن الصداق، أو لخلوه عن بعض الشرائط. وقيل: مأخوذ من قولهم: شغر الكلب برجله، إذا رفعها ليبول، كأن كلّا من الوليين يقول للآخر: لا تدفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك. وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح للشغار وتغليظ على فاعله.
وأما معناه شرعا، فهو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته ليس عنهما صداق. وقد قال عياض عن بعض العلماء: كان الشغار من نكاح الجاهلية يقول: شاغرني وليتي بوليتك، أي عاوضني جماعا بجماع.
وقسم علماء المالكية الشغار إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صريح الشغار، وهو أن يقول الرجل لصاحبه: زوجني ابنتك مثلا على أن أزوجك ابنتي مثلا من غير صداق.
الثاني: وجه الشغار، وهو أن يقول له زوجني ابنتك بمائة على أن أزوجك ابنتي بمائة.
الثالث: المركب منهما، وهو أن يقول له: زوجني ابنتك بلا شيء على أن أزوجك ابنتي بمائة، فالصريح هو الخالي من الصداق من الجانبين، والوجه هو المسمى فيه الصداق من الجانبين، والمركب هو المسمى فيه لواحدة دون الثانية.
ويحرم الإقدام عليه بجميع أنواعه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا شغار في الإسلام».
ولما كان المالكية قد قسموا الشغار إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة نبين الحكم عندهم في هذه الأقسام: أما صريح الشغار فقالوا: يفسخ مطلقا قبل الدخول وبعده، ولو ولدت الأولاد، ولا شيء للمرأة قبل الدخول، ولها بعده صداق المثل، وأما وجه الشغار، فقالوا: يفسخ قبل الدخول، ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل. وأما المركب منهما، فيفسخ قبل الدخول في كل، ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت نكاح المسمى لها بعد الدخول بالأكثر من المسمى وصداق المثل، ويفسخ نكاح من لم يسم لها، ولها صداق المثل.
وقد اختلف الفقهاء في نكاح الشغار هل هو صحيح أو فاسد وحصر الخلاف في مسألتين:
المسألة الأولى: إذا لم يسميا صداقا لواحدة منهما، بل يجعلان بضع كل صداقا للأخرى، وهو المسمى بصريح الشغار. وقد اختلف الفقهاء في صحة هذا النكاح وفساده.
فذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشافعية إلى القول بفساد النكاح في هذه الحالة، إلا أن الشافعية كما يفهم مما جاء في كتبهم يقولون: إن محل فساد النكاح في هذه الحالة إذا جعل بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى. وأما إذا لم يجعل بضع كل منهما صداقا للأخرى، فالأصح عندهم الصحة للنكاحين.
وذهب الحنفية إلى القول بصحة النكاح، وأنه يجب لكل واحدة منهما مهر مثلها، وحكي هذا عن عطاء، وعمرو بن دينار، ومكحول، والزهري، والثوري.
استدل الحنفية ومن معهم بما يأتي: قالوا: لما جعلا بضع كل منهما صداقا للأخرى، فقد سميا ما لا-
167
..
- يصلح صداقا، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، وإذا كان الأمر كذلك صح النكاح، ووجب مهر المثل، كما لو سميا خمرا أو خنزيرا، فيكون حاصل هذا الدليل أن فساده من جهة المهر، وفساد المهر لا يوجب فساد العقد.
ويرد هذا الدليل بأن الفساد هنا ليس من جهة المهر بل فساده من جهة أن أوقفه على شرط فاسد يوجب فساد العقد إذ فيه التشريك في البضع لأن كل واحد منهما جعل بضع موليته موردا للنكاح وصداقا للأخرى، فأشبه تزويجها من رجلين، وهو باطل، فكذلك ما هنا، على أن هذا معقول في مقابلة النص، وهو باطل.
واستدل المالكية ومن معهم بالسنة والمعقول: أما السنة، فأولا ما روي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشغار» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الشغار، والنهي يدل على فساد المنهي عنه فوجب أن يكون الشغار فاسدا. وهذا الذي روي عن أبي هريرة روي مثله أيضا صحيحا مسندا عن ابن عمر فقد روي عنه أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الشغار. متفق عليه. وروي أيضا من طريق جابر وأنس.
ثانيا: ما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا شغار في الإسلام» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا شغار في الإسلام» وهذا يحتمل أمرين نفي وجود الشغار في الإسلام، ونفي صحته، ولا شك أن وجوده في الإسلام دافع فتعين حمل الكلام على نفي الصحة.
وأما المعقول، فقد قالوا فيه: إن كان واحد منهما جعل بضع موليته موردا للنكاح وصداقا للأخرى، وذلك يوجب فساد العقد كما لو زوج موليته من رجلين.
وقد قيل للمالكية ومن معهم في الأحاديث ما يأتي: أولا: إن النهي عن نكاح الشغار، ونكاح الشغار هو النكاح الخالي عن العوض، وما هنا نكاح بعوض وهو مهر المثل فلا يكون شغارا. وترد هذه المناقشة بأن القول بأن هذا نكاح بعوض وهو من المثل غير مستقيم فإن مهر المثل إنما أوجبتموه أنتم لتصحيح مذهبكم، وذلك أن الواقع في العقد إنما هو جعل بضع كل منهما في مقابلة بضع الأخرى.
وثانيا: أن النهي يحمل على الكراهة. ويرد هذا بأن الأصل في النهي أن يكون للتحريم، ولا يحمل على الكراهة إلا لدليل، ولا دليل هنا، لا سيما أن الشغار كان من أنكحة الجاهلية، فرفعه الإسلام، ولذلك قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا شغار في الإسلام». وأما تفرقة الشافعية بين ما إذا جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى وبين ما إذا لم يجعل بضع كل منهما صداقا للأخرى حيث حكموا بالفساد في الصورة الأولى دون الثانية، فتفرقة غير ظاهرة فإن نفي الصداق معناه جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى، ولو لم يصرحا بذلك.
المسألة الثانية: إذا سميا لكل واحدة منهما صداقا، وهو المسمى ب «وجه الشغار»، أو سميا لواحدة منهما دون الأخرى، وهو «المركب منهما».
اختلف الفقهاء في صحة النكاح وفساده في هذه الحالة أيضا: فذهب المالكية والظاهرية إلى القول بالفساد في هذه الحالة أيضا، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، قال ابن شهاب الدين الرملي: ولو سميا أو أحدهما مالا مع جعل البضع صداقا كأن قال: وبضع كل وألف صداق الأخرى بطل في الأصح لبقاء معنى التشريك، والثاني: يصح لأنه ليس على صورة تفسير الشغار ولأنه لم يخل عن المهر. -
168
..
- وذهب الحنابلة إلى التفصيل، فقالوا: إذا سميا صداقا لكل واحدة صح النكاح، ولهم في المهر روايتان، فقيل: تفسد التسمية، ويجب مهر المثل لأن كل واحد منهما لم يرض بالمسمى إلا بشرط أن يزوج وليته صاحبه، فينقص المهر لهذا الشرط، وهو باطل، فإذا احتجنا إلى ضمان النقص صار المسمى مجهولا فبطل. وعند بطلان المسمى يرجع إلى مهر المثل. والرواية الثانية: أنه يجب المسمى لأنه ذكر قدرا معلوما يصح أن يكون مهرا، فصح.
وأما إن سميا صداقا لواحدة دون الأخرى، فقيل: يفسد النكاح فيهما، وقيل: يفسد في التي لم يسمّ لها صداق، ويصح في التي سمى لها مهر.
استدل الحنابلة ومن وافقهم على القول بصحة النكاح إذا سميا لكل واحدة منهما مهرا- بما روي عن ابن عمر- (رضي الله عنهما) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن الشغار» والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، ليس بينهما صداق.
ووجه الدلالة من هذا: أنهم قالوا: إن الشغار المنهي عنه هو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته ليس بينهما صداق. وأما إذا وجد فيه صداق كما هنا، فليس هو من الشغار المنهي عنه، وإذا لم يكن كذلك فيكون صحيحا.
ويرد هذا الدليل بأن تفسير الشغار الواقع في الحديث ليس هو من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو من قول مالك وصل بالمتن المرفوع. وقيل: هو من قول نافع، فقد روى الإسماعيلي من حديث محرز بن عون ومعن بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن الشغار» - قال محرز: قال مالك: والشغار هو أن يزوج الرجل ابنته إلى آخره. وقال في صحيح مسلم من غير طريق مالك أن تفسير الشغار من قول نافع. وإذا ثبت أن تفسير الشغار ليس من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلا يكون فيه حجة. وأما المالكية ومن وافقهم، فقد استدلوا بما روي عن الأعرج أن العباس بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أنكح ابنته عبد الرّحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وأنكحه عبد الرّحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره أن يفرق بينهما، وقال معاوية في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ووجه الدلالة من هذا: أن معاوية أمر بفسخ هذا النكاح مع أنه سمي فيه الصداق لكل واحدة منهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم يعرف له منهم مخالف فدل ذلك على فساده، وإلا لما أمر معاوية بفسخه، ولما أقر عليه.
فإن قال قائل: إن هذا اجتهاد من معاوية، وعدم إنكار من حضر من الصحابة لا يدل على الرضى والموافقة فإن السكوت في المسائل الاجتهادية لا يكون دليلا على الرضى. يجاب عن هذا بأن معاوية قال في كتابه: إن هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقد نسبه إلى الرسول لا إلى اجتهاده، وعلى ذلك يحمل سكوت من حضر من الصحابة على موافقتهم له بأن هذا من الشغار الذي نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وأما وجه قول الحنابلة فيما إذا سميا لإحداهما مهرا دون الأخرى على رواية أن النكاح يفسد فيهما. فقد قالوا: إنه فسد في إحداهما، فوجب أن يفسد في الأخرى لأن نكاح كل واحدة منهما متوقف على نكاح الأخرى.
وأما على رواية فساد نكاح التي لم يسم لها مهر دون الأخرى، فذلك لأن نكاح التي لم يسم لها خلا من المهر، بخلاف نكاح الأخرى فيفسد. وأما الثانية، فيصح نكاحها لأن فيه تسمية وشرطا، فأشبه ما لو-
169
قال ع «١» : والآية تتناوَلُ هذه التأويلاتِ الثَّلاثَ، ونِحْلَةَ، أي: عطيَّة منْكم لهُنَّ، وقيل: نِحْلَة: معناه: شِرْعَة مأخوذٌ من النِّحَل، وقيل: التقديرُ: نِحْلَةً مِنَ اللَّه لَهُنَّ قال ابنُ العَرَبِيِّ: وذلك أنَّ النحلة في اللُّغة: العطيَّةُ عنْ غَيْرِ عِوَضٍ. انتهى.
وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً... الآية: الخطابُ حَسْبَما تقدَّم مِنَ الاختلاف، والمعنى: إنْ وَهَبْنَ غيْرَ مكرَهَاتٍ، طيِّبةً نفوسُهنَّ، والضميرُ في «مِنهُ» يعود علَى الصَّدَاقِ قاله عكرمةُ وغيره «٢»، «ومَنْ» : تتضمَّن الجنس هاهنا ولذلك يجوزُ أنْ تهب المَهْر كلَّه.
وقوله تعالى: هَنِيئاً مَرِيئاً: قال اللغويُّون: الطعامُ الهَنِيءُ هو السَّائِغُ المستحسَنُ الحميدُ المَغَّبةِ: وكذلك المريءُ.
وقوله سبحانه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ، قال أبو موسَى الأشعريُّ وغيره:
نَزَلَتْ في كلِّ مَنِ اقتضى الصِّفَة الَّتي شرط اللَّهُ مِنَ السَّفَهِ، كان من كان «٣»، وقولُه:
أَمْوالَكُمُ، يريد: أموالَ المخاطَبِينَ قاله أبو مُوسَى الأشعريُّ، وابنُ عبَّاس، والحَسَنُ، وغيرهم «٤»، وقال ابنُ جُبَيْر: يريدُ أموالَ السُّفَهاء، وأضافها إلى المخاطَبِينَ، إذ هى كأموالهم، وقِياماً جمع قِيمَة «٥».
وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها... الآية: قيل: معناه: فيمن تلزم الرّجل نفقته،
- سمى لكل واحدة منهما.
ويرد هذا بأن الأولى فساد نكاحهما معا لتوقف نكاح كل على نكاح الأخرى، كما هو القول الأول.
والنظر في الأدلة ومناقشاتها يقضي بترجيح مذهب من قال بفساد نكاح الشغار مطلقا، سواء أذكر في كل ذلك صداق لكل واحدة منهما أو لإحداهما دون الأخرى أو لم يذكر في شيء من ذلك صداق. وذلك لأن الجميع يصدق عليه شغار، وقد نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشغار، خصوصا أن الشغار كان من أنكحة الجاهلية، فجاء الإسلام بهديه.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨).
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٥٨٤) برقم (٨٥١٤) بلفظ «المهر». وذكره ابن عطية (٢/ ٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٣) وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٩).
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٥٨٨- ٥٩١)، برقم (٨٥٥٧)، (٨٥٦٢) عن ابن عباس، وبرقم (٨٥٤٦) عن أبي موسى الأشعري، وبرقم (٨٥٤٣) عن الحسن. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٩)
(٥) أخرجه الطبري (٣/ ٥٩٠) برقم (٨٥٥٩)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٤)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
170
وقيل: في المحجورين من أموالهم، ومَعْرُوفاً: قيل: معناه: ادعوا لهم، وقيل:
معناه: عِدُوهُمْ وَعْداً حَسَناً، أي: إنْ رَشَدتُّمْ، دَفَعْنا لكُمْ أموالكم، ومعنى اللفظة: كُلُّ كلام تعرفه النفُوسُ، وتأنس إليه، ويقتضيه الشّرع.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦ الى ٧]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
وقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى... الآية: الابتلاء: الاختبار، وبَلَغُوا النِّكاحَ: معناه:
بَلَغُوا مَبْلَغَ الرجَالِ بِحُلُمٍ أوْ حَيْضٍ، / أوْ غَيْرِ ذلك، ومعناه: جَرِّبوا عقولهم، وقرائحهم، وتصرّفهم، وآنَسْتُمْ: معناه: عَلِمْتُمْ، وشَعَرْتُمْ، وخَبَرْتُمْ، ومالكٌ (رحمه اللَّه) يرى الشّرطين البلوغ «١»...
(١) البلوغ طور من أطوار الحياة، به يستعد الشخص لأداء وظيفته النوعية وهي التناسل، وقريب من هذا قول المارزي: هي قوة تحدث للشخص تنقله من حال الطفولة إلى غيرها. وللبلوغ علامات يعرف بها، بعضها خاص بالإناث، والبعض الآخر يشترك فيه الإناث والذكور، فالقسم الأول: الحمل، والحيض.
والقسم الثاني: ثلاثة أنواع:
الأول: خروج المني منهما في اليقظة أو النوم، ويدل لذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاث عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم» وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «خذ من كلّ حالم دينارا»، وقول الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: ٥٩] الآية.
الثاني: نبات شعر العانة على فرج الذكر والأنثى. وخالف في ذلك أبو حنيفة (رضي الله عنه) فلم يره علامة للبلوغ مستندا إلى أن شعر العانة شعر نبت على الجسم كغيره من الشعور، فلا يصلح علامة على البلوغ كغيره.
أمّا الجمهور، فإنه استند إلى ما ورد من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، وحكم سعد بأن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذراري، وفي ذلك يقول عطية القرظي: عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة، فشكوا فيّ، فأمر النبيّ (عليه السلام) أن ينظر هل أنبت بعد، فنظروا إليّ فلم يجدوني أنبت بعد، فألحقوني بالذرية.
فأنت ترى أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) جعل الإنبات فارقا بين المقاتلة والذرية، فكان علامة على البلوغ إذ لا يقتل إلّا من بلغ. وكذلك ثبت أن عمر (رضي الله عنه) كتب إلى بعض عمّاله ألّا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي. ويعني بذلك من نبتت عانته فدل ذلك على أن نبات شعر العانة علامة على البلوغ لأن الجزية لا تؤخذ إلّا ممن بلغ. وأيضا فقد ورد أن غلاما من الأنصار شبب بامرأة-[.....]
171
والرُّشد «١» المختَبَرَ «٢»، وحينئذٍ يدفع المال.
قال ع»
: والبلوغُ لم تَسُقْهُ الآيةُ سِيَاقَ الشَّرْط، ولكنَّها حالةُ الغالِبِ على بني آدم أنْ تَلْتَئِمَ عقولُهم فيها، فهو الوقْتُ الذي لا يُعْتَبَرُ شَرْط الرُّشْد إلاَّ فيه، فقال: إذا بلغ ذلك الوقْتَ، فلينظُرْ إلى الشرط، وهو الرُّشْد حينئذٍ وفصاحةُ الكلامِ تدُلُّ على ذلك لأنَّ التوقيتَ بالبلوغِ جاء ب «إذَا»، والمشروطُ جاء ب «إنْ» التي هي قاعدةُ حروفِ الشرطِ، «وإذا» ليستْ بحَرْفِ شرطٍ إلاَّ في ضرورة «٤» الشِّعْر، قال ابنُ عَبَّاس: الرُّشْد في العقلِ
- في شعره، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب، فلما كشف عن مؤتزره لم يجده أنبت فقال: «لو أنبت الشعر لحددتك». فكل ذلك يفيد أن نبات شعر العامة علامة من علامات البلوغ. وأمّا ما قاله أبو حنيفة، فغير ظاهر فإن شعر العانة قد امتاز عن غيره من الشعور بأنه لا ينبت إلا عند البلوغ، أما غيره، فقد يتقدم البلوغ كشعر الجسد، وقد يتأخر عنه كشعر اللحية والشارب.
ينظر: «نظام الحجر» لشيخنا: سليمان رمضان عثمان.
(١) أمّا الرشد، فقال كثير من العلماء: إنه الصلاح في المال وحسن التصرف فيه وتثميره وتنميته.
وذهب الشافعي وجماعة إلى أن المراد به الصلاح في المال والدين.
أما طرق معرفته، فتختلف باختلاف أحوال المختبر نفسه، فهي في الذكور الذين يخالطون الناس في الأسواق وغيرها، تختلف عنها في الإناث اللاتي لا يخالطن الناس في الأسواق. والأمر في معرفة الرشد ليس من السهولة بالدرجة التي تظن، فالذين يخالطون الناس في الأسواق يختبرون بدخول الأسواق ومخالطة من فيها حتى يشاهدون ما يجري بين الناس من بيع أو شراء، فينكرون على المغبون، ويغبطون الرابح، وبذلك تحصل لهم الخبرة، ويثبت لهم الرشد.
والذين لا يختلطون بالناس في الأسواق ممّن يسمّون بالطبقة العليا يدفع إليهم نفقة قليل من الزمن ليرى كيف ينفقونها ويتصرفون فيها، فإن أحسنوا النظر في تصرفها، فقد استبان رشدهم، وثبت استقامة نظرهم، وإلا فهم على السفه وعدم الرشد.
أمّا الإناث فيختبرن بدفع قليل من المال لشراء ما يلزم للبيت من حاجيات الطهي وما إلى ذلك من كل ما يختص به النساء، عادة، فإن تبين من صنيعهن حسن التصرف واستقامة النظر، فقد تحقق رشدهن.
ينظر: «نظام الحجر» لشيخنا سليمان رمضان عثمان.
(٢) لم يختلف العلماء في أن الصبي إذا بلغ رشيدا زال الحجر عنه، ووجب دفع ماله إليه، وإنما اختلفوا في وقت اختباره ومعرفة متى يحسن التصرف.
فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه: إن الاختبار قبل البلوغ والمعنى: وبعد التمييز.
وذهب مالك إلى أن الاختبار بعد البلوغ.
ينظر: «نظام الحجر» لشيخنا سليمان رمضان عثمان.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠).
(٤) ظاهر عبارة بعضهم أنّ «إذا» ليست بشرطية، قال: «وإذا ليست بشرطية لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر، وقال: «فعلوا ذلك مضطرين»، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، -
172
وتدبيرِ المَالِ لا غَيْرُ «١» وهو قولُ ابنِ القَاسِمِ في مَذْهَبنا.
وقال الحَسَنُ، وقَتَادة: الرُّشْد في العَقْلِ والدينِ «٢» وهو روايةٌ أيضًا عن مالك.
وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا: نهي منه سبحانَه للأوصياء عَنْ أَكْل أموالِ اليتامى بغَيْر الواجبِ المُبَاح لهم، والإسْرَافُ: الإفراط في الفَعْل، والسَّرَف:
الخَطَأُ في مواضع الإنفاق، وبِدَاراً: معناه: مُبَادَرَةً كِبَرِّهم، أيْ أنَّ الوصِيَّ يستغنمُ مالَ مَحْجُورِهِ، وأَنْ يَكْبَرُوا: نَصْبٌ ب «بِدَار»، ويجوز أنْ يكونَ التقديرُ مخافةَ أنْ يَكْبَرُوا.
وقوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، يقال: عَفَّ الرجُلُ عَنِ الشَّيْء، واستعف، إلا أَمْسَكَ، فَأُمِرَ الغنيُّ بالإمساك عَنْ مالِ اليتيمِ وأبَاحَ اللَّه للوصيِّ الفقيرِ أنْ يأكُلَ مِنْ مالِ يتيمه بالمَعْروف.
واختلف العلماءُ في حَدِّ المعروف، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: إنما يأكل الوصيُّ بالمعروف إذا شَرِبَ مِنَ اللَّبَنَ، وأَكَلَ مِنَ التَّمْر بما يهنأ الجَرْبَاء، ويلطُّ الحَوْض، ويُجِدُّ التمْر، وما أشبهه «٣»، قُلْتُ: يقال للقَطِرَانِ: الهَنا في لغة العرب كذا رأيته مَنْصُوصاً عليه.
- وبأنه يليها الفعل ظاهرا أو مضمرا، واحتجّ الخليل على عدم شرطيّتها بحصول ما بعدها ألا ترى أنك تقول: «أجيئك إذا احمرّ البسر»، ولا تقول: «إن احمرّ».
قال الشيخ: «وكلامه يدل على أنها تكون ظرفا مجردا ليس فيها معنى الشرط، وهو مخالف للنحويين فإنهم كالمجمعين على أنها ظرف فيها معنى الشرط غالبا، وإن وجد في عبارة بعضهم ما ينفي كونها أداة شرط، فإنما يعني أنها لا يجزم بها لا أنها لا تكون شرطا». وقدّر بعضهم مضافا قال: «تقديره: بلغوا حدّ النكاح أو وقته، والظاهر أنه لا يحتاج إليه إذ المعنى: صلحوا للنكاح. والفاء في قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ جواب «إذا»، وفي قوله: فَادْفَعُوا جواب «إن».
ينظر: «الدر المصون» (٢/ ٣١٢).
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٥٩٤) برقم (٨٥٨٥)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٤)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. وذكره في (٢/ ٢١٥)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٥٩٤) برقم (٨٥٨٣) عن قتادة، وبرقم (٨٥٨٤) عن الحسن.
وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٥)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن الحسن.
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١١)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٦)، وعزاه إلى عبد بن حميد، والبيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي (٢/ ١١)، وعزاه لمالك، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس في «ناسخه» عن القاسم بن محمد عن ابن عباس.
173
وقوله تعالى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ: أمْرٌ من اللَّه تعالى بالتحرُّز والحَزْم، وهذا هو الأَصْل في الإشهاد في المَدْفُوعات كلِّها إذا كان حَبَسَهَا أوَّلاً معروفاً.
قال ع «١» : والأظهر أنَّ حَسِيباً هنا: معناه: حَاسِباً أعمالكم، ومجازياً بها، ففِي هذا وعيدٌ لكلِّ جاحدِ حَقٍّ.
وقوله سبحانه: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ... الآية: قال قتادة وغَيْره: سبَبُ نزولِ هذه الآيةِ أنَّ العرب كَانَ منْها مَنْ لا يُوَرِّثُ النساءَ، ويقولونَ: لا يَرِثُ إلاَّ مَنْ طَاعَنَ بالرُّمْحِ، وقَاتَلَ بالسَّيْف «٢».
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
وقوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى... الآية: اختلف فِيمَنْ خُوطِبَ بهذه الآية، فقيل: الخطابُ للوارِثِينَ، وقيل: للمحتَضَرِينَ والمعنى: إذا حضَرَكُم المَوْتُ، أيَّها المؤمنون، وقَسَمْتم أموالكم بالوصيَّة، وحَضَرَكُمْ مَنْ لا يرثُ مِنْ ذوي القرابةِ، واليتامى، فارزقوهم منه قاله ابن عبَّاس وغيره «٣».
واختلف، هَلْ هِيَ منسوخةٌ بآية المواريثِ، أو هِيَ مُحْكَمَةٌ؟ وعلى أنَّها مُحْكَمَةٌ، فهل الأمر على الوُجُوب، فيعطى لهم ما خَفَّ، أو على النَّدْب؟ خلافٌ.
والضميرُ في قوله: فَارْزُقُوهُمْ، وفي قوله: لَهُمْ: عائدٌ على الأصنافِ الثلاثةِ، والقولُ المعروفُ: كلُّ ما يتأَنَّس بِهِ مِنْ دعاءٍ، أو عدة، أو غير ذلك.
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
وقوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ... الآية: اختلف، من المراد
(١) ينظر: «المحرر» (٢/ ١٢).
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٦٠٤) برقم (٨٦٥٧)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ٣٩٦)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٦٠٨) برقم (٨٦٨٩)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٩)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس.
في هذه الآيةِ؟ فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: المرادُ: مَنْ حَضَر ميتاً حين يوصِّي، فيقول له: قَدِّم لنفسكَ، وأعْطِ لفلانٍ وفلانٍ، ويؤذِي الورثَةَ بذلك «١»، فكأنَّ الآية تَقُولُ لهم: كَمَا كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ على ورثَتِكُمْ وذرِّيَّتكم بَعْدَكُم، فكذلك فاخشوا على ورثة غَيْرِكُمْ/، ولا تَحْمِلُوه على تبذيرِ مالِهِ، وتَرْكِهِمْ عالَةً، وقال مقسَم وحضرميٌّ: نزلَتْ في عكسِ ذلك، وهو أنْ يقول للمُحْتَضَرِ: أمْسِكْ على ورثَتِكَ، وأَبْقِ لِوَلَدِكَ، ويَنْهَاهُ عَنِ الوصيَّة، فيضرّ بذلك ذوي القربى، واليتامى، والمساكينَ، وكلَّ من يستحقُّ أن يوصى له «٢» فقيل لهم: كما كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ على ذرِّيتكم، وتُسِرُّون بأنْ يحسن إلَيْهم فكذلك فَسَدِّدوا القَوْلَ في جهة اليتامى والمساكين.
قال ع «٣» : والقولانِ لاَ يَطَّرِدَانِ في كلِّ الناس، بل الناسُ صِنْفَانِ يصلُح لأحدهما القَوْلُ الواحدُ، وللآخَرِ القولُ الثَّاني وذلك أنَّ الرجل، إذا ترك ورثةً أغنياء، حَسُنَ أنْ يُنُدَبَ إلى الوصية، ويُحْمَلَ على أنْ يقدِّم لنفسه، وإذا ترك ورثةً ضعفاء مقلِّين، حَسُن أنُ يُنْدَبَ إلَى التَّرْكِ لهم، والاحتياطِ فإنَّ أجْره في قَصْد ذلك كأجره في المَسَاكينِ، فالمراعى إنما هو الضَّعْفُ، فيجب أنْ يُمَالَ معه.
وقال ابنُ عَبَّاس أيضاً: المرادُ بالآية: ولاة الأيْتَامِ «٤»، فالمعنى: أحسنوا إلَيْهم، وسدِّدوا القول لهم، واتقوا اللَّه في أكْل أموالهم كما تخافُونَ على ذُرِّيَّتِكُمْ أَنْ يُفْعَلَ بهم خِلافُ ذلك.
وقالَتْ فرقةٌ: بل المرادُ جميعُ الناسِ، فالمعنى: أمرهم بالتقوى في الأيْتَامِ، وَأَوْلاَد النَّاسِ، والتَّسْديد لهم في القَوْل، وإن لم يكُونُوا في حُجُورهم كما يريدُ كُلَّ أحدٍ أنْ يَفْعَلَ بولده بَعْده، والسديدُ: معناه: المصيب للحقّ.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٦١١) برقم (٨٧٠٩)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢١٩)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٦١٣) برقم (٨٧١٨)، (٨٧١٩) عن مقسم، وبرقم (٨٧٢٠) عن حضرمي. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣) عنهما. [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣).
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٦١٤) برقم (٨٧٢١)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٤).
175
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً... الآية: أكْثَرُ النَّاس أنَّ الآية نزلَتْ في الأوصياء الذين يأكُلُون ما لم يُبَحْ لهم مِنْ أموال اليتامى، وهي تتناوَلُ كُلَّ آكل، وإنْ لم يكُنْ وصيًّا، وورد في هذا الوعيدِ أحاديثُ منها: حديثُ أبِي سَعِيدٍ الخدريّ، قال:
حدّثنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ قَوْماً لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الإبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْراً مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، قُلْتُ:
يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً»
«١».
قُلْتُ: تأمَّل (رحمك اللَّه) صَدْرَ هذه السورةِ معظمه إنَّما هو في شأن الأجوفَيْنِ البَطْنِ والفَرْجِ مع اللسان، وهما المُهْلِكَانِ، وأعْظَمُ الجوارحِ آفةً وجنايةً على الإنسان، وقد رُوِّينَا عن مالكٍ في «الموطأ»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثنين، وَلَجَ الجَنَّةَ: مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» «٢».
قَالَ أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» : ومعلوم أنه أراد صلّى الله عليه وسلّم ما بَيْن لَحْيَيْهِ: اللسان، وما بَيْنَ رجلَيْه: الفَرْج، واللَّه أعلم.
ولهذا أردَفَ مالكٌ حديثه هذا بحَدِيثِهِ عَنْ زيْد بنِ أَسْلَمَ، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب دَخَلَ على أبِي بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه)، وهو يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ له عُمَر: مَهْ، غَفَرَ اللَّه لَكَ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إن هذا أوْرَدَنِي المَوَارِدَ «٣»، قال أبو عمر: وفي اللسان آثار كثيرةٌ، ثم قال أبو عُمَر: وعَنْ أبي هُرَيْرة: إنَّ أكْثَرَ ما يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأجْوَفَانِ: البَطْن، والفَرْج، ثم أسند أبو عُمَر عن سهل بن سعد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وأَضمَنْ لَهُ الجَنَّة» «٤»، ومن طريق جابر نحوه. انتهى.
والصّلى: هو التسخُّن بقُرْب النَّار أو بمباشرتها، والمُحْتَرِقُ الذي يذهبه الحرق ليس
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٦١٥) برقم (٨٧٢٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٢٢١)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/ ٩٨٧- ٩٨٨) كتاب «الكلام»، باب ما جاء فيما يخاف من اللسان، حديث (١١) من حديث عطاء بن يسار مرسلا.
(٣) أخرجه مالك المصدر السابق (١٢).
وأخرجه هناد بن السري في «الزهد» (٢/ ٥٣١) برقم (١٠٩٣)، ووكيع في «الزهد» برقم (٢٨٧).
(٤) أخرجه البخاري (١١/ ٣١٤)، كتاب «الرقاق»، باب حفظ اللسان، حديث (٦٤٧٤)، والترمذي (٤/ ٥٢٤) كتاب «الزهد»، باب ما جاء في حفظ اللسان، حديث (٢٤٠٨)، وأحمد (٥/ ٣٣٣)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٣٦- بتحقيقنا).
176
بصَالٍ/ إلاَّ في بدء أمره، وأهْلُ جهنَّم لا تُذْهِبُهم النَّار، فهم فيها صَالُونَ (أعاذنا اللَّه منها بجُودِهِ وكَرَمِهِ)، والسعير: الجَمْر المُشْتَعِلُ. وهذه آية من آياتِ الوَعيد، والَّذي يعتقدُه أهل السُّنَّة أنَّ ذلك نافذٌ على بعض العُصَاة لَئِلاَّ يقع الخَبَر بخلافِ مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم.
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
وقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ... الآية: تتضمَّن الفرضَ والوُجُوبَ، قيل: نَزَلَتْ بسبب بنَاتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ.
وقيل: بسبب جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه.
وقوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي: حظ مثل حظ الأنثيين.
وقوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، معناه: اثنتين فَمَا فَوْقَهما تَقْتَضِي ذلكَ قُوَّةُ الكلامِ، وأما الوقوفُ مع اللفظ، فيسقطُ معه النصُّ على الاثنتين، ويثبت الثُّلُثَانِ لهما بالإجماع، ولم يحفظْ فيه خلاف إلاَّ ما رُوِيَ عن ابْن عَبَّاس أنه يرى لهما النِّصْفَ، ويثبت لهما أيضًا ذلك بالقياسِ على الأختين «١» وبحديث التّرمذيّ «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى للابنتين بالثّلثين» «٢».
(١) ذكره ابن عطية (٢/ ١٥).
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٣٥٢)، وأبو داود (٣/ ٣١٦) كتاب «الفرائض»، باب ميراث الصلب، حديث (٢٨٩٢)، والترمذي (٤/ ٤١٤) كتاب «الفرائض»، باب ميراث البنات، حديث (٢٠٩٢)، وابن ماجة (٢/ ٩٠٨) كتاب «الفرائض»، باب فرائض الصلب، حديث (٢٧٢٠)، وابن سعد (٣/ ٢/ ٧٨)، والحاكم (٤/ ٣٣٣- ٣٣٤) كتاب «الفرائض»، باب إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. والبيهقي (٦/ ٢١٦) كتاب «الفرائض»، باب توريث ذوي الأرحام، كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال:
جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله!! هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلا يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: «يقضي الله في ذلك». فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك».
قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. -
177
وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ: المعنى: ولاَ وَلَدُ وَلَدٍ، ذكَراً كان أو أنثى، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، أي: وللأبِ الثُّلُثَانِ.
وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، أي: كانوا أشقَّاء أو للأب أو للأم، والإجماعُ على أنهم لا يأخُذُونَ السُّدُسَ الذي يحجبون الأمَّ عنه وكذا أجْمَعُوا على أنَّ أخَوَيْنِ فصاعدًا يحجُبُون «١» الأمَّ عنه إلاَّ ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عَبَّاس مِنْ أنَّ الأخوَيْنِ في
- وقال الترمذي: حسن صحيح.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٢٢)، وعزاه إلى ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، ومسدد، والطيالسي، وابن أبي عمر، وابن منيع، وابن أبي أسامة، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن جابر.
(١) هو لغة: المنع، وشرعا: منع شخص معين عن ميراثه إما كله أو بعضه بوجود شخص آخر.
والمراد بقولنا «عن ميراثه» : أن يقوم به سبب الإرث كالقرابة، فيمنع عنه. وقولنا: «إما كله أو بعضه»، (أو) فيه للتنويع لا للشك. فالأول حجب الحرمات، والثاني حجب النقصان.
ولهذا المبحث شأن عظيم في الفرائض، فمن لم يعرف الحجب لا يعد عالما بالفرائض، ويحرم عليه أن يفتي فيها.
وهو في حد ذاته قسمان:
أ: حجب بالأوصاف، وهي الموانع السابقة التي هي الرق والقتل... إلخ.
ب: حجب بالأشخاص، وهو المراد من عبارة الفرضيين عند إطلاقهم لفظ الحجب. وهذا على نوعين:
١- حجب حرمان ٢- حجب نقصان والورثة في الحجب على ثلاثة أصناف:
الأول: أن يكون كل من الحاجب والمحجوب عصبة. وفي هذه الحالة قد يكون الحجب حجب حرمان كما إذا كانا في جهة واحدة، ولكن أحدهما أقرب درجة من الآخر، فإن الأقرب يحجب الأبعد. وقد يكون حجب نقصان كالعصبتين المتساويتين في القرب كالابنين مثلا فإن كل واحد منهما يحجب عن ميراث الكل إلى البعض بوجود الآخر.
الثاني: إذا كانا من أهل السهام، وفي هذه الحالة أيضا يكون حجب حرمان ونقصان، فالأول: كما إذا اجتمع أولاد الأم مع البنات وبنات الابن. والثاني: كالأم مع البنات والأخوات. والأخت لأب مع الشقيقة. الثالث: إذا كان أحدهما عاصيا والآخر ذا فرض: ولا يخلو الحال من أن يكون الحاجب ذا سهم والمحجوب عصبة، فيحجب العصبة حينئذ حجب نقصان بذي السهم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ فإنه لو لم تكن الأنثى لصار جميع المال للذكر، وبوجود الأنثى انتقص نصيبه.
أو يكون الحاجب عصبة والمحجوب ذا سهم. وفي هذه الحالة قد يكون الحجب حجب نقصان، كما إذا ترك الميت أختين شقيقتين وأختين لأم وأم، فالمسألة في الأصل في سننه، وتعول بسدسها إلى سبعة، ويكون للأختين الثلثان: «أربعة» من سبعة، فلو ترك معهما أخا شقيقا لكان لهما معه ثلاثة من ستة.
وقد يكون حجب حرمان كبنت الابن مع الابن أو كأخ شقيق مع الأخت لأب.
انظر: «المواريث» لشيخنا وهبة إبراهيم.
178
حُكْمِ الواحد «١».
وقدَّم الوصيةَ في اللفظ اهتماما بها، وندباً إليها إذ هي أقلُّ لزوماً من الدَّيْن وأيضاً: قدَّمها لأنَّ الشرع قد حضَّ عليها فلا بُدَّ منها، والدَّيْنُ قد يكُونُ وقَدْ لا يكُونُ وأيضاً: قدَّمها إذْ هي حظُّ مساكينَ وضِعَافٍ، وأخَّر الدَّيْن لأنه حقُّ غريمٍ يَطْلُبه بقوَّة، وله فيه مقالٌ، وأجمعَ العلماءُ على أنَّ الدَّيْن مقدَّم على «٢» الوصيَّة، والإجماعُ على أنه لا يوصى بأكْثَرَ مِنَ الثلث، واستحب كثيرٌ منهم أَلاَّ يبلغ الثلث.
وقوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ رفْعٌ بالابتداء، والخَبَرُ مضمرٌ، تقديره: هم المَقْسُوم عليهم، أو هم المُعْطُونَ، وهذا عَرْضٌ للحكمة في ذلك، وتأنيسٌ للعرب الَّذين كانُوا يورِّثون على غير هذه الصِّفَة.
قال ابن زَيْد: لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً، يعني: في الدنيا والآخرة «٣»، قال الفَخْر «٤» : وفي الآية إشارةٌ إلى الانقيادِ إلى الشَّرْعَ، وتَرْكِ ما يميل إليه الطّبع. انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ١٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٢٣)، وعزاه لابن جرير، والحاكم، وصححه، والبيهقي في «سننه».
(٢) من الحقوق التي تثبت على العبد الديون المرسلة في الذمة، فتقدم على الوصية، وسميت مرسلة لأنها أرسلت، أي أطلقت عن تعلقها بعين التركة. ويجب تقديم دين الله على دين الآدمي إذا مات ولم يؤدهما ثم ضاقت التركة عنهما لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «دين الله أحق بالقضاء».
أما قبل الموت، فإن كان محجورا عليه قدم دين الآدمي جزما، ولو اجتمع عليه ديون لله (تعالى) قدمت الزكاة إن كان النصاب موجودا، وإلا فتستوي الحقوق. وإنما قدمت الديون المرسلة في الذمة على الوصية، لأن تلك الديون حق واجب على الميت، فقضاؤه مقدم، والوصية تبرع فلذا أخرت.
ينظر: «المواريث» لشيخنا وهبة إبراهيم.
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٦٢٤) برقم (٨٧٤٦)، وذكره البغوي (١/ ٤٠٣)، وابن عطية (٢/ ١٨).
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٩/ ١٧٧). [.....]
179
وقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ... الآية: الولَدُ هنا في هذه الآية، وفي التي بعدها: هُمْ بَنُو الصُّلْب، وبَنُو ذُكُورِهِمْ، وإن سَفَلُوا، والكَلاَلَةُ: خُلُوُّ المَيِّتِ عَنِ الوَالِدِ والوَلَدِ هذا هو الصحيحُ.
وقوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ... الآية: الإجماع على الأُخُوَّة في هذه الآيةِ للأمِّ، وأما حُكْم سائر الإِخوة سواهم، فهو المذكور في آخر السورة.
وقرأ «١» سعدُ بْنُ أبي وَقَّاص «٢» :«وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لأُمِّهِ»، والأنثى والذَّكَر في هذه النَّازلة سواءٌ، بإجماع.
وقوله سبحانه: غَيْرَ مُضَارٍّ، قال ابن عبَّاس: «الضِّرَارُ في الوصية من الكبائر» ورواه «٣» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ، أَلْقَاهُ اللَّهُ تعالى في واد في جهنّم» «٤».
(١) ينظر: «الكشاف» (١/ ٤٨٦)، و «المحرر الوجيز» (١/ ١٩)، و «البحر المحيط» (٣/ ١٩٨)، و «الدر المصون» (٢/ ٣٢٦)، وفيه: «من أم».
(٢) هو: سعد بن مالك (واسم مالك: أبي وقاص) بن أهيب (وقيل: وهيب) بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. أبو إسحاق. القرشي. الزهري. أحد العشرة المبشرين بالجنة وآخرهم موتا. وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أول من كوف ب «الكوفة»، روى عن النبيّ كثيرا، روى عنه بنوه: إبراهيم، وعامر، ومصعب، وعمر، ومحمد، وعائشة. وروى عنه من الصحابة: عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة. وروى عنه من كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وأبو سعيد الهندي، وقيس بن أبي حازم، وعلقمة، والأحنف، وغيرهم. وهو صحابي مشهور كتب في سيرته مؤلفات كثيرة. توفي سنة (٥٥)، وقيل: سنة (٥٨)، وقيل: (٥١)، وقيل: (٥٧).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٣٦٦)، و «الإصابة» (٣/ ٨٣)، و «بقي بن مخلد» (١٦)، و «صيانة مسلم» (٢٤٠)، و «التبصرة والتذكرة» (٣/ ٢٠٦)، و «الزهد الكبير» (١١٣)، و «التعديل والتجريح» (١٣٠٠)، و «الزهد» لوكيع (٩٨)، و «الأنساب» (١/ ٣٥)، و «تفسير الطبري» (٨/ ٨٧٧٢)، و «تقريب التهذيب» (١/ ٢٩٠)، و «تهذيب التهذيب» (٣/ ٤٨٣)، و «تاريخ بغداد» (١/ ١٤٤).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٦٣٠) برقم (٨٧٨٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٢٧)، وعزاه للنسائي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة في «المصنف»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
(٤) لم نقف عليه بهذا اللفظ.
180
قال ع «١» : ووجوه المُضَارَّةِ كثيرةٌ مِنْ ذلك: أنْ يُقِرَّ بحَقٍّ ليس عليه، أو يُوصِيَ بأكْثَرَ من ثلثه، أو لوارِثِهِ.
قال ص: غَيْرَ مُضَارٍّ: منصوبٌ على الحالِ: أي: غَيْرَ مُضَارٍّ ورثَتَهُ. انتهى.
قلت: وتقدير أبي «٢» حَيَّان: «وَرَثَتَهُ» يأباه فصاحَةُ ألفاظِ الآية إذ مقتضاها العمُوم، فلو قال: «غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَةً، أو غَيْرَهم»، لكان أحْسَنَ، لكن الغالبَ مُضَارَّة الورثة، فلهذا قَدَّرهم/.
وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ... الآية: «تِلْكَ» : إشارةٌ إلى القِسْمة المتقدِّمة في المواريث، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
وقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ... الآية: الفَاحِشَةُ في هذا الموضِعِ: الزِّنَا، وقوله: مِنْ نِسائِكُمْ، إضافةٌ في معناها الإسلام، وجعل اللَّه الشهادة علَى الزِّنَا خاصَّة لا تَتِمُّ إلا بأربعةِ شُهَدَاءَ، تَغْلِيظاً على المُدَّعي، وسَتْراً على العبادِ.
قلت: ومن هذا المعنى اشتراط رُؤْية كَذَا في كَذَا كَالمِرْوَدِ في المُكْحُلَة.
قال ع «٣» : وكانَتْ أولُ عقوبة الزُّنَاةِ الإمْسَاكَ في البُيُوت، ثم نُسِخَ ذلك بالأذَى الَّذي بَعْده، ثم نُسِخَ ذلك بآية النُّور وبالرَّجْمِ في الثَّيِّب قاله عبادة بنُ الصَّامت وغيره «٤»، وعن عِمْرَانَ بْنِ حصين أنه قال: كنّا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْهُ، وَوَجْهُهُ مُحْمَرٌّ، فَقَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، خرَّجه مُسْلِم «٥»، وهو خَبَرٌ آحادٌ، ثم ورد في الخَبَر المتواتِرِ أنّ
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٠).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٣/ ١٩٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢١).
(٤) وسيأتي حديثه وحديث عمران بن حصين.
(٥) أخرجه مسلم (٣/ ١٣١٦)، كتاب «الحدود»، باب حد الزنى، حديث (١٢/ ١٦٩٠)، وأبو داود (٤/ ٥٦٩- ٥٧٠) كتاب «الحدود»، باب في الرجم، حديث (٤٤١٥)، والترمذي (٤/ ٤١) كتاب «الحدود»، باب الرجم على الثيب، حديث (١٤٣٤)، والدارمي (٢/ ١٨١)، كتاب «الحدود»، باب في-
181
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رَجَمَ، وَلَمْ يَجْلِدْ «١»، فَمَنْ قال: إن السُّنَّة المتواترة تنسخ...
- تفسير قول الله تعالى: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وأحمد (٥/ ٣١٣، ٣١٧، ٣١٨، ٣٢٠- ٣٢١)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٨)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٢٩٨- منحة) رقم (١٥١٤)، وابن الجارود في «المنتقى» (٨١٠)، والطبري في «تفسيره» (٤/ ١٩٨)، وابن حبان (٤٤٠٨، ٤٤٠٩، ٤٤١٠، ٤٤٢٦- الإحسان)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٣٤)، وفي «مشكل الآثار» (١/ ٩٢)، والبيهقي (٨/ ٢١٠) كتاب «الحدود»، باب جلد الزانيين ورجم الثيب، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١/ ١١٣) من طرق عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت به.
والحديث أخرجه الشافعي (٢/ ٧٧) كتاب «الحدود»، باب الزنا، حديث (٢٥٢)، والطيالسي (١/ ٢٩٨- منحة) رقم (١٥١٤)، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (٥/ ٣٢٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٤٥٧- بتحقيقنا) من طريق الحسن عن عبادة بن الصامت دون ذكر حطان بن عبد الله.
قلت: ولعل ذلك من تدليسات الحسن. فأسقط حطان بن عبد الله، ورواه عن عبادة دون واسطة.
تنبيه: وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة (٢/ ٨٥٢) كتاب «الحدود»، باب حد الزنا، حديث (٢٥٥٠) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن حطان بن عبد الله عن عبادة بن الصامت.
قال الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (٤/ ٢٤٧) : هذا وهم والله أعلم- فإن المحفوظ بهذا الإسناد حديث حطان. اهـ.
وقد روى هذا الحديث الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا....» الحديث.
أخرجه أحمد (٣/ ٤٧٦).
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (١/ ٤٥٦) رقم (١٣٧٠) : سألت أبي عن حديث رواه الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا..» الحديث، قال أبي: هذا خطأ، إنما رواه الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اهـ.
ومن هذا الطريق ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦/ ٢٦٧)، وقال: رواه أحمد، وفيه الفضل بن دلهم، وهو ثقة ولكنه أخطأ في هذا الحديث.
(١) تواتر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم ماعزا والغامدية، ورجم يهوديين.
وإليك تخريج هذه الأحاديث:
حديث رجم ماعز:
ورد حديث رجم ماعز عن جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهم: ابن عباس، وجابر، وأبو هريرة، وبريدة، وجابر بن سمرة، وأبو سعيد الخدري، ونعيم بن هزال، وأبو بكر الصديق، وأبو ذر، ورجل من الصحابة، وسهل بن سعد، وأبو برزة، وسعيد بن المسيب مرسلا، والشعبي أيضا مرسلا.
١- حديث عبد الله بن عباس:
أخرجه مسلم (٣/ ١٣٢٠) كتاب «الحدود»، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (١٩/ ١٦٩٣)، وأبو داود (٤/ ٥٧٩) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢٥)، والترمذي (٤/ ٣٥) كتاب «الحدود»، باب التلقين في الحد، حديث (١٤٢٧)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٩) كتاب «الرجم»، باب الاعتراف بالزنا أربع مرات، حديث (٧١٧١، ٧١٧٢، ٧١٧٣)، وأحمد (١/ ٢٤٥، -
182
- ٣١٤، ٣٢٨)، وعبد الرزاق (٧/ ٣٢٤) رقم (١٣٣٤٤)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٢٩٩- منحة) رقم (١٥٢٠)، وأبو يعلى (٤/ ٤٥٣) رقم (٢٥٨٠)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٤٢) باب الاعتراف بالزنى الذي يجب به الحد ما هو، كلهم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لماعز بن مالك: «أحق ما بلغني عنك» ؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: «بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان»، قال: نعم. قال: فشهد أربع شهادات، ثم أمر به، فرجم».
وللحديث طريق آخر عن ابن عباس:
أخرجه البخاري (١٢/ ١٣٨) كتاب «الحدود»، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت؟، حديث (٣٨٢٤)، وأبو داود (٤/ ٥٨) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢٧)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٨- ٢٧٩) كتاب «الرجم»، باب مسألة المعترف بالزنا عن كيفيته، حديث (٧١٦٩)، وأحمد (١/ ٢٣٨، ٢٧٠)، والدارقطني (٣/ ١٢١) كتاب «الحدود والديات»، حديث (١٣١، ١٣٢)، والبيهقي (٨/ ٢٢٦) كتاب «الحدود»، باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، وابن حزم في «المحلى» (١١/ ١٧٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٤٦٧- بتحقيقنا)، والطبراني في «الكبير» (١١/ ٣٣٨) رقم (١١٩٣٦)، كلهم من طريق جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ؟ قال:
لا يا رسول الله قال: «أنكتها؟» - لا يكني- قال: فعند ذلك أمر برجمه.
وأخرجه أبو داود (٤/ ٥٧٨) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢١)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٩) كتاب «الرجم»، باب مسألة المعترف بالزنا عن كيفيته، حديث (٧١٧٠) كلاهما من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن ماعز بن مالك أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنه زنى، فأعرض عنه، فأعاد عليه مرارا، فأعرض عنه، فسأل قومه: «أمجنون هو؟» قالوا: ليس به بأس قال:
«أفعلت بها» ؟ قال: نعم فأمر به أن يرجم، فانطلق به فرجم ولم يصل عليه. وأخرجه أحمد (١/ ٢٨٩، ٣٢٥)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٨) كتاب «الرجم»، باب مسألة المعترف بالزنا عن كيفيته، حديث (٧١٦٨)، والدارقطني (٣/ ١٢٢) كتاب «الحدود والديات»، حديث (١٣٣) كلهم من طريق عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن الأسلمي أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعترف بالزنا فقال: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت». واللفظ للنسائي في «الكبرى».
(٢) حديث جابر:
أخرجه البخاري (١٢/ ١٢٩) كتاب «الحدود»، باب الرجم بالمصلى، حديث (٦٨٢٠)، ومسلم (٣/ ١٣١٨) كتاب «الحدود»، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (١٦/ ١٦٩١)، وأبو داود (٤/ ٥٨٠) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٣٠)، والترمذي (٤/ ٢٨) كتاب «الحدود»، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، حديث (١٤٢٩)، والنسائي (٤/ ٦٢- ٦٣) كتاب «الجنائز»، باب ترك الصلاة على المرجوم، وأحمد (٣/ ٣٢٣)، وابن الجارود رقم (٨١٣)، والدارقطني (٣/ ١٢٧- ١٢٨) كتاب «الحدود والديات»، حديث (١٤٦) كلهم من طريق عبد الرزاق في «المصنف» (٧/ ٣٢٠)، رقم (١٣٣٣٧) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر أن رجلا من أسلم جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاعترف عنده بالزنى، ثم اعترف فأعرض عنه، ثم اعترف فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أبك جنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم قال: فأمر-
183
..
- به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
خيرا، ولم يصل عليه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
أما البخاري فقال في روايته: «وصلّى عليه»، وقد رواه من طريق محمود بن غيلان عن عبد الرزاق به.
قال الحافظ في «الفتح» :(١٢/ ١٣٣) : قوله: «وصلّى عليه» هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وخالفه محمد بن يحيى الذهلي وجماعة عن عبد الرزاق، فقالوا في آخره: «ولم يصل عليه» قال المنذري في حاشية السنن: رواه ثمانية أنفس عن عبد الرزاق، فلم يذكروا قوله: «وصلّى عليه» قلت: قد أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق، ومسلم عن إسحاق بن راهويه، وأبو داود عن محمد بن المتوكل العسقلاني، وابن حبان من طريقه: زاد أبو داود والحسن بن علي الخلال والترمذي عن الحسن بن علي المذكور، والنسائي وابن الجارود عن محمد بن يحيى الذهلي، زاد النسائي ومحمد بن رافع ونوح بن حبيب والإسماعيلي، والدارقطني من طريق أحمد بن منصور الرمادي زاد الإسماعيلي: ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدبري ومحمد بن سهل الصغاني، فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس خالفوا محمودا، منهم من سكت عن هذه الزيادة، ومنهم من صرح بنفيها. اهـ.
قلت: وعليه، فزيادة «وصلّى عليه» زيادة شاذة، تفرد بها محمود بن غيلان، وخالف فيها الثقات.
وقد رواه ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر، أن رجلا من «أسلم» أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فحدثه أنه زنى، فشهد على نفسه أنه زنى أربعا، فأمر برجمه، وكان قد أحصن.
أخرجه الدارمي (٢/ ١٧٦) كتاب «الحدود»، باب الاعتراف بالزنا من طريق أبي عاصم عن ابن جريج به.
وللحديث طريق آخر عن جابر:
أخرجه أبو داود (٤/ ٥٧٧) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢٠) من طريق محمد بن إسحاق قال: ذكرت لعاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك، فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: حدثني ذلك من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلّا تركتموه» من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم قال: ولم أعرف هذا الحديث. قال: فجئت جابر بن عبد الله، فقلت: إن رجالا من أسلم يحدثون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: «ألا تركتموه» وما أعرف الحديث، قال: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به، فرجمناه، فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبرناه قال: «فهلا تركتموه وجئتموني به؟» ليستثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه، فأما لترك حدّ، فلا. قال: فعرفت وجه الحديث.
٣- حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (١٢/ ١٣٦) كتاب «الحدود»، باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت؟ حديث (٦٨٢٥)، ومسلم (٣/ ١٣١٨) كتاب «الحدود»، باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث (١٦/ ١٦٩١)، وأحمد (٢/ ٤٥٣)، والبيهقي (٨/ ٢١٩) كتاب «الحدود»، باب من أجاز أن لا يحضر الإمام، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٤٦٥، ٤٦٦- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن-
184
..
- سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرّحمن، أن أبا هريرة، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أبك جنون؟» قال: لا يا رسول الله، فقال:
«أحصنت؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «اذهبوا، فارجموه».
وللحديث طريق آخر عن أبي هريرة:
أخرجه الترمذي (٤/ ٢٧) كتاب «الحدود»، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، حديث (١٤٢٨)، وابن ماجة (٢/ ٨٥٤) كتاب «الحدود»، باب الرجم، حديث (٢٥٥٤)، وأحمد (٢/ ٢٨٦- ٢٨٧، ٤٥٠)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (٨١٩)، وابن حبان (٢٤٢٢- الإحسان)، والحاكم (٤/ ٣٣٦)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٤٦٥- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: جاء ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الأيمن، فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الأيسر، فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه فقال: إني قد زنيت، قال ذلك أربع مرات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلقوا به، فارجموه» فانطلقوا به، فلما مسته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل في يده لحي جمل فضربه به فصرعه، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «فهلا تركتموه».
وقال الترمذي: حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
وصححه ابن حبان.
وقال البغوي عقبه: هذا حديث متفق على صحته. وهو وهم، فهو متفق على صحته من حديث أبي هريرة، ولكن ليس من هذا الطريق.
وللحديث طريق ثالث عن أبي هريرة:
أخرجه أبو داود (٤/ ٥٧٩) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢٩)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٦- ٢٧٧) كتاب «الرجم»، باب استقصاء الإمام على المعترف عنده بالزنا، حديث (٧١٦٤)، وأبو يعلى (١٠/ ٥٢٤- ٥٢٥) رقم (٦١٤٠) كلهم من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير عن ابن عم لأبي هريرة عن أبي هريرة، أن ماعز بن مالك جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه حتى قالها أربعا، فلما كان في الخامسة قال: «زنيت؟» قال: نعم، قال: «وتدري ما الزنى؟» قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: «ما تريد إلى هذا القول؟» قال: أريد أن تطهرني قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والعصا في الشيء؟» قال: نعم يا رسول الله. قال: فأمر برجمه، فرجم، فسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب.
فسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا، ثم مر بجيفة حمار فقال: «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا جيفة هذا الحمار».. قالا:
غفر الله لك يا رسول الله، وهل يؤكل هذا؟ قال: «فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه، والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة يتقمص فيها». -[.....]
185
..
- وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن عم أبي هريرة.
لكن أخرجه عبد الرزاق (٧/ ٣٢٢) رقم (١٣٣٤٠) عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير عن عبد الرّحمن بن الصامت عن أبي هريرة به. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أبو داود (٤/ ٥٧٩) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢٨)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٧) كتاب «الرجم»، باب ذكر استقصاء الإمام علي المعترف عنده بالزنا، حديث (٧١٦٥)، وابن الجارود رقم (٨١٤)، وابن حبان (١٥١٣- موارد)، والدارقطني (٣/ ١٩٦- ١٩٧) كتاب «الحدود والديات»، حديث (٣٣٩)، والبيهقي (٨/ ٢٢٧) كتاب «الحدود»، باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات. وقد أخرجه ابن حبان (١٥١٤- موارد) من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الزبير به.
وأخرجه النسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٧) كتاب «الرجم»، حديث (٧١٦٦) من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير.
وصححه ابن حبان.
وقال النسائي: عبد الرّحمن بن الهضهاض ليس بمشهور.
قلت: ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٥/ ٢٩٧)، والبخاري في «تاريخه الكبير» (٥/ ٣٦١)، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في «الثقات».
٤- حديث بريدة:
أخرجه مسلم (٣/ ١٣٢١) كتاب «الحدود»، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (٢٢/ ١٦٩٥)، وأبو داود (٤/ ٥٨١) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٧٦) كتاب «الرجم»، باب كيف الاعتراف بالزنا، حديث (٧١٦٣)، وأحمد (٥/ ٣٤٧- ٣٤٨)، والدارقطني (٣/ ٩١- ٩٢) كتاب «الحدود والديات»، حديث (٣٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٤٦٨، ٤٦٩- بتحقيقنا) كلهم من طريق غيلان بن جامع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! طهرني، فقال: «ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبيّ مثل ذلك. حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فيم أطهرك؟» فقال: من الزنى. فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبه جنون؟» فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أزنيت؟» فقال: نعم. فأمر به فرجم. فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك.
لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال: «استغفروا لماعز بن مالك»، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم»، قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهرني. فقال: «ويحك! ارجعي فاستغفري الله، وتوبي إليه»، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك. قال: «وما ذاك؟»، قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال: «آنت» قالت: نعم. فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك». قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال:
فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد وضعت الغامدية. فقال: «إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه» -
186
..
- فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها.
قال الدارقطني: (حديث صحيح).
وقال النسائي: (هذا صالح الإسناد).
٥- حديث جابر بن سمرة:
أخرجه مسلم (٣/ ١٣١٨- ١٣١٩) كتاب «الحدود»، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (١٧/ ١٦٩٢)، وأبو داود (٤/ ٥٧٨) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٢٢)، والدارمي (٢/ ١٧٦- ١٧٧) كتاب «الحدود» باب الاعتراف بالزنا، وأحمد (٥/ ٩١، ٩٩، ١٠٢، ١٠٣)، وعبد الرزاق (٧/ ٣٢٤) رقم (١٣٣٤٣)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٢٩٩- منحة) رقم (١٥٢٢)، وأبو يعلى (١٣/ ٤٤٣- ٤٤٤) رقم (٧٤٤٦)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٤٢) كتاب «الحدود»، باب الاعتراف بالزنى، والبيهقي (٨/ ٢٢٦) كتاب «الحدود»، باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، من طرق عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاسرا ما عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه قد زنى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلعلك؟» قال: لا والله إنه قد زنى الآخر، قال: فرجمه ثم خطب، فقال: «ألا كلما نفروا في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، أما إن أمكنني الله من أحد منهم لأنكلن عنهن».
وللحديث طريق آخر:
أخرجه البزار (٢/ ٢١٨، ٢١٩- كشف) رقم (١٥٥٦) حدثنا صفوان بن المغلس، ثنا بكر بن خداش، ثنا حرب بن خالد بن جابر بن سمرة عن أبيه عن جده قال: جاء ماعز إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض بوجهه، ثم جاءه من قبل وجهه، فأعرض عنه، فجاءه الثالثة، فأعرض عنه، ثم جاءه الرابعة، فلما قال له ذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا إلى صاحبكم، فإن كان صحيحا فارجموه» فسئل عنه فوجد صحيحا، فرجم، فلما أصابته الحجارة حاضرهم، وتلقاه رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلحي جمل، فضربه به فقتله، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إلى النار. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«كلا إنه قد تاب توبة لو تابها أمة من الأمم تقبل منهم».
قال الهيثمي في «الكشف» : له حديث في الصحيح بغير هذا السياق.
وذكره هو في «المجمع» (٦/ ٢٧٠- ٢٧١)، وقال: قلت: لسمرة حديث في الصحيح بغير سياقه، رواه البزار عن شيخه صفوان بن المغلس ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
٦- حديث أبي سعيد:
أخرجه مسلم (٣/ ١٣٢٠- ١٣٢١) كتاب «الحدود»، باب فيمن اعترف على نفسه بالزنى، حديث (٢٠/ ١٦٩٤)، وأبو داود (٤/ ٥٨١) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤٣١)، وأحمد (٣/ ٢- ٣) كلهم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد أن رجلا من «أسلم» يقال له: ماعز بن مالك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه عليّ، فرده النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرارا، قال: ثم سأل قومه؟ فقالوا:
ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد، قال: فرجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأمرنا أن نرجمه قال: فانطلقنا به إلى «بقيع الغرقد» قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم، والمدر، والخزف، قال: فاشتد، واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد-
187
..
- الحرة (يعني الحجارة) حتى سكت، ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا من العشي فقال: «أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا له نبيب كنبيب التيس، عليّ أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به» قال: فما استغفر له، ولا سبه.
٧- حديث نعيم بن هزال:
أخرجه ابن أبي شيبة (١٠/ ٧١) كتاب «الحدود»، باب الزاني كم مرة يرد، حديث (٨٨١٦)، وأحمد (٥/ ٢١٦- ٢١٧)، وأبو داود (٤/ ٥٧٣) كتاب «الحدود»، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (٤٤١٩)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٩٠- ٢٩١) كتاب «الرجم»، باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع، حديث (٧٢٠٥)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٢٠١- ٢٠٢) رقم (٥٣٠، ٥٣١)، والحاكم (٤/ ٣٦٣) كتاب «الحدود»، باب الحفر عند الرجم، والبيهقي (٨/ ٢٢٨) كتاب «الحدود»، باب المعترف بالزنا يرجع عن إقراره، وابن حزم في «المحلى» (١١/ ١٧٧) كلهم من طريق يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال: كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجا، فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله.
حتى قالها أربع مرات. قال صلّى الله عليه وسلّم: إنك قد قلتها أربع مرات، فيمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟
قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم قال: فأمر به أن يرجم، فأخرج به إلى «الحرة»، فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك، فقال: «هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه».
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والحديث أعله ابن حزم بالإرسال.
قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص ٢٩٢) : نعيم بن هزال الأسلمي مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود والنسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد روى عنه عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عبد البر: هو أولى بالصواب، ولا صحبة لنعيم، وإنما الصحبة لأبيه. قلت: والحديث فيه اختلاف كثير. اهـ.
٨- حديث أبي بكر الصديق:
أخرجه أحمد (١/ ٨)، وأبو يعلى (١/ ٤٢، ٤٣) رقم (٤٠، ٤١)، والبزار (٢/ ٢١٧- كشف) رقم (١٥٥٤) من طريق جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن عبد الرّحمن بن أبزى عن أبي بكر الصديق قال:
كنت عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتاه ماعز بن مالك، فاعترف بالزنى، فرده، ثم عاد الثانية، فرده، ثم عاد الثالثة، فرده، فقلت: إن عدت الرابعة رجمك، فعاد الرابعة، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحبسه، ثم أرسل فسأل عنه.
قالوا: لا نعلم إلا خيرا، فأمر برجمه.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦/ ٢٦٩)، وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، ولفظه: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رد ماعزا أربع مرات، ثم أمر برجمه. والطبراني في «الأوسط» إلا أنه قال: ثلاث مرات. وفي أسانيدهم كلها جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف.
٩- حديث أبي ذر:
أخرجه أحمد (٥/ ١٧٩)، والبزار (٢/ ٢١٧، ٢١٨- كشف) رقم (١٥٥٥) كلاهما من طريق-
188
..
- الحجاج بن أرطأة عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن المقدم عن نسعة بن شداد عن أبي ذر قال:
كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فأتاه رجل فقال: إن الآخر زنى، فأعرض عنه ثلاث مرات، ثم ربّع، فأمرنا فحفرنا له حفيرة ليست بالطويلة، فرجم، فارتحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا، فسرنا حتى نزلنا منزلا، فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا ذر ألم تر إلى صاحبكم قد غفر له وأدخل الجنة». قال البزار: لا نعلم أحدا رواه بهذا اللفظ إلا أبو ذر، وعبد الملك معروف، وعبد الله بن المقدام ونسعة لا نعلمهما ذكرا إلا في هذا الحديث. والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٦/ ٢٦٩) وقال: رواه أحمد والبزار، وفيه الحجاج بن أرطأة، وهو مدلس.
١٠- حديث رجل من الصحابة:
أخرجه النسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٨٩) كتاب «الرجم»، باب كيف يفعل بالرجل، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك، حديث (٧٢٠١) من طريق سلمة بن كهيل. قال: حدثني أبو مالك عن رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربع مرات، كل ذلك يرده، ويقول: «أخبرت أحدا غيري»، ثم أمر برجمه، فذهبوا به إلى مكان يبلغ صدره إلى حائط، فذهب يثب فرماه رجل............» الحديث.
١١- حديث سهل بن سعد:
ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦/ ٢٧١) عنه قال: شهدت ماعزا حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجمه، فاتبعه الناس يرجمونه، حتى لقيه عمر بالجبانة، فضربه بلحي جمل فقتله.
وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو كذاب.
١٢- حديث أبي برزة الأسلمي:
أخرجه ابن أبي شيبة (١٠/ ٧٨) كتاب «الحدود»، باب في الزاني كم مرة يرد، حديث (٨٨٣١)، وأحمد (٤/ ٤٢٣)، وأبو يعلى (١٣/ ٤٢٦) رقم (٧٤٣١) من طريق مساور بن عبيد قال: حدثني أبو برزة قال:
رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منا يقال له ماعز بن مالك.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦/ ٢٦٨)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
١٣- مرسل سعيد بن المسيب:
أخرجه النسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٨١) كتاب «الرجم»، باب اختلاف الزهري وسعيد بن المسيب في هذا الحديث، من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن رجلا من «أسلم» جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له: إن الآخر قد زنى، فقال له أبو بكر: هل ذكرت ذلك لأحد غيري؟ قال: لا، قال: فاستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده، فأتى عمر فقال له مثل ما قاله لأبي بكر فقال له عمر ما قال له أبو بكر، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الآخر قد زنى، قال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات، كل ذلك يعرض عنه حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله فقال: «أيشتكي؟ أبه جنة؟» فقالوا: والله إنه لصحيح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبكر أم ثيب؟» قال: بل ثيب، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجم.
١٤- مرسل الشعبي:
أخرجه ابن أبي شيبة (٥/ ٥٣٨) كتاب «الحدود»، باب في الزاني كم مرة يرد، حديث (٢٨٧٧) من طريق جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: شهد ماعز على نفسه أربع مرات أنه قد زنى، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن-
189
القُرآن «١»، جعَلَ رَجْمَ الرسول دُونَ جَلْدٍ ناسخاً لجَلْدِ الثيِّب، وهذا الذي عليه الأَمَّة أنَّ السُّنَّة المتواترة تَنْسَخُ القُرآن إذ هما جميعاً وحْيٌ من اللَّه سبحانَهُ، ويوجِبَانِ جميعاً العِلْم والعَمَل.
ويتَّجه عندي في هذه النَّازلة بعَيْنها أنْ يُقَالَ: إن الناسِخَ لِحُكْمِ الجَلْد هو القرآن المتَّفَقُ على رَفْعِ لفظه، وبقاءِ حُكْمه في قوله تعالى: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فارجموهما أَلْبَتَّةَ»، وهذا نصٌّ في الرجم، وقد قَرَّره عمر على المِنْبر بمَحْضَر الصَّحابة، والحديثُ بكماله في مُسْلم، والسُّنَّةُ هي المبيِّنة، ولفظُ «البخاريِّ» :«أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الرَّجْمُ لِلثَّيِّب، وَالجَلْدُ لِلْبِكْرِ» «٢». انتهى.
وقوله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ... الآية: قال مجاهدٌ وغيره: الآيةُ الأولى في النساء عموماً، وهذه في الرِّجال، فعقوبةُ النِّساء الحَبْسُ، وعقوبةُ الرِّجَالِ الأذى «٣»، وهذا قولٌ يقتضيه اللَّفْظ، ويستوفي نصُّ الكلام أصنافَ الزُّنَاة عامَّة ويؤيِّده مِنْ جهة اللفظ قولُه في الأولى: مِنْ نِسائِكُمْ، وقوله في الثانية: مِنْكُمْ، وأجمع العلماءُ على أنَّ هاتين الآيتين منُسْوخَتَانِ كما تقدّم.
- يرجم. وقصة ماعز في الزنا ورجمه قد عدها الحافظ السيوطي متواترة، فذكرها في كتابه «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» (ص ٥٩) رقم (٨٢)، وعزاها إلى الشيخين عن جابر بن عبد الله وابن عباس ومسلم عن بريدة وجابر بن سمرة وأبي سعيد، وأبي داود عن اللجلاج ونعيم بن هزال وأبي هريرة، والنسائي عن رجل من الصحابة ومن مرسل ابن المسيب، وأحمد عن أبي بكر الصديق وأبي ذر، وابن أبي شيبة في «المصنف» عن نصر والد عثمان، ومن مرسل عطاء بن يسار والشعبي، وأبي مرة في سننه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف.
(١) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ١٠٩)، و «البرهان لإمام الحرمين» (٢/ ١٣٠٧)، و «سلاسل الذهب» للزركشي (٣٠٢)، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ١٣٩)، و «نهاية السول» للأسنوي (٢/ ٥٧٨)، و «منهاج العقول» للبدخشي (٢/ ٢٥٢)، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٨٨)، و «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢/ ٢٣)، و «المنخول» للغزالي (٢٩٢)، و «والمستصفى له» (١/ ١٢٤)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ١٣٩)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢/ ١١١)، و «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ٣٩٢)، و «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (٤١٨)، و «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤/ ٥٠٥)، و «التحرير» لابن الهمام (٣٨٨)، و «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود ابن عمر التفتازاني (٢/ ٣٦)، و «ميزان الأصول» للسمرقندي (٢/ ١٠٠٦)، و «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (٣/ ٦٠).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٢).
190

