تفسير سورة النساء

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة النساء من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية

سورة النساء
مدنية، وهي مائة وست وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ يا بنى آدم خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم «١». فإن قلت: علام عطف قوله وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يعطف على محذوف، كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها، وخلق منها زوجها.
وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها وَبَثَّ مِنْهُما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها. والثاني: أن يعطف على خلقكم، ويكون الخطاب في: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للذين بعث إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت: الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعوا إليها ويبحث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟ قلت: لأنّ
(١). قال محمود: «معناه فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم وعلام عطف... الخ» قال أحمد:
وإنما قدر المحذوف في الوجه الأول حيث جعل الخطاب عاما في الجنس، لأنه لولا التقدير لكان قوله: (وَبَثَّ مِنْهُما) تكراراً لقوله: (خَلَقَكُمْ) إذ مؤداهما واحد، وليس على سبيل بيان الأول، لأنه معطوف عليه حينئذ. وأما وهو معطوف على المقدر، فذاك المقدر واقع صفة مبينة، والمعطوف عليه داخل في حكم البيان فاستقام. وأما الوجه الثاني فالتكرار فيه ليس بلازم، إذ المخاطب بقوله: (خَلَقَكُمْ)
الذين بعث إليهم النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله (وَبَثَّ مِنْهُما) واقع على من عدا المبعوث إليهم من الأمم، فلا حاجة للتقدير المذكور في الوجه الثاني، واللَّه أعلم.
461
ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدى إلى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة. وقرئ: وخالق منها زوجها. وباث منهما، بلفظ اسم الفاعل، وهو خبر مبتدإ محذوف تقديره: وهو خالق تَسائَلُونَ بِهِ تتساءلون به، فأدغمت التاء في السين. وقرئ (تساءلون) بطرح التاء الثانية، أى يسأل بعضكم بعضا باللَّه وبالرحم. فيقول: باللَّه وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف.
وأناشدك اللَّه والرحم. أو تسألون غيركم باللَّه والرحم، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع، كقولك: رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ: تسلون به. مهموز أو غير مهموز.
وقرئ (وَالْأَرْحامَ بالحركات الثلاث، فالنصب على وجهين: إما على: واتقوا اللَّه والأرحام، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور، كقولك: مررت بزيد وعمراً. وينصره قراءة ابن مسعود:
نسألون به وبالأرحام، والجرّ على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك «مررت به وزيد» و «هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك: «مررت به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدا» و «مررت بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال، لأنه لم يتكرر، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.
فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ «١»
والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: والأرحام كذلك، على معنى: والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً، وكانوا يتساءلون بذكر اللَّه والرحم، فقيل لهم: اتقوا اللَّه الذي خلقكم، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام
(١).
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
للأعشى. وقيل: لعمرو بن معديكرب. وقيل: لخفاف بن ندبة. وقيل: لعباس بن مرداس. يقال: قرب الفرس تقريباً أسرع. يقول: فاليوم دنوت مسرعا في هجونا بعد بطئك عنه. ويروى: قد بت، أى قد صرت تهجونا، فاذهب على طريقتك فإنها سمة اللئام وشيمة الأيام، فلا عجب من ذلك، وهو أمر تخلية ومتاركة. والأيام:
عطف على الضمير المجرور، وهو دليل على جوازه بدون إعادة الجار وإن منعه الجمهور.
462
فلا تقطعوها. أو واتقوا اللَّه الذي نتعاطفون باذكاره وباذكار الرحم. وقد آذن عز وجل- إذ قرن الأرحام باسمه- أن صلتها منه بمكان، كما قال: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعن الحسن: إذا سألك باللَّه فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش «١» ومعناه ما روى عن ابن عباس رضى اللَّه عنه «الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت «٢» منه». وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام «تخيروا لنطفكم» «٣» فقال: يقول لأولادكم. وذلك أن يضع ولده في الحلال. ألم تسمع قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال، فلا يقطع رحمه ولا نسبه فإنما للعاهر الحجر، ثم يختار الصحة ويجتنب الدعوة «٤»، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من اللَّه.
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
(الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم. الانفراد. ومنه: الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة. وقيل: اليتم في الأناسى من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. فإن قلت: كيف جمع اليتيم- وهو فعيل كمريض- على يتامى؟ قلت: فيه وجهان: أن يجمع على يتمى كأسرى، لأنّ اليتم من وادى الآفات والأوجاع، ثم يجمع فعلى على فعالي كأسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجرى اليتيم مجرى الأسماء، نحو صاحب وفارس، فيقال: يتائم، ثم يتامى على القلب. وحق هذا
(١). قوله «حجنة عند العرش» في الصحاح: الحجن- بالتحريك- الاعوجاج. وصقر أحجن المخالب معوجها. وحجنة المغزل- بالضم- هي المنعقفة في رأسه. وفيه أيضا: عقفت الشيء فانعقف، أى عطفته فانعطف.
والتعقيف: التعويج (ع)
(٢). أخرجه إسحاق بن راهويه: أخبرنا جرير عن قابوس عن أبيه عنه به. ورواه الحكيم الترمذي من هذا الوجه
(٣). رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني من حديث هشام عن أبيه عن عائشة. قال ابن طاهر: لم يروه عن هشام ثقة. ورواه ابن عدى من طريق عيسى بن ميمون أحد الضعفاء عن القاسم عن عائشة رضى اللَّه عنها ورواه تمام في فوائده وأبو نعيم في الحلية من رواية الزهري عن أنس وفيه عبد العظيم بن إبراهيم السالمى وهو مجهول. ورواه ابن عدى من حديث عمر موقوفا. وفيه سليمان بن عطاء وهو ضعيف وقال ابن طاهر: رواه إسحاق بن الغيض عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء، فمرة قال: عن ابن عباس. ومرة قال: عن عائشة. وهذا أجود طرقه إن كان الاسناد إلى إسحاق قويا. قال ابن أبى حاتم عن أبيه: هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه [.....]
(٤). قوله «ويجتنب الدعوة» لعله الدعرة بالراء بدل الواو. وفي الصحاح: الدعر- بالتحريك- الفساد. (ع)
463
الاسم أن يقع على الصغار «١» والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش تقول لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يتيم أبى طالب، إمّا على القياس وإمّا حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعا له. وأمّا قوله عليه السلام «لا يتم بعد الحلم» «٢» فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة، يعنى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. فإن قلت: فما معنى قوله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ؟ قلت:
إما أن يراد باليتامى الصغار، وبإتيانهم الأموال: أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة، حتى تأتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإمّا أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس، أو لقرب عهدهم- إذا بلغوا- بالصغر، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها. على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، ولا ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار. وقيل:
هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم «٣» فنزلت، فلما سمعها العم قال: أطعنا اللَّه وأطعنا الرسول، نعوذ باللَّه من الحوب الكبير، فدفع ماله إليه فقال النبي عليه السلام: ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره. يعنى جنته، فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل اللَّه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ثبت الأجر، ثبت الأجر وبقي الوزر: قالوا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا أنه ثبت الأجر
(١). قال محمود: «إما أن يراد باليتامى الصغار... الخ» قال أحمد: والوجه الأول قوى بقوله بعد آيات (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد.
ويقوله أيضا قوله عقيب الأولى (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره. وأما على الوجه الآخر فيكون مؤدى الآيتين واحداً، وهو الأمر بالايتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالجملة الثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد، واللَّه أعلم.
(٢). أخرجه أبو داود عن على وإسناده حسن لأن له طريقاً أخرى عن على أخرجه عبد الرزاق أيضاً عن الثوري عن جويبر موقوفا. وصوبه العقيلي وقد تابع جويبرا عليه عبد الكريم بن أبى المخارق عن الضحاك. وعبد الكريم متروك أيضاً وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن سليمان الصوفي من رواية علقمة بن قيس عن على. ورواه أبو يعلى والطبراني من رواية ذيال بن عبيد بن حنظلة بن جذيم بن حنيفة. سمعت جدي حنظلة يقول سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول. فذكره وفي الباب عن أنس عند البزار وفيه مرثد بن عبد الملك وهو ضعيف. وعن جابر عند عبد الرزاق والطيالسي وابن يعلى من رواية حرام بن عثمان وهو متروك. ومن طريق سعيد بن المرزبان عن يزيد الفقير عن جابر. وسعيد ضعيف جداً
(٣). ذكره الثعلبي عن مقاتل والكلبي. وسنده إليهما مذكور في أول الكتاب.
464
كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل اللَّه؟ فقال: ثبت أجر الغلام، وبقي الوزر على والده وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق اللَّه المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها «١» والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، منه التعجيل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمّة:
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا... عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ «٢»
أراد: ويا لؤم ما استخلفته الدار واستبدلته. وقيل: هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيداً. وعن السدى: أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ولا تنفقوها معها. وحقيقتها: ولا تضموها إليها «٣» في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم
(١). قوله «والتورع منها» لعله: عنها. (ع)
(٢). لذي الرمة. والسكن- بالسكون-: سكان الدار، فهو اسم جمع لساكن، كركب لراكب، وصحب لصاحب. وفي نداء كرمهم معنى التعجب من كثرته، أى يا كرم أصحاب الدار الذين ارتحلوا عنها، ويا لؤم المستخلف المتبدل، على صيغة اسم المفعول فيهما أى ما استخلفته وما استبدلته بعدهم من الوحوش. وقيل: من الذين لا يوفون بالمراد، فالتبدل بمعنى الاستبدال. والمستخلف على تقدير مضاف دل عليه المقام.
(٣). قال محمود: «معناه ولا تضموها إلى أموالكم... إلخ» : قال أحمد: وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهى عن أدناها تنبيها على الأعلى، كقوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأى مخالفا لها، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهى أن يأكله وهو غنى عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه، حتى يلزم نهى الغنى عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر بوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهى عن الأدنى وإن أفاد النهى عن الأعلى إلا أن للنهى عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهى عن الأدنى، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل، فخصص بالنهى تشنيعا على من يقع فيه، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء، دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهى بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كاعانتها عليه في الصورة الأولى. ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل، مع أن تناول مال اليتيم على أى وجه كان منهى عنه، كان ذلك بالادخار، أو بالتباس، أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهى بالأكل: أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعد البطنة من البهيمة وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهى به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهى بما هو أعلى قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) فخص هذه الصورة لأن الطبع على الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهى نظر آخر في الأمر، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ... ) الآية كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن اللَّه تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر باسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا فان النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذى الرحم مطلقاً حضر أو غاب، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلفى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل اللَّه أن يسلك بنا في هذا النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا النظر في جانب الأمر، واللَّه الموفق.
465
قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم اللَّه من مال حلال- وهم على ذلك يطمعون فيها- كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعليهم وسمع بهم، ليكون أزجر لهم. والحوب: الذنب العظيم. ومنه قوله عليه السلام «إن طلاق أم أيوب لحوب «١» » فكأنه قيل: إنه كان ذنبا عظيما كبيراً. وقرأ الحسن (حُوباً) بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ: حابا. ونظير الحوب والحاب: القول والقال. والطرد والطرد.
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
(١). أخرجه أبو داود في المراسيل وإبراهيم الحربي في الغريب من رواية أنس بن سيرين قال: بلغني أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «يا أبا أيوب. إن طلاق أم أيوب لحوب» ورواه يحيى الحماني في مسنده. والطبراني في الأوسط من طريقه. قال: حدثنا حماد بن زيد عن واصل عن محمد بن سيرين عن ابن عباس وزاد: قال ابن سيرين: والحوب الإثم. وروى الحاكم من رواية على بن عاصم عن حميد عن أنس قال: كان بين أبى طلحة وأم سليم كلاما. فأراد أن يطلقها. فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال «إن طلاق أم سليم لحوب».
466
ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء «١» أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن، فقيل لهم:
إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقالوا عدد المنكوحات، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب، لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل:
كانوا لا يتحرّجون من الزنا «٢» وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرّمات. وقيل:
كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها، فيتزوجها ضناً بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف- لضعفهن وفقد من يغضب لهن- أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل:
أيامى، والأصل: أيائم ويتائم. وقرأ النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) يريد: وإن خفتم أن تجوروا ما طابَ ما حلّ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لأنّ منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء: ومنه قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن أعداد مكررة، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغها، وعدلها عن تكررها، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف. تقول: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، ومحلهن
(١). قال محمود: «لما نزلت آية اليتامى خاف الأولياء... الخ» قال أحمد: قد ثبت أن قاعدة القدرية وعقيدتهم أن الكبيرة الواحدة توجب خلود العبد في العذاب وإن كان موحدا، ما لم يتب عنها، فمن ثم يقولون: لا تفيد التوبة عن بعض الذنوب والإصرار على بعضها، لأنه بواحدة من الكبائر ساوى الكافر في الخلود في العذاب، ولا يفيد توحيده ولا شيء من أعماله. هذا هو معتقدهم الفاسد الذي يروم الزمخشري تفسير الآية عليه فاحذره. أما أهل السنة فيقولون: إذا تاب العبد من بعض الذنوب كان الخطاب بوجود التوبة من باقيها متوجها عليه، وكأنه قام ببعض الواجبات وترك القيام ببعضها، فأفادته التوبة محو المتوب عنه بإذن اللَّه ووعده، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه، فان كان تفسير الآية على أنهم خوطبوا بالتحرج في حقوق النساء والتوبة من الجور عليهن كما تابوا عن الحيف على اليتامى، فالأمر في ذلك منزل على ما بيناه من قواعد السنة، واللَّه ولى التوفيق.
(٢). عاد كلامه. قال محمود: وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى... الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل الذي أخرجه جدير بالتقدم وهو الأظهر، وتكون الآية معه لبيان حكم اليتامى، وتحذيراً من التورط في الجور عليهن، وأمراً بالاحتياط. وفي غيرهن متسع إلى الأربع، وأصدق شاهد على أنه هو المراد.
467
النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ (قلت) : الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال- وهو ألف درهم- درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة: أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضه على تثليث، وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره: أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك. وقرأ إبراهيم: وثلث وربع، على القصر من ثلاث ورباع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فَواحِدَةً فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا. فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ (فَواحِدَةً) بالرفع على: فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء، من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري أنهنّ أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. وقرأ ابن أبى عبلة. من ملكت ذلِكَ إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أقرب من أن لا تميلوا، من قولهم:
عال الميزان عولا، إذا مال. وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له: أتعول علىّ. وقد روت عائشة رضى اللَّه عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «ألا تعولوا: أن لا تجوروا «١» » والذي يحكى عن الشافعي رحمه اللَّه أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا تكثر عيالكم، فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم
(١). أخرجه ابن حبان وابراهيم الحربي والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من رواية عمر بن محمد بن زيد عن هشام عن أبيه عنها، قال ابن أبى حاتم: الصواب موقوف.
468
وأئمة الشرع ورؤس المجتهدين، حقيقى بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا «١». وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العىّ، من كلام الشافعي» شاهداً بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرفا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. فإن قلت: كيف يقل عيال من تسرّى، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت: ليس كذلك، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسرى، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهنّ، فكان التسرى مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوّج، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا، من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه اللَّه من حيث المعنى الذي قصده.
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
صَدُقاتِهِنَّ مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ: (صَدُقاتِهِنَّ) بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن. وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ: صدقتهن، بضم الصاد والدال على التوحيد، وهو تثقيل صدقة، كقولك في ظلمة ظلمة نِحْلَةً من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا. ومنه حديث أبى بكر رضى اللَّه عنه: إنى كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية «٢». وانتصابها على المصدر «٣»
(١). أخرجه المحاملي. حدثنا زياد بن أيوب. حدثنا محمد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر عن سليمان أن عبدة قال: قال عمر فذكره. وإسناده منقطع ورواه الجوهري في مشيخته والأصبهانى في الترغيب في قصة طويلة أولها عن سعيد بن المسيب قال «وضع عمر بن الخطاب للناس ثمان عشرة كلمة كلها حكمة» فذكر فيها ذلك وفي الاسناد ضعف وروى البيهقي في الشعب من وجه آخر عنه قال «كتب إلى بعض إخوانى من الصحابة أن ضع أمر أخيك على أحسنه- الحديث» موقوف أيضاً.
(٢). أخرجه مالك بإسناد صحيح أتم منه.
(٣). قال محمود: «نحلة منصوب على المصدر لأنها في معنى الإيتاء... الخ» قال أحمد: هذا الفصل بجملته حسن جداً، غير أن في جملة تذكير الضمير في منه على الصداق، ثم تنظيره ذلك بقوله «فأصدق نظراً» وذلك أن المراعى ثم الأصل، وهو عدم دخول الفاء والجزم وتقدير ما هو الأصل، وإعطاؤه حكم الموجود ليس ببدع، ولا كذلك إفراد الصداق المقدر، فانه ليس بأصل الكلام، بل الأصل الجمع: وأما الافراد فقد يأتى في مثله على سبيل الاختصار استغناء عن الجمع بالاضافة، ولا يرد أنهم قد راعوا ما ليس بأصل في قوله:
بدا لي أنى لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
لأن دخول الباء وإن لم يكن أصلا، إلا أنها قد توطنت بهذا الموضوع وكثر حلولها فيه، فصارت كأن الأصل دخولها في الخبر، واللَّه أعلم. والأمر في ذلك قريب [.....]
469
لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أى أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أى آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من اللَّه عطية من عنده وتفضلا منه عليهن، وقيل: النحلة الملة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا:
أى يدين به. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالا من الصدقات، أى دينا من اللَّه شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، وكانوا يقولون: هنيئا لك النافجة، لمن تولد له بنت، يعنون: تأخذ مهرها فتنفج به مالك أى تعظمه. الضمير في: (مِنْهُ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك، كما قال اللَّه تعالى: (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) بعد ذكر الشهوات، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
كَأنَّهُ فِى الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ «١»
فقال: أردت كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق، لأنك لو قلت:
وآتوا النساء صداقهن، لم تخل بالمعنى، فهو نحو قوله: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) كأنه قيل:
أصدّق. ونَفْساً تمييز، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى:
فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم فَكُلُوهُ فأنفقوه. قالوا: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة، علم أنها لم تطب منه نفسا، وعن الشعبي: أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: ردّ عليها. فقال الرجل: أليس قد قال اللَّه تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه: أقيلها فيما وهبت ولا أقيلة، لأنهنّ يخدعن. وحكى أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتنى طيبة بها نفسها، فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئا؟ اردد عليها. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه كتب إلى قضاته: إن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» «٢»
(١). مر شرح هذا الشاهد بصفحة ١٤٩ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق محمد بن عبيد اللَّه الثقفي قال كتب عمر نحوه.
470
وعن ابن عباس أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم اللَّه به في الآخرة» «١» وروى أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فقال اللَّه تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه سائغا هنيئا. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: فإن طبن، ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن، إعلاما بأنّ المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل: إن طبن لكم عن شيء منه، ولم يقل: فإن طبن لكم عنها، بعثا لهن على تقليل الموهوب. وعن الليث بن سعد:
لا يجوز تبرعها إلا باليسير. وعن الأوزاعى: لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة.
ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله، لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا. الهنيء، والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء: ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته.
وقيل هو ما ينساغ في مجراه. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء» لمروء الطعام فيه وهو انسياغه، وهما وصف للمصدر، أى أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير، أى كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ مريئا على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين، كأنه قيل: هنأ مرأ. وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
السُّفَهاءَ المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء: وأضاف الأموال إليهم «٢» لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ). جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أى تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ: قيما، بمعنى قياما، كما جاء عوذا بمعنى عياذا. وقرأ عبد اللَّه بن عمر: قواما، بالواو. وقوام الشيء: ما يقام به، كقولك هو ملاك الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني
(١). أخرجه الثعلبي والواحدي في الأوسط من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.
(٢). قال محمود: «المراد أموال السفهاء وأضافها إلى الأولياء... الخ» قال أحمد: ويؤيد هذا المعنى أنه لما أمر باسعاف ذوى القربى على سبيل المواساة قال: وارزقوهم منه، لأن المدفوع إليهم من صلب المال، واللَّه أعلم.
اللَّه عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان- وكانت له بضاعة يقلبها-: لولاها لتمندل بى بنو العباس «١». وعن غيره- وقيل له إنها تدنيك من الدنيا-: لئن أدنتنى من الدنيا لقد صانتنى عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك وَارْزُقُوهُمْ فِيها واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل: هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء، قريب أو أجنبى، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده قَوْلًا مَعْرُوفاً قال ابن جريج:
عدّة جميلة، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت في غزاتى جعلت لك حظا. وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل: عافانا اللَّه وإياك، بارك اللَّه فيك. وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل، فهو معروف. وما أنكرته ونفرت منه لقبحه، فهو منكر.
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
وَابْتَلُوا الْيَتامى واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم «٢» ومعرفتهم بالتصرف، قبل البلوغ
(١). قوله «لتمندل بى بنو العباس» في الصحاح: المنديل معروف، تقول منه: تسندلت بالمنديل، وتمندلت. (ع)
(٢). قال محمود: «معناه اختبروا أحوالهم... الخ» قال أحمد: الابتلاء على هذا الوجه مذهب مالك رضى اللَّه عنه، غير أنه لا يكون عنده إلا بعد البلوغ ولا يدفع إليه من ماله شيء قبله، وكذلك أحد قولي الشافعي رضى اللَّه عنه، وقوله الآخر كمذهب أبى حنيفة، غير أن عنه خلافا في صورته قبل البلوغ على وجهين: أحدهما أن يسلم إليه المال ويباشر العقود بنفسه كالبالغ، والآخر أن يكون وظيفته أن يساوم، وتقرير الثمن إذا بلغ الأمر إلى العقد باشره الولي دونه وسلم الصبى الثمن، فأما الرشد فالمعتبر عند مالك رضى اللَّه عنه فيه: هو أن يحرز ماله وينميه، وإن كان فاسقاً في حاله. وعند الشافعي: المعتبر صلاح الدين والمال جميعاً، وغرضنا الآن أن نبين وجه تنزيل مذهب مالك في هذه الآية واللَّه المستعان. فأما منعه من الإيتاء قبل البلوغ- وإن كان ظاهر الآية أن الإيتاء قبله- من حيث جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء، والغاية متأخرة عن المغيا ضرورة، فيتعين وقوع الإيتاء قبل. ولهذه النكتة أثبته أبو حنيفة قبل البلوغ واللَّه أعلم، فعلى جعل المجموع من البلوغ وإيناس الرشد هو الغاية حينئذ يلزم وقوع الابتلاء قبلهما، أعنى المجموع وإن وقع بعد أحدهما وهو البلوغ، لأن المجموع من اثنين فصاعدا لا يتحقق إلا بوجود كل واحد من مفرديه. ويحقق هذا التنزيل أنك لو قلت: وابتلوا اليتامى بعد البلوغ، حتى إذا اجتمع الأمران وتضاما البلوغ والرشد فادفعوا إليهم أموالهم، لاستقام الكلام، ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالأمرين واقعاً قبل مجموعهما، ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبى حنيفة في قوله: إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الإيلاء لا بعده، وتنزيله على قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجدد به عهداً يتضح لك تناسب النظرين، واللَّه أعلم. وأما اقتصاره رضى اللَّه عنه بالرشد على المال، فان كان المولى عليه فاسق الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه، فلو كان المراد إصلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله في حالتي عدمه ويسره. ولو كان المراد إصلاح الدين والمال معا- كما يقوله الشافعي رضى اللَّه عنه- لم يكن إصلاح الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا. وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعاً هو الغاية في الرشد، وليس الجمع بينهما بقيد، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك، إذ الظاهر: فان آنستم منهم رشداً ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير منتظرين بلوغ الغاية فيه، واللَّه أعلم.
472
حتى إذا تبينتم منهم رشداً- أى هداية- دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل.
والإيناس: الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد، فالابتلاء عند أبى حنيفة وأصحابه: أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد: التهدى إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس: الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند مالك والشافعي: الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين. والرشد: الصلاح في الدين، لأن الفسق مفسدة للمال. فإن قلت: فإن لم يؤنس منه رشد إلى حدّ البلوغ؟ قلت:
عند أبى حنيفة رحمه اللَّه ينتظر إلى خمس وعشرين سنة، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه السلام «مروهم بالصلاة لسبع» «١» دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه:
لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد. فإن قلت: ما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت: كيف نظم هذا الكلام؟ «٢» قلت: ما بعد (حَتَّى) إلى (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)
(١). أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة والحاكم من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبوة الجهني عن أبيه عن جده مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع» ورواه أبو داود والحاكم من طريق سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأعله العقيلي في الضعفاء بسوار. ورواه البزار من رواية محمد بن الحسن بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن عنه وأعله العقيلي بمحمد ابن الحسن وقال: الأولى رواية من رواه عن محمد بن عبد الرحمن مرسلا وذكره ابن حبان في الضعفاء عن عبد المنعم بن نعيم الرياحي عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة ورواه الدارقطني في الأوسط من حديث أنس وفيه داود بن المجير وهو متروك.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فما وجه نظم الكلام الواقع بعد حتى إلى قوله فادفعوا إليهم أموالهم... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: هو يروم بهذا التقدير تنزيل مذهب أبى حنيفة في سبق الابتلاء على البلوغ على مقتضى الآية، وقد أسلفنا وجه تنزيل مذهب مالك عليها بأظهر وجه وأقربه. والحاصل أن مقتضى النظر إلى المجموع من حيث هو ومقتضى مذهب أبى حنيفة النظر إلى المفردين، والظاهر اعتبار المجموع فان العطف بالفاء يقتضيه، واللَّه أعلم.
473
جعل غاية للابتلاء، وهي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، كالتي في قوله:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا بِدِجْلَةَ حَتَّي مَاءُ دِجْلَهَ أشْكَلُ «١»
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط، وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. وقرأ ابن مسعود: فإن أحسيتم بمعنى أحسستم قال:
أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْه شُوسُ «٢»
وقرئ: رشداً، بفتحتين. ورشداً، بضمتين إِسْرافاً وَبِداراً مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها، وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيراً، فالغنى يستعف من أكلها «٣» ولا يطمع، ويقتنع بما رزقه اللَّه من الغنى إشفاقا على اليتيم، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتا مقدراً محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف، مما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير
(١). لجرير، يقول: فما زالت تمج، أى تلقى وتخرج دماءها في شاطئ دجلة. وحتى: ابتدائية تقع بعدها الجمل، ولا تخلو من معنى الغاية. وأشكل: خبر المبتدأ، وهو الأبيض المشوب بحمرة. وأظهر في محل الإضمار لقيد التهويل والتعظيم. أى حتى أن ماء ذلك النهر الكبير مختلط بالحمرة.
(٢).
فباتوا يدلجون وبات يسرى بصير بالدجى هاد عموس
إلى أن عرسوا وانحت منهم قريباً ما يمس له مسيس
سوى أن العناق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس
لأبى زبيد الطائي. والإدلاج: سير أول الليل. والتدليج: سير آخره. والسرى: سير الليل. وبصير: صفة لمحذوف. وبالدجى: متعلق به. والبصير: المتبصر الخبير أو المبصر، فالباء بمعنى في. والدجى الظلم. والهادي:
المراد به المهتدى. والعموس: القوى الشديد. وعرسوا: أى نزلوا. والحت: النتف والفرك والقطع والسرعة.
فانحت: انعزل منهم بسرعة، أو أسرع قريبا منهم ما يمس: أى لا يسمع له مسيس، أى صوت مسه للأرض في المشي. والعتاق: النجائب أو المسنة. وأحسن: أصله أحسسن، نقلت فتحة السين إلى الحاء ثم حذفت. ويروى:
حسين. وفي لغة: حسين، بكسر السين. وأصله حسسن، قلبت السين الثانية حرف علة. وزيادة الباء بعد فعل الحس كثيرة وإن تعدى بنفسه. والشوس: جمع أشوس، أو شوساء وهو الذي ينظر بمؤخر عينه يصف مسافرين والأسد يطلب فريسة منهم، وكثيرا ما يحذفون الموصوف كالأسد هنا، لأن الصفة تعينه، أو لادعاء تعينه.
(٣). قوله «من أكلها»
لعله «عن»، (ع)
474
متأثل «١» مالا ولا واق مالك بماله» فقال: أفأضربه قال: «مما كنت ضارباً منه ولدك «٢» » : وعن ابن عباس: أنّ ولىّ اليتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغى ضالتها، وتلوط حوضها، وتهنأ جرباها «٣» وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب «٤» وعنه: يضرب بيده مع أيديهم، فليأكل بالمعروف، ولا يلبس عمامة فما فوقها. وعن إبراهيم: لا يلبس الكتان والحلل، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة. وعن محمد بن كعب: يتقرّم تقرّم البهيمة «٥» وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بدّ منه. وعن الشعبي: يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه:
كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضى. وعن مجاهد: يستسلف، فإذا أيسر أدّى. وعن سعيد بن جبير: إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه، وإن أعسر فهو في حلّ. وعن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: إنى أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة والى اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا
(١). قوله «غير متأثل مالا» أى: متخذ مالا أصلا، كما في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي من طريق معاوية بن هشام. حدثنا الثوري عن ابن أبى نجيح عن الحسن العرني عن ابن عباس قال «جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن في حجري يتيما» بلفظ المصنف سواء ورواه عبد الرزاق في المصنف وابن المبارك في البر والصلة والطبري عن سفيان بن عيينة عن ابن دينار عن الحسن العرني «أن رجلا قال يا رسول اللَّه» فذكره مرسلا وهو عند ابن أبى شيبة في البيوع عن إسماعيل عن أيوب بن عمرو كذلك. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: لا أجد شيئا وليس لي مال. ولي يتيم له مال. قال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا تق مالك بماله» وروى ابن حبان من رواية صالح بن رستم عن عمرو بن دينار عن جابر قال: قال رجل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «مم أضرب يتيمى؟ قال: ما كنت ضارباً منه ولدك، غير واق مالك بماله. ولا متأثل من ماله مالا» وأخرجه ابن عدى في الكامل في ترجمة صالح بن رستم. وهو أبو عامر الخزان وضعفه عن ابن معين. وقال: لم أجد له حديثا منكرا. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن دينار.
وقال: تفرد به الخزان وهو من ثقات البصريين.
(٣). قوله «وتلوط حوضها وتهنأ جرباها» أى تصلحه بالطين بأن تلزقه به. أفاده الصحاح. وفيه: هنأت البعير أهنؤه إذا طلبته بالهناء وهو القطران اه. ونقل المناوى بهامشه عن الزجاج أنه بضم النون وأنه لم يجئ مضموم العين في مهموز اللام إلا هنأ يهنأ وقرأ يقرأ فليحرر. (ع) [.....]
(٤). أخرجه عبد الرزاق من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد. قال «جاء رجلي إلى ابن عباس» فذكره، إلا أنه قال: بدل تبغى ضالتها «ترد نادتها» وأخرجه الطبري من طريقه والثعلبي والواحدي من وجه آخر عن القاسم. ورواه البغوي من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم وهو في الموطأ.
(٥). قوله: «يتقرم تقرم البهيمة» في الصحاح: قرم الصبى والبهيم قرما وقروما وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. وتقرم مثله. (ع)
475
أيسرت قضيت» «١» واستعف أبلغ من عفّ، «٢» كأنه طالب زيادة العفة فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبى حنيفة وأصحابه. وعند مالك والشافعي لا يصدّق إلا بالبينة، فكان في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضى إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أى كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا. فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧ الى ٨]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
الْأَقْرَبُونَ هم المتوارثون من ذوى القرابات دون غيرهم مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مما ترك بتكرير العامل. ونَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص، بمعنى: أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بدّ لهم من أن يحوزوه ولا يستأثر به. ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) كأنه قيل: قسمة مفروضة. وروى أن أوس بن الصامت الأنصارى «٣» ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهنّ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فجاءت أم كحة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه، فقال: «ارجعي حتى أنظر ما يحدث اللَّه «فنزلت، فبعث إليهما «لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإنّ اللَّه قد جعل لهنّ نصيبا ولم يبين حتى يبين» فنزلت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) فأعطى أم كحة
(١). أخرجه ابن سعد وابن أبى شيبة والطبري من رواية إسرائيل وسفيان كلاهما عن أبى إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر ورواه سعيد بن منصور عن أبى الأحوص عن أبى إسحاق عن البراء قال: قال لي عمر. فذكره
(٢). قال محمود: «استعف أبلغ من عف، وكأنه يطلب زيادة العفة من نفسه» قال أحمد: في هذا إشارة إلى أنه من استفعل بمعنى الطلب وليس كذلك، فان استفعل الطلبية متعدية وهذه قاصرة. والظاهر أنه مما جاء فيه فعل واستفعل بمعنى، واللَّه أعلم.
(٣). قوله «روى أن أوس بن الصامت الأنصارى» في رواية ابن ثابت. وليحرر اه (ع)
الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم «١» وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أى قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الضمير لما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب قال الحسن: كان المؤمنون يفعلون ذلك، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بالشيء من رثة المتاع «٢». فحضهم اللَّه على ذلك تأديبا من غير أن يكون فريضة. قالوا: ولو كان فريضة لضرب له حدّ ومقدار كما لغيره من الحقوق، وروى أن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبى بكر رضى اللَّه عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضى اللَّه عنها حية؟ فلم يدع في الدار أحداً إلا أعطاه، وتلا هذه الآية. وقيل: هو على الوجوب. وقيل: هو منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير:
أن ناسا يقولون نسخت، وو اللَّه ما نسخت، ولكنها مما تهاونت به الناس. والقول المعروف أن يلطفوا لهم القول ويقولوا: خذوا بارك اللَّه عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلوا ما أعطوهم ولا يستكثروه، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين، يعنيان الورق والذهب. فإذا قسم الورق والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قالوا لهم قولا معروفا، كانوا يقولون لهم:
بورك فيكم.
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
(١). هكذا أورده الثعلبي ثم البغوي بغير سند وقال الواحدي في الأسباب: قال المفسرون «إن أوس بن ثابت الأنصارى توفى وترك امرأة يقال لها أم كحة، وله منها ثلاث بنات. فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما عافجة وسويد فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئاً ولا بناته. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير، وإن كان ذكراً. وإنما يورثون الرجال الكبار. وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وحاز الغنيمة فجاءت أم كحة فذكره إلى آخره سواء. والظاهر أنه عنى بقوله «المفسرون» الكلبي ومقاتل وأشباههما وقد روى الطبري هذه القصة من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق ولفظه «نزلت في أم كحة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول اللَّه توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث. فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدواً. فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية وروى من طريق السدى قال: في قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) - الآية كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من العلمان ولا يورثون إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أبو حسان الشاعر. وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس أخوات. فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأنزل اللَّه (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ثم قال في أم كحة (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) - الآية
(٢). قوله «من رثة المتاع»
في الصحاح: الرثة: السقط من متاع البيت من الخلقان، والجمع رثث، مثل قربة وقرب. (ع)
477
«لو» مع ما في حيزه صلة للذين. والمراد بهم: الأوصياء، أمروا بأن يخشوا اللَّه «١» فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا وشفقتهم عليهم وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم ويصوّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى: وليخشوا على اليتامى من الضياع. وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من اللَّه شيئا، فقدم مالك، فيستغرقه بالوصايا، فأمروا بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمراً بالشفقة للورثة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين وأن يتصوّروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ فإن قلت: ما معنى وقوع لَوْ تَرَكُوا وجوابه صلة للذين؟ قلت: معناه:
وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:
لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَىَّ حُبًّا بَنَاتِى إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أَن يَرَيْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِى وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِى «٢»
وقرئ: ضعفاء. وضعافى، وضعافى. نحو: سكارى، وسكارى. والقول السديد من الأوصياء: أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بيا بنىّ ويا ولدى، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لسعد: «إنك إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس «٣» » وكان الصحابة رضى اللَّه عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وأن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن
(١). قال محمود: «المراد الأوصياء أمروا بأن يخشوا اللَّه... الخ» قال أحمد: وإنما ألجأه إلى تقدير (تَرَكُوا) بقوله: شارفوا أن يتركوا لأن جوابه قوله: (خافُوا عَلَيْهِمْ) والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم وذلك في دار الدنيا، فقد دل على أن المراد بالترك الاشراف عليه ضرورة، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل، ونظيره (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أى شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ولا في الذب عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها ومعبراً عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، واللَّه أعلم.
(٢). تقدم شرح هذه الشواهد بصفحة ٤٠٤ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). متفق عليه من حديث سعد بن أبى وقاص في قصة.
478
يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
ظُلْماً ظالمين «١»، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته فِي بُطُونِهِمْ ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه. قال:
كُلُوا فِى بَعْضِ بَطْنِكُمُوا تَعِفُّوا «٢»
ومعنى يأكلون نارا: ما يجر إلى النار، فكأنه نار في الحقيقة. وروى: أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره «٣» ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه «٤» فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا. وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها سَعِيراً ناراً من النيران مبهمة الوصف.
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
(١). قال محمود: «معناه ظالمين، أو على وجه الظلم... الخ» قال أحمد: ومثله (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أى شدقوا بها وقالوها بملء أفواههم. أو يكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع، حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله، خص الأكل لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها، واللَّه أعلم.
(٢).
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فان زمانكم زمن خميص
أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس، أى لا تملؤها، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف- بكسر عين المضارع- من باب ضرب يضرب. ثم قال: فان زمانكم، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب.
والخميص: الضامر البطن. فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.
(٣). قوله من «قبره» يروى من دبره. ويؤيده ما في الخازن من حديث أبى سعيد الخدري، أنهم يجعل في أفواههم صخر من نار يخرج من أسافلهم اه، فحرره. (ع)
(٤). أخرجه الطبري من طريق السدى قال «يبعث اللَّه آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه وأنفه» إلى آخره وفي صحيح ابن حبان من رواية زناد أبى المنذر عن نافع بن الحرث عن أبى برزة رفعه يبعث اللَّه يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم ناراً فقيل من هم يا رسول اللَّه؟ فقال: ألم تر أنّ اللَّه يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية وفي إسناده زناد المذكور. كذبه ابن معين وشيخه نافع بن الحرث ضعيف أيضاً وقد أورده ابن عدى في الضعفاء في ترجمة زناد وأعل يه. [.....]