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
وقوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ... الآية.
قال ص: التوبةُ: مبتدأٌ على حذفِ مضافٍ، أي: قَبُولُ التوبةِ. انتهى.
قال ع «١» :«إنَّمَا» : حاصرةٌ، وهو مَقْصد المتكلِّم بها أبداً، فقد تصادِفُ من المعنى ما يقتضي العَقْلُ فيه الحَصْر كقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: ١٧١]، وقد لا تصادف ذلك كقوله: «إنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ»، وهي في هذه الآية حاصرةٌ إذ ليستِ التوبةُ إلا لهذا الصِّنْف المذكور، وتصحُّ التوبة، وإن نَقَضَها التائِبُ في ثانِي حَالٍ بمعاودَةِ الذنْبِ، فإنَّ التوبة الأولى طاعةٌ قد انقضت وصحَّت، وهو محتاجٌ بعد مواقعة الذَّنْب إلى توبةٍ أخرى مستأنَفَةٍ، وتصحُّ أيضاً التوبةُ من ذَنْب مع الإقامة على غيره من غير نَوْعِهِ، خلافاً للمُعْتَزِلَة «٢» في قولهم: لا يكُونُ تائباً مَنْ أقام على ذَنْب.
وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ، أي: على فَضْلِ اللَّه ورحْمتِهِ لعبادِهِ، وهذا نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ»، إنما معناه: ما حقُّهم على فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، والعقيدةُ أنَّه لا يجبُ على اللَّه/ تعالى شيْءٌ عقلاً، والسُّوءَ في هذه الآية: يعمُّ الكُفْرَ والمعاصِيَ، وقوله تعالى: بِجَهالَةٍ: معناه: بسفاهةٍ، وقلَّةِ تحصيلِ أدى إلى المعصية، وليس المعنى أنْ تكونَ الجَهَالَةُ بِأنَّ ذلِك الفِعْلَ معصيةٌ لأنَّ المتعمِّد للذُّنوبِ كان يخرج من التّوبة، وهذا
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢١).
(٢) كان للحسن البصري تلميذ يتلقى عليه، فلما سمعه يقرر أن مرتكب الكبيرة مذنب عاص إن لم يتب، فأمره لربه إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عقابا لا خلود معه في النار، وأن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى. عند ذلك خالف أستاذه في هاتين المسألتين، واعتزل مجلس أستاذه إلى مجلس آخر يقرر في المسألة الأولى أنه ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو واسطة بينهما، فلا هو بمؤمن لأن الإيمان عقيدة وعمل، ولا بكافر، ويقرر في الثانية أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية بإقدار من الله تعالى، عند ذلك قال الحسن: اعتزلنا واصل، فسموا «معتزلة» لذلك، ثم كثر أتباع واصل، وصار لهم مذهب معروف في مسائل كثيرة، منها: وجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي، ومنها نفي الصفات القديمة، ومنها مسألة الحسن والقبح العقليين، ومسألة الصلاح والأصلح.
ينظر: «مذكرة الشيخ»، صالح موسى شرف.
191
فاسدٌ إجماعاً، وما ذكرتُهُ في الجَهَالة قاله أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذَكَرَ ذلك عَنْهم أبو العَالِيَةِ «١»، وقال قتادةُ: اجتمع أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أنَّ كلَّ مَعْصِيَةٍ، فَهِيَ بِجَهَالَةٍ، عَمْداً كانَتْ أو جهلاً «٢» وقال به ابنُ عَبَّاس، ومجاهد، والسُّدِّيُّ، وروي عن مجاهدٍ والضَّحَّاك أنهما قالا: الجَهَالَةُ هنا العَمْد «٣»، وقال عِكْرِمَةُ: أمور الدنيا كلُّها جهالة «٤».
قال ع «٥» : يريد الخاصَّة بها الخارِجَةَ عَنْ طاعة اللَّه سبحانه، وهذا المعنى عندي جَارٍ مع قوله تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الحديد: ٢٠].
واختلف المتأوِّلون في قوله تعالى: مِنْ قَرِيبٍ.
فقال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: معنى ذلك: قَبْلَ المَرَضِ والموتِ «٦»، وقال الجمهورُ:
معنى ذلك قَبْلَ المعايَنَةِ للملائِكَةِ والسَّوْق، وأن يُغْلَبَ المَرْءُ على نفسه، وروى أبو قِلاَبَةَ «٧» أنَّ اللَّه تعالى لَمَّا خَلَقَ آدم فَرَآهُ إبْلِيسُ أَجْوَفَ، ثُمَّ جرى لَهُ مَا جرى، ولُعِنَ وَأُنْظِرَ، قَالَ: وَعِزَّتِكَ، لاَ بَرِحْتُ مِنْ قَلْبِهِ، مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ، فقَالَ اللَّه تعالى: «وَعِزَّتِي لاَ أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا دَام فِيهِ الرُّوحُ» «٨».
قال ع «٩» : فابنُ عبَّاس (رضي اللَّه عنه) ذكَرَ أحسن أوقات التوبة، والجمهور حدّوا
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٠) برقم (٨٨٣٣)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٠) برقم (٨٨٣٤)، وذكره البغوي (١/ ٤٠٧)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٢)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤١) برقم (٨٨٤١)، (٨٨٤٢) عن مجاهد وبرقم (٨٨٤٣) عن الضحاك، وذكره البغوي (١/ ٤٠٧) عن مجاهد. وابن عطية (٢/ ٢٤) عنهما.
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤١) برقم (٨٨٤٤)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤). [.....]
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤).
(٦) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٢) برقم (٨٨٤٥) عن السدي، وبرقم (٨٨٤٦) عن ابن عباس. وذكره البغوي (١/ ٤٠٧) عن السدي، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤) عنهما.
(٧) عبد الله بن زيد بن عمرو بن عامر الجرمي، أبو قلابة البصري، أحد الأئمة، نزل «الشام» عن عائشة في «مسلم» و «النسائي». وعن عمر مرسلا، وحذيفة، وابن عباس، وأبي هريرة، ومعاوية وخلق. وعنه مولاه أبو رجاء، وقتادة، وأيّوب، وخالد الحذّاء، وعاصم الأحول وخلق. قال أيوب: أبو قلابة من الفقهاء ذوي الألباب. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. قال خليفة: مات بالشام سنة أربع ومائة، وقيل:
سنة ست، وقيل: سنة سبع.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٥٨).
(٨) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٣) برقم (٨٨٥٤)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٤).
(٩) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥).
192
آخر وقتها «١»، وروى بَشِيرُ بْنُ كَعْب، والحَسَنُ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تعالى يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، وَيُغْلَبْ على عَقْلِهِ» «٢».
قال ع «٣» : لأنَّ الرجاءَ فيه باقٍ، ويصحُّ منه النَّدَمِ والعَزْم على التركِ، وقوله تعالى: مِنْ قَرِيبٍ، إنما معناه: مِنْ قريبٍ إلى وقْت الذَّنْبِ، ومُدَّةُ الحياةِ كلِّها قريبٌ، والمبادرةُ في الصِّحَّة أفضلُ، قلت: بل المبادرة واجبَةٌ.
وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً، أي: بمَنْ يتوبُ، ويُيَسِّره هو سبحانه للتَّوْبَة حَكِيماً: فيما ينفذه من ذلكَ، وفي تَأْخِيرِ من يُؤَخِّر حتى يَهْلِكَ، ثم نفى بقوله تعالى:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ... الآية: أنْ يدخُلَ في حُكْم التائبين مَنْ حضره موتُهُ، وصار في حَيِّز اليأس كما كان فرعونُ حِينَ صار في غَمْرة المَاءِ، والغَرَقِ، فلم ينفعْهُ ما أظهره من الإيمان وبهذا قال ابنُ عَبَّاس وجماعةُ المفسِّرين «٤».
قال ع «٥» : والعقيدةُ عندي في هذه الآيات: أن مَنْ تاب مِنْ قريبٍ، فله حُكْمُ التائب، فَيَغْلِبُ الظَّنُّ عليه أنه ينعَّم ولا يعذَّب هذا مذهبُ أبي المَعَالِي وغيره.
وقال غيرهم: بل هو مغفُورٌ له قطعاً لإخبار اللَّه تعالى بذلك، وأبو المَعَالِي يجعل تلْكَ الأخبار ظَوَاهِرَ مشروطةً بالمَشِيئَةِ، ومَنْ لَم يَتُبْ حتى حضره المَوْت، فليس في حُكْم التائبين، فإنْ كان كافراً، فهو يخلَّد، وإن كان مؤمناً، فهو عاصٍ في المشيئة، لكنْ يَغْلِبُ الخَوْفُ عليه، ويَقْوَى الظنُّ في تعذيبه، ويُقْطَعُ من جهة السمْع أنَّ مِنْ هذه الصَّنِيفَةِ مَنْ يَغْفِرُ اللَّه تعالى لَهُ تفضُّلاً منه لا يعذِّبه.
وأَعْلَمَ اللَّه تعالى أيضاً أنَّ الذين يموتُونَ، وهم كفَّار فلا مُستعْتَبَ لهم، ولا توبةَ في الآخِرَةِ.
وقوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً: إنْ كانتِ الإشارة إلى الذين يموتُونَ، وهم كفَّار، فقَطْ، فالعذَابُ عذَابُ خلودٍ مؤبَّد، وإنْ كانَتِ الإشارة إليهم وإلى مَنْ ينفذ علَيْه الوعيدُ مِمَّنْ لا يتُوبُ إلاَّ مع حضورِ المَوْت/، فهو في جهة هؤلاء عذاب لا خلود معه،
(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥).
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٥) برقم (٨٨٦٣).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥).
193
وأَعْتَدْنا معناه: يسّرناه وأحضرناه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٩ الى ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً... الآية: قال ابن عَبَّاس: كانوا في الجاهليَّة، إذا مات الرجُلُ كانَ أولياؤه أحَقَّ بامرأته من أهلها، إن شاءوا تزوّجها أحدهم، وإن شاءوا زوّجوها من غيرهم، وإن شاءوا مَنَعُوهَا الزَّوَاج، فنزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ «١».
وقال بعضُ المتأوِّلين: معنى الآية: لا يحلُّ لكم عَضْل النساءِ اللواتِي أنْتُم أولياء لهنَّ، وإمساكُهُنَّ دون تزويجٍ حتى يَمُتْنَ، فتورَثُ أموالُهُنَّ.
قال ع «٢» : فعلى هذا القولِ: فالموروث مالُهَا، لا هِيَ وروي نَحْوَ هذا عن ابْنِ عَبَّاس «٣».
وقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ... الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: هي أيضاً في أولئك الأولياء الذين كَانُوا يَرِثُون المرأةَ، لأنهم كانوا يتزوَّجونها إذا كانَتْ جميلةً، ويمسِكُونها حتى تموتَ إذا كانت دميمةً «٤» وقال نحوَهُ الحَسَن، وعِكْرِمَة، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً: هي في الأزواج في الرَّجُل يُمْسِكُ المرأَةَ، ويسيءُ عِشْرتها حتى تَفْتَدِيَ منه فذلك لا يحلُّ له «٥»، وقَالَ مثلَهُ قتادةَ «٦»، وهو أقوى الأقوال ودليل ذلك: قوله:
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٧) برقم (٨٨٧٠)، وذكره البغوي (١/ ٤٠٨)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٤).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٦).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٧) برقم (٨٨٧٤)، وذكره البغوي (١/ ٤٠٨)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٦٤٩) برقم (٨٨٨٣)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]
(٥) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٧).
(٦) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٠) برقم (٨٨٨٦)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٧).
194
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ، وإذا أتَتْ بفاحشةٍ، فليس للوليِّ حَبْسُهَا حتَّى يذهب بمالِهَا إجماعاً من الأُمَّة، وإنما ذلك للزَّوْج على ما سنبيِّنه الآن (إن شاء اللَّه)، وكذلك قوله:
عاشِرُوهُنَّ... إلى آخر الآية، يظهر منه تقويةُ ما ذكرته.
واختلِفَ في معنى «الفَاحِشَةِ» هنا، فقال الحسَنُ بنُ أبي الحَسَن: هو الزِّنَا «١»، قال أبو قِلاَبَةَ: إذا زنَتِ امرأة الرجُلِ، فلا بأس أنْ يُضارَّها، ويَشُقَّ عليها حتى تَفْتَدِيَ منْه، وقال السُّدِّيُّ: إذا فعلْنَ ذلك، فَخُذُوا مهورَهُنَّ «٢».
قلْتُ: وحديثُ المتلاعنَيْن يضعِّف هذا القول لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فَذَاكَ بِمَا استحللت مِنْ فَرْجِهَا... » الحديث «٣».
وقال ابنُ عبَّاس وغيره: الفاحشةُ في هذه الآية: البُغْضُ والنُّشُوز فإذا نَشَزَتْ، حلَّ له أنْ يأخذ مالَهَا «٤».
قال ع «٥» : وهو مذهبُ مالكٍ.
وقال قوم: الفاحشةُ: البَذَاء باللِّسان، وسوءُ العِشْرة قولاً وفعلاً، وهذا في معنَى النُّشُوز.
قال ع «٦» : والزنا أصعَبُ علَى الزَّوْج من النُّشُوز والأذى، وكُلُّ ذلك فاحشةٌ تُحِلُّ أَخْذَ المالِ.
وقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ: أمرٌ يعمُّ الأزواجَ والأولياءَ، ولكنَّ المتلبِّس في الأغلب بهذا الأمر الأزواجُ، والعِشْرَةُ: المخالطةُ والممازجة.
وقوله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً،
(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ٤٠٩)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٦)، وعزاه لابن جرير.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٢) برقم (٨٨٩٨)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨).
(٣) سيأتي تخريج أحاديث اللعان في محلها، وهي في سورة «النور».
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٢) برقم (٨٩٠٠)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٥)، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨).
195
قال السُّدِّيُّ: الخيرُ الكثيرُ في المرأة الولَدُ «١»، وقال نحوَهُ ابْنُ عَباس».
قال ع «٣» : ومِنْ فصاحة القرآن العمومُ الذي في لفظَةِ «شَيْء» لأنه يطَّرد هذا النَّظَرُ في كلِّ ما يكرهه المرءُ ممَّا يجمُلُ الصبْرُ عليه، ويحسُنُ، إذ عاقبةُ الصَّبْرِ إلى خيرٍ، إذا أريد به وَجْهُ اللَّهِ.
وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ... الآية: لما مضى في الآية المتقدِّمة حُكْمُ الفِرَاقِ الذي سبَبَهُ المرأةُ، وأنَّ للزوج أخْذَ المالِ منْها، عَقَّبَ ذلك بِذكْرِ الفِراقِ الذي سبَبَه الزَّوْجُ، والمَنْع من أخْذ مالها مع ذلك.
وقال بعضُ النَّاس: يؤخَذُ من الآية جوازُ المُغَالاة بالمُهُور، وقال قوم: لا تُعْطِي الآيةُ ذلك لأن التمثيل إنما جاء على جهة المبالغةِ «٤».
والبُهْتان: مصدر في موضعِ الحالِ، ومعناه: مُبْهتاً، ثم وعظ تعالى عباده، وأَفْضى: معناه: بَاشَرَ، وقال مجاهدٌ وغيره: الإفْضَاءُ في هذه الآية: الجماعُ «٥»، قال ابنُ عَبَّاس: ولكنَّ اللَّه كريمٌ يَكْنِي «٦».
واختلف في المراد بالميثاقِ الغَليظِ.
فقال الحسن وغيره: / هو قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «٧» [البقرة: ٢٢٩] وقال مجاهدٌ، وابنُ زَيْدٍ: الميثاقُ الغليظُ: عُقْدةُ النِّكاحِ «٨»، وقول الرّجل:
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٥) برقم (٨٩١١)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ٤٠٩)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٦)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٥) برقم (٨٩١٢)، وذكره ابن عطية (٢/ ٢٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٨).
(٤) ومن أقبح العادات أن يطلب والد العروس من الزوج ما يعجز عن دفعه، فيضطر إلى بيع ما يملك أو الاستدانة من غيره، فيبتدىء صفحة حياته الجديدة بالهم والشقاء المستمر، وهذا من دواعي إحجام بعض الشباب عن الزواج، وفي الحديث الشريف «أقلهن صداقا أكثرهن بركة».
ينظر: «أحكام الصداق» لشيخنا محمد جوهر.
(٥) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٦) برقم (٨٩١٨)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٠).
(٦) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٦) برقم (٨٩١٥)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(٧) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٧) برقم (٨٩٢٧)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٠).
(٨) أخرجه الطبري (٣/ ٦٥٨) برقم (٨٩٢٨- ٨٩٣٢) عن مجاهد، وبرقم (٨٩٣٣) عن زيد. وذكره ابن-
196
نَكَحْتُ، ومَلَكْتُ النِّكاحَ، ونحوه، فهذه التي بها تستحلُّ الفرُوج.
وقال عكرمة، والرَّبيع: الميثاقُ الغليظُ يفسّره قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «استوصوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» «١».
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ: سبب الآيةِ ما اعتادته بعضُ قبائلِ العَرَبِ أنْ يَخْلُفَ ابنُ الرَّجُلِ على امرأةِ أَبِيهِ، وقد كان في العَرَب من تَزَوَّجَ ابنته، وهو حَاجِبُ بْنُ زُرارة «٢».
واختلف في مقتضى ألفاظ الآية.
فقالَتْ فرقةٌ: قوله: مَا نَكَحَ، يريد: النساءَ، أي: لا تنكحوا النساءَ اللواتي نكَحَ آباؤكم، وقوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، معناه: ولكنْ ما قَدْ سَلَفَ، فَدَعُوهُ، وقال بعضهم:
المعنى: لكنْ ما قد سَلَفَ، فهو مَعْفُوٌّ عنكم لِمَنْ كان واقَعَهُ، فكأنه قال: ولا تفعلوا، حَاشَا ما قد سَلَفَ، وقالتْ فرقة: معناه: لا تَنْكِحُوا كَمَا نَكَح آباؤكم مِنْ عقودهم الفاسدةِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ منْكم من تلك العقود الفاسدة، فمباح لكم إلا قامة علَيْه في الإسلامِ، إذا كان ممَّا يقرِّر الإسلامُ عَلَيْه، وقيل: إلا ما قد سَلَفَ، فهو معفوٌّ عنكم، وقال ابن زَيْدٍ: معنى الآية:
النهي عن أن يطأ الرجُلُ امرأةً وطئها الأبُ، إلاَّ ما سَلَفَ من الآباءِ في الجاهليَّة مِنَ الزِّنا بالنساءِ، لا على وجه المُنَاكَحَةِ، فذلك جائزٌ لكُمْ لأنَّ ذلك الزنَا كَانَ فاحشةً، والمَقْتُ:
البُغْض والاحتقار، بسبب رذيلة يفعلها الممقُوتُ، وَساءَ سَبِيلًا: أي: بئْسَ الطريقُ والمنهجُ لِمَنْ يسلكه إذ عاقبته إلى عذاب اللَّه.
قال ص: «سَاءَ» للمبالغةِ فِي الذمِّ ك «بِئْسَ»، وسَبِيلاً: تفسيرُهُ، والمخصوص
- عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣٨)، وعزاه لابن أبي شيبة عن مجاهد.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) حاجب بن زرارة بن عدس، الدارمي التميمي، من سادات العرب في الجاهلية. كان رئيس تميم في عدة مواطن. وهو الذي رهن قوسه عند كسرى على مال عظيم ووفى به. وحضر يوم شعب جبلة (من أيام العرب المعروفة) قبل ١٩ أو ١٧ سنة من مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأدرك الإسلام وأسلم. وبعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على صدقات بني تميم، فلم يلبث أن مات نحو ٣ هـ. تنظر ترجمته في: «الأعلام» (٢/ ١٥٣).
بالذمِّ محذوفٌ، أي: سبيلُ هذا النكاحِ كقوله تعالى: بِئْسَ الشَّرابُ [الكهف: ٢٩]، أي:
ذلِكَ الماءُ انتهى.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
وقوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ... الآية: حُكْمٌ حرَّم اللَّه به سبعاً من النَّسَب، وسِتًّا من بَيْنِ رضاعٍ وصهْرٍ، وأَلْحَقَتِ السنةُ المتواترةُ سابِعَةً، وهي الجَمْعُ بَيْنَ المرأةِ وعَمَّتها «١»، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابْنِ عَبَّاس أنه قال: حرّم من النّسب
(١) وقد اختلف العلماء في الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها: فذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء إلى القول بحرمة الجمع بينهما، وعلى ذلك فمن كان تحته امرأة وعقد على عمتها أو خالتها كان النكاح فاسدا يجب فسخه مطلقا. وذهبت الرافضة، والخوارج، وبعض الشيعة، وعثمان البتي إلى القول بجواز الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وعليه فمن كان عنده امرأة، ثم عقد على عمتها أو خالتها كان النكاح صحيحا.
استدل الخوارج والروافض بقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤]. ووجه الدلالة من الآية الكريمة، أنهم قالوا: إن الله (سبحانه وتعالى) لم يذكر في التحريم بالجمع إلا الجمع بين الأختين، ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فدخلت المرأة وعمتها أو خالتها فيما أحل الله، وإذا حلت المرأة على عمتها أو خالتها، فيكون نكاحها عليها صحيحا.
يقال لهم في هذا الدليل: إن قولكم بأن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ عام يشمل المرأة على عمتها أو خالتها غير صحيح لأن العموم في الآية مخصص بالأحاديث الصحيحة المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول.
وأما الجمهور فقد استدلوا بالسّنّة والمعقول:
أما السنة: فأولا ما روي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها بقوله: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها» الحديث، وهو خبر لفظا نهي معنى، فيكون الجمع بينهما حراما، وحيث حرم الجمع، فلو نكحهما معا بطل نكاحهما، وإن نكحهما مرتبا بطل نكاح الثانية لأن الجمع حصل بها.
ثانيا: ما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها، ولا على بنت أختها»، وفي بعض الروايات: «لا الصّغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصّغرى»، فهذه الأحاديث بلغت حد الشهرة، وتلقتها الأمة بالقبول، وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل فوجب استعمال حكمها مع الآية فيكون قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ مستعملا فيما عدا الأختين-
198
سَبْعٌ، ومن الصِّهْرَ سَبْعٌ، وتلا هذه الآية «١»، وقال عمرو بن سالم مِثْلَ ذلك، وجعل السابعةَ قولَهُ تعالى: وَالْمُحْصَناتُ «٢» [النساء: ٢٤].
وقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، أي: سواءٌ دَخَلَ بالبنْتِ، أو لم يَدْخُلْ، فبالعَقْدِ علَى البنْتِ حُرِّمَتِ الأُمُّ هذا الذي عليه الجمهورُ «٣».
وقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ذَكَرَ الأغلَبَ من هذه الأمور إذ هذه
- وعدا من بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحريم الجمع بينهن، ولما كانت الأحاديث لا يعلم تاريخ ورودها، وجب أن تحمل على المقارنة، فتكون مخصصة لعموم الآية، ويكون الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها حراما.
وأما المعقول، فقد قالوا: إن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها يفضي إلى القطيعة، والقرابة المحرمة للنكاح، إنما كانت محرمة لإفضائها إلى القطيعة، فيكون حراما لأن المفضي إلى الحرام حرام.
وحيث بطل دليل المخالفين، وثبتت أدلة الجمهور ترجح لنا مذهبهم، وهو حرمة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وأنه إذا وقع فالنكاح فاسد واجب الفسخ.
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٦٦٢) برقم (٨٩٤٥: ٨٩٥٠)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣١)، وابن كثير (١/ ٤٦٩)، والسيوطي (٢/ ٢٤٠- ٢٤١).
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٦٦٢) برقم (٨٩٥١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣١).
(٣) ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بعدم اشتراط الدخول بالبنت في تحريم الأم، وهو مذهب جمهور الصحابة، وأكثر أهل العلم عليه، حتى كان من قواعدهم المشهورة قولهم: «العقد على البنات يحرم الأمّهات» وعلى ذلك يحرم على الرجل أن يتزوج بأم من عقد عليها، ولم يدخل بها، وإذا حصل، وتزوج بها كان النكاح باطلا يجب فسخه.
وذهب داود الظاهري وبشر المريس والزبير ومجاهد إلى القول بأنه لا يحرم على الرجل أن يتزوج بأم من عقد عليها ولم يدخل بها لأن العقد على البنت عندهم لا يحرم الأم حتى يصحبه دخول. وعلى هذا لو عقد على أم من عقد عليها ولم يدخل بها يكون النكاح صحيحا.
استدل داود الظاهري ومن معه بقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: ٢٣] ووجه الدلالة من هذه الآية: أنهم قالوا: إن الله (سبحانه) ذكر أمهات النساء، وعطف عليها الربائب، ثم أعقبهما بذكر الشرط، وهو الدخول فينصرف الشرط إليهما. ومما يؤيد أن الشرط راجع إليهما جميعا أنه روي عن علي بن أبي طالب ذلك، وقالوا أيضا: يصح أن يكون الموصول، وهو قوله تعالى: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ صفة للجملتين، فيتقيدا بالدخول، ويصير معنى الآية هكذا: وأمّهات نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ، يقال للظاهرية ومن معهم في الآية: إن محل رجوع الشرط المذكور في آخر كلمات الآية معطوف بعضها على بعض للجميع إذا كان مصرحا به، وأما الصفة المذكورة في آخر الكلام فتصرف إلى ما يليها فقط فإنك إذا قلت مثلا: جاءني محمد وخالد العالم، فإن صفة العلم تقتصر على خالد فقط، وقوله تعالى:
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وصف بالدخول، فيقتصر على ما يليه فقط، وأما رواية أن علي بن أبي طالب قال ذلك فإنه رواها عنه خلاس بن عمر الهجري، وقد ضعفها العلماء. قال القرطبي: وحديث خلاس عن-
199
حالةُ الرَّبِيبَةِ في الأكْثَر، وهي محرَّمة، وإن لم تكُنْ في الحِجْرِ، ويقالُ: حِجْرٌ (بكسر الحاء، وفَتْحِها)، وهو مقدَّم ثَوْبِ الإنسان وما بَيْنَ يديه منه، ثم استعملت اللفظةُ في الحفظ والسّتر.
وقوله: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، قال ابن عبَّاس وغيره: الدخُولُ هنا الجماع «١»،
- علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة والقول بأن الموصول يصح أن يكون صفة للجملتين باطل لأنه لو كان وصفا لهما للزم أن يكون وصفا لمعمولي عاملين مختلفين لأن العامل في «أمهات نسائكم» الإضافة، وفي «نسائكم» حرف الجر، وهو «من»، فلو كان الدخول صفة لهما لأدى إلى اختلاف العامل في الصفة، واختلاف العامل على معمول واحد باطل، كالعطف على معمولي عاملين مختلفين، فتعين أنه ليس صفة عائدة إليهما، بل يجب أن يكون صفة لواحد منهما، وما يليه أولا، على أن الاحتياط في الفروج يقضي أن يجعل شرطا في الربيبة فقط.
وأما الجمهور فقد استدلوا بالكتابة، والسنة والمعقول:
أما الكتاب، فقول الله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ووجه الدلالة من الآية: أنهم قالوا: إن الله (سبحانه وتعالى) ذكر تحريم أمهات النّساء مطلقا من غير قيد بالدخول، فتحرم أمهات النّساء ولو لم يدخل بهن، ومما يؤيد إطلاق الآية الكريمة ما روي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال في هذه الآية:
«المرأة مبهمة، فأبهموا ما أبهم الله» أي أطلقوا ما أطلقه الله، وعمموا حكمها في كل حال، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها. وأيضا فإن المعقود عليها يصدق عليها أنها من نسائه، فتدخل في قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.
وأما السنة، فأولا: ما روي عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا نكح الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فله أن يتزوج ابنتها، وليس له أن يتزوج الأم».
وثانيا: ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نكح الرّجل المرأة، فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإن تزوّج الأمّ فلم يدخل بها ثمّ طلّقها، فإن شاء تزوّج البنت» أخرجاه في الصحيحين.
فهذه الأحاديث صريحة في عدم حل أم الزوجة مطلقا، دخل بها، أو لم يدخل.
وأما المعقول، فإنهم قالوا: إن هذا النكاح يفضي إلى قطيعة الرحم لأنه إذا طلق البنت، وتزوج أمها حملها ذلك على الضغينة التي هي سبب لقطيعة الرحم، وكل ما يفضي إلى قطيعة الرحم تحرمه الشريعة الإسلامية، لذلك نجدها تحرم الجمع بين المرأة وأختها، وبين المرأة وبنتها خوفا من قطيعة الرحم، وهذا المعنى يستوي فيه ما إذا دخل بالبنت، وما إذا لم يدخل بها بخلاف الأم حيث قلنا: لا تحرم بنتها بمجرد العقد عليها لأن إباحة نكاح البنت بعد العقد على أمها لا يفضي إلى القطيعة المحرمة، وذلك لما هو معروف عن الأم من الشفقة على بنتها، فهي تؤثرها على نفسها بخلاف البنت، فإنها لا تؤثر أمها على نفسها.
يتبين لنا من بيان الأدلة ومن مناقشة أدلة المخالفين للجمهور رجحان مذهب الجمهور، لقوة أدلتهم، وسلامتها من الطعن، وعدم قوة معارضة غيرها لها.
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٦٦٤) برقم (٨٩٥٩) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٢)، وابن كثير (١/ ٤٧١) بنحوه، والسيوطي (٢/ ٢٤٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.
200
وجمهورُ العلماءِ يقُولُون: إنَّ جميعَ أنواعِ التلذُّذ بالأُمِّ يُحَرِّمُ الإبنةَ كما يحرِّمها الجماعُ، والحلائلُ: جمع حليلة لأنها تحلّ مع الزَّوْج حيث حَلَّ، فهي فَعِيلَةٌ بمعنى فَاعِلَةٍ، وذهب الزَّجَّاج «١» وقومٌ إلى أنَّها مِنْ لفظة «الحَلاَلِ»، فهي حليلةٌ بمعنى مُحَلَّلَةٍ.
وقوله تعالى: الَّذِينَ/ مِنْ أَصْلابِكُمْ يخرُج مَنْ كانَتِ العربُ تتبنَّاه مِمَّنْ ليس للصُّلْب، وحُرِّمَتْ حليلةُ الابن مِنَ الرَّضَاعِ، وإنْ لم يكُنْ للصُّلْب بالإِجماع المستند إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» «٢».
وقوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ: لفظٌ يعمُّ الجمْعَ بنكاحٍ وبملك يمين، وأجمعتِ الأمَّة على مَنْع جَمْعِهِمَا بنكاحٍ، ولا خلافَ في جواز جمعهما بالملك «٣»،
(١) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (٢/ ٣٥).
(٢) أخرجه مالك (٢/ ٦٠١) كتاب «الرضاع»، باب رضاعة الصغير، حديث (١)، والبخاري (٥/ ٣٠٠) كتاب «الشهادات»، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، حديث (٢٦٤٤)، ومسلم (٢/ ١٠٦٨) كتاب «الرضاع»، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، حديث (٢/ ١٤٤٤)، والنسائي (٦/ ١٠٢- ١٠٣) كتاب «النكاح»، باب لبن الفحل، والدارمي (٢/ ١٥٥- ١٥٦) كتاب «النكاح»، باب ما يحرم من الرضاع. وعبد الرزاق (٧/ ٤٧٦) رقم (١٣٩٥٢)، وأحمد (٦/ ١٧٨)، وابن الجارود (٦٨٧)، وأبو يعلى (٧/ ٣٣٨) رقم (٤٣٧٤)، والبيهقي (٧/ ١٥٩) كتاب «النكاح»، باب ما يرحم من نكاح القرابة والرضاع... كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرّحمن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» وله لفظ آخر مطولا.
وللحديث طريق آخر عن عائشة:
أخرجه مالك (٢/ ٦٠٧) كتاب «الرضاع»، باب جامع ما جاء في الرضاعة، حديث (١٥)، والشافعي (٢/ ١٩- ٢٠) كتاب «النكاح»، باب ما جاء في الرضاع، حديث (٥٩)، وعبد الرزاق (٧/ ٤٧٧) رقم (١٣٩٥٤)، وأحمد (٦/ ٤٤، ٥١)، وأبو داود (٢/ ٥٤٥- ٥٤٦) كتاب «النكاح»، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، حديث (٢٠٥٥)، والترمذي (٣/ ٤٥٣) كتاب «الرضاع»، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، حديث (١١٤٧)، وابن ماجة (١/ ٦٢٣) كتاب «النكاح»، باب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، حديث (١٩٣٧). والنسائي (٦/ ٩٩)، والدارمي (٢/ ١٥٦) كتاب «النكاح»، باب ما يحرم من الرضاع. وسعيد بن منصور (١/ ٢٧٣) رقم (٩٥٣)، وابن حبان (٤٢٠٩- الإحسان)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٨٦) رقم (٣٠٤)، والبيهقي (٧/ ١٥٩) كتاب «النكاح»، باب ما يحرم من نكاح القرابة والرضاع. والخطيب في «تاريخ بغداد» (٦/ ٣٣٣) من طرق عن عروة عن عائشة مرفوعا بلفظ: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة».
وقال الترمذي: حسن صحيح. [.....]
(٣) أجمع المسلمون على أنه يحرم على الرجل أن يجمع بين الأختين بعقد نكاح، فمن كان عنده امرأة ثم عقد على أختها، فالعقد فاسد باتفاق المسلمين، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وهذا نص واضح لإفادة التحريم حيث إنه معطوف على أُمَّهاتُكُمْ والعطف يقتضي-
201
ومذْهَبُ مالكٍ أنَّ له أنْ يَطَأَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، والكَفُّ عن الأخرى موكولٌ إلى أمانَتِهِ، فإن أراد وطْءَ الأخرى، فيلزمه أنْ يحرِّم فَرْجَ الأولى بعتْقٍ، أو كتابةٍ، أو غَيْرِ ذلك وثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نهى أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» «١»، وأجمعت الأُمَّة على ذلك.
- الشركة ولأن الجمع بينهما يفضي إلى قطيعة الرحم، وهي حرام، والمفضي إلى الحرام حرام، كما اتفقوا على أنه لو عقد عليهما معا في عقد واحد كان النكاح فاسدا، وكذلك إذا عقد عليهما، ولم تعلم السابقة منهما بطل نكاحهما إذ ليس تخصيص إحداهما بالبطلان في هذه الحالة بأولى من الأخرى.
(١) هذا الحديث تواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورواه عنه جماعة من أصحابه رضوان الله عليهم، وهم: أبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وسمرة بن جندب، وعتاب بن أسيد، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص.
وإليك تخريج أحاديثهم:
حديث أبي هريرة:
وله طرق كثيرة عنه، وقد رواه عنه جماعة من أصحابه، وهم: عامر الشعبي، والأعرج، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وقبيصة بن ذؤيب، وابن سيرين، وعراك بن مالك، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله، وعبد الملك بن يسار، وإبراهيم، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية.
طريق الشعبي:
علقه البخاري (٩/ ١٦٠) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (٥١٠٨)، ووصله أبو داود (٢/ ٥٥٣) كتاب «النكاح»، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، حديث (٢٠٦٥)، والترمذي (٣/ ٤٣٣) كتاب «النكاح»، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، حديث (١١٢٦)، والنسائي (٦/ ٩٨) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها. والدارمي (٢/ ١٣٦) كتاب «النكاح»، باب الحال التي يجوز للرجل أن يخطب فيها. وأحمد (٢/ ٤٢٦)، وعبد الرزاق (٦/ ٢٦٢) رقم (١٠٧٥٨)، وابن أبي شيبة (٤/ ٢٤٦)، وسعيد بن منصور (١/ ٢٠٨) رقم (٦٥٢)، وابن الجارود رقم (٦٨٥)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٧٨- ٧٩) رقم (٢٧٣)، وأبو يعلى (١١/ ٥١٦- ٥١٧) رقم (٦٦٤١)، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص ٣٩٢)، والبيهقي (٧/ ١٦٦) كتاب «النكاح»، باب ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها. كلهم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ٢٢٥- ٢٢٦) من طريق ابن بزيع عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي عن أبي هريرة مرفوعا به.
طريق الأعرج:
أخرجه مالك (٢/ ٥٣٢) كتاب «النكاح»، باب ما لا يجمع بينه من النساء، حديث (٢٠)، والبخاري (٩/ ١٦٠) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (٥١٠٩)، ومسلم (٢/ ١٠٢٨) كتاب-
202
وقوله تعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ: استثناء منقطعٌ، معناه: لكنْ ما قد سَلَفَ من ذلك، ووقع وأزالَهُ الإِسلام، فإن اللَّه تعالى يغفره، والإسلام يجبّه.
- «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، حديث (٣٣/ ١٤٠٨)، والشافعي في «مسنده» (٢/ ١٨) كتاب «النكاح»، باب الترغيب في التزوج (٥٠)، والنسائي (٦/ ٩٦) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها، والدارمي (٢/ ١٣٦) كتاب «النكاح»، باب الحال التي يجوز للرجل أن يخطب فيها. وأحمد (٢/ ٤٦٥)، وسعيد بن منصور (١/ ٢٠٩) رقم (٦٥٤)، ومحمد بن نصر في «السنة» (ص ٧٨) رقم (٢٧٠، ٢٧١)، والبيهقي (٧/ ١٦٥) كتاب «النكاح»، باب ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها.
طريق أبي سلمة:
أخرجه مسلم (٢/ ١٠٢٩) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث (٣٧/ ١٤٠٨)، والنسائي (٦/ ٩٧) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها، وسعيد بن منصور (١/ ٢٠٨) رقم (٦٥٠)، وأحمد (٢/ ٢٢٩، ٤٢٣)، وعبد الرزاق (٦/ ٢٦١) رقم (١٠٧٥٥)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٧٨) رقم (٢٦٩).
طريق قبيصة بن ذؤيب:
أخرجه البخاري (٩/ ١٦٠) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها (٥١١٠)، ومسلم (٢/ ١٠٢٨) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث (٣٥/ ١٤٠٨)، وأبو داود (٢/ ٥٥٤) كتاب «النكاح»، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، حديث (٢٠٦٦)، والنسائي (٦/ ٩٦- ٩٧) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها.
وأحمد (٢/ ٤٠١، ٤٥٢، ٥١٨)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٧٨) برقم (٢٧٢)، والبيهقي (٧/ ١٦٥) كتاب «النكاح»، باب ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها.
طريق ابن سيرين:
أخرجه مسلم (٢/ ١٠٢٩) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، حديث (٣٨/ ١٤٠٨)، والترمذي (٣/ ٤٣٣) كتاب «النكاح»، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها (١١٢٥)، والنسائي (٦/ ٩٨) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها. وابن ماجة (١/ ٦٢١) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (١٩٢٩)، وأحمد (١/ ٤٧٤)، وعبد الرزاق (٦/ ٢٦١) رقم (١٠٧٥٣)، والطبراني في «المعجم الصغير» (١/ ٨٨)، وابن عدي في «الكامل» (١/ ٤١٦)، وأبو نعيم في «الحلية» (٦/ ٣٠٧)، والبيهقي (٧/ ١٦٥) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
طريق عراك بن مالك:
أخرجه مسلم (٢/ ١٠٢٨) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، حديث (٣٤/ ١٤٠٨)، والنسائي (٦/ ٩٧) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها. والبيهقي (٧/ ١٦٥) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها.
وأخرجه النسائي (٦/ ٩٧) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها من طريق عراك بن مالك والأعرج معا عن أبي هريرة مرفوعا به. -
203

[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
- طريق عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله:
أخرجه ابن نصر في «السنة» (ص ٧٨) رقم (٢٧٢) من طريق عقيل عن الزهري عنهما عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها.
طريق عبد الملك بن يسار: أخرجه النسائي (٦/ ١٧) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٧٩) رقم (٢٧٨) من طريق بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الملك بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها».
طريق إبراهيم:
أخرجه سعيد بن منصور (١/ ٢٠٨) رقم (٦٥٣) ثنا هشيم أنا المغيرة عن إبراهيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما صحفتها وللتزوج فإنما لها ما كتب لها».
طريق سعيد بن المسيب وأبي العالية:
ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١/ ٤١٩- ٤٢٠) رقم (١٢٦٣) قال: سمعت أبي يقول: حدثنا هارون بن محمد بن بكار عن أبيه عن سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب وأبي العالية عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يتزوج الرجل [المرأة] على عمتها أو على خالتها. قال أبي: يروي هذا الحديث ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية وسعيد بن المسيب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. قالا:
بلغنا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينكح» وهو أشبه، وابن أبي عروبة أحفظ. اهـ.
وطريق ابن أبي عروبة أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٤/ ٣٧) وقال: المراسيل في هذا الحديث أولى.
وقد اختلف على قتادة في هذا الحديث: فأخرجه العقيلي (٤/ ٣٧) من طريق أبي عاصم ثنا همام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها».
قال العقيلي: وقد قيل: عن أبي عاصم عن همام عن قتادة عن سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسل اهـ.
وقد خالفه محمد بن بلال: أخرجه العقيلي (٤/ ٣٧)، والبزار (٢/ ١٦٥- كشف) من طريقه: ثنا هشام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها.
قال البزار: لا نعلمه عن سمرة إلا من هذا الوجه، ولا نعلم رواه عن همام إلا محمد بن بلال ويعلى بن-
204
وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ عطْفاً على المُحَرَّمَاتِ، قيل: والتحصّن التمنّع، ومنه
- عباد، ومحمد أثبت من يعلى.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٢٦٦) وقال: رواه البزار، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط»، ورجال البزار ثقات.
حديث جابر:
أخرجه البخاري (٩/ ١٦٠) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (٥١٠٨)، والنسائي (٦/ ٩٨) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وأحمد (٣/ ٣٣٨)، والطيالسي (١/ ٣٠٨- منحة) رقم (١٥٦٧)، وعبد الرزاق (٦/ ٢٦٢) رقم (١٠٧٥٩)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٧٩) رقم (٢٧٣)، وأبو يعلى في «مسنده» (٣/ ٤٠٨) رقم (١٨٩٠)، وابن عدي في «الكامل» (٢/ ٦٦٠)، والبيهقي (٧/ ١٦٦) كتاب «النكاح»، باب الجمع بين المرأة وعمتها. من طريق عاصم بن سليمان عن الشعبي عن جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها.
وقد خالفه داود بن أبي هند، فرواه عن الشعبي عن أبي هريرة- وقد مر تخريجه-.
قال البيهقي: الحافظ يرون رواية عاصم خطأ. وقد رده الحافظ ابن حجر في «الفتح» (٩/ ٦٠)، فقال:
وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة. وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، والحديث محفوظ أيضا من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده. اهـ.
وقد تابع أبو الزبير الشعبي على هذا الحديث: أخرجه النسائي (٦/ ٩٨) كتاب «النكاح»، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وابن جميع في «معجم الشيوخ» (ص ١١٨- ١١٩) رقم (٦٩) و (ص ٢٥٢- ٢٥٣) رقم (٢١٢) من طريقين عن أبي الزبير عن جابر به.
حديث علي بن أبي طالب:
أخرجه أحمد (١/ ٧٧- ٧٨)، وأبو يعلى (١/ ٢٩٧) رقم (٣٦٠)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٨٠) رقم (٢٨٣)، والبزار (٢/ ١٦٤- كشف) رقم (١٤٣٤) من طريق ابن لهيعة: ثنا عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها.
قال البزار: لا نعلمه عن علي إلا بهذا الإسناد.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٢٦٦)، وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات.
حديث عبد الله بن مسعود:
أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٠/ رقم ٩٨٠١)، والبزار (٢/ ١٦٥- كشف) رقم (١٤٣٥) من طريق المنهال بن خليفة عن خالد بن سلمة عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله عن ابن مسعود مرفوعا بلفظ: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفىء ما في صحفتها».
قال البزار: لا نعلمه عن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد. -
205
الحِصْن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه مِنْ وُجُوه الاِمتناعِ، وأَحْصَنَتْ نَفْسَهَا، وأَحْصَنَهَا غيْرُها، والإحْصَانُ تستعمله العَرَبُ في أربعةِ أشياءَ، وعلى ذلك تصرَّفَتِ اللفظة في كتاب
- وقال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٢٦٦) : رواه الطبراني في «الكبير»، وإسناده منقطع بين المنهال بن خليفة وعمرو بن الحارث بن أبي ضرار، ورجالهما ثقات اهـ. وهذا الكلام فيه نظر فإن المنهال لم يروه هنا عن عمرو بن الحارث، إنما رواه عن خالد بن سلمة عن عمرو بن الحارث.
حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه أحمد (٢/ ١٧٩، ١٨٢، ١٨٩، ٢٠٧) عن محمد بن جعفر عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها». قال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٢٦٦) : ورجاله ثقات.
وأخرجه محمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٨٠) رقم (٢٨٠) من طريق الحسين بن ذكوان، وابن عدي في «الكامل» (٥/ ٣٢٨) من طريق الحكم، كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وللحديث طريق آخر عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استند إلى بيت، فوعظ الناس وذكرهم.
قال: «لا يصلي أحد بعد العصر حتى الليل، ولا بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي رحم مسيرة ثلاث، ولا يعقد من امرأة على عمتها ولا على خالتها».
قال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٢٦٦) : رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط»... ورجال الجميع ثقات، إلا أن إسناد الطبراني الأول فيه محمد بن أبي ليلى، وهو ضعيف.
حديث عبد الله بن عمر:
أخرجه البزار (٢/ ١٦٥- كشف) رقم (١٤٣٦)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٨٠) رقم (٢٨٤) من طريق كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها.
قال البزار: لا نعلم رواه عن الزهري هكذا إلا جعفر، ولا عنه إلا كثير.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٤٠/ ٢٦٦) : ورواه الطبراني في «الأوسط»، والبزار... ، ورجالهما رجال الصحيح.
وقد أعل هذا الحديث أبو حاتم فقال ابنه في «العلل» (١/ ٤٠٢- ٤٠٣) رقم (١٢٠٥) : سألت أبي عن حديث رواه كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى أن يجلس الرجل على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن تنكح المرأة على عمتها. قال أبي: هذان الحديثان خطأ يرويه عن جعفر عن رجل عن الزهري هكذا، وليس هذا من صحيح حديث الزهري، أما حديث «نهى أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها» فإن عقيلا رواه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وقبيصة بن ذؤيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو أشبه. وأما قصة المائدة، فهو مفتعل، ليس من حديث الثقات.
وللحديث طريق آخر عن ابن عمر:
أخرجه أبو يعلى في «معجم شيوخه» (ص ٢٨١) رقم (٢٤٨) من طريق موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها.
وموسى بن عبيدة الربذي: قال البخاري: منكر الحديث. (الضعفاء- ٣٤٥).
وقال النسائي: ضعيف. (الضعفاء والمتروكين- ٥٨١)، وكذلك ضعفه الدارقطني، فذكره في «الضعفاء» -
206
اللَّهِ عزَّ وجلَّ: فتستعملُهُ في الزَّوَاجِ لأنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ منعة وحفظ، وتستعمله في الحرِّيَّة
- (٥١٧)، وقال: لا يتابع على حديثه.
وقال الترمذي في «السنن» (٣٠٣٩) : موسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل.
وقال البزار (١٨٢٣- كشف) : لم يكن حافظا للحديث لتشاغله بالعبادة فيما نرى اهـ.
فالحديث بهذا الإسناد ضعيف.
حديث ابن عباس:
أخرجه أحمد (١/ ٣٧٢)، وأبو داود (٢/ ٥٤٤) كتاب «النكاح»، باب ما يكره أن يجمع من النساء، حديث (٢٠٦٧)، والترمذي (٣/ ٤٣٢) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها. ومحمد بن نصر المروزي (ص ٨٠) رقم (٢٨٤)، وابن حبان (١٢٧٥- موارد) من طريق عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين الخالتين والعمتين.
واللفظ لأبي داود، وزاد ابن حبان قال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم».
وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن حبان.
حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه أحمد (٣/ ٦٧)، وابن ماجة (١/ ٦٢١) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، حديث (١٩٣٠)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٧٩) رقم (٢٧٧) من طريق محمد بن إسحاق حدثني يعقوب بن عبد الله بن عتبة عن سليمان بن يسار عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن نكاحين: أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (٢/ ١٠٠) : هذا إسناد ضعيف لتدليس ابن إسحاق، وقد عنعنه. اهـ.
قلت: وكلام البوصيري فيه نظر لأن ابن إسحاق صرح بالتحديث عند المروزي في «السنة»، فالسند حسن.
وللحديث طريق آخر:
فأخرجه أبو محمد البخاري في «مسند أبي حنيفة» كما في «جامع المسانيد» للخوارزمي (٢/ ١٠٣) بسنده عن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تتزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها». ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٤/ ١٦٦).
وقال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط»، وفيه عطية، وهو ضعيف. وقد وثق، وفيه ضعيف آخر لا يذكر.
حديث أبي موسى الأشعري:
أخرجه ابن ماجة (١/ ٦٢١) كتاب «النكاح»، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، حديث (١٩٣١) : حدثنا جبارة بن المغلس، ثنا أبو بكر النهشلي، حدثني أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها».
قال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ١٠٠) هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس وهو ضعيف.
من طريق جبارة بن المغلس أخرجه أيضا أبو يعلى في «مسنده» (١٣/ ١٩٣) رقم (٧٢٢٥)، وفي «معجم-
207
لأنَّ الإماء كان عُرْفُهُنَّ في الجاهليَّة الزِّنَا، والحُرَّةُ بخلافِ ذلك ألا ترى إلى قول هند:
- شيوخه» (ص ١٦٨) رقم (١٢٤).
حديث أبي الدرداء:
ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٢٦٧) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها».
وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه راويان لم يسميا.
حديث سمرة بن جندب:
تقدم تخريجه أثناء حديث أبي هريرة، فليراجع.
حديث عتاب بن أسيد:
أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٧/ رقم ٤٢٦) من طريق عبد العزيز بن محمد عن موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد عن عتاب بن أسيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها».
قال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٢٦٣- ٢٦٤) : رواه الطبراني، وفيه موسى بن عبيدة الربذي هو ضعيف.
واختلف على موسى في هذا الحديث: فأخرجه أبو يعلى في «معجم شيوخه» (ص ٢٨١) رقم (٢٤٨)، وابن عدي في «الكامل» (٦/ ٣٣٥) من طريق عبد الرّحيم بن سليمان عن موسى بن عبيدة الربذي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها.
وزاد ابن عدي: ونهى عن الشغار، والشغار أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لهما صداق.
حديث عائشة:
أخرجه أبو يعلى (٨/ ١٩٧- ١٩٨) رقم (٤٧٥٧)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص ٨٠) رقم (٢٨٢) من طريق عبيد الله بن عبد الرّحمن بن موهب قال: سمعت مالك بن محمد بن عبد الرّحمن قال: سمعت عمرة بنت عبد الرّحمن عن عائشة قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابان في أحدهما: «ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها».
ولفظ أبي يعلى مطولا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦/ ٢٩٥) وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير مالك بن أبي الرجال، وقد وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد.
وذكره أيضا ابن حجر في «المطالب العالية» (١٤٨٦)، وعزاه لأبي يعلى.
حديث سعد بن أبي وقاص:
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٣/ ٢١) من طريق مؤمل بن إسماعيل: ثنا الثوري عن خالد بن سلمة المخزومي عن سعيد بن المسيب عن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها».
قال ابن عدي: كذا قال لنا فيه ابن صاعد: عن سعيد بن المسيب، وقال غيره: عن محمد بن ميمون عن عيسى بن طلحة عن سعد، هكذا رواه عن ابن ميمون إبراهيم بن موسى التوزي.
وحدثناه أحمد بن محمد بن سعيد عن عبد الله بن أبي سعد الوراق عن ابن ميمون كذلك، وهذا الحديث عن عيسى بن طلحة عن سعد أشبه من سعيد بن المسيب عن سعد لأنه قد روي عن عيسى بن-
208
«وهَلْ تَزْنِي الحُرَّةُ»، وتستعمله في الإسلام لأنه حافظٌ، وتستعمله في العِفَّة «١» لأنها إذا ارتبط بها إنسانٌ، وظهرَتْ على شَخْصٍ مَّا، وتخلَّق بها، فهي مَنَعَةٌ وحفْظٌ.
وحيثما وقعتِ اللفظة في القرآن، فلا تجدُها تخرُجُ عن هذه المعانِي، لكنَّها قد تقوى فيها بعضُ هذه المعانِي دُونَ بَعْض كما سيأتي بيانُهُ في مكانه (إن شاء اللَّه).
فقوله سبحانه في هذه الآية: وَالْمُحْصَناتُ قال فيه ابنُ عَبَّاس وغيره: هنَّ ذواتُ الأزواجِ، محرَّماتٌ إلاَّ ما ملكَتِ اليمينُ بِالسَّبْيِ «٢»، ورُوِيَ عن ابنِ شِهَابٍ أنه سُئِلَ عن هذه الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ، فقال: نرى أنه حَرَّم في هذه الآية ذَوَاتِ الأزواجِ، والعَفَائِفَ مِنْ حَرَائِرَ ومملوكاتٍ، ولم يحلَّ شيءٌ من ذلك إلاَّ بنكاحٍ، أو شراءٍ، أو تملُّك «٣»، وهذا قولٌ حَسَنٌ عَمَّم لفظَ الإحصانِ، ولَفْظَ ملكِ اليمين، وذلك راجعٌ إلى أنَّ اللَّه حَرَّم الزنا، قال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وغيره: قوله سبحانه: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: إشارةٌ إلى ما ثبت من القرآن من قوله سبحانه: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «٤» [النساء: ٣] وفي هذا بعد،
- طلحة عن سعد موقوفا ومرسلا اهـ. وقد خولف مؤمل في هذا الحديث خالفه عبد الرزاق وأبو عامر، فروياه عن الثوري عن خالد بن سلمة المخزومي عن عيسى بن طلحة قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة.
أخرجه عبد الرزاق (٦/ ٢٦٣) رقم (١٠٧٦٧)، وأبو داود في «المراسيل» (ص ١٨٢) رقم (٢٠٨).
(١) قال صاحب «لسان العرب» :
العفة: الكف عما لا يحل ويجمل: عف عن المحارم والأطماع الدّنيّة يعف عفة، وعفّا، وعفافا، وعفافة، فهو عفيف. وعفّ أي: كف، وتعفف، واستعفف وأعفه الله، وفي التنزيل: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً [النور: ٣٣] فسّره ثعلب فقال: ليضبط نفسه بمثل الصوم، وفي الحديث: «من يستعفف يعفّه الله» أي: من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها.
وقيل: الاستعفاف: الصبر، والنزاهة عن الشيء ومنه الحديث: «اللهمّ إنّي أسألك العفّة والغنى إلخ... ».
وعرف علماء الأخلاق فضيلة العفة بتعاريف متعددة مختلفة أهمها ما يأتي:
أولا: عرفها حجة الإسلام الغزالي فقال: هي تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشّرع.
ثانيا: عرفها محيي الدين بن العربي: بأنها ضبط النّفس عن الشهوات وقسرها على الاكتفاء بما يقيم الجسد، ويحفظ صحته. والّذي ألاحظه على هذين التعريفين قصر العفة على شهوات البدن فقط، مع أنها تتناول ملاذ الروح أيضا.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٣) برقم (٨٩٦٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٤- ٣٥)، والسيوطي (٢/ ٢٤٦- ٢٤٧) بنحوه.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٨) برقم (٩٠١٢)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٥)، والسيوطي (٢/ ٢٤٨) بنحوه، وعزاه لابن جرير عن ابن شهاب.
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١١) برقم (٩٠١٨)، (٩٠١٩) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٦)، وابن كثير-[.....]
209
والأظْهَرُ أنَّ قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجِزِ بَيْنَ الناسِ، وبَيْنَ ما كانَتِ الجاهليةُ تفعله.
قال الفَخْر «١» : وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: مصْدَرٌ من غير لفظ الفَعْلِ، قال الزَّجَّاج:
ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصُوباً على جهة الأَمْرِ، ويكون عَلَيْكُمْ خبراً له، فيكون المعنَى:
الزموا كتابَ اللَّهِ. انتهى.
وفي «التمهيد» لأبي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: أي: حكمه فيكُمْ وقضاؤُه عليكم. انتهى.
وقوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَراءَ ذلِكُمْ، قال عطاء وغيره: المعنى: وأُحِلَّ لكم ما وراء مَنْ حُرِّم «٢»، قلْتُ: أي: على ما علم تفصيله من الشريعة.
قال ع «٣» : وأَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ: لفظ يجمع/ التزوّج والشراء، ومُحْصِنِينَ: معناه: متعفِّفين، أي: تُحْصِنُونَ أنفسكم بذلك، غَيْرَ مُسافِحِينَ، أي:
غَيْرَ زُنَاةٍ، والسِّفَاحُ: الزنا.
وقوله سبحانه: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، قال ابن عَبَّاس وغيره:
المعنى: فإذا استمتعتم بالزوْجَة، ووَقَعَ الوطْء، ولو مرَّةً، فقد وجَب إعطاء الأجْرِ، وهو المهر «٤» كلُّه، وقال ابنُ عَبَّاس أيضاً وغيره: إن الآية نزلَتْ في نكاح «٥»...
- (١/ ٤٧٤) بنحوه، والسيوطي (٢/ ٢٤٩) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (١٠/ ٣٥).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٢) برقم (٩٠٢٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٦)، وابن كثير (١/ ٤٧٤)، والسيوطي (٢/ ٢٤٩)، وعزاه لابن جرير عن عطاء.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٦).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٣) برقم (٩٠٢٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٦)، والسيوطي (٢/ ٢٥٠) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس.
(٥) أصل المتعة في اللغة: الانتفاع، يقال: تمتعت بكذا، واستمتعت بمعنى، والاسم المتعة. قال الجوهري: ومنه: متعة النكاح، ومتعة الطلاق، ومتعة الحج لأنه انتفاع، والمراد بالمتعة هنا أن يتزوج الرجل المرأة مدة من الزمن، سواء أكانت المدة معلومة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي مثلا شهرا. أو مجهولة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي إلى قدوم زيد الغائب، فإذا انقضت المدة، فقد بطل حكم النكاح، وإنما سمى النكاح لأجل بذلك لانتفاعها بما يعطيها، وانتفاعه بقضاء شهوته، فكان الغرض منها مجرد التمتع دون التوالد وغيره من أغراض النكاح. -
210
..
- وقد كانت المتعة منتشرة عند العرب في الجاهلية، فكان الرجل يتزوج المرأة مدة ثم يتركها من غير أن يرى العرب في ذلك غضاضة، فلما جاء الإسلام أقرهم على ذلك في أول الأمر، ولم نعلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة إلا في غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة فقد روي عن علي (رضي الله عنه) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن متعة النّساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة» واستمر الأمر على ذلك، حتى فتح «مكة» حيث ثبت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أباحها ثلاثة أيام، وفي بعض الروايات أنه أباحها يوم «أوطاس»، ولكن الحقيقة أن ذلك كان في يوم الفتح، ومن قال: يوم «أوطاس»، فذلك لاتصالها بها، ثم حرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إلى يوم القيامة.
فيعلم من هذا أن المتعة كانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت في خيبر، ثم أبيحت يوم الفتح، ثم حرمت بعد ذلك إلى يوم القيامة، فتكون المتعة مما تناولها التحريم والإباحة مرتين..
وقد نشأ من هذا الاختلاف في المتعة بين الصحابة، فمنهم من يرى أن إباحة المتعة قبل خيبر كانت للضرورة وللحاجة، ثم لما ارتفعت الحاجة في خيبر نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم لما تجددت الحاجة عام الفتح أذن فيها، ولما ارتفعت الحاجة نهى عنها، وعليه فتكون المتعة مباحة عند الحاجة، وبهذا كان يقول ابن عباس (رضي الله عنهما) إلا أنه رجع عنه كما سيأتي بيانه.
ومنهم من يرى أن نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة يوم خيبر كان نسخا لها، ثم رفع النسخ في يوم الفتح ثلاثة أيام، ثم نسخت بعد ذلك إلى يوم القيامة، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة.
وقد اختلف الفقهاء بعد ذلك في المتعة هل هي محرمة، فتكون من الأنكحة الفاسدة، أو مباحة، فتكون من الأنكحة الصحيحة.
فذهب الجمهور إلى القول بتحريمها، وأنها من الأنكحة الفاسدة التي تفسخ مطلقا قبل الدخول وبعده، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وذهب الإمامية من الشيعة إلى القول بإباحة نكاح المتعة إلى يوم القيامة، بل منهم من تغالى في ذلك وقال: إنها قربة، وعليه فالخلاف في المتعة بين الجمهور والإمامية. ولما لم أجد كتابا من كتب الإمامية أثق به لأستطيع استيفاء الكلام على مذهبهم في المتعة رأيت أن أكتفي بما قاله شرف الدين الصنعاني، وهو من علماء الشيعة فإنه بعد أن ذكر الحديث عن علي قال ما نصه: «والحديث يدل على تحريم نكاح المتعة للنهي عنه، وهو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم، وغايته إلى خمسة وأربعين يوما، ويرتفع النكاح بانقضاء الوقت المذكور في المنقطعة الحيض، والحائض بحيضتين، والمتوفى عنها بأربعة أشهر وعشر، ولا يثبت لها مهر ولا نفقة، ولا توارث، ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر، ولا نسب يثبت به إلا أن يشترط، وتحرم المصاهرة بسببه». هكذا ذكره في بعض كتب الإمامية وإنا أذكر دليل الإمامية والرد عليه:
استدل الإمامية على القول بإباحة المتعة بالكتاب، والأثر، والمعقول، والإجماع.
أما الكتاب، فقول الله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء: ٢٤] فإنهم حملوا الاستمتاع في الآية على المتعة، وقالوا: المراد بقوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أجر المتعة، ومما يؤيد أن الآية في المتعة قراءة أبي وابن عباس: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل»، فهي صريحة في المتعة.
وأما الأثر: فأولا: بما روي أن ابن عباس كان يفتي بالمتعة، ووجه الدلالة من هذا أنهم قالوا: لو لم تكن-
211
..
- المتعة مباحة لما أفتى بها ابن عباس إذ لا يليق بمثله أن يفتي بها مع أنها محرمة.
وثانيا: بما روي عن جابر (رضي الله عنه) قال: تمتعنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر.
ووجه الدلالة من هذا: أن جابرا (رضي الله عنه) أخبر أنهم استمتعوا في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي خلافة أبي بكر، وفي صدر من خلافة عمر، وهذا يدل على أن المتعة مباحة، وإنما نهى عنها عمر من باب السياسة الشرعية.
وأما المعقول: فقد قالوا: إنها منفعة خالية من جهات القبح، ولا نعلم فيها ضررا عاجلا، ولا آجلا، وكل ما هذا شأنه فهو مباح، فالمتعة مباحة.
وأما الإجماع: فإنهم قالوا: أجمع أهل البيت على إباحتها.
وتناقش هذه الأدلة التي تمسك بها الإمامية بما يأتي:
أما الآية، فيقال لهم فيها: إنها بمعزل عن الدلالة لكم إذ هي محمولة على النكاح الدائم، وما يجب للمرأة من المهر كاملا إذ استمتع بها الزوج، ويؤيد هذا أنها وردت في سياق الكلام على النكاح بالعقد المعروف بعد الكلام على أجناس يحرم التزوج بها. وتسمية المهر أجرا لا يدل على أنه أجر المتعة، فقد سمي المهر أجرا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب: ٥٠] أي: مهورهن، وكقوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن، وأما قراءة أبيّ وابن عباس، فهي شاذة، والقراءة الشاذة لا تعارض القطعي، وهي الآية الدالة على التحريم، وهي قوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ مع أن الدليلين إن تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما، ويقال لهم فيما روي عن ابن عباس أنه ثبت رجوعه عنه، وقد كان يفتي بها أولا لأنه فهم من نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنها يوم خيبر، ثم إباحتها يوم الفتح، ثم نهيه عنها بعد ذلك- أن الإباحة كانت للضرورة، والنهي عند ارتفاعها يؤيد ذلك ما روي عن شعبة عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس سئل عن متعة النساء، فرخص فيها، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة، فقال ابن عباس: نعم فإنه يعلم من هذا أن ابن عباس كان يتأول في إباحة نكاح المتعة لمضطر إليه، ثم توقف بعد ذلك لما ثبت له النسخ.
ومما يؤيد رجوع ابن عباس ما أخرجه الترمذي، أن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: ٦] و [المعارج: ٣٠] فقال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام.
وقد روى رجوعه أيضا البيهقي وأبو عوانة في صحيحه، وروي عنه أنه قال عند موته: «اللهمّ إنّي أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف، وعليه فلا يصح الاحتجاج بفتوى ابن عباس، وقد رجع عنها».
ويقال لهم في أثر جابر: إن قوله: «تمتعنا إلخ... » يحمل على أن من تمتع لم يبلغه النسخ، حتى نهى عنها عمر، أو يكون جابر (رضي الله عنه) قال ذلك لفعلهم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم لم يبلغه النسخ، حتى نهى عنها عمر، فاعتقد أن الناس باقون على ذلك لعدم الناقل عنده، والقول بأن عمر هو الذي نهى عنها، وأن ذلك من قبيل السياسة الشرعية غير مسلم فإن عمر إنما قصد الإخبار عن تحريم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونهيه عنها، إذ لا يجوز أن ينهى عما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أباحه وبقي على إباحته. ومما يؤيد أن نهيه-
212
..
- عنها ليس من قبيل السياسة الشرعية، بل إنه نهى عنها لما علم نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما روي من طريق سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر قال: صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلّا رجمته».
ويقال لهم في المعقول: لا نسلم أنها منفعة خالية من جهات القبح، ولا ضرر فيها في الآجل ولا في العاجل، بل الضرر متحقق فيها فإن فيها امتهان المرأة، وضياع الأنساب فإنه مما لا شك فيه أن المرأة التي تنصب نفسها ليستمتع بها كل من يريد تصبح محتقرة في أعين الناس، وأيضا فهو معقول في مقابلة النص، وهو باطل.
ويقال لهم في الإجماع: أولا: إن إجماع أهل البيت (على فرض إجماعهم) ليس بحجة، فما بالك والإجماع لم يصح عنهم؟! فهذا زيد بن علي، وهو من أعلمهم يوافق الجمهور، ثم إن الإمام عليا (رضي الله عنه) وهو رأس الأئمة عندهم يقول بتحريمها، فقد روي من طريق جويرية عن مالك بن أنس عن الزهري أن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، والحسن بن محمد حدثاه عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: إنك رجل تائه- أي: مائل- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة.
وأما الجمهور، فقد استدلوا على تحريم نكاح المتعة بالكتاب، والسنة، والمعقول، والإجماع: أما الكتاب: فقول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: ٥- ٦] و [المعارج: ٢٩- ٣٠] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنها أفادت أن الوطء لا يحله إلا في الزوجة والمملوكة وامرأة المتعة لا شك أنها ليست مملوكة ولا زوجة. أما أنها ليست مملوكة، فواضح. وأما أنها ليست زوجة، فلأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله (تعالى) : وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: ١٢] الآية. وبالاتفاق لا توارث بينهما.
وثانيا: لثبت النسب، بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» وبالاتفاق لا يثبت النسب. وثالثا:
لوجبت العدة عليها لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة: ٢٣٤ و ٢٤٠] الآية.
وأما السنة: فأولا: ما روى مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن أبيهما عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية» ووجه الدلالة من الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فيكون نكاح المتعة فاسدا. والحديث يدل على نسخ ما تقدم من إباحتها.
ثانيا: ما روي عن سبرة الجهني أنه غزا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في متعة النساء، وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج منها حتى حرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفي رواية أنه كان مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلي سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» رواه أحمد ومسلم ووجه الدلالة من الحديث أنه يدل برواياته على تحريم نكاح المتعة، وقد جاء في الرواية الثانية التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فيكون ذلك نسخا لإباحتها، وإذا ثبت ذلك فهي من الأنكحة الفاسدة.
وأما المعقول: فقد قالوا: إن النكاح لم يشرع لقضاء الشهوة، بل شرع لأغراض ومقاصد يتوسل به إليها.
واقتضاء الشهوة بالمتعة لا يقع وسيلة إلى المقاصد التي من أجلها شرع النكاح، فلا يكون مشروعا. -
213
..
- وأما الإجماع: فقد قالوا: إن الأمة امتنعت عن العمل بالمتعة مع ظهور الحاجة إلى ذلك، وما ذلك إلا لعلمهم بنسخها.
وقد نوقشت أدلة الجمهور بما يأتي:
أما حديث علي، فقد قيل لهم فيه: إنه وقع فيه كلام، حتى زعم ابن عبد البر أن ذكر النهي بيوم خيبر غلط. وقال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الآثار. والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري. وقد أشار ابن القيم إلى تقرير هذا التقديم والتأخير فقال: وأما نكاح المتعة، فثبت عنه أنه أحلها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح، واختلف هل نهى عنها يوم خيبر على قولين، والصحيح أن النهي إنما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية وإنما قال علي لابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن متعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية محتجا عليه في المسألتين، فظن بعض الرواة أن التقييد بيوم خيبر راجع إلى الفعلين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضهم أحد الفعلين، وقيده بيوم خيبر.
وترد هذه المناقشة بأن أصحاب الزهري قد اتفقوا على أن نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة يوم خيبر، وهم حفاظ ثقات، وزيادة الحافظ الثقة تقبل. ولهذا قال عياض تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، والقول بأنه وقع في لفظ الزهري تقديم وتأخير يخالفه ظاهر الحديث فإن ظاهره أن عام خيبر ظرف لتحريم نكاح المتعة.
ومما يؤيد هذا الظاهر حديث ابن عمر الذي أخرجه البيهقي بإسناد قوي أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن المتعة، فقال: حرام، قال: فإن فلانا يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمها يوم خيبر، وما كنا مسافحين.
والذي يظهر أن القائلين بأن النهي يوم خيبر إنما كان عن لحوم الحمر الأهلية يحاولون بذلك استبعاد أن تكون المتعة قد نسخت مرتين لأنه ثبت النهي عنها يوم الفتح، ومعلوم أن يوم الفتح بعد خيبر، إذ أن خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وغزوة الفتح في السنة الثامنة فيلزم من ذلك نسخها مرتين.
ونحن نرى أن لا داعي لهذه المحاولة ما دام الحديث ظاهرا في أن يوم خيبر ظرف لتحريم نكاح المتعة، ولا مانع من نسخها مرتين، ولها نظير في الشريعة الإسلامية، وهو مسألة القبلة فقد نسخت مرتين، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفا لليهود، وامتحانا للمسلمين الذين اتبعوه بمكة، ثم حول إلى الكعبة ثانيا. وقيل لهم في حديث سبرة الجهني: أن القول بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرمها إلى يوم القيامة معارض بما روي عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة في حجة الوداع كما عند أبي داود.
وترد هذه المناقشة بأن هذا اختلف فيه عن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح لأنهم في فتح مكة شكوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم العزوبة، فرخص لهم فيها مدة ثم نسخها، وعلى تسليم صحة النهي عنها في حجة الوداع، فنقول: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعاد النهي في حجة الوداع ليسمعه من لم يكن سمعه قبل، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعي تحليلها.
ويقال لهم في الإجماع: إنه غير مسلم فقد ثبت الجواز عن ابن عباس كما ثبت عن جماعة من التابعين. -
214
المُتْعة «١»، قال ابنُ المُسَيَّب: ثم نُسِختْ «٢».
قال ع «٣» : وقد كانَتِ المتعةُ في صَدْرِ الإسلامِ، ثم نهى عنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ، أي: مِنْ حَطٍّ أو تأخيرٍ بعد استقرار الفَريضَةِ، ومَنْ قال بأنَّ الآية المتقدِّمة في المُتْعَة، قال: الإشارةُ بهذه إلى أنَّ ما تراضَيَا علَيْه من زيادةٍ في مُدَّة المتعة، وزيادة في الأجر جائز.
- ويجاب عن هذا بأن ابن عباس صح عنه أنه رجع عن القول بحل المتعة، كما قدمنا فانعقد الإجماع على تحريمها. وأما خلاف بعض التابعين فإنه إن صح عنهم لم يضر بعد تقرر التحريم قبل حدوثهم.
يتبين لنا من بيان الأدلة ومناقشاتها رجحان مذهب الجمهور من أن المتعة حرام، وهي من الأنكحة الفاسدة لقوة أدلتهم، وأنه لا عبرة بمخالفة الإمامية لما تبين من بطلان ما تمسكوا به من الأدلة.
هذا وقد نسب بعض العلماء القول بصحة نكاح المتعة إلى إمام دار الهجرة (رضي الله عنه) قال صاحب «الهداية» من الحنفية: «ونكاح المتعة باطل، وهو أن يقول لامرأة: أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال» وقال مالك (رحمه الله) :«هو جائز».
وهذه النسبة باطلة فإن الإمام مالكا (رضي الله عنه) لم يقل بإباحة نكاح المتعة، ولا قال به أحد المالكية فإنهم جميعا اتفقوا على تحريم نكاح المتعة.
ولأجل مخالفة هذه النسبة لمذهب المالكية نجد بعض علماء الحنفية أنكرها على صاحب «الهداية». قال ابن نجيم في «البحر الرائق» : وما في «الهداية» من نسبته إلى مالك، فغلط كما ذكره الشارحون.
والموجود في كتب المالكية إنما هو فيمن نكح نكاحا مطلقا، ونيته ألا يمكث معها إلا مدة نواها، فقالوا: إن ذلك جائز، وليس هو بنكاح متعة ولو علمت المرأة بنيته. وهذا لم ينفرد به المالكية بل قال به الجمهور، إلا ما روي عن الأوزاعي فقد قال: هذا نكاح متعة، ولا خير فيه. وقد قال الإمام مالك:
ليس هذا من الجميل، ولا من أخلاق الناس.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا النكاح الذي نوى فيه الرجل الإقامة معها مدة نواها، وبين نكاح المتعة الذي قالت به الإمامية وقلتم ببطلانه؟؟ نقول: الفرق بينهما واضح، وهو أن نكاح المتعة الذي قلنا ببطلانه، والذي قالت به الإمامية دخلا فيه على تحديده بمدة معينة أو غير معينة. وأيضا فهو نكاح لا تترتب عليه أحكام النكاح من التوارث ولحوق النسب ووجوب العدة بخلاف هذا، فإنه وإن نوى الإقامة معها مدة إلا أنهما لم يدخلا على ذلك، وهو نكاح تترتب عليه آثاره، ففرق بينهما، غاية الأمر أنه نوى الإقامة معها مدة نواها، وهذا لا يضر لأن الرجل بيده الطلاق، فله أن يطلق في أي وقت شاء.
ينظر: «الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير» (٤/ ٢٢)، و «زاد المعاد» (٤/ ٨)، و «الهداية» (٢/ ٣٨٤).
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٤) برقم (٩٠٣٧) بنحوه، وذكره البغوي (١/ ٤١٤)، وابن عطية (٢/ ٣٦)، والسيوطي (٢/ ٢٥٠) بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٣٦)، والسيوطي (٢/ ٢٥١) بنحوه، وعزاه لأبي داود في «ناسخه»، وابن المنذر، والنحاس، والبيهقي.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٧). [.....]
215
وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره:
الطَّوْل هنا: السَّعَة في المالِ «١» وقاله مالِكٌ في «المُدَوَّنة»، فعلى هذا التأويلِ لا يصحُّ للحُرِّ أنْ يتزوَّج الأَمَةَ إلاَّ باجتماع شرطَيْنِ: عَدَمِ السَّعَةِ في المالِ، وخَوْفِ العَنَتِ، وهذا هو نصُّ مالك في «المدوَّنة».
قال مالك في «المُدَوَّنة» :«ولَيْسَتِ الحُرَّة تحته بِطَوْل، إنْ خَشِيَ العَنَتَ»، وقال في «كتاب محمَّد» ما يقتضِي أنَّ الحُرَّة بمثابة الطَّوْل.
قال الشيخُ أبو الحَسَن اللَّخْمِيُّ: وهو ظاهرُ القرآن، ونحوه عنِ ابْنِ حَبيبٍ «٢».
وقال أبو حنيفة: وجودُ الحُرَّة تحته لا يَجُوزُ معه نكاحُ الأَمَةِ وقاله «٣» الطَّبَرِيُّ، وتقولُ: طَالَ الرَّجُلُ طَوْلاً (بفتح الطاء) إذا تفضَّل، ووَجَدَ، واتسع، وطُولاً (بضمها) : في ضِدِّ القصر، والْمُحْصَناتُ في هذا الموضع: الحرائرُ- والفتاةُ، وإن كَانَتْ في اللغة واقعةً على الشَّابَّة، أَيَّةً كانَتْ، فعرفها في الإماء، وفتى كذلك، والْمُؤْمِناتِ في هذا الموضع: صفةٌ مشترطةٌ عند مالك، وجمهور أصحابه، فلا يجوزُ نكاحُ أمةٍ كافرةٍ «٤»
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٧) برقم (٩٠٥٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٧)، والسيوطي (٢/ ٢٥٣) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٣٧).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ١٨).
(٤) اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب إلى جوازه مع كونه خلاف الأولى الحنفية وأحمد في رواية، وهو المنقول في «العتبية» و «الواضحة» من سماع ابن القاسم عن مالك.
وذهب الشافعية والحنابلة في ظاهر مذهبهم، والمالكية في المشهور عندهم إلى القول بعدم جواز التزوج مطلقا.
استدل المانعون بالكتاب:
أولا: قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] وجه الدلالة: أن الآية دلت على تحريم المشركات. والكتابية مشركة، فيحرم نكاحها حرة كانت أو أمة لاندراجها تحت العموم، لا أن الله (تعالى) خص الحرائر بالحل بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: ٥] إذ المراد بالمحصنات الحرائر، فبقيت الإماء على أصل المنع وعدم الحل كالوثنيات والمجوسيات.
ونوقش بأن المستدل منع فيما تقدم أن تكون الكتابية مشركة، ونفى إرادة الكتابية من لفظ «المشركات» في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ، وكيف يصح هذا وقد خصهن العرف باسم آخر ولم يطلق عليهم اسم الشرك؟! يؤيده خصوصية كل منهما باللفظ، والعطف في أسلوب القرآن، فإن الأخير يقتضي المغايرة.
ولو سلمنا اندراجهن تحت عموم المشركات وإرادتهن من اللفظ، فقد خرجن بالاتفاق على تخصيص هذا العموم بحل الحرائر من الكتابيات بآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، فلم تبق الآية على-
216
عندهم قُلْتُ: والعلَّة في مَنْعِ نكاحِ الأَمَةِ ما يئول إليه الحال من استرقاق الولد.
- عمومها فلا يحتج بها. ثم ما تقدم على القول بتفسير المحصنات بالحرائر. أما إن فسرت بالعفائف (كما جرى عليه الحنفية استنادا إلى أن الإحصان في كلام العرب عبارة عن المنع، وهو يحصل بالحرية والإسلام). فاسم العفائف متناول للحرائر والإماء، فيكنّ في الحكم سواء. وحيث وقع الاتفاق على حل الحرائر، فالإماء كذلك لعدم الفصل في الدليل المبيح.
وثانيا من الكتاب: قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: ٢٥] دلت الآية على أن حل المتزوج بالإماء مشروط بشرطين هما إيمانهن وعدم قدرة المتزوج بهن على طول الحرة، فإذا انتفى الإيمان منهن (وهو أحد الشرطين) بأن كن كتابيات انتفى الحكم، وهو الحل، فيحرم نكاحهن بناء على أن الحكم متى علق بشرط أو أضيف إلى مسمى بوصف خاص، أوجب نفي الحكم عند عدم الشرط أو الوصف، فكان انتفاء الشرطين أو أحدهما وهو الإيمان مفيدا لتحريم الإماء.
ونوقش بأن هذه الآية غاية ما تفيد وجود الحكم عند وجود الشرط، أما نفي الحكم عند نفي الشرط، فلم تتعرض له الآية، فلا دلالة فيها على التحريم إذ اللفظ لا يدل على خلاف الموضوع له.
وغاية درجات الوصف إذا كان مؤثرا أن يكون علة، ولا تأثير للعلة في نفي الحكمة لأن عدم العلة لا يصلح أن يكون علة لعدم الحكم لكون العدمي لا يكون علة لحكم عدمي ولا وجودي، وعلى ذلك فالآية أفادت حل الإماء المؤمنات عند الشرط لا تحريم الكتابيات.
ولو سلمنا للمستدل حجية المفهوم، فمقتضى مفهوم الآية عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الكراهة أو الحرمة لأنه لا دلالة للأعم على أخص بخصوصه. وعليه يجوز ثبوت الكراهة أو الحرمة على السواء لا ثبوت الحرمة بعينها، لكن لما كانت الكراهة أقل تعينت، وإليها مالت الحنفية. وصرح بذلك صاحب «البدائع» منهم.
فإن قال قائل: إن الوصف بالإيمان يدل على الحرمة عند عدمه، فتحرم الأمة الكتابية لعدم تحقق وصف الإيمان فيها. ولهذا نظير معتبر متفق عليه وارد في القرآن الكريم هو قوله تعالى في كفارة القتل:
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء: ٩٢] فقد وقع الاتفاق على عدم إجراء الرقبة الكافرة في هذه الكفارة لكونها مقيدة بالإيمان، فكأنهم اعتبروا الوصف الوارد في الآية.
أجيب بأن تحرير الرقبة في كفارة القتل لم يشرع إلا مقيدة بالإيمان، بخلاف النكاح فقد شرح مطلقا ومقيدا.
واستدل المانعون بالمعقول من وجهين:
الوجه الأول: أن نكاح الإماء في الأصل ثبت ضرورة وما ثبت بالضرورة يقتصر على قدرها الوارد به النص. وقد ورد النص بحل الحرائر والإماء المؤمنات لكون الضرورة مرتفعة بهما، فلا تحل الإماء الكتابيات لعدم ورود النص بذلك.
أما أن نكاح الإماء ثابت ضرورة، فلما فيه من تعريض الولد للرق الذي هو موت حكما، فكان كالإهلاك حسّا إذ به يخرج الشخص عن أن يكون منتفعا به في حق نفسه ملحقا بالعجماوات في البيع والشراء، وهلاك الجزء من غير ضرورة لا يجوز.
والوجه الثاني: هو أن التزوج بالإماء الكتابيات يؤدي إلى تعريض ولد الحر المسلم لرق الكافر لأن الولد ينشأ رقيقا برق أمه، فإذا كانت الأم مملوكة لكافر وتزوجها حر مسلم نشأ الولد رقيقا برق أمه، -
217
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، ومعناه: واللَّهُ أعلمُ ببَوَاطِنِ الأمور، ولكم ظواهرُها، فإذا كانَتِ الفتاةُ ظاهِرُها الإيمانُ، فنكاحها صحيح، وفي اللفظ
- مسلما بإسلام أبيه، مملوكا لكافر هو سيد أمه. ولا شك أن هذا التعريض محظور شرعا، فيحظر ما أفضى إليه، وهو التزوج بالأمة الكتابية إذ أن ما يفضي إلى المحظور يكون محظورا.
ونوقش المعقول بوجهيه: بأن على تسليم كون نكاح الإماء فيه تعريض الولد للرق لا يفضي إلى التحريم بل يفيد الكراهة إذ لو كان محرما لما أجاز الشارع للعبد أن يتزوج بأمتين مع وجود العلة المذكورة في نكاحه، كما أن تحصيل الولد رقيقا مسلما أولى من عدم تحصيله أصلا لأن فيه تكثير المقرين بالوحدانية الأمر الذي هو المقصود الأصلي من النكاح. أما كون الولد حرا بعد كونه مسلما، فهو كمال يرجع إلى أمر دنيوي. وفي إمكان المتزوج بالأمة الكتابية عدم تحصيل الولد أصلا بنكاح من لا تلد فلا يتحقق المانع، فلا تحرم. أما كون النكاح فيه تعريض ولد الحر المسلم لرق الكافر، فهذا غير مطرد، ومؤثر في بعض الحالات دون بعض، وغاية ما يفيد الكراهة لا الحرمة.
وهناك معقول ثالث: استدل به المانعون هو أن الأمة الكتابية جمعت بين نقصين مؤثرين في منع النكاح هما الكفر والرق، فيحرم نكاحها كالحرة المجوسية، حرمت لاجتماع نقصي الكفر وعدم الكتاب فيها.
ونوقش: بأن المانع من نكاح الحرة المجوسية هو تغليظ كفرها بعدم الانتماء إلى نبي أو كتاب منزل، فأشبهت المشركة، ولا كذلك الأمة الكتابية فظهر الفرق بينهما.
واستدل المجيزون بالكتاب والمعقول: أولا: الكتاب، وهو قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] الآية، وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وقوله:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: ٥].
وجه الدلالة: أن العمومات التي اشتملت عليها هذه الآيات أفادت حل النكاح بالنساء مطلقا من غير تقييد بحرائر أو إماء بإيمان أو غير إيمان. ذلك لأن الآية أفادت حل النساء المستطابة مطلقا من غير تقيد بحرية أو غيرها. والآية الثانية أفادت حل المملوكات، وهو بإطلاقه شامل للكتابيات وغيرها.
والآية الثالثة إنّما يتم الاستدلال بها على المطلوب إذا فسّرت المحصنات بالعفائف لأن العفيفة كما تكون حرة تكون أمة. دل عليه استثناؤها من المحصنات في قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٢٤]، فكان لفظ «المحصنات» متناولا للإماء كما هو متناول للحرائر.
ونوقش: بأن هذه العمومات المستدل بها مراد بها الحرائر دون الإماء، شهد بذلك سياق الآيات ففي سياق قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ وقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء: ٤] والمملوكة سيدها هو المتولي قبض مهرها، فكان هذا دليلا على خصوصية الحرائر بالآية لأنهن اللائي يقبضن مهورهن.
وكذا قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٣] سيق لبيان عدم اشتراط العدل في نكاح المملوكات دون الحرائر.
أما قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فلا دلالة فيها على حل نكاح الإماء لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معان مختلفة، وليس بعام حتى يجري على مقتضى لفظه، فكان مجملا موقوفا على البيان معناه. ووقوع الاتفاق على أن حل الحرائر من الكتابيات مستفاد من الآية مشعر بورود بيان يفيد ذلك. أما الإماء، فعدم البيان في حقهن مبق لهن على أصل المنع والتحريم.
وأجيب: بأن دعوى سوق العمومات في الحرائر دون الإماء لا تمنع دلالة العمومات على حل الإماء-
218
أيضاً: تنبيهٌ على أنهُ ربَّما كان إيمانُ أَمَةٍ أَفْضَلَ مِنْ إيمانِ بعضِ الحرائرِ، فلا تَعْجَبُوا بمعْنَى الحُرِّيَّة، والمَقْصِدُ بهذا الكلامِ أنَّ الناس سواءٌ، بَنُو الحرائرِ، وبَنُو الإمَاءِ، أكرمهم عنْدَ اللَّهِ أتقاهُمْ، وفي هذا توطئَةٌ لنفوسِ العَرَبِ التي كانَتْ تَسْتَهْجِنُ ولَدَ الأَمَةِ.
وقوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، معناه: بولايةِ أربابِهِنَّ المالكين، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، أي: مُهُورَهُنَّ، بِالْمَعْرُوفِ: معناه: بالشَّرْع والسُّنَّة، ومُحْصَناتٍ:
الظاهرُ أنه بمعنى عفيفاتٍ.
قال ص: مُحْصَنَاتٍ: منصوبٌ على الحَالِ، والظَّاهِرُ أنَّ العَامِلَ وآتُوهُنَّ، ويجوزُ أَنْ يَكُونَ العامِلُ: فانكحوهن مُحْصَنَاتٍ، أي: عفائفَ. انتهى.
والمسافِحَاتُ: الزوانِي المتبذِّلاتُ اللَّوَاتِي هُنَّ سُوقٌ للزِّنا، ومتَّخِذَاتُ الأخدانِ هنَّ المُسْتَتِرَاتُ اللواتِي يصحبن واحداً واحداً، ويَزْنينَ خفيةً، وهذان كانا نَوْعَيْن في زنا الجاهليَّة قاله ابنُ عبَّاس وغيره «١».
- الكتابيات إذ ليس هناك ما يمنع ثبوت حكم بسياق اللفظ وآخر بإشارته.
وما استندوا إليه من الاتفاق على حل الحرائر لا ينهض حجة لهم لأن التحريم لا يثبت إلا بنص، فما لم يرد يكون حكم العموم جاريا على أفراده، وهاهنا كذلك، فتكون العمومات متناولة للحرائر والإماء على أن الراجح إرادة العفائف من المحصنات لا غيرها في هذا المقام، كما روي هذا عن جماعة من السلف.
وأيده كون العفة من معاني الإحصان، وورود القرآن الكريم بذلك، وما عدا هذا المعنى من معاني الإحصان فغير مراد لعدم قيام الدليل، وحيث كانت العفة هي المرادة وهي صادقة على الحرائر والإماء، وجب اعتبار عموم العفة في تناولها للحرائر والإماء، فوجب القول بحل الإماء الكتابيات لأنها من أفراد العام في الآية.
واستدلوا ثانيا بالمعقول، وهو قياس الأمة الكتابية على الأمة المسلمة بجامع جواز وطء كل منهما بملك اليمين، فحيث جاز نكاح الأمة المسلمة اتفاقا، جاز كذلك نكاح الأمة الكتابية.
ونوقش: بأن وطء الإماء بملك اليمين أقل شأنا من وطئهن بملك النكاح. وثبوت الحكم في الأدنى غير مستلزم ثبوته في الأعلى، ولذا كانت الأمة المسلمة يجوز وطؤها بملك اليمين، وعند وجود حرة تحت الزوج يمتنع، ولو كانت حرة لا أمة لجاز النكاح.
وأجيب: بأن ما استظهر به من منع نكاح الأمة المسلمة عند وجود حرة، لا يصلح علة في جميع الأحوال، بل هو علة لجواز الأمة منفردة غير مجموعة إلى غيرها، ومن هنا كانت الأمة المسلمة يجوز وطؤها بملك اليمين، ويجوز نكاحها منفردة، وحين تكون تحت الزوج حرة يمتنع نكاحها من جهة أخرى هي جمعها مع حرة.
ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا بدران أبو العينين.
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٢٢) برقم (٩٠٧٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٩)، والسيوطي (٢/ ٢٥٤)، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
219
وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ... الآية، أي: تزوَّجْن، قال الزُّهْرِيُّ وغيره:
فالمتزوِّجة محدودةٌ بالقرآن، والمُسْلِمَةُ غير المتزوِّجة محدودةٌ بالحديث، وفي مسلمٍ والبخاريُّ، «أنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الأَمَةُ إذَا زَنَتْ، ولَمْ تُحْصَنْ»، فأوْجَبَ/ علَيْها الحدَّ» والفاحشة «١»، هنا الزّنا.
(١) أخرجه البخاري (٤/ ٣٦٩) كتاب «البيوع»، باب بيع العبد الزاني، حديث (٢١٥٣)، ومسلم (٣/ ١٣٢٩) كتاب «الحدود»، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث (٣٣/ ١٧٠٤)، ومالك (٢/ ٨٢٦) كتاب «الحدود»، باب جامع ما جاء في الزنا، حديث (١٤)، وأبو داود (٢/ ٥٥٦) كتاب «الحدود»، باب في الأمة تزني ولم تحصن، حديث (٤٤٦٩)، وابن ماجة (٢/ ٨٥٧) كتاب «الحدود»، باب إقامة الحدود على الإماء، حديث (٢٥٦٥)، والدارمي (٢/ ١٨١) كتاب «الحدود»، باب في المماليك يقيم عليهم سادتهم الحدود دون السلطان، وأحمد (٤/ ١١٦، ١١٧)، والشافعي في «الأم» (٦/ ١٣٥)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٣٠٠- منحة) رقم (١٥٢٨)، والحميدي (٢/ ٣٥٥) رقم (٨١٢)، وعبد الرزاق (٧/ ٣٩٣) رقم (١٣٥٩٨)، وابن أبي شيبة (٩/ ٥١٣)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (٨٢١)، وابن حبان (٤٤٢٧- الإحسان)، والطبراني في «الكبير» (٥/ ٢٣٨) رقم (٥٢٠١، ٥٢٠٢، ٥٢٠٣، ٥٢٠٤، ٥٢٠٥، ٥٢٠٦، ٥٢٠٧)، والدارقطني (٣/ ١٦٢) كتاب «الحدود والديات»، حديث (٢٣٦)، والبيهقي (٨/ ٢٤٢) كتاب «الحدود»، باب ما جاء في حد المماليك، كلهم من طريق عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة.
والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (١/ ٣٠٠- منحة) رقم (١٥٢٧) من طريق زمعة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن زيد بن خالد الجهني- وحده- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإن عادت فليجلدها، فإن عادت فليجلدها، فإن عادت فليبعها ولو بضفير من شعر». وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة وحده، وسيأتي تخريجه مع ماله من الشواهد:
أخرجه البخاري (٤/ ٤٣٢) كتاب «البيوع»، باب بيع العبد الزاني، حديث (٢١٥٢)، ومسلم (٣/ ١٣٢٨) كتاب «الحدود»، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث (٣٠/ ١٧٠٣)، وأحمد (٢/ ٤٩٤)، وأبو داود (٢/ ٥٦٦) كتاب «الحدود»، باب في الأمة تزني ولم تحصن، حديث (٤٤٧٠)، والحميدي (٢/ ٤٦٣) رقم (١٠٨٢)، والشافعي (٢/ ٧٩) كتاب «الحدود»، باب الزنا، حديث (٢٥٦)، وعبد الرزاق (٧/ ٣٩٢) رقم (١٣٥٩٧، ١٣٥٩٩)، وأبو يعلى (١١/ ٤١٩) رقم (٦٥٤١)، والدارقطني (٣/ ١٦٠- ١٦١) كتاب «الحدود والديات»، حديث (٢٣٦)، والبيهقي (٨/ ٢٤٢) كتاب «الحدود»، باب ما جاء في حد المماليك، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٤٧١- بتحقيقنا) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري- قال بعضهم: عن أبيه- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة، فليبعها ولو بحبل من شعر». قلت: وقع في هذا الإسناد اختلاف فقد رواه الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وقد وافقه على ذلك محمد بن إسحاق. ورواه بعضهم عن سعيد عن أبي هريرة دون ذكر أبيه، كإسماعيل وعبيد الله بن عمر وأيوب بن موسى ومحمد بن عجلان وعبد الرّحمن بن إسحاق، ووقع-
220
قال ص: وجوابُ: «إذَا» :«فإنْ أتَيْنَ»، وجوابه. انتهى.
- في رواية عبد الرّحمن تصريح سعيد بسماعه عن أبي هريرة فقال: سمعت أبا هريرة قال الحافظ في «الفتح» (١٢/ ١٧٢) : ووافق الليث على زيادة قوله: «عن أبيه» محمد بن إسحاق، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، ووافق إسماعيل [ابن أمية] على حذفه عبيد الله بن عمر العمري عندهم، وأيوب بن موسى عند مسلم والنسائي، ومحمد بن عجلان وعبد الرّحمن بن إسحاق عند النسائي، ووقع في رواية عبد الرّحمن المذكور عن سعيد سمعت أبا هريرة... اهـ.
وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: أخرجه الترمذي (٤/ ٣٧) كتاب «الحدود»، باب ما جاء في إقامة الحد على الإماء، حديث (١٤٤٠)، والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٩٩) كتاب «الرجم»، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت كلاهما من طريق أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثلاثا بكتاب الله، فإن عادت فليبعها ولو بحبل من شعر».
قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. اهـ.
وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
أخرجه النسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٩٩) كتاب «الرجم»، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (٧٢٤٢).
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (٣/ ٣٥٨) من طريق سعد بن سعيد عن سفيان عن الأعمش عن حبيب عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، فإن عادت فاجلدوها، فإن عادت فاجلدوها، فإن عادت فبيعوها ولو بضفير».
قال ابن عدي: ذكر الأعمش غير محفوظ، إنما هو عن الثوري عن حبيب نفسه، وهذه الأحاديث التي ذكرتها لسعد بن سعيد عن الثوري وعن غيره مما ينفرد فيها سعد عنهم، وقد صحب سعد الثوري بجرجان في بلده، روى عنه غرائب، وسأله عن مسائل كثيرة، فتلك المسائل معروفة عنه، ولسعد غير ما ذكرت من الأحاديث غرائب وأفراد غريبة تروى عنهم، وكان رجلا صالحا، ولم تؤت أحاديثه التي لم يتابع عليها من تعمّد منه فيها أو ضعف في نفسه ورواياته إلا لغفلة كانت تدخل عليه، وهكذا الصالحين، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما، لأنهم كانوا غافلين عنه، وهو من أهل بلدنا، ونحن أعرف به. اهـ.
وسعد ذكره الذهبي في «المغني في الضعفاء» (١/ ٢٥٤) رقم (٢٣٤٣) وقال: سعد بن سعيد الساعدي عن الثوري، وهاه أبو نعيم. اهـ.
قلت: وقد خالفه عبد الرّحمن بن مهدي، فرواه عن الثوري عن حبيب عن أبي صالح عن أبي هريرة، ولم يذكر فيه الأعمش.
أخرجه النسائي (٤/ ٢٩٩- الكبرى) كتاب «الرجم»، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (٧٢٤١) عن محمد بن بشار- بندار- عن عبد الرّحمن بن مهدي به.
وينظر: «تحفة الأشراف» (٩/ ٣٤٢).
وللحديث شواهد عن عائشة، وابن عمر، وعبد الله بن زيد. ١- حديث عائشة:
أخرجه ابن ماجة (٢/ ٨٥٧) كتاب «الحدود»، باب إقامة الحدود على الإماء، حديث (٢٥٦٦)، -
221
والْمُحْصَناتِ في هذه الآية: الحَرَائِرُ إذ هي الصفَةُ المَشْرُوطة في الحدِّ الكامِلِ، والرَّجْمُ لا يتنصَّف، فلم يُرَدْ في الآية بإجماع، والعَنَتُ في اللغة: المَشَقَّة.
قال ابنُ عباسٍ وغيره: والمَقْصِدُ به هنا الزنا «١».
- والنسائي في «الكبرى» (٤/ ٣٠٣) كتاب «الرجم»، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (٧٢٦٤) كلاهما من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عمار بن أبي فروة أن محمد بن مسلم حدثه أن عروة حدثة أن عمرة بنت عبد الرّحمن حدثته أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير».
وقد رواه عروة وعمروة عن عائشة: أخرجه النسائي في «الكبرى» (٤/ ٣٠٣) كتاب «الرجم»، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (٧٢٦٥)، وابن عدي في «الكامل» (٥/ ٧٤) كلاهما من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمار بن أبي فروة أن محمد بن مسلم حدثه أن عروة وعمرة حدثاه أن عائشة حدثتهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:.. فذكره.
وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٣/ ٣٢٤) من طريق الليث عن حبيب عن عمار بن أبي فروة، أن محمد بن مسلم حدثه أن عمرة بنت عبد الرّحمن حدثته أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:.. فذكر الحديث.
قلت: وهذا كله من ضعف عمار بن أبي فروة فمرة يرويه عن محمد عن عروة عن عمرة عن عائشة ومرة يرويه عن محمد عن عروة وعمرة عن عائشة، ومرة يرويه عن محمد عن عمرة عن عائشة.
والحديث ذكره البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٣١٠)، وقال: هذا إسناد ضعيف عمارة- كذا قال، والصواب عمار- ابن أبي فروة قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وذكره العقيلي وابن الجارود في «الضعفاء»، وذكره ابن حبان في «الثقات» فما أجاد اهـ.
٢- حديث ابن عمر:
ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١/ ٤٥٥) رقم (١٣٦٦) فقال: سألت أبي عن حديث رواه مسلم بن خالد عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها... » الحديث قال أبي: هذا خطأ إنما هو ما رواه بشر بن المفضل عن إسماعيل بن أمية عن المقبري عن أبي هريرة. اهـ.
٣- حديث عبد الله بن زيد:
أخرجه النسائي في «الكبرى» (٤/ ٢٩٨) كتاب «الرجم»، باب حد الزاني البكر، حديث (٧٢٣٨) من طريق أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه (وكان شهد بدرا) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولن بضفير».
قال النسائي: أبو أويس ضعيف، وإسماعيل ابنه أضعف منه.
قلت: وعم عباد بن تميم هو عبد الله بن زيد كما في «تحفة الأشراف» (٤/ ٣٤٠) للحافظ المزي.
وفي «التحفة» قول النسائي: أبو أويس ليس بالقوي.
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٢٧) برقم (٩١١٣)، (٩١١٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٩)، والسيوطي (٢/ ٢٥٥)، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
222
وقوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني: عَنْ نكاحِ الإماء قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «١» : وهذا نَدْبٌ إلى التَّرْك وعِلَّتُهُ مَا يؤَدِّي إلَيْه نكاحُ الإِماءِ مِن استرقاق الوَلَدِ ومِهْنَتِهنَّ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ... الآية: التقديرُ عندَ سيبَوَيْهِ: يريد اللَّهُ لأنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ، ويَهْدِيَكُمْ، بمعنى: يُرْشِدَكُمْ، والسُّنَنُ: الطُّرُقُ، ووجوهُ الأمورِ، وأَنحاؤُها، والَّذِينَ مِنْ قبلنا: هم المؤمِنُونَ مِنْ كُلِّ شريعةٍ.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ... الآية: مَقْصِدُ هذه الآيةِ الإخبارُ عن إرَادَة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فقُدِّمَتْ إرادةُ اللَّه تعالى تَوْطِئَةً مُظْهِرة لفسَادِ إرادة مُتَّبِعِي الشهواتِ، واختلف المتأوِّلون في تَعْيينِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَات، فقال مجاهدٌ: هم الزناةُ «٢»، وقال السُّدِّيُّ: هم اليهودُ والنصارى «٣»، وقالَتْ فرقة: هم اليهودُ خاصَّة لأنَّهم أرادوا أنْ يتبعهم المُسْلِمُونَ في نِكَاحِ الأَخَوَاتِ مِنَ الأب، وقال ابنُ زَيْد: ذلك على العمومِ في هؤلاءِ، وفي كُلِّ متَّبعِ شهوةٍ «٤» ورجَّحه الطبريُّ «٥».
وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ... الآية: أي: لَمَّا علمنا ضَعْفَكُمْ عَنِ الصَّبْر عن النِّساء، خَفَّفنا عَنْكم بإباحة الإماء، قاله مجاهدٌ وغَيْره «٦»، وهو ظاهرُ مقصودِ الآيةِ، ثم بَعْدَ هذا المَقْصِدِ تَخْرُجُ الآية مَخْرَجَ التفضُّلِ لأنها تتناوَلُ كُلَّ ما خفَّفه اللَّه سبحانَهُ عَنْ عباده، وجعله الدِّينَ يُسْراً، ويقع الإخبار عن ضَعْف الإنسان عامّا حسبما هو
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٢٩) برقم (٩١٢٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٩).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٣١) برقم (٩١٣٠- ٩١٣١- ٩١٣٢- ٩١٣٣) بنحوه، وذكره البغوي (١/ ٤١٧)، وابن عطية (٢/ ٤٠)، والسيوطي (٢/ ٢٥٧)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٣١) برقم (٩١٣٤)، وذكره البغوي (١/ ٤١٧)، وابن عطية (٢/ ٤٠)، والسيوطي (٢/ ٢٥٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ٣١) برقم (٩١٣٥) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٠).
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ٣٩).
(٦) أخرجه الطبري (٤/ ٣٢) برقم (٩١٣٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٠)، وابن كثير (١/ ٤٧٩)، والسيوطي (٢/ ٢٥٧) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
في نَفْسه ضعيفٌ يستَمِيلُهُ هواه في الأغْلَب.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً... الآية: الاستثناء منقطعٌ، المعنى: لكنْ إنْ كانَتْ تجارةً، فكُلُوها، وأخْرَجَ البخاريُّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللَّه» «١». انتهى.
وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، أجمع المتأوِّلون على أنَّ المقصودَ بهذه الآية النهْيُ عن أنْ يقتُلَ بعْضُ الناسِ بَعْضاً، ثم لفظها يتناوَلُ أنْ يقتل الرجُلُ نَفْسَهُ بقَصْدٍ منه للقتل، أو بأنْ يحملها على غَرَرٍ، رُبَّمَا ماتَ مِنْهُ، فهذا كلُّه يتناوله النَّهْيُ، وقد احتج عمرو بن العاصي بهذه الآيةِ حين امتنع مِنَ الاغتسال بالمَاءِ الباردِ خَوْفاً على نفسه منه، فقرّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجاجه «٢».
(١) أخرجه البخاري (٥/ ٥٣، ٥٤)، كتاب «الاستقراض»، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها وإتلافها، حديث (٢٣٨٧)، وابن ماجة (٢/ ٨٠٦)، كتاب «الصدقات»، باب التشديد في الدين، حديث (٢٤١١)، وأحمد (٢/ ٣٦١، ٤١٧)، والبيهقي (٥/ ٣٥٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ٣٥١ بتحقيقنا)، كلهم من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه البخاري (١/ ٤٥٤)، كتاب «التيمم»، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض، تعليقا في أول الباب، وأحمد (٤/ ٢٠٣)، وأبو داود (١/ ٣٣٨)، كتاب «الطهارة»، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، الحديث (٣٣٤)، والدارقطني (١/ ١٧٨)، كتاب «الطهارة»، باب التيمم، الحديث، والحاكم (١/ ١٧٧)، كتاب «الطهارة»، والبيهقي (١/ ٢٢٥)، كتاب «الطهارة»، باب التيمم في السفر إذا خاف الموت، فأما أحمد فمن طريق ابن لهيعة، وأما الباقون، فمن طريق جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرّحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: «احتملت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا عمرو.. صليت بأصحابك وأنت جنب؟! فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء: ٢٩] فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا».
ورواه أبو داود (٣٣٥)، والدارقطني (١/ ١٧٨)، كتاب «الطهارة»، باب التيمم (١٣)، الحاكم (١/ ١٧٧)، والبيهقي (١/ ٢٢٥) من طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرّحمن بن جبير عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص كان على-
224
وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً... الآية: اختلف في المُشَارِ إلَيْه ب «ذَلِكَ».
فقال عطاء: «ذَلِكَ» عائدٌ على القَتْل لأنه أقربْ مَذْكُور، وقالتْ فرقةٌ: «ذلك» عائدٌ على أَكْلِ المالِ بالباطِلِ، وقَتْلِ النَّفْسِ، وقالَتْ فرقةٌ: «ذَلِكَ» : عائدٌ على كُلِّ ما نُهِيَ عَنْه مِنْ أوَّل السورةِ، وقال الطبريُّ «١» :«ذَلِكَ» عائدٌ على ما نُهِيَ عنه مِنْ آخر وعيدٍ، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء: ١٩] لأنَّ كلَّ ما نهي عنه قبله إلى أول السُّورة، قُرِنَ به وعيدٌ.
قال ابنُ العَرَبيِّ «٢» في «أحكامه» : والقول الأول أصحُّ، وما عداه محتملٌ. انتهى.
والعدوانُ: تَجَاوُزُ الحَدِّ.
قال ص: عُدْواناً وَظُلْماً: مصدرانِ في مَوْضِعِ الحال، / أي: متعدّين وظالِمِينَ، أبو البقاء: أو مفعولٌ من أجله. انتهى.
واختلف العلماءُ في «٣» الكبائِرِ.
فقال ابنُ عبَّاس وغيره: الكبائرُ: كلُّ ما وَرَدَ علَيْه وعيدٌ بنارٍ، أو عذابٍ، أو لَعْنَةٍ، أو
- سرية... فذكر الحديث.
وفيه: «فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلّى بهم»، وليس فيه ذكر التيمم.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، والذي عندي أنهما عللاه بحديث جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. اهـ.
وللحديث شاهد من حديث ابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١/ ٢٣٤) رقم (١١٥٩٣) من طريق يوسف بن خالد السمتي: ثنا زياد بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلّى بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكروا ذلك له، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك فقال: يا رسول الله خشيت أن يقتلني البرد، وقد قال الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فسكت عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢٦٧)، وقال: رواه الطبراني في «الكبير»، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب.
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ٣٩).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤١١).
(٣) ينظر الكلام على الكبائر في: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٢٧٩)، و «منهاج العقول» للبدخشي (٢/ ٣٤٤)، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (١٠٠)، و «حاشية البناني» (٢/ ١٥٢)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ٤٩)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢/ ١٧٥)، و «أعلام الموقعين» لابن القيم (٤/ ٣٠٥)، و «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (٣/ ٤٥).
225
ما أشبه ذلك «١».
وقال ابن عبَّاس أيضاً: كلُّ ما نَهَى اللَّه عنه، فَهُوَ كَبِيرٌ «٢»، وعلَى هذا القول أئمَّة الكلامِ القاضِي، وأبو المَعَالِي، وغَيْرُهما قالوا: وإِنما قيل: صغيرةٌ بالإِضافة إِلَى أكبر منها، وإِلاَّ فهي في نفسها كبيرةٌ منْ حيْثُ المَعْصِيُّ بالجميع واحدٌ، واختلف العلماءُ في هذه المسألة، فجماعةٌ من الفقهاءِ والمحدِّثين يَرَوْنَ أنَّ باجتنابِ الكبَائرِ تُكَفَّر الصغائرُ قطْعاً، وأما الأصوليُّون، فقَالُوا: مَحْمَلُ ذلك علَى غَلَبة الظَّنَّ، وقُوَّةِ الرجاءِ، لا علَى القَطْع، ومَحْمَلُ الكبائرِ عند الأصوليِّين في هذه الآيةِ أجناسُ الكُفْر، والآيةُ التي قَيَّدت الحُكْمَِ، فتردُّ إِلَيْها هذه المُطْلَقات كلُّها: قوله تعالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
وكَرِيماً: يقتضي كَرَمَ الفضيلةِ، ونَفْيَ العيوب كما تقول: ثَوْبٌ كريمٌ، وهذه آية رجاء، ورَوى أبو حاتم الْبُسْتِيُّ في «المُسْنَدِ الصَّحِيح» له، عن أبي هريرةَ وأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم جَلَسَ علَى المِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه»، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثم سَكَتَ، فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي حَزِيناً لِيَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤَدِّي الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَجْتَنِبُ الكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمانِيَةُ أَبْوَابِ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى إِنَّها لَتُصَفِّقُ، ثُمَّ تَلاَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ... «٣» الآية». انتهى من «التذكرة» للقرطبيِّ، ونحوُهُ ما رواه مُسْلِمٌ، عن أبي هريرةَ، قَالَ: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةَ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» «٤» قال القرطبيُّ «٥» : وعلَى هذا جماعةُ أهل التأويل، وجماعةُ الفقهاءِ، وهو الصحيحُ أنَّ الصغائر تُكَفَّرُ باجتنابِ الكبائرِ قَطْعاً بِوَعْدِ اللَّهِ الصِّدْق، وقولِهِ الحَقِّ سبحانه، وأما الكَبَائِرُ، فلا تكفِّرها إِلا التوبةُ منْهَا. انتهى.
قلْتُ: وفي «صحيح مُسْلِمٍ»، عن أبي هريرة (رضي اللَّه عنه) أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٤٤) برقم (٩٢١٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٣- ٤٤)، وابن كثير (١/ ٤٨٦)، والسيوطي (٢/ ٢٦١)، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٤٣) برقم (٩٢٠٢)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٤)، وابن كثير (١/ ٤٨٦)، والسيوطي (٢/ ٢٦١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في «الشعب».
(٣) أخرجه النسائي (٥/ ٨)، كتاب «الزكاة»، باب وجوب الزكاة، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٤/ ٣١٦)، وابن خزيمة (٣١٥)، وابن حبان (١٧٤٨)، والبيهقي (١٠/ ١٨٧) كلهم من طريق سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر عن صهيب مولى العتواريين عن أبي هريرة مرفوعا.
(٤) تقدم تخريجه. [.....]
(٥) ينظر: «تفسير القرطبي» (٥/ ١٠٤).
226
قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». انتهى «١».
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
وقوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ... الآية: سَبَبُ الآيةِ أنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجالِ في المِيرَاثِ، وشَارَكْنَاهُمْ في الغَزْوِ، ورُوِيَ أنَّ أمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ ذَلِكَ، أو نحوه «٢»، وقال الرِّجَالُ: لَيْتَ لَنَا فِي الآخِرَةِ حَظّاً زَائِداً عَلَى النِّسَاءِ كَمَا لَنَا عَلَيْهِنَّ فِي الدُّنْيَا، فنزلَتِ الآية.
قال ع «٣» : لأنَّ في تَمَنِّيهم هذا تحكُّماً على الشِّريعة وتطرُّقاً إِلى الدَّفْع في صَدْر حَكْم اللَّه تعالَى، فهذا نَهْيٌ عن كُلِّ تَمَنٍّ بخلاف حُكْم شرعيٍّ، وأما التمنِّي في الأعمال الصَّالحة، فذلك هو الحَسَن، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَدِدتُّ أنَ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أحياء، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا... » الحديث «٤». وفي غير موضع ولقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
[النساء: ٣٢]. قال القُشَيْرِيُّ: سمعْتُ الشيخ أبا عَلِيٍّ يقولُ: مِنْ علاَمَاتِ المَعْرفة أَلاَّ تسأل حوائجَكَ، قَلَّتْ أَوَ كَثُرَتْ إِلاَّ مِنَ اللَّهِ تعالَى مِثْلُ موسَى اشتاق إِلَى الرُّؤْية، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: ١٤٣]، واحتاج مرَّةً إِلى رغيفٍ، فقال: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: ٢٤]
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٣٠٠) والثوري في «تفسيره» (ص ٢٤١- ٢٤٢) كلاهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة به.
وأخرجه أحمد (٦/ ٣٠١) والطبراني في «الكبير» (٢٣/ ٢٩٨) رقم (٦٦٥) من طريق عبد الله بن رافع عن أم سلمة وأخرجه أحمد (٦/ ٣٠٥) والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٤٣١) كتاب «التفسير»، باب قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ حديث (١١٤٠٥) والطبراني في «الكبير» (٢٣/ ٢٩٤) رقم (٦٥٠) من طريق عثمان بن حكيم ثنا عبد الرّحمن بن شيبة عن أم سلمة به والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٣٧٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه والفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٤- ٤٥).
(٤) تقدم تخريجه.
227
انتهى من «التحبير».
وقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ... الآية: قالَتْ فرقة: معناه: من الأجْر، والحسناتِ، فكأنه قِيلَ للنَّاس: لا تَتَمَنَّوْا في أمرٍ مخالف لما حكم اللَّه بِهِ لاختيارٍ تَرَوْنَهُ أَنْتُمْ، فإِن اللَّه تعالَى قَدْ جَعَلَ لكلِّ أحدٍ نصيباً من الأجْر والفَضْلِ بحَسَب اكتسابِهِ فيما شَرَعَ لَهُ، وهذا قولٌ حَسَن، وفي تعليقه سبحانه النَّصِيبَ بالاِكتسابِ حَضٌّ علَى العَمَل، وتنبيهٌ على كَسْب الخير.
وقوله سبحانه: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، قال ابنُ جُبَيْر وغيره: هذا في فَضْل العباداتِ، والدِّينِ، لا في فضل الدنيا «١»، وقال الجُمْهُور: ذلك على العمومِ، وهو الذي يقتضيه اللفظ، فقوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ يقتضي مفْعولاً ثانياً، تقديره: واسألوا اللَّهَ الجَنَّة أو كثيراً من فضله.
وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ... أي: ولكلِّ أحدٍ، قال ابنُ عَبَّاس وغيرهِ:
المَوَالِي هنا العَصَبَةُ والوَرَثَةُ، والمعنَى: ولكلِّ أحدٍ جعلْنا موالِيَ يَرِثُونَ ممَّا تَرَكَ الوالدان والأقربُونَ.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ رفْعٌ بالاِبتداءِ، والخَبَرُ في قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.
واختُلِفَ من المراد ب «الَّذِينَ».
فقال الحسن وابنُ عبَّاس وابنُ جُبَيْر وغيرهم: هم الأحْلاَفُ، فإِنَّ العرب كانَتْ تتوارَثُ بالحِلْفِ، ثم نُسِخَتْ بآيَات الأنْفَالِ: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «٢» [الأنفال: ٧٥].
وقال ابنُ عباس أيضاً: هم الذين كَانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخَى بينهم، كانوا يتوارَثُونَ بهذه الآيةِ حتى نُسِخَ ذلك بما تقدَّم «٣».
وقال ابنُ المسيَّب: هم الذين كانوا يتبنّون «٤».
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٥١) برقم (٩٢٥٤)، وذكره البغوي (١/ ٤٢١)، بنحوه، وابن عطية (٢/ ٤٥)، والسيوطي (٢/ ٢٦٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٥٤) برقم (٩٢٦٧- ٩٢٦٩- ٩٢٦٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٦)، وابن كثير (١/ ٤٨٩)، والسيوطي (٢/ ٢٦٨) بنحوه.
(٣) أخرجه البخاري (٤٥٨٠).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ٥٧) برقم (٩٢٨٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٦).
228
قال ع «١» : ولفظةُ المُعَاقَدَةِ والأَيْمَانِ ترجِّح أنَّ المراد الأحلاف.
[سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
وقوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ بناء مبالَغَةٍ، وهو من القِيَامِ على الشيْءِ والاِستبدادِ بالنَّظَر فيه، وحِفْظِهِ، فقيامُ الرِّجَال «٢» على النساء هو علَى هذا الحدِّ، وتعليلُ ذلك بالفضيلة والنَّفَقةِ يقتضي أنَّ للرجالِ علَيْهِنَّ استيلاءً، قال ابنُ عَبَّاس: الرِّجَالُ أمراء على النِّسَاءِ.
قال ابنُ العَرَبِّيِّ «٣» في «أحكامه» : وللرِّجَالِ عليهنَّ درجةٌ لفَضْلِ القَوَّامِيَّة، فعلَيْه أنْ يَبْذُلَ المَهْرَ والنَّفَقَةَ، وَحُسْنَ العِشْرة، وَيَحْجُبَهَا ويأمُرَهَا بطَاعَةِ اللَّه تعالَى، ويُنْهِيَ إِلَيْهَا شَعَائِرَ الإِسلامِ مِنْ صلاةٍ، وصيامٍ وما وَجَب عَلَى المُسْلمين، وعلَيْها الحِفْظُ لمالِهِ، والإِحسانُ إِلَى أهْلِهِ، والاِلتزامُ لأَمْرِهِ في الحجبة وغيرها إِلاَّ بإِذنه، وقَبُولُ قولِهِ في الطَّاعات. انتهى.
و «ما» مصدريةٌ في الموضِعَيْنِ، والصَّلاَحُ في قوله: فَالصَّالِحاتُ هو الصلاح في الدّين، وقانِتاتٌ: معناه: مطيعاتٌ لأزواجِهِنَّ، أو لِلَّهِ في أزواجِهِنَّ، حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ: معناه: لكلِّ ما غاب عَنْ عَلْم زَوْجِها ممَّا اسْتُرْعِيَتْهُ، وروى أبو هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ، إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية «٤».
وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ: «ما» : مصدريةٌ، تقديره: بِحِفْظِ اللَّه، ويصحُّ أنْ تكون بمعنى «الَّذِي» ويكون العائدُ في «حَفِظَ» ضميرَ نَصْبِ، أي: بالذي حَفِظَهُ اللَّهُ، ويكون المعنَى: إِمَّا حِفْظُ اللَّهِ ورعايَتُه الَّتي لا يَتِمُّ أمْرٌ دونها، وإِما أوامره ونَوَاهيه للنساء، فكأنها حِفْظُهُ، بمعنى أنَّ النساء يَحْفَظْنَ بإِزاء ذلك وبقدره.
وقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ... الآية: النُّشُوزُ: أنْ تتعوَّج المرأة، ويرتفع خلقها/، وتستعلي على زوجها «٥».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٦).
(٢) في أ: الرجل.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤١٦).
(٤) أخرجه أبو داود الطيالسي (٢٣٢٥) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ.
(٥) أخرجه الطبري (٤/ ٦٠) برقم (٩٣٠١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٧)، وابن كثير (١/ ٤٩١)، والسيوطي (٢/ ٢٧١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس. [.....]
229
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ: قال ابن عبَّاس: يضاجِعُها، ويولِّيها ظَهْرَهُ، ولا يجامِعُهَا «١»، وقال مجاهدٌ: جنبوا مُضاجَعَتَهُنَّ «٢»، وقال ابنُ جُبَيْر: هي هِجْرة الكلام، أيْ:
لا تكلِّموهُنَّ، وأعرضوا عَنْهُنَّ «٣»، فيقدَّر حذفٌ، تقديره: واهجروهُنَّ في سبب المَضَاجِعِ، حتَّى يُرَاجِعْنَهَا.
م: قوله: فِي الْمَضاجِعِ، ذكر «٤» أبو البقاءِ فيه وجْهَيْن «٥» :
الأول: أنَّ «في» علَى بابها مِنَ الظرفية، أي: اهجروهنَّ في مواضِعِ الاِضطجاعِ، أي:
اتركوا مضاجَعَتَهُنَّ دون تَرْك مكالمتهن.
الثاني: أنَّها بمعنى السَّبَب، أي: اهجروهنَّ بِسَبَبِ المَضَاجِعِ كما تقول: في هذه الجنايةِ عُقُوبَةٌ. انتهى، وكونُها للظرفيَّة أظهرُ، واللَّه أعلم.
والضَّربُ في هذه الآية: هو ضَرْبُ الأدب غَيْرُ المُبَرِّح، وهو الذي لا يَكْسِرُ عَظْماً، ولا يَشِينُ جارحة، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اضْرِبُوا النِّسَاءَ إِذا عَصَيْنَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ» قال عطاء: قُلْتُ عَبَّاسٍ: مَا الضَّرْبُ غَيْرُ المُبَرِّحِ؟ قَالَ: بِالشِّرَاكِ وَنَحْوِه «٦».
قال ابن العربي «٧» في «أحكامه» : قوله عز وجل: وَاضْرِبُوهُنَّ ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلاَّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِع، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِن انْتَهَيْنَ، فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ» «٨». وفي هذا دليلٌ علَى أنَّ الناشز لا نَفَقَةَ لها ولا كسوة، وأنّ الفاحشة هي
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٦٦) برقم (٩٣٤٩)، (٩٣٥٣)، وذكره البغوي (١/ ٤٢٣) بنحوه، وابن عطية (٢/ ٤٨)، وابن كثير (١/ ٤٩٢)، والسيوطي (٢/ ٢٧٧)، وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٦٧) برقم (٩٣٥٩) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٨)، وابن كثير (١/ ٤٩٢)، والسيوطي (٢/ ٢٧٧) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٤٨).
(٤) في أ: قال.
(٥) في أ: تقدير.
(٦) أخرجه الطبري (٤/ ٧١) رقم (٩٣٨٧- ٩٣٨٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٨)، والسيوطي (٢/ ٢٧٨)، وعزاه لابن جرير عن عطاء قال: قلت لابن عباس.
(٧) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٢٠).
(٨) أخرجه الترمذي (٣/ ٦٧) في الرضاع: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (١١٦٣)، وابن ماجة (١/ ٥٩٤) في النكاح، باب حق المرأة على الزوج (١٨٥١)، والنسائي في «الكبرى» (٥/ ٣٧٢) في عشرة-
230
البَذَاءُ ليس الزِّنَا كما قال العلماء، ففسَّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الضرْبَ، وبَيَّن أنه لا يكونُ مُبَرِّحاً، أي: لا يَظْهَر له أثَرٌ على البدن. انتهى.
قال ع «١» : وهذه العظةُ والهَجْر والضَّرْب مراتبُ، إِنْ وقعتِ الطاعةُ عنْدَ إِحداها، لم يتعدَّ إلى سائرها، وتَبْغُوا: معناه: تطلبوا، وسَبِيلًا: أي: إِلى الأذَى، وهو التعنيتُ والتعسُّف بقَوْلٍ أو فعلٍ، وهذا نهْيٌ عن ظُلْمِهِنَّ، وحَسُنَ هنا الاِتصافُ بالعلوِّ والكِبْر، أي: قَدْرُهُ سبحانه فَوْقَ كُلِّ قدْرٍ، ويده بالقُدْرة فَوْق كلِّ يدٍ فلا يستعلي أحدٌ بالظُّلْم على امرأتِهِ، فاللَّه تعالَى بالمرصاد، وينظر إِلَى هذا حديثُ أبي مسعودٍ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمِي، فَسَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مسعود، فصرفت وجهي، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عليك منك على هذا العبد... »
الحديث «٢».
- النساء، باب كيف الضرب (٩١٦٩/ ١) من طريق الحسين بن علي عن زائدة عن شبيب بن غرقدة البارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص حدثني أبي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلا، إلا أن لكم من نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن»، وهذا لفظ النسائي.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ويشهد له حديث حكيم بن معاوية عن أبيه أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حق المرأة على الزوج؟
قال: «يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت».
رواه أبو داود (٢/ ٢٤٤) في النكاح: باب في حق المرأة على زوجها (٢١٤٢)، وابن ماجة (١/ ٥٩٣- ٥٩٤) في النكاح: باب حق المرأة على الزوج (١٨٥٠)، والنسائي في التفسير (١/ ٣٨١) (١٢٤)، وأحمد (٤/ ٤٤٦، ٤٤٧)، (٥/ ٣، ٥)، والطبراني في «الكبير» (١٩/ ٩٩٩- ١٠٠٢، ١٠٣٤، ١٠٣٨، ١٠٣٩)، وابن حبان (١٢٨٦- موارد)، والحاكم (٢/ ١٨٧- ١٨٨)، والبيهقي (٧/ ٢٩٥، ٣٠٥، ٤٦٦- ٤٦٧) والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ١١٩) برقم (٢٣٢٣).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٨).
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٢٨٠- ١٢٨١)، كتاب «الأيمان»، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، حديث (٣٤/ ١٦٥٩)، وأبو داود (٢/ ٧٦٢)، كتاب «الأدب»، باب في حق المملوك، حديث (٥١٥٩)، والترمذي (٤/ ٣٣٥) كتاب «البر والصلة»، باب النهي عن ضرب الخدم وشتمهم، حديث (١٩٤٨)، وأحمد (٤/ ١٢٠، ٥/ ٢٧٣، ٢٧٤)، وعبد الرزاق (١٧٩٥٩)، والبيهقي (٨/ ١٠)، والطبراني في «الكبير» (١٧/ ٢٤٥) رقم (٦٨٤).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
231