479
يُوصِيكُمُ اللَّهُ يعهد إليكم ويأمركم فِي أَوْلادِكُمْ في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة. وهذا إجمال تفصيله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإن قلت: هلا قيل: للأنثيين مثل حظ الذكر «١» أو للأنثى نصف حظ الذكر قلت: ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله، كما ضوعف حظه لذلك، ولأنّ قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قصد إلى بيان فضل الذكر. وقولك:
للأنثيين مثل حظ الذكر، قصد إلى بيان نقص الأنثى. وما كان قصداً إلى بيان فضله، كان أدلّ على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث «٢» وهو السبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. فإن قلت: فإن حظ الأنثيين الثلثان، فكأنه قيل للذكر الثلثان. قلت: أريد حال الاجتماع لا الانفراد أى إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين. والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع، أنه أتبعه حكم الانفراد، وهو قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) والمعنى للذكر منهم، أى من أولادكم، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم، كقولهم: السمن منوان بدرهم فَإِنْ كُنَّ نِساءً فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصاً. ليس معهن رجل يعنى بنات ليس معهن ابن فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يجوز أن يكون خبراً ثانياً لكان وأن يكون صفة لنساء أى نساء زائدات على اثنتين (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى فَلَهَا النِّصْفُ وقرئ: واحدة بالرفع على كان التامّة والقراءة بالنصب أوفق لقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ)
(١). قال محمود: «إن قلت هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر... الخ» قال أحمد: لأن الأفضلية حينئذ مدلول عليها بواسطة الاستلزام لا منطوق بها. وأما على نظم الآية، فالأفضلية منطوق بها غير محتاجة إلى ذلك.
(٢). عاد كلامه. قال: «ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث... الخ» قال أحمد: وعلى مقتضى هذا لا يكون حكم الابن إذا انفرد مذكوراً في الآية، لأنه حيث ذكره فإنما عنى حالة الاجتماع مع الإناث خاصة على تفسير الزمخشري. هذا ويمكن خلافه، وهو أن المذكور أولا ميراث الذكر على الإطلاق مجتمعا مع الإناث منفرداً، أما وجه تلقى حكمه حالة الاجتماع فقد قرره الزمخشري. وأما وجه تلقيه حالة الانفراد فمن حيث أن اللَّه تعالى جعل له مثل حظ الأنثيين، فان كانت معه فذاك، وإن كانت منفردة عنه فقد جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر عند انفراده مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل. واللَّه أعلم.
480
بالضم. والضمير في تَرَكَ للميت لأنّ الآية لما كانت في الميراث، علم أن التارك هو الميت.
فإن قلت: قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف صح أن يردف قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت:
وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوق للأمرين جميعا، فلذلك صح أن يقال: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) : فإن قلت. هل يصح أن يكون الضميران في «كنّ» و «كانت» مبهمين، ويكون «نساء» و «واحدة» تفسيراً لهما، على أن كان تامة؟ قلت: لا ابعد ذلك. فإن قلت: لم قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً «١» ) ولم يقل: وإن كانت امرأة؟
قلت: لأنّ الغرض ثمة خلوصهن إناثا لا ذكر فيهنّ، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وبين انفرادهن. وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها. فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما، وما باله لم يذكر؟ قلت: أما حكمهما فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة «٢»، لقوله تعالى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف. وأما سائر الصحابة فقد أعطوهما حكم الجماعة، والذي يعلل به قولهم: أن قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قد دلّ على أن حكم الأنثيين حكم الذكر، وذلك أن الذكر كما يجوز الثلثين مع الواحدة، فالأنثيان كذلك يجوزان الثلثين، فلما ذكر ما دلّ على حكم الأنثيين قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) على معنى: فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن
(١). عاد كلامه. قال محمود: فان قلت لم قيل فان كن نساء، ولم يقل: وإن كانت امرأة... الخ» قال أحمد:
يريد أن حكم البنتين حال اجتماعهما مع الابن مذكور في قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وأن حكم البنات منفردات مذكور في قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وأن حكم البنت منفردة مذكور في قوله: (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) وبقي عليه أن ذكر الابن في حال الانفراد مستفاد من قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إذا ضممته إلى قوله: (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) على التقرير الذي قدمته.
(٢). عاد كلامه. قال في الجواب «أما حكمها فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة... الخ» قال أحمد: ومحز النظر أن ابن عباس أجرى التقييد بالصفة، وهي قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) على ظاهره من مفهوم المخالفة، غير أنه ما كان يقتضى اللفظ أن يقتصر لهما على النصف لأجل تعارض المفهومين، إذ مفهوم (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أن تكون الأنثى أقل من الثلثين، ومفهوم (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أن تكون الأنثيين أزيد من النصف، فيكون نصيبهما متردداً فيما بين النصف والثلثين بقدر مجمل. وأما غيره فأظهر للتقييد فائدة جلية سوى المخالفة، وتلك الفائدة رفع الفرق المتوهم بين الأنثيين وما فوقهما. ومتى ظهرت للتخصيص فائدة جلية سوى المخالفة وجب المصير إليها وسقط التعلق بالمفهوم، وكأنه على القول المشهور لما علم أن الأنثيين يستوجبان الثلثين بالطرق المذكورة، وكان الوهم قد يسبق إلى أن الزائد على الأنثيين يستوجبن أكثر من فرض الأنثيين، لأن ذلك مقتضى القياس. رفع هذا الوهم، بإيجاب الثلثين لما فوق الأنثيين كوجوبه لهما، واللَّه أعلم.
481
ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت. وقيل: إن الثنتين أمس رحما بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب اللَّه للأختين، ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحما منهما.
وقيل: إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع أخيها لو انفردت معه، فوجب لهما الثلثان وَلِأَبَوَيْهِ الضمير للميت. ولِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من (لِأَبَوَيْهِ) «١» بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس، لكان ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل:
ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت: فهلا قيل:
ولكل واحد من أبويه السدس: وأى فائدة في ذكر الأبوين أوّلا، ثم في الإبدال منهما؟ قلت:
لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير.
والسدس: مبتدأ، وخبره: لأبويه. والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة (السُّدُسُ) بالتخفيف، وكذلك الثلث والربع والثمن. والولد: يقع على الذكر والأنثى، ويختلف حكم الأب في ذلك. فإن كان ذكراً اقتصر بالأب على السدس، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس. فإن قلت: قد بين حكم الأبوين في الإرث «٢» مع الولد ثم حكمهما مع
(١). قال محمود «لكل واحد منهما بدل من لأبويه بتكرير العامل... الخ» قال أحمد: وفي إعرابه بدلا نظر، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء، وهما كعين واحدة، ويكون أصل الكلام:
والسدس لأبويه لكل واحد منهما، ويقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس، كما قال: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فاقتضى اشتراكهن فيه، فيقتضى البدل- لو قدر إهدار الأول- إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل، لأنه يلزم في هذا النوع أن يكون مؤدى المبدل والبدل واحدا. وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى، فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة، وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الاعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل. فالوجه- واللَّه أعلم- أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا، فصله بقوله: (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) وساغ حذف المبتدإ لدلالة التفصيل عليه ضرورة، إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما للسدس استحقاقهما، واللَّه أعلم. ولا يستقيم على هذا الوجه أيضا جعله من بدل التقسيم. ألا نراك لو قلت: الدار كلها لثلاثة:
لزيد، ولعمرو، ولخالد: كان هذا بدلا وتقسيما صحيحا، لأنك لو حذفت المبدل منه فقلت: الدار لزيد ولعمرو ولخالد، ولم تزد في البدل زيادة، استقام. فلو قلت: الدار لثلاثة: لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولخالد ثلثها، لم يستقم بدل تقسيم إذ لو حذفت المبدل منه لصار الكلام: الدار لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولخالد ثلثها. فهذا كلام مستأنف، لأنك زدت فيه معنى تمييز ما لكل واحد منهم، وذلك لا يعطيه المبدل ولا سبيل في بدل الشيء من الشيء إلى زيادة معنى.
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت قد بين حكم الأبوين والإرث... الخ» قال أحمد: ومذهب ابن عباس أن الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه مع وجود الأب، فعلى هذا يكون فائدة قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) الاحتراز مما لو ورثه الاخوة مع الأبوين، فان الأم لها حينئذ السدس، وكأنه قيل: وورثه أبواه ولم يكن ثم إخوة فلأمه الثلث، فان كان له إخوة فلأمه السدس. ولا يمكن جعله على مذهب ابن عباس مقيداً بعدم الزوجين، لأن ثلث الأم عنده لا يتغير بوجود واحد منهما، واللَّه الموفق.
482
عدمه، فهلا قيل: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. وأى فائدة في قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ؟ قلت:
معناه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب، فلأمه الثلث مما ترك، كما قال: (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج، لا ثلث ما ترك، إلا عند ابن عباس. والمعنى: أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قلت: ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟
قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة، فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني: أن الأب أقوى في الإرث من الأم، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة، وجامعا بين الأمرين، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس «١». وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم. فإن قلت:
فكيف صحّ أن يتناول الإخوة الأخوين، والجمع خلاف التثنية؟ قلت: الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالإخوة عليه. وقرئ: فلإمّه، بكسر الهمزة اتباعا للجرّة: ألا تراها لا تكسر في قوله (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقرئ (يُوصِي بِها بالتخفيف والتشديد. و (يُوصِي بِها) على البناء للمفعول مخففا: فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت:
معناها الإباحة: وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. فإن قلت: لم قدّمت الوصية على الدين «٢» والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما
(١). عاد كلامه. قال محمود: «ويستوي في حجب الأم الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس... الخ» قال أحمد: ولقد أحسن في هذا التقرير ما لم يحسن كثير من حذاق الأصوليين، ويريد متلقى في تغاير وصفى الجمع والتثنية، إذ الجمع يتناول الاثنين ويتناول أزيد منهما. ولك هذا. وأما التثنية فقاصرة على الاثنين فبينهما على هذا العموم والخصوص، فكل تثنية جمع، وليس كل جمع تثنية.
(٢). قال محمود: «إن قلت: لم قدمت الوصية على الدين... الخ» ؟ قال أحمد: الوصية على ضربين: لغير معين، فلا يطالب بها إلا الامام إن عثر عليها. ولمعين، فله المطالبة. ولكن يتباينان في القوة بين مطالبة رب الدين بدينه والموصى له بوصيته، لأن رب الدين يطالب بحق مستقر في الذمة سبق له به الفضل على مديانه، والموصى له إنما يطلب صدقة تفضل بها عليه الميت، لا عن استحقاق سابق، فاكتفى بما لرب الدين من القوة عن تقديمه في الذكر، وعضد ضعف الموصى له بتقديمه في الذكر عونا له على حصول رفق الوصية، ويمكن في دفعه طريق آخر فأقول: لم يخالف ترتيب الآية الواقع شرعا فلا يرد السؤال، وذلك أن أول ما يبدأ به إخراج الدين، ثم الوصية، ثم اقتسام ذوى الميراث. فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخراً، تلو إخراج الوصية، تلو الدين، فوافق فولنا:
قسمة المواريث بعد الوصية والدين، صورة الواقع شرعا. ولو سقط ذكر بعد وكان الكلام: أخرجوا الميراث والوصية والدين، لما أمكن ورود السؤال المذكور، واللَّه أعلم.
483
كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ أى لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمّن أوصى منهم أمّن لم يوص؟ يعنى أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا، ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريباً في الصورة، إلا أنه فان، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى. وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه، سأل أن يرفع إليه ابنه.
فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا. وقيل: قد فرض اللَّه الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل:
الأب يجب عليه «١» النفقة على الابن إذا احتاج، وكذلك الابن إذا كان محتاجا فهما في النفع بالنفقة لا يدرى أيهما أقرب نفعا. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له، لأن هذه الجملة اعتراضية. ومن حق الاعتراضى أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه، والقول ما تقدم فَرِيضَةً نصبت نصب المصدر المؤكد، أى فرض ذلك فرضاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه حَكِيماً في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
(١). قوله «عليه» : لعله «له» فتدبر اه مصححه
484
فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم. جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق الزواج، كما جعلت كذلك بحق النسب. والواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يعنى الميت.
ويُورَثُ من ورث، أى يورث منه وهو صفة لرجل. وكَلالَةً خبر كان، أى وإن كان رجل موروث منه كلالة، أو يجعل يورث خبر كان، وكلالة حالا من الضمير في يورث. وقرئ يورث ويورّث بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل، وكلالة حال أو مفعول به. فإن قلت:
ما الكلالة؟ قلت: ينطلق على ثلاثة على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة، كما تقول: ما صمت عن عىّ، وما كف عن جبن. والكلالة في الأصل: مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى:
فَآلَيْتُ لا أرثي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ «١»
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذى كلالة. كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوى قرابتي. ويجوز أن تكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق «٢». فإن قلت: فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فعلام تنصبها؟ قلت: على أنها مفعول له أى يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره
(١).
وأما إذا ما أدلجت فترى لها رقيبين جديا لا يغيب وفرقدا
فآليت لا أرثى لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقى محمدا
للأعشى، يصف ناقته وقد وفد على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فصده المشركون ومات باليمامة. وأدلجت: سارت ليلا. وجديا، وفرقدا: بدل مما قبلهما. وهذا كناية عن طول ليلها، بل عن مللها من السير. فآليت. أى حلفت، لا أرثى: لا أرق لها، من أجل ملالة وسآمة. والوجى: ضرر الخف ونحوه من السير. ويروى بدله «فما لك عندي مشتكى من كلالة ولا من حفا» والمشتكى: الشكوى. والحفا: الوجى. يقول: إذا سارت ناقتي ليلا طال ليلها، وحلفت لا أرق لها من أجل تعب ولا ضرر، حتى ألاقى بها محمداً صلى اللَّه عليه وسلم. وأسند الفعل إليها، دلالة على أنها تعرفه، فهي السائرة إليه.
(٢). قوله «كالهجاجة والفقاقة للأحمق» في الصحاح: رجل هجاجة أى أحمق. وفيه رجل فقاقة أى أحمق هذر.
وفيه أيضاً: الهذر- بالتحريك-: الهذيان. والرجل هذر. بكسر الذال. (ع)
485
لأجلها، فإن قلت: فان جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث، فما وجهه؟ قلت: الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. فان قلت: فالضمير في قوله: (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) إلى من يرجع حينئذ؟ قلت: إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته، وعلى الأول إليهما. فان قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر الأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. وعن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه، أنه سئل عن الكلالة فقال:
أقول فيه برأيى، فان كان صوابا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان واللَّه منه بريء.
الكلالة: ما خلا الولد والوالد «١». وعن عطاء والضحاك: أنّ الكلالة هو الموروث. وعن سعيد ابن جبير: هو الوارث. وقد أجمعوا على أنّ المراد أولاد الأم. وتدل عليه قراءة أبىّ: وله أخ أو أخت من الأمّ. وقراءة سعد بن أبى وقاص: وله أخ أو أخت من أم. وقيل: إنما استدل على أن الكلالة هاهنا الإخوة للأم خاصة بما ذكر في آخر السورة من أنّ للأختين الثلثين وأنّ للإخوة كل المال، فعلم هاهنا- لما جعل للواحد السدس، وللاثنين الثلث، ولم يزادوا على الثلث شيئاً- أنه يعنى بهم الإخوة للأم، وإلا فالكلالة عامة لمن عدا الولد والوالد من سائر الإخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات «٢» وغيرهم غَيْرَ مُضَارٍّ حال، أى يوصى بها وهو غير مضارّ لورثته وذلك أن يوصى بزيادة على الثلث، أو يوصى بالثلث فما دونه، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا وجه اللَّه تعالى. وعن قتادة: كره اللَّه الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن الحسن:
المضارة في الدين أن يوصى بدين ليس عليه ومعناه الإقرار وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد، أى يوصيكم بذلك وصية، كقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار، أى لا يضار وصية من اللَّه وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من اللَّه بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) بالاضافة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله. وهذا وعيد. فإن قلت: في: (يُوصى) ضمير الرجل إذا جعلته الموروث، فكيف تعمل إذا جعلته الوارث؟ قلت:
كما عملت في قوله تعالى: (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) لأنه علم أن التارك والموصى هو الميت. فان قلت:
فأين ذو الحال فيمن قرأ (يُوصى بِها) على ما لم يسم فاعله؟ قلت: يضمر يوصى فينتصب عن فاعله
(١). أخرجه ابن أبى شيبة والطبري وسعيد بن منصور. ومن رواية الشعبي قال: قال أبو بكر. وفي رواية سعيد والطبري كلام عمر أيضاً.
(٢). قوله «سائر الاخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات» في الصحاح: إخوة أخياف، إذا كانت أمهم واحدة والآباء شتى. والأعيان: الاخوة بنو أب واحد وأم واحدة. وبنو العلات: أولاد الرجل الواحد من أمهات شتى اه ملخصاً من مواضع. (ع)
486
لأنه لما قيل (يُوصى بِها) علم أن ثم موصيا، كما قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) على ما لم يسمّ فاعله، فعلم أن ثم مسبحا، فأضمر يسبح فكما كان رجال فاعل ما يدل عليه يسبح، كان غير مضارّ حالا عما يدل عليه يوصى بها.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
تِلْكَ إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث. وسماها حدوداً، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق يُدْخِلْهُ قرئ بالياء والنون، وكذلك (يُدْخِلْهُ ناراً) وقيل: يدخله، وخالدين حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالدين وخالداً على الحال. فان قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً؟ قلت: لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بدّ من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يرهقنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها بمعنى. وفي قراءة ابن مسعود: يأتين بالفاحشة، والفاحشة: الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ قيل معناه: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، وكان ذلك عقوبتهن في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي... ) الآية ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصى بإمساكهن في البيوت، بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح. وقيل: السبيل هو الحد، لأنه لم يكن مشروعا ذلك أوقت. فإن قلت: ما معنى يتوفاهن الموت- والتوفي والموت بمعنى واحد، كأنه قيل: حتى يميتهن الموت-؟ قلت: يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفى أرواحهن وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يريد الزاني والزانية فَآذُوهُما فوبخوهما وذمّوهما وقولوا لهما: أما استحييتما، أما خفتما اللَّه فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُما واقطعوا التوبيخ والمذمة، فإن التوبة تمنع استحقاق الذم والعقاب، ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود العاثرين على سرهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الإمام والحد، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عنهما ولا تتعرضوا لهما. وقيل: نزلت الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين. وقرئ: واللذانّ بتشديد النون. واللذانّ: بالهمزة وتشديد النون.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
التَّوْبَةُ من تاب اللَّه عليه إذا قبل توبته وغفر له، يعنى إنما القبول والغفران واجب على اللَّه تعالى «١» لهؤلاء. بِجَهالَةٍ في موضع الحال أى يعملون السوء جاهلين سفهاء، لأنّ ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل. وعن مجاهد:
من عصى اللَّه فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب. والزمان القريب:
(١). قال محمود: «يعنى إنما القبول والغفران واجب على اللَّه... الخ» قال أحمد: وقد تقدم في مواضع أن إطلاق مثل هذا من قول القائل: يجب على اللَّه كذا. مما نعوذ باللَّه منه- تعالى عن الإلزام والإيجاب رب الأرباب- وقاعدة أهل السنة أن اللَّه تعالى مهما تفضل فهو لا عن استحقاق سابق، لأنهم يقولون: إن الأفعال التي يتوهم القدرية أن العبد يستحق بها على اللَّه شيئا، كلها خلق اللَّه، فهو الذي خلق لعبده الطاعة وأثابه عليها، وخلق له التوبة وقبلها منه، فهو المحسن أولا وآخراً وباطناً وظاهراً، لا كالقدرية الذين يزعمون أن العبد خلق لنفسه التوبة بقدرته وحوله، ليستوجب على ربه المغفرة بمقتضى حكمته التي توجب عليه- على زعمهم- المجازاة على الأعمال إيجابا عقليا، فلذلك يطلقون بلسان الجرأة هذا الإطلاق. وما أبشع ما أكد الزمخشري هذا المعتقد الفاسد بقوله: يجب على اللَّه قبول التوبة، كما يجب على العبد بعض الطاعات. فنظر المعبود بالعبد، وقاس الخالق على الخلق. وإنه لإطلاق يتقيد عنه لسان العاقل ويقشعر جلده استبشاعا لسماعه، ويتعثر القلم عند تسطيره. على أن من لطف اللَّه تعالى أن لم يجعل حاكى الكفر كافراً، ولا حاكى البدعة لضرورة ردها والتحذير منها مبتدعا. وما بلغ الزمخشري في هذا الإطلاق إلا اغتناما لفرصة التمسك على صحته بصيغة «على» المشعرة بالوجوب، فجعلها ذريعة لاستباحة هذا الإطلاق، ولم يجعل اللَّه له فيها مستروحا، فانا نقول معاشر أهل السنة قد وعدنا اللَّه قبول التوبة المستجمعة لشرائط الصحة ووقوع هذا الموعود واجب ضرورة صدق الخبر، فمهما ورد من صيغ الوجوب فمنزل على وجوب صدق الوعد. ومعنى قولنا «صدق الخبر واجب» كمعنى قولنا «وجود اللَّه واجب» لأن أحداً لا يستوجب على اللَّه شيئاً. ألهمنا اللَّه الأدب في حق جلاله، وعصمنا من زيغ القول وضلاله. [.....]
488
ما قبل حضرة الموت. ألا ترى إلى قوله: (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) فبين أنّ وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقى ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن النخعي: ما لم يؤخذ بكظمه.
وروى أبو أيوب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «إنّ اللَّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١» وعن عطاء: ولا قبل موته بفواق ناقة. وعن الحسن: أنّ إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده. فقال تعالى: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر «٢» فإن قلت: ما معنى (مِنْ) في قوله: (مِنْ قَرِيبٍ) ؟ قلت: معناه التبعيض، أى يتوبون بعض زمان قريب، كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا، ففي أى جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. فإن قلت: ما فائدة قوله فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إنما التوبة على اللَّه لهم؟ قلت: قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) إعلام بوجوبها عليه كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة كما يعد العبد الوفاء بالواجب وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ عطف على الذين يعملون السيئات. سوّى بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم، لأنّ حضرة الموت أول أحوال الآخرة، فكما أنّ المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل واحد منهما أو ان التكليف والاختيار أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ في الوعيد نظير قوله: (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. فإن قلت: من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد الكفار، لظاهر قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ). وأن يراد الفساق، لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ) وارداً على سبيل التغليظ كقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)
(١). لم أجده من حديث أبى أيوب الأنصارى على ما يتبادر إلى الفهم من هذا الإطلاق وإنما أورده الطبري من طريق قتادة عن العلاء بن زياد عن أبى أيوب بشير بن كعب فذكره. وبشير تابعي معروف وهو بالموحدة والمعجمة مصغر، ولقتادة فيه إسناد آخر أخرجه الطبري أيضاً بالإسناد المذكور إليه. قال عن قتادة عن عبادة بن الصامت ومن هذا الوجه أخرجه إسحاق بن راهويه وهو منقطع بين قتادة وعبادة. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد وأبو يعلى والطبراني وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف فيه، وعن أبى هريرة أخرجه البزار وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو ضعيف لكن له طريق أخرى أخرجها ابن مردويه عن صحابى معهم أخرجه أحمد والحاكم من رواية عبد الرحمن السلماني قال اجتمع أربعة من الصحابة فذكر الحديث فقال الرابع «وأنا سمعته أى النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول لي: إن اللَّه يقبل توبة العبد قبل أن يغرغر بنفسه».
489
وقوله «فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» «١» «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر «٢» » لأن من كان مصدقا ومات وهو لم يحدث نفسه بالتوبة، حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجترئ على ذلك إلا قلب مصمت.
[سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ويظلمونهن بأنواع من الظلم، فزجروا عن ذلك: كان الرجل إذا مات له قريب من أب أو أخ أو حميم «٣» عن امرأة، ألقى ثوبه عليها وقال أنا أحق بها من كلّ أحد «٤»، فقيل لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أى أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك: أو مكرهات. وقيل: كان يمسكها حتى تموت، فقيل:
لا يحل لكم أن تمسكوهنّ حتى ترثوا منهنّ وهنّ غير راضيات بإمساككم. وكان الرجل إذا تزوّج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر، لتفتدى منه بمالها وتختلع، فقيل: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ. والعضل: الحبس والتضييق. ومنه: عضلت المرأة بولدها، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، أى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. ويدل عليه قراءة أبىّ: إلا أن يفحشن عليكم. وعن الحسن: الفاحشة الزنا، فإن فعلت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. وقيل: كانوا إذا أصابت امرأة فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وعن أبى قلابة ومحمد بن سيرين: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها.
وعن قتادة: لا يحل أن يحبسها ضراراً حتى تفتدى منه، يعنى وإن زنت. وقيل: نسخ ذلك بالحدود، وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو النصفة في
(١). تقدم في الكلام على آية الحج في آل عمران.
(٢). تقدم في البقرة.
(٣). قوله «أخ حميم» في الصحاح «حميمك» قريبك الذي تهتم لأمره. (ع)
(٤). قال محمود: «كان الرجل إذا مات له قريب ألقى ثوبه على امرأته وقال أنا أحق بها من كل أحد... الخ» قال أحمد: وخص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهى، تنبيها بالأعلى على الأدنى، لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهياً عن استعادة شيء يسير حقير منها على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهياً عن استعادته بطريق الأولى. ومعنى قوله: (وَآتَيْتُمْ) واللَّه أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الأمر واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية.
المبيت والنفقة، والإجمال في القول فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك، ولكن للنظر في أسباب الصلاح.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
وكان الرجل إذا طمحت عينه «١» إلى استطراف امرأة؟ بهت التي تحته ورماها «٢» بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج غيرها. فقيل: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ الآية. والقنطار: المال العظيم، من قنطرت الشيء إذا رفعته. ومنه القنطرة، لأنها بناء مشيد. قال:
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكره. قلت وله شاهد من حديث أبى سعيد الخدري وأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.
كَقَنْطَرَةِ الرُّومِىِّ أقْسَمَ رَبُّهَا لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّي تُشَادَ بِقِرْمِدِ «٣»
وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه قام خطيباً فقال: أيها الناس، لا تغالوا بصدق النساء «٤»، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند اللَّه لكان أولاكم بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنى عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له: يا أمير المؤمنين، لِمَ تمنعنا حقا جعله اللَّه لنا واللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعوننى أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه علىّ حتى تردّ علىّ امرأة ليست من أعلم النساء «٥». والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه، لأنه يبهت
(١). قوله «إذا طمحت عينه» أى ارتفعت إلى استحسان امرأة للتمتع بها بدل امرأته. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «ورماها» أى بما ليس فيها كما يؤخذ مما يأتى. (ع)
(٣). لطرفة بن العبد من معلقته يشبه ناقته بقنطرة الرجل الرومي. أو النهر الرومي، وهو أنسب بلام العهد وبذكر الاسم الظاهر بعده. وأقسم: جملة حالية، أى: حلف لا تحاط بالقرمد، أى الجبس، حتى تشاد وترفع بالآجر، أو ليحيط بها الفعلة حتى ترفع بالجبس. وتكتنفن: مضارع مبنى المجهول مؤكد بالنون.
(٤). قوله «لا تغالوا بصدق النساء» جمع صداق، كسحب جمع سحاب. (ع)
(٥). أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وأحمد والدارمي وابن أبى شيبة والطبراني كلهم من طريق محمد ابن سيرين عن أبى العجفاء قال خطبنا عمر فذكره دون ما في آخره. وأخرجه الحاكم من أوجه أخرى عن عمر كذلك.
وذكر الدارقطني في العلل لهذا الحديث اختلافا كثيراً، ورواه عبد الرزاق من الوجه الأول وزاد فيه: فقامت امرأة فقالت له ليس ذلك لك يا عمر، وإن اللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية. فقال إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة شريح من طريق أشعث بن سوار عن الشعبي عن شريح قال قال عمر... فذكره بلفظ السنن واستغربه من هذا الوجه. وأخرجه إسحاق من رواية عطاء الخراساني عن عمر، وهو منقطع وزاد فيه «ثم إن عمر خطب أم كلثوم- أى بنت على وأصدقها أربعين ألفا» وروى أبو يعلى من طريق ابن إسحاق. حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: ركب عمر المنبر ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء، وقد كانت الصدقات فيما بين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين أصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللَّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقهن على أربعمائة. قال: نعم، قالت: أما سمعت اللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً)... الآية فقال عمر: اللهم عفوا كل أحد أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: من شاء أن يعطي من ماله ما أحب.
عند ذلك، أى يتحير. وانتصب بُهْتاناً على الحال، أى باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً، كقولك: قعد عند القتال جبناً. والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقا غليظاً، أى بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل: هو قول الولىّ عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب اللَّه من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: استوصوا «١» بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم «٢» أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
وكانوا ينكحون روابهم «٣»، وناس منهم يمقتونه «٤» من ذى مروآتهم، ويسمونه نكاح
(١). هذا مركب من حديثين. الأول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن الأحوص.
قال شهدت حجة الوداع- فذكر حديثا- وفيه «واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم» وفي البخاري ومسلم من حديث أبى حازم عن أبى هريرة في أثناء حديث واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع- الحديث».
والثاني أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج فقال فيه «واتقوا اللَّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه» وروى أبو يعلى والبزار والطبري من رواية موسى بن عبيدة الربذي أحد الضعفاء عن صدقة بن يسار عن ابن عمر رفعه «أيها الناس، النساء عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة اللَّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه. (فائدة) العوان: جمع عانية، وهي الأسيرة.
(٢). قوله «فإنهن عوان في أيديكم»
في الصحاح: العاني الأسير. وقوم عناة، ونسوة عوان. (ع)
(٣). قوله «ينكحون روابهم» في الصحاح. الراب زوج الأم. والرابة: امرأة الأب. وربيب الرجل:
ابن امرأته من غيره. ونكاح المقت: كان في الجاهلية أن يتزوج امرأة أبيه. اه في موضعين. (ع) [.....]
(٤). قال محمود فيه: «كانوا ينكحون روابهم وناس منهم يمقتونه... الخ» قال أحمد: وعندي في هذا الاستثناء سر آخر وهو أن هذا المنهي عنه- لفظاعته وبشاعته عند أكثر الخلق حتى كان ممقوتا قبل ورود الشرع- جدير أن يمتثل النهى فيه فيجتنب، فكأنه قد امتثل النهى عنه حتى صار مخبراً عن عدم وقوعه، وكأنه قيل: ما يقع نكاح الأبناء المنكوحات للآباء ولا يؤخذ منه شيء إلا ما قد سلف. وأما في المستقبل بعد النهى فلا يقع منه شيء البتة، ومثل هذا النظر جار في مثل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) فأجراه مرفوعا على أنه خبر وإن كان المراد نهيهم عن عبادة غير اللَّه، ولكن لما كان هذا المنهي جديرا بالاجتناب وكأنه اجتنب، عبر عن النهى فيه بصيغة الخبر ورفع الفعل. وقد مضى هذا التقدير بعينه ثم لم يجر مثله في هذه الآية واللَّه أعلم.
المقت. وكان المولود عليه يقال له المقتى. ومن ثم قيل وَمَقْتاً كأنه قيل: هو فاحشة في دين اللَّه بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين. وقرئ: لا تحل لكم بالتاء، على أنّ ترثوا بمعنى الوراثة. وكرها- بالفتح، والضم- من الكراهة والإكراه. وقرئ (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) من أبانت بمعنى تبينت أو بينت، كما قرئ (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الياء وفتحها. و (يجعل الله) بالرفع، على أنه في موضع الحال: (وآتيتم إحداهن) بوصل همزة إحداهن، كما قرئ (فلا اثم عليه). فإن قلت: تعضلوهن، ما وجه إعرابه؟ قلت: النصب عطفا على أن ترثوا. و (لا) لتأكيد النفي. أى لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن. فإن قلت: أى فرق بين تعدية ذهب بالباء، وبينها بالهمزة؟ قلت: إذا عدى بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب، كقوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) وأما الإذهاب فكالإزالة. فإن قلت: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ) ما هذا الاستثناء؟ قلت:
هو استثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له، كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة. أو: ولا تعضلوهنّ لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. فإن قلت:
من أى وجه صح قوله: (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) جزاء للشرط؟ قلت: من حيث أنّ المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيراً ليس فيما تحبونه فإن قلت كيف استثني ما قد سلف مما نكح آباؤكم؟ قلت: كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله «ولا عيب فيهم» يعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوه، فلا يحل لكم غيره.
وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
معنى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تحريم نكاحهن «١» لقوله: (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)
(١). قال محمود: «معناه تحريم نكاحهن... الخ» قال أحمد: وهذا تفريع على القول بعموم المشترك في معانيه فاستقام تعليق الجار المذكور بهما، واللَّه أعلم
493
ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله. وقرئ (وبنات الأخت) بتخفيف الهمزة. وقد نزل اللَّه الرضاعة منزلة النسب، حتى سمى المرضعة أمّا للرضيع، والمراضعة أختا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدّته، وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه. ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١» وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوّج أخت ابنه من الرضاع، لأن المانع في النسب وطؤه أمها. وهذا المعنى غير موجود في الرضاع والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع، لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع مِنْ نِسائِكُمُ متعلق بربائبكم. ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يصح أن يتعلق بقوله وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يتعلق بهن وبالربائب، فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعاً. وإما أن يتعلق بهن دون الربائب، فتكون حرمتهنّ غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة، فلا يجوز الأوّل، لأن معنى «من» مع أحد المتعلقين، خلاف معناه مع الآخر. ألا تراك أنك إذا قلت: وأمّهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فقد جعلت «من» لبيان النساء، وتمييز المدخول بهنّ من غير المدخول بهنّ. وإذا قلت وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإنك جاعل «من» لابتداء الغاية، كما تقول: بنات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من خديجة، وليس بصحيح أن يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان. ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به، ما لم يعترض أمر لا يرد، إلا أن تقول:
أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل «من» للاتصال، كقوله تعالى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) فإنى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى: وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهنّ أمهاتهنّ «٢» كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهنّ بناتهنّ. هذا وقد
(١). متفق عليه من حديث عائشة وابن عباس.
(٢). عاد كلامه. قال: «ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعترض أمر لا يرد إلا أن تقول: أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل من للاتصال، كقوله تعالى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) فانى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى. وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن... الخ» قال أحمد: يعنى أن لهذا الاعراب وجها في الصحة، وتكون «من» على هذا مستعملة في معنى واحد من معانيها وهو الاتصال، فيستقيم تعلقها بهما. وقد نقل ذلك عن ابن عباس مذهبا. ونقل أيضا قراءة عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول: واللَّه ما نزل إلا هكذا انتهى نقل الزمخشري. والقول المشهور عن الجمهور إبهام تحريم المرأة، ويقيد تحريم الربيبة بدخول الأم كما هو ظاهر الآية.
ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها ومخاطبات ومساورات، فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الأم، فانه بعيد عن مخاطبة ابنتها قبل الدخول بالأم، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة.
وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما، واللَّه أعلم.
494
اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب، على ما عليه ظاهر كلام اللَّه تعالى وقد روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه قال «لا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها» «١» وعن عمر وعمران بن الحصين رضى اللَّه عنهما: أن الأم تحرم بنفس العقد. وعن مسروق: هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل اللَّه. وعن ابن عباس: أبهموا ما أبهم اللَّه، إلا ما روى عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: أنهم قرءوا: وأمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول: واللَّه ما نزل إلا هكذا. وعن جابر روايتان. وعن سعيد بن المسيب عن زيد: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمّها. وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل: أقام الموت مقام الدخول في ذلك، كما قام مقامه في باب المهر. وسمى ولد المرأة من غير زوجها ربيبا وربيبة، لأنه يربهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما. فإن قلت: ما فائدة قوله في حجوركم «٢» ؟ قلت: فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم، وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمّهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة، وجعل اللَّه بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا
(١). أخرجه أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في السنن قال ذكر المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
رفعه «أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها. وان لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها. وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها» وأخرجه أبو يعلى والبيهقي من طريق ابن مبارك عن المثنى به. والمثنى ضعيف لكن رواه الترمذي والبيهقي أيضا من طريق ابن لهيعة عن عمرو به وقال: لا يصح، وإنما يرويه المثنى وابن لهيعة وهما ضعيفان. انتهى. ويشبه أن يكون ابن لهيعة أخذه عن المثنى لأن أبا حاتم قال لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب شيئا. فلهذا لم يرتق هذا الحديث إلى درجة الحسن.
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت ما فائدة قوله في حجوركم... الخ» قال أحمد: وهذا مما قدمته من تخصيص أعلى صور المنهي عنه بالمنهى، فان النهى عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام في جميع الصور، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهى لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة، ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جمع صوره، واللَّه أعلم.
495
أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه شرط ذلك في التحريم. وبه أخذ داود. فإن قلت: ما معنى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ؟ قلت: هي كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها وضرب عليها الحجاب يعنى أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية واللمس. ونحوه يقوم مقام الدخول عند أبى حنيفة. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه خلا بجارية فجردها، فاستوهبها ابن له فقال: إنها لا تحلّ لك. وعن مسروق أنه أمر أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما إنى لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدى من اللمس والنظر. وعن الحسن في الرجل يملك الأمة فيغمزها لشهوة أو يقبلها أو يكشفها: أنها لا تحل لولده بحال وعن عطاء وحماد بن أبى سليمان: إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا ابنتها. وعن الأوزاعى: إذا دخل بالأم فعرّاها ولمسها بيده وأغلق الباب وأرخى الستر، فلا يحلّ له نكاح ابنتها. وعن ابن عباس وطاوس وعمرو بن دينار: أن التحريم لا يقع إلا بالجماع وحده الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ دون من تبنيتم. وقد تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة «١»، وقال عزّ وجلّ (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ). وَأَنْ تَجْمَعُوا في موضع الرفع عطف على المحرمات، أى وحرّم عليكم الجمع بين الأختين. والمراد حرمة النكاح، لأنّ التحريم في الآية تحريم النكاح وأما الجمع بينهما في ملك اليمين، فعن عثمان وعلى رضى اللَّه عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرّمتهما آية «٢» يعنيان هذه الآية وقوله: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فرجح على التحريم، وعثمانُ التحليل «٣». إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «٤» ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
(١). متفق عليه من حديث أنس بغير هذا اللفظ.
(٢). أما حديث عثمان ففي الموطأ عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب «أن عثمان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال: لا آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى» وأخرجه الشافعي عن مالك وابن أبى شيبة من طريق مالك والدارقطني من طريق معمر عن الزهري وهو أشبه بلفظ المصنف. وأما حديث على فرواه البزار وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية أبى صالح الحنفي قال قال على للناس: سلوني فقال ابن الكواء حدثنا يا أمير المؤمنين عن الأختين المملوكتين. قال: أحلتهما آية وحرمتها أخرى وإنى لا أحله ولا أنهى عنه ولا أفعله أنا ولا أحد من أهل بيتي.
(٣). أما عثمان فلم أجد عنه التصريح بالتحليل وإنما توقف، وأما على ففي رواية الموطأ ثم خرج السائل فلقى رجلا من الصحابة قال الزهري أحسبه قال على فسأله فقال له. ولكنى أنهاك ولو كان لي سبيل على فعله لجعلته نكالا.
(٤). قال أحمد: موقع هذا الاستثناء كموقع نظيره المقدم ذكره عند قوله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء على الوجه الذي بينت، وهو أن هذا النهى لكونه جديرا بأن يمتثل أجرى مجرى الاخبار عن امتثاله، حتى كأنه قيل: لا يقع شيء من هذه المحرمات إلا السالف منها لا غير. أو على الوجه الذي بينه الزمخشري فيما تقدم، وهو أن يكون المراد إلا ما قد سلف فانه غير محرم فتعاطوه إن كان ممكنا، من باب التعليق على المحال بتا للتحريم، إلا أن الزمخشري لم يسلك هذا المسلك هاهنا لأن قوله: (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يرشد إلى أن المراد إلا ما قد سلف فانه مغفور لاستثنائه في الآية الأولى لأنه عقبه ثم بقوله: (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) فقدر في كل آية ما يناسب سياقها، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
496

[سورة النساء (٤) : آية ٢٤]

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
وَالْمُحْصَناتُ القراءة بفتح الصاد. وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ بكسر الصاد. وهنّ ذوات الأزواج، لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزويج، فهنّ محصنات ومحصنات إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد: ما ملكت أيمانهم من اللاتي سبين ولهنّ أزواج في دار الكفر فهنّ حلال لغزاة المسلمين وإن كنّ محصنات. وفي معناه قول الفرزدق:
وَذَاتُ حَلِيلٍ أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِى بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ «١»
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أى كتب اللَّه ذلك عليكم كتابا وفرضه فرضا، وهو تحريم ما حرّم. فإن قلت: علام عطف قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ؟ قلت: على الفعل المضمر الذي نصب (كِتابَ اللَّهِ) أى كتب اللَّه عليكم تحريم ذلك، وأحلّ لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب اللَّه عليكم، وأحلّ لكم. وروى عن اليماني: كتب اللَّه عليكم، على الجمع والرفع أى هذه فرائض اللَّه عليكم. ومن قرأ: وأحلّ لكم، على البناء للمفعول، فقد عطفه على حرمت.
أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له بمعنى بين لكم ما يحلّ مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بِأَمْوالِكُمْ التي جعل اللَّه لكم قياما في حال كونكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والأموال: المهور وما يخرج في المناكح. فإن قلت: أين مفعول تبتغوا؟ قلت: يجوز أن يكون مقدّراً وهو النساء. والأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ويجوز أن يكون (أَنْ تَبْتَغُوا) بدلا من (وَراءَ ذلِكُمْ) والمسافح الزاني، من السفح وهو صبّ المنىّ. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحينى وماذينى من المذي فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد
(١). للفرزدق، أنشده في مجلس الحسن البصري حين سئل رضى اللَّه عنه عن سبى المرأة والتسرى بها ولها حليل، فقال: كنت أراك أشعر، فإذا أنت أشعر وأفقه. أى: ورب صاحبة حليل تسببت الرماح في تزويجها، فاسناد الانكاح إلى الرماح مجاز عقلى، حلال: خبر ذات حليل، والبناء عليها: كناية عن الدخول بها، لأن الزوج يبنى لها بيتا عند الدخول عادة «لم تطلق» جملة حالية من ضمير بها.
497
عليهنّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عليه، فأسقط الراجع إلى «ما» لأنه لا يلبس، كقوله: (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) بإسقاط منه. ويجوز أن تكون «ما» في معنى النساء، و «من» للتبعيض أو البيان، ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به، وعلى المعنى في: (فَآتُوهُنَّ) وأجورهن مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد، أى فرض ذلك فريضة فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله أو يزيد لها على مقداره. وقيل فيما تراضياه به من مقام أو فراق وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام «١» حين فتح اللَّه مكة على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثوب أو غير ذلك، ويقضى منها وطره ثم يسرحها. سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. وعن عمر:
لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة «٢». وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه أباحها، ثم أصبح يقول «يا أيها الناس إنى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء: ألا إن اللَّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة» «٣» وقيل: أبيح مرتين وحرّم مرتين. وعن ابن عباس هي محكمة «٤» يعنى لم تنسخ، وكان يقرأ: فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى. ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللهم إنى أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي في الصرف «٥»
(١). قوله «في المتعة التي كانت ثلاثة أيام» أى أبيحت هذه المدة ثم نسخت. (ع)
(٢). أخرجه مسلم وابن حبان من طريق جابر عنه في أثناء حديث.
(٣). أخرجه مسلم من رواية الربيع بن ميسرة عن أبيه (فائدة) «قوله ثم أصبح» لم يرد أنه قال ذلك صبيحة الليلة التي أباحه قبلها بيوم، بل أراد أنه قال ذلك صباحا. [.....]
(٤). لم أجده.
(٥). أما رجوعه عن المتعة فرواه الترمذي بسند ضعيف عنه. وأما قوله «اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة» فلم أجده. وأما قوله «أتوب إليك من قولي بالصرف» فروى عنه معنى ذلك من أوجه: منها ما رواه أبو يعلى من طريق عبد الرحمن بن أبى نعيم قال: جاء أبو سعيد إلى ابن عباس فذكر مناظرته إياه في الصرف وفيه فقال: فسمعته بعد ذلك يقول: اللهم إنى أتوب إليك مما كنت أفتى به الناس في الصرف. وللنسائى في الكنى من وجه آخر عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما. أنه سمعه يقول «أستغفر اللَّه وأتوب إليه من قولي في الصرف» ولابن عدى من رواية داود بن على عن أبيه عن جده أنه ترك قوله في الصرف حين سمع أبا سعيد يروى النهى عنه. ولابن ماجة من رواية أبى الجوزاء سمعت ابن عباس يأمر بالصرف ثم بلغني أنه رجع. ثم لقيته بمكة فقال نعم إنما كان رأيا منى. وللحاكم من طريقه نحوه. وللطبراني من رواية بكر بن عبد اللَّه الزنى مطولا. وفيه «وإنى أستغفر اللَّه وأتوب إليه» وللبخاري في التاريخ من رواية ابن سيرين قال أشهد على اثنى عشر من أصحاب ابن مسعود أنهم شهدوا ابن عباس تاب من قوله في الصرف:
منهم عبيدة السلماني. وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن أبى هشام الواسطي عن زياد قال: كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوما.
498

[سورة النساء (٤) : آية ٢٥]

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
الطول: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول أى زيادة وفضل. وقد طاله طولا فهو طائل. قال:
لَقدْ زَادَنِى حُبًّا لِنَفْسِى أنَّنِى بَغِيضٌ إلَى كُلِّ امْرِىءٍ غيْرِ طَائِلِ «١»
ومنه قولهم: ما حلا منه بطائل، أى بشيء يعتد به مما له فضل وخطر. ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة «٢» يبلغ بها نكاح الحرّة فلينكح أمة. قال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء»
وهو الظاهر، وعليه مذهب الشافعي رحمه اللَّه. وأمّا أبو حنيفة رحمه اللَّه فيقول:
الغنىّ والفقير سواء في جواز نكاح الأمة، ويفسر الاية بأن من لم يملك فراش الحرّة، على أن
(١).
لقد زادني حبا لنفسي أننى بغيض إلى كل امرئ غير طائل
إذا ما رآني قطع الطرف بينه وبيني فعل العارف المتجاهل
للطرماح بن حكيم، يقول: لقد زادني بغضي لغير المحسن حبى لنفسي، لأنى إذا كرهته لبخله علمت أني بضده، وأن نفسي كريمة فأحببتها، إذا رآني غض بصره عنى، فكأنه قطع امتداده بيني وبينه كما يفعل العارف بالشيء المتغافل عنه، كراهة لرؤيتى، أو استحياء منى.
(٢). قال محمود: «معناه ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة... الخ» قال أحمد: وعلى هذا يكون الطول عند أبى حنيفة: وجود الحرة تحته، وهو أحد القولين لمالك رضى اللَّه عنه، لكن يبعد هذا المعنى، لأن الطول عند مالك في أحد قوليه: القدرة بالمال على نكاح الحرة خاصة، حتى لو كانت الحرة تحته فأراد نكاح الأمة عجزاً عن حرة أخرى جاز له ذلك. وفي القول الآخر: الطول أحد الأمرين، إما القدرة بالمال على نكاح الحرة، وإما وجود الحرة تحته حتى لا يجوز له نكاح أمة على حرة إن كان عاجزا عن حرة أخرى. ومقتضى ما نقله المصنف عن أبى حنيفة: أنه لا يجوز لمن تحته حرة نكاح أمة. وأنه يجوز لمن ليست تحته حرة أن ينكح الأمة ولو كان غنيا، وهو قول لا يساعده ظاهر الآية، لأن الاستطاعة تثبت وإن لم يفعل المستطيع بمقتضاها- فالمستطيع لنكاح الحرة:
ذو الطول، وإن لم يكن تحته الحرة. وتفسير الاستطاعة على مذهب أبى حنيفة بعيد جداً.
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية النزال بن سبرة عنه بهذا.
499
النكاح هو الوطء، فله أن ينكح أمة. وفي رواية عن ابن عباس أنه قال: ومما وسع اللَّه على هذه الأمّة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً. وكذلك قوله مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ الظاهر أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وهو مذهب أهل الحجاز. وعند أهل العراق يجوز نكاحها، ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب، واستشهدوا على أن الإيمان ليس بشرط بوصف الحرائر به، مع علمنا أنه ليس بشرط فيهن على الاتفاق، ولكنه أفضل. فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. وقوله مِنْ فَتَياتِكُمُ أى من فتيات المسلمين، لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين. فإن قلت: فما معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ؟ قلت: معناه أن اللَّه أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أى أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان، لا يفضل حر عبداً إلا برجحان فيه بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن «١». ويحتج به لقول أبى حنيفة أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء واللز. فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن، فلم قيل: وآتوهن؟ قلت: لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي. أو على أن أصله: فآتوا مواليهن، فحذف المضاف الْمُحْصَناتِ عفائف.
والأخدان: الأخلاء في السرّ، كأنه قيل: غير مجاهرات بالسفاح ولا مسرات له فَإِذا أُحْصِنَّ بالتزويج. وقرئ: أحصن نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أى الحرائر مِنَ الْعَذابِ من الحدّ كقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) و (يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ولا رجم عليهن، لأن الرجم لا يتنصف ذلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ لمن خاف الإثم الذي يؤدى إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وقيل: أريد به الحدّ، لأنه إذا هويها خشي أن يواقعها فيحدّ فيتزوجها
(١). قال محمود: «هذا اشتراط لاذن الموالي في نكاحهن... الخ» قال أحمد: وليس في الآية اشتراط إذن المولى لمن يتولى عقد نكاح أمته، ومتولى العقد ومباشرته مسكوت عنه في الآية، فيحمل على إذنه لوكيله في العقد على أمته، ولا يلزم أن تكون الأمة هي المباشرة، ولا دليل في الآية على ذلك، واللَّه أعلم.
500
وَأَنْ تَصْبِرُوا في محل الرفع على الابتداء، أى وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت» «١»
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أصله يريد اللَّه أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في: لا أبالك، لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد اللَّه أن يبين لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويرشدكم إلى طاعات إن قمتم بها كانت كفارات لسيئاتكم فيتوب عليكم ويكفر لكم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم وَيُرِيدُ الفجرة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً وهو الميل عن القصد والحق، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات. وقيل: هم اليهود. وقيل: المجوس: كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهنّ اللَّه قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت. يقول تعالى: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إحلال نكاح الأمة وغيره من الرخصّ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات. وعن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء، فقد أتى علىّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينىّ وأنا أعشو بالأخرى. وإن أخوف ما أخاف علىّ فتنة النساء. وقرئ: أن يميلوا بالياء. والضمير للذين يتبعون الشهوات. وقرأ ابن عباس (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ) على البناء للفاعل ونصب الإنسان وعنه رضى اللَّه عنه: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس
(١). أخرجه الثعلبي من رواية أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي. حدثنا أحمد بن يوسف العجلى. حدثنا يونس بن مرداس خادم أنس. قال «كنت مع أنس وأبى هريرة فقال أنس: إنى سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: من أحب أن يلقى اللَّه طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر. وقال أبو هريرة سمعته يقول: الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت. أو قال هلاك البيت» قلت: في إسناده أحمد بن محمد وهو متروك وكذبه أبو حاتم ويونس لا أعرفه.
وغربت: «١» (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)
، (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ).
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
بِالْباطِلِ بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً إلا أن تقع تجارة. وقرئ تجارة على: إلا أن تكون التجارة تجارة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ والاستثناء منقطع. معناه: ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض منكم.
أو ولكن كون تجارة عن تراض غير منهى عنه. وقوله: (عَنْ تَراضٍ) صفة لتجارة، أى تجارة صادرة عن تراض. وخص التجارة بالذكر، لأنّ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
والتراضي رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه تعالى. وعند الشافعي رحمه اللَّه تفرّقهما عن مجلس العقد متراضيين وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ من كان من جنسكم من المؤمنين. وعن الحسن: لا تقتلوا إخوانكم، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة. وعن عمرو بن العاصي: أنه تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم «٢». وقرأ على رضى اللَّه عنه (وَلا تَقْتُلُوا)
(١). أخرجه البيهقي في الشعب في الباب السابع والأربعين من رواية صالح المزي عن قتادة، قال ابن عباس «ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس: أولهن (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) فذكره وهو عند الطبري من هذا الوجه. وصالح ضعيف وقتادة عن ابن عباس منقطع.
(٢). أخرجه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن جبير عن ابن العاص قال «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابى الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إنى سمعت اللَّه يقول (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولم يقل شيئا»
وعلقه البخاري فقال: يذكر عن عمرو بن العاص، وهذا الحديث اختلف فيه على يزيد بن أبى حبيب عن عمران بن أنس عن عبد الرحمن فرواه عنه يحيى بن أيوب هكذا وخالف عمرو بن الحارث سندا ومتنا: أما السند فزاد بين عبد الرحمن وعمر وأبا قيس مولى عمرو، وأما المتن فقال بدل التيمم: فتوضأ وغسل مغابنه» ووافق يحيى بن أيوب عليه ابن لهيعة عند إسحاق بن راهويه وأخرجه أحمد بالسند الأول، وأخرجه ابن حبان بالسند الثاني، وأخرجه بالسندين الحاكم والدارقطني.
بالتشديد إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم. وقيل: معناه أنه أمر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة ذلِكَ إشارة إلى القتل، أى ومن يقدم على قتل الأنفس عُدْواناً وَظُلْماً لا خطأ ولا اقتصاصا. وقرئ (عُدْواناً) بالكسر. ونُصْلِيهِ بتخفيف اللام وتشديدها. و (نُصْلِيهِ) بفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير للَّه تعالى، أو لذلك، لكونه سببا للصلى ناراً أى ناراً مخصوصة شديدة العذاب وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لأنّ الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه
[سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وقرئ: كبير ما تنهون عنه، أى ما كبر من المعاصي التي ينهاكم اللَّه عنها والرسول نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ نمط ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم، وتجعلها كأن لم تكن، لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر وصبركم عنها، على عقاب السيئات. والكبيرة والصغيرة إنما وصفتا بالكبر والصغر بإضافتهما إما إلى طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما «١». والتكفير: إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد، أو بتوبة.
والإحباط: نقيضه، وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على الطاعة. وعن على رضى اللَّه عنه: الكبائر سبع: الشرك، والقتل، والقذف، والزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة «٢». وزاد ابن عمر: السحر، واستحلال البيت الحرام. وعن ابن عباس: أن رجلا قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار «٣». وروى إلى سبعين. وقرئ: يكفر، بالياء.
و (مُدْخَلًا) بضم الميم وفتحها، بمعنى المكان والمصدر فيهما.
(١). قوله «أو ثواب فاعلهما» أى جزائه. ويمكن أن أصل العبارة «ثواب تاركهما» فحرفها الناسخ فلتحرر. (ع)
(٢). أخرجه الطبري من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن خيثمة عن أبيه، قال «إنى لفي هذا المسجد مسجد الكوفة وعلى يخطب» فذكره. وقوله: «وزاد ابن عمر استحلال البيت الحرام، أخرجه أبو داود من طريقه مرفوعا، وأخرجه الثعلبي موقوفا.
(٣). قال عبد الرزاق، حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال قيل لابن عباس: الكبائر سبع. قال: هي إلى السبعين أقرب. وروى الطبري من رواية قيس ابن سعد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن رجلا سأله عن الكبائر أسبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب لأنه لا صغيرة......»
إلى آخره.