[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا... الآية: اختلف من المأمور بالبَعْثَةِ. فقيل: الحُكَّام «١»، وقيل: المُخَاطَب الزَّوْجَانِ، وإِليهما تقديمُ الحَكَمَيْنِ، وهذا في مَذْهب مالك، والأول لربيعةَ وغيره، ولا يُبْعَثُ الحَكَمَانِ إِلاَّ مع شدَّة الخوْفِ والشِّقَاقِ، ومذهبُ مالك وجمهورِ العُلَمَاءِ: أنَّ الحَكَمَيْن يَنْظُران في كلِّ شيء، ويحملان على الظَّالم، ويُمْضِيَان ما رَأَياه مِنْ بقاء أو فراقٍ، وهو قولُ عليَّ بنِ أبي طالب في «المدوَّنة» وغيرها «٢».
وقوله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً، قال مجاهد وغيره: المرادُ الحَكَمَانِ، أي: إِذا نَصَحَا وقَصَدَا الخَيْرَ، بُورِكَ في وَسَاطتهما «٣»، وقالتْ فرقةٌ: المرادُ الزَّوْجَان، والأول أظهرُ، وكذلك الضميرُ في بَيْنِهِما، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزّوجين، والاتصاف بعليم خبير: يناسب ما ذكر من إرادة الإصلاح.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)
وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً... العبادة/:
التذلُّل بالطَّاعة، وإِحساناً، مصدرٌ، والعاملُ فيه فِعلٌ، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدين إِحساناً، وَبِذِي القُرْبَى: هو القريبُ النَّسَبِ مِنْ قِبَلِ الأبِ والأُمِّ، قال ابنُ عبَّاس وغيره: والجَارُ ذو القربَى: هو القريبُ النَّسَبِ، والجَارُ الجُنُبِ: هو الجَارُ الأجنبيُّ «٤»، وقالَتْ فرقة: الجَارُ ذو
(١) في أ: الحاكم.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٧٤) برقم (٩٤٠٨- ٩٤٠٩)، وذكره البغوي (١/ ٤٢٤) بنحوه، وابن عطية (٢/ ٤٩)، والسيوطي (٢/ ٢٧٩)، وعزاه للشافعي في «الأم»، وعبد الرزاق في «المصنف»، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه»، عن عبيدة السلماني.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٧٩) برقم (٩٤٣١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٩)، والسيوطي (٢/ ٢٨٠)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ٨٠- ٨٢) برقم (٩٤٣٨: ٩٤٤٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٠)، وابن كثير (١/ ٤٩٤)، والسيوطي (٢/ ٢٨٢) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» من طرق، عن ابن عباس.
232
القربَى: هو الجارِ القريبُ المَسْكنِ منْكَ، والجار الجُنُب هو البعيدُ المَسْكن منْكَ، والمُجَاورة مراتِبُ بعضُها أَلْصَقُ من بعض أدناها الزَّوْجَة.
قال ابنُ عباس وغيره: الصَّاحِبُ بالجَنْبِ: هو الرفيقُ في السَّفَر «١».
وقالَ عليُّ بنْ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعود، وابنُ أبي لَيْلَى وغيرهم: هو الزوجَةُ «٢»، وقال ابنُ زَيْدٍ: هو الرجلُ يعتريكَ ويُلِمُّ بك لتنفعه «٣»، وأسند الطبريُّ «أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وهُمَا عَلَى راحلتين، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غَيْضَةً «٤»، فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ، أَحَدُهَمَا مُعْوَجٌّ، وخَرَجَ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ القَوِيمَ، وَحَبَسَ هُوَ المُعْوَجَّ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: كُنْتَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَقَّ بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ: «يَا فُلاَنُ، إِنَّ كُلَّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ الآخَرَ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ، وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهِارٍ» «٥»، قلْتُ: وأسند الحافظ محمَّد بن طاهر المقدسيّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» «٦». انتهى من «صفوة التصوُّف».
وفي الحديثِ الصحيح، عنِ ابن عمر، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، أخرجه البخاريُّ، وأخرجه أيضاً من طريق عائشة (رضي الله عنها) «٧» انتهى.
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٨٣) برقم (٩٤٥٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥١)، وابن كثير (١/ ٤٩٥)، والسيوطي (٢/ ٢٨٤)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الشعب» عن ابن عباس.
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٥١).
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٨٥) برقم (٩٤٨٢)، وذكره البغوي (١/ ٤٢٥)، وابن عطية (٢/ ٥١).
(٤) الغيضة: هي الشجر الملتف. ينظر: «النهاية» (٣/ ٤٠٢).
(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (٤/ ٨٥) برقم (٩٤٨٣).
(٦) أخرجه الترمذي (٤/ ٣٣٣)، كتاب «البر والصلة»، باب ما جاء في حق الجوار، حديث (١٩٤٤)، وابن حبان (٢٠٥١- موارد)، وابن خزيمة (٢٥٣٩)، وأحمد (٢/ ١٦٧- ١٦٨)، والحاكم (١/ ٤٤٣)، والدارمي (٢/ ٢١٥) من حديث عبد الله بن عمرو.
(٧) ورد ذلك من حديث عائشة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وحديث جابر بن عبد الله، ومحمد بن مسلمة، ورجل من الأنصار:
فأما حديث عائشة، فأخرجه البخاري (١٠/ ٤٥٥) في الأدب: باب الوصاة بالجار (٦٠١٤)، وفي «الأدب المفرد» (٩٩)، ومسلم (٤/ ٢٠٢٥) في البر والصلة: باب الوصية بالجار، والإحسان إليه (١٤٠- ٢٦٢٤). وأبو داود (٢/ ٧٦٠) في الأدب: باب في حق الجوار (٥١٥١)، والترمذي (٤/ ٢٩٣) في البر والصلة: باب ما جاء في حق الجوار (١٩٤٢)، وابن ماجة (٢/ ١٢١١) في الأدب: باب حق الجوار (٣٦٧٣)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤/ ٢٦- ٢٧)، وأحمد (٦/ ٥٢، ٢٣٨)، والخرائطي-
233
وابنُ السَّبِيلِ: المسافرُ، وسُمِّيَ ابْنُهُ للزومه له، وما ملكت أيمانكم: هم العبيد الأرقّاء.
- في «مكارم الأخلاق» (ص ٣٦)، والبيهقي (٧/ ٢٧) من طرق عن عمرة عنها به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها.
وأخرجه أحمد (٦/ ٩١، ١٢٥، ١٨٧)، وأبو يعلى (٤٥٩٠)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٧)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ص ٣٦)، والخطيب في «التاريخ» (٤/ ١٨٧) من طريق زبيد عن مجاهد عنها.
وأما حديث ابن عمر، فأخرجه البخاري (٦٠١٥)، ومسلم (١٤١/ ٢٦٢٥)، وأحمد (٢/ ٨٥)، والطبراني في «الكبير» (١٢/ ٣٦٠) (١٣٣٤٠، ٣٣٤٣)، والخرائطي (ص ٣٧)، والبيهقي (٧/ ٢٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٧٠) برقم (٣٣٨١) من طريق عمر بن محمد عن أبيه عنه مرفوعا. وكذا رواه البخاري في «الأدب المفرد» (١٠٢).
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أبو داود (٥١٥٢)، والترمذي (١٩٤٣)، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٠٣)، وأحمد (٢/ ١٦٠)، والحميدي (٢/ ٢٧٠- ٢٧١) برقم (٥٩٣)، والخرائطي (ص ٣٧)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٦) من طريق مجاهد عنه به.
وعند الحميدي «عن مجاهد بن جبر عن محرر بن قيس بن السائب أن عبد الله بن عمرو... ».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضا.
وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن ماجة (٣٦٧٤)، وأحمد (٢/ ٣٠٥، ٤٤٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٦) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عنه به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ١٦٤) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
ورواه أحمد: (٢/ ٢٥٩، ٥١٤)، وابن حبان (٢٠٥٢- موارد)، وابن أبي شيبة (٨/ ٥٤٦- ٥٤٧) برقم (٥٤٧٢)، والبزار (٢/ ٣٨١) برقم (١٨٩٨)، وابن عدي (٣/ ٩٤٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٧٠) برقم (٣٣٨٢) من طريق شعبة عن داود بن فراهيج عنه به.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٥٩) : رواه البزار، وفيه داود بن فراهيج، وهو ثقة، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
وأما حديث أبي أمامة، فأخرجه أحمد (٥/ ٢٦٧)، والخرائطي (٣٧) عن بقية بن الوليد حدثنا محمد بن زياد سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. وكذا رواه الطبراني في «الكبير» (٨/ ١٣٠) برقم (٧٥٢٣).
وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ١٦٨)، رواه الطبراني، وإسناده جيد.
وأخرجه الطبراني (٧٦٣٠) من طريق يحيى بن أبي كثير عن شداد أبي عمار عن أبي أمامة به، ولفظه لفظ حديث عائشة.
وقال الهيثمي (٨/ ١٦٧) : رواه أحمد والطبراني بنحوه، وصرح بقية بالتحديث، فهو حديث حسن.
وأما حديث أنس فأخرجه الخرائطي مطولا (ص ٣٦) عن الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عنه. -
234
قال ابنُ العَرَبِيّ «١» في «أحكامه» : وقد أمر اللَّه سبحانه بالرِّفْقِ بهم، والإِحسانِ إِلَيْهم وفي «الصحيح» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إِخْوَانُكُمْ مَلَّكَكُمُ اللَّهُ رِقَابَهُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُونَ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ، فأعينوهم» »
. انتهى.
- وأخرجه البزار (١٨٩٩- كشف الأستار) عن محمد بن ثابت عن أبيه عن أنس. وقال الهيثمي (٨/ ١٦٨) : فيه محمد بن ثابت بن أسلم، وهو ضعيف. وأما حديث زيد بن ثابت فرواه الطبراني في «الكبير» (٥/ ١٥١) (٤٩١٤)، وفي «الأوسط» (٢٥٤- مجمع البحرين) من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن زيد بن ثابت به مرفوعا.
وقال الهيثمي: فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو ثقة، وفيه ضعف. وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأما حديث جابر، فأخرجه البزار (١٨٩٧) عن زياد بن عبد الله: ثنا الفضل بن مبشر عن جابر بنحوه.
وقال الهيثمي: فيه الفضل بن مبشر، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث محمد بن مسلمة: فأخرجه الطبراني في «الكبير» (١٩/ ٢٣٤- ٢٣٥)، والبيهقي في «الدلائل» (٧/ ٧٧) من طريق محمد بن المثنى قال: حدثنا عباد بن موسى، قال: حدثنا يونس عن الحسن عن محمد بن سلمة به مطولا.
وقال الهيثمي: فيه عباد بن موسى السعدي. وقد ذكر ابن أبي حاتم عباس بن مؤنس، وروى عنه اثنان، فإن كان هذا ابن مؤنس، فرجاله ثقات، وإلا فلم أعرفه.
وأما حديث الأنصاري، فأخرجه أحمد (٥/ ٣٢، ٣٦٥)، والطحاوي (٤/ ٢٧)، والخرائطي (ص ٣٥- ٣٦) من طريق هشام عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عنه.
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٣١).
(٢) أخرجه البخاري (١/ ١٠٦) في الأيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية (٣٠)، و (٥/ ٢٠٦) في العتق:
باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون»، (٢٥٤٥)، و (١٠/ ٤٨٠) في الأدب:

باب ما ينهى عن السباب واللعن (٦٠٥٠).


ومسلم (٣/ ١٢٨٢- ١٢٨٣) في الأيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس (٣٨- ٤٠/ ١٦٦١)، وأبو داود (٢/ ٧٦١) في الأدب: باب في حق المملوك (٥١٥٨)، والترمذي (٤/ ٢٩٤- ٢٩٥) في البر والصلة: باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم (١٩٤٥)، وابن ماجة (٢/ ١٢١٦- ١٢١٧) في الأدب: باب الإحسان إلى المماليك (٣٦٩٠)، وأحمد (٥/ ١٥٨)، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٨٧)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤/ ٣٥٦)، والبيهقي (٨/ ٧) من طريق المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد، وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة.
فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلقيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية. قلت: يا رسول الله. من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. -
235
ونفَى سبحانه محبَّته عَمَّنْ صفته الخُيَلاءُ والفَخْر، وذلك ضَرْبٌ من التوعُّد، يقال:
خَالَ الرَّجُلُ يَخُولُ خَوْلاً، إِذا تكبَّر وأُعْجِبَ بنفسه، وخَصَّ سبحانه هاتين الصفتين هنا إذا مقتضاهما العُجْبُ والزَّهْو، وذلك هو الحَامِلُ عَلَى الإِخلال بالأصْنَافِ الذين تَقدَّم أَمْرُ اللَّه بالإِحسان إِلَيْهم.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ... الآية: قالتْ فرقةٌ:
«الذين» في موضعِ نَصْبٍ بدلٍ مِنْ «مَنْ» في قوله: مَنْ كانَ مُخْتالًا، ومعناه على هذا:
يبخَلُونَ بأموالهم، ويأمرون الناس، يَعْنِي: إِخوانَهُمْ ومَنْ هو مَظِنَّة طاعتهم بالبُخْل بالأموال أَنْ تُنْفَقَ في شَيْءٍ من وُجُوه الإِحسان إِلى مَنْ ذَكَر، وَيَكْتُمُونَ مَآ آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، يعني: مِنَ الرِّزْقِ والمالِ، فالآيةُ، إِذَنْ، في المؤمنين، أي: وأما الكافِرُونَ فأعدَّ لهم عذاباً مُهِيناً، وروي أنَّ الآية نزلَتْ في أحبارِ اليَهُود بالمدينةِ إذ كتموا أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبخلوا به، والتوعّد بالعذاب المهين لهم، وأَعْتَدْنا: معناه يَسَّرْنَا وأحْضَرْنَا، والعَتِيدُ: الحَاضِرُ، والمُهِينُ: الذي يَقْتَرِنُ به خِزْيٌ وذُلٌّ، وهو أنْكَى وأشدّ على المعذّب.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ... الآية: «الَّذِينَ» في موضعِ رَفْعٍ على القطع، والخبرُ محذوفٌ، وتقديره، بعد «اليوم الآخر» : مُعَذَّبُونَ.
- ويشهد له حديث أبي اليسر، رواه مسلم (٤/ ٢٣٠١- ٢٣٠٣) في الزهد: باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (٧٤- ٣٠٠٦، ٣٠٠٧)، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٨١)، والطبراني في «الكبير» (١٩/ ١٦٨- ١٦٩) برقم (٣٧٩)، والطحاوي (٤/ ٣٥٦)، وابن أبي شيبة (٧/ ١١) من طريق حاتم بن إسماعيل: ثنا يعقوب بن مجاهد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه.
كما يشهد له حديث جابر، رواه البخاري في «الأدب المفرد» (١٨٢)، (١٩٢) من طريق مروان بن معاوية: ثنا الفضل بن مبشر قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوصي بالمملوكين خيرا، ويقول: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم من لبوسكم، ولا تعذبوا خلق الله».
ويشهد له أيضا حديث يزيد بن جارية، رواه أحمد (٤/ ٣٥- ٣٦)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٥/ ٣٦٤) عن سفيان عن عاصم (يعني ابن عبيد الله) عن عبد الرّحمن بن يزيد عن أبيه.
وقال الهيثمي في المجمع (٤/ ٢٣٧) : رواه أحمد والطبراني عن يزيد بن جارية، وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف. ويشهد له حديث رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رواه البخاري في «الأدب المفرد» (١٨٤)، وأحمد (٥/ ٥٨).
والصحيحُ الذي علَيْهِ الجمهورُ أنَّ هذه الآيةَ في المُنَافِقِينَ/، والقَرِينُ: فَعِيلٌ بمعنى فَاعِلٍ من المُقَارنة، وهي الملاَزَمَةُ والاِصْطحَاب، والإِنسان كلُّه يقارنُه الشَّيْطان لَكِنَّ الموفَّقَ عاصٍ له.
وقوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... الآية: التقديرُ: وأيُّ شيء عَلَيْهم، لو آمنوا، وفي هذا الكلام تفجُّع مَّا عليهم، واستدعاءٌ جميلٌ يقتضي حَيْطَةً وإِشفاقاً، وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً: إِخبارٌ يتضمَّن وعيداً، وينبِّه علَى سُوء تواطُئِهِمْ، أي: لا ينفعهم كَتْمٌ مع عِلْمِ الله بهم.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ... الآية: مِثْقَال: مِفْعَال من الثّقل، والذَّرَّة: الصغيرةُ الحَمْرَاءُ مِنَ النَّمْلِ، ورُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاس أنه قال: الذَّرَّة: رأسُ النملةِ «١»، وقرأ ابنُ عَبَّاس: «مِثْقَالَ نَمْلَةٍ» قال قتادةُ عن نَفْسه «٢»، ورواه عَنْ بعض العلماء:
لأَنْ تَفْضُلَ حَسَنَاتِي علَى سَيِّئاتِي بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيا جميعاً.
وقوله سبحانه: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً: التقديرُ: وإِنْ تك زِنَةُ الذَّرَّةِ، وفي «صحيح مُسْلم» وغيره، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّم، وَتَحِلُّ الشّفاعة، ويقولون: اللَّهُمَّ، سَلِّمْ سَلِّمْ»، وفيه: «فَيَمُرُّ المُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ العَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمخْدُوشَّ «٣» مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ «٤» فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا خَلُصَ المُؤْمِنُونَ مَنَ النَّارِ، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الحَقِّ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجَّونَ، فَيُقَالَ لَهُمْ:
أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقَاً كَثِيراً، قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بهِ، فَيَقُولُ:
ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدتُّمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خلقا كثيرا، ثمّ
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٩١) برقم (٩٥٠٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٣)، والسيوطي (٢/ ٢٩٠) بلفظ «نملة»، وعزاه لابن المنذر. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٩١) برقم (٩٥٠٤)، (٩٥٠٥)، وذكره السيوطي (٢/ ٢٩٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٣) خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه. ينظر: «النهاية» (٢/ ١٤).
(٤) أي: مدفوع. وتكدّس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ينظر: «النهاية» (٤/ ١٥٥).
237
يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَداً مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدتُّمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَداً مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْراً»، وكان أبو سعيدٍ الخدريُّ يَقُولُ: إِن لم تصدِّقوني في هذا الحديث، فاقرءوا إِن شئْتُمْ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ:
«شَفَعَتِ المَلاَئِكَةُ، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ... » الحديثَ. انتهى.
ولفظُ البخاريِّ: «فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، إِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجُوا فِي إِخْوَانِهِم... » «١» الحديثَ.
وقرأ نافع وابنُ كَثيرٍ: «حَسَنَةٌ» «٢» (بالرفع) على تمام «كَانَ»، التقدير: وإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ، ويُضَاعِفْهَا: جوابُ الشرطِ، وقرأ «٣» ابن كَثِيرٍ: «يُضَعِّفْهَا»، وهو بناء تكثيرٍ يقتضِي أكْثَرَ مِنْ مرَّتين إِلَى أقصَى ما تريدُ مِنَ العدد، قال بعضُ المتأوِّلين: هذه الآيةُ خُصَّ بها المهاجِرُون لأن اللَّه تعالَى أعلَمَ في كتابه أنَّ الحَسَنَةَ لكُلِّ مؤُمِنٍ مضاعَفَةً عَشْرَ مرارٍ، وأَعْلَمَ في هذه الآيةِ أنها مُضَاعَفَةٌ مراراً كثيرةً حَسْبما رَوَى أبو هُرَيْرة من أنّها تضاعف ألفي ألف مرّة «٤»، وروى غيره: أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ «٥»، وقال بعضُهم: بَلْ وعد بذلك جَمِيعَ المؤمنينَ.
قال ع «٦» : والآيةُ تعمُّ المؤمنين والكافرين، فأمَّا المؤمنُونَ، فَيُجَازونَ في الآخِرَةِ على مثاقِيلِ الذَّرِّ، فما زاد، وأمَّا الكافِرُونَ، فما يَفْعَلُونه مِن خَيْر، فإِنه تقع عليه المكافأة بنعم
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ينظر: «الحجة» (٣/ ١٦٠)، و «حجة القراءات» (٢٠٣)، و «إعراب القراءات» (١٣٣)، و «العنوان» (٨٤)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢٠٦)، و «شرح شعلة» (٣٣٩)، و «إتحاف» (١/ ٥١١)، و «البحر المحيط» (٣/ ٢٥٧)، و «الدر المصون» (٢/ ٣٦٢)، و «معاني القراءات» (١/ ٣٠٨).
(٣) ينظر: «السبعة» (٢٣٣)، و «حجة القراءات» (٢٠٣)، و «الحجة» (٣/ ١٦١)، و «العنوان» (٨٤)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٣٤)، و «إتحاف» (١/ ٥١٢).
(٤) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٤)، وابن كثير (١/ ٤٩٨)، والسيوطي (٢/ ٢٩١)، وعزاه لابن أبي شيبة عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة.. فذكره.
(٥) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٤).
(٦) انظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٤).
238
الدنيا/، ويأتُونَ يَوْمَ القيامةِ، ولا حَسَنَةَ لَهُمْ، قلْتُ: وقد ذكرنا في هذا المُخْتَصَر من أحاديثِ الرَّجَاء، وأحاديثِ الشَّفَاعَةِ جملةً صالحةً لا تُوجَدُ مجتمعةً في غَيْره على نَحْوِ ما هِيَ فيه، عَسَى اللَّهُ أَنْ ينفَعَ به النّاظر فيه، ومن أعظم أحاديثِ الرَّجَاءِ ما ذَكَره عياضٌ في «الشِّفَا» قال:
ومن حديث أنس: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «لأَشْفَعَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَكْثَرَ مِمَّا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ» «١». انتهى.
وهذا الحديثُ أخرجه النِّسائِيُّ، ولفظه: «إِنِّي لأَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَكْثَرَ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ... » الحديث. انتهى من «الكوكب الدّرّيّ».
ومِنْ لَدُنْهُ: معناه: مِنْ عنده، والأَجْرُ العظيمُ: الجَنَّة قاله ابنُ مَسْعود «٢» وغيره، وإِذا مَنَّ اللَّه سبحانه بتفضُّله علَى عَبْده، بَلَغَ به الغايَةَ، اللهمّ منّ علينا بخير الدّارين بفضلك.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
وقوله جلَّت قدرته: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً... الآيةَ: لما تقدَّم في التي قَبْلَها الإِعلامُ بتَحْقيق الأحكام يوم القيامة، حَسُنَ بعد ذلك التَّنْبِيهُ على الحالَةِ الَّتي يُحْضَرُ ذلك فيها، ويُجَاءُ فيها بالشُّهَدَاءِ على الأُمَمِ، ومعنى الآيةِ: أنَّ اللَّه سبحانه يأتي بالأنبياءِ شُهَدَاءَ عَلَى أُمَمِهِمْ بالتَّصْديق والتَّكْذيب، ومعنى الأُمَّة في هذه الآية: جميعُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْه مَنْ آمَنَ منهم، ومَنْ كَفَر، وكذَلِكَ قال المتأوِّلون: إن الإشارة ب «هؤلاء» إلى كفّار قريش وغيرهم، وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، فَاضَتْ عَيْنَاهُ، وكذلك ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ- عليه السلام- حِينَ قَرَأَهَا عليه ابْنُ مَسْعُودٍ حَسْبَما هو مذكورٌ في الحديثِ الصَّحِيح، وفي «صحيحِ البخاريِّ»، عن عُقْبَةَ بنِ عامر، قال:
صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ بَعد ثمان سنين، كالمُوَدِّع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر، فقال: إنِّي بَيْنَ أَيْدِيِكُمْ فَرَطٌ، وأَنا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الحَوْضُ وإِنَّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هذا، وإِنِّي لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكُمُ الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. «٣»
(١) ينظر: «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» (٣٥).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٩٤) برقم (٩٥١٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٤)، والسيوطي (٢/ ٢٩٠- ٢٩١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
(٣) حديث عقبة بن عامر: -
وقوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى قالت فرقة معناه: تنشق الأرض، فيحصلون فيها، ثم تتسوَّى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كالبهائم.
وقوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً: معناه، عند طائفة: أن الكفار، لما يرونه من الهول وشِدَّة المخاوف، يودون لو تسوى بهم الأرض، فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام، فأخبر أنهم لا يكتمون الله حديثا، لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] فيقول الله سبحانه: «كذبتم» ثم تنطق جوارحهم، فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس «١».
وقالت طائفة: الكلام كله متصل وودّهم ألا يكتموا الله حديثا إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] والرسول في هذه الآية الجنس، شرِّف بالذكر، وهو مفرد دلَّ على الجمع.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ... الآية: نزَلَتْ قبل تحريم الخَمْر، وجمهورُ المفسِّرين على أن المراد سُكْر الخَمْر إلاَّ الضَّحَّاك، فإنه قال: المُرَادُ سُكْر النَّوْمِ، وهذا قولٌ ضعيفٌ، والمرادُ ب «الصَّلاة» هنا/ الصلاةُ المعروفةُ.
وقالَتْ طائفةٌ: الصلاة هنا المرادُ بها موضع الصلاة، والصلاة معا.
- أخرجه البخاري (٣/ ٢٠٩)، كتاب «الجنائز»، باب الصلاة على الشهيد، الحديث (١٣٤٤)، ومسلم (٤/ ١٧٩٦)، كتاب «الفضائل»، باب إثبات حوض نبينا، الحديث (٣١)، وأبو داود (٣/ ٥٥١)، كتاب «الجنائز»، باب الميت يصلى على قبره بعد حين، الحديث (٣٢٢٣)، والنسائي (٤/ ٦١- ٦٢)، كتاب «الجنائز»، باب الصلاة على الشهداء، والدارقطني (٢/ ٧٨)، كتاب «الجنائز»، باب الصلاة على القبر، في صلاته صلّى الله عليه وسلّم على شهداء أحد بعد ثمان سنين.
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٩٦- ٩٧) برقم (٩٥٢٢: ٩٥٢٤)، وذكره البغوي (١/ ٤٣٠) بنحوه، وابن عطية (٢/ ٥٥)، وابن كثير (١/ ٤٩٩)، والسيوطي (٢/ ٢٩٢- ٢٩٣). [.....]
240
قال ابنُ العربيِّ في «الأحكام» «١» : ورُوِيَ في سبب نزولِ هذه الآيةِ عن عَلِيٍّ (رضي اللَّه عنه) أنه قَالَ: صَنَعَ لنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَاماً، فَدَعَانَا، وسَقَانَا مِنَ الخَمْرِ- يَعْنِي: وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا- قَالَ: فَأَخَذَتِ الخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَدَّمُونِي، فَقَرَأْتُ: قُلْ يا أيّها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَّعْبُدُ ما تعبدون، قال: فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...
الآية: خرَّجه الترمذيُّ وصحَّحه. انتهى «٢».
وقوله: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، قال عليُّ بن أبي طالب (رضي اللَّه عنه) وغيره: عَابِرُ السَّبِيلِ: المُسَافِرُ «٣».
وقال ابنُ مسعودٍ وغيره: عابر السَّبيل هنا: الخَاطِرُ في المَسْجِد، وعَابِرُ سَبِيلٍ هو مِنَ العبور، أي: الخطور والجَوَازُ «٤»، والمريضُ المذكورُ في الآية هو الحَضَرِيُّ، وأصل الغائِطِ ما انخفض مِنَ الأرض، ثم كَثُر استعماله في قضاء الحَاجَةِ.
واللَّمْسُ في اللغةِ لَفْظٌ يقعُ لِلَّمْسِ الَّذي هو الجِمَاعُ، ولِلَّمْسِ الذي هو جَسُّ اليدِ والقُبْلَةُ ونَحْوُهُ، واختلف في موقِعِهَا هنا، فمالكٌ (رحمه اللَّه) يقولُ: اللفظةُ هنا تقتضِي الوَجْهَيْنِ، فالملامِسُ بالجِمَاعِ يتيمَّم، والملامِسُ باليد يتيمَّم، ومعنى قوله سبحانه:
فَتَيَمَّمُوا: اقصدوا، والصَّعِيدُ «٥» في اللغة: وَجْه الأرضِ قاله الخليل وغيره، واختلف
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٣٣).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٩٨) برقم (٩٥٢٧)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٦)، وابن كثير (١/ ٥٠٠)، والسيوطي (٢/ ٢٩٣- ٢٩٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ١٠٠) برقم (٩٥٤٢)، وذكره البغوي (١/ ٤٣١)، وابن عطية (٢/ ٥٧)، وابن كثير (١/ ٥٠١)، والسيوطي (٢/ ٢٩٤- ٢٩٥) وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة في «المصنف»، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن علي.
(٤) ذكره البغوي (١/ ٤٣١)، وابن عطية (٢/ ٥٧)، والسيوطي (٢/ ٢٩٥)، وعزاه لابن جرير عن ابن مسعود.
(٥) قال في «لسان العرب» : الصعيد المرتفع من الأرض.. وقيل: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة- وقيل: ما لم يخالطه رمل، ولا سبخة- وقيل: وجه الأرض لقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً [الكهف: ٤٠] أي: أرضا ملساء لا نبات بها.
وقال جرير:
إذا تيم ثوت بصعيد أرض بكت من حيث لؤمهم الصعيد
وقيل: الصعيد الأرض، وقيل: الأرض الطيبة، وقيل: هو كل تراب طيب- «وفي التنزيل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة: ٦] » وقال «الفرّاء» في قوله: صَعِيداً جُرُزاً [الكهف: ٨] : الصعيد التراب-
241
الفُقَهاءُ فيه من أجْلِ تقييدِ الآيةِ إياه بالطَّيِّبِ.
فقالتْ طائفة: يتيمَّم بوَجْه الأرْض، تراباً كان أو رَمْلاً أو حجارةً أو مَعْدِناً أو سَبِخَةً، وجعلَتِ الطِّيب بمعنى الطَّاهر، وهذا هو مذهَبُ مالكٍ «١»، وقالتْ طائفة منهم: الطِّيب
- وقال غيره: هي الأرض المستوية.
وقال «الشافعي» : لا يقع اسم الصّعيد إلّا على تراب له غبار- فأما البطحاء الغليظة والرقيقة، والكثيب الغليظ- فلا يقع عليه اسم الصعيد، وإن خالطه تراب، أو صعيد، أو مدر يكون له غبار- كان الذي خالطه الصعيد ولا يتيمم.. بالنورة، ولا بالزّرنيخ، وكل هذا حجارة.
وقال «أبو إسحق» : الصعيد: وجه الأرض قال: وعلى الإنسان أن يضرب بيديه وجه الأرض، ولا يبالي أكان في الموضع تراب، أو لم يكن لأن الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض، ترابا كان أو غيره.
قال: ولو أن أرضا كانت كلها صخرا، لا تراب عليه، ثم ضرب المتيمم يده على ذلك الصخر لكان ذلك طهورا، إذا مسح به وجهه قال تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً [الكهف: ٤٠] لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.
قال «الأزهري» : هذا الذي قاله «أبو إسحق» أحسبه مذهب مالك...
قال «الليث» : يقال للحديقة إذا خربت، وذهب شجرها: قد صارت صعيدا، أي أرضا مستوية لا شجر فيها قال «ابن الأعرابي» : الصعيد الأرض بعينها، والصعيد الطريق سمي بالصعيد من التراب، والجمع من كل ذلك صعدان.
قال «حميد بن ثور» :
وتيه تشابه صعداته... ويفنى به الماء إلا السمل
وصعد كذلك- وصعدات جمع الجمع. وفي حديث علي... (رضوان الله عليه) - إياكم والقعود بالصعدات، إلا من أدى حقها، وهي الطرق، وهي جمع صعد وصعد.. جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات، مأخوذ من الصعيد، وهو التراب، وقيل: جمع صعدة كظلمة وهي فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه، ومنه الحديث: «ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى»، والصعيد الطريق يكون واسعا وضيقا، والصعيد الموضع العريض الواسع، والصعيد القبر. اهـ. ينظر «التيمم» لشيخنا جاد الرب.
(١) أجمع المسلمون على جواز التيمم بتراب الحرث الطيب واختلفوا في جوازه بما عدا التراب من أجزاء الأرض المتولد عنها كالحجارة.
فذهب «الشّافعيّ» إلى أنه لا يجوز التيمّم إلّا بالتراب الخالص... وذهب مالك وأصحابه إلى أنّه يجوز التيمم بكل ما صعد على.. وجه الأرض من أجزائها من الحصباء والرمل والتراب في المشهور عنه، وزاد «أبو حنيفة» فقال: وبكل ما يتولد من الأرض مثل: الحجارة والنّون والزّرنيخ والجص والطّين والرّخام. ومنهم من شرط أن يكون التراب على وجه الأرض.
وقال «الحنابلة» : لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد، كقول «الشّافعيّ» وبه قال «إسحاق» و «أبو يوسف» و «داود». وقال أحمد: يتيمم بغبار الثوب واللبد، ونقل عن «مالك» في بعض رواياته جواز التيمم على الحشيش والثلج. وقال ابن حزم من الظاهرية: لا يجوز التيمم إلّا.. بالأرض، -
242
بمعنى المُنْبِتِ كما قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨]، فالصعيد عندهم هو الترابُ، وهذه الطائفةُ لا تُجِيزُ التيمُّم بغيره، فمكانُ الإجماع أنْ يتيمَّم في تُرَابٍ منبت طاهر غير منقول، ولا مغصوب، وترتيبُ القرآن الوجْهُ قبل اليدَيْنِ، وبه قال الجمهور، وفي «المدوَّنة» أنَّ التيمُّم ضربتانِ «١»، وجمهورُ العلماء أنَّه ينتهِي في مَسْح اليدَيْن إلى المرافق «٢».
- ثم الأرض تنقسم إلى قسمين: تراب، وغير تراب، فأما التراب فالتيمم به جائز كان في موضعه من الأرض أو منزوعا مجهولا في إناء أو ثوب أو على يد إنسان أو حيوان، أو كان في بناء لبن، أو طابية، أو غير ذلك وأما ما عدا التراب من الحصى والحصباء والرخام والرمل والكحل والزرنيخ والجير والجص والذهب والتوتيا والكبريت والملح وغير ذلك، فإن كان شي من هذه المعادن في الأرض غير مزال عنها إلى شيء آخر، فالتيمم بكل ذلك جائز- وإن كان شيء من ذلك مزالا إلى إناء أو ثوب أو نحو ذلك لم يجز التيمم بشيء منه ولا يجوز التيمم بالآجر فإن رض حتى يقع عليه اسم التراب جاز التيمم؟ وكذلك الطين لا يجوز التيمم به، فإن جف حتى يسمى ترابا جاز التيمم به، ولا يجوز التيمم بملح انعقد من الماء كان في موضعه أو لم يكن ولا بثلج ولا بورق ولا يحشيش ولا بخشب ولا بغير ذلك، ممّا يحول بين المتيمم وبين الأرض.
ينظر: «التيمم» لشيخنا جاد الرب.
(١) والأصح عند الشافعي: وجوب ضربتين، وإن أمكن مسح الوجه واليدين بضربة واحدة بأن يأخذ خرقة كبيرة، ويضرب بها التراب، ثم يمسح ببعضها وجهه، وبباقيها يديه.
وإنما كان الأصح وجوب ضربتين لخبر أبي داود، والحاكم: «التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين».
ينظر: «التيمم» لجاد الرب.
(٢) اختلفوا في القدر الواجب مسحه في اليدين على ثلاثة مذاهب:
الأول: أن الحد الواجب في ذلك هو الحد الواجب بعينه في الوضوء، وهو أن يمسحهما إلى المرفقين.. وبه قال الشافعي في «الجديد»، ومنصوصات «القديم» وقال به من الأصحاب: ابن عمر، وجابر، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، ومن الفقهاء الليث بن سعد، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة وصاحباه.
والثاني: أن الفرض هو مسح الكف فقط، وبه قال أهل الظاهر، وأهل الحديث. وبه قال مالك أيضا مع استحباب المسح إلى المرفقين، وبه قال من الصحابة ابن مسعود، وابن عباس، ومن التابعين عكرمة، ومكحول، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ورواه أبو ثور عن الشافعي في القديم. وحكاه الزعفراني على أن الشافعي في القديم كان يجعله موقوفا على صحة حديث عمار، ومنصوصه في القديم خلاف هذا.
الثالث: أن الفرض المسح إلى المناكب، وهو مروي عن الزهري.
ولأن الله تعالى أوجب طهارة الأعضاء الأربعة في الوضوء في أول الآية، ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية، فبقي العضوان في التيمم على ما ذكر في الوضوء، إذ لو اختلفا حدا في التيمم لبينه.
ينظر: «التيمم» لشيخنا جاد الرب.
243