[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]

وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
وَلا تَتَمَنَّوْا نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل اللَّه به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من اللَّه صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يحسد أخاه على حظه لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف اللَّه من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسباً له وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا اللَّه من خزائنه التي لا تنفد. وقيل: كان الرجال قالوا: إن اللَّه فضلنا على النساء في الدنيا: لنا سهمان ولهن سهم واحد، فنرجو أن يكون لنا أجران في الآخرة على الأعمال ولهنّ أجر واحد، فقالت أم سلمة ونسوة معها: ليت اللَّه كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فنزلت.
[سورة النساء (٤) : آية ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
مِمَّا تَرَكَ تبيين لكل، أى: ولكل شيء مما ترك الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من المال جعلنا موالي وراثا يلونه ويحرزونه: أو ولكل قوم جعلناهم موالي، نصيب مما ترك الوالدان والأقربون على أن (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة لكل، والضمير الراجع إلى كل محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، كما تقول: لكل من خلقه اللَّه إنسانا من رزق اللَّه، أى حظ من رزق اللَّه، أو: ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك، أى ورّاثا مما ترك، على أن «من» صلة موالي، لأنهم في معنى الورّاث، وفي: (تَرَكَ) ضمير كلّ، ثم فسر الموالي بقوله: (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الوالدان والأقربون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مبتدأ ضمن معنى الشرط. فوقع خبره مع الفاء وهو قوله فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ويجوز أن يكون منصوباً على قولك: زيداً فاضربه. ويجوز أن يعطف على الوالدان، ويكون المضمر في: (فَآتُوهُمْ) للموالي، والمراد بالذين عاقدت أيمانكم: موالي الموالاة
كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمى دمك، وهدمي هدمك «١»، وثأرى ثأرك، وحربى حربك، وسلمى سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بى وأطلب بك، وتعقل عنى وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه خطب يوم الفتح فقال «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام «٢» » وعند أبى حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح عنده وورث بحق الموالاة خلافا للشافعي. وقيل: المعاقدة التبني. ومعنى عاقدت أيمانكم: عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم. وقرئ (عَقَدَتْ) بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم.
[سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قوّما لذلك. والضمير في بَعْضَهُمْ للرجال والنساء جميعاً، يعنى إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل اللَّه بعضهم وهم الرجال، على بعض وهم النساء. وفيه دليل على أنّ الولاية إنما تستحق بالفضل، لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة، والكتابة- في الغالب، والفروسية، والرمي، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبى حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم وَبِما أَنْفَقُوا وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور
(١). قوله «دمى دمك وهدمي هدمك» في الصحاح الهدم- بالتحريك-: ما تهدم من جوانب البئر فسقط فيها. ويقال: دماؤهم بينهم هدم: أى هدر. وهدم أيضا بالتسكين، إذا لم يودوا. (ع)
(٢). هو مركب من حديثين أخرجهما الطبري من حديث قيس بن عاصم «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال:
ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به»
ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: فوا بالحلف، فانه لا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام» وفي الباب عن جبير بن مطعم رفعه: «لا حلف في الإسلام» أخرجاه. [.....]
505
والنفقات. وروى أنّ سعد بن الربيع وكان نقيبا من نقباء الأنصار نشرت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير، فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال:
أفرشته كريمتي فلطمها فقال: «لتقتصّ منه» فنزلت، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «أردنا أمراً وأراد اللَّه أمرا، والذي أراد اللَّه خير» «١»، ورفع القصاص. واختلف في ذلك، فقيل لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها، ولكن يجب العقل. وقيل: لا قصاص إلا في الجرح والقتل. وأما اللطمة ونحوها فلا قانِتاتٌ مطيعات قائمات بما عليهنّ للأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ الغيب خلاف الشهادة، أى حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهنّ حفظهن ما يجب عليهنّ حفظه في حال الغيبة، من الفروج والبيوت والأموال. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية «٢» وقيل (لِلْغَيْبِ) لأسرارهم بِما حَفِظَ اللَّهُ بما حفظهنّ اللَّه حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: «استوصوا بالنساء خيراً» «٣» أو بما حفظهنّ اللَّه وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة. و «ما» مصدرية.
وقرئ (بِما حَفِظَ اللَّهُ) بالنصب على أنّ ما موصولة، أى حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق اللَّه وأمانة اللَّه، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقرأ ابن مسعود: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ اللَّه فأصلحوا إليهنّ. نشوزها ونشوصها: أن تعصى زوجها ولا تطمئن إليه وأصله الانزعاج فِي الْمَضاجِعِ في المراقد. أى لا تدخلوهن تحت اللحد أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل: في المضاجع: في بيوتهن التي يبتن فيها. أى
(١). كذا ذكره الثعلبي والواحدي عن مقاتل به. ولأبى داود في المراسيل وابن أبى شيبة والطبري عن الحسن أن رجلا لطم وجه امرأته: فأتت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فشكت إليه. فقال: القصاص. فنزلت (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ولابن مردويه عن على بإسناده أو نحوه. ولم يقل «القصاص» وزاد «أردت أمراً وأراد اللَّه غيره».
(٢). أخرجه أبو داود والحاكم والترمذي من رواية مجاهد عن ابن عباس «لما نزلت الذين يكنزون الذهب والفضة، الحديث- وفيه ألا أخبركم بخير ما يكنز: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته» وللنسائى من رواية سعيد المقبري عن أبى هريرة قال «سئل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن خير النساء فقال: التي تطيع إذا أمر وتسر إذا نظر. وتحفظه في نفسها وماله» وإسناده حسن. وأخرجه البزار والحاكم والطبري وغيرهم من طرق عن سعيد. وفي الباب عن أبى أمامة عند ابن ماجة وإسناده ساقط. وعن عبد اللَّه بن سلام عند الطبراني. وعن ثوبان وغيرهم.
(٣). متفق عليه من حديث أبى حازم عن أبى هريرة. وقد تقدم من وجه آخر.
506
لا تبايتوهن. وقرئ: في المضجع، وفي المضطجع. وذلك لتعرّف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز. أمر بوعظهن أوّلا «١»، ثم هجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقيل: معناه أكرهوهن «٢» على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شدّه بالهجار.
وهذا من تفسير الثقلاء. وقالوا: يجب أن يكون ضربا غير مبرِّح لا يجرحها ولا يكسر لها عظما ويجتنب الوجه. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم: «علق سوطك حيث يراه أهلك» «٣» وعن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى اللَّه عنهما: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوّام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب «٤» حتى يكسره عليها «٥». ويروى عن الزبير أبيات منها:
وَلَوْلَا بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا
فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني، وتوبوا عليهن واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه واعلموا أنّ قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم.
ويروى أن أبا مسعود الأنصارى رفع سوطه ليضرب غلاما له، فبصر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فصاح به: أبا مسعود، للَّه أقدر عليك منك عليه، فرمى بالسوط وأعتق الغلام «٦». أو إن اللَّه كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجيء عليكم إذا رجع.
(١). قال محمود: «أمر اللَّه بوعظهن أولا... الخ» قال أحمد: وهذا الترتيب بين هذه الأفعال المعطوفة غير متلقى من صيغة لفظية، إذ العطف بالواو وهي مسلوبة الدلالة على الترتيب متمحضة الاشعار بالجمعية فقط. وإنما يتلقى الترتيب المذكور من قرائن خارجة عن اللفظ مفهومة من مقصود الكلام وسياقه.
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «وقيل معناه أكرهوهن... الخ» قال أحمد: ولعل هذا المفسر يتأيد بقوله (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) فانه يدل على تقدم إكراه على أمر ما، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع. وإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الافراط.
(٣). أخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث ابن عباس، وفيه ابن أبى ليلى القاضي وفيه ضعف. وفي الباب عن ابن عمرو أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة الحسن بن صالح من روايته عن عبد اللَّه بن دينار عنه، بلفظ «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت» وعن جابر رفعه «رحم اللَّه رجلا يعلق السوط حيث يراه أهل البيت» وعن جابر رفعه «رحم اللَّه رجلا يعلق في بيته سوطا يؤدب به أهله» وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف.
(٤). قوله «ضربها بعود المشجب» في الصحاح: المشجب الخشبة التي تلقى عليها الثياب. (ع)
(٥). أخرجه الثعلبي من رواية أبى أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها بهذا وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن هشام عن أبيه قال «كان الزبير شديداً على النساء ويكسر عليهن عيدان المشاجب» وقال ابن أبى شيبة حدثنا حفص بن غياث، حدثنا هشام به.
(٦). أخرجه مسلم من حديثه نحوه وقال في آخره «أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار».
507

[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
شِقاقَ بَيْنِهِما أصله: شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على طريق الاتساع، كقوله: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وأصله: بل مكر في الليل والنهار. أو على أن جعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين، على قولهم: نهارك صائم. والضمير للزوجين. ولم يجر ذكرهما لجرى ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعاً رضياً يصلح لحكومة العدل والإصلاح بينهما، وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما، لأنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإنما تسكن إليهم نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته وما يزويانه عن الأجانب ولا يحبان أن يطلعوا عليه. فإن قلت: فهل يليان الجمع بينهما والتفريق إن رأيا ذلك؟ قلت: قد اختلف فيه، فقبل: ليس إليهما ذلك إلا بإذن الزوجين. وقيل: ذلك إليهما، وما جعلا حكمين إلا وإليهما بناء الأمر على ما يقتضيه اجتهادهما. وعن عبيدة السلماني: شهدت علياً رضى اللَّه عنه وقد جاءته امرأة وزوجها ومع كل واحد منهما فئام «١» من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما «٢». فقال علىّ رضى اللَّه عنه للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علىّ: كذب واللَّه لا تبرح حتى ترضى بكتاب اللَّه لك وعليك. فقالت المرأة: رضيت بكتاب اللَّه لي وعلىّ. وعن الحسن: يجمعان ولا يفرقان. وعن الشعبي: ما قضى الحكمان جاز. والألف في إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً للحكمين. وفي يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما للزوجين أى إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه اللَّه، بورك في وساطتهما، وأوقع اللَّه بطيب نفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة. وقيل: الضميران للحكمين، أى إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين يوفق اللَّه بينهما، فيتفقان على الكلمة الواحدة، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد. وقيل: الضميران للزوجين. أى: إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلبا الخير وأن يزول عنهما الشقاق يطرح اللَّه بينهما الألفة، وأبدلهما بالشقاق وفاقا وبالبغضاء مودة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
[سورة النساء (٤) : آية ٣٦]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
(١). قوله «فئام من الناس» في الصحاح: الفئام الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه اه. (ع)
(٢). أخرجه الشافعي من رواية ابن سيرين عنه. وعبد الرزاق والدارقطني والطبري وغيرهم من طريقه.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأحسنوا بهما إحسانا وَبِذِي الْقُرْبى وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي جواره بعيد. وقيل الجار: القريب النسيب، والجار الجنب: الأجنبى. وأنشد لبلعاء ابن قيس:
لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَداً ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجاوِرٌ جُنُبُ «١»
وقرئ: والجار ذا القربى، نصبا على الاختصاص. كما قرئ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) تنبيها على عظم حقه لإدلائه بحق الجوار والقربى وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك، إما رفيقا في سفر، وإما جاراً ملاصقاً، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب: المرأة وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع به. وقيل الضيف، والمختال: التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يتحفى بهم «٢» ولا يلتفت إليهم. وقرئ:
والجار الجنب، بفتح الجيم وسكون النون.
[سورة النساء (٤) : آية ٣٧]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: (مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) أو نصب على الذم. ويجوز أن يكون رفعاً عليه، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون، أحقاء بكل ملامة. وقرئ (بِالْبُخْلِ) بضم الباء وفتحها. وبفتحتين. وبضمتين: أى يبخلون بذات أيديهم، وبما في أيدى غيرهم. فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد. وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره. قال:
(١). لبلغان بن قيس. ويروى: بلعاء. والرحم: القرابة. والجنب: صفة مشبهة بمعنى الأجنبى، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمتعدد. يقول: لا يكرهنا الجار النسيب، ولا الجار الجنيب أبدا، لحسن عشرتنا.
(٢). قوله «فلا يتحفى بهم» في الصحاح: تحفيت به، أى بالغت في إكرامه وإلطافه. (ع)
509
وَإن امْرَا ضَنَّتْ يَدَاهُ عَلَى امْرِىءٍ بِنَيْلِ يَدٍ مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ «١»
ولقد رأينا ممن بلى بداء البخل، من إذا طرق سمعه أنّ أحدا جاد على أحد، شخص «٢» به وحلّ حبوته، واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله وكسرت خزانته، ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده. وقيل: هم اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وقد عابهم اللَّه بكتمان نعمة اللَّه وما آتاهم من فضل الغنى والتفاقر إلى الناس. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «إذا أنعم اللَّه على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته على عبده» «٣» وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره، فنمّ به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك، فأعجبه كلامه. وقيل: نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
(١).
سأقطع أرسان القباب بمنطق قصير عناء الفكر فيه طويل
وإن امرأ ضنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لبخيل
لأبى تمام. وقيل للبحترى. والأرسان: الحبال. والقباب التي لها أرسان: البيوت المنسوجة، جمع قبة وهي الخيمة.
وهودج مقبب: فوقه قبة. والمراد أنه يتسبب في ارتحال قوم بخلاء، ففيه مجاز عقلى حيث أسند القطع إلى سببه، وكناية حيث عبر عن الارتحال بقطع حبال البيوت. ويجوز أن المراد أنه يسكت قوما يدعون الفخر، ويهدم شرفهم وعظمتهم، ويظهر ضعتهم وخستهم، فشبه تلك الحال بحال قطع حبال البيوت المرتفعة المطنبة، فتنخفض بعد ارتفاعها وتخر ساقطة بعد انتصابها، على سبيل الاستعارة التمثيلية، وهذا أقرب إلى المقام، ويجوز أنه شبه المفاخر بالقباب بجامع العظم ومطلق الشرف والعلو في كل على طريق التصريح، وإثبات الأرسان لها ترشيح، أى: سأبطل دعوى من يدعى المفاخر وليس من أهلها بقول قصير ولكن تعب الفكر فيه طويل المدة. وفيه الطباق بين القصير والطويل. وبين ذلك المنطق بقوله «وإن امرأ بخلت يداه» وأسند البخل إلى اليد لأنها آلة الإعطاء، فكأن المنع منها بنيل يداي نعمة، ويحتمل أن اليد حقيقة، وأضاف النيل إليها لأنها آلته «لبخيل» أى لبليغ في البخل، فالتنوين للتعظيم. [.....]
(٢). قوله «شخص به وحل حبوته» في الصحاح: يقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شخص به. (ع)
(٣). أخرجه ابن حبان والحاكم من رواية أبى إسحاق عن أبى الأحوص عن أبيه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رآه في هيئة سيئة فقال: أما لك مال؟ فقال: من كل المال آتاني اللَّه. قال: فهلا عليك. إن اللَّه إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه» وللترمذي عن همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه «إن اللَّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وللطبراني من حديث عمران بن حصين نحوه ولأحمد وإسحاق من رواية ابن وهب عن أبى هريرة رفعه «ما أنعم اللَّه على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه» ولأبى يعلى والبيهقي في الشعب من رواية عطية عن أبى سعيد رفعه «إن اللَّه جميل يحب الجمال، ويحب أنه يرى نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتبؤس» ولابن عدى عن جابر رفعه «إن اللَّه ليحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وفيه عصمة بن محمد الأنصارى وهو منكر الحديث وللطبراني في مسند الشاميين عن أنس رفعه «إن اللَّه جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وهو من رواية عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عنه. ورواه في الأوسط من رواية موسى بن عيسى القرشي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر نحوه.
510

[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
رِئاءَ النَّاسِ للفخار، وليقال: ما أسخاهم وما أجودهم، لا ابتغاء وجه اللَّه. وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فَساءَ قَرِيناً حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر. ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار وَماذا عَلَيْهِمْ وأى تبعة ووبال عليهم في الايمان والإنفاق في سبيل اللَّه والمراد الذم والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك. وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت. وللعاق:
ما كان يرزؤك لو كنت بارا، وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزأة في العفو والبر. ولكنه ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً وعيد.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
الذرّة: النملة الصغيرة. وفي قراءة عبد اللَّه: مثقال نملة. وعن ابن عباس: أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وفيه دليل على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء وأصغره، أو زاده في العقاب لكان ظلما، وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وإن يكن مثقال ذرّة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال «١» لكونه مضافا إلى مؤنث. وقرئ- بالرفع- على كان التامة يُضاعِفْها يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير
(١). قال محمود: «وإنما أنث الضمير وهو للمثقال... الخ» قال أحمد: وقد تقدم له مثل ذلك في قوله: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) وقد بينا ثم أن عوده إلى الحفرة جائز، بل أولى. وكذلك عوده هاهنا إلى الذرة. ولا يمنع ذلك كون المضاف إليه غير مخبر عنه، لأن عود الضمير لا يستلزم الاخبار عنه في الكلام الأول.
ويجوز: كانت دابتك، وكل ذلك أسهل من اكتساب المضاف للتأنيث من المضاف إليه. فقد نص أبو على في التعاليق على أنه شاذ.
المتناهية. وعن أبى عثمان النهدي أنه قال لأبى هريرة: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول «إن اللَّه تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة:
لا، بل سمعته يقول «إن اللَّه تعالى يعطيه ألفى ألف حسنة» «١» ثم تلا هذه الآية. والمراد: الكثرة لا التحديد وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيما وسماه (أَجْراً) لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. وقرئ: يضعفها بالتشديد والتخفيف، من أضعف وضعف: وقرأ ابن هرمز: نضاعفها بالنون فَكَيْفَ يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ). وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ المكذبين شَهِيداً وعن ابن مسعود: أنه قرأ سورة النساء على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى بلغ قوله: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فبكى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: «حسبنا» «٢» لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. وقيل: يودّون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء وقيل: تصير البهائم تراباً، فيودّون حالها وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو للحال، أى يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون اللَّه حديثا. ولا يكذبون في قولهم: واللَّه ربنا ما كنا مشركين، لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم اللَّه على أفواههم عند ذلك، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض: وقرئ: تسوى، بحذف التاء من تتسوى. يقال: سويته فتسوّى نحو: لوّيته فتلوى. وتسوى بإدغام التاء في السين، كقوله: يسمعون، وماضيه أسوى كأزكى.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
(١). أخرجه أحمد والبزار والطبري وابن أبى شيبة من رواية على بن زيد بن جدعان عن أبى عثمان. ولفظه بلغني أن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن اللَّه يضعف الحسنة لعبده المؤمن ألف ألف حسنة فانطلقت فلقيت أبا هريرة، فقلت: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: إن اللَّه يعطى بالحسنة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: بل سمعته يقول: إن اللَّه يعطيه ألفى ألف حسنة ثم تلا (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) - إلى قوله (أَجْراً عَظِيماً) فمن يدرى قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «أجراً عظيما» لم يرفعه ابن أبى شيبة قال البزار لا نعلمه يروى عن أبى هريرة إلا بهذا الاسناد. كذا قال. وقد أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في الزهد من طريق زياد الجصاص عن أبى عثمان نحوه. وأخرجه عبد الرزاق عن أبان عن أبى العالية قال: جئت أبا هريرة فذكره موقوفا. وأبان متروك.
(٢). متفق عليه من رواية عبيدة السلماني عنه، وقال في آخره «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان».
512
روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلى بهم، فقرأ: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت. فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون. ثم نزل تحريمها «١». ومعنى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها. كقوله: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى)، (لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ). وقيل معناه:
ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم «٢» » وقيل: هو سكر النعاس وغلبة النوم، كقوله:
............ وَرَانُوا... بِسُكْرِ سِنَاتِهِمْ كُلَّ الرُّيُونِ «٣»
وقرئ: سكارى، بفتح السين. وسكرى، على أن يكون جمعا، نحو: هلكى، وجوعى،
(١). أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري نحوه دون قوله «فكانوا لا يشربون الخ. كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن على. واختلف على عطاء في اسم الداعي، وفي اسم المصلى. ففي رواية أبى جعفر الرازي عنه عند الترمذي: صنع لنا عبد الرحمن، وكذا الحاكم من طريق خالد الطحان عنه. وعند أبى داود «أن رجلا دعاه وعبد الرحمن. وللحاكم من رواية الثوري عن عطاء «دعانا رجل من الأنصار». وللترمذي عن على «فقدموني» ولأبى داود «فقدموا عليا» وللنسائى من طريق أبى جعفر أيضا «فقدموا عبد الرحمن بن عوف» وأبهمه البزار. وكذا الحاكم. وللطبري عن الثوري. وللطبري أيضا عن حماد بن سلمة وللحاكم عن خالد (تنبيه) قوله «فكانوا لا يشربون إلى آخره» لم أجده.
(٢). أخرجه ابن عدى من حديث أبى هريرة وفيه عبد اللَّه بن محرور هو بمهملات وقرن محمد، وهو ضعيف وفي الباب عن ثوبان ومعاذ وأبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة. فحديث ثوبان في ابن ماجة بلفظ «جنبوا مساجدنا صبيانكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم، ورفع أصواتكم... الحديث» وحديث معاذ رواه عبد الرزاق من رواية مكحول عنه وهو منقطع. وحديث الباقين رواه الطبراني والعقيلي وابن عدى من رواية مكحول عنهم وفيه العلاء ابن كثير وهو ضعيف.
(٣). رانوا: تغطت قلوبهم بالسكر كما يغطى الحديد بالصدإ. والسنات: جمع سنة من وسن كعدة من وعد، وهي فتور العين وغفلة القلب أول النوم. والريون: جمع رين، وهو على القلب كالصدإ على الحديد، ورأيت في الأساس للطرماح ما يشبه أن يكون أصل ذلك وهو قوله:
وركب قد بعثت إلى ردايا... طلائح مثل أخلاق الجفون
مخافة أن يرين النوم فيهم... بسكر سناته كل الريون
والردايا جمع ردية، كقضايا وقضية، التي أصابها الردى. والطلائح- جمع طليحة أو طليح-: المهازيل. وأخلاق:
جمع خلق، كسبب وهو الشيء البالي. وأضاف السنة لضمير النوم، لأنها أوله فنسبت إليه.
513
لأن السكر علة تلحق العقل. أو مفرداً بمعنى: وأنتم جماعة سكرى، كقولك: امرأة سكرى، وسكرى بضم السين كحبلى. على أن تكون صفة للجماعة. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى، بالفتح والضم وَلا جُنُباً عطف على قوله: (وَأَنْتُمْ سُكارى) لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا. والجنب: يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ استثناء من عامة أحوال المخاطبين. وانتصابه على الحال. فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها، وهي حال السفر. وعبور السبيل: عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة، لقوله (جُنُباً) أى ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل، أى جنبا مقيمين غير معذورين. فإن قلت:
كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب: الذين لم يغتسلوا كأنه قيل:
لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين، حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين. وقال: من فسر الصلاة بالمسجد معناه: لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه أو احتلمتم فيه. وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد، فرخص لهم. وروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمرّ فيه وهو جنب إلا لعلى رضى اللَّه عنه، لأن بيته كان في المسجد «١» فإن قلت: أدخل في حكم الشرط أربعة: وهم المرضى، والمسافرون، والمحدثون، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم. قلت: الظاهر أنه تعلق بهم جميعاً وأنّ المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا، وكذلك السفر إذا عدموه، لبعده. والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب. وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض «٢»، ترابا كان أو غيره. وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب
(١). أصل هذا الحديث في الترمذي بغير هذا اللفظ. أخرجه من طريق سالم بن أبى حفصة عن عطية عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعلى «يا على، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيرى وغيرك» قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد سمعه منى محمد بن إسماعيل اه وقد أخرجه البزار من رواية الحسن بن زياد عن خارجة بن سعد عن أبيه سعد مثله سواء. وقال: لا نعلمه عن سعد إلا بهذا الاسناد، ثم أخرجه من حديث أبى سعيد كالترمذي. وقال: كان سالم شيعيا، لكنه لم يترك ولم يتابع على هذا ومعناه: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان منزله في المسجد. وفي الباب عن أم سلمة، أخرجه الطبري بلفظ «لا ينبغي لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلى» وروى أبو يعلى من حديث ابن عباس «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم سد أبواب المسجد إلا باب على» فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره».
(٢). قال محمود: «الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره... الخ» قال أحمد: هذا إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد، وثم وجه آخر، وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلى آخرها، فان المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال سفر أو مرض أو مجيء من الغائط أو ملامسة النساء، فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث، فتيمموا منه. يقال: تيممت من الجنابة. وموقع «من» على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الاعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية، وكلاهما فيها متمكن، واللَّه أعلم.
514
المتيمم يده عليه ومسح. لكان ذلك طهوره، وهو مذهب أبى حنيفة رحمة اللَّه عليه. فإن قلت:
فما يصنع بقوله تعالى في سورة المائدة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أى بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت. قالوا إنّ «من» لابتداء الغاية. فان قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب، إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما تقول. والإذعان للحق أحق من المراء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً كناية عن الترخيص والتيسير، لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسرا غير معسر. فان قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين «١»، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء. والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب، فخص أوّل من بينهم مرضاهم وسفرهم، لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر. وقرئ: من غيط، قيل هو تخفيف غيط، كهين في هين. والغيط بمعنى الغائط
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
أَلَمْ تَرَ من رؤية القلب، وعدى بإلى، على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ أو بمعنى: ألم تنظر إليهم؟ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يستبدلونها بالهدى، وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة رسول اللَّه
(١). قال محمود: «فان قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين وبين المحدثين والمجنبين... الخ» ؟
قال أحمد: وهذا من ذكر المعتنى به خاصا ومندرجا في العموم تنبيها بذكره على وجهين مختلفين، لأن المرض والسفر مندرجان في عموم المحدثين والمجنبين، واللَّه أعلم.
صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، وتنخرطوا في سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم بل يحبون أن يضل معهم غيرهم. وقرئ: أن يضلوا، بالياء بفتح الضاد وكسرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ وقد أخبركم بعداوة هؤلاء، وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون بكم فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فثقوا بولايته ونصرته دونهم. أو لا تبالوا بهم، فإن اللَّه ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٦]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب لأنهم يهود ونصارى. وقوله:
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، (وَكَفى بِاللَّهِ)، (وَكَفى بِاللَّهِ) جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً، أى ينصركم من الذين هادوا، كقوله (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، على أن يُحَرِّفُونَ صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. كقوله:
وَمَا الدَّهْرُ إلّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِى الْعَيْشَ أَكْدَحُ «١»
أى فمنهما تارة أموت فيها يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها اللَّه فيها، وأزالوه عنها. وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» «٢» مكانه، ونحو تحريفهم «الرجم»
(١).
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
وكلتاهما قد خط لي في صحيفة فلا العيش أهوى لي ولا الموت أروح
لتميم بن عقيل، يقول: ليس الدهر إلا تارتين ومرتين، فتارة أموت بها، وتارة أطلب العيش حال كوني أكدح، أى أجد وأتعب وأسرع في طلبه، والمراد بالصحيفة: اللوح المحفوظ، ثم قال: ليس العيش أحب إلى لما فيه من النصب، وليس الموت أروح لي لأن النفس تكرهه.
(٢). قوله «طوال» هو بالضم: الطويل. وبالكسر: جمعه. وبالفتح مصدر، أفاده الصحاح. (ع)
516
بوضعهم «الحدّ» بدله: فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عَنْ مَواضِعِهِ) وفي المائدة (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) قلت: أمّا (عَنْ مَواضِعِهِ) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة اللَّه وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان. وقرئ: يحرّفون الكلام. والكلم- بكسر الكاف وسكون اللام-: جمع كلمة تخفيف كلمة. قولهم غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من المخاطب «١». أى اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذمّ أى اسمع منا مدعوا عليك- بلا سمعت- لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أنّ قولهم- لا سمعت- دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جواباً «٢» يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول اسمع، أى اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوّاً عنه. ويحتمل المدح، أى اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وكذلك قولهم راعِنا يحتمل راعنا نكلمك، أى ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية «٣» أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزؤا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فتلا بها وتحريفا، أى يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا)
(١). قال محمود: «غير مسمع حال من المخاطب... الخ» قال أحمد: مراده بذلك أنه لما فسر غير مسمع بالدعاء وهو إنشاء وطلب وقد أوقعه حالا والحال خبر، أراد أن يبين أوجه صحة التعبير على الخبر بالانشاء بواسطة أن هؤلاء كانوا يظنون دعاءهم مستجابا مخبرا بوقوع المدعو فيه. ونظيره ورود الأمر بصيغة الخبر تنبيها على تحقق وقوعه. [.....]
(٢). قال محمود «ومعناه غير مسمع جوابا... الخ» قال أحمد: والظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به في هذه السورة مثل «غير مسمع» و «راعنا» ولم يقصد هاهنا تبديل الأحكام وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله: (يُحَرِّفُونَ) وبين قوله: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) والمراد أيضاً: تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر- واللَّه أعلم- أن المراد فيها بالكلم الأحكام وتحريفها تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد. ألا تراه عقبه بقوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أى ينقلونه عن الموضع الذي وضعه اللَّه فيه فصار وطنه ومستقره إلى غير الموضع، فبقى كالغريب المتأسف عليه، الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل «راعنا» «وغير مسمع» وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف.
(٣). قوله «ويحتمل شبه كلمة عبرانية» عبارة النسفي: ويحتمل شبه كلمة عبرانية، إلى آخر ما هنا. (ع)
517
و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) موضع: لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. فان قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم. ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. وقرأ أبىّ: وأنظرنا، من الإنظار وهو الإمهال. فان قلت:
إلام يرجع الضمير في قوله لَكانَ خَيْراً لَهُمْ؟ قلت: إلى (أَنَّهُمْ قالُوا) لأن المعنى. ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا. لكان قولهم ذلك خيراً لهم وَأَقْوَمَ وأعدل وأسدّ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أى خذلهم بسبب كفرهم، وأبعدهم عن ألطافه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيماناً قَلِيلًا أى ضعيفاً ركيكا لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره، أو أراد بالقلة العدم، كقوله:
قَلِيلُ التَّشَكِّى لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ «١»
أى عديم التشكي، أو إلا قليلا منهم قد آمنوا.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أى نمحو تخطيط صورها، من عين وحاجب وأنف وفم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فنجعلها على هيئة أدبارها، وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين: أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى
(١).
قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يظل بموماة ويمسى بغيرها جحيشا ويعرورى ظهور المهالك
لتأبط شرا، يمدح شمس بن مالك من رؤساء العرب. وقيل لأبى كبير الهذلي يمدح تأبط شرا. والمعنى: أنه عديم التشكي ليظهر المدح. أى لا يشتكى لأجل المهم حال كونه يصيبه. كثير هوى النفس. والشت كالشتات في الأصل مصدر، ويستعملان بمعنى المتفرق المنتشر. وروى نشر النوى، وهو بمعناه. وروى شتى النوى وهو جمع شتيت، أى متفرق مختلف، أى نواه ومسالكه شتى أى كثيرة مختلفة. والنوى: اسم جمع نواة، وهي نية المسافر، ويطلق على البعد أيضا فهو مذكر، ويطلق على نية المسافر فيؤنث. والموماة: المفازة لا ماء بها. والجحيش: الفريد الوحيد والاعروراء: ركوب الجواد عريان الظهر. وعبر بيمسى دون يبيت، إشارة إلى أنه يديم السير ولا ينزل في الليل.
وبقوله «يعرورى» إشارة إلى أنه يقتحم المكاره بلا وقاية عنها. ولقد شبه المهالك بما يصح ركوبه على طريق المكنية، وأثبت لها الظهور تخييلا. وفيه إشارة إلى أنه غير مكترث بها، بل يسرع إليها بغير استعداد كاسراع الفارس إلى فرسه وعدم صبره حتى يسرجه. وفيه إشارة إلى أنه يظهر ويظفر حيث عبر بما يفيد الاستعلاء عليها.
أن نطمس وجوها فننكسها، الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدّام. ووجه آخر: وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة. وبالوجوه، رؤسهم ووجهاؤهم أى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاءوا منه. وهي: أذرعات الشام، يريد: إجلاء بنى النضير. فإن قلت: لمن الراجع في قوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) ؟ قلت: للوجوه إن أريد الوجهاء، أو لأصحاب الوجوه. لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) على طريقة الالتفات أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نجزيهم بالمسخ، كما مسخنا أصحاب السبت. فإن قلت: فأين وقوع الوعيد. قلت:
هو مشروط بالايمان «١». وقد آمن منهم ناس. وقيل: هو منتظر، ولا بدّ من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة، ولأنّ اللَّه عز وجلّ أوعدهم بأحد الأمرين، بطمس وجوه منهم، أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم، أو إجلائهم إلى الشام، فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن، فإنهم ملعونون بكل لسان، والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ ألا ترى إلى قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ). وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فلا بدّ أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
فإن قلت: قد ثبت أن اللَّه عزّ وجلَّ يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة «٢». فما وجه قول اللَّه تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٣» ؟ قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى
(١). قوله «هو مشروط بالايمان» لعله: مشروط بعدم الايمان. (ع)
(٢). قوم «لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. وأما عند أهل السنة فتغفر بها، وبالشفاعة، وبمجرد الفضل. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت قد ثبت أن اللَّه عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه:
عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة. وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء اللَّه أن يغفر له. هذا مع عدم التوبة. وأما مع التوبة فكلاهما مغفور. والآية إنما وردت فيمن لم يتب، ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق اللَّه تعالى نفى مغفرة الشرك، وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة. وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ولا يشاء اللَّه أن يغفرهما إلا للتائبين. فإذا عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك. وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة. فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب، فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة. وتعليقها بالآخر مطلقاً، إذ هما سيان في استحالة المغفرة. وإما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك: إنه لا يغفر، والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة، ومع الكبائر التوبة، حتى تنزل الآية على وفق معتقده، فيحملها أمرين لا تحمل واحداً منهما: أحدهما: إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة، ولا دليل عليها فيما ذكر. وأيضاً لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء. الثاني أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر. وما هذا إلا من جعل القرآن تبعاً للرأى، نعوذ باللَّه من ذلك. وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليهم المثل السائر «السيد يعطى والعبد يمنع» لأنّ اللَّه تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح، ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق.
قوله تعالى: (لِمَنْ يَشاءُ) كأنه قيل إن اللَّه لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أنّ المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد: لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله فَقَدِ افْتَرى إِثْماً أى ارتكبه وهو مفتر مفتعل ما لا يصح كونه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ اليهود والنصارى، قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. وقيل: جاء رجال من اليهود إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: لا. قالوا: واللَّه ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار «١». فنزلت. ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند اللَّه. فإن قلت: أما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «واللَّه إنى لأمين في السماء أمين في الأرض» «٢» ؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه. وشتان من شهد اللَّه له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إعلام بأن تزكية اللَّه هي التي يعتدّ بها، لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى يزكى من يشاء: يزكى المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أى الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم. أو
(١). ذكره الثعلبي عن الكلبي قال: نزلت هذه الآية في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم- فذكره» وسنده إلى الكلبي في أول الكتاب.
(٢). لم أجده.
من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم. ونحوه (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم عند اللَّه أزكياء وَكَفى بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً من بين سائر آثامهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
الجبت: الأصنام وكل ما عبد من دون اللَّه: والطاغوت: الشيطان. وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد. فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا يأمر بعبادة اللَّه وحده وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت، ونسقي الحاج، ونقرى الضيف، ونفك العاني. وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
وصف اليهود بالبخل والحسد وهما شرّ خصلتين: يمنعون ما أوتوا من النعمة ويتمنون أن تكون لهم نعمة غيرهم فقال أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ على أن أم منقطعة «١» ومعنى الهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ثم قال فَإِذاً لا يُؤْتُونَ أى لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم: والنقير: النقرة في ظهر النواة
(١). قوله «على أن أم منقطعة» أى تفسر ببل والهمزة. (ع)
وهو مثل في القلة، كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك: إما ملك أهل الدنيا، وإما ملك اللَّه كقوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) وهذا أوصف لهم بالشح، وأحسن لطباقه نظيره من القرآن. ويجوز أن يكون معنى الهمزة في أم: لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك، وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك. وأنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئا. وقرأ ابن مسعود: فإذاً لا يؤتوا، على إعمال إذا عملها الذي هو النصب، وهي ملغاة في قراءة العامة، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس نقيرا إذاً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بل أيحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه. وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم اللَّه من النصرة والغلبة وازدياد العزّ والتقدّم كل يوم فَقَدْ آتَيْنا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء اللَّه الكتاب والحكمة آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه اللَّه مثل ما آتى أسلافه.
وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان. وقيل: استكثروا نساءه فقيل لهم: كيف استكثرتم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ فَمِنْهُمْ فمن اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أى بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وأنكره مع علمه بصحته. أو من اليهود من آمن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومنهم من أنكر نبوّته. أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر، كقوله: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).
[سورة النساء (٤) : آية ٥٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أبدلناهم إياها. فإن قلت: كيف تعذب مكان الجلود العاصية جلود لم تعص؟ قلت: العذاب للجملة الحساسة، وهي التي عصت لا للجلد. وعن فضيل:
يجعل النضيج غير نضيج. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «تبدّل جلودهم كل يوم سبع مرّات» «١» وعن الحسن: سبعين مرّة يبدّلون جلوداً بيضاء كالقراطيس لِيَذُوقُوا الْعَذابَ
ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزّك اللَّه، أى أدامك على عزّك وزادك فيه
(١). لم أجده. ولابن عدى والطبراني عن ابن عمر: قرأ رجل عند عمر (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً) فقال معاذ: تبدل كل ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعتها من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» وفيه نافع ابن يوسف السلمى وأبو هرمز وهو ضعيف. وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: سئل فضيل بن عياض عن هذه الآية، فأخبرنا عن هشام عن الحسن قال: تبدل جلودهم كل يوم سبعين ألف مرة.
عَزِيزاً لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حَكِيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)
ظَلِيلًا صفة مشتقة من لفظ الظلّ لتأكيد معناه. كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك. وهو ما كان فينانا لا جوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجسجاً «١» لا حرّ فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة. رزقنا اللَّه بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد اللَّه: سيدخلهم بالياء أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ الخطاب عامّ لكل أحد في كل أمانة.
وقيل نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة. وذلك أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنه رسول اللَّه لم أمنعه، فلوى على ابن أبى طالب رضى اللَّه عنه يده، وأخذه منه وفتح، ودخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة. فنزلت، فأمر علياً أن يردّه إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلىّ: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل اللَّه في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً رسول اللَّه، فهبط جبريل وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً «٢». وقيل هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل. وقرئ: الأمانة، على التوحيد نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ «ما» إما أن تكون منصوبة موصوفة بيعظكم به. وإما أن تكون مرفوعة موصولة به، كأنه قيل: نعم شيئا يعظكم به. أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف، أى نعما يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وقرئ (نعما) بفتح النون.
[سورة النساء (٤) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
(١). قوله «فينانا» أى طويلا ممتداً. والجوب: الخرق والقطع. والسجسج: المتوسط. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد. وكذا ذكره الواحدي في الوسيط والأسباب. وقال فيه «ما دام هذا البيت، فان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان».
لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولى الأمر منكم: أمراء الحق لأن- أمراء الجور- اللَّه ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على اللَّه ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين اللَّه ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهى عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وقيل: هم أمراء السرايا وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من أطاعنى فقد أطاع اللَّه ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يطع أميرى فقد أطاعنى ومن يعص أميرى فقد عصاني» «١» وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين، فردّوه إلى اللَّه ورسوله، أى: ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة. وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح اللَّه الأمر بطاعة أولى الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولا بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم آخراً بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند اللَّه ورسوله، وأحق أسمائهم:
اللصوص المتغلبة ذلِكَ إشارة إلى الرد إلى الكتاب والسنة خَيْرٌ لكم وأصلح وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وأحسن عاقبة. وقيل: أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
(١). متفق عليه من حديث أبى هريرة. والبخاري من رواية الأعرج. ومسلم من رواية الأعرج وأبى سلمة كلاهما عنه.
524
روى أن بشراً المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب. فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول اللَّه فلم يرض بقضائه. فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء اللَّه ورسوله، فنزلت. وقال جبريل: إنّ عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أنت الفاروق «١». والطاغوت: كعب بن الأشرف، سماه اللَّه «طاغوتا» لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه. أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان، بدليل قوله: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ). وقرئ (بما أنزل... وما أنزل) على البناء للفاعل. وقرأ عباس بن الفضل: أن يكفروا بها، ذهابا بالطاغوت إلى الجمع، كقوله: (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام على أنه حذف اللام من تعاليت تخفيفاً «٢»، كما قالوا: ما باليت به بالة، وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في: (آية) إن أصلها «آيية» فاعلة، فحذفت اللام، فلما حذفت وقعت واو الجمع بعد اللام من تعال فضمت، فصار (تعالوا)، نحو: تقدموا. ومنه قول أهل مكة: تعالى، بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني:
(١). ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى عاصم عن ابن عباس في هذه الآية: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشر. وإسناده إلى الكلبي في خطبة كتابه. وذكره الواحدي أيضا. ولابن أبى حاتم وابن مردويه من رواية وهب عن ابن لهيعة عن أبى الأسود «اختصم رجلان إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم. فقضى بينهما. فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر. فانطلقا إليه. فضرب عنق الذي قال: ردنا إلى عمر. فجاء الآخر فأخبره فقال: ما كنت أظن عمر يجترئ على قتل مؤمن. فأنزل اللَّه تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) - الآية فأهدر دمه» [.....]
(٢). قوله «من تعاليت تخفيفاً» لعله عند إسناده إلى واو الجمع. فليحرر. (ع)
525
تَعَالِى أُقَاسِمْك الْهمُومَ تَعَالِى «١»
والوجه فتح اللام فَكَيْفَ يكون حالهم، وكيف يصنعون؟ يعنى أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمراً ولا يوردونه إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم ثُمَّ جاؤُكَ حين يصابون فيعتذرون إليك يَحْلِفُونَ ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً لا إساءة وَتَوْفِيقاً بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك، ففرج عنا بدعائك وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم. ولا يغنى عنهم الاعتذار عند حلول بأس اللَّه. وقيل: جاء أولياء المنافق
(١).
أقول وقد ناحت بقربى حمامة أيا جارتا هل بات حالك حالى
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى وما خطرت منك الهموم ببال
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالى أقاسمك الهموم تعالى
تعالى ترى روحا لدى ضعيفة تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكى طليقة ويسكت محزون ويندب سالى
لقد كنت أولى منك بالدمع والبكا ولكن دمعي في الشدائد غالى
للهمدانى بالهاء. وبعضهم يرويه بالحاء، وكان أسيرا. وبات: أى صار حالك كحالي في الضيق والحزن، والاستفهام إنكارى. ويروى بدله «هل تعلمين بحالي» ونسبة العلم إليها لتنزيلها منزلة العاقل كما في ندائها. وقال «معاذ الهوى» كما يقال «معاذ اللَّه» لعظمة الهوى عنده، وهو مصدر نائب عن فعله، أى ألتجئ إلى الهوى، من دعوى أنك مثلي، «ما ذقت» يا حمامة «طارقة» الفراق وشبهها بمطعوم مكروه والذوق تخييل. «وما خطرت الهموم ببال» أى بقلب منك. وأيا: حرف نداء. و «جارتا» أصله جارتى، فقلبت الياء ألفاً لرفع الصوت.
وتكرير النداء فيه معنى التحسر. وادعاء بلادتها بعد تنزيلها منزلة العاقل بعيد «ما أنصف الدهر بيننا» حيث أطلقك وأسرك وأسرنى وأحزننى. والقياس في تعالى- أمر للمؤنثة، وفي تعاليا للمثنى، وفي تعالوا لجمع الذكور- فتح اللام على أصلها لأنها عين الفعل، والضمير تال للامه المقدرة، وأهل مكة يكسرون الأولى لمناسبة الياء، ويضمون الثانية لمناسبة الواو تنزيلا لها منزلة لام الفعل. ومنه قوله «أقاسمك الهموم» فلي النصف ولك الآخر. فان قيل: إن قائل هذا الشعر مولد فلا يستشهد بكلامه. قلت: أجيب بأن إيراده من قبيل الاستثناء لا من قبيل الاستبدال.
ومذهب الزمخشري أن «هات» بالكسر بمعنى ناولني، و «تعالى» بالفتح دائما على اللغة المشهورة بمعنى أقبل إلى، كلاهما اسم فعل لا فعل أمر، ولعله لعدم تصرفها في هذين المعنيين. وأغرب منه ما نقله السيوطي عن بعضهم: أن أدوات النداء أسماء أفعال متجملة لضمير المتكلم بمعنى أدعو. وقوله «ترى» بفتح الراء على اللغة الأولى، وبكسرها على الثانية. وتكرير الأمر كتكرير النداء. ومعنى ضعف الروح: عجز حواسها عن الإدراك. و «تردد» أصله:
تتردد «بالي» أى نحيل. وقوله «أيضحك» استفهام تعجبي بالنسبة للجملة الأولى، وتوبيخي بالنسبة للثانية، وكذلك المصراع الثاني. ويجوز أنه تعجبي في الجميع، أو توبيخي في الجميع وهو أبعدها، ويعنى بالمأسور والمحزون نفسه. وبالطليقة والسالى الحمامة. ويجوز أنه أراد العموم ويدخلان فيه دخولا أوليا. و «المأسور» المحبوس وحزنه: لغة قريش. وأحزنه: لغة تميم. ومحزون من الأول. والندبة: رفع الصوت بالبكاء، والمراد به النوح السابق. والسالى: الصابر وقليل الهموم. والدمع: ماء العين ونزوله منها. والمراد الثاني. وروى «بالدمع مقلة» فمقلة تمييز، والأصل: لقد كانت مقلتي أولى من مقلتك بالدمع. و «غالى» مرتفع وممتنع لتجلد الشامتين.
526
يطلبون بدمه وقد أهدره اللَّه فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تزد على كفهم بالموعظة والنصيحة عما هم عليه وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً بالغ في وعظهم بالتخفيف والإنذار. فإن قلت: بم تعلق قوله: (فِي أَنْفُسِهِمْ «١» ) ؟ قلت: بقوله: (بَلِيغاً) أى: قل لهم قولا بليغاً في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند اللَّه، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف. أو يتعلق بقوله: (قُلْ لَهُمْ) أى قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا، وأنّ اللَّه يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يغنى عنكم إبطانه. فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق، وإلا أنزل اللَّه بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشراً من ذلك وأغلظ. أو قل لهم في أنفسهم- خاليا بهم، ليس معهم غيرهم، مسارّا لهم بالنصيحة، لأنها في السر أنجع، وفي الإمحاض أدخل- قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
(١). قال محمود «إن قلت: بم تعلق قوله في أنفسهم... الخ» ؟ قال أحمد: ولكل من هذه التأويلات شاهد على الصحة. أما الأول فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم وسياق التهديد في قوله: (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ) يشهد له، فانه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد. وأما الثاني فيلائمه من السياق قوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) يعنى ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل. ثم أمره بوعظهم والاعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم، ثم جاء قوله: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً) كالشرح للوعظ، ولذكر أهم ما يعظهم فيه، وتلك نفوسهم التي علم اللَّه ما انطوت عليه من المذام، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به. وأما الثالث: فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين، والتجافي عن إفصاحهم والستر عليهم، حتى عد حذيفة رضى اللَّه عنه صاحب سره عليه الصلاة والسلام، لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم، وتسميتهم له بأسمائهم، وأخباره في هذا المعنى كثيرة
527
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ وما أرسلنا رسولا قط إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ بسبب إذن اللَّه في طاعته، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه، لأنه مؤدّ عن اللَّه، فطاعته طاعة اللَّه ومعصيته معصية اللَّه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ويجوز أن يراد بتيسير اللَّه وتوفيقه في طاعته وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذلك بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك بردّ قضائك، حتى انتصبت شفيعا لهم إلى اللَّه ومستغفراً لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً لعلموه توابا، أى لتاب عليهم. ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه «١» إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من اللَّه بمكان فَلا وَرَبِّكَ معناه فو ربك، «٢» كقوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ و «لا» مزيدة
(١). قال محمود: وإنما لم يقل واستغفرت لهم لأنه عدل به... الخ» قال أحمد: وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية، وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه، وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة، واللَّه الموفق.
(٢). قال محمود «معناه فو ربك و «لا» مزيدة لتأكيد... الخ» قال أحمد: يشير إلى أن (لا) لما زيدت مع القسم وإن لم يكن المقسم به، دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفياً، تعين جعلها لتأكيد القسم، طردا للباب. والظاهر عندي واللَّه أعلم: أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك، وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن في دخولها على القسم المثبت نظراً، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم، حيث يكون بالفعل، مثل (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ)، (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ)، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)، (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير اللَّه تعالى، ولذلك سر يأبى كونها في آية النساء لتأكيد القسم. ويعين كونها للتوطئة، وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها، تأكيد تعظيم المقسم به، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامى لهذه الأشياء بالقسم بها كلا إعظام، يعنى أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم وللاقسام بها، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد في إبراز فعل القسم مؤكداً بالنفي المذكور. وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول (لا) عند قوله: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) على وجه مجمل هذا بسطه وإيضاحه، فإذا بين ذلك، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير اللَّه مندفع في الأقسام باللَّه، فلا يحتاج إلى دخول (لا) مؤكدة للقسم فيتعين حملها على الموطئة، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت. وأما دخولها في القسم وجوابه نفى فكثير مثل:
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعى القوم أنى أفر
وكقوله:
ألا نادت أمامة باحتمال لتحزننى فلا بك ما أبالى
وقوله:
رأى برقا فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أقاما
وقوله:
فخالف فلا واللَّه تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف
وهو أكثر من أن يحصى فتأمل هذا الفصل فانه حقيق بالتأمل.
528
لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) لتأكيد وجود العلم. ولا يُؤْمِنُونَ جواب القسم فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر (فَلا) في: (لا يُؤْمِنُونَ) ؟ قلت: يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ فيما اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه حَرَجاً ضيقاً، أى لا تضيق صدورهم من حكمك، وقيل: شكا، لأنّ الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين وَيُسَلِّمُوا وينقادوا ويذعنوا لما تأتى به من قضائك، لا يعارضوه بشيء، من قولك:
سلم الأمر للَّه وأسلم له، وحقيقة سلم نفسه وأسلمها، إذا جعلها سالمة له خالصة، وتَسْلِيماً تأكيد للفعل بمنزلة تكريره. كأنه قيل: وينقادوا لحكمه انقياداً لا شبهة فيه، بظاهرهم وباطنهم. قيل:
نزلت في شأن المنافق واليهودي. وقيل: في شأن الزبير وحاطب بن أبى بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في شراج من الحرّة، كانا يسقيان بها النخل، فقال «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» «١» فغضب حاطب وقال: لأن كان ابن عمتك؟ فتغير وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك، ثم أرسله إلى جارك» كان قد أشار على الزبير برأى فيه السعة له ولخصمه فلما أحفظ»
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم، ثم خرجا فمرا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء؟ فقال الأنصارى: قضى لابن عمته، ولوى شدقه. ففطن يهودى كان مع المقداد فقال: قاتل اللَّه هؤلاء، يشهدون أنه رسول اللَّه ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم، وايم اللَّه، لقد أذنبنا ذنبا مرّة في حياة موسى، فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا
(١). قال ابن أبى حاتم: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب- قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) - الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبى بلتعة: اختصما في ماء فقضى النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل» وأصله في الصحيحين أتم من هذا من غير تسمية حاطب. أخرجاه من طريق الزهري عن عروة قال «اختصم الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول اللَّه، إن كان ابن عمتك؟
فتلون وجهه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعب الزبير حقه في صريح الحكم. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية وروى أنهما لما خرجا مرا على المقداد: فقال قاتل اللَّه هؤلاء، يشهدون أنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم يتهمونه على قضاء يقضى بينهم، وايم اللَّه لقد أذنبنا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس:
أما واللَّه إن اللَّه يعلم منى الصدق، لو أمرنى أن أقتل نفسي لقتلتها»
ذكره الثعلبي في تفسيره بغير سند عن الصالحي، وإسناده إليه أول الكتاب.
(٢). قوله «فلما أحفظ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» أى أغضب، أفاده الصحاح. (ع)
529
سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما واللَّه إنّ اللَّه ليعلم منى الصدق، لو أمرنى محمد أن أقتل نفسي لقتلتها. وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنّ من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «١». وروى عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أنه قال: واللَّه لو أمرنا ربنا لفعلنا، والحمد للَّه الذي لم يفعل بنا ذلك، فنزلت الآية في شأن حاطب، ونزلت في شأن هؤلاء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بنى إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فَعَلُوهُ إِلَّا ناس قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذا توبيخ عظيم. والرفع على البدل من الواو في: (فَعَلُوهُ). وقرئ: إلا قليلا، بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في عاجلهم وآجلهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً
لإيمانهم وأبعد من الاضطراب فيه وَإِذاً جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت، فقيل:
وإذاً لو ثبتوا لَآتَيْناهُمْ لأن إذاً جواب وجزاء مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً كقوله: (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) في أنّ لمراد العطاء المتفضل به من عنده وتسميته أجراً، لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته (وَلَهَدَيْناهُمْ) وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
الصديقون: أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم كأبى بكر الصديق رضى اللَّه
(١). لم أجده هكذا، وإنما ذكره الثعلبي عن الحسن ومقاتل قالا: لما نزلت هذه الآية قال عمر، وعمار وابن مسعود «واللَّه لو أمرنا اللَّه لفعلنا، والحمد للَّه الذي عافانا» فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلم ذلك فقال- فذكره
530
عنه وصدقوا في أقولهم وأفعالهم. وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة، حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد اللَّه إلى اللَّه وأرفعهم درجات عنده وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجب كأنه قيل:
وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرئ: وحسن، بسكون السين. يقول المتعجب:
حسن الوجه وجهك! وحسن الوجه وجهك! بالفتح والضم مع التسكين. والرفيق: كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفرداً، بين به الجنس في باب التمييز.
وروى أنّ ثوبان مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان شديد الحب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول اللَّه، ما بى من وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة، فخفت أن لا أراك هناك، لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا، فنزلت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين «١».» وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ صفته ومِنَ اللَّهِ الخبر، ويجوز أن يكون ذلك مبتدأ، والفضل من اللَّه خبره، والمعنى: أنّ ما أعطى المطيعون من الأجر «٢» العظيم
(١). ذكره الثعلبي بغير سند، ونقله الواحدي في الأسباب عن الكلبي لكن لم يقل في آخره «فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: والذي نفسي بيده إلى آخره» حكى ذلك عن جماعة من الصحابة قال سعيد بن جبير: حدثنا خلف بن خليفة عن عطاء بن السائب عن الشعبي قال «جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال له: أنت أحب إلى من نفسي وولدى وأهلى ومالى، ولولا أنى أتيتك فأراك لكنت، أى سأموت وبكى الأنصارى. فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت أنك ستموت مع النبيين عليهم الصلاة والسلام ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك فأنزل اللَّه على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) - الآية فقال له: أبشر» ومن طريقه أخرجه البيهقي في الشعب ووصله الطبراني وعنه ابن مردويه، ومن طريق خالد بن عبد الرحمن عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن عباس نحوه، ورواه الطبري من طريق يعقوب القمي عن جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير نحوه مرسلا، ورواه الطبراني في الصغير والواحدي موصولا من طريق عبد اللَّه بن عمران العابدي عن فضيل بن عياض عن منصور بن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت «جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، واللَّه إنك لأحب إلى من نفسي- الحديث بنحوه، وأخرجه الواحدي من طريق أخرى عن مسروق قال قال أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره مختصراً ومن طريق روح عن قتادة كذلك مرسلا.
(٢). قال محمود: «والمعنى أن ما أعطى المطيعون من الأجر... الخ»
قال أحمد: عقيدة أهل السنة: أن المطيع لا يستحق على اللَّه بطاعته شيئا، وأنه مهما أثيب به من دخول الجنة والنجاة من النار، فذاك فضل من اللَّه لا عن استحقاق ثابت، فهم يقرون هذه الآية في رجائها، وأما القدرية: فيزعمون أن المطيع يستوجب على اللَّه ثواب الطاعة، وأن المقابل لطاعته من الثواب أجر مستحق كالأجرة على العمل في الشاهد، ليس بفضل، وإنما الفضل ما يزاده العبد على حقه من أنواع الثواب وصنوف الكرامة، فلما وردت هذه الآية ناطقة بأن جملة ما يناله عباد اللَّه فضل من اللَّه، اضطر الزمخشري إلى ردها إلى معتقده، فجعل الفضل المشار إليه هو الزيادة التابعة للثواب، يعنى المستحق، ثم اتسع في التأويل فذكر وجهها آخر وهو: أن يكون المشار إليه، مزايا هؤلاء المطيعين في طاعتهم وتمييزهم بأعمالهم، وجعل معنى كونها فضلا من اللَّه أنه وفقهم لاكتسابها ومكنهم من ذلك لا غير، يعنى وأما إحداثها فبقدرهم. وهذا من الطراز الأول، والحق أن الكل أيضا فضل من اللَّه بكل اعتبار، لأن معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق اللَّه تعالى وفعله، وأن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم، بل اللَّه عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها، فالطاعة إذاً من فضله وثوابها من فضله، فله الفضل على كل حال والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل اللَّه ورحمته» قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه، قال «ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه بفضل منه ورحمة» قل بفضل اللَّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا. اللهم اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة»
531
ومرافقة المنعم عليهم من اللَّه لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بجزاء من أطاعه أو أراد أنّ فضل المنعم عليهم ومزيتهم من اللَّه، لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه وكفى باللَّه عليما بعباده فهو يوفقهم على حسب أحوالهم
[سورة النساء (٤) : آية ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١)
خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر والحذر بمعنى، كالإثر والأثر، يقال: أخذ حذره، إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى: احذروا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه من أنفسكم فَانْفِرُوا إذا نفرتم إلى العدوّ. إما ثُباتٍ جماعات متفرّقة سرية بعد سرية، وإما جَمِيعاً أى مجتمعين كوكبة واحدة، ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة. وقرئ: فانفروا بضم الفاء
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
اللام في: (لَمَنْ) للابتداء بمنزلتها في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ) وفي لَيُبَطِّئَنَّ جواب قسم محذوف تقديره: وإنّ منكم لمن أقسم باللَّه ليبطئن، والقسم وجوابه صلة من، والضمير الراجع منها إليه ما استكن في: (لَيُبَطِّئَنَّ) والخطاب لعسكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمبطئون منهم المنافقون لأنهم كانوا يغزون معهم نفاقا. ومعنى (لَيُبَطِّئَنَّ) ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد وبطأ. بمعنى: أبطأ كعتم بمعنى: أعتم «١»، إذا أبطأ، وقرئ (لَيُبَطِّئَنَّ) بالتخفيف يقال: بطأ على فلان وأبطأ علىّ وبطؤ
(١). قوله «كعتم بمعنى أعتم» في الصحاح «العتم: الإبطاء». (ع)
نحو: ثقل، ويقال: ما بطأ بك، فيعدى بالباء، ويجوز أن يكون منقولا من بطؤ، نحو؟ ثقل من ثقل، فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو، وكان هذا ديدن المنافق عبد اللَّه ابن أبىّ، وهو الذي ثبط الناس يوم أحد فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة «١» فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ من فتح أو غنيمة لَيَقُولَنَّ وقرأ الحسن (ليقولن) بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى (من) لأن قوله (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) في معنى الجماعة وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل الذي هو (لَيَقُولَنَّ) وبين مفعوله وهو يا لَيْتَنِي والمعنى كأن لم تتقدم له معكم موادّة، لأن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. والظاهر أنه تهكم. لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم، فكيف يوصفون بالمودّة إلا على وجه العكس تهكما بحالهم. وقرئ: فأفوز بالرفع عطفاً على كنت معهم لينتظم الكون معهم، والفوز معنى التمني، فيكونا متمنيين جميعاً، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، بمعنى فأنا أفوز في ذلك الوقت
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
يَشْرُونَ بمعنى يشترون ويبيعون قال ابن مفرغ:
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِى... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ «٢»
(١). قال محمود فيه: «المراد بالمصيبة القتل والهزيمة... الخ» قال أحمد: وفي هذه القراءة نكتة غريبة، وهي الاعادة إلى لفظ من بعد الاعادة إلى معناها، وهو مستغرب أنكر بعضهم وجوده في الكتاب العزيز لما يلزم من الإجمال بعد البيان، وهو خلاف قانون البلاغة، إذ الاعادة إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها، بل تناوله للمعنى مجمل مبهم، فوقوعه بعد البيان عسر، ومنهم من أثبته وعد موضعين، وهذه الآية على هذه القراءة ثالث، وسيأتى بيان شاف إن شاء اللَّه تعالى
(٢).
وشربت برداً ليتني... من بعد برد كنت هامه
يا هامة تدعو صدى... بين المشرق فاليمامه
لابن مفرغ. باع غلامه بردا عند انصرافه من سجستان إلى البصرة، فندم على ذلك ودعا على نفسه بالقتل. ويقال:
اشتراه إذا أخذه ودفع ثمنه. وشراه إذا دفعه وأخذ ثمنه. وكانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير هامة، أى بومة تزقو وتصيح: أدركونى، أدركونى حتى يؤخذ بثأره. والصدى: ذكر البوم. والمشرق- كمعظم- واليمامة: موضعان بعينهما بينهما مفازة. فقوله «كنت هامه» كناية عن أن يكون قتيلا. ويا للتنبيه أو للنداء. والمنادى محذوف وهامة بيان أو بدل من هامة الأولى، وغايرتها بانضمام الصفة إليها وهي قوله «تدعو صدى» أى تصيح على ذكرها. وهذا من المبالغة في الاشارة واللطف في العبارة، حيث ضرب عن جانب المعنى المراد صفحا، حتى كأنه يتكلم في هامة حقيقية تزقو على ذكرها، بل أنها هامة تطير وتصيح مع الهامات في المفاوز، وبعد هذا فالكلام مجاز عن شدة تحسره وتحزنه وندمه على ما فعل.
533
فالذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان باللَّه ورسوله، ويجاهدوا في سبيل اللَّه حق الجهاد، والذين يبيعون هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، والمعنى: إن صدّ الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون ووعد المقاتل في سبيل اللَّه ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين اللَّه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفا على سبيل اللَّه أى في سبيل اللَّه وفي خلاص المستضعفين، ومنصوبا «١» على اختصاص يعنى واختص من سبيل اللَّه خلاص المستضعفين لأنّ سبيل اللَّه عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدى الكفار من أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكانوا يدعون اللَّه بالخلاص ويستنصرونه فيسر اللَّه لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل اللَّه لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا، قال ابن عباس:
كان ينصر الضعيف من القوى حتى كانوا أعز بها من الظلمة. فإن قلت: لم ذكر الولدان؟ قلت:
تسجيلا بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة اللَّه بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء، وعن ابن عباس:
كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان، ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر، وبالولدان العبيد والإماء، لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة، وقيل للولدان
(١). قال محمود: «يجوز أن يكون المستضعفين مجروراً- إلى قوله- ومنصوبا... الخ» قال أحمد: وفيه على هذا مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين: إحداهما- التخصيص بعد التعميم فانه يقتضى إضمار الناصب الذي هو اختص، ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق. [.....]
534
والولائد «الولدان» لتغليب الذكور على الإناث كما يقال الآباء والإخوة. فإن قلت: لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث «١» ؟ قلت: هو وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها، فأعطى إعراب القرية لأنه صفتها، وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول من هذه القرية التي ظلم أهلها، ولو أنث فقيل: الظالمة أهلها، لجاز لا لتأنيث الموصوف، ولكن لأن الأهل يذكر ويؤنث. فإن قلت:
هل يجوز من هذه القرية الظالمين أهلها؟ قلت: نعم، كما تقول: التي ظلموا أهلها، على لغة من يقول أكلونى البراغيث، ومنه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا). رغب اللَّه المؤمنين ترغيبا وشجعهم تشجيعا بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل اللَّه. فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولىّ لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد اللَّه للكافرين أضعف شيء وأوهنه.
[سورة النساء (٤) : آية ٧٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)
(كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أى كفوها عن القتال وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بالمدينة كع فريق منهم «٢» لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفا من الموت كَخَشْيَةِ اللَّهِ من إضافة المصدر «٣» إلى المفعول، فإن قلت: ما محل (كَخَشْيَةِ اللَّهِ)
(١). قال محمود: «إن قلت لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث... الخ» ؟ قال أحمد: ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز كقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) إلى قوله: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) وقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) وأما هذه القرية في سورة النساء فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفاً لها شرفها اللَّه تعالى.
(٢). قوله «كع فريق منهم» أى جبن. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: «قوله تعالى: (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) من إضافة المصدر... إلخ» قال أحمد: وقد مر نظير هذه الآية في الاعراب وهو قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وقد قرأ الزمخشري ثم ما أذعن له هنا وهو الجر عطفا على الذكر، وبينا ثم جوازه بالتأويل الذي ذكره الزمخشري هاهنا، وهو إلحاقه بباب جد جده، وأصل هذا الاعراب لأبى الفتح، وقد بينت جواز الجر عطفا على الذكر من غير احتياج إلى التأويل المذكور، وأجرى مثله هاهنا وهو وجه حسن استنبطته من كتاب سيبويه، فان أصبت فمن اللَّه، وإن أخطأت فمنى، واللَّه الموفق. الذي ذكر سيبويه جواز قول القائل- زيد أشجع الناس رجلا- ثم قال سيبويه فرجل واقع على المبتدأ ولك أن تجره فتقول- زيد أشجع رجل- وهو الأصل انتهي المقصود من كلام سيبويه. وإذا بنيت عليه جاز أن تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب الخشية وأنت تريد المصدر، كأنك قلت خشي فلان خشية أشد خشية، فتوقع خشية الثانية على الأولى، وإن نصبتها فهو كما قلت: زيد أشجع رجلا، فأوقعت رجلا على زيد وإن كنت نصبته فهو على الأصل أن تقول أشد خشية فتجرها، كما كان الأصل أن تقول زيد أشجع رجل فتجره، وما منع الزمخشري من النصب مع وقوعه على المصدر إلا أن مقتضى النصب في مثله خروج المنصوب عن الأول، بخلاف المجرور، ألا تراك تقول زيد أكرم أبا، فيكون زيد من الأبناء وأنت تفضل أباه، وتقول زيد أكرم أب، فيكون من الآباء وأنت تفضله، فلو ذهبت توقع أشد على الخشية الأولى وقد نصبت مميزها، لزم خروج الثاني عن الأول وهو محال، إذ لا تكون الخشية خشية فتحتاج إلى التأويل المذكور، وهو جعل الخشية الأولى خاشية حتى تخرجها عن المصدر المميز لها، وقد بينا في كلام سيبويه جواز النصب مع وقوع الثاني على الأول، كما لو جررت، فمثله يجوز في الآية من غير تأويل واللَّه أعلم. وقد مضت وجوه من الاعراب في آية البقرة يتعذر بعضها هنا لمنافرة المعنى واللَّه الموفق. ومثل هذه الأنواع من الاعراب منزل من العربية منزلة اللب الخالص، فلا يوصل إليها إلا بعد تجاوز جملة القشور، وربك الفتاح العليم.
من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في (يَخْشَوْنَ) أى يخشون الناس مثل أهل خشية اللَّه، أى مشبهين لأهل خشية اللَّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية اللَّه، وأشد معطوف على الحال. فإن قلت: لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدر يخشون خشية مثل خشية اللَّه، بمعنى مثل ما يخشى اللَّه؟ قلت: أبى ذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) لأنه وما عطف عليه في حكم واحد، ولو قلت يخشون الناس أشد خشية؟ لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول أشد خشية فتجرّها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية وذات خشية، على قولهم جد جده فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية اللَّه، أو خشية أشد خشية من خشية اللَّه، ويجوز على هذا أن يكون محل (أَشَدَّ) مجروراً عطفاً على: (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) تريد كخشية اللَّه أو كخشية أشد خشية منها لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر، كقوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ). وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتال فلا ترغبوا عنه، وقرئ: ولا يظلمون، بالياء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
536
قرئ (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع وقيل: هو على حذف الفاء، «١» كأنه قيل: فيدرككم الموت، وشبه بقول القائل
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا «٢»
ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع (أَيْنَما تَكُونُوا)، وهو أينما كنتم، كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» «٣» وهو ليسوا بمصلحين، فرفع كما رفع زهير:
يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِى وَلَا حَرِمُ «٤»
(١). قال محمود: «قرئ يدرككم بالرفع. وقيل: هو على حذف الفاء... الخ» قال أحمد: أما الوجه الذي ألحقه بتوجيه سيبويه في الشعرين المذكورين ففيه نظر. أما قوله «ولا ناعب» فمختار، فان دخول الباء في خبر ليس أمر مطرد غالب، والخبر وطن معروف لها، فإذا قدرت فيه حيث تسقط، روعي هذا التقدير في المعطوف، لما ذكرناه من الغلبة التي تقتضي إلحاق دخولها بالأصل الواجب الذي يعتبر، نطق به أو سكت عنه. وأما تقدير (أَيْنَما تَكُونُوا) في معنى كلام آخر، يرتفع معه قوله: (يُدْرِكْكُمُ)، فذلك تقدير لم يعهد له نظير، ولم يغلب هذا المقدر فيلتحق بغلبة دخول الباء في الخبر، فلا يلزم من مراعاة ما يقتضيه غالب الاستعمال ومعهوده مراعاة ما لم يسبق به عهد.
وأما البيت الآخر لزهير، فالمنقول عن سيبويه حمله أو حمل مثله على التقديم والتأخير، كقوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
فليس من قبيل «ولا ناعب» واللَّه الموفق. وفي الوجه الأخير الذي أبداه الزمخشري حجة واضحة على أن القتل في المعارك والملاحم لا يعترض على الأجل المقدر بنقص، وأن كل مقتول فبأجله مات، لا كما يزعمه القدرية، واللَّه الموفق.
(٢).
من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها الشر بالشر عند اللَّه مثلان
فإنما هذه الدنيا وزينتها كالزاد لا بد يوما أنه فان
لعبد الرحمن بن حسان. وقيل: لعبد اللَّه بن حسان. وقيل: لكعب بن مالك الأنصارى. يقول: من يفعل الحسنات فاللَّه يشكرها، أى يجازيه عليها أضعافا، فأسقط الفاء من جواب الشرط وهو قليل. وقيل: مخصوص بالشعر. وعن المبرد منه مطلقا، وزعم أن الرواية «من يفعل الخير فالرحمن يشكره» والشر ملتبس بالشر أو حاصل به، ثم قال: هما متماثلان عند اللَّه لا يزيد الجزاء على الذنب. أو الباء بمعنى مع، أى الشر مع الشر مثلان عند اللَّه، لكن الأول الذنب، والثاني جزاؤه. وسمى شرا مشاكلة. وروى «سيان» بدل «مثلان» فان زينة الدنيا من المال والبنون ليست إلا مثل الزاد الذي يتزود به إلى بلوغ المعاد. ولا بد من فنائه يوما من الأيام، فلا بد من فنائها. فيوما: ظرف لفان.
(٣). قوله كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» هو من قول الشاعر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا يبين غرابها
(ع)
(٤).
هو الجواد الذي يعطيك نائله عفوا ويظلم أحيانا فينظلم
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالى ولا حرم
لزهير بن أبى سلمى، يمدح هرم بن سنان. والسائل: العطاء. وعفوا: حال منه، أى سهلا عليه، أى قليلا عنده وإن كثر في الواقع، أو بغير سؤال. ويظلم: أى يسأل فوق طاقته فيتكلف ويعطى. ويروى: فيظلم، وأصله:
يظتلم، مطاوع ظلمه. قلبت تاؤه طاء على الأصل في تاء الافتعال بعد المطبقة، ثم قلبت الطاء ظاء معجمة على خلاف الأصل في القلب للادغام، وأدغمت فيها الأولى. وروى «فيطلم» وأصله: يظتلم أيضا، قلبت التاء طاء مهملة، ثم قلبت الظاء طاء مهملة أيضا على القياس وأدغمت في الثانية وروى «فيظطلم» بهما معا. وقوله «أحيانا» فيه نوع احتراس من توهم وصفه بالعقر المستمر. «وإن أتاه خليل» أى متصف بالخلة- بالفتح- وهي الفقر والفاقة يبيح له أمواله ولا يتعلل. فقوله «يقول... إلى آخره» كناية عن ذلك، وهو جواب الشرط. ورفع لأن الشرط ماض لم يؤثر العامل في لفظه الجزم، وقد يرفع جواب الشرط المضارع لتخيل أنه ماض، كمسئلة العطف على التوهم. وقيل إنه على تقدير الفاء، أى فهو يقول. وقيل: التقدير يقول: لا غائب مالى إن أتاه خليل فالجواب محذوف دل عليه المذكور، وهو قول سيبويه، وما قبله قول الكوفيين، وروى عنه أيضا. و «المسغبة» الجوع. و «حرم» كحذر، مصدر حرمه إذا منعه. والمراد به المفعول، أى ليس محروما وممنوعا عن السائلين. ويجوز أنه صفة مشبهة، كحذر وفرح بمعنى صنع. ولو قرئ «حرم» بالفتح بمعنى حرام، كزمن وزمان لجاز. وغايته أن يكون في القافية السناد.
537
وهو قول نحوى سيبوى. ويجوز أن يتصل بقوله: (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أى ولا تنقصون شيئاً مما كتب من أجالكم. أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، ثم ابتدأ قوله: (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) والوقف على هذا الوجه على أينما تكونوا والبروج: الحصون. مشيدة مرفعة. وقرئ (مُشَيَّدَةٍ) من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجصّ. وقرأ نعيم بن ميسرة (مُشَيَّدَةٍ) بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازاً كما قالوا: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر فارضها. السيئة تقع على البلية والمعصية. والحسنة على النعمة والطاعة. قال اللَّه تعالى: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال: (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). والمعنى: وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى اللَّه، وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك، وما كانت إلا بشؤمك، كما حكى اللَّه عن قوم موسى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) وعن قوم صالح: (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) وروى عن اليهود- لعنت- أنها تشاءمت برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فردّ اللَّه عليهم قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فيعلموا أن اللَّه هو الباسط القابض، وكل ذلك صادر عن حكمة وصواب ثم قال ما أَصابَكَ يا إنسان خطابا عاما مِنْ حَسَنَةٍ أى من نعمة وإحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أى من بلية ومصيبة فمن عندك، لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وعن عائشة رضى اللَّه عنها: ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما
538
يعفو اللَّه أكثر وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أى رسولا للناس جميعا لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم، كقوله: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)، (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً). وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ذلك، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك.
[سورة النساء (٤) : آية ٨٠]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه لا يأمر إلا بما أمر اللَّه به ولا ينهى إلا عما نهى اللَّه عنه فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة للَّه. وروى أنه قال: «من أحبنى فقد أحبّ اللَّه، ومن أطاعنى فقد أطاع اللَّه» «١» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير اللَّه! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فنزلت وَمَنْ تَوَلَّى عن الطاعة فأعرض عنه فَما أَرْسَلْناكَ إلا نذيرا، لا حفيظا ومهيمنا عليهم تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم، كقوله: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).
[سورة النساء (٤) : آية ٨١]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
وَيَقُولُونَ إذا أمرتهم بشيء طاعَةٌ بالرفع أى أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة. وهذا من قول المرتسم: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة. ونحوه قول سيبويه:
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد اللَّه وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأنى حمد اللَّه. ولو نصب حمد اللَّه وثناء عليه. كان على الفعل والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها بَيَّتَ طائِفَةٌ زورت طائفة وسوت غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ خلاف ما قلت وما أمرت به. أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطلوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة. وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. والتبييت: إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليل. وإما من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها ويسويها وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائف أعمالهم، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد. أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغنى عنهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم، فإنّ
(١). لم أجده.
اللَّه يكفيك معرّتهم «١» وينتقم لك منهم إذا قوى أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام وتذكير الفعل، لأنّ تأنيث الطائفة غير حقيقى، ولأنها في معنى الفريق والفوج.
[سورة النساء (٤) : آية ٨٢]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤل إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه. فإن قلت: أليس نحو قوله: (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)، (كَأَنَّها جَانٌّ)، (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
هم ناس من ضعفة المسلمين «٢» الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور.
(١). قوله «معرتهم» أى إثمهم. وعبارة النسفي «مضرتهم» فحرر. (ع)
(٢). قال محمود: «هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال... الخ» قال أحمد: وفي اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر، لأنهما متعاقبتان وهو الذي اقتضى عند الزمخشري قوله في الوجه الثاني: فعلوا الاذاعة ليخرجها عن الباء المعاقبة للهمزة، ثم في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذباً، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيراً أو غيره. ولقد جربنا ذلك في زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد- طهرها اللَّه من دنسه، وصانها عن رجسه ونجسه، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر.
540
كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أَذاعُوا بِهِ وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم- وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لَعَلِمَهُ لعلم تدبير ما أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوّضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر، أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال: أذاع السر، وأذاع به. قال:
أَذَاعَ بِهِ فِى النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب «١»
ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه. وقرئ (لَعَلِمَهُ) بإسكان اللام كقوله:
فَإنْ أَهْجُهُ يَضجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ مِنَ الْأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ «٢»
والنبط: الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وإنباطه واستنباطه: إخراجه واستخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
(١).
أمنت على السر امرءاً غير حازم ولكنه في النصح غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب
لأبى الأسود الدؤلي. والحازم: السديد الرأى. ويقال: أذاعه إذا أفشاه وأظهره، ويضمن معنى التحدث أيضاً فيقال: أذاع به أى تحدث به فأظهره. والعلياء: الأرض المرتفعة. والثقوب: آلة تثقب بها النار فتشتعل. يقول:
وضعت السر عند من لا يصونه، وغرني صدق نصحه فأفشاه بين الناس. حتى كأنه نار في أكمة عالية أشعلت بالثقوب، فتكون أشد ظهوراً.
(٢). ضجر البعير: كثر رغاؤه من ثقل الحمل. والبازل البعير الذي انشق نابه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة.
والأدم: الشديدات البياض: جمع آدم أى شديد البياض، وربما علته صفرة، وزان حمر وأحمر، خصها لرقة جلودها. والدبر: الانجراح والانتقاب من الرحل. والغارب: العظم الناشز في الظهر. وضجر، ودبر: فعلان ماضيان من باب تعب، سكن وسطهما تخفيفا. يقول: إن أذمه يتضجر كتضجر ذلك البعير من حمله.
541
وهو إرسال الرسول، وإنزال الكتاب «١»، والتوفيق لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ لبقيتم على الكفر إِلَّا قَلِيلًا منكم. أو إلا اتباعا قليلا، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إن أفردوك وتركوك وحدك لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ اللَّه هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ (لا تكلف) بالجزم على النهى. ولا نكلف: بالنون وكسر اللام، أى لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب، لا التعنيف بهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قريش، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبى سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا.
(١). عاد كلامه. قال: «ومعنى ولولا فضل اللَّه عليكم ورحمته: ولولا إرسال الرسول وإنزال الكتاب... الخ» قال أحمد: وفي تفسير الزمخشري هذا نظر، وذلك أنه جعل الاستثناء من الجملة التي وليها بناء على ظاهر الاعراب» وأغفل المعنى، وذلك أنه يلزم على ذلك جواز أن ينتفل الإنسان من الكفر إلى الايمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس للَّه عليه في ذلك فضل. ومعاذ اللَّه أن يعتقد ذلك. وبيان لزومه أن لولا حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة، فقد سلبت تأثير فضل اللَّه في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالايمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر، بأنفسهم لا بفضل اللَّه. ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليك: لولا مساعدتى لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثراً في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله. ومن المحال أن يعتقد موحد مسلم أنه عصم في شيء من الأشياء من اتباع الشيطان إلا بفضل اللَّه تعالى عليه. أما قواعد أهل السنة فواضح أن كل ما يعد به العبد عاصيا للشيطان من إيمان وعمل خير، مخلوق للَّه تعالى، وواقع بقدرته، ومنعم على العبد به. وأما المعتزلة فهم وإن ظنوا أن العبد يخلق لنفسه إيمانه وطاعته إلا أنهم لا يخالفون في أن فضل اللَّه منسحب عليه في ذلك، لأنه خلق له القدرة التي بها خلق العبد ذلك على زعمهم ووفقه لارادة الخير، فقد وضح لك تعذر الاستثناء من الجملة الأخيرة على تفسير الزمخشري، وما أراه إلا واهما مسترسلا على المألوف في الاعراب، وهو إعادة الاستثناء إلى ما يليه من الجمل، مهملا للنظر في المعنى. ومن ثم اتخذ القاضي أبو بكر رضى اللَّه عنه الاستثناء في هذه الآية إلى ما قبل الجملة الأخيرة فطنة منه ويقظة، ولأنه إمام مؤيد في نظره مسود في فكره، ثم اتخذ القاضي رضى اللَّه عنه هذه الآية وزره في الرد على من زعم الجزم بعود الاستثناء المتعقب للجمل إلى الأخيرة، ظنا منه أن ذلك واجب لا يسوغ سواه. ثم يقف في عوده إلى ما تقدم خاصة. وقد بينت عند قوله تعالى: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أن الاستثناء في هذه الآية أيضاً يتعين عوده إلى الأولى، ويتعذر رده إلى الأخيرة، لأن المعنى يأباه، وهي مؤازرة للقاضي في الرد على من حتم عود الاستثناء إلى الأخيرة، واللَّه الموفق.
542