[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ...
الآية: أَلَمْ تَرَ: مِنْ رؤية القَلْب، وهي عِلْمٌ بالشيء، والمراد ب «الّذين» : اليهود قاله قتادة وغيره «١»، ثم اللفظ يتناوَلُ معهم النصارى، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بنِ التَّابُوتِ اليهوديِّ «٢»، والكتابُ: التوراةُ والإنجيلُ، ويَشْتَرُونَ: عبارةٌ عن إيثارهم الكفْرَ، وتركِهِمُ الإيمانَ، وقالتْ فرقة: أراد الَّذِينَ كانوا يُعْطُون أموالهم للأحبارِ على إقامةِ شَرْعِهِمْ، فهو شراءٌ حقيقةً، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ معناه: أنْ تَكْفُروا.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ خبرٌ في ضمنه التحذيرُ منهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا، أيْ: اكتفوا باللَّه وليًّا.
وقوله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا، قال بعضُ المتأوِّلين: «مِنْ» راجعةٌ على «الَّذِينَ» الأولى، وقالتْ فرقة: «مِنْ» متعلِّقة ب «نَصِيراً»، والمعنى: ينصُرُكم من الذين هَادُوا، فعلى هذين التأويلَيْن لا يُوقَفُ في قوله: «نَصِيراً»، وقالتْ فرقة: هي ابتداء كلامٍ، وفيه إضمارٌ، تقديره: قَوْمٌ يحرِّفون، وهذا مذهبُ أبي عَلِيٍّ، وعلى هذا التأويلِ يُوقَفُ في «نَصِيراً»، وقول سيبَوَيْهِ أصْوَبُ/ لأنَّ إضمار الموصولِ ثقيلٌ، وإضمار الموصوفِ أسهلُ، وتحريفهم للكلامِ على وجْهَيْنِ، إما بتغييرِ اللفظِ، وقد فَعَلُوا ذلك في الأقَلِّ، وإمَّا بتغيير التَّأْويلِ، وقد فَعَلُوا ذلك في الأكْثَرِ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ «٣»، وهذا كلُّه في التوراة على قولِ الجُمْهورِ، وقالتْ طائفة: هو كَلِمُ القرآن، وقال مكّيّ: هو كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالتَّحْرِيفُ على هذا في التأويلِ.
وقوله تعالى عنهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا عبارةٌ عَنْ عُتُوِّهم في كفرهم وطغيانهم فيه، وغَيْرَ مُسْمَعٍ: يتخرّج فيه معنيان:
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١١٩) برقم (٩٦٩٢)، وذكره ابن عطية (٢/ ٦١).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١١٩) برقم (٩٦٩٤)، وذكره البغوي (١/ ٤٣٧)، وابن عطية (٢/ ٦١)، والسيوطي (٢/ ٣٠٠)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل».
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ١٢٠).
أحدُهُما: غير مأمور وغير صاغر كأنهم قالوا: غَيْرَ أَنْ تُسَمَّعَ مأموراً بذلك.
والآخر: على جهة الدعاءِ، أي: لاَ سَمِعْتَ كما تَقُولُ: امض غَيْرَ مُصِيبٍ، ونحو ذلك، فكانَتِ اليهودُ إذا خاطبت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ب غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَرادَتْ في الباطِنِ الدعاءَ علَيْه، وأَرَتْ ظاهراً أنها تريدُ تعظيمَهُ، قال ابنُ عبَّاس وغيره نحوه «١»، وكذلكَ كَانُوا يُرِيدُونَ منه في أَنْفُسِهِمْ معنَى الرُّعُونَة، وحكى مَكِّيٌّ معنى رِعَايَةِ الماشِيَةِ، ويُظْهِرُونَ منه مَعْنَى المُرَاعَاةِ، فهذا معنى لَيِّ اللسانِ، وقال الحسنُ ومُجَاهد: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أي: غير مقبول منك «٢»، ولَيًّا: أصله «لويا»، وطَعْناً فِي الدِّينِ: أيْ: توهيناً له وإظهاراً للإستخفافِ به.
قال ع: وهذا اللَّيُّ باللسانِ إلى خلافِ مَا في القَلْبِ موجُودٌ حتَّى الآن فِي بَنِي إسرائيل، ويُحْفِظُ منه في عَصْرنا أمثلة إلاَّ أنه لا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بهذا الكتَابِ.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ... الآية: المعنى: ولو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، وأَقْوَمَ: معناه: أعدل وأصوب، وقَلِيلًا: نعْتٌ إما لإِيمانٍ، وإما لِنَفَرٍ، أوْ قَوْمٍ، والمعنى مختلف.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ...
الآية: هذا خطابٌ لليهودِ والنصارى، ولِما مَعَكُمْ: مِنْ شَرْعٍ ومِلَّةٍ، لا لما معهم من مُبَدَّلٍ، ومُغَيَّرٍ، والطامس: الداثر المغيَّر الأعلامِ، قالتْ طائفة: طَمْسُ الوجوهِ هنا هو خُلُوُّ الحَوَاسِّ منها، وزوالُ الخِلْقَةِ، وقال ابنُ عَبَّاس وغيره: طَمْسُ الوجُوه: أن تزال العينان
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٢١) برقم (٩٧٠٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ٦٢)، وابن كثير (١/ ٥٠٧)، والسيوطي (٢/ ٣٠٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عباس. [.....]
(٢) ذكره الطبري (٤/ ١٢٢) برقم (٩٧٠٤، ٩٧٠٥) عن مجاهد، وبرقم (٩٧٠٦) عن الحسن، وابن عطية (٢/ ٦٢)، وابن كثير (١/ ٥٠٧)، والسيوطي (٢/ ٣٠٠) عن مجاهد وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
245
خاصَّة منها، وتُرَدّ العينان في القفا، فيكون ذلك رَدًّا على الأدْبَارِ، ويَمْشِي القهقرى «١»، وقال مالكٌ (رحمه اللَّه) : كان أول إسلام كَعْبِ الأَحْبَارِ أنَّه مَرَّ برَجُلٍ من الليل، وهو يقرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا... الآية، فوضَعَ كَفَّيْهِ على وَجْهه، وَرَجَعَ القهقرى إلى بيته، فأسْلَمَ مكَانَهُ، وقال: «واللَّهِ، لَقَدْ خِفْتُ أَلاَّ أَبْلُغَ بَيْتِي، حتى يُطْمَسَ وجهي» «٢»، وأصْحَابُ السَّبْتِ: هم الذين اعتدوا في السَّبْت في الصَّيْد حَسْبَمَا تقدَّم، قال قتادةُ وغيره: وأمر الله في هذه الآية واحدُ الأمور دالٌّ على جِنْسها لا واحدُ الأوامر، فهي عبارةٌ عن المخْلُوقَاتِ كالعَذَابِ، واللَّعْنَة هنا، أو ما اقتضاه كُلُّ موضِعٍ ممَّا يختصُّ به «٣».
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ...
الآية: هذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ ببَيَانِ ما تَعَارَضَ مِنْ آيات الوعْدِ والوعيدِ، وتلخيصُ الكلامِ فيها أنْ يُقَالَ: النَّاسُ أربعةُ أصْنَافٍ: كَافِرٌ مات على كُفْره، فهذا مُخَلَّد في النَّار بإجمَاع، ومُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قطُّ، وماتَ على ذلك، فهذا في الجنة مَحْتُومٌ علَيْه حَسَبَ الخَبَرِ من اللَّه تعالى، بإجماع، وتَائِبٌ مَاتَ على توبتِهِ، فهو عنْدَ أَهْلِ السُّنَّة وجمهورِ فُقَهَاء الأُمَّة لاَحِقٌ بالمُؤْمِنِ المُحْسِنِ، إلاَّ أنَّ قانُونَ المتكلِّمين أنَّه في المَشيئَةِ، ومُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، فهذا هو موضعُ الخلاَفِ، فقالَت المُرْجِئَةُ: هو في الجنَّة بإيمانه، ولا تَضُرُّه سيئاته، وجعلوا آيات الوعيدِ كلَّها في الكُفَّار، وآياتِ الوَعْد عامَّةً في المؤْمنين تَقِيِّهِمْ وعَاصِيهِمْ، وقالتِ المعتزِلةُ: إذا كان صاحبَ كبيرةٍ، فهو في النَّار، ولا بُدَّ، وقالتِ الخوارجُ «٤» : إذا كان صاحِبَ كَبيرة، أو صغيرةٍ، فهو في النَّار مخلَّد، ولا إيمان له لأنهم يَرَوْنَ كل الذنُوبِ كبائرَ، وجعلوا آيات الوَعْدِ كلَّها في المؤمِنِ الذي لم يَعْصِ قَطُّ، والمؤمِنِ التائِبِ، وقال أهْلُ السُّنَّة: هو في المشيئة، وهذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ، وهي النصُّ في مَوْضِعِ النِّزاعِ، وذلك
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٢٤) برقم (٩٧١٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٦٣)، والسيوطي (٢/ ٣٠١)، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٢٧) برقم (٩٧٣٠)، وذكره البغوي (١/ ٤٣٩)، وابن عطية (٢/ ٦٣)، وابن كثير (١/ ٥٠٨)، والسيوطي (٢/ ٣٠١) وعزاه لابن جرير عن عيسى بن المغيرة.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٦٣- ٦٤).
(٤) الفرقة الثالثة: الخوارج وهم سبع فرق: المحكمية بضم الميم وكسر الكاف المشدّدة، والنهيشية، والأزارمة، والنجدات، والأصفرية بالفاء. والأباضية، وافترق الأباضية فرقا أربعا: الحفصية، اليزيدية، الحارثية، والقائلون بأنّ إتيان المأمور به طاعة وإن لم يقصد به وجه الله. والسابعة من الخوارج العجاردة وهم عشر فرق: الميمونية الحمزية، الشعيبية، الحازمية، الحليفية، الأطرافية، المعلومية، المجهولية، الصلنية، الشعالية. وتفرق الشعالية فرقا أربعا: الأخنسية، المعبدية، الشيبانية، المكرمية.
ينظر: «نشر الطوالع» (٣٨٩- ٣٩٠).
246
أنَّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فصْلٌ مجمعٌ عليه، وقوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ فَصْلٌ قاطع للمعتزلة، رادٌّ على قولهم ردًّا لا محيدَ لهم عنه، ولو وقَفْنَا في هذا الموضع مِنَ الكلامِ، لَصَحَّ قولُ «١» المرجئَةِ، فجاء قوله: لِمَنْ يَشاءُ، ردًّا عليهم مبيناً أنَّ غفران مَا دُونَ الشِّرْك إنما هو لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ بخلاف ما زَعَمُوه مِنْ أنه مغفورٌ لكلِّ مؤمنٍ، ولما حتم سبحانه على أنه لا يغفرُ الشِّرك، ذكر قُبْحَ موقعه، وقَدْرِهِ في الذُّنُوبِ، والفِرْيَةُ:
أشدُّ مراتبِ الكَذِبِ قُبْحاً، وهو الإختلاقُ.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ... الآية:
لا خِلاَفَ بين المتأوِّلين أنَّ المراد بالآية اليهودُ، وإنما اختلفوا في المعنَى الَّذي به زَكَّوْا أنفسهم.
فقال الحسن، وقتادة: ذلك قولُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨]، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: ١١١] إلى غير ذلك من غُرُورِهِم «٢».
قال ع «٣» : فتقتضي هذه الآيةُ الغَضَّ مِنَ المُزَكِّي لنفسه بلِسَانِهِ، والإعلامَ بأنَّ الزَّاكِيَ المزكى مَنْ حَسُنَتْ أفعاله، وزَكَّاه اللَّه عزَّ وجلَّ، قال ابْنُ عَبَّاس وغيره: الفَتِيلُ:
الخَيْطُ الذي في شَقِّ نواة التَّمْرة «٤»، وذلك راجعٌ إلى الكناية عن تَحْقير الشَّيْء وتصغيرِهِ، وأنَّ اللَّه لا يظلمه، ولاَ شَيْءَ دونه في الصِّغَر، فكيف بما فَوْقَهُ.
وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ... الآية: يبيِّن أنَّ تزكيتهم
(١) المرجئة: اسم فرقة من كبار الفرق الإسلامية لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية، أي: يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، من أرجأه أي: أخره، ومنه أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الأعراف: ١١١] أي: أمهله وأخره أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، فهم يعطون الرجاء، وعلى هذا ينبغي أن لا يهمز لفظ المرجئة وفرقهم خمس: اليونسية، والعبيدية، والغسّانية، والثوبانية، والثومنية، كذا في شرح المواقف، وتحقيق كل في موضعه.
ينظر: «كشاف اصطلاحات الفنون» (٣/ ٣).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٢٩) برقم (٩٧٣٨- ٩٧٣٩)، وذكره البغوي (١/ ٤٤٠)، وابن عطية (٢/ ٦٥)، وابن كثير (١/ ٥١١)، والسيوطي (٢/ ٣٠٤) عن الحسن، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٦٥).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٣٢) برقم (٩٧٥٧)، وذكره ابن عطية (٢/ ٦٦)، وابن كثير (١/ ٥١٢)، والسيوطي (٢/ ٣٠٥) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
247
أنفسَهُمْ كانَتْ بالباطلِ، والكَذِبِ ويُقَوِّي أنَّ التزكية كانَتْ بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أنَّ الافتراء أعظم في هذه المقالة، وكَيْفَ يَصِحُّ أنْ تكونَ في موضِع رَفْعٍ بالاِبتداءِ، والخبر في قوله يَفْتَرُونَ وكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً خبرٌ في ضِمْنه تعجُّب وتعجيبٌ مِنْ أمْرهم.
قال ص: وَكَفى بِهِ عائدٌ على الاِفتراءِ، وقيل: على الكذب. انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ... الآية: أجْمَعَ المتأوِّلون أنَّ المراد بها طائفةٌ من اليهود، والقَصَصُ يبيِّن ذلك، ومجموعُ ما ذكره المفسّرون في تفسيره الجِبْتِ والطَّاغُوتِ يقتضي أنَّهُ كُلُّ مَا عُبِدَ وأُطِيعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا... الآية: سببها أنَّ قريشاً قالَتْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، حين وَرَدَ مكَّة: أنْتَ سَيِّدُنَا، وَسيِّدُ قَوْمِكَ، إنَّا قومٌ نَنْحَرُ الكَوْمَاءَ «١»، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَسْقِي الحَجِيجَ، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وهَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ قَطَعَ الرَّحِمَ، فَمَنْ أهدى نَحْنُ أوْ هُوَ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: أَنْتُمْ أهدى مِنْهُ، وَأَقْوَمُ دِيناً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ «٢»، فالضمير في «يَقُولُونَ» / عائد على كعْبٍ، وعلى الجماعةِ الَّتي معه من اليهودِ المُحَرِّضين على قتال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم و «الّذين كَفَرُوا» في هذه الآيةِ هم كفَّار قريشٍ، والإشارة ب «هؤلاء» إليهم والَّذِين آمنوا هم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته، وقالتْ فرقة:
بل المرادُ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ وأتباعه، وهم المقصودُ من أول الآيات.
قال ص: «لِلَّذِينَ» : اللامُ للتبليغِ متعلِّقة ب «يقولون». انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
(١) ناقة كوماء: عظيمة السّنام طويلته. ينظر: «لسان العرب» (٣٩٥٨).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٣٦- ١٣٧) برقم (٩٧٩١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٦٦- ٦٧)، وابن كثير (١/ ٥١٣).
248
وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ... الآية: عُرْفُ «أَمْ» أنْ تُعْطَفَ بعد استفهامٍ متقدِّم كقولك: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو؟ فَإذا وردَتْ، ولم يتقدَّمها استفهامٌ كما هي هنا، فمذهب سيبَوَيْهِ أنَّها مضمَّنةٌ معنى الإضراب عن الكلامِ الأوَّلِ، والقَطْع منه، وهي متضمِّنة مع ذلك مَعْنَى الاِستفهام، فهي بمعنى «بَلْ» مع همزةِ استفهامٍ كقول العربِ: «إنها لإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ»، التقدير عند سيبويه: إنَّهَا لإِبِلٌ بَلْ أَهِيَ شَاءٌ؟ وَكَذَلك هذا الموضعُ: بَلْ أَلهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ، فإذا عرفْتَ هذا، فالمعنى على الأرجَحِ الذي هو مذْهَبُ سيبَوَيْهِ والحُذَّاقِ: أنَّ هذا استفهامٌ على معنى الإِنكار، أي: ألهم مُلْكٌ فإذن لَوْ كان، لَبَخِلُوا به، والنَّقِيرُ: هي النُّكْتَةُ التي في ظَهْر النَّوَاة من التَّمْر هذا قول الجمهور، وهَذَا كنايةٌ عن الغايَةِ في الحَقَارة والقِلَّة، وتُكْتَبُ «إذَنْ» بالنُّون وبالألِفِ، فالنُّونُ هو الأصْلُ ك «عَنْ»، وَ «مِنْ»، وجاز كتبها بالألِفِ لصحَّة الوقوفِ عليها، فأشبهَتْ نونَ التَّنْوينِ، ولا يصحُّ الوقوف على عَنْ ومِنْ.
وقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ... الآية: «أمْ» هذه على بابها من العطْفِ بعد الاِستفهام.
وقال ص: أَمْ يَحْسُدُونَ: «أَمْ» أيضاً منقطعةٌ تتقدَّر ب «بَلْ» و «الهمزة».
انتهى. قلت: والظاهر ما قاله ع «١» واختلف في المراد ب «الناس» هنا.
فقال ابن عبّاس وغيره: هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والفَضْلُ: النبوَّة فقط «٢»، والمعنى: فَلِمَ يخصُّونه بالحَسَد، ولا يَحْسُدُونَ آل إبراهيم في جميعِ مَا آتيناهم مِنْ هذا وغيره مِنَ المُلْك، وقال قتادة: «النَّاسُ» هنا: العَرَبُ، حَسَدَتْها بَنُو إسرائيل في أن كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منْها، والفَضْلُ على هذا التأويل هو محمَّد صلّى الله عليه وسلّم «٣»، قَالَ أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ: وقد ذَمَّ اللَّه قوماً على حَسَدهم، فقال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، ثم حدَّث بسنده، عن عمرو بن مَيْمُونٍ، قَالَ: لما رَفَع اللَّه موسى نَجِيًّا، رأى رجُلاً متعلِّقاً بالعَرْش، فقال: يا رَبِّ، مَنْ هَذَا، فقالَ: هذا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي، صَالِحٌ، إن شئت أخبرتك بعمله،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٦٨).
(٢) ذكره البغوي (١/ ٤٤٢)، وابن عطية (٢/ ٦٨).
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ١٤١) برقم (٩٨٢٥)، وذكره البغوي (١/ ٤٤٢)، وابن عطية (٢/ ٦٨)، والسيوطي (٢/ ٣٠٩) وعزاه لابن جرير. [.....]
249
فقال: يا رَبِّ، أخبِرْنِي، فقال: كَانَ لاَ يَحْسُدُ النَّاسَ على ما آتاهم اللَّه مِنْ فَضْله، ثم حدَّث أبو عمر بسنده، عن أنس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ» «١» وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن إسماعيل بْنِ أُمَّيَةَ «٢»، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «ثَلاَثٌ لاَ يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ، والظَّنُّ، وَالحَسَد! قِيلَ: فَمَا المَخْرَجُ مِنْهُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا تَطَيَّرْتَ فَلاَ تَرْجِعْ، وَإذَا ظَنَنْتَ فَلاَ تُحَقِّقْ، وَإذَا حَسَدتَّ فَلاَ تَبْغِ» «٣» انتهى من «التمهيد».
وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ اختلف في الضمير مِنْ «به».
فقال الجمهور: هو عائدٌ علَى القرآن الذي في قوله تعالى: آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: ٤٧] فأعلم اللَّه سبحانه أنَّ منهم مَنْ آمَنَ كما أُمِرَ فلذلك/ ارتفَعَ الوعيدُ بالطَّمْسِ، ولم يَقَعْ، وصَدَّ قومٌ ثبَتَ الوعيدُ عليهم في الآخرة بقوله سبحانه: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.
وقيل: هو عائدٌ على إبراهيم- عليه السلام-.
وقيل: هو عائدٌ على الفَضْلِ الذي آتاه اللَّه النبيَّ- عليه السلام-، والعربَ على ما تقدَّم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
(١) أخرجه ابن ماجة (٢/ ١٤٠٨) كتاب «الزهد»، باب الحسد، حديث (٤٢١٠)، وأبو يعلى (٦/ ٣٣٠) رقم (٣٦٥٦) من طريق عيسى بن ميسرة عن أبي الزناد عن أنس به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٢٩٨) : هذا إسناد فيه عيسى بن أبي عيسى، وهو ضعيف.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود (٢/ ٦٩٣)، كتاب «الأدب»، باب في الحسد، حديث (٤٩٠٣) عنه بلفظ: «إياكم والحسد، فإن الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ».
(٢) إسماعيل بن أميّة بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي: أحد العلماء والأشراف عن أبيه، وأيوب بن خالد، وسعيد المقبري، وعنه معمر، والسّفيانان، وروح بن القاسم. قال ابن المديني: له نحو سبعين حديثا، وثقه أبو حاتم، قال ابن معين: مات سنة أربع وأربعين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٨٤) (٤٨٠).
(٣) ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (٦/ ١٢٥).
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً... الآية: لما تقدَّم في الآية وصْفُ المَرَدَةِ مِنْ بني إسرائيل وذِكْرُ أفعالهم وذُنُوبِهِمْ، جاءَتْ هذه الآيةُ بالوَعيدِ النَّصِّ لهم بلفظٍ جَلِيٍّ عَامٍّ لهم ولغيرهم مِمَّنْ فَعَلَ فِعْلَهم من الكفرة، واختلف في معنى تَبْدِيل الجُلُودِ.
فقالت فرقةٌ: تُبَدَّلُ عليهم جُلُودٌ أغْيَارٌ إذْ نفوسُهم هي المعذَّبة، والجلودُ لا تَأْلَمُ في ذَاتِها، وقالتْ فرقة: تبديلُ الجُلُودِ هو إعادَةُ ذلك الجِلْدِ بعينِهِ الذي كان في الدُّنيا، وإنما سَمَّاه تبديلاً لأنَّ أوصافه تتغيَّر، قال الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَن: تُبَدَّلُ علَيْهم في اليومِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ (عافَانا اللَّه مِنْ عذابِهِ برَحْمَتِهِ) «١».
ولما ذكر سبحانه وعيدَ الكُفَّار، عَقَّبَ بوَعْد المُؤْمنين بالجَنَّة على الإيمان والأعمال الصّالحة، وظَلِيلًا: معناه عند بعضهم: يَقِي الحَرَّ والبَرْدَ، ويصحُّ أنْ يريدَ أنه ظِلٌّ لا يستحيلُ ولا يتنقَّلُ، وصح وصفه بظَلِيلٍ لامتداده، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادُ المُضَمَّرُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا» «٢»، وَرَأَيْتُ لِبَعْضِهِمْ مَا نَصُّهُ وذكر الطبريُّ في كتابه، قال: لما خَلَق اللَّهُ عزَّ وجلَّ الجنَّةَ، قالَ لَهَا: امتدي، فقَالَتْ: يا ربِّ، كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها: امتدي، فقالت: يا رب: كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها:
امتدي، فقالت: يا رب: كم، وإلى كَمْ؟ فَقَالَ لَهَا: امتدي مِقْدَار رَحْمَتِي، فامتدت، فَهِيَ تَمْتَدُّ أَبَدَ الآبِدِينَ، فَلَيْسَ لِلجَنَّةِ طَرَفٌ كَمَا أنَّهُ لَيْسَ لِرَحْمَةِ اللَّهِ طَرَفٌ. انتهى، فهذا لا يُعْلَمُ إلا من جهة السَّمْع، فهو ممَّا اطلع عليه الطبريُّ، وهو إمامٌ حافظٌ محدِّثٌ ثقةٌ قاله الخطيبُ أحمدُ بن عليّ بن ثابت.
[سورة النساء (٤) : آية ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها... الآية: قال ابن
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٤٥) برقم (٩٨٤٢)، وذكره البغوي (١/ ٤٤٣)، وابن عطية (٢/ ٦٩)، وابن كثير (١/ ٥١٤)، والسيوطي (٢/ ٣١١)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٣٦٨)، كتاب «بدء الخلق»، باب ما جاء في صفة الجنة، حديث (٣٢٥١)، ومسلم (٤/ ٢١٧٥)، كتاب «الجنة»، باب أن في الجنة شجرة، حديث (٨/ ٢٨٢٧).
251
جريج وغيره «١» : الآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر مِفْتَاحِ الكَعْبَةِ حين أخذه من عُثْمَانَ بْنِ طَلْحة «٢»، ومن ابن عَمِّه شَيْبَة، فطلبه العَبَّاس بْنُ عَبْدِ المطَّلب «٣» لِيُضِيفَ السَّدَانَةَ إلى السّقاية، فدخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكعبةَ، وكَسَرَ ما كَانَ فيها من الأوثانِ، وأخْرَجَ مَقَامَ إبراهيمَ، وَنَزَلَ عليه جِبْرِيلُ بهذه الآية، قال عمر بنُ الخَطَّاب: فخرج النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأُ هذه الآيةَ، وما كُنْتُ سَمْعْتُهَا قَبْلُ مِنْهُ، فَدَعَا عُثْمَانَ وشَيْبَةَ، فَقَالَ لَهُمَا: خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلاَّ ظَالِمٌ «٤»، ثم الآيةُ بَعْدُ تتناوَلُ الوُلاَةَ فِيمَا لَدَيْهم مِنَ الأماناتِ في قِسْمة الأموال، وَردِّ الظُّلاَمَاتِ، وعَدْلِ الحكوماتِ، وتتناول مَنْ دونهم مِنَ النّاس في حفظ
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٤٨) برقم (٩٨٥١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٠)، والسيوطي (٢/ ٣١٢)، وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.
(٢) عثمان بن طلحة بن أبي طلحة: (عبد الله) بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة، القرشي، العبدري، حاجب البيت، قال ابن الأثير: قتل أبوه طلحة، وعمه عثمان بن أبي طلحة جميعا يوم أحد كافرين، قتل حمزة عثمان، وقتل علي طلحة مبارزة، وقتل يوم أحد منهم أيضا: مسافع، والجلاس، والحارث، وكلاب بنو طلحة كلهم إخوة عثمان بن طلحة قتلوا كفارا..
وهاجر عثمان بن طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية، مع خالد بن الوليد، فلقيا عمرو بن العاص قد أتى من عند النجاشي يريد الهجرة، فاصطحبوه حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآهم: «ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها»، وأقام مع النبي بالمدينة، وشهد معه فتح مكة، ودفع إليه مفتاح الكعبة يوم الفتح، وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان وقال: «خذوها خالدة تالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم» توفّي بمكة سنة (٤٢)، وقيل: استشهد ب «أجنادين». ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٥٧٨)، «الإصابة» (٤/ ٢٢٠)، «الثقات» (٣/ ٢٦٠)، «الاستيعاب» (٣- ٤/ ١٠٣٤)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٧٣)، «سير أعلام النبلاء» (٣/ ١٠)، «التاريخ الكبير» (٦/ ٢١١).
(٣) العبّاس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ، عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أبو الفضل.
ولد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أوّل من كساه ذلك، وكان إليه في الجاهليّة السّقاية والعمارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها فأسر فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكّة، فيقال: إنه أسلم، وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وثبت يوم حنين وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من آذى العبّاس فقد آذاني فإنّما عمّ الرّجل صنو أبيه»، أخرجه الترمذيّ في قصّة.
وقد حدّث عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث، روى عنه أولاده، وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم. ومات بالمدينة في رجب أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وكان طويلا جميلا أبيض.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (٣/ ٥١١، ٥١٢) برقم (٤٥٢٥).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٤٨) برقم (٩٨٥١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٠)، وابن كثير (١/ ٥١٦)، والسيوطي (٢/ ٣١٢)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج.
252
الودائِعِ، والتحرُّز في الشهاداتِ، وغيرِ ذلك كالرجُلِ يُحَكَّمُ في نازلةٍ مَّا ونحوه، والصَّلاةُ والزكاةُ والصِّيامُ وسائرُ العباداتِ أماناتٌ للَّه تعالى، قال ابنُ العَرَبَيِّ/ في «أحكامه» : هذه الآيةُ في أداء الأمَانَةِ، والحكْم بين الناس- عامَّة في الوُلاَة والخَلْق لأنَّ كُلَّ مسلمٍ عَالِمٌ، بل كلّ مسلم حاكم، ووال، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «المُقْسِطُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي أنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» «١» وقال صلّى الله عليه وسلّم: «كلّكم راع وكلّكم مسئول عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وهو مسئول عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالٍ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مسئول عنه، وكلّكم راع، وكلّكم مسئول عَنْ رَعِيَّتِهِ» «٢»، فهذه الأحاديثُ الصحيحةُ تدلُّ على ما قلناه. انتهى.
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٤٥٨) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل (١٨/ ١٨٢٧)، والنسائي (٨/ ٢٢١- ٢٢٢) في آداب القضاة: باب فضل الحاكم العادل في حكمه، وأحمد (٢/ ١٦٠)، والحميدي (٢/ ٢٦٨- ٢٦٩) برقم (٥٨٨)، وابن حبان (١٥٣٨) موارد، والبيهقي (١٠/ ٨٧- ٨٨)، والخطيب في «التاريخ» (٥/ ٣٦٧)، وابن أبي شيبة (١٣/ ١٢٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٣١٢) برقم (٢٤٦٤) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مرفوعا.
وعند مسلم، والنسائي، وابن حبان، والخطيب، والبغوي: «سفيان بن عيينة».
وأخرجه عبد الرزاق (١١/ ٣٢٥) برقم (٢٠٦٦٤)، وأحمد (٢/ ١٥٩، ٢٠٣)، والحاكم (٤/ ٨٨- ٨٩) من طريق معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجاه جميعا، وسكت عنه الذهبي.
قلت: لم يخرجه سوى مسلم كما تقدم في التخريج.
(٢) أخرجه البخاري (٥/ ٨٤) كتاب «الاستقراض»، باب العبد راع في مال سيده، حديث (٢٤٠٩)، (٥/ ٢١١) كتاب «العتق»، باب كراهية التطاول على الرقيق، حديث (٢٥٥٤)، (٥/ ٢١٥) كتاب «العتق»، باب العبد راع في مال سيده، حديث (٢٥٥٨)، (٥/ ٤٤٤) كتاب «الوصايا»، باب تأويل قوله تعالى:
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ، حديث (٢٧٥١)، (٩/ ١٦٣) كتاب «النكاح»، باب قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، حديث (٥١٨٨)، (٩/ ٢١٠) كتاب «النكاح»، باب المرأة راعية في بيت زوجها، حديث (٥٢٠٠)، (١٣/ ١١٩) كتاب «الأحكام»، باب قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ... ، حديث (٧١٣٨)، ومسلم (٣/ ١٤٥٩) كتاب «الإمارة»، باب فضيلة الإمام، حديث (٢٠/ ١٨٢٩)، وأبو داود (٢/ ١٤٥) كتاب «الخراج»، باب ما يلزم الإمام من حق الرعية، حديث (٢٩٢٨)، والترمذي (١٧٠٥)، وأحمد (٢/ ٥، ٥٤- ٥٥، ١١١، ١٢١)، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (١٠٩٤)، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص ١٠، ١١) رقم (٣، ٤)، وعبد الرزاق (١١/ ٣١٩) برقم (٢٠٦٥٠)، وأبو يعلى (١٠/ ١٩٩) برقم (٥٨٣١)، وابن حبان (٤٤٧٢، ٤٤٧٤)، والبيهقي (٧١/ ٢٩١)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٣١١- بتحقيقنا)، والقضاعي في «مسند الشهاب» برقم (٢٠٩) كلهم من حديث ابن عمر.
وللحديث شواهد من حديث أنس، وعائشة، وأبي لبابة بن عبد المنذر. حديث أنس: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسؤول عن رعيته، والرجل راع-
253
ونِعِمَّا: أصله: «نَعْمَ مَا» سُكِّنت الميمُ الأولى، وأدغمتْ في الثانية، وحُرِّكَتِ العينُ لإلتقاء الساكنَيْنِ، وخُصَّتْ بالكَسْر إتباعاً للنُّون، و «ما» المردوفةُ على «نِعْمَ» إنما هي مهيِّئة لاِتصالِ الفعْلِ بها، ومع أنها موطّئة، فهي بمعنى «الذي».
[سورة النساء (٤) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ... الآية: لَمَّا تُقُدِّمَ إلى الولاةِ في الآية المتقدِّمة، تُقُدِّمَ في هذه إلى الرعيَّة، فأَمَرَ بطاعتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعةِ رسولِهِ، وطاعَةِ الأمراءِ على قول الجمهور، وهو قولُ ابْنِ عبَّاس وغيره «١»، فالأَمْرُ على هذا التأويلِ هو ضدُّ النَّهْيِ ومنْهُ لفظة «الأَمِيرِ»، وقال جابرٌ وجماعةٌ: «أُولُو الأَمْرِ» : أهل القرآن والعِلْمِ.
قال عطاءٌ: طاعةُ الرَّسُولِ هي اتباع سُنَّته، يعني: بعد موته «٢»، ولفظ ابْنِ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «٣» قال: قوله تعالى: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فيها قولان:
- على أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية لزوجها ومسؤولة عن بيتها وولدها، والمملوك راع على مولاه ومسؤول عن ماله، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته... »
ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥/ ٢١٠)، وقال: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط»، وأحد إسنادي «الأوسط» رجاله رجال الصحيح.
حديث عائشة: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥/ ٢١٠)، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه أرطأة بن الأشعث وهو ضعيف جدا.
وللحديث طريق آخر.
أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٥/ ٢٧٦) من طريق النضر بن شميل عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
حديث أبي لبابة بن عبد المنذر:
نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الحيات التي في البيوت، وقال: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهله ومسؤول عنهم، وامرأة الرجل راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول... ».
قال الهيثمي في «المجمع» (٥/ ٢١٠) : لأبي لبابة في الصحيح النهي عن قتل الحيات فقط، رواه الطبراني في «الأوسط» و «الكبير»، ورجال الكبير رجال الصحيح.
(١) ذكره ابن عطية (٢/ ٧٠).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٥٠) برقم (٩٨٥٧- ٩٨٥٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧١)، والسيوطي (٢/ ٣١٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٥١).
الأوَّل: قال ميمونُ بْنُ مِهْرَانَ: هم أصحاب السَّرَايَا، وروى في ذلك حديثاً، وهو اختيار البُخَاريِّ، وروي عن ابْنِ عباس أنَّها نزلَتْ في عبد اللَّه بْنِ حُذَافَة «١»، إذْ بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سرِيَّة «٢».
والثاني: هم العلماءُ، وبه قال أكثر التابِعِينَ، واختاره مالكٌ «٣» والطبريُّ.
والصحيحُ عِنْدِي: أنهم الأمراء والعلماء، أمَّا الأمراء فَلأنَّ الأمْرَ منهم، والحُكْمَ إلَيْهم، وأمَّا العلماء فَلأنَّ سؤالهم متعيِّن على الخَلْق، وجوابهم لازمٌ، وامتثال فَتْوَاهم واجبٌ، ويدخُلُ فيه تَأَمُّر الزَّوْج على الزَّوْجَةِ لأنَّه حاكِمٌ عليها. انتهى.
وقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ... الآية: معنى التنَازُعِ أنَّ كلَّ واحدٍ ينتزعُ حُجَّة الآخَرِ ويُذْهِبُهَا، والرَّدُّ إلى اللَّه هو النَّظَرُ في كتابِهِ العزيزِ، والرّدّ إلى الرسول هو سؤاله صلّى الله عليه وسلّم في حياتِهِ، والنَّظَرُ في سُنَّته بعد وفاته، هذا قولُ مجاهد وغيرِهِ «٤»، وهو الصحيحُ.
وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... الآية: فيه بعض وعيد، وتَأْوِيلًا:
معناه: مآلاً في قول جماعة، وقال قتادةُ وغيره: المعنى: أحْسَنُ عاقبةً «٥»، وقالتْ فرقة:
المعنى أن اللَّه ورسولَهُ أحْسَنُ نَظَراً وتأوُّلاً منكم، إذا انفردتم بتأوّلكم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
(١) عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي: أبو حذافة أو أبو حذيفة، وأمه تميمة بنت حرثان، من بني الحارث بن عبد مناة من السابقين الأولين.
يقال: شهد بدرا، ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا غيرهما من أصحاب المغازي. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر.
ينظر: «الإصابة» (٤/ ٥٠- ٥٣)، «أسد الغابة» ت (٢٨٩١)، «الاستيعاب» ت (١٥٢٦)، «الثقات» (٣/ ٢٦).
(٢) تقدم.
(٣) ينظر «تفسير الطبري» (٤/ ١٥٣).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٥٤) برقم (٩٨٨٤- ٩٨٨٥- ٩٨٨٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧١)، وابن كثير (١/ ٥١٨)، والسيوطي (٢/ ٣١٨)، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٥) أخرجه الطبري (٤/ ١٥٥) برقم (٩٨٩٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧١)، والسيوطي (٢/ ٣١٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن قتادة.
255
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ... الآية: تقولُ العربُ: زَعَمَ فُلاَنٌ كَذَا في الأَمْرِ الذي يَضْعُفُ فيه التحقيقُ، وغايةُ دَرَجَةِ الزَّعْم إذا قَوِيَ:
أنْ يكون مظْنُوناً، وإذا قال سِيبَوَيْه: زَعَمَ الخَلِيلُ، فإنما يستعملُها فيما انفرد الخَلِيلُ به وكَأَنَّ أقوى رُتَبِ «زَعَمَ» أنْ تبقى معها عُهْدة الخَبَر على المُخْبِرِ.
قال عامرٌ الشَّعبيُّ: / نزلَتِ الآيةُ في منافِقٍ اسمه بِشْرٌ، خاصَمَ رجلاً من اليهودِ، فدعاه اليهوديُّ إلى المُسْلِمِينَ لعلمه أنهم لاَ يَرْتَشُونَ، وكان المنافِقُ يدعو اليهودِيَّ إلى اليهودِ لعلمه أنَّهم يرتَشُونَ، فاتفقا بَعْدَ ذلك على أنْ أَتَيَا كَاهِناً كَانَ بالمدينةِ، فَرَضِيَاهُ، فنزَلَتْ هذه الآيةُ فيهما، وفي صِنْفَيْهِمَا «١»، فالذينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم آمَنوا بما أنزل على محمَّد- عليه السلام- هم المنافِقُونَ، والذين يَزْعُمُونَ أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ من قبله هم اليهودُ، وكلٌّ قد أُمِرَ في كتابه بالكُفْر بالطَّاغوت، والطَّاغُوتُ هُنَا الكَاهِنُ المذْكُور، فهذا تأنيبٌ للصِّنْفَيْنِ.
وقال ابنُ عبَّاس: الطَّاغُوتُ هنا هو كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ، وهو الذي تراضَيَا به «٢»، وقيل غير هذا.
وقوله: رَأَيْتَ، هي رؤْيَةُ عَيْنٍ لمن صَدَّ من المنافقين مجاهَرَةً وتصريحاً، وهي رؤيةُ قَلْبٍ لِمَنْ صَدَّ منهم مكْراً وتخابُثاً ومُسَارَقَةَ حتى لاَ يُعْلَمَ ذلك مِنْه إلا بالقرائِنِ الصَّادِرَةِ عنه.
وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، قالت فرقة: هي في المنافقينَ الَّذين احتكموا حَسْبَمَا تقدَّم، فالمعنى: فكَيْفَ بهم إذا عاقَبَهُمُ اللَّه بهذه الذُّنوب بنِقْمَةٍ منه، ثم حَلَفُوا، إنْ أردْنَا بالإحتكامِ إلى الطَّاغُوتِ إلاَّ توفيقَ الحُكْمِ وتقريبه.
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٥٥- ١٥٦) برقم (٩٨٩٦- ٩٨٩٨)، وذكره البغوي (١/ ٤٤٦)، وابن عطية (٢/ ٧٢)، والسيوطي (٢/ ٣١٩)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٥٧) برقم (٩٩٠٢)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٢)، والسيوطي (٢/ ٣٢٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي.
256
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ: تكذيبٌ لهم وتوعُّد، أي:
فهو سبحانَهُ مجازيهم، فأَعْرِضْ عنهم، وعظْهم بالتَّخْوِيفِ مِنْ عذابِ اللَّه وغيره من المَوَاعظ.
وقوله سبحانه: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ.
قال ص: أي: قل لهم خالياً بِهِمْ لأنَّ النُّصْح، إذا كان في السِّرِّ، كان أَنْجَحَ، أو: قُلْ لهم في حال أنفُسِهِمُ النَّجِسَةِ المنطويةِ على النِّفاق قولاً يَبْلُغُ منهم الزَّجْر عن العَوْد إلى ما فَعَلوا. انتهى.
واختلف في «القَوْلِ البَلِيغِ»، فقيل: هو الزجْرُ والردْعُ والكَفُّ بالبَلاَغَةِ من القَوْل، وقيل: هو التوعُّد بالقَتْل، إن استداموا حالة النِّفَاق قاله الحسن «١»، وهذا أبْلَغُ ما يكون في نُفُوسهم، والبَلاَغَةُ مأخوذةٌ من بلوغ المراد بالقول.
[سورة النساء (٤) : آية ٦٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ: تنبيهٌ على جلالة الرُّسُل، أي: فأنْتَ، يا محمَّد، منهم تَجِبُ طاعَتُكَ، وتتعيّن إجابة الدعوة إليك، وبِإِذْنِ اللَّهِ:
معناه: بأمر الله، وظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: أيْ: بالمعصيةِ، والنِّفَاق، وعن العتبيِّ، قال: كنت جالسا عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ تعالى يَقُولُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً، وقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَعْفِياً مِنْ ذُنُوبِي، مُسْتَغْفِراً إلى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: [البسيط]
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأََكَمُ
نَفْسي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ العَفَافُ، وَفِيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ
قال: ثُمَّ انصرف، فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي: «يَا عُتْبِيُّ:
الحق الأَعْرَابِيَّ، فَبَشِّرْهُ أنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ غَفَرَ لَهُ»
. انتهى من «حلية النوويِّ»، و «سُنَنِ الصَّالحين» للباجيِّ، وفيه: مُسْتَغْفِراً مِنْ ذُنُوبِي، مستشفعاً بك إلى ربّي.
(١) ذكره البغوي (١/ ٤٤٨)، وابن عطية (٢/ ٧٣).

[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]

فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ... الآية:
قال الطبريُّ «١» : قوله: «فَلاَ» : رَدٌّ على ما تقدَّم، تقديره: فلَيْسَ الأَمْرُ كما يَزْعُمُونَ/ أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ إلَيْكِ، ثم استأنف القَسَمَ، وقال غيره: إنما قَدَّم «لا» على القَسَم اهتماما بالنهْي، وإظهاراً لقوته، قال ابنُ عطاءِ اللَّه في «التنوير» : وفي قوله سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ: دلالةٌ على أنَّ الإيمان الحقيقيَّ لا يحصُلُ إلا لمن حَكَّمَ اللَّهَ ورسولَهُ على نَفْسه، قولاً وفعلاً، وأَخْذاً وتَرْكاً، وحُبًّا وبُغْضاً فتبيَّن لك من هذا أنه لا تَحْصُلُ لك حقيقةُ الإيمان بالله إلّا بأمرين: الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره سبحانه. انتهى.
وشَجَرَ: معناه اختلط والتف مِنْ أمورهم، وهو مِنَ الشَّجَرِ، شبه بالتفاف الأغصان، والحَرَجُ: الضِّيقُ والتكلُّف والمشقَّة، قال مجاهد: حَرَجاً: شَكًّا «٢».
وقوله: تَسْلِيماً. مصدرٌ مؤكِّدٌ مُنْبِىءٌ عن التحقيقِ في التَّسْليمِ لأنَّ العرب إنَّما تردفُ الفعْلَ بالمصَدرِ، إذا أرادَتْ أنَّ الفعْلَ وقَعَ حقيقةً كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٤] قال مجاهد وغيره: المرادُ بهذه الآية مَنْ تقدَّم ذكره ممَّن أراد التحاكُمَ إلى الطاغُوتِ، وفيهِمْ نَزَلَتْ «٣»، ورجَّح «٤» الطبريُّ هذا لأنه أشبه بنَسَقِ الآية، وقالَتْ طائفة: نزَلَتْ في رَجُلٍ خَاصَمَ الزُّبَيْر بْنَ العَوَّام في السَّقْيِ بماءِ «٥» الحَرَّةِ كما هو مذكورٌ في البخاريِّ وغيره، وأنَّ الزُّبَيْر قالَ: فَمَا أَحْسِبُ أنَّ هذه الآيةَ نزلت إلّا في ذلك.
وكَتَبْنا: معناه: فَرَضْنَا، أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: معناه: يَقْتُلُ بعضكم بعضا، وقد
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ١٦٠).
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٦١) برقم (٩٩١٣- ٩٩١٤)، وذكره البغوي (١/ ٤٤٩)، وابن عطية (٢/ ٧٤)، والسيوطي (٢/ ٣٤٣)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ١٦٢) برقم (٩٩٢٠)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٥).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ١٦٢).
(٥) حديث شراج الحرة، حديث مشهور تقدم تخريجه. [.....]
تقدَّم نظيره في «البقرة»، وسببُ الآية، على ما حُكيَ: أنَّ اليهود قالوا لَمَّا لم يرض المنافق بحكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَا رأَيْنَا أَسْخَفَ مِنْ هؤلاءِ يُؤْمنونَ بمحمَّد، ثم لا يرضَوْنَ بحُكْمه، ونحنُ قَدْ أمرنا بقَتْلٍ أَنْفُسِنا، ففَعَلْنا، وبَلَغَ القَتْلُ فينا سَبْعِينَ أَلْفاً، فقَالَ ثابتُ بْنُ قَيْسٍ: لَوْ كُتِبَ ذلك علَيْنا، لَفَعَلْنَاه، فنزلَتِ الآية مُعْلِمَةً بحالِ أولئكَ المُنَافِقِينَ، وأنه لو كُتِبَ ذلك علَى الأمَّة، لم يَفْعَلُوهُ، وما كان يَفْعَلُه إلا قليلٌ مؤمنُونَ محقِّقون كَثَابِتٍ، قُلْتُ: وفي «العتبية»، عن مالكٍ، عن أبي بَكْر (رضي اللَّه عنه) نحْوُ مقالَةِ ثابِتِ بْنِ قيسٍ، قال ابْنُ رُشْدٍ: ولا شَكَّ أنَّ أبا بَكْرٍ مِنَ القليلِ الذي استثنى اللَّهُ تعالى في الآية، فلا أحد أحقُّ بهذه الصِّفَة منه. انتهى.
قال ص: إِلَّا قَلِيلٌ: الجمهورُ بالرفْعِ، على البَدَلِ من واو «فَعَلُوهُ» عند البصريِّين «١». انتهى.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ: لو أنَّ هؤلاءِ المنافِقِينَ اتعظوا وأَنَابُوا، لكان خيرا لهم وتَثْبِيتاً، معناه: يقيناً وتصديقاً، ونحو هذا، أيْ: يثبِّتهم اللَّه.
ثُمَّ ذكر تعالى ما كانَ يَمُنِّ به علَيْهم من تفضُّله بالأجر، ووَصْفُهُ إياه بالعَظِيمِ مقتضٍ مَّا لا يُحْصِيه بَشَرٌ من النعيمِ المقيمِ، والصِّرَاطُ المستقيمُ: الإيمانُ المؤدِّي إلى الجنَّة، والمقصودُ تعديدُ ما كان يُنْعِمُ به عليهم سبحانه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
وقوله (جَلَّت عَظَمَتُهُ) : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... الآية: لما ذَكَر اللَّه سبحانه الأمر الذي لَوْ فَعَلُوه، لأَنعم علَيْهم، ذَكَر بعد ذلك ثَوَابَ مَنْ يفعله، وهذه الآيةُ تفسِّر قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وقالتْ طائفة: إنما نزلَتْ هذه الآية لَمَّا قال عبد الله بن زيد الأنصاريّ
(١) وقرأ ابن عامر وجماعة: «إلا قليلا» نصبا وفيه وجهان:
أشهرهما: أنه نصب على الاستثناء، وإن كان الاختيار الرفع لأن المعنى موجود معه كما هو موجود مع النصب، ويزيد عليه بموافقة اللفظ.
والثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: «إلا فعلا قليلا»، قاله الزمخشري، وفيه نظر إذ الظاهر: أنّ «منهم» صفة ل «قليلا»، ومتى حمل القليل على غير الأشخاص يقلق هذا التركيب إذ لا فائدة حينئذ في ذكر «منهم».
ينظر: «حجة القراءات» (٢٠٦، ٢٠٧)، «الدر المصون» (٢/ ٣٨٤).
- الذي أُرِيَ الأَذَانَ-: يا رَسُولَ اللَّهِ، إذا مِتَّ، وَمِتْنَا، كُنْتَ في عِلِّيِّينَ، فَلاَ نَرَاكَ، ولا نَجْتَمِعُ بِكَ، وذكَر حُزْنَهُ على ذلك، فنزلَتْ هذه الآية «١».
قال ع «٢» : ومعنى أنهم مَعَهُمْ: في دارٍ واحدةٍ، ومُتَنَعَّمٍ واحدٍ، وكلُّ مَنْ فيها قَدْ رُزِقَ الرِّضَا بحالِهِ، وذهب عنه أنْ يعتقد أنه/ مفضُولٌ، وإن كنا نَحْنُ قد عَلِمْنَا من الشريعةِ أنَّ أهل الجَنَّة تختلفُ مراتبهم على قَدْر أعمالهم، وعلى قَدْر فَضْل اللَّه على مَنْ يشاء، والصِّدِّيقُ: فِعِّيلٌ مِنَ الصِّدْقِ، وقيل: من الصَّدَقَةِ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الصِّدِّيقُونَ المُتَصَدِّقُونَ». ولفظ الشهداءِ في هذه الآية: يَعُمُّ أنواعَ الشهداءِ.
قال ص: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجُّب كأنَّه قال: وَمَا أَحْسَنَ أولئِكَ رفيقاً، وقد قدَّمنا في كلام ابْنِ الحَاجِّ ما يدلُّ على أنَّ التعجُّب لازمٌ ل «فَعُلَ» المستعْمَلِ للمدحِ والذمِّ، على كلِّ حالٍ، سواءٌ استعملت استعمال نِعْمَ أو لا. انتهى.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ: الإشارةُ ب «ذَلِكَ» إلى كون المُطِيعِينَ مع المنعم عليهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ... الآية: هذا خطابٌ للمُخْلِصِينَ من أمّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمْر لهم بجهادِ الكفَّارِ، والخُرُوجِ فِي سَبيلِ الله، وحماية الإسلام، وخُذُوا حِذْرَكُمْ: أي: احزموا واستعدّوا بأنواع الاستعداد، وانْفِرُوا:
معناه: اخرجوا، وثُباتٍ: معناه جماعاتٍ متفرِّقات، وهي السَّرَايَا، والثُّبَةُ: حُكِيَ أنها فوق العشرة، وجَمِيعاً: معناه: الجيش الكثير مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا قال ابنُ عبَّاس وغيره «٣».
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ إيجابٌ، والخطابُ لجماعةِ المؤمنين، والمراد ب «من» :
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٦٦) برقم (٩٩٢٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٦)، وابن كثير (١/ ٥٢٢)، والسيوطي (٢/ ٣٢٥)، وعزاه لابن جرير عن سعيد بن جبير.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٧٦).
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ١٦٨) برقم (٩٩٣٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٧)، وابن كثير (١/ ٥٢٤)، والسيوطي (٢/ ٣٢٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عن ابن عباس.
المنافقُونَ، وعبَّر عنهم ب مِنْكُمْ إذ في الظاهر في عِدَادِ المُؤْمنين، واللامُ الدَّاخلةُ على «مَنْ» : لامُ التأكيدِ، والداخلةُ على: «يُبَطِّئَنَّ» : لامُ القَسَم عند الجمهور، وتقديره: وإنَّ منكم لَمَنْ، وَاللَّهِ، لَيُبَطِّئَنَّ، ويِبَطِّئَنَّ: معناه: يبطِّىءُ غَيْرَهُ، أيْ: يثبِّطهُ،. ويحمِلُه على التخلُّف عن مغازِي رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، ومُصِيبَةٌ يعني: مِنْ قتالٍ، واستشهادٍ، وإنما هي مصيبةٌ بحَسَب اعتقاد المنافقين ونَظَرِهِمُ الفاسِدِ، وإنَّما الشهادةُ في الحقيقَةِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه سبحانه لحسن مآلها، وشَهِيداً: معناه: مُشَاهِداً.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، أي: ظَفِرْتم وغَنِمْتم، نَدِمَ المنافقُ، وقال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً متمنِّياً شيئاً قد كان عَاهَدَ أنْ يفعله، ثم غَدَرَ في عَهْدِهِ.
وقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ: التفاتةٌ بليغةٌ، واعتراض بَيْنَ القائلِ والمَقُولِ بِلفظ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْحِ فعلهم، وقال الزّجّاج «١» : قوله: «كأن لم يكن بينكم وبينه مودة» مؤخَّر، وإنما موضعه: «فإنْ أصابَتْكُمْ مصيبةٌ».
قال ع «٢» : وهذا ضعيفٌ لأنه يُفْسِدُ فصاحةَ الكَلاَم.
قال ص: وقوله: فَأَفُوزَ بالنصب: هو جواب التمنّي. انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لاَ تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
وقوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ... الآية:
هذا أمر من اللَّه سبحانه للمؤمنين بالجهادِ، ويَشْرُونَ هنا: معناه: يَبِيعُونَ، ثم وصف سبحانه ثوابَ المقاتِلِينَ، والأجْرُ العظيمُ: الجَنَّة.
وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لاَ تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... الآية: «ما» : استفهامٌ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: عطْفٌ على اسمِ اللَّهِ عزَّ وجلّ، أي: وفي سبيل المستضعفين
(١) ينظر: «معاني القرآن» (٢/ ٧٦).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٧٧).
لإستنقاذِهِمْ، ويعني ب «المستضْعَفِينَ» : مَنْ كان بمكَّة تحت إذلال كفرة قريش، وفيهم كان صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينِ» «١»، وَالْوِلْدانِ: عبارة عن الصبيان، والْقَرْيَةِ هنا: مَكَّةٌ بإجماعٍ، والآيةُ تتناوَلُ/ المؤمنين والأسرى في حواضِرِ الشِّرْك إلى يوم القيامة.
قال ابنُ العربيِّ «٢» في «أحكامه» : قال علماؤُنَا (رحمهم اللَّه) : أوجَبَ اللَّهُ تعالى في هذه الآيةِ القِتَالَ لإستنقاذ الأسرى مِنْ يَدِ العدُوِّ، وقد روى الأئمّة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
«أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ» «٣». يعني: الأسيرَ، قال مالكٌ (رحمه اللَّه) : علَى النَّاسِ أَنْ يَفُكُّوا الأسرى بجميعِ أموالِهِمْ وكذلك قالُوا: عليهمْ أنْ يُوَاسُوهُمْ.
انتهى.
وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... الآية: هذه الآيةُ تقتضِي تقْويَةَ قُلُوبِ المؤمِنِينَ وتَحريضَهُمْ، وقَرِينَةُ ذِكْرِ الشيطانِ بَعْدُ تدُلُّ على أَنَّ المرادَ بالطَّاغُوتِ هنا الشيطانُ، وإعلامُهُ تعالى بضَعْفِ كيدِ الشيطانِ فيه تقويةٌ لقلوب المؤمنِينَ، وتجرِئَةٌ لهم على مُقَارَعَةِ الكيدِ الضعيفِ فإنَّ العزم والحَزْم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهدّه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)
(١) أخرجه البخاري (٢/ ٥٧٢)، كتاب «الاستسقاء»، باب دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، حديث (١٠٠٦)، ومسلم (١/ ٤٤٦- ٤٤٧)، كتاب «المساجد»، باب استحباب القنوت، حديث (٢٧٥/ ٢٩٥) من حديث أبي هريرة.
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٥٩).
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ١٩٣) في الجهاد: باب فكاك الأسير (٣٠٤٦)، و (٩/ ١٤٩) في النكاح: باب حق إجابة الوليمة والدعوة (٥١٧٤)، و (٩/ ٤٢٧) في الأطعمة: باب قول الله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (٥٣٧٣)، (١٠/ ١١٧) في المرضى: باب وجوب عيادة المريض (٥٦٤٩)، و (١٣/ ١٧٤) في الأحكام: باب إجابة الحاكم الدعوة (٧١٧٣)، وأبو داود (٢/ ٢٠٤) في الجنائز: باب الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة (٣١٠٥)، وأحمد (٤/ ٣٩٤، ٤٠٦)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٥٢) برقم (٢١٣٦)، والدارمي (٢/ ٢٢٣)، والبيهقي (٣/ ٣٧٩)، (١٠/ ٣)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ١٧٣) برقم (١٤٠١) عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري مرفوعا به.
262
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ... الآية:
اختلف المتأوِّلون، فِيمَن المرادُ بقوله: الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ.
فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: كان جماعةٌ من المؤمنين قد أَنِفُوا من الذُّلِّ بمَكَّةَ قَبْلَ الهجرة، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ مقاتَلَةَ المُشْركين، فأمرهم عَنِ اللَّهِ تعالى بكَفِّ الأيْدِي، فلَمَّا كتب عليهم القتالُ بالمدينةِ، شَقَّ ذلك على بعضهم، ولَحِقَهُمْ ما يلْحَقُ البَشَر من الخَوَرِ والكَعِّ عَنْ مقَارَعَةِ العدُوِّ، فنزلَتِ الآية فيهم.
وقال ابنُ عباس أيضاً ومجاهدٌ: إنما الآيةُ حكايةٌ عنْ حالِ اليَهُود أنهم فعلوا ذلكَ مَعَ نبيِّهم في وَقْتِهِ «١»، فمعنى الحكايةِ عنهم تقبيحُ فِعْلِهِمْ، ونَهْيُ المؤمنين عَنْ فِعْلِ مثله.
وقيل: المرادُ المنافقُونَ.
و «أَوْ» : تقدَّم شرحُها في «سورة البقرة» في قوله تعالى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: ٧٤] لأنَّ الموضعَيْنِ سواءٌ.
وقولهم: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ: رَدٌّ في صَدْر أوامرِ اللَّهِ سبحانه، وقلَّةُ استسلام له، والأَجَلُ القريبُ: يعنُونَ به موتَهُمْ على فُرُشِهِمْ هكذا قال المفسِّرون.
قال ع «٢» : وهذا يحسُنُ إذا كانتِ الآيةُ في اليَهُودِ أو في المنافِقِينَ، وأما إذا كانت في طَائِفَةٍ من الصحابةِ، فإنما طَلَبُوا التأخُّر إلى وَقْتِ ظُهُورِ الإسلامِ، وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ويُحَسِّنُ القولَ بأنها في المنافِقِينَ اطراد ذِكْرِهِمْ فيما يأتِي بَعْدُ من الآيات.
وقوله سبحانه: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ... الآية: المعنى: قل، يا محمَّد، لهؤلاءِ:
متاعُ الدنيا، أي: الاِستمتاعُ بالحياةِ فيها الَّذي حَرَصْتُم علَيْهِ قليلٌ، وباقي الآيةِ بيِّن.
وهذا إخبارٌ منه سبحانه يتضمَّن تحقيرَ الدُّنْيا، قلْتُ: ولِمَا عَلِمَ اللَّهُ في الدنيا مِنَ الآفات، حمى منها أولياءه، ففِي الترمذيِّ عن قتادة بن النُّعْمَان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٧٣) برقم (٩٩٥٧)، وذكره ابن عطية (٢/ ٧٩)، وابن كثير (١/ ٥٢٦)، والسيوطي (٢/ ٣٢٨)، وعزاه للنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في «سننه» من طريق عكرمة عن ابن عباس.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨٠).
263
«إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ» «١»، قال أبو عيسى: وفي البابِ عَنْ صُهَيبٍ، وأُمِّ المُنْذِرِ، وهذا حديثٌ حسنٌ، وفي الترمذيِّ عن ابن مسعود قال: «نام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتخذنا لَكَ فراشا؟! فقال: مالي وما للدّنيا، وما أَنَا فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَرَاكِبٍ استظل تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» «٢»، وفي الباب عن ابنِ عُمَر، وابن عبَّاس، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ/ حسنٌ صحيحٌ. انتهى.
وقوله سبحانه: فِي بُرُوجٍ الأكثرُ والأصحُّ الذي علَيْه الجمهورُ: أنه أراد ب «البُرُوج» : الحُصُونَ التي في الأرْضِ المبنيَّة لأنها غايةُ البَشَر في التحصُّن والمَنَعة، فمَثَّل اللَّه لهم بها، قال قتادة: المعنى: في قصورٍ محصَّنة»
وقاله ابنُ جُرَيْجٍ «٤» والجُمْهُور، وبَرَّجَ: معناه: ظَهَر ومنه تبرُّج المرأة، ومُشَيَّدَةٍ: قال الزَّجَّاج «٥» وغيره: معناه:
مرفُوعَة مطوَّلة ومنه أَشَادَ الرَّجُلُ ذِكْرَ الرَّجُل إذا رفَعَهُ، وقالتْ طائفةٌ: مُشَيَّدَةٍ: معناه:
محسَّنة بالشِّيدِ، وهو الجَصُّ، وروى النسائيَّ عن أبي هُرَيْرَة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ»، يعني: الموتَ، وخرَّجه ابنُ ماجة والترمذيُّ «٦»، وخرَّجه أبو نُعَيْمٍ
(١) أخرجه الترمذي (٤/ ٣٨١)، كتاب «الطب»، باب ما جاء في الحمية، حديث (٢٠٣٦)، والحاكم (٤/ ٢٠٧، ٣٠٩)، وابن حبان (٢٤٧٤- موارد) من حديث قتادة بن النعمان مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٨٨- ٥٨٩)، كتاب «الزهد» باب (٤٤) رقم (٢٣٧٧)، وابن ماجة (٢/ ١٣٧٦)، كتاب «الزهد»، باب مثل الدنيا، حديث (٤١٠٩)، وأحمد (١/ ٤٤١)، والطيالسي (٢/ ١٢٠- منحة) رقم (٢٤٣٠)، والحاكم (١/ ٣١٠)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ١٠٢) كلهم من طريق علقمة عن ابن مسعود به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم.
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ١٧٥) برقم (٩٩٦٣)، وذكره البغوي (١/ ٤٥٤)، وابن عطية (٢/ ٨٠)، والسيوطي (٢/ ٣٢٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٧٥) برقم (٩٩٦٥)، وذكره ابن عطية (٢/ ٨٠).
(٥) ينظر: «معاني القرآن» (٢/ ٧٩).
(٦) أخرجه الترمذي (٤/ ٤٧٩)، كتاب «الزهد»، باب ما جاء في ذكر الموت، حديث (٢٣٠٧)، والنسائي (٤/ ٤) كتاب «الجنائز»، باب كثرة ذكر الموت، وابن ماجة (٢/ ١٤٢٢) كتاب «الزهد»، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (٤٢٥٨)، وأحمد (٢/ ٢٩٢- ٢٩٣)، وابن أبي شيبة (١٣/ ٢٢٦)، رقم (١٦١٧٤)، والحاكم (٤/ ٣٢١)، وابن حبان (٢٥٥٩- موارد)، ونعيم بن حماد في «زوائد الزهد».
رقم (١٤٦)، والخطيب (٩/ ٤٧٠)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١/ ٣٩١) رقم (٦٦٩) كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. -
264
الحافظُ بإسناده من حديثِ مالكِ بْنِ أنس، عن يَحْيَى بْنِ سعيدٍ، عَنِ ابنِ المُسَيَّب، عن عمر بن الخطّاب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمثله «١»، وروى ابنُ ماجة بسَنَده، عنِ ابن عُمَرَ أنَّهُ قَالَ:
كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، قَالَ: فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ استعدادا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ»، وأخرجه مالك أيضاً «٢». انتهى من «التذكرة» «٣».
وقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ... الآية: الضميرُ في تُصِبْهُمْ عائدٌ على الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وهذا يدلُّ على أنَّهم المنافقون لأن المؤمنين لا تليقُ بهم هذه المقالةُ ولأنَّ اليهودَ لم يكُونوا للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم تَحْتَ أمْرٍ، فتصيبهم بِسَبَبِهِ أَسْوَاءٌ، والمعنى:
إنْ تُصِبْ هؤلاءِ المنافقين حَسَنَةٌ من غنيمةٍ أو غيرِ ذلك، رَأَوْا أنَّ ذلك بالاتفاقِ مِنْ صُنْع اللَّه، لا ببَرَكَةِ اتباعك والإيمانِ بِكَ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: هزيمةٌ، أو شدَّةُ جُوعٍ، أو غيرُ ذلكَ، قالوا: هذه بسَبَبِكَ.
وقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: إعلامٌ من اللَّه سبحانه أنَّ الخيْرَ والشرَّ، والحسنَةَ والسيِّئة خَلْقٌ له، ومِنْ عنده، لا رَبَّ غيره، ولا خَالِقَ ولا مُخْتَرِعَ سواه، والمعنى: قل، يا محمّد، لهؤلاء.
- وللحديث شاهد من حديث أنس بن مالك.
أخرجه البزار (٤/ ٢٤٠) رقم (٣٦٢٣)، والطبراني في «الأوسط»، وأبو نعيم (٩/ ٢٥٢)، والخطيب في تاريخه (١٢/ ٧٢- ٧٣) كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٣١١) وقال: رواه البزار، والطبراني باختصار عنه، وإسنادهما حسن. اهـ.
وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (٦٧١) من حديث ابن عمر.
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٦/ ٣٥٥) من طريق جعفر بن محمد بن الحسين الزهري، ثنا عبد الملك بن يزيد ثنا مالكِ بْنِ أنس عن يَحْيَى بْنِ سعيدٍ عن عمر مرفوعا، وقال أبو نعيم: غريب من حديث مالك تفرد به جعفر عن عبد الملك. اهـ.
(١) ينظر: الحديث السابق.
(٢) أخرجه ابن ماجة (٢/ ١٤٢٣)، كتاب «الزهد»، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (٤٢٥٩) من طريق فروة بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، قال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٣١٠) :
هذا إسناد ضعيف، فروة بن قيس مجهول، وكذا الراوي عنه وخبره باطل، قاله الذهبي في «طبقات التهذيب».
(٣) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (١/ ٢٠).
265
ثُمَّ وبَّخهم سبحانه بالاستفهامِ عن عِلَّةِ جهلهم، وقلَّةِ فهمهم، وتحصِيلِهِمْ لما يُخْبَرُونَ به من الحقائِقِ، والْفِقْهُ في اللغةِ: الفَهْمُ، وفي الشَّرْعِ: الفهمُ في أمورِ الدِّين، ثم غَلَبَ علَيْهِ الاستعمال في علم المسائل الأحكاميّة «١».
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
وقوله تعالى: مَّا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وغيرُهُ داخلٌ في المعنى، ومعنى الآية عند ابنِ عَبَّاس وغيره: على القَطْع، واستئناف الأخبارِ مِنَ اللَّه عزَّ وجلَّ بأنَّ الحسَنَةَ منْه، ومن فضله، وبأنّ السيئة من الإنسان بإذنابه، وهي من
(١) يطلق الفقه لغة على أقوال ثلاثة:
الفهم مطلقا سواء كان المفهوم دقيقا أم غيره، وسواء غرضا لمتكلم أم غيره. والدليل على ذلك على لسان قوم شعيب: ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود: ٩١]، وقوله في شأن الكفار: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: ٧٨]، وقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: ٤٤].
فهذه الآيات تفيد أنّ الفقه هو الفهم مطلقا.
ثانيا: قيل: هو الفهم للأشياء الدقيقة فقط، فلا يصح أن نقول: فقهت أن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا.
وهذا القول مردود بما سبق من آيات، وبما قاله أئمة اللغة من أن الفقه هو الفهم مطلقا.
ثالثا: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، فلا يسمى لغة فهم الطير فقها، ورد هذا القول بما رد به الثاني.
واصطلاحا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
وقال السيوطي نقلا عن بعض أصحاب الشافعي: الفقه: معرفة النظائر، وقال بعض أصحاب الشافعية أيضا: الفقه: فرق وجمع. وقال الغزالي: الفقه: عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة.
وقال محمد نظام الدين محمد اللكنوي في «فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت» : الفقه: حكمة فرعية شرعية، وعرفوه بأنه: العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.
وعرفه الزركشي: بمعرفة الحوادث نصا واستنباطا.
وعرفه أبو حنيفة: بمعرفة النفس مالها وما عليها.
ينظر: «لسان العرب» (٥/ ٣٤٥٠)، «ترتيب القاموس» (٣/ ٥١٣)، «المصباح المنير» (٢/ ٦٥٦)، «الأشباه والنظائر» (٦)، والقائل الشيخ قطب الدين السنباطي، «المنثور» (١/ ٦٦)، «المستصفى» (١/ ٤)، «التلويح على التوضيح» (١/ ٥).
266
اللَّه تعالى بخَلْقِهِ واختراعه، لا خالِقَ سواه سبحانه، لا شريكَ لَهُ، وفي مُصْحَفِ «١» ابنِ مَسْعودٍ: «فَمِنْ نَفْسِكَ، وَأَنَا قَضَيْتُهَا عَلَيْكَ»، وقرأ بها ابنُ عَبَّاس «٢»، وفي رواية: «وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ» ويعْضُدُ هذا التأويلَ أحاديث عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم معناها: أنَّ ما يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ من المصائِبِ، فإنما هو عقوبةُ ذنوبه «٣»، قال أبو جعفر أحمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ: قوله تعالى:
وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ: خطابٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ غيره. انتهى.
وفي قوله سبحانه: / وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، ثم تلاه بقوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً: توعُّدٌ للكُفَّار، وتهديدٌ تقتضيه قُوَّة الكلامِ لأن المعنى: شهيداً على مَنْ كذَّبه.
وقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، فالمعنى: أنَّ الرسول- عليه السلام- إنما يأمر وينهى بيانا وتبليغا عن الله، وتَوَلَّى: معناه: أعرض، وحَفِيظاً: يحتملُ معنَيَيْنِ: أي: لِتَحْفَظَهُمْ حتى لا يقَعُوا في الكُفْر والمعاصِي ونحوه، أو لتَحْفَظَ مساوِيَهُمْ وتَحْسِبَها عليهم، وهذه الآيةُ تقتضِي الإعراضَ عَمَّنْ «٤» تولى، والتَّرْكَ له، وهي قَبْلَ نزولِ القِتَالِ، وإنما كانت توطئة ورفقا من الله عز وجل حتى يستحكم أمرُ الإسلام.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ... الآية: نزلَتْ في المنافقينَ باتفاق المفسِّرين، المعنى: يقولُونَ لك، يا محمَّد: أَمْرُنَا طاعةٌ، فإذا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ، اجتمعوا ليلاً، وقالوا غير ما أظهروا لك، وبَيَّتَ: معناه: فَعَلَ لَيْلاً، وهو مأخوذٌ مِنْ بَاتَ أوْ مِنَ البَيْتِ لأنه مُلْتَزَمٌ باللَّيْل.
وقوله: تَقُولُ: يحتملُ أنْ يكون معناه: تَقُولُ أنْتَ، ويحتملُ تَقُولُ هِيَ لَكَ، والأمْرُ بالإعراض إنَّما هو عِنْدَ معاقبتهم ومجازاتِهِمْ، وأما استمرار عِظَتِهِمْ ودَعْوتِهِم، فلازمٌ، ثم أمر سبحانه بالتوكُّل عليه، والتمسُّك بعُرْوته الوثقى ثقةً بإنجاز وعده في النّصر،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨٢)، و «البحر المحيط» (٣/ ٣١٣).
(٢) ورويت عن ابن مسعود، وأبي ينظر السابق.
(٣) أخرجه البخاري (١٠/ ١٠٣)، كتاب «المرضى»، باب ما جاء في كفارة المرض، حديث (٥٦٤١، ٥٦٤٢)، ومسلم (٤/ ١٩٩٢)، كتاب «البر والصلة»، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، حديث (٥٢/ ٢٥٧٣) عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه».
(٤) في أ: عمن.
267
والوَكِيلُ: القائمُ بالأمورِ المُصْلِحُ لما يُخَافُ مِنْ فسادها.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
وقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ... الآية: المعنى: أَفلا يتدبَّر هؤلاءِ المنافقُونَ كَلاَمَ اللَّه تعالى، فتظهر لهم براهِينُهُ، وتلُوح لهم أدلَّته، قُلْتُ: اعلم (رحمك اللَّه تعالى) أنَّ تدبُّر القرآن كفيلٌ لصاحبه بكُلِّ خير، وأما الهَذْرَمَة «١» والعَجَلَةُ، فتأثيرُها في القَلْب ضعيفٌ قال النوويُّ (رحمه اللَّه) : وقد كَرِهَ جماعةٌ من المتقدِّمين الخَتْمَ فِي يومٍ وليلةٍ ويدلُّ عليه ما رُوِّينَاهُ بالأسانيدِ الصَّحيحة في سُنَن أبي دَاوُد، والتِّرمذيِّ، والنَّسَائِيِّ وغيرها، عن عبد اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنَ العَاصِي، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ» «٢». انتهى.
قال ع «٣» : والتدبُّر هو النظر في أعقابِ الأُمُور وتأويلاتِ الأشياءِ، هذا كلّه يقتضيه قوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وهذا أمرٌ بالنَّظَرِ والاستدلال، ثم عَرَّف تعالى بِمَوْقِعِ الحُجَّة، أي: لو كان مِنْ كلامِ البَشَر، لَدَخَلَهُ مَا فِي البَشَرَ من القُصُور، وظهر فيه التناقُضُ والتنافِي الَّذي لا يُمْكِنُ جَمْعُه إذ ذلك موجودٌ في كلامِ البَشَرِ، والقرآنُ منزَّه عنه إذ هو كلامُ المحيطِ بِكُلِّ شيء سبحانه.
قال ع «٤» : فإن عرضَتْ لأحدٍ شبهةٌ، وظنَّ اختلافا في شَيْءٍ مِنْ كتابِ اللَّه، فالواجبُ أنْ يتَّهم نَظَرَهُ ويسأَلَ مَنْ هو أعلَمُ منه.
وقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ... الآية: قال جُمْهور المفسِّرين: إن الآيةَ من المنافِقِينَ حَسْبما تقدَّم، والمعنى: أنَّ المنافقين كانوا يتشوَّفون إلى
(١) الهذرمة: كثرة الكلام، وهذرم الرجل في كلامه هذرمة إذا خلّط فيه، ويقال للتخليط: الهذرمة، ويقال:
هو السرعة في القراءة والكلام والمشي. ينظر: «لسان العرب» (٤٦٤٤).
(٢) تقدّم تخريجه. [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨٣).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨٣).
268
سماع ما يسيء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا طَرَأَتْ لهم شبهةُ أَمْنٍ للمسلمينَ، أو فَتْحٍ عليهم، حَقَّرُوهَا وصَغَّروا شأنَها، وأذاعوا ذلك التحْقيرَ والتَّصْغِيرَ، وإذا طرأت لهم شُبْهَةُ خوفٍ للمسلمين أو مصيبة، عظّموها، وأذاعوا ذلك، وأَذاعُوا بِهِ: معناه: أَفْشَوْهُ، وهو فِعْلٌ يتعدى بحرفِ الجَرِّ وبنفسه أحياناً.
وقالت فرقة: الآية نزلَتْ في المنافقين، وفِيمَنْ ضَعُفَ جَلَدُه، وقَلَّتْ تجْرِبَتُهُ مِنَ المؤمنين/ وفي الصحيحِ مِنْ حديثِ عُمَرَ بْنِ الخطَّاب (رضي اللَّه عنه) أنه جَاءَ، وَقَوْمٌ فِي المَسْجِدِ، يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم نِسَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: لاَ، قَالَ عُمَرُ: فَقُمْتُ على بَابِ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ: أَلاَ إنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فأنزَلَ اللَّه تعالى هذه الآيةَ «١».
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ... الآية قال: وَأَنَا الَّذِي استنبطته.
وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ... الآية: المعنى: لو أمسكوا عن الخَوْض واستقصوا الأمرِ مِنْ قِبَلِ الرسولِ، وأولِي الأمْر، وهم الأَمَرَاءُ والعُلَمَاءُ، لَعَلِمَهُ طُلاَّبُهُ مِنْ أُولِي الأمْرِ، والبَحَثَةِ عنه، وهم مستنْبِطُوهُ كَمَا يُسْتَنْبَطُ الماءُ، وهو استخراجه مِنَ الأرْضِ.
وقوله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ... الآية: خِطَابٌ لجميعِ المؤمنينَ باتفاقٍ من المتأوِّلين، وقوله: إِلَّا قَلِيلًا هو مستثنى في قول جماعةٍ من قوله:
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا، وقال ابن عَبَّاس، وابن زَيْدٍ: ذلك مستثنًى من قوله: «أَذَاعُوا بِهِ إلاَّ قليلاً»، ورجَّحه «٢» الطبريُّ «٣»، وقال قتادة: هو مستثنًى من قوله: «يستنبطُونَهُ إلا قليلاً» «٤».
ت: قال الدَّاوُوديُّ: قال أبو عُبَيْدة: وإنما كَرِهَ العلماءُ أن يجعلوا الاستثناء من
(١) أخرجه مسلم (٢/ ١١٠٥- ١١٠٨)، كتاب «الطلاق»، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن، حديث (٣٠/ ١٤٧٩).
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٣٣)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٨٦) برقم (١٠٠١٧- ١٠٠١٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٨٤)، والسيوطي (٢/ ٣٣٤).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ١٨٦).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٨٥- ١٨٦) برقم (١٠٠١٤- ١٠٠١٥)، وذكره ابن عطية (٢/ ٨٤)، والسيوطي (٢/ ٣٣٤)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
269
قوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا لأنَّه لا وَجْهَ له فإنَّه لولا فَضْلُ اللَّهِ ورحْمَتُهُ، لاتبعوا الشيْطَانَ كلُّهم. انتهى، وهو حَسَنٌ، وأما قوله: «لا وَجْهَ له»، ففيه نظَرٌ، فقد وجَّهه العلماءُ بما لا نُطِيلُ بذكْره.
وقوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... الآية: هذا أمر في ظاهر اللّفظ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَحْده، لكن لم نَجِدْ قَطُّ في خَبَرٍ، أنّ القتال فرض على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، دون الأُمَّة مُدَّةً مَّا، والمعنى، واللَّه أعلَمُ أنه خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في اللفظِ، وهو مثالُ مَا يُقَالُ لكلِّ واحدٍ في خاصَّة نَفْسه، أي: أنْتَ، يا محمَّد، وكلُّ واحدٍ من أمَّتك القولُ لَهُ: فقاتِلْ في سبيلِ اللَّه، لا تُكَلَّف إلاَّ نَفْسَكَ، ولهذا ينبغي لكلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يستَشْعِرَ أنْ يُجَاهِدَ، ولو وحْدَه ومِنْ ذلك قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وَاللَّهِ، لأُقَاتِلَنَّكُمْ حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي «١» » «٢»، وقولُ أبِي بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه) وَقْتَ الرِّدَّةِ: «وَلَوْ خَالَفَتْنِي يَمِينِي، لَجَاهَدتُّهَا بِشِمَالِي»، وعسى إذا وردَتْ من اللَّه تعالى، فقال عكرمة وغيره: هي واجِبَةٌ بفَضْلِ اللَّه ووَعْده الجميلِ «٣»، قلْتُ: أيْ: واقعٌ مَّا وعَدَ به سبحانه، والتنكيلُ: الأخْذُ بأنواع العذاب.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
وقوله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً... الآية: قال مجاهدٌ وغيره: هي في شَفَاعَاتِ النَّاس بينهم في حوائجهم، فَمَنْ يشفعْ لينفَع، فلَهُ نصيبٌ، ومَنْ يشفعْ ليضُرَّ، فله «٤» كِفْلٌ، والكِفْلُ: النَّصيبُ، ويستعمل في الخَيْرِ وفي الشَّرِّ، وفي كتاب اللَّه تعالى:
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: ٢٨]، وروى أبو داود، عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
(١) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفرادها عن الموت لأنها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت. وقيل: أراد حتى يفرّق بين رأسي وجسدي. ينظر: «النهاية» (٢/ ٣٩٠).
(٢) أخرجه البخاري (٥/ ٣٨٨- ٣٩٢)، كتاب «الشروط»، باب الشروط في الجهاد، حديث (٢٧٣١)، (٢٧٣٢)، وأحمد (٤/ ٣٢٩) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٨٦).
(٤) أخرجه الطبري (٤/ ١٨٨) برقم (١٠٠٢١)، وذكره البغوي (١/ ٤٥٧)، وابن عطية (٢/ ٨٦)، وابن كثير (١/ ٥٣١)، والسيوطي (٢/ ٣٣٥)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
270
أنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً، فأهدى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أتى بَاباً عظيما من أبواب الرّبا» «١». انتهى.
ومُقِيتاً: معناه: قديراً ومنه قولُ الزُّبَيْر بْنِ عبدِ المُطَّلِبِ: [الوافر]
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْه وَكُنْتُ على إسَاءَتِهِ مُقِيتَا «٢»
أيْ: قديراً.
وقيل: مُقِيتاً: معناه شهيداً، وقيل: حفيظاً.
وذهب مقاتلٌ إلى أنه الذي يَقُوتُ كلَّ حيوان، قال الداوديّ: قال الكلبيُّ المَقِيتُ هو المُقْدِرُ بلُغَة قُرَيْشٍ. انتهى.
وقوله سبحانه: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ... الآية: قالتْ فرقةٌ: معنى الآية: تخييرُ الرَّادِّ فإذا قال البادئ: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ»، فللرادِّ أنْ يقولَ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ» فقطْ، وهذا هو الرَّدُّ، وله أنْ يقولَ: «وعَلَيْكَ السَّلاَمُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ»، وهذا هو التحيَّة بأحْسَنَ، ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ وغيره انتهاء السَّلام إلى البَرَكة، وقالَتْ فرقةٌ: المعنى: إذا حُيِّيتم بتحيةٍ، فإن نَقَص المسلِّمُ مِنَ النهاية، فحَيُّوا بأحْسَنَ منها، وإن انتهى، فردُّوها، كذلك قال عطاءٌ، والآيةُ في المؤمنين خاصَّةً، ومَنْ سَلَّم من غيرهم، فيقالُ لَهُ: «عَلَيْكَ» كما»
في الحديث «٤»، وفي
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٣١٤)، كتاب «البيوع»، باب في الهدية لقضاء الحاجة، حديث (٣٥٤١) من طريق خالد بن أبي عمران عن القاسم عن أبي أمامة به.
(٢) البيت من شواهد «البحر المحيط» (٣/ ٣١٦)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٠٥)، و «الكشاف» (١/ ٥٤٣).
والضغن: الحقد. والإقاتة: الاقتدار، وروى الصاغاني: أقيت، وروى بعده:
يبيت الليل مرتفقا ثقيلا على فرش الفتاة وما أبيت
وطن إليّ منه مؤذيات كما تؤذي الجذامير البروت
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ١٩١) برقم (١٠٠٤٠)، وذكره ابن عطية (٢/ ٨٧)، والسيوطي (٢/ ٣٣٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٤) قال الخطابي في «معالم السنن» (٤/ ١٥٤) : هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم «بالواو»، وكان سفيان بن عيينة يرويه: «عليكم» بحذف الواو، وهو الصواب وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والجمع بين الشيئين.
وقال الحافظ: «الفتح» (١١/ ٤٨) : قال النووي: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان وبإثباتها أجود، ولا مفسدة فيه، وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان:
أحدهما: أنهم قالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضا، أي: نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. -[.....]
271
أبي داود، والترمذيّ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَ بالسَّلاَمِ» «١». انتهى.
وأكثرُ أهل العلْمِ على أنَّ الابتداءَ بالسَّلاَمِ سُنَّةٌ مؤكَّدة، وَرَدُّه «٢» فريضةٌ لأنه حقٌّ من الحقوقِ قاله الحسن وغيره، قال «٣» النوويُّ: وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَسْتَقْبِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُصَافِحُهُ، فَيُصَلِّيَانِ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حتى تُغْفَرَ ذُنُوبُهُمَا، مَا تقدّم منها وما تأخّر» «٤»، وروّينا
- والثاني: أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم.
وقال البيضاوي: في العطف شيء مقدر، والتقدير: وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون، وليس هو عطفا على «عليكم» في كلامهم، وقال القرطبي: قيل: الواو للاستئناف، وقيل: زائدة، وأولى الأجوبة أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا.
وحكى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلا يجمع الروايتين: إثبات الواو، وحذفها فقال: من تحقق أنه قال: السام أو السلام بكسر السين فليرد عليه بحذف الواو، ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو، فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال. وقال النووي تبعا لعياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو، ومن فسرها بالسامة فإسقاطها هو الوجه. قلت: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة.
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٧٢)، كتاب «الأدب»، باب في فضل من بدأ بالسلام، حديث (٥١٩٧)، والترمذي (٥/ ٥٦)، كتاب «الاستئذان»، باب ما جاء في فضل الذي يبدأ بالسلام، حديث (٢٦٩٤)، وأحمد (٥/ ٢٤٥، ٢٦١، ٢٦٤، ٢٦٩) من حديث أبي أمامة.
(٢) ابتداء السلام سنة عين من الواحد، ولو صبيا ولو على من ظن أنه لا يرد، ومن الجماعة سنة كفاية ورده فرض عين على الواحد عند إقباله وانصرافه، وكذا لو علمه واحد فقط من الجماعة ولو كان المسلم صبيا مميزا، وفرض كفاية إن كان على جماعة اثنين فأكثر مسلمين مكلفين وسكارى لهم نوع تمييز عالمين به ولو نساء، ولم يتحلل به من صلاة، وإن كرهت صيغته، ولو أسقط المسلم حقه لم يسقط لأن الحق لله تعالى، ولو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الفرض، كالمصلين على جنازة، وشرطه إسماع واتصال كاتصال الإيجاب بالقبول.
واعلم أن ابتداء السلام أفضل من رده، وهذا من المسائل التي استثنيت من كون الفرض أفضل من التطوع، ومنها إبراء المعسر أفضل من انتظاره لكن رد ذلك العلامة ابن حجر في: «التحفة» بأن سبب الفضل في هذين: اشتمال المندوب على مصلحة الواجب، وزيادة إذ بالإبراء زال الانتظار، وبالابتداء حصل أمن أكثر مما في الجواب، أي: ففضله عليه من حيث اشتماله على مصلحة الواجب لا من ذاته، ولا من حيث كونه مندوبا، وقد وقفت للعلامة ابن علان في ذلك على هذين البيتين:
الفرض أفضل من نفل وإن كثرا فيما عدا صور أخذها حوت دررا
بدء السلام أذان والطهارة من قبيل وقت مع الإبرار لمن عسرا
ينظر: «سبعة كتب مفيدة» ص (١٤١، ١٤٤).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٨٧)، وابن كثير (١/ ٥٣٢)، والسيوطي (٢/ ٣٣٨)، وعزاه للبخاري في «الأدب المفرد»، وابن المنذر عن ابن عباس.
(٤) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (١٩٣).
272
فيه عَنْ أَنسٍ أيضاً، قال: «مَا أَخَذَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِيَدِ رَجُلٍ، فَفَارَقَهُ حتى قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» «١» وَروِّينَا فيه، عَنِ البَرَاءِ بن عازِبٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ المُسْلِمِيْنَ إذَا التقيا، فَتَصَافَحَا، وتَكَاشَرَا بِوُدٍّ وَنَصِيحَةٍ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا بَيْنَهُمَا»، وفي رواية: «إذَا التقى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ تعالى، واستغفرا- غفر الله عزّ وجلّ لهما» «٢». انتهى.
وحَسِيباً: معناه حَفِيظاً، وهو فَعِيلٌ من الحِسَاب.
وقوله سبحانه: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ... الآية: لما تقدَّم الإنذارُ والتحذيرُ الذي تضمَّنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً، تلاه الإعلامُ بصفَةِ الربوبيَّة، وحالِ الوحدانيَّة والإعلامِ بالحَشْرِ والبَعْثِ مِنَ القبور للثَّواب والعقابِ إعلاماً بقَسَمٍ، تقديره: وَحَقِّهِ وَعَظَمَتِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، والجَمعُ بمعنى الحَشْر.
وقوله سبحانه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً: المعنى: لا أحَدَ أصْدَقُ من الله تعالى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
وقوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ... الآية: واختلف في هؤُلاَءِ المنافِقِينَ.
فقال ابنُ عَبَّاس: هم قومٌ كانوا بمَكَّة أظهروا الإيمانَ لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كُتُبٍ بَعَثُوا بِهَا إلى المدينةِ، ثم خَرَجُوا مسافِرِينَ إلى الشَّام، وأعطَتْهم قريشٌ بِضَاعَاتٍ، وقالوا لهم: أنتم لا تَخَافُونَ أصْحَاب محمَّد لأنّكم تخدعونهم بإظهار الإيمان، فاتّصل خبرهم
(١) أخرجه ابن السني رقم (٢٠٣).
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٧٥)، كتاب «الأدب»، باب في المصافحة، حديث (٥٢١١، ٥٢١٢)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة»، حديث (١٩٢، ١٩٤) من حديث البراء.
273
بالمدينَةِ، فاختلف المؤمنُونَ فيهم «١»، فقالَتْ فرقةٌ: نَخْرُجُ إلَيْهم فإنهم منافقونَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ، لاَ سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِمْ، فنزلَتِ الآية، وعن مجاهدٍ نحوه «٢».
قال ع «٣» : ويَعْضُدُهُ ما في آخر الآيةِ مِنْ قوله تعالى: حَتَّى يُهاجِرُوا، وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: نزلَتْ في عبد اللَّه بْنِ أُبيٍّ وأصحابِهِ المنافِقِينَ الذين رجعوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ، وهو في «صحيحِ البخاريِّ» مسنداً «٤»، قال ابن العربي في «أحكامه» «٥»، وهذا القول هو اختيار البخاريِّ والترمذيِّ. انتهى.
قال ع «٦» : وعلى هذا، فقولُه سبحانَهُ: حَتَّى يُهاجِرُوا المرادُ هَجْرُ ما نَهَى اللَّهُ عنه كما قال- عليه السلام-: «والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه» «٧»، وفِئَتَيْنِ:
معناه: فرقتين، / وأَرْكَسَهُمْ: معناه: أرجعَهُمْ في كُفْرِهِمْ وضَلاَلِهِمْ، والرِّكْس:
الرَّجيع ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الرَّوْثَةِ: «إنَّهَا رِكْسٌ» «٨»، وحكى النضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ والكِسَائِيُّ:
رَكَسَ وأَرْكَسَ بمعنًى واحدٍ، أي: أرجَعَهم، ومَنْ قال مِنَ المتأوِّلين: أَهْلَكَهم، أو أضلَّهم، فإنَّما هو بالمعنى، وباقي الآية بَيِّنٌ.
(١) أخرجه الطبري (٤/ ١٩٥) برقم (١٠٠٦٠)، وذكره ابن عطية (٢/ ٨٨)، وابن كثير (١/ ٥٣٢- ٥٣٣)، والسيوطي (٢/ ٣٤٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ١٩٤- ١٩٥) برقم (١٠٠٥٨- ١٠٠٥٩)، وذكره البغوي (١/ ٤٥٩)، وابن عطية (٢/ ٨٨)، وابن كثير (١/ ٥٣٣)، السيوطي (٢/ ٣٤٠- ٣٤١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨٨).
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ١٠٤- ١٠٥)، كتاب «التفسير»، باب فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، حديث (٤٥٨٩) من حديث زيد بن ثابت.
(٥) ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (١/ ٤٦٩).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٨٨).
(٧) أخرجه البخاري (١/ ٦٩)، كتاب «الإيمان»، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث (١٠) وفي (١١/ ٣٢٣) كتاب «الرقاق»، باب الانتهاء عن المعاصي، حديث (٦٤٨٤)، ومسلم (١/ ٦٥) كتاب «الإيمان»، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، حديث (٦٤/ ٤٠) من حديث عبد الله بن عمرو. [.....]
(٨) أخرجه البخاري (١/ ٣٠٨)، كتاب «الطهارة»، باب لا يستنجي بروث، حديث (١٥٦)، والنسائي (١/ ٣٩- ٤٠) كتاب «الطهارة»، باب الرخصة في الاستطابة بحجر، وابن ماجة (١/ ١١٤)، كتاب «الطهارة»، باب الاستنجاء بالحجارة، حديث (٣١٤)، وأحمد (١/ ٤١٨)، وأبو يعلى (٩/ ٦٣) برقم (٥١٢٧)، وابن المنذر في «الأوسط» (٢٩٦)، والبيهقي (٢/ ٤١٣) من حديث ابن مسعود.
274
قال ص: أَرْكَسَهُمْ، أي: رَدَّهم في الكُفْر.
وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» : أَخْبَرَ اللَّه تعالى أنه رَدَّ المنافِقِينَ إلى الكُفْر، وهو الإركَاسُ، وهو عبارةٌ عن الرجُوعِ إلى الحالَةِ المكروهَةِ كما قال في الرَّوْثَةِ: «إنَّهَا رِكْسٌ»، أيْ: رجَعَتْ إلى حالةٍ مكروهةٍ، فنَهَى اللَّه سبحانَهُ الصحابَةَ أنْ يتعلَّقوا فيهم بظَاهِرِ الإِيمان إذ كان باطنهم الكُفْرَ، وأمرهم بقَتْلهم، حَيْثُ وجَدُوهُم. انتهى.
وقولُهُ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ... الآية.
قال ص: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ: استثناءٌ متَّصِلٌ من مَفْعولِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. انتهى.
قال ع «١» : هذه الآيةُ مِنْ آياتِ المُوَادَعَةِ في أول الإسلام، ثم نُسِخَتْ بما في سورة «بَرَاءَةَ» فالآيةُ تقتضي أنَّ مَنْ وصَلَ من المشركِينَ الذين لا عهد بينهم، وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى هؤلاءِ أهْلِ العهدِ، فدخَلَ في عِدَادِهِمْ، وفَعَلَ فِعْلَهم من المُوَادَعَةِ، فلا سَبِيلَ عليه.
وقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ: عطْفٌ على يَصِلُونَ، ويحتملُ أنْ يكون على قوله: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ، والمعنى في العَطْفَينِ مختلفٌ، وهذا أيضاً حُكْمٌ قبل أنْ يستحكم أمْرُ الإسلام، فكان المشرك، إذا اعتزل القتَالَ، وجاء إلى دارِ الإِسلامِ مُسَالماً كارهاً لقتالِ قَوْمِهِ مع المسلِمِينَ، ولقِتَالِ المُسْلمين مع قومه، لا سَبِيلَ عليه، وهذه نُسِخَتْ أيضاً بما في «براءة»، ومعنى حَصِرَتْ: ضاقَتْ، وحَرِجَتْ ومنه: الحَصَرُ في القَوْل، وهو ضِيقُ الكَلاَم علَى المتكلّم، وحَصِرَتْ: في موضعِ نصبٍ على الحال، واللاَّمُ في قوله: لَسَلَّطَهُمْ جوابٌ «لو»، والمعنى: ولو شاء اللَّه، لَسَلَّطَ هؤلاءِ الَّذين هُمْ بهذه الصِّفَة من المُسَالَمَة والمُتَارَكَة عليكم، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ، أي: إذا وقَعَ هذا، فلَمْ يقاتِلُوكم، فلا سَبِيلَ لكم عليهم، وهذا كلُّه، والذي في سورة «الممتحنة» : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ...
[الممتحنة: ٨] الآية: منسوخ قاله قتادة وغيره «٢».
والسَّلَمَ: الصّلح.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٠).
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٩١).
275