[سورة النساء (٤) : آية ٨٥]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)
الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير. وابتغى بها وجه اللَّه ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود اللَّه ولا في حق من الحقوق. والسيئة: ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جارية، فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم، لأنها في معنى الشفاعة إلى اللَّه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له «١» قال له الملك: ولك مثل ذلك، فذلك النصيب» والدعوة على المسلم بضد ذلك مُقِيتاً شهيداً حفيظاً. وقيل: مقتدراً. وأقات على الشيء، «٢» قال الزبير بن عبد المطلب:
وَذِى ضِغْنٍ نَفَيْتُ السُّوءَ عَنْهُ... وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مُقِيتَا «٣»
وقال السموأل:
أَلِى الْفَضْلُ أَمْ عَلَىّ إذَا حُو... سِبْتُ إنِّى عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ «٤»
واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها.
(١). أخرجه مسلم من حديث أبى الدرداء، بلفظ «قالت الملائكة: آمين، ولك بمثله». [.....]
(٢). قوله «وأقات على الشيء» لعل بعده سقطا تقديره: اقتدر عليه. (ع)
(٣). للزبير بن عبد المطلب. والضغن: الحقد. والاقاتة: الاقتدار. وروى الصاغاني: أقيت. وروى بعده:
يبيت الليل مرتفقا ثقيلا... على فرش الفتاة وما أبيت
وطن إلى منه مؤذيات... كما تؤذى الجذامير البروت
والمرتفق: المتكئ على مرفقه. وتعن: تسرع وتظهر. والجذمار: ما بقي من أصل السعفة. والبروت: الفأس، وهي فاعل تؤذى.
(٤).
ليت شعري وأشعرن إذا ما... قربوها منشورة ودعيت
ألى الفضل أم على إذا حو... سبت إنى على الحساب مقيت
ينفع الطيب القليل من الرز... ق ولا ينفع الكثير الخبيث
للسموأل الغساني اليهودي. وأشعرن: اعتراض، أى لا حاجة إلى ثمين الشعور، فانى أعلم أن من عمل خيراً يره، ومن عمل شراً يره وتوكيد الفعل المثبت الخبر كما هنا نادر جدا، لأنه ليس من مواضع التوكيد المنكورة في النحو.
و «ما» زائدة. وضمير قربوها للصحف. وضمير الفاعل للملائكة. ويروى «الغور» بدل الفضل. وإنى: بالكسر والفتح. المقيت: المقتدر. والشهيد: الحفيظ، وأصله من القوت لأنه يقوى النفس ويحفظها. والخبيت بالمثناة:
الخبيث بالمثلثة. وحق بلاغة المعنى: تقديم القليل على الطيب، لكن أخرته الضرورة.

[سورة النساء (٤) : آية ٨٦]

وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
الأحسن منها أن تقول «وعليكم السلام ورحمة اللَّه» إذا قال «السلام عليكم» وأن تزيد «وبركاته» إذا قال «ورحمة اللَّه» وروى أنّ رجلا قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: السلام عليك، فقال «وعليك السلام ورحمة اللَّه» وقال آخر: السلام عليك ورحمة اللَّه، فقال «وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته» وقال آخر: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، فقال «وعليك» «١» فقال الرجل: نقصتنى، فأين ما قال اللَّه؟ وتلا الآية، فقال «إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله. أَوْ رُدُّوها أو أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره، وجواب التسليمة واجب، والتخيير إنما وقع بين الزيادة وتركها. وعن أبى يوسف رحمه اللَّه: من قال لآخر: أقرئ فلانا السلام، وجب عليه أن يفعل.
وعن النخعي: السلام سنة والردّ فريضة. وعن ابن عباس: الردّ واجب. وما من رجل يمرّ على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردّت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، جهراً ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. وعن أبى يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغني، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي: أن المستحب ردّ السلام على طهارة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه تيمم لردّ السلام «٢»
. قالوا:
ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته، ولا يسلم على أجنبية. ويسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر.
وإذا التقيا ابتدرا. وعن أبى حنيفة: لا تجهر بالرد يعنى الجهر الكثير. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم
(١). أخرجه الطبراني والطبري من رواية هشام بن عاصم الأحول عن أبى عثمان عن سلمان. وقال ابن الجوزي في العلل:
ترك حديث هشام. ورواه الطبراني أيضاً من رواية عكرمة عن ابن عباس. والراوي له عن عكرمة أبو هريرة عن نافع عن هرمز. وهو ضعيف.
(٢). أخرجه البخاري من رواية عمير مولى ابن عباس قال «أقبلت أنا وعبد اللَّه بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم حتى دخلنا على أبى الجهيم بن الحرث ابن الصمة الأنصارى. فقال أبو الجهيم: أقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أتى على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام» ورواه مسلم معلقاً. ولأبى داود عن ابن عمير «مر رجل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه. فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب يده على الحائط ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنى لم أكن على طهارة».
«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم «١» » أى وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. وروى «لا تبتدئ اليهودىّ بالسلام، وإن بدأك فقل. وعليك». وعن الحسن: يجوز أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة اللَّه، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة اللَّه. فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة اللَّه يعيش؟
وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم.
وروى ذلك عن النخعي. وعن أبى حنيفة: لا تبدأه بسلام في كتاب ولا غيره. وعن أبى يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس بالدعاء له بما يصلحه في دنياه عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أى يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.
[سورة النساء (٤) : آية ٨٧]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إما خبر للمبتدإ. وإما اعتراض والخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ). ومعناه: اللَّه واللَّه ليجمعنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى ليحشرنكم إليه. والقيامة والقيام، كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً لأنه عز وعلا صادق لا يجوز عليه الكذب. وذلك أنّ الكذب مستقل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه. ووجه قبحه، الذي هو كونه كذبا وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ليجرّ منفعة أو يدفع مضرة. أو هو غنى عنه إلا أنه يجهل غناه. أو هو جاهل بقبحه. أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالى بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال:
لولا أنى صادق في قولي «لا» لقلتها. فكان الحكيم الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجات العالم بكل معلوم، منزها عنه، كما هو منزه عن سائر القبائح.
[سورة النساء (٤) : آية ٨٨]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)
فِئَتَيْنِ نصب على الحال، كقولك: مالك قائما؟ روى أنّ قوما من المنافقين استأذنوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا
(١). متفق عليه من حديث أنس رضى اللَّه عنه.
راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فيهم، فقال بعضهم: هم كفار. وقال بعضهم: هم مسلمون. وقيل: كانوا قوما هاجروا من مكة، ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وقيل.
هم قوم خرجوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم أحد ثم رجعوا. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا بساراً. وقيل هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. ومعناه:
ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقا ظاهراً وتفرقتم فيه فرقتين وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أى ردهم في حكم المشركين كما كانوا بِما كَسَبُوا من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى أركسوا فيه، لما علم من مرض قلوبهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أن تجعلوا من جملة المهتدين مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من جعله «١» من جملة الضلال، وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضلّ. وقرئ: ركسهم. وركسوا فيها.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
فَتَكُونُونَ عطف على: (تَكْفُرُونَ) ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى: ودّوا
(١). قال محمود: «معناه من جعله... الخ» قال أحمد: هو بهذين الوجهين يفر من الحق والحقيقة. أما الحق، فلأن اللَّه هو الذي خلق الضلال لمن ضل إذ لا خالق إلا اللَّه. وأما الحقيقة، فلأنها- أعنى الآية- اقتضت نسبة الأصل إلى فعل اللَّه تعالى، فالتخيل في تحريف الفاعلية إلى التسبيب عدول عن الحقيقة إلى المجاز. وقد علمت الباعث له على هذا المعتقد فلا نعيده.
546
كفركم فكونكم معهم شرعاً «١» واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. فلا تتولوهم وإن آمنوا حتى يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحة هي للَّه ورسوله- لا لغرض من أغراض الدنيا- مستقيمة ليس بعدها بداء ولا تعرّب. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة، فحكمهم حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحلّ والحرم، وجانبوهم مجانبة كلية، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) ومعنى (يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) ينتهون إليهم ويتصلون بهم. وعن أبى عبيدة:
هو من الانتساب. وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتميت إليه. وقيل: إن الانتساب لا أثر له في منع القتال، فقد قاتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمن معه من هو من أنسابهم، والقوم هم الأسلميون، كان بينهم وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عهد، وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح أَوْ جاؤُكُمْ لا يخلو من أن يكون معطوفا على صفة قوم، كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة الذين، كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم والوجه العطف على الصلة لقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا بعد قوله: (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)
فقرّر أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفى التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم. فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق إزالة التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين، لأنّ الاتصال بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم، ويكون قوله: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) تقريراً لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم؟ قلت: هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. وفي قراءة أبىّ: بينكم وبينهم ميثاق جاؤكم حصرت صدورهم، بغير أو. ووجهه أن يكون (جاؤُكُمْ) بياناً ليصلون، أو بدلا أو استئنافا، أو صفة بعد صفة لقوم. حصرت صدورهم في موضع الحال بإضمار قد. والدليل عليه قراءة من قرأ: حصرة صدورهم. وحصرات صدورهم. وحاصرات صدورهم. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف على: أو جاؤكم قوماً حصرت صدورهم. وقيل: هو بيان لجاؤكم، وهم بنو مدلج جاءوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غير مقاتلين. والحصر الضيق والانقباض أَنْ يُقاتِلُوكُمْ عن أن يقاتلوكم. أو كراهة أن يقاتلوكم. فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط اللَّه الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا
(١). قوله «شرعا» أى طريقاً. وفي الصحاح: أنه يحرك ويسكن. (ع)
547
لقذف اللَّه الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط. وقرئ: فلقتلوكم، بالتخفيف والتشديد فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فإن لم يتعرضوا لكم (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أى الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ هم قوم من بنى أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شراً فيها من كل عدوّ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم سُلْطاناً مُبِيناً حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)، (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها). أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ابتداء غير قصاص إِلَّا خَطَأً إلا على وجه الخطإ. فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أى ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ وحده. ويجوز أن يكون حالا بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ، وأن يكون صفة للمصدر إلا قتلا خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمى كافراً فيصيب مسلما، أو يرمى شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ: خطاء- بالمد- وخطا، بوزن عمى- بتخفيف الهمزة- وروى أنّ عياش بن أبى ربيعة- وكان أخا أبى جهل لأمّه- أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسة فأتياه
548
وهو في أطم «١» فقتل منه أبو جهل في الذروة والغارب، وقال: أليس محمد يحثك على صلة الرحم، انصرف وبرّ أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما فسحا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال للحارث: هذا أخى، فمن أنت يا حارث؟ للَّه علىّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد، ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم، وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء- ولم يشعر بإسلامه- فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه «٢»، فنزلت فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فعليه تحرير رقبة. والتحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه: عتاق الخيل، وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه: أكرم موضع منه. وقولهم للئيم «عبد» وفلان عبد الفعل: أى لئيم الفعل. والرقبة: عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأساً من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء. وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزئ الصغيرة. وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأنّ إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضى منها الدين، وتنفذ الوصية وإن لم يبق وارثا فهي لبيت المال، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم «أنا وارث من لا وارث له» «٣» وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله فقال: لا أعلم لك شيئاً، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلىّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. فورّثها عمر «٤»، وعن ابن مسعود:
(١). قوله «وهو في أطم فقتل منه» الأطم: الحصن، أفاده الصحاح. وفيه: ما زال فلان يقتل من فلان في الذروة والغارب، أى يدور من وراء خديعته. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي بغير سند، والواحدي عن ابن الكلبي. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى بتغيير يسير، ولم يسم الحرث. فقال: ومعه رجل من بنى عامر وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني نافع عن ابن عمر عن أبيه قال «أبعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص: لما أردنا الهجرة. فأصبحت أنا وعياش.
وحبس عنا هشام وفتى. وخرج أبو جهل وأخوه الحرث إلى عياش بالمدينة فكلماه وقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط، فذكر القصة بطولها.
(٣). أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث المقدام بن معديكرب به، وأتم منه.
(٤). أخرجه أصحاب السنن من رواية سعيد بن المسيب «أن عمر رضى اللَّه عنه كان يقول: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع عمر رضى اللَّه عنه.
549
يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين، ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها، وذلك خلاف قول الجماعة. (فان قلت) : على من تجب الرقبة والدية؟ قلت: على القاتل إلا أن الرقبة في ماله، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو، كقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ونحوه (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «كل معروف صدقة «١» »، وقرأ أبىّ: إلا أن يتصدقوا. فإن قلت: بم تعلق أن يصدقوا، وما محله؟ قلت: تعلق بعليه، أو بمسلمة، كأنه قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه. ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا.
ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ من قوم كفار أهل حرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم ثم يأتى قومه وهم مشركون فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين، فحكمه حكم مسلم من مسلمين فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها (ف) عليه فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ قبولا من اللَّه ورحمة منه، من تاب اللَّه عليه إذا قبل توبته يعنى شرع ذلك توبة منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد «٢» أمر عظيم وخطب غليظ. ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة «٣». وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا:
(١). أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضى اللَّه عنه.
(٢). قال محمود: «في هذه الآية من التهديد والوعيد والإبراق... الخ» قال أحمد: وكفى بقوله تعالى في هذه السورة (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) دليلا أبلج على أن القاتل الموحد- وإن لم يتب- في المشيئة وأمره إلى اللَّه، إن شاء آخذه وإن شاء غفر له. وقد مر الكلام على الآية، وما بالعهد من قدم.
وأما نسبة أهل السنة إلى الأشعبية، فذلك لا يضيرهم لأنهم إنما تطفلوا على لطف أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ولم يقنطوا من رحمة اللَّه، إنه لا يقنط من رحمة اللَّه إلا القوم الظالمون. [.....]
(٣). متفق عليه من رواية سعيد بن حبيب عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قال:
لا توبة له» وفي رواية لهما عنه «قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا» (فائدة) قال ابن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا أبو مالك الأشجعى عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلى النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، قد كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة. فما بال هذا اليوم؟ قال: إنى أحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال:
فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك».
550
لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة اللَّه في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل امرئ مسلم «١» وفيه «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه «٢» » وفيه «إن هذا الإنسان بنيان اللَّه. ملعون من هدم بنيانه» وفيه «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب «٣» بين عينيه آيس من رحمة اللَّه «٤» ». والعجب من قوم يقرؤن «٥» هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة.
ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها؟ ثم ذكر اللَّه سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ
(١). أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر. ومثله بلفظ «من قتل رجلا مسلما» وروياه موقوفا. وهو أصح. ورواه البزار وقال: لا نعلم أسنده عن شعبة إلا ابن أبى عدى.
ورواه ابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية الثوري عن يعلى بن عطاء به مرفوعا وأخرجه النسائي من وجه آخر مرفوعا.
وفي الباب عن بريدة، أخرجه النسائي وابن عدى. والبيهقي في الشعب، بلفظ، ولقتل مؤمن أعظم عند اللَّه من زوال الدنيا» وفيه بشر بن المهاجر وفيه ضعف وعن البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما أخرجه ابن ماجة، والبيهقي بلفظ «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل رجل مؤمن- وزاد: والمؤمن أكرم عند اللَّه من الملائكة الذين عنده» وفي إسناده أبو المهزم يزيد بن سفيان.
(٢). لم أجده.
(٣). قوله «مكتوب» لعله مكتوبا. (ع)
(٤). أخرجه ابن ماجة وأبو يعلى والعقيلي وابن عدى من حديث أبى هريرة مثله. وإسناده ضعيف. ورواه ابن حبان في الضعفاء من رواية عمرو بن محمد الأعلم عن نجم بن سالم الأفطس عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر به وقال. إنه حديث موضوع، لا أصل له من حديث الثقات، وعمرو، والأفطس لا يجوز الاحتجاج بهما بحال.
وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية، وترجمه خلف بن حويشب من روايته عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن المسيب به وقال غريب تفرد به حكيم بن نافع عن خلف. وحكيم ضعيف إلا أنه يرد على كلام ابن حبان وفي الباب أيضا عن ابن عمر. أخرجه البيهقي في الشعب، في السادس والثلاثين. وعن ابن عباس، أخرجه الطبراني من رواية عبد اللَّه ابن حراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عنه.
(٥). قوله «والعجب من قوم يقرءون» فيه انتصار للمعتزلة وتشنيع على أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه يجوز غفران الكبائر بالتوبة أو بالشفاعة أو بمجرد فضل اللَّه، تمسكا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) كما حقق في علم التوحيد وفي الصحاح: أشعب اسم رجل كان طماعا. وفي المثل «أطمع من أشعب» اه فالأشعبية: الخصلة التي تنسب إلى أشعب، وهي الطمع الشديد. (ع)
551
فيه حسم للأطماع وأى حسم، ولكن لا حياة لمن تنادى. فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب «١» من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل وهو تناول قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ) أىَّ قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله.
[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
فَتَبَيَّنُوا وقرئ: فتثبتوا، وهما من التفعل بمعنى الاستفعال- أى اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه من غير روية «٢». وقرئ: السلم. والسلام وهما الاستسلام. وقيل: الإسلام. وقيل: التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام لَسْتَ مُؤْمِناً وقرئ (مؤمنا) بفتح الميم من آمنه، أى لا نؤمنك، وأصله أن مرادس بن نهيك «٣» رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول «٤» من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبروا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوجد وجداً شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول اللَّه استغفر لي. قال فكيف بلا إلا إلا اللَّه، قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتق «٥» رقبة تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا تطلبون الغنيمة
(١). قوله «دليل على خلود من لم يتب» هو مذهب المعتزلة. وذهب أهل السنة إلى خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما في حديث الشفاعة وقد تقرر في محله. (ع)
(٢). قوله «ولا تتهوكوا فيه» أى تتحيروا أو تخبطوا بلا مبالاة. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «مرداس» في الصحاح: ردست القوم ورادستهم: إذا رميتهم بحجر. والمرداس: حجر يرمى به في البئر ليعلم أن فيها ماء أولا. ومنه سمى الرجل. (ع)
(٤). قوله «إلى عاقول» في الصحاح: العاقول من النهر والوادي والرمل: الموج منه. (ع)
(٥). أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى بتغيير يسير.
التي هي حطام سريع النفاد، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوّذ به من التعرض له لتأخذوا ماله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاما فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلما إلى استباحة دمه وماله وقد حرّمهما اللَّه وقوله فَتَبَيَّنُوا تكرير للأمر بالتبين ليؤكد عليهم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة للقاعدون، والنصب استثناء منهم أو حال عنهم، والجرّ صفة للمؤمنين. والضرر: المرض، أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها. وعن زيد بن ثابت: كنت إلى جنب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها، ثم سرى عنه فقال: اكتب فكتبت في كتف (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) فقال ابن أمّ مكتوم وكان أعمى: يا رسول اللَّه، وكيف بمر لا يستطيع الجهاد من المؤمنين. فغشيته السكينة كذلك، ثم قال:
اقرأ يا زيد، فقرأت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فقال غير أولى الضرر. قال زيد: أنزلها اللَّه وحدها، فألحقتها. والذي نفسي بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع في الكتف «١».
وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترقع بنفسه عن انحطاط
(١). أخرجه البخاري من رواية ابن الحكم عن يزيد بن ثابت نحوه، وأبو داود وأحمد والحاكم من رواية خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت باللفظ المذكور.
منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به «١» إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ جملة موضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما لهم لا يستوون، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولى الضرر لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف وَكُلًّا وكل فريق من القاعدين والمجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أى المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة.
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم «٢» وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم «٣» وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره. فإن قلت: قد ذكر اللَّه تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات، فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية. فإن قلت: لم نصب (دَرَجَةً) و (أَجْراً) و (دَرَجاتٍ) ؟ قلت: نصب قوله: (دَرَجَةً) لوقوعها موقع المرة من التفضيل، كأنه قيل فضلهم تفضيلة واحدة. ونظيره قولك:
ضربه سوطا، بمعنى ضربه ضربة. وأما (أَجْراً) فقد انتصب بفضل، لأنه في معنى أجرهم أجرا ودرجات، ومغفرة، ورحمة: بدل من أجر. أو يجوز أن ينتصب (دَرَجاتٍ) نصب درجة، كما تقول: ضربه أسواطا بمعنى ضربات، كأنه قيل: وفضله تفضيلات. ونصب (أَجْراً عَظِيماً) على أنه حال عن النكرة التي هي درجات مقدمة عليها، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلهما بمعنى:
وغفر لهم ورحمهم، مغفرة ورحمة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
(١). قوله «ليهاب» الظاهر أنه من الهوب وهو وهج النار، أى توقدها، كما في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه البخاري وأبو داود من رواية حميد عن أنس. ونحوه عند مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه. [.....]
(٣). قوله «ونصحت جيوبهم» في الصحاح: تقول: إنه لحسن الجيبة- بالكسر- أى الجواب. ورجل ناصح الجيب: أى أمين. (ع)
554
تَوَفَّاهُمُ يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: توفتهم. ومضارعا بمعنى تتوفاهم، كقراءة من قرأ: توفاهم، على مضارع وفيت، بمعنى أن اللَّه يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال ظلمهم أنفسهم قالُوا قال الملائكة للمتوفين فِيمَ كُنْتُمْ في أى شيء كنتم من أمر دينكم. وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فإن قلت: كيف صح وقوع قوله كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جواباً عن قولهم (فِيمَ كُنْتُمْ) ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى (فِيمَ كُنْتُمْ) للتوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق اللَّه وأدوم على العبادة- حقت عليه المهاجرة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام» «١». اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجوّ من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك بعكوفى عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك. وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإنى لست من المستضعفين، وإنى لأهتدى الطريق، واللَّه لا أبيت الليلة بمكة.
فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيراً فمات بالتنعيم «٢». فإن قلت: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد «٣»، كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء
(١). أخرجه الثعلبي في تفسير العنكبوت من رواية عباد بن منصور الناجي عن الحسن مرسلا.
(٢). ذكره الثعلبي بغير سند هكذا. وأخرجه الواحدي في الأسباب من طريق أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بهذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فلما قرأها المسلمون قال جندب بن ضمرة الليثي وكان شيخا كبيراً: احملوني فذكره. وأخرجه أبو يعلى والطبراني من هذا الوجه مختصراً.
(٣). قال محمود: «الاستثناء من المتوعدين في قوله: (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)... الخ» قال أحمد: قوله «إن المراهقين من الولدان يكلفون إلحاقا بالبالغين» مردود بقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يحتلم» فجعل البلوغ نفسه مناط التكليف. وهذا مذهب الجماهير، ولم يبلغنا خلافه. وقال الزمخشري: أراد الحديثى العهد بالصبي وإن بلغوا، تسمية لهم بالاسم السالف لقرب عهدهم به، كما قال: (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فسماهم يتامى وإن بلغوا، إذ لا تدفع أموالهم حتى يبلغوا، لأنهم حديثو عهد باليتم.
والغرض تعجيل دفع الأموال لهم إذا رشدوا، وإن قرب عهدهم باليتم حتى أنهم لذلك يعبر عنهم باليتامى، ولا يماطلوا ولو قال الزمخشري في الولدان كذلك، لكان قولا سديداً، واللَّه أعلم.
555
لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلا؟ قلت: الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون كذلك. وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك، فلا يتوجه عليهم وعيد لأن سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين، فإذا كان العجز متمكنا في الولدان لا ينفكون عنه، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة. هذا إذا أريد بالولدان الأطفال ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف. وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال. فإن قلت: الجملة التي هي لا يَسْتَطِيعُونَ ما موقعها؟
قلت: هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيء بعينه، كقوله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِى «١»
فإن قلت: لم قيل (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ قلت: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى اللَّه أن يعفو عنى، فكيف بغيره.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
مُراغَماً مهاجراً وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أى يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم:
الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام- وهو التراب- يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. قال النابغة الجعدي:
كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ عَزِيزِ الْمَرَاغِمِ وَالْمَذْهَبِ «٢»
(١). مر شرح هذا الشاهد ص ١٦ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). للنابغة الجعدي. والطود: الجبل العظيم. ويلاذ: يتحصن. والرغم: التصاق الأنف بالرغام أى التراب، وهو كناية عن الذل والهوان. وفي سلوك سبيل المهاجرة مراغمة للخصم مفارقة له على رغم أنفه. والمراغم- على اسم المفعول- الطريق، لأنه مكان المراغمة. واسم المكان من غير الثلاثي المجرد على زنة اسم المفعول منه، وكمساجد جمعه. «والمذهب» روى بدله «المهرب» والثاني أخص. يشبه رجلا بالجبل في الالتجاء إليه والتحصن بجاهه.
556
وقرئ: مرغما. وقرئ (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) بالرفع «١» على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقيل:
رفع الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، كقوله:
مِنْ عَنَزِيّ سَبَّنِى لَمْ أضْرِبْهُ «٢»
وقرئ (يُدْرِكْهُ) بالنصب على إضمار أن، كقوله:
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا «٣»
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فقد وجب ثوابه عليه: وحقيقة الوجوب: الوقوع والسقوط (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) ووجبت الشمس: سقط قرصها. والمعنى: فقد علم اللَّه كيف يثيبه وذلك واجب عليه «٤». وروى في قصة جندب بن ضمرة: أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: لو توفى بالمدينة لكان أتم أجرا، وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب. فنزلت. وقالوا: كل هجرة لغرض دينى- من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب- فهي هجرة إلى اللَّه ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على اللَّه
(١). قال محمود: «قرئ يدركه برفع الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف... الخ» قال أحمد: توجيه الرفع على إضمار المبتدأ فيه عطف الاسمية على الفعلية، والأولى خلافه ما وجد عنه سبيل. وأما الوجه الثاني من إجراء الوصل مجرى الوقف ففيه شذوذ بين، على أن الأفصح في الوقف خلاف نقل الحركة، وقد زاد شذوذاً بإجراء الوصل مجرى الوقف، فكيف وعندي وجه حسن خالص من الشذوذ مرتفع الذروة في الفصاحة، وهو العطف على ما يقع موقع «من» مما يكون الفعل الأول معه مرفوعا، كأنه قال: والذي يخرج من بيته مهاجراً ثم يدركه الموت وهو الذي ذكره الزمخشري عند قوله: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) فيمن قرأ بالرفع، وقال ثم: هو وجه نحوى سيبوى، وإجراؤه هاهنا أقرب وأصوب منه ثمة، واللَّه أعلم.
(٢).
عجبت والدهر كثير عجبه من عنزي سبني لم أضربه
قوله «والدهر كثير عجبه» جملة اعتراضية. والعنزي: نسبة لعنزة أبو حى من ربيعة. وقيل العنزي: القصير، نسبة إلى العنزة، وهي الرمح الصغير. والأصل سكون ياء أضربه للجزم، ولكنها عاورت الهاء للوزن. ويروى يا عجبا والدهر كثر عجبه من عنزي.
(٣).
سأترك منزلي لبنى تميم وألحق بالحجاز فاستريحا
للمغيرة بن حنين الحنظلي، وألحق كأكرم على الأفصح، وكأفتح على لغة. ونصبه بتقدير «أن» وإن لم يكن في جواب شيء من الأشياء الثابتة المعروفة في النحو، لأن المضارع قبله فيه معنى الأمر لنفسه، أو رائحة التمني، أو لأنه عطف على تعليل محذوف، أى لأنجو منهم وألحق بالحجاز فأستريح من شر عشرتهم. ولو رفع لفات ذلك وكان إخبار باللحوق والاستراحة فقط، لكن نص النحويون على أن النصب بعد الخبر المثبت الخالي من الشرط ضرورة، وهذا منه.
(٤). قوله «يثيبه وذلك واجب عليه» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فلا يجب عليه شيء. (ع)
557
الضرب في الأرض: هو السفر. وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبى حنيفة:
مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ سير الإبل ومشى الأقدام على القصد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب وإسراعه. فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ في يوم، قصر. ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام، لم يقصر. وعند الشافعي. أدنى مدة السفر أربعة برد مسيرة يومين. وقوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل. وإلى التخيير ذهب الشافعي. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه أتم في السفر «١». وعن عائشة رضى اللَّه عنها: اعتمرت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت يا رسول اللَّه، بأبى أنت وأمى، قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علىّ «٢». وكان عثمان رضى اللَّه عنه يتم ويقصر «٣». وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه: القصر في السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره. وعن عمر رضى اللَّه عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم «٤». وعن عائشة رضى اللَّه عنها: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر «٥». فإن قلت: فما تصنع بقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وقرئ: تقصروا من أقصر. وجاء في الحديث إقصار الخطبة بمعنى تقصيرها «٦». وقرأ الزهري (تقصروا) بالتشديد. والقصر
(١). أخرجه الشافعي وابن أبى شيبة والبزار والدارقطني والبيهقي من طرق عن عطاء عن عائشة رضى اللَّه عنها «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم» لفظ الدارقطني. وقال إسناده صحيح
(٢). أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن الأسود عنها وحسنه. وأورده من طريق أخرى عن عبد الرحمن ابن الأسود عن أبيه عن عائشة. وقال الأول متصل وعبد الرحمن أدرك عائشة. ورواه البيهقي من الوجهين
(٣). متفق عليه من حديث سالم عن أبيه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلى بمنى وعرفة وغيرها صلاة المسافر ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم أتمها أربعا» وأخرجاه عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقيل لابن مسعود، فاسترجع- الحديث.
(٤). أخرجه النسائي وابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر رضى اللَّه عنه. ورواه البزار من هذا الوجه. وحدث به يزيد بن زياد بن أبى الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة. وهذا الطريق أخرجه ابن ماجة. وأخرجه البزار من طريق أخرى عن زيد بن وهب عن عمر وفيه ياسين الزيات. وهو ضعيف. [.....]
(٥). متفق عليه.
(٦). أخرجه أبو داود والحاكم وأبو يعلى والبزار من رواية أبى راشد عن عمار بن ياسر «أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم باقصار الخطبة» قال أبو داود: لا نعلم روى أبو راشد عن عمار إلا هذا الحديث. وفي ابن حبان من حديث جابر في قصة صلاة الخوف قال «وأنزل اللَّه إقصار الصلاة. وفي أبى يعلى عن يعلى بن أمية:
قلت لعمر: فيم إقصار الصلاة... الحديث.
558
ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة، وهو قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأمّا في حال الأمن فبالسنة، وفي قراءة عبد اللَّه: من الصلاة أن يفتنكم ليس فيها (إِنْ خِفْتُمْ) على أنه مفعول له، بمعنى: كراهة أن يفتنكم. والمراد بالفتنة: القتال والتعرّض بما يكره
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ يتعلق بظاهره من لا يرى صلاة الخوف بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، حيث شرط كونه فيهم: وقال من رآها بعده: إن الأئمة نواب عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في كل عصر، قوّام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولا لكل إمام يكون حاضر الجماعة في حال الخوف، عليه أن يؤمّهم كما أمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الجماعات التي كان يحضرها. والضمير في: (فِيهِمْ) للخائفين فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ الضمير إمّا للمصلين «١» وإمّا لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا: يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما. وإن
(١). قال محمود: قيل المأمور بأخذ الأسلحة المصلون... الخ» قال أحمد: والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك. أما المصدر فهم في مظنة طرح الأسلحة، لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة، لضرورة الخوف وخشية الغرة. وأيضا فصنيع الآية يعطى ذلك، لأنه قال:
فلتقم طائفة منهم معك، وعقب ذلك بقوله: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) فالظاهر رجوع الضمير إليهم، وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم، بدلالة قوة الكلام عليهم وإن لم يذكروا.
559
كان لغيرهم فلا كلام فيه فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا يعنى غير المصلين «١» مِنْ وَرائِكُمْ يحرسونكم وصفة صلاة الخوف عند أبى حنيفة: أن يصلى الإمام بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين- والأخرى بإزاء العدو- ثم تقف هذه الطائفة بإزاء العدو وتأتى الأخرى فيصلى بها ركعة ويتم صلاته. ثم تقف بإزاء العدوّ، وتأتى الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تحرس، وتأتى الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. والسجود على ظاهره عند أبى حنيفة. وعند مالك بمعنى الصلاة، لأن الإمام يصلى عنده بطائفة ركعة ويقف قائما حتى تتم صلاتها وتسلم وتذهب، ثم يصلى بالثانية ركعة ويقف قاعداً حتى تتم صلاتها، ويسلم بهم.
ويعضده وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. وقرئ: وأمتعاتكم: فإن قلت:
كيف جمع بين الأسلحة وبين الحذر في الأخذ «٢». قلت: جعل الحذر وهو التحرّز والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، وجعلا مأخوذين. ونحوه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) جعل الإيمان مستقراً لهم ومتبوأ لتمكّنهم فيه فلذلك جمع بينه وبين الدار في التبوّء فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ فيشدون عليكم شدة واحدة. ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم في مطر أو يضعفهم من مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. فإن قلت: كيف طابق الأمر بالحذر قوله إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً؟ قلت: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ اللَّه يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه، لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من اللَّه كما قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فَاذْكُرُوا اللَّهَ فصلوها قِياماً مسايفين ومقارعين وَقُعُوداً جاثين على الركب مرامين وَعَلى جُنُوبِكُمْ مثخنين بالجراح فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج
(١). عاد كلامه. قال «والمراد بقوله فليكونوا من ورائكم غير المصلين» قال أحمد: والظاهر أن معنى السجود هاهنا الصلاة. وقد عبر عنها بالسجود كثيراً والمراد: فإذا صلت الطائفة أى أتمت صلاتها، فليكونوا من ورائكم.
وفيه دليل لمشهور مذهب مالك من أن الطائفة الأولى تتم صلاتها والامام منتظر للطائفة الأخرى. وقوله: (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) يعنى إذا أتمت الأولى صلاتها ووقفت من ورائكم، فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل بعد شيئا فليصلوا معك. وفيه دليل بين أيضاً لأحد القولين في مذهب مالك، من أن الامام ينتظر الثانية حتى تتم صلاتها ويسلم بهم، لأن ظاهر المعية المطلقة يوجب ذلك، إذ لو كانوا يقضون بعد سلامه لم يكونوا مصلين معه على الإطلاق، واللَّه أعلم. فهذه الآية منطبقة على أكثر مشهور مذهبه في تفاصيل صلاة الخوف، واللَّه الموفق للصواب.
(٢). عاد كلامه. قال «فان قلت كيف جمع بين الأسلحة... الخ» ؟ قال أحمد: وحسن هذا المجاز وبلغ به ذروة الفصاحة، عطف الحقيقة عليه.
560
إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً محدوداً بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أى حال كنتم، خوف أو أمن. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي رحمه اللَّه في إيجابه الصلاة على المحارب في حالة المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء. وأما عند أبى حنيفة رحمه اللَّه فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل: معناه فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر اللَّه مهللين مكبرين مسبحين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع، فإن ما أنتم فيه من خوف وحرب جدير بذكر اللَّه ودعائه واللجأ إليه (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) فإذا أقمتم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فأتموها.
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٤]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
وَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا ولا تتوانوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم، ثم ألزمهم الحجة بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أى ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم، مع أنكم أولى منهم بالصبر لأنكم تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة. وقرأ الأعرج: أن تكونوا تألمون، بفتح الهمزة، بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون. وقوله: (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) تعليل. وقرئ: فإنهم ييلمون كما تيلمون.
وروى أن هذا في بدر الصغرى، كان بهم جراح فتواكلوا وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا لما هو عالم به مما يصلحكم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦)
روى أنّ طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلىّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا إن لم تفعل هلك وافتضح وبريء اليهودي، فهمَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب
اليهودي. وقيل: هم أن يقطع يده «١» فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله بِما أَراكَ اللَّهُ بما عرفك وأوحى به إليك. وعن عمر رضى اللَّه عنه: لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أرانى اللَّه، فإنّ اللَّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم، ولكن ليجتهد «٢» رأيه، لأن الرأى من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان مصيباً، لأن اللَّه كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء، يعنى لا تخاصم اليهود لأجل بنى ظفر وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به من عقاب اليهودي.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠)
يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يخونونها بالمعصية. كقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها: لأنّ الضرر راجع إليهم. فإن قلت: لم قيل (لِلْخائِنِينَ) ويَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
وكان السارق طعمة وحده؟ قلت: لوجهين، أحدهما: أنّ بنى ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه. فإن قلت: لم قيل خَوَّاناً أَثِيماً
على المبالغة؟ قلت: كان اللَّه عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك
(١). ذكره الثعلبي من رواية أبى صالح عن الكلبي عن ابن عباس. ونقله الواحدي عن المفسرين في الأسباب. ورواه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان من الأنصار من بنى ظفر سرق درعاً لعمه، كانت وديعة عنده ثم قذفها على يهودى كان يغشاهم يقال له: زيد بن السمين- فذكر القصة. وأخرجه الترمذي والحاكم مطولا من رواية محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان. وقال الترمذي: غريب، ولا نعلم أسنده عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة. ورواه يونس وغير واحد عن ابن إسحاق عن عاصم مرسلا.
(٢). قوله «ولكن ليجتهد رأيه»
عبارة الخازن: ليجهد. (ع)
خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكى وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن اللَّه لا يؤاخذ عبده في أول مرة «١» يَسْتَخْفُونَ
يستترون مِنَ النَّاسِ
حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
ولا يستحيون منه وَهُوَ مَعَهُمْ
وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح يُبَيِّتُونَ
يدبرون ويزوّرون «٢» وأصله أن يكون بالليل ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
وهو تدبير طعمة أن يرمى بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف ببراءته. فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؟
قلت: لما حدّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يراد بالقول: الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته، وتوريكه «٣» الذنب على اليهودي ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
ها للتنبيه في أنتم.
وأولاء: وهما مبتدأ وخبر. وجادَلْتُمْ
جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم، تجود بمالك، وتؤثر على نفسك. ويجوز أن يكون (أولاء) اسما موصولا بمعنى الذين، وجادلتم صلته. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم اللَّه بعذابه. وقرأ عبد اللَّه: عنه، أى عن طعمة وَكِيلًا
حافظا ومحاميا من بأس اللَّه وانتقامه وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
قبيحا متعدّيا يسوء به غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة، مع العلم بما يكون منه. أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)
(فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ)
أى لا يتعدّاه ضرره إلى غيره فليبق على نفسه من كسب السوء
(١). لم أجده.
(٢). قوله «ويزورون» في الصحاح «زورت الشيء» حسنته وقومته. والتزوير: تزيين الكذب. (ع)
(٣). قوله «وتوريكه الذنب» في الصحاح «ورك فلان ذنبه على غيره» أى ترفه به. وفيه أيضا «هو يقذف بكذا» أى يرمى به ويتهم به. (ع)
خَطِيئَةً
صغيرة أَوْ إِثْماً
أو كبيرة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
كما رمى طعمة زيداً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً
لأنه بكسب الإثم «آثم» وبرمي البريء «باهت» فهو جامع بين الأمرين. وقرأ معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه: ومن يكسب، بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب.
[سورة النساء (٤) : آية ١١٣]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
أى عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرّهم لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
من بنى ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ
عن القضاء بالحق وتوخى طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم، فقد روى أن ناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصة وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لأن وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من خفيات الأمور وضمائر القلوب، أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر، ويرجع الضمير في: (مِنْهُمْ)
إلى الناس. وقيل: الآية في المنافقين.
[سورة النساء (٤) : آية ١١٤]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤)
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ من تناجي الناس إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ إلا نجوى من أمر، على أنه مجرور بدل من كثير، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوبا على الانقطاع، بمعنى: ولكن من أمر بصدقة، ففي نجواه الخير. وقيل:
المعروف القرض. وقيل إغاثة الملهوف. وقيل هو عامّ في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوّع. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر اللَّه» «١» وسمع سفيان رجلا يقول: ما أشد هذا الحديث. فقال: ألم تسمع اللَّه يقول (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ)
(١). أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم وأبو يعلى والطبراني من حديث أم حبيبة. ومداره على محمد بن يزيد ابن حبيش رواية سفيان الثوري، وفيه رواية الحاكم بزيادة فيه من كلام الثوري وأنه استشهد بهذه الآية وغيرها.
فهو هذا بعينه. أو ما سمعته يقول (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) فهو هذا بعينه وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوى فاعل الخير عبادة اللَّه والتقرّب به إليه، وأن يبتغى به وجهه خالصاً، لأن الأعمال بالنيات. فإن قلت: كيف قال: (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) قلت: قد ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله، لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال، وقرئ: يؤتيه، بالياء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٥ الى ١٢١]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي القيم، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها، كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأنّ اللَّه عز وعلا جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين، وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجبا كموالاة الرسول عليه الصلاة والسلام. قوله نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما تولى من الضلال، بأن نخذله ونخلى بينه وبين ما اختاره وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وقرئ:
ونصله، بفتح النون، من صلاه. وقيل: هي في طعمة وارتداده وخروجه إلى مكة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ تكرير للتأكيد، وقيل: كرّر لقصة طعمة: وروى: أنه مات مشركا. وقيل:
جاء شيخ من العرب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إنى شيخ منهمك في الذنوب، إلا أنى لم أشرك باللَّه شيئاً منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة
565
على اللَّه ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أنى أعجز اللَّه هربا، وإنى لنادم تائب مستغفر، فما ترى حالى عند اللَّه؟ «١» فنزلت. وهذا الحديث ينصر قول من فسر (لِمَنْ يَشاءُ) بالتائب من ذنبه «٢» إِلَّا إِناثاً هي اللات والعزى ومناة. وعن الحسن لم يكن حىّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات اللَّه. وقيل: المراد الملائكة. لقولهم: الملائكة بنات اللَّه. وقرئ أنثا، جمع أنيث أو أناث. ووثناً. وأثنا، بالتخفيف والتثقيل جمع وثن، كقولك أسد وأسد وأسد. وقلب الواو ألفا نحو «أُجوه» في وجوه. وقرأت عائشة رضى اللَّه عنها: أوثاناً وَإِنْ يَدْعُونَ وإن يعبدون بعبادة الأصنام إِلَّا شَيْطاناً لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة. ولَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة اللَّه وهذا القول الشنيع نَصِيباً مَفْرُوضاً مقطوعاً واجباً فرضته لنفسي من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقه. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعين إلى النار وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأمانى الباطلة «٣» من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة اللَّه للمجرمين بغير توبة «٤» والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ونحو ذلك. وتبتيكهم الآذان فعلهم بالبحائر، كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. وتغييرهم خلق اللَّه: فقء عين الحامى وإعفاؤه عن الركوب. وقيل: الخصاء، وهو في قول عامة العلماء مباح في البهائم. وأما في بنى آدم فمحظور. وعند أبى حنيفة: يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم، لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقيل: فطرة اللَّه التي هي دين الإسلام. وقيل للحسن: إن عكرمة يقول هو الخصاء، فقال: كذب عكرمة، هو دين اللَّه. وعن
(١). هو منقطع.
(٢). قوله «ينصر قول من فسر من يشاء... الخ» هو قول المعتزلة. (ع)
(٣). قال محمود: «المراد الأماني الباطلة... الخ» قال أحمد: هو تعريض بأهل السنة الذين يعتقدون أن الموحد ذا الكبائر غير التائب أمره يرجأ إلى اللَّه تعالى، والعفو عنه موكول إلى مشيئته إيمانا وتصديقا بقوله في الآية المعتبرة في هذا (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) والعجب أن هذه الآية تكررت في هذه السورة مرتين على أذن الزمخشري، وهو مع ذلك يتصام عنها، ويجعل العقيدة المتلقاة منها من جملة الأمانى الشيطانية، نعوذ باللَّه من إرسال الرسن في اتباع الهوى، وكذلك أيضا عرض بأهل السنة في اعتقادهم صدق الوعد الصادق بالشفاعة المحمدية، وعد ذلك أيضا أمنية شيطانية، وما أرى من جحد الشفاعة ينالها. فلا حول ولا قوة إلا باللَّه، لقد مكر بهذا الفاضل، فلا يأمن بعده عاقل. إنه لا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون. [.....]
(٤). قوله: «للمجرمين بغير توبة» بل بالشفاعة، أو بمجرد الفضل. وهو مذهب أهل السنة. (ع)
566
ابن مسعود: هو الوشم. وعنه: لعن اللَّه الواشرات والمتنمصات «١» والمستوشمات المغيرات خلق اللَّه «٢». وقيل التخنث.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران: الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا توكيد ثالث بليغ. فإن قلت: ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وأمانيه الباطلة لقرنائه بوعد اللَّه الصادق لأوليائه، ترغيباً للعباد في إيثار ما يستحقون به تنجز وعد اللَّه، على ما يتجرعون في عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٤]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)
في لَيْسَ ضمير وعد اللَّه، أى ليس ينال ما وعد اللَّه من الثواب بِأَمانِيِّكُمْ وَلا ب أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ والخطاب للمسلمين لأنه لا يتمنى وعد اللَّه إلا من آمن به، وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد اللَّه. وعن مسروق والسدى: هي في المسلمين. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ باللَّه وكذبوا، لو أحسنوا الظنّ باللَّه لأحسنوا العمل له. وقيل: إنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فنزلت. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالا (لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً)، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وكان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه. لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة. ويعضده
(١). قوله «الواشرات والمتنمصات» الواشرات: المرققات أسنانهن. والمتنمصات: الناتفات للشعر، والمتنقشات أيضا. اه صحاح. (ع)
(٢). متفق عليه من رواية علقمة بزيادة «المتفلجات» وفيه قصة.
تقدم ذكر أهل الشرك قبله. وعن مجاهد: إن الخطاب للمشركين. قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ بعد ذكر تمنى أهل الكتاب، نحو من قوله: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عقيب قوله: (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وإذا أبطل اللَّه الأمانى وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل، وأن من أصلح عمله فهو الفائز. ومن أساء عمله فهو الهالك: تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأمانى وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح. ولكنه نصح لا تعيه الآذان ولا تلقى إليه الأذهان. فإن قلت: ما الفرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، أراد:
ومن يعمل بعض الصالحات لأنّ كلا لا يتمكن من عمل كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه. وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة، وتسقط عنه الصلاة في بعض الأحوال. والثانية لتبيين الإبهام في: (مَنْ يَعْمَلْ) فإن قلت: كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك «١» ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الراجع في: (وَلا يُظْلَمُونَ) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً. والثاني أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب من فضل اللَّه هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، فكان نفى الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٥]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥)
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص نفسه للَّه وجعلها سالمة له لا تعرف لها ربا ولا معبوداً سواه
(١). قال محمود: «إن قلت كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الراجع في: (وَلا يُظْلَمُونَ) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً. والثاني: أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب من فضل اللَّه هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، وكان نفى الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل» قال أحمد: مدار هذا التطويل بالسؤال والجواب على بث المعتقد الفاسد في أن اللَّه تعالى يجب عليه أن يثيب على الطاعات، وأن الثواب منقسم إلى واجب ليس بفضل، وإلى زيادة على الواجب وهي الفضل خاصة، وهذا المعتقد هو الذي يصدق عليه أن الشيطان مناه للقدرية، حتى زعموا أن لهم على اللَّه واجبا- تعالى اللَّه عن ذلك- إن اللَّه لغنى عن عمل يوجب عليه حقاً، جل اللَّه وعز. لقد نفخ الشيطان بهذه الأمنية في آذان القدرية. اللهم لا عمدة لنا إلا فضلك، فأجزل نصيبنا منه يا كريم
وَهُوَ مُحْسِنٌ وهو عامل للحسنات تارك للسيئات حَنِيفاً حال من المتبع، أو من إبراهيم كقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو الذي تحنف أى مال عن الأديان كلها إلى دين الإسلام وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل: المخال، وهو الذي يخالك أى يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقك، من الخل: وهو الطريق في الرمل، أو يسدّ خللك كما تسدّ خلله، أو يداخلك خلال منازلك وحجبك. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب، كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم:
......... وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ «١»
فائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند اللَّه أن اتخذه خليلا، كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته. ولو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها لم يكن لها معنى. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه. فقال خليله: لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت، ولكنه يريدها للأضياف، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس. فلما أخبروا إبراهيم عليه السلام ساءه الخبر، فحملته عيناه وعمدت امرأته إلى غرارة منها فأخرجت أحسن حوّارى، واختبزت واستنبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز، فقال: من أين لكم؟ فقالت امرأته: من خليلك المصري. فقال: بل من عند خليلي اللَّه عز وجل، فسماه اللَّه خليلا.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٦]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ متصل بذكر العمال الصالحين والصالحين. معناه: أن له ملك أهل السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً فكان عالما بأعمالهم فمجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٧]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
(١).
يا ليت شعري والحوادث جمة هل أغدون يوما وأمرى مجمع
قوله «والحوادث جمة» أى كثيرة، جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. «وأمرى مجمع» أى منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون أو خبرها، وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.
569
ما يُتْلى في محل الرفع. أى اللَّه يفتيكم والمتلوّ فِي الْكِتابِ في معنى اليتامى، يعنى قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وهو من قولك: أعجبنى زيد وكرمه. ويجوز أن يكون.
(ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مبتدأ و (فِي الْكِتابِ) خبره على أنها جملة معترضة، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيما للمتلو عليهم، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند اللَّه التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه اللَّه. ونحوه في تعظيم القرآن: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ويجوز أن يكون مجروراً على القسم، كأنه قيل:
قل اللَّه يفتيكم فيهنّ، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. والقسم أيضا لمعنى التعظيم، وليس بسديد أن يعطف على المجرور في: (فِيهِنَّ)، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى، فإن قلت بم تعلق قوله فِي يَتامَى النِّساءِ؟ قلت: في الوجه الأوّل هو صلة (يُتْلى) أى يتلى عليكم في معناهن. ويجوز أن يكون (فِي يَتامَى النِّساءِ) بدلا من (فِيهِنَّ) وأما في الوجهين الآخرين فبدل لا غير. فإن قلت:
الإضافة في: (يَتامَى النِّساءِ) ما هي؟ قلت: إضافة بمعنى «من» كقولك: عندي سحق عمامة.
وقرئ: في ييامى النساء، بياءين على قلب همزة أيامى ياء لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وقرئ: ما كتب اللَّه لهنّ، أى ما فرض لهن من الميراث. وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها «١». فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن، وعن أن تنكحوهن لدمامتهن. وروى أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه كان إذا جاءه ولى اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة ولا مال لها قال:
تزوجها فأنت أحق بها «٢» وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مجرور معطوف على يتامى النساء، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء. ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء كقوله: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) وَأَنْ تَقُومُوا مجرور كالمستضعفين بمعنى: يفتيكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين. وفي أن تقوموا. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم.
(١). قوله «ومالها الخ» عبارة النسفي: ولعل أصله ومالها إلى ماله. (ع)
(٢). أخرجه الطبري من طريق إبراهيم أن عمر بن الخطاب- فذكره مرسلا.
570