[سورة النساء (٤) : آية ٩١]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
وقوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ... الآية: لما وصَفَ اللَّه سبحانه المحقِّقين في المْتَارَكَة وإلقاءِ السَّلَم، نَبَّهَ على طائفةٍ مخادِعَةٍ كانوا يريدُونَ الإقامَةَ في مَوَاضِعِهِمْ مع أهليهم، يقُولُونَ لهم: نَحْنُ معكم وعلى دينَكُمْ، ويقولُونَ أيضاً للمسلمين: نَحْنُ معَكُمْ، وعلى دينكم خَبْثَةً منهم وخَديعَةً، وقوله: إِلَى الْفِتْنَةِ:
معناه: إلى الاِختبارِ، حُكِيَ أنهم كانُوا يَرْجِعُون إلى قومهم، فيقالُ لأحدِهِمْ: قل: رَبِّيَ الخُنْفُسَاءُ، رَبِّيَ العودُ، رَبِّيَ العَقْرَبُ، ونحوه، فيقولُهَا، ومعنى: أُرْكِسُوا: أيْ: رَجَعوا رَجْعَ ضلالةٍ، أي: أُهْلِكُوا في الإختبار بما واقَعُوهُ من الكُفْر، وهذه الآيةُ حَضٌّ على قتل هؤلاءِ المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم، وثَقِفْتُمُوهُمْ: مأخوذٌ من الثِّقَافِ، أي:
ظَفرتُمْ بهم، مَغْلوبينَ متمكَّناً منْهم، والسُّلطانُ: الحُجَّة، قال عكرمةُ: حيثما وقع السلطانُ في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فهو الحجّة «١».
[سورة النساء (٤) : آية ٩٢]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢)
وقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً... الآية: قال جمهورُ المفسِّرين: معنى الآية: وما كان في إذْنِ اللَّه، وفي أمره للمؤمن أن يَقْتُلَ مؤمناً بوَجْهٍ، ثم استثنَى استثناء/ منقطعاً ليس من الأول، وهو الذي تكُونُ فيه «إلاَّ» بمعنى «لَكِنْ»، والتقديرُ: لَكِنِ الخطأُ قدْ يَقَعُ، ويتَّجِهُ في معنى الآيةِ وَجْهٌ آخر، وهو أنْ تقدَّر «كَانَ» بمعنى «استقر»، و «وُجِدَ» كأنه قال: وما وُجِدَ، ولا تقرَّر، ولا سَاغَ لمؤْمِنٍ أنْ يقتُلَ مؤمناً إلا خطأً إذ هو مغلوبٌ فيه، فيجيءُ الإستثناءُ على هذا متَّصلاً، وتتضمَّن الآية على هذا إعْظَامَ العَمْد، وبَشَاعَةَ شأنه.
وقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً... الآية: حقيقةُ الخَطَإ ألاَّ يقصده بالقَتْلِ، ووجوهُ الخَطَإ كثيرةٌ لا تحصى، يربطها عدم القصد.
(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٤/ ٢٠٤) (١٠٠٩٢)، وابن عطية (٢/ ٩٢).
276
قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الرَّقَبَةُ المؤمنةُ: هي الكَبِيرَةُ الَّتي قَدْ صَلَّتْ وعَقَلَتِ الإيمان «١»، وقالَتْ جماعة، منهم مالكُ بْنُ أنَسٍ: يجزىءُ كُلُّ مَنْ يُحْكَم له بحُكْم الإسلام في الصلاة عليه، إنْ مات «٢»، قال مالك: ومَنْ صلى وصَامَ أحَبُّ إلَيَّ، ولا يجزىءُ ذو العَيْب الكثير كأقطع اليَدَيْنِ، أو الرجْلَيْن، أو الأعمى إجماعاً فيما علمت، ومُسَلَّمَةٌ: معناه: مؤَدَّاة مدفوعةٌ، وهي على العاقلةِ فيما جاوز ثلث الدية، وإِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا: يريدُ: أولياءَ القَتِيلِ، وقوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ... الآية: أيْ: وإنْ كان هذا المقتولُ خطأً مؤمناً قَدْ آمَنَ، وبَقِيَ في قَوْمِهِ، وهم كَفَرَةٌ عدُوٌّ لكم، فلا ديةَ فيه، وإنما كفَّارته تحريرُ الرَّقَبة قاله ابنُ عَبَّاس «٣» وغيره، وسقَطَتِ الديةُ عندهم لوجهين:
أحدهما: أنَّ أولياء المقتولِ كُفَّار، فلا يصحُّ دفع الديةِ إلَيْهم.
والآخر: قلَّة حُرْمَة هذا المقتولِ، فلا دِيَةَ فيه.
واحتجّوا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: ٧٢].
وقالت فرقةٌ: بل الوجْهُ في سقوط الدِّية أنَّ الأولياء كُفَّار فقطْ، وسواءٌ قُتِلَ بين أظْهُر المسلمين، أو بَيْن قومه الكُفَّار لأنه لا يصحُّ دفعها إلى الكفَّار.
قال ع «٤» : وقائِلُ المقالة الأولى يقول: إن قُتِلَ المؤمنُ في بَلَدِ المسلمينَ، وقومُهُ حَرْبٌ، ففيه الديةُ لبَيْتِ المالِ والكَفَّارة.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المقتولُ من أهل العَهْدِ خطأً لا نُبَالِي، كانَ مؤْمناً أو كافراً، على عهد قومِهِ فيه الدّية والتّحرير «٥».
(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٤/ ٢٠٧) (١٠١٠٨)، والماوردي في «تفسيره» (١/ ٥١٨)، وابن عطية (٢/ ٩٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٤٥)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٣).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٠٩) (١٠١١٤)، والماوردي في «تفسيره» (١/ ٥١٨)، وابن عطية (٢/ ٩٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٤٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر من طريق علي عن ابن عباس.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٣).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢١٠) (١٠١٢٢)، وابن عطية (٢/ ٩٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٤٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي من طريق عكرمة.
277
وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ... الآية، أي: فَمَنْ لم يَجِدِ الرقَبَةَ ولا اتسع ماله لشرائها، فيجزيه صيامُ شَهُرَيْنِ متتابعةِ الأيَّامِ، لا يتخلّلها «١» فطر، وتَوْبَةً: نصْبٌ على المَصْدر، ومعناه: رجُوعاً بكُمْ إلى التّيسير والتّسهيل.
[سورة النساء (٤) : آية ٩٣]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
(١) دلت الآية الكريمة على أن المكفر إذا لم يجد الرقبة المؤمنة، أو وجدها، ولكن عجز عن تحصيلها، فالواجب عليه حينئذ صيام شهرين متتابعين لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ [النساء: ٩٢]، واشتراط التتابع في الصوم هاهنا، قدر متّفق عليه بين العلماء. ما يقطع التتابع:
بعد اتفاقهم على اشتراط التتابع في هذه الكفارة اختلفوا فيما بينهم، فيما يقطع به هذا التتابع، وسنبين ذلك بعد إن شاء الله.
لا خلاف بين العلماء في أن من أفطر لغير عذر أثناء الشهرين، فقد انقطع تتابعه للصوم، ووجب عليه أن يستأنف الشهرين، ويلغي ما صامه.
ولا خلاف بينهم أيضا في أنّ التتابع لا ينقطع بالحيض متى باشرت المرأة الصوم عقب الطهر، ولم يفصل ذلك بفاصل لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في أثناء الشهرين. إلا إذا أخرت الصوم إلى سن اليأس.
وفي تأخيره إلى هذا الوقت خطر، وغرر لأنها ربما تموت قبل ذلك.
واختلفوا في أمور منها:
أولا: إذا تخلل صوم الكفارة شهر رمضان، فهل صوم رمضان يقطع التتابع، أو لا يقطعه، فيبني على ما صامه من الكفارة.
فمذهب الشافعية، والحنفية، والظاهرية: أن التتابع ينقطع بذلك، وعليه أن يستأنف لأنه قد ترك التتابع لغير عذر إذ كان في استطاعته أن يصوم شهرين ليس بينهما رمضان خصوصا وأن الكفارة لم تجب على الفور، ولا يصح أن ينوي برمضان الكفارة لأن الزمن متعين لغيرها، والمتعين لا يقبل غيره.
ومذهب الحنابلة: أن التتابع لا ينقطع بذلك علم بأن رمضان يتخلل صوم الكفارة، أم لم يعلم بذلك لأنه زمن منع الشرع من صومه عن الكفارة، فلا يقطع التتابع كزمن الحيض، والنفاس.
وهذا ما لم ينو برمضان صوم الكفارة، وإلا انقطع التتابع، ولا يجزيه عن رمضان، ولا عن الكفارة.
أمّا أنه لا يجزيه عن الكفارة، فلأن الزمن متعين لغيرها، ولا يقبل غير ما عين له.
وأما أنه لم يجزه عن رمضان فلأنه لم ينوه، وإنما نوى غيره، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى... »
ومذهب المالكية: إن جهل تخلل رمضان لصوم الكفارة لم ينقطع التتابع بذلك لعذره بالجهل، وإن علم بذلك انقطع تتابعه لأنه كان في وسعه أن يؤخر الصوم إلى زمن لا يعترضه رمضان، والكفارة ليست واجبة على الفور، حتى يعذر بذلك، ولا يجزيه صوم رمضان عن الكفارة سواء نوى الكفارة وحدها، أو أشركها مع رمضان لأن الزمن متعين لغيرها.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسانين.
278
وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ... ألاية: المتعمِّد في لغة العربِ: القاصِدُ إلى الشيءِ، والجمهورُ أنَّ المتعمِّد كُلُّ مَنْ قَتَلَ، كان القَتْلُ بحديدةٍ أو غيرها، وهذا هو «١» الصحيحُ، ورأْيُ الشافعيِّ وغيره أنَّ القتْلَ بغير الحديدِ المشْحُوذِ هو شِبْهُ العَمْد، ورأَوْا فيه تغليظَ الدِّيَة، ومالكٌ لا يرى شِبْهَ العمدِ، ولا يقُولُ به، وإنما القَتْل عنده ما ذَكَرَه اللَّه تعالى عَمْداً أو خطأً لا غَيْرُ.
وقوله تعالى: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ، تقديره عنْد أهْلِ السُّنَّة: فجزاؤُه، إنْ جَازَاهُ بذلك، أي: هو أهْلٌ لذلك، ومستحِقُّه لعظيم ذنبه.
قال ع «٢» : ومَنْ أقِيمَ علَيْه الحَدُّ، وقُتِلَ قَوَداً، فهو غَيْرُ مْتَّبَعٍ في الآخرةِ، والوعيدُ غيرُ نافذٍ علَيْه إجماعاً، وللحديثِ الصحيحِ، عن عُبَادة بن الصامت أنَّهُ: «مَنْ عُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» «٣»، ومعنى الخُلُودِ هنا: مدَّةٌ طويلةٌ، إن جازاه اللَّهُ ويدلُّ على ذلك
(١) لغة: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (٥/ ٥٦) : القاف والتاء واللام أصل صحيح يدل على إذلال وإماتة، والقتل مصدر يقال: قتله يقتله قتلا. وقتله إذا أماته، بضرب أو حجر أو سمّ أو علة.
ورجل قتيل: مقتول، والجمع: قتلاء وقتلى وقتالى.
العمد في اللغة: القصد يقال: عمدت إلى الشيء قصدته، وتعمدته: قصدت إليه أيضا، والعمد ضدّ الخطأ.
عرفه الشّافعية بأنه: ما حصل بقصد الفعل العدوان، وعين الشخص بما يقتل غالبا وعرفه «أبو حنيفة» بأنه: ما تعمد فيه ضرب المقتول بسلاح، أو ما أجرى مجرى السلاح.
وعرفه الصّاحبان بأنه: ما تعمّد فيه ضرب المقتول بما لا تطيق النّفس احتماله.
وعرفه «ابن عرفة» فقال: العمد ما قصد به إتلاف النفس بآلة تقتل غالبا، ولو بمثقل، أو بإصابة المقتل كعصر الأنثيين، وشدة الضّغط والخنق. وزاد ابن القصار أو يطبق عليه بيتا، أو يمنعه الغذاء حتى يموت جوعا.
وعرفه الحنابلة فقالوا: العمد أن يقتل قصدا بما يغلب على الظّن موته به، عالما بكونه آدميا معصوما.
ينظر: «مغني المحتاج» (٤/ ٣)، «شرح الدر المختار على ابن عابدين» (٥/ ٣٥١)، «شرح حدود ابن عرفة» ص (٤٧٣)، «كشاف القناع» (٣/ ٣٣٣).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٦٤).
(٣) أخرجه البخاري (١/ ٨١)، كتاب «الإيمان»، باب علامة الإيمان حب الأنصار، حديث (٨١)، وفي (٧/ ٢٦٠) كتاب «مناقب الأنصار»، باب وفود الأنصار، حديث (٣٨٩٢، ٣٨٩٣)، وفي (٧/ ٣٦٥)، كتاب «المغازي»، باب (١٢)، حديث (٣٩٩٩)، وفي (٨/ ٥٠٦) : كتاب «التفسير» باب إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، حديث (٤٨٩٤)، وفي (١٢/ ٨٥) كتاب «الحدود»، باب الحدود كفارة، حديث (٦٧٨٤)، وفي (١٢/ ١٩٩) كتاب «الديات»، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها... ، حديث (٦٨٧٣)، وفي (١٣/ ٧) كتاب «الفتن»، باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سترون بعدي أمورا»، حديث (٧٠٥٥)، وفي (١٣/ ٢١٦) كتاب «الأحكام»، باب يبايع الإمام الناس، حديث (٧١٩٩)، وفي (١٣/ ٢١٦)، باب-
279
سقُوطُ لَفْظِ التأبيدِ.
قال ع «١» : والجمهورُ على قبولِ توبته، ورُوِيَ عن بعض العلماء أنهم/ كانُوا يَقْصِدُونَ الإغلاظَ، والتَّخْوِيفَ أحياناً، فيُطْلِقُونَ ألاَّ تُقْبَلَ توبته منهم ابن شِهَابٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ «٢»، فكان ابْنُ شِهَابٍ، إذا سأله مَنْ يفهم مِنْهُ أنَّهُ قَدْ قَتَلَ، قال له: تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ، وإذا سأله مَنْ لم يفعلْ، قال: لاَ تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ، وعن ابنِ عَبَّاس نحوه، قال الدَّاوُوديُّ وعن أبي هُرَيْرة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وَاللَّهِ، لَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ أَعَانَ على قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ مَكْتُوبٌ على جَبْهَتِهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» «٣»، وعن معاويةَ، أنَّهُ سَمِعَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلاَّ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، أَوْ مَاتَ كَافِراً» «٤»، وعن أبي هريرة أنه سُئِلَ عَنْ قَاتِلِ المُؤْمِنِ، هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، لاَ يَدْخُلُ الجَنَّة حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخيَاطِ، قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَشْرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ إلاَّ كَبَّهُمُ الله جميعا في النّار». انتهى.
- بيعة النساء، حديث (٧٢١٣)، وفي (١٣/ ٤٥٥)، كتاب «التوحيد»، باب المشيئة والإرادة، حديث (٧٤٦٨)، ومسلم (٣/ ١٣٣) كتاب «الحدود»، باب الحدود كفارة لأهلها، حديث (٤١/ ١٧٠٩)، والترمذي (٤/ ٤٥)، كتاب «الحدود»، باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها، حديث (١٤٣٩)، والنسائي (٧/ ١٤١- ١٤٢) كتاب «البيعة»، باب البيعة على الجهاد، حديث (٤١٦١) وفي (٨/ ١٠٨- ١٠٩) كتاب «الإيمان»، باب البيعة على الإسلام، حديث (٥٠٠٢)، وأحمد (٥/ ٣١٤، ٣٢٠)، والحميدي (٣٨٧)، والدارقطني (٣/ ٢١٥) كتاب «الحدود والديات»، والبيهقي (٨/ ١٨) كتاب «الجنايات»، باب قتل الولدان، كلهم من حديث عبادة بن الصامت.
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. [.....]
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٥).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٢٠) برقم (١٠١٩٢)، والماوردي في «تفسيره» (١/ ٥٢٠)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٤٦٤).
(٣) أخرجه ابن ماجة (٢/ ٨٧٤)، كتاب «الديات»، باب التغليظ في قتل المسلم، حديث (٢٦٢٠).
وقال البوصيري: في إسناده يزيد بن أبي زياد بالغوا في تضعيفه.
(٤) أخرجه أحمد (٤/ ٩٩)، والنسائي (٧/ ٨١) كتاب «تحريم الدم»، وأبو نعيم (٦/ ٩٩) من حديث معاوية، وله شاهد من حديث أبي الدرداء.
أخرجه أبو داود (٤٢٧٠)، وابن حبان (٥١- موارد)، والحاكم (٤/ ٣٥١).
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
280

[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا... الآية: تقُولُ:
ضَرَبْتُ في الأرضِ إذا سرْتَ لتجارةٍ أو غَزْوٍ، أو غيره، مقترنةً ب «في»، وضربْتُ الأرْضَ، دون «فِي» إذا قصَدتَّ قضاء الحاجَةِ.
وقال ص: ضربتم، أي: سافرتم.
قال ع «١» : وسببُ هذه الآية أنَّ سريَّةً مِنْ سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقيَتْ رجُلاً له جَمَلٌ، ومُتَيَّعٌ «٢»، وقيلَ: غُنَيْمَةٌ، فسلَّم على القَوْمِ، وقال: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَحَمَلَ علَيْهِ أحدُهُمْ، فَقَتَلَهُ، واختلف في تَعْيين القَاتِلِ والمَقْتُولِ في هذه النازلة، والذي عليه الأكثر، وهو في سِيَر ابْنِ إسحَاقَ، وفي مُصنَّفِ أبي دَاوُد وغيرهما أنَّ القاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ «٣»، والمقتولَ عَامِرُ بن الأَضْبطِ «٤»، ولا خلافَ أنَّ الذي لَفَظَتْهُ الأرْضُ، حِينَ مات، هو مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَة «٥»، وقرأ جمهورُ السَّبْعة: «فَتََبَيَّنُوا»، وقرأ «٦» حمزة والكسائيُّ: «فَتَثَبَّتُوا» (بالثاء المثلَّثة) في الموضعَيْن هنا، وفي «الحجرات»، وقرأ «٧» نافع
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٦).
(٢) التّبعة: اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من الحيوان، وكأنها الجملة التي للسعادة عليها سبيل، من تاع يتيع:
إذا ذهب إليه.
ينظر: «النهاية» (١/ ٢٠٢).
(٣) محلّم بن جثّامة الليثي: أخو الصعب بن جثّامة.
قال ابن عبد البرّ: يقال: إنه الذي قتل عامر بن الأضبط، وقيل: إن محلما غير الذي قتل، وإنه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه الذي مات في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودفن فلفظته الأرض مرة بعد أخرى.
(٤) عامر بن الأضبط الأشجعيّ.
ذكره ابن شاهين وغيره، وساق قصّة تدلّ على أنه قتل حين أسلم قبل أن يلقى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٢٤) برقم (١٠٢١٦)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٦).
(٦) وقراءة الأخوين مقصودها: أن التثبت خلاف الإقدام، والمراد التأني، فيكون التثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع، يعضده قوله تعالى: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء: ٦٦]، ومما يقويه قولهم: تثبت في أمرك، ولا يكاد يقال في هذا المعنى: تبين.
وحجة الباقين أن التبين ليس وراءه شيء، وقد يكون أشد من التثبت.
ينظر: «السبعة» (٢٣٦)، و «الحجة» (٣/ ١٧٣)، و «حجة القراءات» (٢٠٩)، و «العنوان» (٨٥)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٣٦)، و «شرح شعلة» (٣٤٢)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢١١)، وإتحاف» (١/ ٥١٨)، و «معاني القراءات» (١/ ٣١٥).
(٧) وقرأها ابن عامر وحمزة. -
وغيره: «السَّلَمَ»، ومعناه: الاِستسلام، أي: ألقى بيده، واستسلَم لكُمْ، وأظهر دعوتكَم، وقرأ باقي السبعة: «السَّلاَمَ» (بالألف)، يريد: سلاَمَ ذلك المَقْتُولِ على السَّريَّة لأن سلامَهُ بتحيَّة الإسلام مُؤْذِنٌ بطاعَتِهِ، وانقياده، وفي بَعْضِ طرق عاصم: «السِّلْمَ» - بكسر السين المشدَّدة، وسكونِ اللامِ-، وهو الصُّلْح، والمعنَى المرادُ بهذه الثلاثةِ مُتَقَارِبٌ، وقرىء:
«لَسْتَ مُؤْمَناً» «١» - بفتح الميم- أي: لَسْنَا نُؤَمِّنُكَ.
وقوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ: عِدَةٌ منه سبحانه بما يأْتِي به مِنْ فَضْله من الحلال دون ارتكاب محْظُورٍ، أي: فلا تتهافَتُوا.
واختلف في قوله: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ.
فقال ابنُ جُبَيْرٍ: معناه: كذلكَ كُنْتُمْ مستخْفِينَ مِنْ قومكم بإسلامِكُمْ، فَمَنَّ اللَّه عليكم بإعزازِ دينِكم، وإظهارِ شَرِيعتكم، فَهُمُ الآنَ كذلك كلُّ واحدٍ منهم خَائِفٌ مِنْ قومه، متربِّصٌ أَنْ يَصِلَ إلَيْكم، فلم يصْلُحْ إذا وَصَل أنْ تَقْتُلُوه حتى تتبيَّنوا أَمْرَهُ «٢»، وقال ابنُ زَيْدٍ:
المعنى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرةً، فَمنَّ اللَّهُ علَيْكُمْ بِأنْ أسلَمْتُمْ، فلا تُنْكِرُوا أَنْ يكُونَ هو كافراً، ثم يسلم لِحِينه «٣»، ثم وَكَّد تبارَكَ وتعالى الوصيَّةَ بالتبيُّن، وأعلم أنَّه خبيرٌ بما يعمَلُه العبادُ، وذلك منه خَبَرٌ يتضمَّن تحذيراً منه سبحانه، أي: فاحفظوا أنْفُسَكم، وجَنِّبوا الزَّلَل المُوبِقَ لكم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
- ينظر: «السبعة» (٢٣٦)، و «الحجة» (٣/ ١٧٥، ١٧٦)، و «حجة القراءات» (٢٠٩)، و «العنوان» (٨٥)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٣٦، ١٣٧)، و «شرح شعلة» (٣٤٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٢١٣)، و «إتحاف» (١/ ٥١٨)، و «معاني القراءات» (١/ ٣١٥- ٣١٦).
(١) وقرأ بها محمد بن علي، وابن مسعود، وابن عباس.
ينظر: «الشواذ» ص (٣٤)، و «الكشاف» (١/ ٥٥٢)، ونسبها ابن عطية في المحرر (٢/ ٩٦) إلى أبي جعفر بن القعقاع، وأبي حمزة، واليماني، وزاد أبو حيان في «البحر» (٣/ ٣٤٢) نسبتها إلى عكرمة، وأبي العالية، ويحيى بن يعمر.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٢٨) وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٧)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٤٦٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٥٩) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. [.....]
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٢٨) (١٠٢٣٥) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٩٧).
282
وقوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ... الآية: في قوله تعالى: لاَ يَسْتَوِي إبهامٌ على السَّامعِ/، وهو أبْلَغُ من تحديدِ المَنْزِلَةِ التي بَيْنَ المجاهد والقاعِدِ، فالمتأمِّل يَمْشِي مع فِكْرته، ولا يَزَالُ يتخيَّل الدرَجَاتِ بينهما، والقاعدُونَ عبارةٌ عن المتخلِّفين.
قلْتُ: وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن عليِّ بْنِ أبي طالب (رضي اللَّه عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ أَعْلاَهَا الحُلَلُ، ومِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ بُلْقٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسَرَّجَةٌ مُلْجَمَةٌ بالدُّرِّ واليَاقُوت، لاَ تَرُوثُ، وَلاَ تَبُولُ، ذَوَاتُ أَجْنِحَةٍ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فتطِيرُ بِهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، فَيَقُولُ الَّذِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ: يأهْلَ الجَنَّة، ناصِفُونا، يا ربِّ، ما بَلَّغَ هؤلاءِ هذه الكرامَةَ؟! فَيَقُولُ اللَّه تعالى: إنهم كانُوا يَصُومُونَ، وكُنْتُمْ تُفْطِرُونَ، وَكَانُوا يقُومُونَ باللَّيْلِ وَكُنْتُمْ تَنَامُونَ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ، وَكُنْتُمْ تَبْخَلُونَ، وَكَانُوا يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ وَكُنْتُمْ تَجْبُنُونَ» «١». انتهى.
وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو «٢» وحمزة: «غَيْرُ» - بالرفع- صفةً للقاعدين، وقرأ نافعٌ وغيره: «غَيْر» - بالنصب- استثناء من القاعدينَ، ورُوِيَ من غيرِ مَا طَرِيقٍ أنَّ الآية نزلَتْ:
«لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ»، فجاء ابنُ أمِّ مكتومٍ، حين سمعها، فقال:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإنِّي ضَرِيرُ البَصَرِ، فَنَزَلَتْ عِنْدَ ذلك غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «٣»، ...
(١) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١/ ٢٦٦- ٢٦٧) من طريق سعد بن طريف عن زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب مرفوعا.
ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ٢٥٥).
وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إحداهن: إرساله، فإن علي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب، والثانية: محمد بن مروان وهو السدي الكبير، قال ابن نمير: وهو كذاب، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتبارا. والثالثة: أظهر، وهو سعد بن طريف وهو المتهم به، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور.
(٢) ينظر: «السبعة» (٢٣٧)، و «الحجة» (٣/ ١٧٩)، وفيه ذكر رواية عن ابن كثير أنه قرأ بالنصب.
وينظر: «حجة القراءات» (٢١٠)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٣٧)، و «العنوان» (٨٥)، و «معاني القراءات» (١/ ٣١٥- ٣١٦).
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ٥٣) كتاب «الجهاد»، باب قول الله عز وجل: لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ... ، حديث (٢٨٣١)، (٨/ ١٠٨) كتاب «التفسير»، باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حديث (٤٥٩٣)، (٤٥٩٤)، (٨/ ٦٣٨- ٦٣٩) كتاب «فضائل القرآن»، باب كاتب-
283
..
- النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حديث (٤٩٩٠)، ومسلم (٣/ ١٥٠٨) كتاب «الإمارة»، باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، حديث (١٤١/ ١٨٩٨)، والترمذي (٥/ ٢٢٥) كتاب «التفسير»، باب سورة النساء، حديث (٣٠٣١)، والنسائي (٦/ ١٠) كتاب «الجهاد»، باب فضل المجاهدين على القاعدين، وأحمد (٤/ ٢٨٢، ٢٨٤، ٢٩٠)، والطيالسي (٢/ ١٧- منحة) برقم (١٩٤٣)، والطبري في «تفسيره» (٥/ ٢٢٩)، وأبو يعلى (٣/ ٢٦٩) برقم (١٧٢٥)، والواحدي في «أسباب النزول»، (ص ١٣١)، والبيهقي (٩/ ٢٣)، باب من اعتذر بالضعف والزمانة، كلهم من طريق أبي إسحاق عن البراء بن عازب به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والحديث: ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦١)، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف»، والبغوي في مجمعه.
تنبيه: فات الإمام السيوطي في هذا الحديث أن يعزوه إلى مسلم وهو في صحيحه كما تقدم في أثناء التخريج.
وللحديث شواهد من حديث سهل بن سعد، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وزيد بن أرقم، والفلتان بن عاصم.
حديث سهل بن سعد:
أخرجه البخاري (٨/ ١٠٨) كتاب «التفسير»، باب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله)، حديث (٤٥٩٢)، والترمذي (٥/ ٢٢٦) كتاب «التفسير»، باب سورة النساء، حديث (٣٠٣٣)، والنسائي (٦/ ٩) كتاب «الجهاد»، باب فضل المجاهدين على القاعدين، حديث (٣٠٩٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٨٧- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن سهل بن سعد أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا: أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملى عليه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله)، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح هكذا روى غير واحد عن الزهري عن سهل بن سعد نحو هذا، وروى معمر عن الزهري هذا الحديث عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت، وفي هذا الحديث رواية رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن رجل من التابعين، رواه سهل بن سعد عن مروان بن الحكم، ومروان لم يسمع من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. اهـ.
حديث زيد بن ثابت:
أخرجه أبو داود (٢/ ١٤- ١٥) كتاب «الجهاد»، باب في الرخصة في القعود من العذر، حديث (٢٥٠٧)، وأحمد (٥/ ١٩٠- ١٩١)، والحاكم (٢/ ٨١- ٨٢)، والطبراني في «الكبير» (٥/ ١٣٢) برقم (٤٨٥١) كلهم من طريق أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم سري عنه، فقال: اكتب فكتبت في كتف: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين-
284
قَالَ الفَلَتَانُ بْنُ عَاصِمٍ «١» (رضي اللَّه عنه) : كنّا قعودا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل علَيْه، وكان إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ، دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وفَرَّغَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لِلْكَاتِبِ: اكتب: «لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ... » إلَى آخر الآية، قال: فقام الأعمى، فقَاَل: يا رسُولَ اللَّهِ، مَا ذَنْبُنَا؟ قَالَ:
فأنزلَ اللَّهُ على رسولِهِ، فقلْنا للأعمى: إنه يَنْزِلُ عليه، قال: فَخَافَ أنْ ينزلَ فيه شيْءٌ، فبقيَ قائماً مكانَهُ، يقولُ: أَتُوبُ إلى رسُولِ اللَّهِ، حتّى فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال للكاتب:
- والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اقرأ يا زيد، فقرأت: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية كلها.
قاله زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦١)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن سعد، وابن المنذر، وابن الأنباري.
حديث ابن عباس:
أخرجه الترمذي (٥/ ٢٢٥) كتاب «التفسير»، باب سورة النساء، حديث (٣٠٣٢)، والبيهقي (٩/ ٤٧) كتاب «السير»، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية، كلاهما من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عن بدر والخارجون إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش، وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة) فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس.
حديث زيد بن أرقم:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (٥/ ١٩٠) برقم (٥٠٥٣) من طريق أبي إسحاق عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، أما لي رخصة؟ قال: لا، قال ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخص لي فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابتها.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٧/ ١٢) : ورجاله ثقات.
(١) الفلتان: بفتحتين، ومثناة فوقانية، ابن عاصم الجرمي، خال كليب. يعدّ في الكوفيين. قال البخاريّ:
قال عاصم بن كليب: له صحبة، وكذا قال ابن السّكن، وابن أبي حاتم، وابن حبان- له صحبة، وقال البغوي: سكن المدينة. وقال ابن حبان: عداده في الكوفيين.
وقال أبو عمر: يقال المنقري، والجرمي أصح. ينظر: «الإصابة» (٥/ ٢٨٨- ٢٨٩).
285
اكتب: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «١»، وأهْلُ الضررِ: هم أهل الأعذار، إذ قد أضرَّت بهم حتى منعتهم الجهَادَ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «٢».
وقوله تعالى: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، هي الغايةُ في كمالِ الجهَاد، قال ابن جُرَيْجٍ:
الفَضْلُ بدرجةٍ هو على القَاعِدِينَ مِنْ أهْل العذر.
قال ع «٣» : لأنهم مع المؤمنين بنيَّاتهم كما هو مذكورٌ في الحديثِ الصَّحيحِ.
قال ابنُ جُرَيجٍ: والتفضيلُ بالأجْر العظيمِ والدرجاتِ هُوَ على القَاعِدِينَ مِنْ غير عذر «٤»، والْحُسْنى: الجنةُ التي وَعَدَهَا اللَّهُ المؤمِنِينَ وكذلك قال السُّدِّيُّ وغيره «٥».
وقال ابنُ مُحَيْرِيزٍ «٦» : الدرجاتُ: هي درجاتٌ في الجنَّةِ سَبْعُونَ ما بَيْنَ الدرجَتَيْنِ حُضْرُ الجَوَادِ المُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً «٧»، قُلْتُ: وفي «صحيح البُخاريِّ»، عن أبي هريرةَ، عن رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «إنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنّة» «٨». انتهى.
(١) حديث الفلتان بن عاصم: أخرجه أبو يعلى (٣/ ١٥٦- ١٥٧) برقم (١٥٨٣)، وابن حبان (١٧٣٣- موارد)، والطبراني في «الكبير» (١٨/ ٣٣٤) برقم (٨٥٦)، والبزار (٣/ ٤٥- كشف) برقم (٢٢٠٣) كلهم من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا عاصم بن كليب حدثني أبي عن الفلتان بن عاصم به.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣١) برقم (١٠٢٤٨) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٢)، وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٨).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣٣) برقم (١٠٢٦٠)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٨).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣٣) برقم (١٠٢٥٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٨).
(٦) عبد الله بن محيريز بضم أوله وفتح المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة مكسورة ثم تحتانية ثم معجمة، الجمحي أبو محيريز المكي نزيل الشام، عن أبي محذورة، وعبادة بن الصامت، وعنه عبد الملك بن أبي محذورة، ومكحول الزّهري، وثقه العجلي. قال الأوزاعي: من كان مقتديا فليقتد بمثل ابن محيريز، قال خليفة: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال ضمرة: في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٩٨)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٧٣٩)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ٢٢)، «الكاشف» (٢/ ١٢٨).
(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣٣) برقم (١٠٢٦٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن محيرز بلفظ: قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين عدو الجواد المضمر سبعون سنة. [.....]
(٨) تقدم تخريجه.
286
وقال ابن زَيْدٍ: الدرجاتُ في الآيةِ هي السّبع المذكورة في «بَرَاءَةَ» في قوله تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ... [التوبة: ١٢٠] الآية «١».
قال ع «٢» : ودرجاتُ الجهادِ، لَوْ حُصِرَتْ، أكْثَرُ من هذه، لكنْ يَجْمَعُها بذْلُ النفْسِ، والاعتمال بالبَدَنِ والمالِ في أنْ تكُونَ كَلمةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، ولا شَكَّ أنَّ بحَسَب/ مراتِبِ الأعمال ودرجاتِهَا تكُونُ مراتِبُ الجَنَّة ودرجاتُها، فالأقوالُ كلُّها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ... الآية:
المرادُ بهذه الآيةِ إلى قوله: مَصِيراً جماعةٌ من أهل مكَّة كانوا قد أسلموا، فَلَمَّا هاجَرَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وفُتِنَ منهم جماعةٌ، فافتتنوا، فلما كَانَ أَمْرُ بَدْرٍ، خَرَجَ منهم قومٌ مع الكُفَّار، فقُتِلُوا ببَدْرٍ، فنزلَتِ الآية فيهم.
قال ع «٣» : والذي يَجْرِي مع الأصولِ أنَّ مَنْ ماتَ مِنْ هؤلاء مرتدًّا، فهو كافرٌ، ومأواه جهنَّم على جهة الخلودِ المؤبدِ، وهذا هو ظاهرُ أمْرِ هؤلاءِ، وإنْ فَرَضْنا فيهم مَنْ مَاتَ مؤمناً، وأُكْرِهَ عَلَى الخُرُوجِ، أوْ ماتَ بمكَّة، فإنما هو عاصٍ في ترك الهِجْرة، مأواه جهنَّم على جهة العِصْيَانِ دُونَ خُلُودٍ.
وقوله تعالى: تَوَفَّاهُمُ: يحتملُ أن يكون فعلاً ماضياً، ويحتملُ أنْ يكون مستقْبَلاً على معنى: «تَتَوَفَّاهُمْ» فحذِفَتْ إحدى التاءَيْنَ وتكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي مِنْ هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية، وظالِمِي أَنْفُسِهِمْ: نصب على الحال، أي:
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣٣) برقم (١٠٢٦٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٤)، وعزاه لابن جرير عن ابن وهب قال: سألت زيد، وذكر الأثر.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٩٩).
287
ظالميها بترك الهجرة، وتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: معناه: تقبِضُ أرواحَهُمْ، قال الزَّجَّاج «١»، وحُذِفَتِ النونُ مِنْ ظَالِمِينَ تخفيفاً كقوله: بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥]، وقولُ الملائكة:
فِيمَ كُنْتُمْ: تقريرٌ وتوبيخٌ، وقولُ هؤلاء: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ: اعتذار غيرُ صحيحٍ إذ كانوا يستطيعُونَ الحِيَلَ، ويَهْتَدُونَ السُّبُلَ، ثم وقَفَتْهُم الملائكةُ على ذَنْبهم بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً، والأرْضُ الأولى: هي أرْضُ مكَّة خاصَّة، وأرْضُ اللَّهِ هي الأرضُ بالإطلاق، والمراد: فتهاجِرُوا فيها إلى مواضعِ الأَمْنِ، وهذه المقاوَلَةُ إنما هِيَ بعد توفي الملائكَةِ لأرواحِ هؤلاءِ، وهي دالَّة على أنهم ماتوا مُسْلِمِينَ وإلاَّ فلو ماتوا كافِرِينَ، لم يُقَلْ لهم شيءٌ مِنْ هذا، ثم استثنى سبحانه مَنْ كان استضعافه حقيقةً مِنْ زَمْنَى الرجالِ، وضَعَفَةِ النساءِ، والولدانِ، قال ابنُ عَبَّاس: «كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ» «٢»، والحِيلَةُ: لفظٌ عامٌّ لأنواع أسبَاب التخلُّص، والسَّبِيلُ: سبيلُ المدينةِ فيما قاله مجاهد وغيره «٣»، والصوابُ: أنه عامٌّ في جميع السُّبُل، ثم رَجَّى اللَّه تعالى هؤلاءِ بالعَفْو عنهم، والمُرَاغِمُ: المُتَحَوَّلُ والمَذْهَب قاله ابن عبَّاس وغيره «٤»، وقال مجاهدٌ: المُرَاغَمُ المتزحْزَحُ عمَّا يُكْرَه «٥»، وقال ابن زيْدٍ: المُرَاغَمُ: المُهَاجَرُ «٦»، وقال السُّدِّيُّ: المُرَاغَمُ: المبتغى للمعيشة «٧».
قال ع «٨» : وهذا كله تَفْسيرٌ بالمعنى، وأما الخاصُّ بِاللفظة، فإن المُرَاغَمَ هو موضِعُ المراغَمَةِ، فلو هاجر أَحَدٌ من هؤلاءِ المَحْبُوسِين بمكَّةَ، لأرْغَمَ أنُوفَ قريشٍ بحصوله في مَنَعَةٍ منهم، فتلكَ المَنَعَةُ هي مَوْضِعُ المراغَمَةِ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: السّعة هنا هي السّعة في
(١) ينظر: «معاني القرآن» (٢/ ٩٤).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣٥) برقم (١٠٢٦٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٠٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٧)، وعزاه للطبراني.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٣٩) برقم (١٠٢٨٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٤٧٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد.
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٠).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٢٤٢) برقم (١٠٣٠٧)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٠١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٤٣) برقم (١٠٣٠٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠١).
(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٤٢) برقم (١٠٣٠٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٨)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٨) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠١).
288
الرِّزْقِ «١»، وقال مالك: السَّعة: سَعَةُ البلاد «٢».
قال ع «٣» : وهذا هو المُشَبِهُ للفصاحة أنْ يريد سعة الأرْضِ وبذلك تكونُ السَّعَةُ في الرِّزْق، واتساع الصَّدْرِ، وغيرُ ذلك من وجوه الفَرَجِ، وهذا المعنى ظاهرٌ من قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً.
قال مالكُ بْنُ أَنَسٍ (رحمه اللَّه) : الآية تُعْطِي أنَّ كلَّ مسلمٍ ينبغي لَهُ أنْ يَخْرُجُ من البلادِ الَّتي تُغَيَّرُ فيها/ السُّنَنُ، ويُعْمَلُ فيها بغَيْر الحَقِّ «٤».
وقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ...
الآية حُكْمُ هذه الآية باقٍ في الجهَادِ، والمَشْيِ إلى الصلاةِ، والحَجِّ، ونحوِهِ، قلْتُ: وفي البابِ حديثٌ عن أبي أُمَامَةَ، وسيأتِي عند قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: ٦١].
قال ع «٥» : والآية نزلَتْ بسبب رَجُلٍ من كِنَانَةَ، وقيلَ: من خُزَاعَةَ، اسمه ضَمْرَةُ في قولِ الأكْثَرِ لما سمع قَوْلَ اللَّه تعالَى: الَّذِينَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قال: إنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، وَكَانَ مَرِيضاً، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إلَى المَدِينَةِ، فَأُخْرِجَ فِي سَرِيرٍ، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتِ الآيةُ بسببه.
قال ع «٦» : ومِنْ هذه الآية رأى بعضُ العلماء أنَّ مَنْ مات من المسلمين، وقد خَرَجَ غازياً، فله سَهْمُهُ من الغنيمة، قَاسُوا ذلك علَى الأجْرِ، وَوَقَعَ: عبارةٌ عن الثُّبُوتِ، وكذلك هِيَ «وَجَبَ» لأنَّ الوقوعَ والوُجُوبَ نُزُولٌ في الأجْرَامِ بقوَّة، فشبه لازم المعانِي بذلك، وباقي الآية بيّن.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٤٣) برقم (١٠٣١٠) وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٥٢٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦٨)، وعزاه لابن القاسم بلفظ: «قال: سئل مالك عن قول الله وَسَعَةً؟! قال: سعة البلاء. [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز»
(٢/ ١٠١).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠١).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠١).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٢).
289

[سورة النساء (٤) : آية ١٠١]

وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
وقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ... الآية: ضَرَبْتُمْ: معناه: سافَرْتم، قال مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وابنُ رَاهَوَيْهِ: تُقْصَرُ الصلاةُ في أربعةِ بُرُدٍ، وهي ثمانيةٌ وأربعون ميلاً وحُجَّتهم أحاديثُ رُوِيَتْ في ذلك، عن ابن عمر، وابن عباس «١».
وقال الحسنُ والزُّهْريُّ: تُقْصَرُ في مسيرةِ يَوْمَيْنِ «٢»، وروي هذا أيضاً عن مالكٍ «٣»، وروي عنه: تُقْصَر في مسافة يوم ولَيلة، وهذه الأقوالُ الثلاثةُ تتقارَبُ في المعنى.
والجمهورُ على جواز القَصْر في السَّفَر المباحِ.
وقال عطاءٌ: لا تُقْصَر إلا في سفر طاعةٍ، وسبيلِ خيرٍ، والجمهور: أنَّه لا قَصْرَ في سفُر معصيةٍ، والجمهور أنه لا يَقْصُر المسافرُ حتى يَخْرُجَ من بُيُوت القرية، وحينئذٍ هو ضاربٌ في الأرْضِ، وهو قولُ مالك وجماعةِ المَذْهَب، وإلى ذلك في الرجوع، وقد ثبت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعاً، وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ»، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ يَوْمٍ، «٤» ويظهر مِنْ قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أنَّ القَصْر مباحٌ أو مخيَّر فيه، وقد رَوَى ابنُ وهْبٍ، عن مالكٍ، أنَّ المسافِرَ مخيَّر فيه «٥» وقاله الأَبْهَرِيُّ وعليه حُذَّاق المذْهَب، وقال مالكٌ في «المبسوط» : القَصْرُ سُنَّةٌ «٦» وهذا هو الذي عليه
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٣).
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٣).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٣).
(٤) حديث أنس:
أخرجه البخاري (٣/ ٤٠٧) كتاب «الحج»، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، حديث (١٥٤٦)، ومسلم (١/ ٤٨٠)، كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث (١١/ ٦٩٠)، مختصرا، من رواية ابن المنكدر، عنه، قال: «صلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهلّ».
وأخرجه أبو داود (٢/ ٣٧٥)، كتاب «المناسك» (الحج)، باب في وقت الإحرام، حديث (١٧٧٣)، والترمذي (٢/ ٤٣١)، كتاب «الصلاة»، أبواب السفر، باب ما جاء في التقصير في السفر، حديث (٥٤٦)، والبيهقي (٥/ ٣٨)، كتاب «الحج»، باب من قال: يهل إذا انبعثت به راحلته.
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٣).
(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٣).
جمهورُ المَذْهب وعليه جوابُ «المدوَّنة» بالإعادة في الوَقْت لِمَنْ أتَمَّ في سفرِه.
وقال ابنُ سُحْنُون وغيره: القَصْرُ فَرْضٌ.
وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية، وفي حديثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّة، قال: قُلْتُ لعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: إنَّ اللَّه تعالى يقُولُ: إِنْ خِفْتُمْ وقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فقالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فاقبلوا صَدَقَتَهُ» «١».
ويَفْتِنَكُمْ: معناه يمتحنَكُمْ بالحَمْلِ عليكم، وإشغال نفوسكم، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا صلَّى الظُّهْر بأصحابه، قال المُشْرِكُونَ: قد أَمْكَنَكُمْ محمَّد وأصحابه مِنْ ظُهورِهِمْ، هَلاَّ شَددتُّمْ عَلَيْهم، فقال قائلٌ منهم: أنَّ لَهُمْ أخرى فِي أَثَرِهَا، فأنزل اللَّهُ تعالى بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ:
إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا/ إلى آخر صلاة الخوف.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٢]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ... الآية: قال جمهورُ الأُمَّة:
الآية خطَابٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وكذلك جمهورُ العلماء على أنَّ صلاة الخَوْف تصلى في الحَضَر، إذا نزَلَ الخَوْف، قال الطبريُّ «٢» : فَأَقَمْتَ لَهُمُ: معناه: حُدُودَهَا وهَيئَتَهَا.
وقوله تعالى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ: أمر بالانقسام، أي: وسائرهم وِجَاه العَدُوِّ، ومعظم الرواياتِ والأحاديثِ على أنَّ صلاةَ الخَوْف إنما نزلَتِ الرخْصَةُ فيها في غَزْوة ذاتِ الرِّقَاعِ، واختلف من المأمورُ بأخْذ الأسلحَةِ هنا؟ فقيل: الطائفة المصلِّية، وقيل:
بل الحارسة.
(١) أخرجه الطبري عن ابن جريج (٤/ ١٤٨) برقم (٩٨٥١)، وذكره السيوطي في «الدر» (٢/ ٣١٢)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
وفيه زيادة: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
(٢) ينظر: الطبري (٤/ ٢٥١).
291
قال ع «١» : ولفظ الآية يتناوَلُ الكلَّ، ولكن سِلاَحُ المصلِّين ما خَفَّ، قُلْتُ:
ومن المعلوم أنه إذا كانَتِ الطائفةُ المصلِّيةُ هي المأمورَةَ بِأخْذِ السِّلاحِ، فالحارسَةُ من باب أحرى.
واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاةَ الخَوْف وبِحَسَبِ ذلك، اختلف الفقَهَاء، فروى يزيدُ بْنُ رُومَانَ «٢»، عن صالح «٣» بنِ خَوَّاتٍ، عن سهلِ بْنِ أبي «٤» حَثْمَةَ أنَّهُ صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صَلاَةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعَ، فَصُفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وجَاهَ العَدُوِّ، وجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأخرى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِساً، وأتَمُّوا لأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ «٥»، وروى القاسمُ بْنُ محمَّدٍ، عن صالحِ بن
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٥).
(٢) يزيد بن رومان مولى آل الزبير أبو روح المدني. عن ابن الزّبير وعروة وعنه جرير بن حازم وابن إسحاق ونافع القارئ وطائفة. قال ابن سعد: كان عالما ثقة كثير الحديث. توفي سنة ثلاثين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١٦٩)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٥٣٢)، «تهذيب التهذيب» (١١/ ٣٢٥) (٦٢٥)، «الكاشف» (٣/ ٢٧٧)، «الثقات» (١٥٨١). [.....]
(٣) صالح بن خوّات بفتح المعجمة: ابن جبير بن النّعمان الأنصاري المدني. عن أبيه وعنه ابنه خوّات والقاسم بن محمد. وثقه النسائي.
ينظر: (١/ ٤٥٩)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٥٩٥)، «تهذيب التهذيب» (٤/ ٣٨٧)، «الكاشف» (٢/ ١٩)، «الثقات» (٤/ ٣٧٢).
(٤) هو: سهل بن أبي حثمة بن ساعدة بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارث بن الحرث بن عمرو بن مالك بن الأوس اختلف في اسم أبيه فقيل: عبد الله، وقيل: عبيد الله. الأوسي الأنصاري، أمه: أم الربعي بنت سالم بن عدي بن مجدعة، ولد سنة ثلاث من الهجرة، حدث عن النبيّ بأحاديث وحدث عن زيد بن ثابت، ومحمد بن سلمة، روى عنه ابنه محمد، وابن أخيه محمد بن سليمان بن أبي حثمة، وبشر بن يسار، وصالح بن خوّات بن جبير، ونافع بن جبير، وعروة وغيرهم. قال الواقدي: قبض النبيّ وهو ابن ثماني سنين، ولكنه حفظ عنه. توفي أول أيام معاوية.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٤٦٨)، «الإصابة» (٣/ ١٣٨)، «الثقات» (٣/ ١٦٩)، «الاستيعاب» (١/ ٦٦١)، «الاستبصار» (٢٤٥)، «بقي بن مخلد» (١٠٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٤٣)، «الرياض المستطابة» (١١٠)، «الطبقات الكبرى» (٥/ ٣٠٤)، «التاريخ الكبير» (٤/ ٩٧)، «التحفة اللطيفة» (٢٠٠)، «الوافي بالوفيات» (١٦/ ٨)، «إسعاف المبطأ» (١٩٤)، «التعديل والتجريح» (١٣٣٩).
(٥) أخرجه البخاري (٧/ ٤٢١)، كتاب «المغازي»، باب غزوة ذات الرقاع، الحديث (٤١٢٩)، ومسلم (١/ ٥٧٥)، كتاب «صلاة المسافرين»، باب صلاة الخوف، الحديث (٣١٠/ ٨٤٢)، ومالك (١/ ١٨٣)، كتاب «الخوف»، باب صلاة الخوف، الحديث (١)، وأحمد (٣/ ٤٤٨)، وأبو داود (٢/ ٣٠)، كتاب «الصلاة»، باب إذا صلّى ركعة وثبت قائمة، الحديث (١٢٣٨)، والنسائي (٣/ ١٧١)، كتاب «الخوف»، باب صلاة الخوف، وابن الجارود (ص ٩٠)، كتاب «الصلاة»، باب في صلاة الخوف، الحديث-
292
خَوَّاتٍ، عن سَهْلٍ هذا الحديثَ بعينه، إلا أنّه روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ صَلَّى بالطائفةِ الأخيرةِ ركْعَةً، سلَّم، ثم قضَتْ بعد سَلاَمِهِ، وبحديثِ «١» القاسمِ بنِ محمَّد، أخَذَ مالكٌ، وإليه رجَعَ بَعْدَ أنْ كان أولاً يميلُ إلى روايةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وروى عبْدُ الرزَّاق عن مجاهدٍ، قال: لَمْ يصلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاَةَ الخَوْفِ إلاَّ مرَّتَيْنِ: مرَّةً بذاتِ الرِّقَاعِ مِنْ أرض بني سُلَيْمٍ، ومرةً بعُسْفَانَ، والمشركُونَ بِضُجْنَانَ بينهم وبَيْنَ القِبْلَةِ «٢».
قال ع «٣» : وظاهرُ اختلاف الرّوايات عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقتضي أنَّه صلى صلاةَ الخَوْف في غير هَذيْن الموطِنَيْنِ، وقد ذكر ابنُ عبَّاس أنه كَانَ في غَزْوة ذِي قَرَدٍ صلاةَ خَوْفٍ «٤».
وقوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ... الآية: المعنى: فإذا سَجَدوا مَعكَ الركعةَ الأولى، فلْيَنْصَرِفُوا هذا على بعض الهيئات المرويَّة، وقيل: المعنى: فإذا
- (٢٣٥)، والدارقطني (٢/ ٦٠)، كتاب «العيدين»، باب صلاة الخوف، الحديث (١١)، والبيهقي (٣/ ٢٥٣)، كلهم من طريق مالك، عن يزيدُ بْنُ رُومَانَ، عن صالح بنِ خَوَّاتٍ به.
والحديث في «الموطأ» (١/ ١٨٣) كتاب «صلاة الخوف»، باب صلاة الخوف، حديث (١).
ومن طريقه أيضا أخرجه البغوي في «شرح السنة» (٢/ ٥٩٢- بتحقيقنا).
(١) أخرجه مالك (١/ ١٨٣) كتاب «صلاة الخوف»، باب صلاة الخوف، الحديث (٢)، عن يحيى بن سعيد، عن القاسمُ بْنُ محمَّدٍ، عن صالحِ بْنِ خَوَّاتٍ: أن سهل بن أبي حثمة حدثه: أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم. فإذا استوى قائما ثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون وينصرفون والإمام، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة، ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون.
وأخرجه مرفوعا: البخاري (٧/ ٤٢٢)، كتاب «المغازي»، باب غزوة ذات الرقاع، الحديث (٤١٣١)، ومسلم (١/ ٥٧٥)، كتاب «المسافرين»، باب صلاة الخوف، الحديث (٣٠٩/ ٨٤١)، وأبو داود (٢/ ٣٠)، كتاب «الصلاة»، باب يقوم صف مع الإمام، وصف وجاه العدو، الحديث (١٢٣٧)، والترمذي (٢/ ٤٠)، كتاب «السفر»، باب صلاة الخوف، الحديث (٥٦٢)، والنسائي (٣/ ١٧٨)، كتاب «الخوف» باب صلاة الخوف، وابن ماجة (١/ ٤٠٠)، كتاب «إقامة الصلاة»، باب صلاة الخوف، الحديث (١٢٥٩)، وأحمد (٣/ ٤٤٨)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٣٢٣)، كتاب «الصلاة»، باب صلاة الخوف، والبيهقي (٣/ ٢٥٣)، كتاب «صلاة الخوف»، باب كيفية صلاة الخوف، كلهم من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة مرفوعا.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٥).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٦).
(٤) ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٦).
293
سَجَدوا ركْعةَ القضاءِ، وهذا على رواية ابنِ أبي حَثْمَةَ، والضميرُ في قوله: فَلْيَكُونُوا، يحتملُ أنْ يكون لِلَّذِينَ سَجَدُوا، ويحتمل أن يكون للطائفةِ القائِمَةِ أولاً بإزاء العَدُوِّ، ويجيء الكلامُ وَصَاةً في حال الحَذَرِ والحَرْب.
وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ... الآية: إخبارٌ عن مُعْتَقَدِ القومِ، وتحذيرٌ من الغَفْلةِ لَئِلاَّ ينالَ العَدُوُّ أمَلَهُ، وأسْلِحَةٌ: جمعُ سلاحٍ، وفي قوله تعالى: مَيْلَةً واحِدَةً: مبالغةُ، أي: مستأصِلَةً لا يُحْتَاجُ معها إلى ثانية.
وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ... الآية: ترخيصٌ.
قال ابنُ عَبَّاس: نزلَتْ بسبب عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، كان مريضاً، فوضع سلاحَهُ، فعنَّفه بعْضُ النَّاس «١».
قال ع «٢» : كأنهم تَلَقَّوُا الأمر بأخْذ السِّلاحِ على الوُجُوبِ، فرخَّص اللَّه تعالى في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ، وينقاسُ عليهما كُلُّ عذرٍ، ثم قوى سبحانه/ نُفُوسَ المؤمنِينَ بقوله:
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٣]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
وقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً... الآية: ذهب جمهورُ العلماءِ إلى أنَّ هذا الذِّكْر المأمورَ بِهِ، إنما هو إثْرَ صلاةِ الخَوْفِ على حَدِّ ما أُمِرُوا عند قضاءِ المَنَاسِكِ بذكْرِ اللَّه، فهو ذِكْرٌ باللسانِ، والطُّمَأْنينةُ في الآية: سكونُ النُّفُوسِ من الخَوْف، وقال بعضُ المتأوِّلين: المعنى: فإذا رجعتُمْ مِنْ سفركم إلى الحَضَرِ، فأقيموها تامَّةً أربعاً.
وقوله تعالى: كِتاباً مَوْقُوتاً: معناه: منجَّماً في أوقاتٍ، هذا ظاهرُ اللفظ، ورُوِيَ عن ابْنِ عباس أنَّ المعنى: فَرْضاً مفْروضاً «٣»، فهما لفظانِ بمعنى واحد كرّر مبالغة.
(١) أخرجه البخاري (٨/ ١١٣) كتاب «التفسير»، باب وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً حديث (٤٥٩٩) والنسائي في «تفسيره» (١٤١) والحاكم (٢/ ٣٠٨) والبيهقي (٣/ ٢٥٥). وزاد السيوطي نسبته في «الدر» (٢/ ٢١٤) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٧).
(٣) ابن عطية (٢/ ١٠٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٨٠)، وعزاه لابن أبي حاتم.

[سورة النساء (٤) : آية ١٠٤]

وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ: أي: لا تَلِينُوا وتَضْعُفوا يُقَالُ: حَبْلٌ وَاهِنٌ، أيْ: ضعيفٌ ومنه: «وَهَنَ العَظْمُ» وابتغاءُ القَوْمِ: طَلَبُهم، وهذا تشجيعٌ لنفوسِ المُؤْمنين، وتحقيرٌ لأمْر الكَفَرة، ثم تأَكَّد التشجيعُ بقوله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ، وهذا برهانٌ بَيِّنٌ، ينبغي بحَسَبِهِ أنْ تقوى نفوسُ المؤمنين، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٥]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥)
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ...
الآية: في هذه الآية تشريف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتفويضٌ إليه، وتقويمٌ أيضاً على الجادَّة في الحُكْم، وتأنيبٌ مَّا على قبولِ ما رُفِعَ إلَيْه في أمْر بَنِي أُبيْرِقٍ بِسُرْعَةٍ.
وقولُهُ تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ: معناه: على قوانينِ الشَّرْعِ إمَّا بوَحْيٍ ونَصٍّ أو نَظَرٍ جارٍ على سَنَنِ الوحْي، وقد تضمَّنَ اللَّه تعالى لأنبيائه العِصْمَةَ.
وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً، قال الهَرَوِيُّ: خَصِيماً: أيْ:
مُخَاصِماً، ولا دَافِعاً. انتهى.
قال ع «١» : سببها، باتفاق من المتأولين: أمْرُ بني أُبَيْرِقٍ، وكانوا إخْوَةً: بِشْرٌ، وبَشِيرٌ، وَمُبَشِّر، وطُعَيْمَةُ، وكان بَشِيرٌ رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وينحل الشِّعْر لغيره، فكان المسلمونَ يَقُولُونَ: واللَّهِ، ما هو إلاَّ شِعْرُ الخَبِيثِ، فقال شعراً يتنصَّل فيه فَمِنْهُ قوله: [الطويل]
أَفِي كُلِّ مَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَة... نُحِلْتُ، وَقَالُوا: ابن الأُبَيْرِقِ قَالَهَا
قال قتادةُ بنُ النُّعْمَانِ: وكان بَنُو أُبَيْرِقٍ أهْلَ فَاقَةٍ، فابتاع عَمِّي رِفَاعَةُ بن زيد «٢» حملا
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٨).
(٢) رفاعة بن زيد: ابن عامر بن سواد بن كعب، وهو ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاريّ الظفريّ، عم قتادة بن النّعمان.
روى الترمذي والطّبريّ، من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، قال:
كان أهل بيت منّا يقال لهم بنو أبيرق، فابتاع عمّي رفاعة بن زيد جملا من الدرمك، فجعله في مشربة له، فعدا عليه من تحت الليل، فذكر الحديث بطوله في نزول قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: ١٠٥] وفي آخره قال قتادة: فأتيت عمي بسلاحه، وكان قد عشا في الجاهلية، وكنت أظنّ-
295
مِنْ دَرْمَكِ الشِّامِ، فجعله في مَشْرُبَةٍ له، وفي المَشْرُبَةِ دِرْعَانِ له، وسَيْفَانِ، فَعُدِيَ على المَشْرُبَةِ من اللَّيْلِ، فلما أصْبَحَ، أتانِي عَمِّي رفاعة، فقال: يا ابن أَخِي، أتعلَمُ أنه قَدْ عُدِيَ علَيْنا في لَيْلَتِنَا هذه، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، وذُهِبَ بطَعَامِنَا، وسِلاَحِنا، قال: فتحسَّسْنا في الدَّار، وسألنا، فَقِيلَ لنا: قد رأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقدوا نَاراً في هذه الليلةِ، ولاَ نُرَاهُ إلاَّ على بعض طعامِكُمْ، قال: وقد كان بَنُو أُبَيْرِقٍ قالُوا، ونَحْنُ نَسْأَلُ: وَاللَّهِ، مَا نرى صَاحِبَكُمْ إلاَّ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ «١»، رَجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاَحٌ وإسْلاَمٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ لَبِيدٌ، فاخترط سَيْفَهُ، ثُمَّ أتى بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، فَقَالُوا: إلَيْكَ عنّا، أيّها الرّجل، فو الله، مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي:
يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بهذه القصّة، فأتيته صلّى الله عليه وسلّم، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: انظر فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ «٢»، فكلَّموه في ذلكَ، واجتمع إلَيْهِ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الدارِ، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ رِفَاعَةَ عَمَدَا إلى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمِيَانِهِمْ بِالسَّرِقَةِ على غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال قَتَادةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ:
عَمَدتَّ إلى أَهْلِ بَيْتٍ، ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ، فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال:
فَرَجَعْتُ، وَقَدْ وَدِدتُّ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، فَأَتَيْتُ عَمِّي، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ القُرآن:
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ... الآيات، قال: فالخائنون: بنو أبيرق، والبريء المرميّ
- إسلامه مدخولا، قال: فلما أتيته به قال: يا بن أخي، هو في سبيل الله، فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحا.
قال التّرمذيّ: غريب تفرد محمد بن سلمة بوصله، ورواه غيره مرسلا، ورواه الواقديّ من طرق عن محمود بن لبيد، فذكر القصة مطولة فزاد ونقص.
ينظر: «الإصابة» (٢/ ٤٠٧)، «تبصير المنتبه» (٣/ ٨٥١)، «الجرح والتعديل» (٣/ ٢٢٣٣)، «الأعلمي» (١٨/ ٢٦٣)، «أسد الغابة» ت (١٦٨٨)، «الاستيعاب» ت (٧٧٧). [.....]
(١) لبيد بن سهل بن الحارث بن عروة بن رزاح بن ظفر الأنصاري. وقال ابن عبد البرّ: لا أدري هو من أنفسهم أو حليف لهم. انتهى.
وقد نسبه ابن الكلبيّ إلى القبيلة كما ترى، لكن قال العدوي: إنه وهم من ابن الكلبي وإنما هو أبو لبيد بن سهل- رجل من بني الحارث بن مازن بن سعد العشيرة من حلفاء الأنصار.
ينظر: «أسد الغابة» ت (٤٥٢٨)، «الإصابة» (٥/ ٥٠٤)، «الاستيعاب» ت (٢٢٦١).
(٢) أسير بن عروة بن سواد بن الهيثم بن ظفر الأنصاري الظّفري. قال ابن القداح: شهد أحدا والمشاهد بعدها، واستشهد بنهاوند.
ينظر: «الإصابة» (١/ ٢٣٧)، «الثقات» (٣/ ١٥)، «أسد الغابة» ت (٦٧٧)، «الاستيعاب» ت (٦٣).
296
لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، والطائفةُ التي هَمَّتْ أُسَيْرٌ وأصحابُهُ «١».
قال ع «٢» : قال قتادة وغَيْرُ واحدٍ: هذه القصَّة ونحوها إنما كان صاحبُها طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، ويقال فيه: طُعَيْمَةُ.
قال ع «٣» : وطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِق صرَّح بعد ذلك بالاِرتدادِ، وهَرَبَ إلى مكَّة، فرُوِيَ أنه نَقَبَ حائطَ بَيْتٍ ليسرقه، فانهدم الحائطُ عليه، فقَتَلَه، ويروى أنه اتبع قوماً من العرب، فسرقهم، فقتلوه «٤».
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٦]
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦)
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، ذهب «٥» الطبريُّ إلى أنَّ المعنَى: استغفر مِنْ ذَنْبِكَ في خِصَامِكَ للنَّاس.
قال ع «٦» : وهذا ليس بذَنْبٍ لأنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما دَافَعَ عن الظاهرِ، وهو يعتقدُ براءتهم، والمعنى: واستغفر للمؤْمنينَ مِنْ أمَّتك، والمتخاصِمِينَ بالباطل، لا أنْ تكون ذا جدالٍ عنهم، وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ، فَكثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُوَم مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: «سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»، رواه أبو داود والتِّرمذيُّ والنسائِيُّ والحاكمُ وابنُ حِبَّانَ في «صحيحيهما»، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ «٧»، ورواه النسائيُّ والحاكمُ أيضاً مِنْ طُرُق عن عائشة...
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٦٥) برقم (١٠٤١٦)، ذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٤٧٧)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٠٩)، والسيوطي في «الدر» (٢/ ٣٨٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٩).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٠٩).
(٤) ذكره ابن عطية (٢/ ١٠٩).
(٥) ينظر الطبري (٢/ ٢٦٥).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١١٠).
(٧) أخرجه الترمذي (٥/ ٤٩٤)، كتاب «الدعوات»، باب ما يقول إذا قام من المجلس، حديث (٣٤٣٣)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٠٥- ١٠٦) كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، حديث (١٠٢٣٠)، والحاكم (١/ ٥٣٦- ٥٣٧)، وابن حبان (٢٣٦٦- موارد)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ١٢٩- بتحقيقنا)، كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. -
وغيرها «١». انتهى من «السلاح».
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٧]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧)
وقوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
، لفظ عامٌّ يندرج تحته أصحابُ النازلةِ، ويتقرَّر به توبيخُهُمْ، وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
: رفْقٌ وإبقاءٌ فإن الخَوَّان هو الذي تتكرَّر منه الخيانَةُ كَطُعَيْمَةَ بْنِ الأُبَيْرِقِ، والأَثِيمُ هو الذي يَقْصِدُها، فيخرج من هذا التشديدِ السَّاقط مرةً واحدةً، ونحو ذلك، واختيان الأَنْفُسِ هو بما يَعُودُ عليها من الإثْمِ والعقوبةِ في الدنيا والآخرة.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٨]
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨)
وقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ...
الآية: الضميرُ في «يستخفون» للصِّنْفِ المرتكبِ للمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العموم أهْلُ الخيانةِ في النازلة المذكورةِ، وأهْلُ التعصُّب لهم، والتّدبير في خدع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والتلبيسِ عليه، ويحتملُ أَنْ يكونَ الضميرُ لأَهْلِ هذه النازلةِ، ويدْخُلُ في معنى هذا التوبيخِ كلُّ من يفعل نَحْوَ فعلهم، قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة، والحِكمِ الحقيقيَّة» : النفوسُ المرتكبةُ للمحارِمِ المحتقبَةُ للمآثِمِ، والمَظَالِمِ شبيهةٌ بالأراقم، تملأ أفواهَهَا سُمًّا، وتقصدُ مَنْ تقذفُهُ عَلَيْه عدواناً وظلماً، تجمعُ في ضمائرها سُمُومَ شُرُورِهَا وضَرَرها، وتحتالُ/ لإلقائها على الغافَلَينَ عَنْ مكائدهَا وخُدَعِهَا. انتهى.
ومعنى: وَهُوَ مَعَهُمْ
، بالإحَاطَةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، ويُبَيِّتُونَ
: يدبِّرون لَيْلاً، ويحتمل أنْ تكون اللفظة مأخوذةً من البَيْت، أي: يستَتِرُونَ في تَدْبِيرِهمْ بالجُدُرَاتِ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١)
- وصححه أيضا ابن حبان.
وللحديث شاهد من حديث عائشة، أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦/ ١٠٦) كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، حديث (١٠٢٣١).
(١) ينظر الحديث السابق.
وقوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
: خطابٌ للقوم الذين يَتَعَصَّبون لأَهْلِ الرَّيْبِ والمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العمومِ أهْلُ النازلةِ، وهو الأظهرُ عنْدِي بحُكْم التأكيدِ بهؤلاءِ، وهِيَ إشارةٌ إلى حاضِرِينَ، ومِن «مصابيح البَغَوِّي» عن أبي داود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ، حتى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» «١»، ويروى: «مَنْ أَعَانَ على خُصُومَةٍ لاَ يَدْرِي أَحَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ، فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حتى يَنْزِعَ». انتهى.
وقوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ...
الآية: وعيدٌ محْضٌ، ولمَّا تمكَّن هذا الوعيدُ، وقَضَتِ العقولُ بأنْ لا مجادِلَ للَّهِ سبحانَهُ، ولا وَكِيلَ يقُومُ بأمْر العُصَاة عنده، عَقَّبَ ذلك بهذا الرَّجَاء العظيمِ، والمَهَلِ المنفسحِ، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ...
الآية، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
، ذهب بعضُ النَّاسِ إلى أنهما لفظانِ بمعنًى، كُرِّرَ لإختلافِ اللفْظِ، وقال الطَّبَرِيُّ «٢» : إنما فَرَقَ بين الخطيئَةِ والإثْم لأنَّ الخطيئة تكُونُ عَنْ عَمْدٍ، وعن غير عَمْدٍ، والإثمُ لا يكُونُ إلا عَنْ عمد، وهذه الآية لفظها عامٌّ، ويندرجُ تحْتَ ذلك العمومِ أهْلُ النازلةِ المَذْكُورة، وبَرِيءُ النَّازِلَةِ، وهو لَبِيدٌ، كما تقدَّم، أيْ: ويتناولُ عمومُ الآية كلَّ بريءٍ.
وقوله: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
: تشبيهٌ، إذ الذنوبُ ثِقْلٌ ووِزْرٌ، فهي كالمحمولات، وبُهْتاناً
: معناه: كَذِباً، ثم وقَفَ اللَّه تعالى نبيَّه على مقدارِ عِصْمَتِهِ له، وأنها بفَضْل منه
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٣٢٩)، كتاب «الأقضية»، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها، حديث (٣٥٩٧)، وأحمد (٢/ ٧٠)، والحاكم (٢/ ٢٧) كلهم من طريق عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد عن عبد الله بن عمر مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٢) ينظر الطبري (٤/ ٢٧٤).
سُبْحَانه ورَحْمَتِهِ.
وقوله تعالى: لَهَمَّتْ
: معناه: لَجَعَلَتْهُ همَّها وشُغُلَها، حتى تنفذه وهذا يدلُّ على أنَّ الألفاظ عامَّة في غير أهْل النَّازلة، وإلاَّ فأهْلُ التعصُّب لبني أُبَيْرِقٍ قد وقَع هَمُّهم وثَبَت، ثم أخبر تعالى أنهم لا يضلُّون إلاَّ أنفسهم، وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شيء، قُلْتُ: ثم ذكر سبحانه ما أنعم بِهِ على نبيه مِنْ إنزالِ الكتابِ، والحِكْمَةِ، وتعليمِهِ ما لم يكُنْ يعلم، قال ابنُ العربيِّ في رحلته: اعلم أنَّ علومَ القُرآنِ ثلاثةُ أقْسَامٍ: تَوْحِيدٌ، وتَذْكِيرٌ، وأَحْكَامٌ، وعلْم التذكيرِ هو معظم القُرآن، فإنه مشتملٌ علَى الوَعْد والوَعِيدِ، والخَوْف والرجاء، والقُرَبِ وما يرتبط بها، ويدْعو إليها ويكُونُ عنها، وذلك معنًى تَتَّسِعُ أبوابه، وتمتدُّ أطنابه. انتهى، وباقِي الآيةِ وعْدٌ كريمٌ لنبيِّهِ- عليه السلام-، وتقريرٌ نعمه لدَيْه سبحانه، لا إله غيره.
[سورة النساء (٤) : آية ١١٤]
لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤)
وقوله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ... الآية: الضَّمِيرُ في نَجْواهُمْ: عائدٌ على النَّاس أجمع، وجاءَتْ هذه الآياتُ عامَّةَ التناولِ، وفي عمومهَا يندرجُ أصحابُ النَّازلة، وهذا من الفَصَاحة والإيجازِ المُضَمَّنِ الماضِي والغابر في عبارةٍ واحدةٍ، قال النوويُّ/ ورُوِّينا في كتابَيِ «الترمذيِّ» و «ابن ماجة»، عن أمِّ حَبِيبَة «١» (رضي اللَّه عنها)، عنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَال: «كُلَّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ إلاَّ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، أوْ نَهْياً عَنْ منكر، أو ذكرا لله تعالى» «٢». انتهى.
(١) هي: رملة بنت أبي سفيان (صخر) بن حرب بن أمية بن عبد شمس.. أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها القرشية الأموية. أمها: صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان. ميلادها: ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاما.
قال ابن الأثير في «الأسد» : كانت من السابقين إلى الإسلام، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله (بن جحش) فولدت هناك حبيبة فتنصر عبيد الله ومات بالحبشة نصرانيا، وبقيت أم حبيبة مسلمة بأرض الحبشة، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطبها إلى النجاشي..
قال ابن إسحاق: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب بنت خزيمة الهلالية.
توفيت رحمها الله سنة (٤٤).
تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (٧/ ١١٤، ٣١٥)، «الإصابة» (٨/ ٨٤، ٢٢٢)، «الثقات» (٣/ ١٣١)، «بقي بن مخلد» (٥٢)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٢٦٨)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٦٢٠)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ٤١٩)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٨٣)، «أعلام النساء» (١/ ٣٩٧)، «الكاشف» (٣/ ٤٧١). [.....]
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٠٨)، كتاب «الزهد»، باب (٦٢)، حديث (٢٤١٢)، وابن ماجه (٢/ ١٣١٥)، -
والنَّجْوَى: المسارَّة، وقد تسمى بها الجماعةُ كما يقال: قَوْمٌ عَدْلٌ، وليستِ النجوى بمَقْصُورةٍ على الهَمْسِ في الأُذُنِ، والمعروفُ لفظ يعمُّ الصدَقَةَ والإصلاحَ وغيرهما، ولكنْ خُصَّا بالذِّكْر اهتماماً إذ هما عظيمَا الغَنَاءِ في مَصَالحِ العبادِ، ثم وعد تعالى بالأجر العظيم على فعل هذه الخيرات بنيّة وقصد لرضا الله تعالى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٥ الى ١١٦]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦)
وقوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ... الآية: لفْظٌ عامٌّ نزَلَ بسببِ طُعْمَة بْنِ أُبَيْرِقٍ لأنه ارتدَّ وسار إلى مكَّة، فاندرجَ الإنحاءُ علَيْهِ فِي طَيِّ هذا العمومِ المتناوِلِ لمَنِ اتصف بهذه الصفاتِ إلى يوم القيامة.
وقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى: وعيدٌ بأنْ يترك مع فاسِدِ اختيارِهِ في تودُّد الطاغوتِ، ثم أوجَبَ تعالى أنه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩)
وقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً... الآية:
الضميرُ في يَدْعُونَ: عائدٌ على مَنْ ذكر في قوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: ١١٥]، و «إنْ» : نافيةٌ بمعنى «ما»، ويدعون: عبارةٌ مغنيةٌ موجزةٌ في معنى: يعبدون ويتخذُونَ آلهة، قُلْتُ: وفي «البخاريِّ» إِلَّا إِناثاً: يعني المَوَاتَ حَجَراً ومدَراً، وما أشبهه. انتهى، وفي مُصْحَف «١» عائشَةَ: «إلاَّ أوثَاناً» ونحوه عن ابنِ عَبَّاس «٢»، والمرادُ بالشّيطان هنا
- كتاب «الفتن»، باب كف اللسان في الفتنة، حديث (٣٩٧٤) كلاهما من طريق محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت سعيد بن حسان المخزومي قال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة به.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس.
(١) ينظر: «الشواذ» ص (٣٥)، و «الكشاف» (١/ ٥٦٦)، و «المحرر الوجيز» (٢/ ١١٣)، و «البحر المحيط» (٣/ ٣٦٧)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٢٧).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٧٩) برقم (١٠٤٤٧)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٤٨١)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١١٣).
إبليسُ قاله الجمهور، وهو الصوابُ لأنَّ سائر المقالة به تليق، ومَرِيداً: معناه:
متمرِّداً عاتياً صليباً في غوايته، وأصْلُ اللعْنِ: الإبعادُ، والمفروضُ: معناه: في هذا الموضعِ المُنْحَاز، وهو مأخوذٌ من الفرضِ، وهو الحَزُّ في العود وغيره.
قال ع «١» : ويحتملُ أنْ يريد واجباً إن اتَّخَذَهُ، وبَعْثُ النَّارِ هو نَصِيبُ إبْلِيسَ.
وقوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ... الآية: معنى أُضِلَّنَّهُمْ: أصرفُهُمْ عن طريقِ الهدى، وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لأسوِّلَنَّ لهم، وأَمَانِيُّهُ لا تنحصرُ في نَوْعٍ واحدٍ، والبَتْكَ: القَطْع.
وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ اختلف المتأوِّلون في معنى تَغْيير خَلْق اللَّه، ومِلاَكُ تفسير هذه الآية أنَّ كلَّ تغييرٍ ضَارٍّ، فهو داخلٌ في الآية، وكلّ تغييرٍ نافعٍ فهو مباحٌ، وفي «مختصر الطبريِّ» : فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، قال ابنُ عبَّاس: خَلْقَ اللَّهِ: دِينَ اللَّهِ، وعن إبراهيم، ومجاهدٍ، والحسن، وقتادَةَ، والضَّحَّاك، والسُّدِّيِّ، وابْنِ زَيْدٍ مثله «٢»، وفسَّر ابن زيد: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: ٣٠]، أيْ: لِدِينِ اللَّهِ، واختارَ الطبريُّ «٣» هذا القوْلَ واستدلِّ له بقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: ٣٠] وأَجاز أنْ يدخل في الآية كلُّ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ معاصيه، والتَّرْكِ لطاعته. انتهى، وهو حَسَنٌ.
قال ع «٤» : واللامَاتُ كلُّها للقَسَمِ.
قال ص: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ، مفعوله محذوفٌ، أي: عن الهدى وكذا:
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ، أي: الباطلَ وكذا وَلَآمُرَنَّهُمْ، أي: بالبَتْكِ، فَلَيُبَتِّكُنَّ وكذا:
وَلَآمُرَنَّهُمْ، أي: بالتغيير، فَلَيُغَيِّرُنَّ كُلَّ ما أوجده اللَّه للطَّاعَةِ فيستعينُونَ به في المَعْصِيَةِ.
انتهى.
ولما ذكر اللَّه سبحانه/ عُتُوَّ الشيطانِ، وما توعَّد بهِ منْ بَثِّ مَكْرِهِ، حَذَّر تبارك وتعالى عبادَهُ بأن شرط لمن يتّخذه وليّا جزاء الخسران.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١١٤).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٨٣) برقم (١٠٤٦٨)، (١٠٤٧٠، ١٠٤٧٧، ١٠٤٨٠، ١٠٤٨١)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٥٣٠)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١١٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٩٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ينظر الطبري (٤/ ٢٨٥).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١١٤).
وقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، أي: يعدُهُم بأباطِيلهِ من المالِ، والجاهِ، وأنْ لا بَعْثَ، ولاَ عِقَابَ، ونَحْوِ ذلك لكلِّ أحدٍ مَّا يليقُ بحاله، ويمنِّيهم كذلك، ثم ابتدأ سبحانه الخَبَرَ عن حقيقةِ ذَلِكَ بقوله: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ثم أخْبَرَ سبحانه بمَصِيرِ المتَّخِذِينَ الشَّيْطَان وَليًّا، وتوعَّدهم بأنَّ مأُوَاهُمْ جهنَّم، لا يدافعونها بحيلة، ولا يتروّغون، ومَحِيصاً: مِنْ حَاصَ إذَا رَاغَ ونَفَرَ ومنه قولُ الشَّاعر: [الطويل]
وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنَا مِنَ المَوْتِ حَيْصَة كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمدى مُتَطَاوِلُ «١»
ومنْه الحديثُ: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ»، ولما ذكر سبحانه ما تقدَّم من الوعيد، واقتضى ذلك التحذيرَ، عقَّبَ ذلك عزَّ وجلَّ بالترغيبِ في ذِكْره حالةَ المُؤْمنين، وأعْلَمَ بصحَّة وعده، ثم قرَّر ذلك بالتَّوْقِيفِ علَيْه في قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، والقيلُ والقَوْلُ واحد، ونصبه على التمييز.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٣]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣)
وقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ... الاية: الأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، وهي ما يتشهَّاهُ المَرْءُ، ويُطَمِّعُ نفسه فيه، قال ابنُ عبّاس وغيره: الخطاب لأمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٢» وفي «مختصرِ الطبريِّ»، عن مسروقٍ وغيره، قال: احتجَّ المسلمونَ وأهْلُ الكتابِ، فقال المسلمون: نَحْنُ أهدى، وقال أهْلُ الكتابِ: نَحْنُ أهدى، فأنزل اللَّه هذه الآية «٣»، وعن مجاهدٍ: قالتِ العربُ: لَنْ نُبْعَثَ، ولَنْ نُعَذَّبَ، وقالتِ اليهودُ والنصارى:
(١) البيت لجعفر بن علية الحارثي وقبله:
فقلنا لهم تلكم إذا بعد كرّة تغادر صرعى نوؤها متخاذل
ينظر: «ديوان الحماسة» (١/ ٨)، وينظر: «البحر المحيط» (٣/ ٣٦٤)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٢٨).
وإن حصنا أي: إن عدلنا وانحرفنا عن الموت، يقول: لم ندر إن حدنا عن القتال الذي فيه الموت، وعدلنا عنه، كم يكون بقاؤنا؟! فلم نحيد ونرتكب العار؟! ولعلنا إن تركنا القتال لم نعش إلا قليلا.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٨٨) برقم (١٠٥٠١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١١٦).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٨٧) برقم (١٠٤٩٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١١٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٩٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مسروق.
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «١» [البقرة: ١١١]، وقالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠]، قال الطبريُّ «٢» : وقول مجاهدٍ أولى بالصواب، وذلك أنَّ المسلمين لم يَجْرِ لأمانيِّهم ذِكْرٌ فيما مضى من الآيِ، وإنما جرى ذكْرُ أمانيِّ نصيبِ الشَّيْطَانِ. انتهى.
وعليه عَوَّل ص: في سبب نزولِ الآية، أعني: على تأويل مجاهد.
وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ.
قال جمهورُ النَّاس: لفظ الآية عَامٌّ، فالكافر والمؤمنُ مُجَازًى، فأما مجازاة الكافر، فالنّار، وأما مجازاة المؤمِنِ، فبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا فَمَنْ بقي له سُوءٌ إلى الآخرة، فهو في المشيئة يغفر اللَّه لمن يشاء، ويجازي من يشاء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥)
وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، دخلَتْ «من» للتبعيض إذا الصالحاتُ على الكمالِ ممَّا لا يطيقُهُ البَشَر ففِي هذا رفْقٌ بالعبادِ، لكنْ في هذا البَعْضِ الفرائضُ، وما أمْكَنَ من المندوبِ إلَيْهِ، ثم قَيَّد الأمر بالإيمان إذ لا ينفعُ عمَلٌ دونه، والنَّقِيرُ: النُّكْتَةُ التي في ظَهْر النَّواة ومنه تَنْبُتُ، وعن ابن عبَّاس: ما تَنْقُرُهُ بأصبعِكَ «٣».
ثم أخبر تعالى إخباراً موقفاً على أنه لا أحسن ديناً مِمَّن أسلم وجْهَهُ للَّه، أي: أخلَص مَقْصِدَهُ وتَوَجُّهَهُ، وأحْسَنَ في أعماله، واتبع الحنيفيَّةَ ملَّةَ إبراهيمَ إمامِ العالَمِ، وقُدْوَةِ الأديانِ، ثم ذكَر سبحانه تشريفَهُ لنبيِّه إبراهيم- عليه السلام- باتخاذه خليلاً، وسمَّاه خليلاً إذ كان خُلُوصه، وعبادتُه، واجتهاده على الغايةِ الَّتي يجري إلَيْها المحبُّ المبالغ، وذهب قوم إلى أنهُ سُمِّي خليلاً من «الخَلَّة» - بفتح الخاء-، أي: لأنه أنزل خَلَّته وفاقته باللَّه تعالى، وكذلك شَرَّف اللَّه نبيَّنا محمداً صلّى الله عليه وسلّم/ بالخَلَّة كما هو مصرَّح به في الحديثِ الصحيح.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٦]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٢٨٩) برقم (١٠٥٠٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١١٦).
(٢) ينظر الطبري (٤/ ٢٩٠).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره». [.....]
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ... الآية: ذكر سبحانه سَعَة ملكه وإحاطته بكل شيء، عَقِبَ ذكْر الدِّين، وتبيينِ الجادَّة منه ترغيباً في طاعته والانقطاع إليه سبحانه.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٧]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ... الآية: معنى قوله:
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ: أي: يبيِّن لكم حكم ما سألتم عنه.
قال «١» ع: تحتملُ «ما» أنْ تكونَ في موضع رفعٍ عطفاً على اسمِ اللَّهِ عزَّ وجل، أي: ويفتيكم ما يتلى عليكم في الكتابِ، يعني: القُرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدَّم من الآية في أمْر النِّساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ... [النساء: ٣] الآية، قالت عائشةُ: نزلت هذه الآية أوَّلاً، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَمْر النساءِ، فنزلَتْ، وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ... الآية.
وقوله تعالى: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ: معناه: النهْيُ عما كانَتِ العربُ تفْعَلُه من ضَمِّ اليتيمة الجميلةِ بدُونِ ما تستحقُّه من المَهْر، ومِنْ عَضْلِ الدميمةِ الغنيَّة حتى تموتَ، فيرثها العاضلُ، والذي كَتَبَ اللَّه لهنَّ هو توفيةُ ما تستحقُّه مِنْ مَهْرٍ.
وقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، أي: إنْ كانت الجاريةُ غنيَّةً جميلةً، فالرغبةُ في نكاحِهَا، وإن كانَتْ بالعَكْس، فالرغبة عَنْ نكاحها.
وقوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عَطْفٌ على «يتامى النساء»، والَّذي يتلى في المستَضْعَفِينَ مِنَ الولدان هو قولُهُ تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ... [النساء: ١١] الآية وذلك أن العرب كانَتْ لا تورِّثُ الصَّبِيَّةَ، ولا الصبيَّ الصغيرَ، ففرضَ اللَّه تعالى لكلِّ واحدٍ حقَّه.
وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ: عطْفٌ أيضاً على ما تقدَّم، والذي تُلِيَ في هذا المعنى هو قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ... [النساء: ٢] الآية،
(١) ينظر «المحرر الوجيز» (٢/ ١١٨).
إلى غَيْر ذلك ممَّا ذُكِرَ في مال اليتيم، والقسط: العدل، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٨]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨)
وقوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً... الآية: هذه الآيةُ حُكْمٌ من اللَّه تعالى في أمْرِ المرأةِ الَّتِي تكُونُ ذاتَ سِنٍّ ونَحْو ذلك ممَّا يرغَبُ زوجُها عَنْها، فيعرض عليها الفُرْقَة أو الصَّبْر على الأَثَرة، فتُرِيدُ هي بَقَاءَ العِصْمة، فهذه التي أَبَاحَ اللَّه بينهما الصُّلْحَ ورَفَعَ الجُنَاحَ فيه.
واختلف في سَبَبِ نزولِ الآية، فقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ: نزلَتْ في النبيِّ- عليه السلام- وسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ «١» وفي المصنَّفات: أن سَوْدَةَ لما كَبِرَتْ، وَهَبَتْ يومها لعائشة «٢»، وقال ابنُ المُسَيَّب وغيره: نزلت بسبب رافع بن خديج «٣»...
(١) هي: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، أم المؤمنين. القرشية. العامرية رضي الله عنها.
قال ابن الأثير: تزوجها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد وفاة خديجة قبل عائشة. قاله عقيل عن الزهري.. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة توفيت آخر خلافة عمر سنة (٥٤).
تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (٧/ ١٥٧)، «الإصابة» (٨/ ١١٧)، «الثقات» (٣/ ١٨٣)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٢٨٠)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٦٠١)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ٤٢٦)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٨٦)، «أعلام النساء» (٢/ ٢٦٧)، «السمط الثمين» (١١٧)، «الدر المنثور» (٢٥٢)، «الاستيعاب» (٤/ ١٨٦٧)، «الكاشف» (٣/ ٤٧٣).
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٤٩)، كتاب «التفسير»، باب سورة النساء، حديث (٣٠٤٠)، وأبو داود الطيالسي (١٩٤٤)، والطبري في «تفسيره» (١٠٦٠٨)، والبيهقي (٧/ ٢٩٧) كتاب «القسم والنشوز»، باب ما جاء في قول الله عز وجل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً.. ، والطبراني في «الكبير» (١١/ ٢٨٤) رقم (١١٧٤٦)، كلهم من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً... ، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤١٠)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
وللحديث شواهد أخرى عن عائشة.
(٣) هو: رافع بن خديج بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس... أبو عبد الله. أبو خديج. الأنصاري. الأوسي. الحارثي أمه: حليمة بنت مسعود بن سنان. عرض نفسه يوم بدر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرده لصغره، ثم أجازه يوم أحد فشهد أحد وأصيب بها، ثم الخندق وأكثر المشاهد، وشهد صفين مع علي، واستوطن المدينة، وكان عريف قومه-
306
وامرأتِهِ خَوْلَةَ «١»، وقال مجاهدٌ: نزلَتْ بسبب أبي السَّنَابِلِ «٢» وامرأتِهِ «٣»، ولفظُ ابنِ العربيِّ في «أحكامه» «٤» : قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً... الآية:
قالَتْ عائشةُ (رضي اللَّه تعالى عنها) : هِيَ المرأَةُ تكُونُ عند الرجُلِ ليس بمستكْثِرٍ منها يريدُ أنْ يفارقَهَا، فتقولُ لَهُ: أجعلُكَ مِنْ شأنِي في حِلٍّ، فنزلَتِ الآية، قال الفقيهُ أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: فرضوانُ اللَّه علَى الصِّدِّيقة المُطَهَّرة، لَقَدْ وفَّتْ بما حَمَّلها ربُّها من العَهْد في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: ٣٤] انتهى.
وقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظٌ عامٌّ مطلقٌ يقتضي أنَّ الصُّلّحَ الحقيقيَّ الذي تسكن إلَيْه النفوسُ، ويزولُ به الخلافُ خَيْرٌ على الإطلاق، ويندرج تحْتَ هذا العموم أنَّ صُلْحَ الزوجَيْن/ على ما ذكرنا- خيرٌ من الفُرْقَة.
وقوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معذرةٌ عن عَبِيدِهِ تعالى، أي: لا بُدَّ للإنسان بحُكْم خلقته وجِبِلَّتهِ من أنْ يشحَّ على إرادته حتى يَحْمِلَ صاحبه على بعض ما يكره، وخصَّص المفسِّرون هذه اللفظة هنا.
- إلى أن مات بها. وصلّى عليه ابن عمر. توفي سنة (٧٤) وله (٨٦ سنة).
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ١٩٠)، «الإصابة» (٢/ ١٨٦)، «الثقات» (٣/ ١٢١)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ١٧٣)، «الاستيعاب» (٢/ ٤٧٩)، «العبر» (١/ ٨٣)، «الاستبصار» (٢٤٠)، «عنوان النجابة» (٨٠)، «الكاشف» (١/ ٣٠)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ٥٠)، «الرياض المستطابة» (٦٩).
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٣٠٧) برقم (١٠٦٠٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤١١)، وعزاه للشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن سعيد بن المسيب.
(٢) أبو السنابل بن بعكك: بموحدة ثم مهملة ثم كافين، بوزن جعفر، ابن الحارث بن عميلة، بفتح أوله، ابن السباق، ابن عبد الدار القرشي العبدري، واسمه صبّة، بموحدة، وقيل: بنون.
قال البغويّ: سكن الكوفة، وقال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: روى عنه الأسود بن يزيد النخعي، وزفر بن أوس بن الحدثان النصري.
وقال ابن سعد وغيره: أقام بمكة حتى مات، وهو من مسلمة الفتح، وأخرج حديثه التّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجة، كلّهم من رواية منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنه في قصة سبيعة.
ينظر: «الإصابة» (٧/ ١٦١)، «الكنى والأسماء» (٣٢١١)، «تفسير الطبري» (٩/ ١٠٦٠١)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ١٢١)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٤٣١).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٠٨) برقم (١٠٦٠٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ١١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤١٢)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٥٠٣).
307
فقال ابنُ جُبَيْر: هو شُحُّ المرأة بالنفقة مِنْ زوجها، وبقَسْمه لها أيامَها «١».
وقال ابن زَيْد: الشحُّ هنا منه وَمِنْها قال ع «٢» : وهذا حسنٌ.
والشُّحُّ: الضبط على المعتَقَدَاتِ، وفي الهمم، والأموالِ، ونحو ذلك، فما أفرط منه، ففيه بعض المذمَّة، وهو الذي قال تعالى فيه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: ٩]، وما صار إلى حيِّزِ مَنْعِ الحقوقِ الشرعيَّة، أو الَّتي تقتضِيَها المروءةُ، فهو البُخْل، وهي رذيلةٌ، لكنها قد تكُونُ في المؤمِنِ ومنه الحديثُ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ المُؤْمِنُ بَخِيلاً؟
قَالَ: نَعَمْ»
، وأما الشُّحُّ، ففي كلِّ أحد، وينبغي ألاَّ يفرط إلاَّ على الدِّين ويدلُّك على أنَّ الشُّحَّ في كلِّ أحد قولُهُ تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، وقوله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: ٩]، فقد أثبَتَ أنَّ لكل نفسٍ شُحًّا، وقول النبيِّ- عليه السلام-: «وَأَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» «٣»، وهذا لم يُرِدْ به واحداً بعينه، وليس يجمُلُ أنْ يقال هنا:
أنْ تَصَدَّقَ، وَأَنتَ صحيحٌ بخيلٌ.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا: ندْبٌ إلى الإحسان في تحسين العِشْرة، والصَّبْرِ على خُلُقِ الزوجة، وَتَتَّقُوا: معناه: تتقوا اللَّه في وصيَّته بهنَّ إذ هنّ عوان عندكم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٩]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)
وقوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا... الآية: معناه: العدل التامّ على
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣١٠) برقم (١٠٦٢٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٠).
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٣٣٤) في الزكاة: باب فضل صدقة الشحيح (١٤١٩)، و (٥/ ٤٣٩- ٥٤٠) في الوصايا: باب الصدقة عند الموت (٢٧٤٨)، ومسلم (٢/ ٧١٦) في الزكاة: باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (٩٢- ٩٣/ ١٠٣٢)، وأبو داود (٢/ ١٢٦) في الوصايا: باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (٢٨٦٥)، والنسائي (٥/ ٦٨) في الزكاة: باب أي الصدقة أفضل، و (٦/ ٢٣٧) في الوصايا: باب الكراهية في تأخير الوصية، وابن ماجة (٢/ ٩٠٣) في الوصايا: باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت (٢٧٠٦)، والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (٧٨٦)، وأحمد (٢/ ٢٣١، ٤١٥، ٤٤٧)، وابن خزيمة (٤/ ١٠٣)، برقم (٢٤٥٤)، والبيهقي (٤/ ١٩٠)، والبغوي (٣/ ٤٢٣) برقم (١٦٦٥) من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟... فذكره.
الإطلاق، والمستوِي في الأفعالِ، والأقوالِ، والمحبَّة، والجِمَاعِ، وغير ذلك، «وكان صلّى الله عليه وسلّم يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ، وَلاَ أَمْلِكُ» «١».
فوصف اللَّه سبحانه حالة البَشَر أنهم بحُكْم الخِلْقَةِ لا يملكُونَ مَيْلَ قلوبهم إلى بعضِ الأزواج، دون بعضٍ، ثم نهى سبحانه عن المَيْل كلَّ الميل، وهو أنْ يفعل فعلاً يقصِدُه من التفضيل، وهو يقدر ألاَّ يفعله، فهذا هو كلُّ المَيْل، وإن كان في أمر حقير.
وقوله سبحانه: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ، أي: لا هي أيّم، ولا ذات زوج، وجاء في التي قبل: وَإِنْ تُحْسِنُوا، وفي هذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا لأن الأولى في مندوب إليه، وفي هذه في لازم إذ يلزمه العدل فيما يملك.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٠]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
وقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ... الآية: إنْ شَحَّ كلُّ واحدٍ من الزوجَيْن، فلم يتصالحا، لكنهما تفرَّقا بطلاقٍ، فإن اللَّه تعالى يغنِي كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بفَضْلِهِ، ولطائِفِ صُنْعه في المالِ، والعِشْرة، والسَّعَة، وجَوْدِ المراداتِ، والتمكُّن منها، والواسعُ: معناه: الذي عنده خزائن كلّ شيء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣١ الى ١٣٣]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)
وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: تنبيهٌ على موضع الرجاءِ لهذَيْن المفترقَيْن، ثم جاء بعد ذلك قوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيهاً على استغنائه عن العباد، ومقدّمة للخبر بكونه غنيّا حميد، ثم جاء بعد
(١) أخرجه أبو داود (١/ ٦٤٨) في النكاح: باب في القسم بين النساء (٢١٣٤)، والترمذي (٣/ ٤٤٦) في النكاح: باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (١١٤٠)، وابن ماجة (١/ ٦٣٤) في النكاح: باب القسمة بين النساء (١٩٧١)، والنسائي في «عشرة النساء» (٧/ ٦٣- ٦٤) : باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، وأحمد (٦/ ١٤٤)، وابن أبي شيبة (٤/ ٣٨٦- ٣٨٧)، وابن حبان (١٣٠٥- موارد)، والحاكم (٢/ ١٨٧)، والبيهقي (٧/ ٢٩٨)، والدارمي (٢/ ١٤٤) من حديث عائشة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
309
ذلك قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مقدِّمة للوعيد، فهذه وجوهُ تَكْرَارِ هذا الخبرِ الواحدِ ثلاثَ مرَّاتٍ متقاربةٍ.
ت: وفي تمشيته هذه عندي نَظَرٌ، والأحْسَنُ بقاءُ الكلامِ على نَسَقِهِ فقوله (رحمه اللَّه) :«تَنْبِيه على مَوْضِعِ الرَّجَاءِ لهذين المفترقَيْن» - حَسَنٌ، وإنما الذي فيه قَلَقٌ ما بعده من توجيهه.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ... الآية: لفظٌ عامٌّ لكل مَنْ أوتيَ كتاباً، فإنَّ وصيَّته سبحانه لعباده لم تَزَلْ منذُ أوجَدَهُمْ.
ت: قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ «١» في «سِرَاجِ المُلُوكِ» /: ولما ضَرَبَ ابْنُ مُلْجِمٍ «٢» عليًّا (رضي اللَّه عنه)، أُدْخِلَ منزلَهُ، فاعترته غشيةٌ، ثم أفاقَ، فدعا أولاده
(١) هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي. الفهري. الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي ولد سنة ٤٥١ هـ ١٠٥٩ م وتوفي سنة ٥٢٠ هـ ١١٢٦ م، ويقال له: ابن أبي رندقة: أديب، من فقهاء المالكية، الحافظ. من أهل طرطوشة بشرقي الأندلس. تفقه ببلاده، ورحل إلى المشرق سنة ٤٧٦ فحج وزار العراق ومصر وفلسطين ولبنان، وأقام مدة في الشام، وسكن الإسكندرية، فتولى التدريس واستمر فيها إلى أن توفي. وكان زاهدا لم يتشبث من الدنيا بشيء. من كتبه: «سراج الملوك- ط» و «التعليقة» في الخلافيات، وكتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، و «بر الوالدين» و «الفتن» و «الحوادث والبدع» و «مختصر تفسير الثعلبي- خ» و «المجالس- خ» في الرباط.
ينظر: «الأعلام» (٧/ ١٣٣- ١٣٤)، و «وفيات الأعيان» (١/ ٤٧٩). [.....]
(٢) هو عبد الرّحمن بن ملجم المرادي التدؤلي الحميري توفي سنة ٤٠ هـ ٦٦٠ م: فاتك ثائر، من أشداء الفرسان. أدرك الجاهلية، وهاجر في خلافة عمر، وقرأ على معاذ بن جبل فكان من القراء وأهل الفقه والعبادة، ثم شهد فتح مصر وسكنها فكان فيها فارس بني تدؤل، وكان من شيعة علي بن أبي طالب وشهد معه صفين. ثم خرج عليه فاتفق مع «البرك» و «عمرو بن بكر» على قتل عليّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص، في ليلة واحدة (١٧ رمضان) وتعهد البرك بقتل معاوية، وعمرو بن بكر بقتل عمرو بن العاص، وتعهد ابن ملجم بقتل علي، فقصد الكوفة واستعان برجل يدعى شبيبا الأشجعي، فلما كانت ليلة ١٧ رمضان كمنا خلف الباب الذي يخرج منه عليّ لصلاة الفجر، فلما خرج، ضربه شبيب فأخطأه، فضربه ابن ملجم فأصاب مقدم رأسه، فنهض من في المسجد، فحمل عليهم بسيفه فأفرجوا له، وتلقاه المغيرة بن نوفل بقطيفة رمى بها عليه وحمله وضرب به الأرض وقعد على صدره.
وفر شبيب. وتوفي عليّ من أثر الجرح. وفي آخر اليوم الثالث لوفاته أحضر ابن ملجم بين يدي الحسن فقال له: والله لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار. فقال ابن ملجم: لو علمت أن هذا في يديك ما اتخذت إلها غيرك! ثم قطعوا يديه ورجليه، وهو لا ينفك عن ذكر الله. فلما عمدوا إلى لسانه شق ذلك عليه، وقال: وددت أن لا يزال في بذكر الله رطبا. فأجهزوا عليه، وذلك في الكوفة. وقيل: أحرق بعد قتله.
ينظر: «الأعلام» (٣/ ٣٣٩).
310
الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، ومحمَّداً، فقال: أوصيكُمْ بتقْوَى اللَّهِ فِي الغَيْبِ والشهادةِ، وكلمةِ الحقِّ في الرضَا والغَضَب، والقَصْدِ في الغنى والفَقْر، والعَدْلِ عَلَى الصديقِ والعَدُوِّ، والعملِ في النشاطِ والكَسَل، والرضا عن اللَّه في الشدَّة والرخَاءِ يا بَنِيَّ، ما شَرٌّ بعْدَهُ الجَنَّةُ بِشَرٍّ، وَلاَ خَيْرٌ بَعْدَهُ النَّارُ بِخَيْرٍ، وكلُّ نَعِيمٍ دُونَ الجَنَّةِ حَقِيرٌ، وَكُلُّ بَلاَءٍ دُونَ النَّارِ عافيةٌ، مَنْ أَبْصَرَ عَيْبَ نفسِهِ شُغِلَ عَنْ عَيْبِ غيره، ومَنْ رَضِيَ بقَسْم اللَّهِ لم يَحْزَنْ على ما فاته، ومَنْ سَلَّ سيْفَ بَغْيٍ قُتِلَ به، ومَنْ حَفَر لأخيهِ بِئْراً وقَعَ فيها، ومَنْ هَتَكَ حجابَ أخِيهِ، كَشَفَ اللَّهُ عوراتِ بَنِيهِ، ومَنْ نَسِيَ خطيئته، استعظم خَطِيئَةَ غَيْره، ومَنِ استغنى بعقله زَلَّ، وَمَنْ تكبَّر على الناس ذَلَّ، ومَنْ أُعْجِبَ برأْيه ضَلَّ. ومَنْ جالَسَ العلماء وُقِّرَ، ومَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ احتقر، ومَنْ دَخَل مَدَاخلَ السُّوء اتهم، ومَنْ مَزَحَ استخف بِهِ، ومَنْ أكْثَرَ مِنْ شيءٍ عُرِفَ به، ومَنْ كثُر كلامه كَثُرَ خَطَؤُهُ، ومن كثر خَطَؤُهُ قل حياؤه، ومن قَلَّ حياؤه قَلَّ ورعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ ماتَ قلبه، ومَنْ مات قلبه دخَلَ النار، يَا بَنِيَّ، الأدَبُ خَيْرُ ميراثٍ، وحُسْنُ الخُلُقِ خَيْرُ قَرِينٍ، يا بَنِيَّ، العافيةُ عَشَرَةُ أجزاءٍ: تسْعَةٌ منها في الصَّمْتِ إلاَّ عَنْ ذكر اللَّهِ، وواحدٌ في ترك مُجَالَسَةِ السُّفَهاء، يَا بَنِيَّ، زِينَةُ الفَقْر الصَّبْرُ، وزِينَةُ الغِنَى الشُّكْرُ، يا بَنِيَّ، لا شَرَفَ أعَزُّ من الإسلام، وَلاَ كَرَمَ أعَزُّ من التقوى، يا بَنِيَّ، الحِرْصُ مفتاحُ البَغْيِ، ومطيَّةُ النَّصَبِ، طوبى لمن أخْلَصَ للَّه عَمَلَهُ وعِلْمَهُ، وحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وأَخْذَهُ وتَرْكَهُ، وكَلاَمَهُ وَصَمْتَهُ، وقَوْلَهُ وفِعْلَهُ. انتهى.
والوكيلُ: القائمُ بالأمورِ، المُنَفِّذُ فيها ما رآه، وقوله: أَيُّهَا النَّاسُ: مخاطبةٌ للحاضرين مِنَ العَرَب، وتوقيفٌ للسامعين لتَحْضُرَ أذهانهم، وقوله: بِآخَرِينَ يريدُ مِنْ نوعكم، وتحتملُ الآيةُ أنْ تكُونَ وعيداً لجميعِ بَنِي آدم، ويكون الآخرونَ مِنْ غيرِ نَوْعِهِمْ كالملائكَةِ، وقولُ الطبريِّ «١» :«هذا الوعيدُ والتوبيخُ للشافِعِينَ والمُخَاصِمِينَ في قصَّة بَنِي أُبَيْرِقٍ» - بعيدٌ، واللفظ إنما يَظْهَرُ حُسْنُ رَصْفِهِ بعمومه وانسحابه على العَالَمِ جملةٌ، أو العالم الحاضر.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٥]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)
(١) ينظر الطبري (٤/ ٣١٨).
311
وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ... الآية:
أيْ: من كان لا مُرَادَ له إلاَّ في ثوابِ الدنيا، ولا يعتقدُ أنَّ ثَمَّ سواه، فليس كما ظَنَّ، بل عند اللَّه سبحانه ثوابُ الدارَيْنِ، فَمَنْ قَصَدَ الآخرة، أعطاه اللَّه مِنْ ثواب الدنيا، وأعطاه قَصْدَهُ، ومَنْ قَصَدَ الدنيا فقَطْ، أعطاه من الدنيا ما قَدَّرَ له، وكان له في الآخرة العَذَابُ، واللَّه تعالى سميعٌ للأقوال، بصيرٌ بالأعمال والنيَّات، وفي الحديث الصّحيح، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لامرىء ما نوى... » «١» الحديث، قال
(١) أخرجه البخاري (١/ ٩) كتاب «بدء الوحي»، باب كيف كان بدء الوحي، حديث (١)، (٥/ ١٩٠) كتاب «العتق»، باب الخطأ والنسيان، حديث (٢٥٢٩)، (٧/ ٢٦٧) كتاب «مناقب الأنصار»، باب هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث (٣٨٩٨)، (٩/ ١٧) كتاب «النكاح»، باب من هاجر أو عمل خيرا لتزوج امرأة فله ما نوى، حديث (٥٠٧٠)، (١١/ ٥٨٠) كتاب «الأيمان والنذور»، باب النية في الأيمان، حديث (٦٦٨٩)، (١٢/ ٣٤٢- ٤٣٤) كتاب «الحيل»، باب من ترك الحيل، حديث (٦٩٥٣)، ومسلم (٣/ ١٥١٥) كتاب «الإمارة»، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات»، حديث (١٥٥/ ١٩٠٧)، وأبو داود (٢/ ٦٥١)، كتاب «الطلاق»، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، حديث (٢٢٠١)، والنسائي (١/ ٥٨- ٥٩) كتاب «الطهارة»، باب النية في الوضوء، والترمذي (٤/ ١٧٩) كتاب «فضائل الجهاد»، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، حديث (١٦٤٧)، وابن ماجة (٢/ ١٤١٣) كتاب «الزهد»، باب النية، حديث (٤٢٢٧)، وأحمد (١/ ٢٥، ٤٣)، والحميدي (١/ ١٦- ١٧) برقم (٢٨)، وأبو داود الطيالسي (٢/ ٢٧- منحة) رقم (١٩٩٧)، وابن خزيمة (١/ ٧٣- ٧٤) برقم (١٤٢)، وابن حبان (٣٨٨، ٣٨٩- الإحسان)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (٦٤)، وابن المبارك في «الزهد» (ص ٦٢، ٦٣)، وابن أبي عاصم في «الزهد» (ص ١٠١) برقم (٢٠٦)، وهناد بن السري في «الزهد» (٢/ ٤٤٠) برقم (٨٧١)، ووكيع في «الزهد» رقم (٣٥١)، وابن المنذر في «الأوسط» (١/ ٣٦٩)، وابن أبي حاتم في «مقدمة الجرح والتعديل» (ص ٢١٣)، والدارقطني (١/ ٥٠- ٥١) كتاب «الطهارة»، باب النية، حديث (١)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ٩٦) كتاب «الطلاق»، باب طلاق المكره، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨/ ٤٢)، وفي «تاريخ أصبهان» (٢/ ١١٥، ٢٢٧)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (١/ ٤٠٣- تهذيب)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١، ٢، ١١٧٢، ١١٧٣)، وابن حزم في «المحلى» (١/ ٧٣)، والبيهقي (١/ ٤١) كتاب «الطهارة»، باب النية في الطهارة، وفي «معرفة السنن والآثار» (١/ ١٥٢)، و «شعب الإيمان» (٥/ ٣٣٦) رقم (٦٨٣٧)، و «الاعتقاد» رقم (٢٥٤)، وفي «الزهد الكبير» (ص ١٣٢) رقم (٢٤١)، وفي «الآداب» رقم (١١٣٨)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٤/ ٢٢٤، ٦/ ١٥٣، ٩/ ٣٤٥- ٣٤٦)، والقاضي عياض في «الإلماع» (ص ٥٤- ٥٥)، باب ما يلزم من إخلاص النية في طلب الحديث وانتقاد ما يؤخذ عنه، وابن جميع في «معجم شيوخه» (ص ١١٧) رقم (٦٦)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٥٤- بتحقيقنا)، والرافعي في «تاريخ قزوين» (٤/ ٧٧)، والنووي في «الأذكار» (ص ٣٣)، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (٢/ ٧٧٤)، والحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (٢/ ٢٤٢، ٢٤٣). كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإن لكل-
312
النوويُّ: بلَغَنَا عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أنه قَالَ: «إنَّمَا يُحْفَظُ الرَّجُلُ على قَدْرِ نِيَّتِهِ»، وقال غيره:
إنما يُعْطَى الناسُ على قَدْر نيَّاتهم. انتهى.
- امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ.
وقال أبو نعيم: هذا الحديث من صحاح الأحاديث وعيونها. اهـ.
وقال ابن عساكر: هذا حديث صحيح من حديث أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب، وثابت من حديث علقمة بن وقاص الليثي لم يروه عنه غير أبي عبد الله محمد بن إبراهيم التيمي، واشتهر عنه برواية أبي سعد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني القاضي، وهو ممن انفرد به كل واحد من هؤلاء عن صاحبه، ورواه عن يحيى العدد الكثير والجم الغفير. اهـ.
قال الحافظ في «التلخيص» (١/ ٥٥) : وقال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي الخشاب: رواه عن يحيى بن سعيد نحو من مائتين وخمسين إنسانا، وقال الحافظ أبو موسى: سمعت عبد الجليل بن أحمد في المذاكرة يقول: قال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد قلت- أي الحافظ-: تتبّعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، وقال البزار، والخطابي، وأبو علي بن السكن، ومحمد بن عتاب، وابن الجوزي، وغيرهم: إنه لا يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا عن عمر بن الخطاب... اهـ.
قلنا: وقد روى هذا الحديث غير يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٣/ ١٣٦) من طريق الربيع بن زياد أبو عمرو الضبي، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال ابن عدي: وهذا الأصل فيه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، وقد رواه عن يحيى أئمة الناس، وأما عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم لم يروه عنه غير الربيع بن زياد، وقد روى الربيع بن زياد عن غير محمد بن عمرو من أهل المدينة بأحاديث لا يتابع عليها اهـ.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم: أبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وهزال بن يزيد الأسلمي.
١- حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه الخليلي في «الإرشاد» (١/ ٢٣٣)، والدارقطني في «غرائب مالك»، والحاكم في «تاريخ نيسابور»، كما في «تخريج أحاديث المختصر» لابن حجر (٢/ ٢٤٧- ٢٤٨)، وأبو نعيم في «الحلية» (٦/ ٣٤٢)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٧٧٣)، كلهم من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» قال الخليلي: وعبد المجيد قد أخطأ في هذا الحديث الذي يرويه عن مالك في الحديث الذي يرويه مالك، والخلق عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهو غير محفوظ-
313
ثم خاطَبَ سبحانه المؤمِنِينَ بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، وهو العدل، ومعنى شُهَداءَ لِلَّهِ، أيْ: لذاتِهِ، ولوجْهِهِ، ولمرضَاتِهِ سبحانه، وقولُهُ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ:
- من حديث زيد بن أسلم بوجه. اهـ.
وقال الدارقطني: تفرد به عبد المجيد عن مالك اهـ.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث مالك عن زيد تفرد به عبد المجيد، ومشهوره وصحيحه ما في الموطأ مالك، عن يحيى بن سعيد اهـ.
وقد حكم ببطلان هذا الطريق أبو حاتم الرازي فقال ولده في «العلل» (١/ ١٣١) رقم (٣٦٢)...
سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات... » قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اهـ.
وقد أخرجه الحافظ ابن حجر في «تخرج المختصر» (٢/ ٢٤٧) من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز، عن مالك عن زيد... به.
وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال أيضا: وعبد المجيد وثقه أحمد، وابن معين، والنسائي، وتكلم فيه أبو حاتم، والدارقطني، وقيل: إن هذا مما أخطأ فيه على مالك، والمحفوظ عن مالك عن يحيى بن سعيد بالسند المعروف المتقدم اهـ.
قلت: وقد حاول بعضهم إلصاق الخطأ بنوح بن حبيب الراوي، عن عبد المجيد كالبزار مثلا.
فقال الزيلعي في «نصب الراية» (١/ ٣٠٢). وقال- يعني البزار-: في مسند الخدري حديث روي عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأعمال بالنية» أخطأ فيه نوح بن حبيب ولم يتابع عليه وليس له أصل عن أبي سعيد اهـ.
قلت: وفي كلام البزار نظر، أما إن الحديث ليس له أصل عن أبي سعيد فهذا صواب، أما إلصاق الخطأ بنوح بن حبيب ودعواه أنه تفرد به ولم يتابع عليه فهنا الخطأ.
فقد توبع نوح بن حبيب على هذا الحديث، تابعه اثنان وهما: إبراهيم بن محمد بن مروان بن هشام عند الدارقطني في «غرائب مالك»، وعلي بن الحسن الذهلي عند الحاكم في «تاريخ نيسابور».
ينظر: «تخريج المختصر» لابن حجر (٢/ ٢٤٧- ٢٤٨).
ومنه نعلم أن نوحا لم يتفرد به، بل تابعه اثنان، وأن الذي تفرد به هو عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو الذي أخطأ في الحديث.
٢- حديث أنس بن مالك:
أخرجه ابن عساكر في أماليه كما في «تخريج المختصر» لابن حجر (٢/ ٢٤٦).
وقال الحافظ: وفي سنده ضعف.
وقال الحافظ العراقي في «طرح التثريب» (٢/ ٤) : رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب جدا، والمحفوظ حديث عمر.
٣- حديث أبي هريرة: -
314
متعلِّق ب شُهَداءَ، هذا هو الظاهرُ الذي فَسَّر عليه الناس، وأنَّ هذه الشهادة المذكورةَ هي في الحُقُوق، ويحتملُ أنْ يكُونَ المعنى: شهداء للَّه بالوحْدَانيَّة، ويتعلَّق قوله: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، ب قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ/، والتأويل الأولُ أبْيَنُ، وشهادةُ المَرْءِ على نفسه هو إقراره بالحقائِقِ.
قال ص: وقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً: ضميرُ «يَكُنْ» عائدٌ إلى المشهودِ علَيْه، والضميرُ في «بِهِمَا» عائد على جِنْسَيِ الغَنِيِّ والفقيرِ. انتهى.
قال ع «١» : وقوله: أَوْلى بِهِما: أيْ: هو أنظر لهما، وروى الطبريُّ «٢» أنَّ هذه الآيةَ هي بِسَبَبِ نازلةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ، وقيامِ مَنْ قَامَ فيها بغَيْر القسْطِ.
وقوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى: نهْيٌ بيِّنٌ، واتباعُ الهوى مُرْدٍ مهلكٌ.
وقوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا يحتملُ أنْ يكون معناه: مَخَافَةَ أنْ تَعْدِلُوا، ويكون العَدْلُ هنا بمعنَى العُدُولِ عن الحقِّ، ويحتملُ أنْ يكون معناه: مَحَبَّة أنْ تعدلوا، ويكون العدل
- قال العراقي في «طرح التثريب» (٢/ ٤) : رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه وهو وهم أيضا.
وقال ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (٢/ ٢٤٦) : أخرجه الرشيد العطار في فوائده بسند ضعيف.
٤- حديث علي بن أبي طالب:
قال الحافظ العراقي في «طرح التثريب» (٢/ ٤) : رواه محمد بن ياسر الجياني في نسخة من طريق أهل البيت إسنادها ضعيف.
وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (٢/ ٢٤٦) : أخرجه أبو علي بن الأشعث وهو واه جدا.
٥- حديث هزال بن يزيد الأسلمي:
أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور»، كما في «تخريج أحاديث المختصر» (٢/ ٢٤٨) في ترجمة أبي بكر محمد بن أحمد بن بالويه، من طريق محمد بن يونس، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن ابن هزال عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم... فذكره. قال الحاكم: ذكرته لأبي علي الحافظ فأنكره جدا، وقال لي: قل لأبي بكر لا يحدث به بعد هذا. اهـ.
قال الحافظ: محمد بن يونس شيخه هو الكديمي وهو معروف بالضعف، والمحفوظ بالسند المذكور قصة ماعز فلعله دخل عليه حديث في حديث، وهزال هو ابن يزيد الأسلمي وهو صحابي معروف، واسم ابنه نعيم وهو مختلف في صحبته اهـ.
قلت: مما سبق تبين أن حديث «إنما الأعمال بالنيات» لم يصح إلا من حديث عمر.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٣).
(٢) ينظر: الطبري (٤/ ٣٢٠).
315
بمعنى القَسْطِ.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا... الآية: قال ابن عبَّاس: هي في الخَصْمَيْن يجلسَانِ بَيْن يَدَيِ القاضِي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُهُ لأحدهما عَلَى الآخر «١»، وقال ابنُ زَيْد وغيره: هي في الشُّهُود يَلْوِي الشهادَةَ بلسانِهِ، أو يعرض عن أدائها «٢».
قال ع «٣» : ولفظ الآية يعمُّ القضاءَ والشَّهادة، والتوسُّطَ بيْنَ النَّاسِ، وكلّ إنسان مأخوذٌ بأنْ يعدل، والخُصُوم مطلُوبُونَ بعَدْلٍ مَّا في القضاة، فتأمَّله، وقد تقدّم تفسير اللّيّ، وباقي الآية وعيد.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... الآية: اختُلِفَ من المخاطَبِ بهذه الآية:
فقيل: الخطابُ للمؤمنين، ومضمَّنُ هذا الأمرِ الثبوتُ والدوامُ، وقالتْ فرقةٌ:
الخطابُ لأَهل الكتابَيْن، ورجّحه الطبريّ، وقيل: الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الَّذين آمنوا في الظَّاهِرِ، لِيكُنْ إيمانكم حقيقةً.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ... إلى آخر الآية: وعيدٌ، وخبر مضمَّنه تحذيرُ المؤمنين مِنْ حالة الكفر.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا... الآية: قال مجاهدٌ، وابنُ زَيْدٍ: الآيةُ في المنافِقِينَ، فَإنَّ مِنْهُمْ مَنْ كان يؤمنُ، ثم يكْفُر، ثم يُؤْمن، ثم يَكْفُر، ثم ازداد كُفْراً بأنْ تَمَّ على نفاقِهِ حتى مات.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٢٢)، برقم (١٠٦٨٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤١٣)، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية».
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٢٣) برقم (١٠٦٩٦)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٣).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٣).
قال ع «١» : وهذا هو التأويلُ الراجحُ، وتأمَّل قولَهُ تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فإنها عبارةٌ تقتضي أنَّ هؤلاءِ محتومٌ علَيْهم مِنْ أوَّلِ أمرهم ولذلك تردَّدوا، ولَيْسَتْ هذه العبارةُ مِثْلَ أن يقول: لاَ يَغْفِرُ الله لَهُمْ، بل هي أشَدُّ، فتأمَّل الفَرْقَ بيْنَ العبارَتَيْنِ فإنه من دقيقِ غَرَائِبِ الفَصَاحَةِ الَّتي في كتاب الله سبحانه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩)
وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً... الآية: في هذه الآيةِ دليلٌ مَّا على أنَّ التي قبلها إنما هي في المُنَافِقِينَ، ثم نصَّ سبحانه مِنْ صفاتِ المنافِقِينَ على أشدِّها ضرراً، وهي موالاتُهُم الكافِرِينَ، واطراحهم المُؤْمنينَ، ونبَّه على فسادِ ذلكَ ليدعه مَنْ عسى أنْ يَقَعَ في نَوْعٍ منه مِنَ المُؤْمنين غَفْلَةٌ، أوْ جهالةً، أوْ مسامحةً ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على جهة التوبيخَ، فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ والإستكثار، أي: ليس الأمرُ كذلك فإن العزَّة للَّه جميعاً يؤتيها مَنْ يشاء، وقد وَعَدَ بها المؤمنينَ، وجعل العاقبة للمتَّقين، والعزَّةُ أصلُها الشِّدَّة والقُوَّة ومنه: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص: ٢٣] أي: غلبني بشدّته.
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٠]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)
وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ... الآية: مخاطبةٌ لجميعِ مَنْ أظهر الإيمان من محقِّقٍ ومنافقٍ لأنه إذا أظهر الإيمان، فقَدْ لزمه امتثال أوامر كتاب اللَّه تعالى، والإشارةُ بهذه الآية إلى قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: ٦٨] إلى نحوِ/ هذا من الآيات، والكتابُ في هذا الموضعِ القرآنُ، وفي الآيةِ دليلٌ قويٌّ على وجوبِ تجنُّبِ أهْلِ البِدَعِ والمعاصِي، وأَلاَّ يجالَسُوا، وقد قيل: [الطويل]
عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ «٢»
وهذه المماثلةُ لَيْسَتْ في جميع الصفاتِ، ثم توعَّد سبحانه المنافِقِينَ والكافرين بجمعهم في جَهَنَّم، فتأكَّد بذلك النهْيُ عن مجالستهم وخلطتهم.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٤).
(٢) ينظر البيت في «العزلة» للخطابي ص (٦٩) وينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٦).

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤١ الى ١٤٣]

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ... الآية: هذه صفة المنافقين، ويَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ: معناه: ينتظِرُونَ دَوْرَ الدوائرِ عليكم، فإن كان فَتْحٌ للمؤْمِنِينَ، ادعوا فيه النصيبَ بحُكْمِ ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافِرِينَ نَيْلٌ من المؤمنين، ادعوا فيه النَّصِيبَ بحُكْمِ ما يبطنونه من موالاةِ الكُفَّار، وهذا حالُ المنافقين، ونَسْتَحْوِذْ: معناه: نَغْلِبُ على أمرِكِم ونَحُوطُكُمْ ومنه: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: ١٩]، معناه: غَلَبَ على أمرهم، ثم سلى سبحانه المؤمنينَ، وأنَّسهم بما وَعَدَهُم به في قوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أيْ: وبينهم، وينصفُكُم من جميعهم، وبقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أيْ: يوم القيامة قاله عليٌّ (رضي اللَّه عنه) «١» وعليه جميعُ أهْل التَّأوِيلِ، والسَّبيلُ هنا: الحُجَّة والغَلَبَةُ. قلت: إِلاَّ ابنَ العَرَبِيِّ «٢» لم يرتَض هذا التأويلَ، قال: وإنما معنى الآية أحَدُ ثلاثةِ وُجُوهٍ:
الأول: لن يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المؤمنينَ سَبيلاً يَمْحُو به دَوْلَةَ المؤمنين، ويستبيحُ بَيْضَتَهُمْ.
الثاني: لَنْ يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المُؤْمنين سبيلاً إلاَّ أنْ يتواصَوْا بالباطِلِ، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر، ويتباعدوا عن التَّوْبَةِ، فيكونُ تسليطُ العَدُوِّ مِنْ قِبَلِهِمْ، وهذا نَفِيسٌ جِدًّا.
الثالث: لن يجعلَ اللَّه للكافرينَ عَلَى المؤمنينَ سبيلاً بالشَّرْع، فإن وُجِدَ ذلك، فبخلاف الشرْعِ، ونَزَعَ بهذا علماؤُنا بالإحْتجاجِ على أنَّ الكافر لا يَمْلِكُ العَبْدَ المُسْلِمَ.
انتهى «٣».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٣١) برقم (١٠٧٢٠)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٦). [.....]
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٥١٠).
(٣) قد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة، فذهب الشافعية، والحنابلة، والمالكية في إحدى الروايتين عن أشهب إلى القول بعدم صحة شراء الكافر له... وذهب الحنفية، وابن القاسم من المالكية إلى القول بصحته. قالت الحنفية: ويجبر المشتري على بيعه وإزالة ملكه عنه. -
318
ومخادعَةُ المنافقين: هي لأولياءِ اللَّهِ، ففِي الكلامِ حَذْفُ مضَافٍ إذْ لا يقصد أحَدٌ من البشر مخادَعَةَ اللَّهِ سبحانه.
وقوله تعالى: وَهُوَ خادِعُهُمْ
: عبارةٌ عن عقوبَتِهِمْ، سمَّاها باسم الذَّنْب، وقال ابن
- احتج الحنفية: بعمومات الكتاب والسنة الواردة في حل البيع من غير فصل بين مسلم وكافر. وحيث حل الشراء للمسلم يحل للكافر بمقتضى العموم.
وأجيب: بأن تلك العمومات مخصصة في حق الكافر بقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: ١٤١]، واحتجوا أيضا بأن شراء الكافر للعبد المسلم عقد صدر من أهله في محله لأن الكافر أهل للتصرف والعبد مال متقوم، ولهذا صح للمسلم بيعه وشراؤه، وإذا كان العقد كذلك كان صحيحا. أما دليل أن الكافر أهل للتصرف فهو ثبوت الملك له على العبد المسلم وميراثه له وبقاء ملكه عليه حينما يسلم، وأما دليل جبر المشتري على البيع بعد صحة الشراء، فهو احتمال أن يفعل الكافر بالمسلم فعلا لا يحل له نظرا للعداوة الدينية التي بينهما.
ونوقش هذا الدليل: بأن استدلالكم على صحة البيع بصحة الإرث غير مسلم من وجهين:
أحدهما: أن انتقال الملك في الإرث قهري لئلا يبقى الشيء بلا مالك، ولا كذلك البيع، فإنه اختياري، إن لم يصح بقي على ملك صاحبه الأصلي.
الثاني: أن الإرث يفيد استدامة ملك والبيع ابتداءه، والاستدامة أخف من الابتداء، حتى صح إرث المسلم للخبر لكونه استدامة لا شراؤه ابتداء، فظهر الفرق بينهما فلا يقاس أحدهما على الآخر.
حجة الجمهور: احتجوا أولا: بأن في تصحيح مثل هذا البيع طريقا لإثبات السبيل من الكافر على المسلم إذ به يتمكن من إذلاله بالاستخدام وهو محظور شرعا فيمتنع ما أدى إليه.
ونوقش: بكون السبيل غير حاصل بالجبر على بيعه بعد تصحيحه، وأجيب: بنفي تصحيحه مع الجبر لعدم الفائدة فكان المنع ابتداء أولى.
واحتجوا ثانيا: بأن المقصود من الشراء هو استدامة الملك من المشتري على العين المشتراة وعدم خروجها من ملكه إلا برضاه، ثم في تصحيح الشراء من الكافر للعبد المسلم، مع جبره بعد ذلك على البيع إخلال بمقاصد النكاح. وعدم ترتب آثاره عليه فكان خليقا بالفساد دون الصحة، ولهذا حظر عقد الزواج من المشركة للمسلم لعدم ترتب آثار النكاح عليه، والبيع مثله.
ونوقش: بأن مثل هذا الشراء لم يخل عن الفائدة لو قلنا بتصحيحه مع الجبر إذ قد ظهرت بتمامه سلطة المالك على البيع وجاز له بيعه وانتقال ملكيته إليه، وتصحيح عتقه إن أراد، ومسألة الإذلال ممنوعة مع الجبر على البيع.
وأجيب: بأن تلك السلطة الحاصلة من مثل هذا الشراء كعدمها لقيام أمر الجبر مسلطا عليه. ولا شك أن الإذلال متحقق بمجرد انتقال ملكية العبد إلى الكافر لأنه حينئذ متمكن من استخدامه إن كان عبدا، واستفراشها إن كانت أمة.
هذه أدلة الفريقين بالنظر فيها نجد: أن مذهب الجمهور هو الراجح في المسألة إذ لا معنى للتصحيح مع الجبر على البيع، فكان المنع ابتداء أولى.
ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا/ بدران أبو العينين، «المغني» لابن قدامة (٤/ ٤١)، «بدائع الصنائع» (٥/ ١٤٢)، «المبسوط» (٣/ ١٢٠).
319
جْرَيْج، والحَسَن، والسُّدِّيُّ، وغيرهم من المفسِّرين: إنَّ هذا الخَدْعَ هو أنَّ اللَّه تعالى يُعْطِي لهذه الأُمَّة يوم القيامةِ نُوراً لكلِّ إنسانٍ مؤمن، أو منافقٍ، فيفرح المنافِقُونَ، ويظُنُّون أنهم قد نَجَوْا، فإذا جاءوا إلى الصِّراطِ، طُفِىءَ نورُ كلِّ منافقٍ، ونهَضَ المؤمنُونَ «١»، فَذَلكَ قولُ المنافِقِينَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: ١٣]، فذلك هو الخَدْع الذي يَجْرِي عَلَى المنافِقِينَ، ثم ذكر سبحانه كَسَلَهُمْ في الصلاةِ، وتلْكَ حالُ كُلِّ مَنْ يعمل كارهاً غيْرَ معتقِدٍ فيه الصَّواب، بل تقيَّةً أو مصانَعَةً.
قال ابنُ العَرَبِيِّ «٢» في «أحكامه» : قوله تعالى: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
، روى الأئمَّة مالكٌ وغيره، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حتى إذَا اصفرت الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعاً لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً» «٣» قال ابن «٤» العربيِّ: وقد بيَّن تعالى/ صلاةَ المؤمنين بقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: ١، ٢] ومن خَشَعَ خَضَعَ، واستمر، ولم ينقُرْ صلاتَهُ، ولم يستعْجِلْ. انتهى.
ومُذَبْذَبِينَ: معناه: مُضْطَرِبِينَ لا يَثْبُتُونَ على حالٍ، والتَّذَبْذُب: الاِضطرابُ، فهؤلاءِ المنافقُونَ متردِّدون بَيْنَ الكفَّار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرةِ «٥» بَيْنَ الغَنَمَيْنِ» «٦»، والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٣٢) برقم (١٠٧٢٦)، (١٠٧٢٧)، (١٠٧٢٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤١٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن الحسن.
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٥١١).
(٣) أخرجه مسلم (١/ ٤٣٤)، كتاب «المساجد»، باب استحباب التكبير بالعصر (١٩٥/ ٦٢٢)، ومالك (١/ ٢٢٠)، كتاب «القرآن»، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر (٤٦).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٥١٢).
(٥) أي: المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع.
ينظر: «النهاية» (٣/ ٣٢٨).
(٦) أخرجه مسلم (٤/ ٢١٤٦) كتاب «صفات المنافقين»، باب (٥٠)، حديث (١٧/ ٢٧٨٤)، والنسائي (٨/ ١٢٤) كتاب «الإيمان»، باب مثل المنافق، حديث (٥٠٣٧)، وأحمد (٢/ ٣٢)، والخطيب (١٤/ ٢٦٨) من حديث ابن عمر.
320
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...
الآية: خطابه سبْحَانه للمؤُمنينَ يَدْخُلُ فيه بحُكْمِ الظاهرِ المنافقُونَ المظهرُونَ للإيمان، ففِي اللفْظِ رفْقٌ بهم، وهم المرادُ بقوله سبحانه: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً لأنَّ هذا التوقيفَ إنما هو لِمَنْ أَلَمَّ بشيء مِنَ الفعل المؤَدِّي إلى هذه الحالِ، والمؤمنون المُخْلِصُونَ ما أَلَمّوا قَطُّ بَشْيءٍ مِنْ ذلك، ويُقَوِّي هذا المَنْزَعَ قولُهُ تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أي: والمؤمنُونَ العارِفُونَ المُخْلِصُون غُيَّبٌ عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان، والتزموا لَوَازمه، والسُّلْطَانُ:
الحُجَّة.
ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم في الدَّرْك الأسفلِ مِنْ نارِ جهنَّم وذلك لأنهم أسرى غَوَائِلَ من الكُفَّار، وأشَدُّ تَمَكُّناً مِنْ أَذَى المُسْلمين قُلْتُ: وأيضاً لأنهم شاهَدُوا مِنْ معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما جَعَلَ اللَّه على يدَيْه مِنَ الخوارِقِ ما لَمْ يُشَاهِدْ غيرهم من الكفار، فكانَتِ الحجَّةُ علَيْهم أعْظَمَ، وكان كُفْرهم محْضَ عنادٍ، ورُوِيَ عن أبي هريرة، وابنِ مسعودٍ، وغيرهما أنَّهُمْ قالوا: المنافقُونَ في الدَّرْك الأسفل من النار، في تَوَابِيتَ من النَّارِ تُقْفَلُ «١» عليهم، ثم استثنى عَزَّ وجلَّ التائِبِينَ مِنَ المنافقين، ومِنْ شروط التائِبِ أنْ يُصْلِحَ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، ويعتصمَ باللَّه، أيْ: يجعلَهُ مَنَعَتَهُ، وملْجَأَه، ويُخْلِصَ دينَهُ للَّه تعالى، وإلاَّ فليس بتائِب، وقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أي: في رحمة اللَّه سبحانه، وفي منازلِ الجَنَّة، ثم وَعَدَ سبحانه المُؤْمِنينَ الأجْرَ العظيمَ، وهو التخليدُ في الجَنَّة.
وقال ص: فَأُولئِكَ: خبره مُضْمَر، والتقدير: فأولئك مؤمِنُونَ مع المؤمنين قاله أبو البَقَاء. انتهى.
ثم قال سبحانه للمنافقين: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ... الآية: أيْ: أَيُّ منفعةٍ له سبحانه في ذلك أوْ حاجَةٍ؟! قال أبو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ: زعم الطبريُّ «٢» أنَّ قوله تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ: خطابٌ للمنافقين، ولا يكادُ يقُومُ له على ذلك دليل يقطع
(١) أخرجه الطبري (٤/ ٣٣٦) برقم (١٠٧٤٦، ١٠٧٤٧، ١٠٧٤٨) وذكره البغوي (١/ ٤٩٣).
(٢) ينظر: الطبري (٤/ ٣٣٨).
321
به، وليس في ذِكْرِ المنافقينَ قَبْلَهُ ما يقتَضِي أنْ يُحْمَلَ عليهم خاصَّةً، مع احتمال الآية للعُمُومِ، فقطْعُهُ بأنَّ الآية في المنافِقِينَ حُكْمٌ لا يقُومُ به دليلٌ. انتهى، وهو حَسَنٌ إذ حمل الآية على العُمُومِ أحْسَنُ.
والعَجَب من ع: كيف تَبِعَ الطبريُّ في هذا التَّخْصيصِ، ويظهر- واللَّه أعلم- أنهما عَوَّلا في تخصيص الآية على قوله تعالى: وَآمَنْتُمْ، وهو محتملٌ أن يحمل في حَقِّ المنافقين على ظاهره، وفي حقِّ المؤمنين على معنى: «دُمْتُمْ على إيمانكم»، واللَّه أعلم.
والشُّكْرُ على الحقيقة لا يَكُونُ إلاَّ مقترناً بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيداً وتنبيهاً على/ جلالة موقعه، ثم وَعَدَ سبحانه بقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً: أيْ يتقبَّل أقلَّ شيء مِنَ العَمَل، وينَمِّيه فذلك شُكْرٌ منه سبحانه لعباده، والشَّكُورُ من البهائمِ: الَّذي يأكل قليلاً، ويظهر به بَدَنُه، والعَرَبُ تقول في مثل: «أَشْكَرُ مِنْ بَرْوقَةٍ» لأنها يُقَالُ: تخضَرُّ وتتنضَّر بِظِلِّ السَّحاب دُونَ مَطَرٍ، وفي قوله: عَلِيماً: تحذيرٌ ونَدْبٌ إلى الإخلاص.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
وقوله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ... الآية: قراءة الجمهور «١» بضَمِّ الظاء، وقرىء «٢» شاذاً بفتحها، واختلف على قراءة الجمهورِ، فقالَتْ فرقةٌ: المعنى: لا يحبُّ اللَّه أنْ يَجْهَرَ أحدٌ بالسوء من القَوْل إلا مَنْ ظُلِم، فلا يُكْرَهُ له الجَهْرُ به، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في كيفيَّةِ الجَهْر بالسُّوء، وما هو المباحُ منه، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: لا بأسَ لِمَنْ ظلم أن ينتصر من ظلمه بمثْلِ ظُلْمِهِ، ويَجْهَرَ له بالسُّوء من القَوْل، أي: بما يوازي الظَّلاَمَةَ «٣»، وقال مجاهد وغيره: نزلَتْ في الضَّيْفِ المُحَوَّلِ رَحْلُه، فإنَّه رُخِّصَ له أنْ يجهر بالسُّوءِ من القول للذي لم يُكْرِمْهُ، يريد: بقَدْر الظلمِ، والظُّلاَمةِ «٤»،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٩)، و «البحر المحيط» (٣/ ٣٩٨)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٥١).
(٢) وهي قراءة ابن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، والضحاك بن مزاحم، وابن عباس، وابن جبير، وعطاء بن السائب، وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار، ومسلم بن يسار وغيرهم.
ينظر: السابق، والمحتسب (١/ ٢٠٣).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» بتحقيق الشيخ شاكر (٩/ ٣٤٤) برقم (١٠٧٤٩)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٢٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. [.....]
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٤١) برقم (١٠٧٦٣، ١٠٧٦٥)، وذكره ابن عطية (٢/ ١٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٢٠)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد.
وفي «صحيحِ البخاريِّ»، عن أبي هريرةَ، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» «١». انتهى.
«وسميعٌ عليمٌ» : صفتان لائِقَتَان بالجَهْر بالسوء، وبالظلم أيضاً، فإنه يعلمه ويجازي علَيْه، ولما ذكر سبحانه عَذْر المَظْلُوم في أنْ يجهر بالسوء لظالمه، أَتْبَعَ ذَلك عَرْضَ إبداء الخير، وإخفائه، والعَفْوِ عن السُّوء، ثم وَعَدَ عَلَيْه سبحانه بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعْداً خفيًّا تقتضيه البلاغَةُ، ورغَّب سبحانه في العَفْو إذ ذكر أنها صفتُهُ مع القدرةَ على الإنتقام.
قال ع «٢» : فَفِي هذه الألفاظِ اليسيرَةِ مَعَانٍ كثيرةً لمن تأمَّلها، قال الدَّاوُوديُّ:
وعن ابنِ عُمَر أنه قال: لا يحب اللَّه سبحانه أنْ يدعو أحَدٌ على أحدٍ إلاَّ أنْ يُظْلَمَ، فقد رخَّص له في ذلك. انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٠ الى ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
(١) أخرجه البخاري (١٠/ ٥٤٨)، كتاب «الأدب»، باب إكرام الضيف وخدمته، حديث (٦١٣٦)، ومسلم (١/ ٦٨) كتاب «الإيمان»، باب الحث على إكرام الضيف، حديث (٧٥/ ٧٤)، وابن ماجة (٢/ ١٣١٣) كتاب «الفتن»، باب كف اللسان في الفتنة، حديث (٣٩٧١) من طريق أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
وأخرجه البخاري (١١/ ٣١٤)، كتاب «الرقاق»، باب حفظ اللسان، حديث (٦٤٧٥)، ومسلم (١/ ٦٨)، كتاب «الإيمان»، باب الحث على إكرام الجار، حديث (٤٧)، وأبو داود (٢/ ٧٦٠- ٧٦١) كتاب «الأدب»، باب في حق الجوار، حديث (٥٤: ٥)، والترمذي (٤/ ٥٦٩)، كتاب «صفة القيامة»، باب إكرام الضيف، حديث (٢٥٠٠)، وأحمد (٢/ ٢٦٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٣٦- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة مرفوعا.
وأخرجه البخاري (٩/ ١٦١)، كتاب «النكاح»، باب الوصاة بالنساء، حديث (٥١٨٥)، ومسلم (٢/ ١٠٩١)، كتاب «الرضاع»، باب الوصية بالنساء، حديث (٦٠/ ١٤٦٨)، والبيهقي (٧/ ٢٩٥)، كتاب «القسم والنشوز»، باب حق المرأة على الرجل، وأبو يعلى (١١/ ٨٥- ٨٦) رقم (٦٢١٨) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣٠).
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ... إلى آخر الآية: نزل في اليهود والنصارى، وقد تقدَّم بيانُ هذه المعاني.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ... الآية: لما ذَكَر سبحانَهُ أنَّ المفرِّقين بَيْنَ الرسُلِ هم الكافرونَ حقًّا، عَقَّبَ ذلك بذكْرِ المؤمنين باللَّه ورسُلِهِ جميعاً، وهم المؤمنون بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ليصرِّح بوَعْد هؤلاء كما صرَّح بوعيدٍ أولئِكَ، فبيّن الفرق بين المنزلتين.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٤]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤)
وقوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ... الآية: قال قتادة سَأَلَتِ اليهودُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يأتيهم بكتابٍ مِنْ عند اللَّه خاصٍّ لليهود، يأمرهم فيه بالايمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم «١» ونحوه عن ابْنِ جُرَيْجٍ «٢»، وزاد: «إلى فلان، وإلى فلانٍ أَنَّكَ رسُولُ اللَّهِ»، ثم قال سبحانه على جهة التسلية لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، وفي الكلامِ محذوفٌ يدلُّ عليه المذكورُ، تقديره: فلا تُبَالِ، يا محمد، مِنْ سؤالِهِمْ وتَشَطُّطهم فإنها عادتهم، وجمهورُ المتأوِّلين على أنَّ جَهْرَةً معمولٌ ل أَرِنَا، أيْ:
حتى نراه جهاراً، أي: عياناً، وأهلُ السُّنَّة معتقدون أنَّ هؤلاءِ لم يسألوا مُحَالاً عَقْلاً، لكنَّه محالٌ من جهة الشَّرْع إذ قد أخبر تعالى على ألسنَةِ/ أنبيائه أنَّهُ لاَ يرى سبحانه في هذه الدنيا، والرؤْيَةُ في الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بالخَبَرِ المُتَواتِرِ، وهي جائزةٌ عقْلاً من غير تحديدٍ، ولا تكييفَ ولا تحيُّز كما هو تعالى معلومٌ لا كالمعلومات كذلك هو مرئيٌّ، لا كالمرئيَّات سبحانه هذه حُجَّة أهل السنة، وقولُهم، وقد تقدَّم قصص القَوْم في «البقرة»، وظلمهم: هو تعنُّتهم وسؤَالُهم ما لَيْسَ لهم أنْ يسألوه.
وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ: «ثُمَّ» : للترتيب في الأخبار، لا في نَفْس الأمرِ، التقديرُ ثم قَدْ كان مِنْ أمْرِهِمْ أَن اتَّخذُوا العِجْلَ، وذلك أنَّ اتخاذَ العِجْلِ كان عند أمر
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٤٦) برقم (١٠٧٧٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٤٢٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٤٦) برقم (١٠٧٧٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٣١).
المُضِيِّ إلى المناجاةِ، ولم يكن الَّذِينَ صُعِقُوا مِمَّنِ اتخذ العِجْلَ، لكنَّ الذين اتَّخذوه كانوا قَدْ جاءتهم البيِّنَاتُ.
وقوله سبحانه: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ، يعني: بما امتحنهم به من القَتْل لأنْفُسِهِمْ، ثم وقع العَفْوُ عن الباقِينَ منهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
وقوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ: «ما» زائدةٌ مؤكِّدة، التقدير: فبنقضهم، فالآيةُ مخْبِرةٌ عن أشياء واقَعُوها هي ضِدُّ ما أُمِرُوا به، وحذْفُ جوابِ هذا الكلامِ بليغٌ مُبْهَمٌ متروكٌ مع ذِهْن السامع، تقديره: لَعَنَّاهُمْ ونحوه، ثم قال سبحانه: وَبِكُفْرِهِمْ: أي: بعيسى، وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً، هو رمْيُهم إياها بالزِّنَا بعد رُؤْيتهم الآية في كلامِ عيسى في المهد وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ... الآية: هذه الآيةُ والَّتِي قبلها عدَّدَ اللَّه تعالى فيهما أقوالَ بَنِي إسرائيل، وأفعالَهُمْ على اختلافِ الأزمان، وتعاقُبِ القرون فاجتمع مِنْ ذلك توبيخُ خلفهم المعاصرين لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهذه الطائفةُ التي قالَتْ: إنا قَتَلْنَا المسيحَ- غَيْرُ الذين نقضوا الميثاقَ في الطُّور، وغَيْرُ الذين اتَّخَذُوا العجْلَ، وقولُ بني إسرائيل إنَّمَا هُوَ إلى قوله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.
وقوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ، إنما هو إخبارٌ من اللَّه تعالى بصفةٍ لعيسى، وهي الرسالةُ، على جهة إظهار ذَنْب هؤلاء المُقِرِّين بالقَتْل، ولزمهم الذنْبُ، وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صَلَبُوا ذلك الشخْصَ على أنه عيسى، وعلى أنَّ عيسى كَذَّابٌ ليس برَسُولِ اللَّه، فلزمهم الذنْبُ مِنْ حيث اعتقدوا أنَّ قتلهم وَقَعَ في عيسى.
قال ص: وعِيسَى: بدل أو عطف بيان من الْمَسِيحَ، ورَسُولَ اللَّهِ كذلك، ويجوزُ أنْ يكون صفةً ل عِيسَى، وأنْ يكون نصباً على إضمار أعني.
قُلْتُ: وهذا الأخير أحسنها مِنْ جهة المعنى. انتهى.
ثم أخبر سبحانه أنَّ بني إسرائيل ما قَتَلُوا عيسى، وما صَلَبوه، ولكنْ شُبِّه لَهُمْ، واختلفتِ الرُّوَاةُ في هذه القصَّة، والذي لا يُشَكُّ فيه أنَّ عيسى- عليه السلام- كان يَسِيحُ في الأَرْضِ ويدعو إلى اللَّه، وكانَتْ بنو إسرائيل تَطْلُبُه، ومَلِكُهُمْ في ذلك الزَّمَانِ يجعَلُ عليه
325
الجَعَائِلَ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريُّون يَسِيرُونَ معه حيثُ سار، فلَمَّا كان في بعض الأوقات، شُعِرَ بأمْر عيسى، فَرُوِيَ أنَّ رجلاً من اليهود جُعِلَ له جُعْلٌ، فما زال يَنْقُرُ عنه حتى دلَّ على مكانه، فلما أحَسَّ عيسى وأصحابُهُ بتلاحُقِ الطَّالبين بهم، دخلوا بَيْتاً بمرأى مِنْ بني إسرائيل، فرُوِيَ أنهم عَدُّوهم ثلاثةَ عَشَرَ، ورُوِيَ: ثمانيةَ عَشَرَ، وحُصِرُوا لَيْلاً، فرُوِيَ أنَّ عيسى فرق الحواريِّين عن نَفْسه تلك الليلةَ، ووجَّههم إلى الآفاقِ، وبقي هُوَ ورجُلٌ معه، فَرُفِعَ عيسى، وأُلْقِيَ شَبْهُهُ على الرجُلِ، فَصُلِبَ ذلك الرجُلُ، ورُوِيَ أنَّ الشَّبَهَ أُلْقِيَ على اليهوديِّ الذي دَلَّ عليه، فَصُلِبَ/، وروي أنَّ عيسى- عليه السلام- لما أُحِيطَ بهم، قال لأصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يلقى عَلَيْه شَبَهِي، فَيُقْتَلُ، ويُخَلِّصُ هؤلاءِ، وهو رَفِيقي في الجَنَّةِ، فقَالَ سِرْجِسُ: أَنَا، فألقي عليه شبه عيسى، وروي أنَّ شَبَهَ عيسى أُلْقِيَ علَى الجَمَاعَةِ كلِّها، فلما أخرجهم بَنُو إسرائيل، نقصوا واحداً مِنَ العِدَّة، فأخذوا واحداً مِمَّنْ عليه الشَّبَهُ حَسَب هذه الرواياتِ التي ذكَرْناها، فَصَلَبُوه، ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ والمتناوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عليهم أَمْرُ رَفْعِ عيسى، لِمَا رأَوْه مِنْ نقصانِ العدَّة، واختلاط الأمْرِ.
وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ... الآية: يعني اختلافَ المحاولين لأخْذه لأنهم حين فقدوا واحداً من العدد، وتُحُدِّثَ برَفْع عيسَى، اضطربوا، واختلفوا، لكنْ أجمعوا على صَلْبِ واحدٍ مِنْ غير ثقَةٍ، ولا يقينٍ، أنه هو.
وقولُه تعالى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً، قال ابن عَبَّاس «١» وجماعةٌ: المعنى: وما صَحَّ ظنُّهم عندهم، ولا تحقَّقوه يقيناً، فالضميرُ في «قتلوه» عندهم عائدٌ على الظَّنِّ كما تقُولُ:
ما قَتَلْتُ هذا الأمْرِ عَلْماً، قلْتُ: وعبارةُ السُّدِّيِّ: «وما قَتَلُوا أمره يقيناً أنَّ الرجُلَ هو عيسَى» «٢». انتهى من «مختصر الطَّبَرِيِّ»، وقال قومٌ: الضميرُ عائدٌ على عيسى، أخبر سبحانه أنهم ما قَتَلُوهُ في الحقيقةِ جملةً واحدةً، لا يقيناً ولا شكًّا، لكنْ لما حصَلَتْ في ذلك الدعوى، صَارَ قتله عنْدَهم مشْكُوكاً فيه، وقال قوم مِنْ أهل اللسانِ: الكلامُ تامٌّ في قوله: وَما قَتَلُوهُ، ويَقِيناً: مصدرٌ مؤكِّد للنفْي في قوله: وَما قَتَلُوهُ، المعنى:
نخبرُكُمْ يقيناً، أو نقصُّ عليكم يقيناً، أو أَيْقَنُوا بذلك يَقيناً.
وقال ص: بعد كلام: والظاهرُ أنَّ الضمير في قَتَلُوهُ عائدٌ إلى عيسى لتتّحد الضمائر، ويَقِيناً: منصوبٌ في موضعِ الحالِ من فَاعِلِ قَتَلُوهُ: أي: مستيقنين أنه
(١) ذكره ابن عطية (٢/ ١٣٤).
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ١٣٤).
326
عيسى، أو نعت لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قتلاً يقينا. انتهى.
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٨]
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)
وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ: يعني: إلى سمائِهِ وكرامتِهِ، وعيسى- عليه السلام- في السَّماءِ على ما تضمَّنه حديثُ الإِسراء في ذِكْرِ ابني الخالةِ عيسى ويحيى، ذكره البخاريُّ في حديث «١» المعراج، وذكره غيره، وهو هنالك مُقِيمٌ حتى يُنزله اللَّه تعالى لِقَتْلِ الدَّجَّال، وليملأَ الأرْضَ عَدْلاً وَيَحْيَا فيها أربعين سَنَةً، ثم يموت، كما يموت البشر.
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٩]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ: اختُلِفَ في معنى الآيةِ:
فقال ابن عباس «٢» وغيره: الضميرُ في مَوْتِهِ راجعٌ إلى عيسى، والمعنى: أنه لا يبقى مِنْ أهْل الكتابِ أحَدٌ، إذا نَزَلَ عيسى إلى الأرْضِ، إلاَّ يؤمنُ بعيسى كما يؤمنُ سائرُ البَشَرِ، وترجِعُ الأدْيَانُ كلُّها واحداً، يعني: يرجعون على دين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إذْ عيسى واحدٌ من أمته وعلى شريعته، وأئمَّتنا منَّا كما ورد في الحديثِ الصَّحِيح.
وقال مجاهدٌ وابنُ عباسٍ أيضاً وغيرهما: الضميرُ في بِهِ لعيسى، وفي مَوْتِهِ للكتابيِّ، لَكن عند المعاينة للمَوْتِ فهو إيمانٌ لا ينفعه «٣»، وقال عكرمةُ: الضَّميرُ في بِهِ لنبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم وقَبْلَ مَوْتِهِ للكتابيِّ «٤» قال: وليس يخرج يهوديٌّ ولا نصرانيّ من الدنيا حتّى يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولو غَرِقَ أو سَقَطَ علَيْه جِدَارٌ، فإنه يؤمنُ في ذلك الوقْتِ، وفي مُصْحَفِ أبيِّ بْنِ كَعْب: «قَبْلَ مَوْتِهِمْ»، ففي هذه القراءة تَقْوِيَةٌ لعود الضمير على الكتابيِّ «٥».
قال ص: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ... الآية: «إنْ» : هنا نافية، والمخبر عنه
(١) سيأتي تخريجه مفصلا في سورة الإسراء.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤/ ٣٥٦) برقم (١٠٧٩٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ١٣٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٥٩).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ١٣٤).
(٤) ذكره ابن عطية (٢/ ١٣٤).
(٥) ذكره ابن عطية (٢/ ١٣٤).
محذوفٌ قامَتْ صفته مَقَامَهُ، أي: وما أحدٌ من أهل الكتاب كما حذف في قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١]، وقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] أي: وما أحدٌ منا، وما أحدٌ منكم، قال الشيخُ أبو حَيَّانِ «١» : لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ:
جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، والقَسَم وجوابُهُ هو الخَبَرُ، وكذلك أيضا إِلَّا لَهُ مَقامٌ وإِلَّا وارِدُها، هما الخَبَرُ، قال الزَّجَّاج: وحَذْف «أَحَدٍ» مطلوبٌ في كلِّ نفْيٍ يدخله الإستثناءُ نحْوُ: مَا قَامَ إلاَّ زَيْدٌ، أيْ: ما قام أحد إلّا زيد. انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
وقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ... الآية:
فَبِظُلْمٍ: معطوفٌ على قوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: ١٥٥]، والطيِّباتُ هنا: هي الشُّحُوم، وبعْضُ الذبائحِ، والطَّيْرُ والحُوت، وغَيْرُ ذلك، وقرأ ابن عباسٍ «٢» :«طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ».
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً: يحتملُ أن يريدَ صدَّهم في ذاتِهِمْ، ويحتملُ أن يريد صدّهم غيرهم، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا، هو الدرهمُ بالدرهَمَيْنِ إلى أَجَلٍ، ونحو ذلك ممَّا هو مَفْسَدَة، وقد نُهُوا عنه، ثم استثنى سبحانه الراسِخِينَ في العِلْمِ منهم كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، ومُخَيْرِيقٍ، ومَنْ جرى مَجْراهم.
واختلف الناسُ في قوله سبحانه: وَالْمُقِيمِينَ، وكيف خالَفَ إعرابُهَا إعرابَ ما تقدَّم وما تأخَّر.
فقال بعضُ نحاة البَصْرة والكُوفة: إنما هذا مِنْ قَطْع النُّعُوت، إذا كَثُرَتْ على النصْبِ ب «أعْنِي» والرفعُ بعد ذلك ب «هُمْ» وقال قومٌ: وَالْمُقِيمِينَ: عطْفٌ على «ما» في قوله:
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، والمعنى: ويؤمنون بالمقيمينَ الصَّلاَة، وهُمُ الملائكةُ، أو مَنْ تقدَّم من الأنبياء، وقال قومٌ: وَالْمُقِيمِينَ: عطْفٌ على الضمير في مِنْهُمْ، وقال آخَرُونَ: بل على الكاف في قوله: مِنْ قَبْلِكَ.
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٣/ ٤٠٦).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣٥)، و «البحر المحيط» (٣/ ٤١١)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٦١). [.....]
وزاد ص: وَالْمُقِيمِينَ منصوبٌ على المَدْحَ، قال: وقرأ جماعة: «والمقيمون» «١» انتهى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
وقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ... الآية:
سبَبُ نزولها قولُ بَعْض أحبار يَهُودَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ... [الأنعام: ٩١] فأنزل اللَّه سبحانه الآية تَكْذيباً لهم.
قال ع «٢» : إسماعيلُ هو الذبيح في قول المحقِّقين، والوَحْيُ: إلقاءُ المعنى في خفاءٍ، وعُرْفُهُ في الأنبياء بوَسَاطة جبريلَ- عليه السلام-، وكلَّم اللَّه سبحانه موسى بكلامٍ دون تكْييفٍ، ولا تحديدٍ، ولا حرفٍ، ولا صوتٍ، والذي عليه الراسخُونَ في العِلْمِ أنَّ الكلام هو المعنَى القَائِمُ في النَّفْسِ، ويخلق اللَّه لموسى إدراكاً من جهةِ السَّمْعِ يتحصَّل به الكلامُ، وكما أنَّ اللَّه تعالى موجودٌ لا كالموجودَاتِ، معلومٌ لا كالمعلُومَاتِ فكذلك كلامه لا كالكلام.
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٥]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)
وقوله سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ... الآية: رُسُلاً: بدلٌ من الأول، وأراد سبحانه أن يقطع بالرُّسُل احتجاجَ مَنْ يقول: لو بُعِثَ إلَيَّ رسول، لآمَنْتُ، واللَّه سبحانه «عزيزٌ» لا يغالبُهُ شيْء، ولا حُجَّة لأحدٍ عليه، حَكِيمٌ في أفعالِهِ، فقطع الحجّة بالرسل حكمة منه سبحانه.
(١) وممن قرأ بها: عبد الله، ومالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي.
ينظر: «المحتسب» (١/ ٢٠٤)، و «الكشاف» (١/ ٥٩٠)، و «المحرر الوجيز» (٢/ ١٣٥)، وزاد نسبتها إلى الأعمش، وسعيد بن جبير، ورواية يونس وهارون عن أبي عمرو، وينظر: «البحر المحيط» (٣/ ٤١١)، و «الدر المصون» (٢/ ٤٦١).
(٢) ينظر: «تفسير ابن عطية» (٢/ ١٣٦).

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٩]

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
وقوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ... الآية: سببُهَا قولُ اليَهُود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٩١].
وقال ص: «لكن» : استدراكٌ، ولا يُبتدأُ بها، فيتعيَّن تقديرُ جملةٍ قبلها يبيِّنها سببُ النزول، وهو أنه لَمَّا نزل: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [النساء: ١٦٣]، قالوا: ما نشهَدُ لك بهذا فَنَزَلَ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. انتهى.
وقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، هذه الآيةُ مِنْ أقوى متعلَّقات أهْل السنَّة في إثبات عِلْمِ اللَّه عزَّ وجلَّ خلافاً للمعتزلةِ في أنهم يقولُونَ: عَالِمٌ بِلاَ عِلْمٍ، والمعنى عند أهْل السُّنَّة:
أنزله، وهو يَعْلَمُ/ إنزالَهُ ونُزُولَهُ.
وقوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ: تقويةٌ لأمر نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وردٌّ على اليهود.
وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، تقديره: وكفَى اللَّهُ شهيداً، لكنه دخلَتِ الباءُ لتدُلَّ على أنَّ المراد اكتفوا باللَّهِ، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٠ الى ١٧٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ... الآية: خطابٌ لجميعَ النَّاسِ، وهي دعاءٌ إلى الشرْعِ، ولو كانَتْ في أمر من أوامر الأحكام، ونَحْوِ هذا، لكانتُ: «يا أيها الذين آمنوا»، والرسول في الآية: نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال سبحانه: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وهذا خبرٌ بالاستغناء، وإنَّ ضَرَر الكُفْر إنما هو
نازلٌ بهم، ثم خاطَبَ سبحانه أهْلَ الكتابِ مِنَ النصارى، وهو أنْ يَدَعُوا الغُلُوَّ، وهو تجاوُزُ الحَدِّ.
وقوله: فِي دِينِكُمْ: معناه: في دِينِ اللَّهِ الَّذي أنْتُمْ مطلوبُونَ به بأنْ تُوحِّدوا اللَّه، ولا تَقُولوا على اللَّه إلا الحقَّ، ولَيْسَتِ الإشارةُ إلى دينهم المُضَلِّل، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصامِتِ (رضي اللَّه عنه)، عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عيسى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ على مَا كَانَ مِنَ عَمَلٍ» «١» رواه مسلم، والبخاريُّ والنسائيُّ، وفي مسلمٍ: «أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ».
انتهى.
وقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: الذين مِنْ جملتهم: عيسى، ومحمَّد- عليهما السلام-.
وقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ: «إنَّمَا» في هذه الآية: حاصرة، وسُبْحانَهُ: معناه: تنزيهاً له، وتعظيماً، والاستنكاف إبَاءَةٌ بأَنَفَة.
قال ع «٢» : وقوله سبحانه: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
: زيادةٌ في الحُجَّة، وتقريبٌ مِنَ الأذهان، أي: وهؤلاءِ الذين هُمْ في أعلى درجاتِ المَخْلُوقين لاَ يَسْتَنْكِفُونَ عن ذلك، فكيفَ بسواهُمْ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على تفضيل الملائكة على الأنبياء.
وقوله سبحانه: سَيَحْشُرُهُمْ
: عبارةُ وعيدٍ.
قال ع «٣» : وهذا الاِستنكافُ إنما يكونُ من الكُفَّار عن اتباع الأنبياءِ، وما جرى مجراه.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)
(١) أخرجه البخاري (٦/ ٥٤٦) كتاب «أحاديث الأنبياء»، باب قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، حديث (٣٤٣٥)، ومسلم (١/ ٥٧)، كتاب «الإيمان»، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث (٤٦/ ٢٨)، وأحمد (٥/ ٣١٣)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٢٧٧- ٢٧٨)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول عند الموت، حديث (١٠٩٦٩)، والبغوي في «شرح السنة».. (١/
١١٥- بتحقيقنا) كلهم من طريق جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت به.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٤٠).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٤٠).
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ... الآية: إشارة إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والبرهانُ: الحجة النَّيِّرة الواضحةُ الَّتي تُعْطِي اليقينَ التَّامَّ، والنُّورُ المُبِينُ: يعني القُرآن لأنَّ فيه بيانَ كُلِّ شيء، وفي «صحيح مسلم»، عن زيدٍ بْنِ أرقَمَ، قال: قَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْماً فِينَا خَطِيباً، فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى، وأثنى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي، فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الهدى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّه، واستمسكوا»، فَحَثَّ على كِتَاب اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُم اللَّهَ ثَلاَثاً فِي أَهْلِ بَيْتِي... » «١» الحديث، وفي روايةٍ: «كِتَابُ اللَّهِ فيهِ الهدى والنُّورُ مَنِ استمسك بِهِ، وَأَخَذَ بِهِ، كَانَ عَلَى الهدى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ، ضَلَّ»، وفي رواية: «أَلاَ وَإنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتبعه كَانَ عَلَى الهدى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ على ضَلاَلَةٍ». انتهى.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
وقوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ/ وَاعْتَصَمُوا بِهِ: أي: اعتصموا باللَّهِ، ويحتمل: اعتصموا بالقُرآن كما قال- عليه السلام-: «القُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ المَتِينُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ عُصِمَ» «٢»، والرحمة والفضل: الجنّة ونعيمها، ويَهْدِيهِمْ: معناه: إلى الفضل، وهذه هدايةُ طريقِ الجِنَانِ كما قال تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ... [محمد: ٥] الآية لأنَّ هداية الإرشادِ قَدْ تقدَّمت، وتحصَّلت حينَ آمنوا باللَّه واعتصموا بكتابِهِ، فيهدِيهِمْ هنا بمعنى: يُعَرِّفهم، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
(١) أخرجه مسلم (٤/ ١٨٧٣)، كتاب «فضائل الصحابة»، باب فضل علي بن أبي طالب، حديث (٣٦/ ٢٤٠٨)، وأحمد (٤/ ٣٦٦- ٣٦٧)، والدارمي (٢/ ٤٣١- ٤٣٢)، كتاب «فضائل القرآن»، باب فضل من قرأ القرآن، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤/ ٣٦٨)، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (١٥٥٠، ١٥٥١)، والطبراني في «الكبير» رقم (٥٠٢٦)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٢٠٥- بتحقيقنا).
(٢) تقدم في أول التفسير.
332
وقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، قد تقدَّم القولُ في تفسير «الكَلاَلَةِ» في صَدْر السورةِ، وكان أمر الكَلاَلَةِ عنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه) مُشْكِلاً، واللَّه أعلم، ما الذي أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَهُ: «تَكْفِيكَ مِنْهَا آيَةُ الصَّيْفِ» «١» الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخرِ سُورة «النساء» بيانٌ فيه كفايةٌ، قال كثيرٌ من الصحابة: هذه الآية هي من آخر ما نَزَلَ.
وقوله سبحانه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا: التقدير: لئلاَّ تضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، سبحانه، وصلَّى اللَّه على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسلَّم تسليما.
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٢٣٦)، كتاب «الفرائض»، باب ميراث الكلالة (٩/ ١٦١٧)، بلفظ: ألا تكفيك آية الصيف التي في أواخر سورة النساء، وأخرجه أبو داود (٣/ ١٢٠)، كتاب «الفرائض»، باب من كان ليس له ولد وله أخوات (٢٨٨٩)، بلفظ: تجزيك آية الصيف.
333
Icon