[سورة النساء (٤) : آية ١٢٨]

وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨)
خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته. والنشوز: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بسب أو ضرب والإعراض: أن يعرض عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها، وذلك لبعض الأسباب من طعن في سنّ، أو دمامة، أو شيء في خَلق أو خُلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما. وقرئ: يصالحا. ويصلحا، بمعنى: يتصالحا، ويصطلحا. ونحو أصلح: أصبر في اصطبر يُصْلِحا في معنى مصدر كل واحد من الأفعال الثلاثة. ومعنى الصلح:
أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه، فوهبت لها يومها «١». وكما روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد، فقالت:
لا تطلقني ودعني أقوم على ولدى وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلىّ، فأقرّها. أو تهب له بعض المهر، أو كله، أو النفقة فإن لم تفعل فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة. أو هو خير من الخصومة في كل شيء. أو الصلح خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور وهذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه، يعنى أنها مطبوعة عليه والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها وبغير قسمتها «٢»، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها وَإِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن، وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وما يؤدى إلى الأذى والخصومة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً وهو يثيبكم عليه. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدمّ بنى آدم، وامرأته من أجملهم،
(١). أخرجه الحاكم من حديث عائشة وهو في الصحيحين من رواية عروة عن عائشة قالت «ما رأيت امرأة أحب أن أكون مسلاجها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة- الحديث».
(٢). قوله «وبغير قسمتها» لعله «غير قسمتها»، كالفرقة والنفقة والمهر. وعبارة النسفي: تسمح بقسمتها والرجل... الخ، فحرر. (ع)
فأجالت في وجهه نظرها يوما ثم تابعت الحمد للَّه، فقال: مالك؟ قالت: حمدت اللَّه على أنى وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد اللَّه الجنة عباده الشاكرين والصابرين «١»
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٩]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ومحال أن تستطيعوا العدل بَيْنَ النِّساءِ والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقيل: معناه أن تعدلوا في المحبة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول «هذه قسمتى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك «٢» » يعنى المحبة لأن عائشة رضى اللَّه عنها كانت أحب إليه. وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوى بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتى من ورائه، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة. هذا إذا كن محبوبات كلهن فكيف إذا مال القلب مع بعضهن فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضى منها، يعنى: أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله. وفيه ضرب من التوبيخ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة قال:
هَلْ هِىَ إلّا حَظَّةٌ أَوْ تَطْلِيقْ أوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقْ «٣»
وفي قراءة أبىّ: فتذروها كالمسجونة. وفي الحديث: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء
(١). لم أجده.
(٢). أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من رواية أبى قلابة عن عبد اللَّه بن يزيد عن عائشة، وفيه يعنى القلب»
.
(٣). لبنت الحمارس. والاستفهام إنكارى، أى ليست حالة الزوجة مع زوجها إلا حظة صغيرة بحظوة الزوج بها، أو تطليق لها مع الزوج، أو صلف- أى عدم حظوة من الزوج بها- وصلفت صلفاً من باب تعب. ونساء صالفات وصلائف، لم يحظهن الزوج، أو تعليق بين ذلك المذكور من الأحوال. وتسبيغ مشطور الرجز بزيادة ساكن في آخره- كما هنا- قليل.
يوم القيامة وأحد شقيه ماثل» «١» وروى أنّ عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه بعث إلى أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: أإلى كل أزواج رسول اللَّه بعث عمر مثل هذا؟ قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره، «فقالت:
ارفع رأسك فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه. فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعاً «٢»
وكان لمعاذ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد «٣» وَإِنْ تُصْلِحُوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وَتَتَّقُوا فيما يستقبل، غفر اللَّه لكم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٠]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
وقرئ: وإن يتفارقا، بمعنى وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا يرزقه زوجا خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه. والسعة الغنى. والمقدرة: والواسع: الغنى المقتدر.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣١ الى ١٣٣]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)
مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بوصينا، أو بأوتوا وَإِيَّاكُمْ عطف على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اسم للجنس يتناول الكتب السماوية أَنِ اتَّقُوا بأن اتقوا. وتكون أن المفسرة، لأنّ التوصية في معنى القول: وقوله وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ عطف على اتقوا: لأنّ المعنى:
(١). أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من رواية بشير بن نهيك عن أبى هريرة. قال الترمذي:
لا يعرف مرفوعا إلا من حديث همام.
(٢). لم أجده هكذا، وفي مسند أحمد من رواية باسرة بن سمين: سمعت عمر بن الخطاب يقول: وهو يخطب الناس يوم الجابية «إن اللَّه جعلني خازنا لهذا المال وقاسما له، ثم قال: بل اللَّه يقسمه، وأنا بادىء أهل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ففرض لأزواجه عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة. فقالت عائشة: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعدل بينا. فعدل بينهن عمر- الحديث» أورده في سنن أبى عمرو بن حفص في مسند المكيين [.....]
(٣). أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة معاذ من رواية الليث عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل- فذكره- وزاد: فأسهم بينهما أيهما تقدم وهذا مرسل.
أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإنّ للَّه. والمعنى: إن للَّه الخلق كله وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصىّ. يتقون عقابه ويرجون ثوابه. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتقوا اللَّه، يعنى أنها وصية قديمة ما زال يوصى اللَّه بها عباده، لستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة، وقلنا لهم ولكم:
وإن تكفروا فإنّ للَّه في سماواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحده ويعبده ويتقيه وَكانَ اللَّهُ مع ذلك غَنِيًّا عن خلقه وعن عبادتهم جميعاً، مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم وتكرير قوله لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه فيطيعوه ولا يعصوه، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويعدمكم كما أوجدكم وأنشأكم وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقا آخرين غير الإنس وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ من الإعدام والإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده، وهذا غضب عليهم وتخويف وبيان لاقتداره. وقيل: هو خطاب لمن كان يعادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من العرب. أى: إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه. ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا» «١» يريد أبناء فارس.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٤]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما، لأن من جاهد للَّه خالصاً لم تخطئه الغنيمة، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمة إلى جنبه كلا شيء. والمعنى: فعند اللَّه ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء بالشرط.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)
(١). أخرجه الطبري من رواية سهيل عن أبيه عن أبى هريرة بهذا وقال «يعنى عجم الفرس».
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا شُهَداءَ لِلَّهِ تقيمون شهاداتكم لوجه اللَّه كما أمرتم بإقامتها وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. فإن قلت: الشهادة على الوالدين والأقربين أن تقول: أشهد أن لفلان على والدىّ كذا، أو على أقاربى. فما معنى الشهادة على نفسه؟ قلت: هي الإقرار على نفسه، لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها. ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالأعلى أنفسكم، أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره إِنْ يَكُنْ إن يكن المشهود عليه غَنِيًّا فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه أَوْ فَقِيراً فلا تمنعها ترحما عليه فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما بالغنى والفقير أى بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما، ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها، لأنه أنظر لعباده من كل ناظر. فإن قلت: لم ثنى الضمير في: (أَوْلى بِهِما) وكان حقه أن يوحد، لأن قوله إن يكن غنياً أو فقيراً في معنى إن يكن أحد هذين؟
قلت: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنىّ وجنس الفقير، كأنه قيل: فاللَّه أولى بجنسى الغنىّ والفقير، أى بالأغنياء والفقراء، وفي قراءة أبىّ: فاللَّه أولى بهم وهي شاهدة على ذلك. وقرأ عبد اللَّه: إن يكن غنىٌ أو فقير، على «كان» التامة أَنْ تَعْدِلُوا يحتمل العدل والعدول، كأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى، كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها. وقرئ: وإن تلوا، أو تعرضوا، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وبمجازاتكم عليه.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمسلمين. ومعنى آمَنُوا اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، والدليل عليه قوله: (وَكُتُبِهِ) قرئ: وكتابه على إرادة الجنس. وقرئ: نزل.
وأنزل، على البناء للفاعل. وقيل: الخطاب لأهل الكتاب، لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض. وروى أنه لعبد اللَّه بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب. وثعلبة
ابن قيس، وسلام بن أخت عبد اللَّه بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين، أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقالوا: يا رسول اللَّه، إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عليه السلام: «بل آمنوا باللَّه ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» فقالوا: لا نفعل، فنزلت، فآمنوا كلهم «١». وقيل:
هو للمنافقين، كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا. فإن قلت: كيف قيل لأهل الكتاب (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ قلت: كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله، ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيماناً به، لأن طريق الإيمان به هو المعجزة، ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كله، فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة، فلم يكن إيمانهم إيمانا. وهذا الذي أراد عز وجلّ في قوله: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا). فإن قلت: لم قيل (نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) و (أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ؟ قلت:
لأن القرآن نزل مفرّقا منجما في عشرين سنة، بخلاف الكتب قبله، ومعنى قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ الآية: ومن يكفر بشيء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ لأن الكفر ببعضه كفر بكله. ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعاً.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧)
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا نفى للغفران والهداية «٢» وهي اللطف على سبيل
(١). ذكره الثعالبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وذكره الواحدي في الأسباب عن الكلبي بغير سند.
(٢). قال محمود: «نفى للغفران والهداية... الخ» قال أحمد: وليس في هذه الآية ما يخالف ظاهر القاعدة المستقرة على أن التوبة مقبولة على الإطلاق، لأن آخر ما ذكر من حال هؤلاء ازدياد الكفر، ولو كان المذكور في آخر أحوالهم التوبة والايمان لاحتيج إلى الجمع بين الآية والقاعدة إذاً، وإنما يقع هذا الفصل الذي أورده الزمخشري موقعه في آية آل عمران، وهو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) وقد ظهر الآن في الجمع بين هذه الآية والقاعدة وجه آخر سوى ما تقدم في آل عمران، وهو أن يكون المراد: لن يصدر منهم توبة فلن يكون قبول، من باب على لا حب لا يهتدى بمناره وعلى هذا يكون خبراً لا حكما، والمخبر عنهم من سبق في علم اللَّه أنه لا يتوب من المرتدين، واللَّه أعلم. وفي قول الزمخشري «إن الناكث للتوبة العائد إليها يغلب من حاله أنه يموت بشر حال» نظر، فقد ورد في الحديث «المؤمن مفتن تواب» قال الهروي:
معناه يقارف الذنب لفتنته، ثم يعقبه بالتوبة.
المبالغة التي يعطيها اللام، والمراد بنفيهما نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت. والمعنى:
إنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه اللَّه، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردّة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرّة بعد أخرى وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، لأنّ ذلك مقبول حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع، لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على شرِّ حال وأسمج صورة. وقيل: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بالإنجيل وبعيسى. ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩)
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ وضع (بَشِّرِ) مكان: أخبر، تهكما بهم. والَّذِينَ نصب على الذمّ أو رفع بمعنى أريد الذين، أو هم الذين. وكانوا يمايلون الكفرة «١» ويوالونهم ويقول بعضهم لبعض: لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يريد لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٠ الى ١٤١]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
(١). قوله «يمايلون الكفرة» : لعله «يمالئون». (ع)
577
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ هي أن المخففة من الثقيلة. والمعنى أنه إذا سمعتم، أى نزل عليكم أنّ الشأن كذا والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها، و «أن» مع ما في حيزها في موضع الرفع بنزل، أو في موضع النصب بنزّل، فيمن قرأ به. والمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم بمكة من قوله: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزءون به، فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة. وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ يعنى القاعدين والمقعود معهم. فإن قلت: الضمير في قوله فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ إلى من يرجع؟ قلت:
إلى من دل عليه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها كأنه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها. فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر. فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة- حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين- منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم، فكان ترك الإنكار لرضاهم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أى ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق «١» أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا في قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيباً لنا بما أصبتم. وقرئ (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار أن، قال الحطيئة:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِى وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ «٢»
فإن قلت: لم سمى ظفر المسلمين فتحاً، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت: تعظيما لشأن المسلمين وتخسيساً لحظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم «٣» تفتح لهم أبواب
(١). قوله «أو إخفاق» في الصحاح: أخفق الرجل إذا غزا ولم يغنم. (ع)
(٢). للحطيئة يخاطب الزبرقان، وهم بنو عوف بن كعب، وكان جارهم ثم انتقل إلى بنى رفيع، فذكر الزبرقان بحق الجوار، وأنه ينبغي أن لا يقاطعونه. والاستفهام للتقرير: أى أقروا بحق الجوار، فيكون بينا تمام المودة والمؤاخاة، أى الموافقة في العسر واليسر، والبأساء والضراء.
(٣). قال محمود: «سمى ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأن المسلمين... الخ» قال أحمد: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فان الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما مطابق أيضاً للواقع، واللَّه أعلم.
578
السماء حتى ينزل على أوليائه. وأمّا ظفر الكافرين، فما هو إلا حظ دنىّ ولمظة من الدنيا «١» يصيبونها.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)
يُخادِعُونَ اللَّهَ
يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وَهُوَ خادِعُهُمْ
وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم معصومى الدماء والأموال في الدنيا وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع: اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه.
وقيل: يعطون على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين، فينادون: انظرونا نقتبس من نوركم كُسالى
قرئ بضم الكاف وفتحها، جمع كسلان، كسكارى في سكران، أى يقومون متثاقلين متقاعسين، كما ترى من يفعل شيئاً على كره لا عن طيبة نفس ورغبة يُراؤُنَ النَّاسَ
يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة «٢» وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
ولا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل أيضاً لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون اللَّه بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام
(١). قوله «ولمظة من الدنيا» في الصحاح: لمظ يلمظ- بالضم- لمظا، إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه.
واللمظة- بالضم- كالنكتة من البياض. (ع)
(٢). قال محمود: «لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا أو لا يذكرون اللَّه بالتهليل والتسبيح إلا ذكراً قليلا في الندرة وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ولا يجوز أن يراد بالقلة العدم» انتهى كلامه. قلت: وإنما منع من أن يراد بها العدم لأنه خبر فيجب صدقه، وقد كانوا يذكرون اللَّه في بعض الأحيان فلا يمكن أن يسلب ذكر اللَّه مطلقا، وإذا بنينا على أن المراد بالذكر الصلاة وهو الظاهر، فالمراد أيضا الصلاة المعتبرة التي يذكر بها الإنسان حق اللَّه عليه فينتهى عن الفحشاء والمنكر. والصلاة في هذا الوجه مسلوبة عن المنافقين مطلقا، فيجوز إذا حمل القلة على العدم بهذا التفسير، واللَّه أعلم.
والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ويجوز أن يراد بالقلة العدم. فإن قلت: ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟
قلت: فيها وجهان، أحدهما: أن المرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسانه. والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل، فيقال: راءى الناس. يعنى رآهم، كقولك: نعمه وناعمه، وفنقه وفانقه «١» وعيش مفانق. روى أبو زيد: رأت المرأة المرأة الرجل، إذا أمسكتها لترى وجهه. ويدل عليه قراءة ابن أبى إسحاق: يرأونهم بهمزة مشدّدة: مثل. يرعونهم، أى يبصرونهم أعمالهم ويراءونهم كذلك مُذَبْذَبِينَ إمّا حال نحو قوله: (وَلا يَذْكُرُونَ)
عن واو يراؤن، أى يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم. ومعنى (مُذَبْذَبِينَ) ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، فهم متردّدون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أى يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمى به الرحوان «٢»، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس (مُذَبْذَبِينَ) بكسر الذال، بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. أو بمعنى يتذبذبون. كما جاء: صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد اللَّه. متذبذبين. وعن أبى جعفر: مدبدبين، بالدال غير المعجمة وكأن المعنى: أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة: الطريقة ومنها: دبة قريش. وذلِكَ إشارة إلى الكفر والإيمان لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين وَلا إِلى هؤُلاءِ ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون مشركين.
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤)
لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سُلْطاناً حجة بينة، يعنى أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن صعصعة ابن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر فان الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
(١). قوله «وفنقه وفانقه» في الصحاح أنهما بمعنى: أى نعمه. (ع)
(٢). قوله «يرمى به الرحوان» في الصحاح الرحى معروفة، والألف منقلبة من الياء. تقول: هما رحيان. وفيه أيضاً، رحت الحية ترحو، إذا استدارت. والرحي: قطعة من الأرض تستدبر وترتفع على ما حولها. ورحى القوم: سيدهم. والأرحاء: الأضراس. والأرحاء: القبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها اه. وظاهره أن الرحى هنا وادى، فليحرر. (ع)

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٦]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وقرئ بسكون الراء، والوجه التحريك، لقولهم: أدراك جهنم. فإن قلت: لِمَ كان المنافق أشدّ عذابا من الكافر؟ قلت لأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم «١» وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت: مَن المنافق؟
قلت. هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ، كقوله «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» «٢» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان «٣» » وقيل لحذيفة رضى اللَّه عنه: مَن المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعدّه من النفاق. وعن الحسن: أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه «٤»، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفاً، يعنى الحجاج.
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٧]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثار، أم يستجلب به نفعاً، أم يستدفع به ضرراً كما يفعل الملوك بعذابهم، وهو الغنىّ الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما
(١). قوله «ومداجاتهم» في الصحاح: المداجاة: المداراة. (ع)
(٢). تقدم في آل عمران والبقرة. [.....]
(٣). أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ «آية المنافق ثلاث إلى آخره، وفي رواية «من علامات المنافق ثلاث».
(٤). قوله «وهو مقروع فيه» لعله يريد القرع بالعصا. وفي الصحاح «القارعة» الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية، يقال: قرعتهم قوارع الدهر، أى أصابتهم. وقرعت رأسه بالعصا، مثل قرعت. (ع)
هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب وَكانَ اللَّهُ شاكِراً مثيبا موفيا أجوركم عَلِيماً بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت: لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكراً مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلا، فكان الشكر متقدما على الايمان، وكأنه أصل التكليف ومداره.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلا جهر من ظلم «١» استثنى من الجهر الذي لا يحبه اللَّه جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) وقيل: ضاف رجل قوما فلم يطعموه، فأصبح شاكيا، فعوتب على الشكاية فنزلت، وقرئ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل للانقطاع. أى ولكن الظالم راكب ما لا يحبه اللَّه فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظُلِمَ) مرفوعا، كأنه قيل: لا يحب اللَّه الجهر بالسوء، إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ثم حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا «٢» للعفو، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا «٣». والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة اللَّه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١)
(١). قال محمود: «تقديره لا يحب اللَّه الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه... الخ» قال أحمد: «ووجه التغاير أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن اللَّه تعالى مقدس أن يكون في السموات أو في الأرض، فاستحال دخوله في المستثنى منه. وكذا لا يندرج المستثنى في المستثنى منه في قولك:
ما جاءني زيد إلا عمرو. وكلام الزمخشري في هذا الفصل لا يتحقق لي منه ما يسوغ مجازيته فيه لاغلاق عبارته، واللَّه أعلم بمراده.
(٢). قوله «تشبيها»
لعله محرف وأصله «تنبيها» فحرر (ع)
(٣). قوله «وسطا» أى متوسطا. (ع)
جعل الذين آمنوا باللَّه وكفروا برسله أو آمنوا باللَّه وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين باللَّه ورسله جميعا لما ذكرنا «١» من العلة، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلا: أن يتخذوا دينا وسطا بين الإيمان والكفر كقوله: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) أى طريقا وسطا في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد أخطؤا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان «٢» ولذلك قال أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أى هم الكاملون في الكفر. و (حَقًّا) تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد اللَّه حقا، أى حق ذلك حقا، وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين، أى هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه،
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
فإن قلت: كيف جاز دخول بَيْنَ على أَحَدٍ وهو يقتضى شيئين فصاعدا؟ قلت: إن أحدا عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت أحدا، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بنى فلان، وإلا بنات فلان فالمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة ومنه قوله تعالى: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ)، (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) معناه: أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخرا،
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٩]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
(١). قوله «لما ذكرنا» أى في تفسير قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... ) الخ». (ع)
(٢). قوله «فانه لا واسطة بين الكفر والايمان» هذا عند أهل السنة. أما عند المعتزلة ففاعل الكبيرة الذي يموت بلا توبة لا هو مؤمن ولا كافر، بل منزلة بين المنزلتين. فتدبر. (ع)
583
روى أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
إن كنت نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى «١». فنزلت. وقيل: كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول اللَّه، وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت، قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم، وفيما آتاهم كفاية فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى جواب لشرط مقدر «٢». معناه: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى
(١). لم أجده هكذا. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى قال «قالت اليهود للنبي صلى اللَّه عليه وسلم:
إن كنت صادقا أنك رسول اللَّه فائتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى. فنزلت.
(٢). قال محمود: «فقد سألوا موسى: جواب لشرط مقدر... الخ»
قال أحمد: وهذا من المواضع التي استولى عليه فيها الاغفال، ولوح به اتباع هواه إلى مهواة الضلال، لأنه بنى على أن الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد كونهم طلبوا الرؤية وهي محال عقلا دنيا وآخرة على زعم القدرية، لما يلزم عندهم لو قيل بجوازها من اعتقاد التشبيه، فلذلك سمي أهل السنة المعتقدين لجوازها ووقوعها في الآخرة وفاء بالوعد الصادق مشبهة، وغفل عن كون اليهود اقترحوا على موسى عليه السلام خصوصية علقوا إيمانهم بها، ولم يعتبروا المعجز من حيث هو كما يجب اعتباره فقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) فهذا الاقتراح والتعنت يكفيهم ظلما. ألا ترى أن الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء، أو حتى تفجر الأرض، أو يكون لك بيت من زخرف، كيف هم من أظلم الظلمة؟ وإن كانوا إنما طلبوا أمورا جائزة، ولكنهم اقترحوا في الآيات على اللَّه، وحقهم أن يسندوا إيمانهم إلى أى معجز اختاره اللَّه- دل ذلك دلالة يلجأ على أن ظلمهم مسبب عن اقتراحهم، لا عن كون المقترح ممتنعا عقلا. والعجب بتنظير هذا السؤال لو كان المسئول جائزاً كسؤال إبراهيم عن إحياء الموتى على زعم الزمخشري، غفلة منه عما انطوى عليه سؤال ابراهيم عليه السلام من صريح الايمان حيث قال له تعالى: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) وعما انطوى عليه سؤال هؤلاء الملاعين من محض الكفر والإصرار عليه في قولهم: لن نؤمن لك. فصدروا كلامهم بالجحد والنفي. وأما دعاء الزمخشري على أهل السنة بالتب والصواعق، فاللَّه أعلم أى الفريقين أحق بها، ويكفيه هذه الغفلة التي تنادى عليه باتباع الهوى الذي يعمى ويصم، نسأل اللَّه العصمة من الضلالة والغواية.
584
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت جَهْرَةً عيانا بمعنى أرناه نره جهرة بِظُلْمِهِمْ بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق «١» آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين بِمِيثاقِهِمْ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه وَقُلْنا لَهُمُ والطور مطل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ولا تعدوا في السبت، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ: لا تعتدوا. ولا تعدّوا، بإدغام التاء في الدال فَبِما نَقْضِهِمْ فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ «٢» قلت: إما أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإما أن يتعلق بقوله: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أنّ قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف «٣» الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها فيكون التقدير:
(١). قوله «فنبا للمشبهة ورميا بالصواعق» يعنى أهل السنة، حيث أجازوا على اللَّه الرؤية كما حقق في محله، وغفر اللَّه للمؤمن يسيء المؤمنين. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت بم تعلقت الباء في قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قلت: إما أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا. وإما أن تتعلق بقوله: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أن قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ) انتهى كلامه». قلت: ولذكر البدل المذكور سر، وهو أن الكلام لما طال بعد قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا، قوى ذكره بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) حتى يلي متعلقه، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله، لأن جميع ما تقدم من النقض، والقتل، وقولهم قلوبنا غلف، وكفرهم، وقولهم على مريم بهتانا عظيما. ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه الإجمال المذكور آخرا انطواء جامعا، مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم. وقد تقدم لهذا التقرير نظائر واللَّه الموفق.
(٣). عاد كلامه. قال: «إن قلت هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها) فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأن قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أن اللَّه خلقها غلفا، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها» انتهى كلامه. قال أحمد: هؤلاء قوم زعموا أن لهم على اللَّه حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة للحق ولا متمكنة من قبوله، فكذبهم في قولهم لأنه خلق قلوبهم على الفطرة أى أن الايمان وقبول الحق من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين، وذلك هو المعبر بالتمكن، وبخلقهم ميسرين للايمان، متأتيا منهم قبول الحق قامت عليهم حجة اللَّه، إذ يجد الإنسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان، وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه، كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة، فقد قامت الحجة وتبلجت، ألا للَّه الحجة البالغة، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم «لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا، كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا، وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق على زعمه يصرفها العبد حيث شاء في إيمان وكفر، وافق ذلك مشيئة اللَّه أولا، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على خلاف مشيئة اللَّه تعالى، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة، القائلين بأن اللَّه تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن لا يعبدوها لما عبدوها، وتسميتهم لذلك مجبرة، ويجعل قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ردا على الأشعرية كما هو رد على الوثنية، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها، وهي: أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لأنهم ظنوا أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على اللَّه، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فأوضح اللَّه تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم: إن اللَّه لو شاء لهداكم أجمعين، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك حجة على اللَّه بقوله: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فهذا التقدير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف، وما عداه من الاشراك الصراح فخزي، نعوذ باللَّه منه.
585
فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم، بل طبع اللَّه عليها بكفرهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ردّ وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقاً به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنّ اللَّه خلق قلوبنا غلفاً، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة «١» أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله. فإن قلت: علام عطف قوله وَبِكُفْرِهِمْ؟ قلت: الوجه أن يعطف على: (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجعل قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلاماً تبع قوله: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) على وجه الاستطراد، يجوز عطفه على ما يليه من قوله: (بِكُفْرِهِمْ). فإن قلت: ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً على ما فيه ذكره، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ) وقوله: (بِكُفْرِهِمْ) ؟
قلت: قد تكرّر منهم الكفر، لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات اللَّه عليهم، فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل:
فيجمعهم بين نقض الميثاق، والكفر بآيات اللَّه، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم
(١). قوله «وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه» يريد بهم أهل السنة وحاشاهم أن يريدوا بمذهبهم ما أراده الكفار بما قالوا. وتحقيقه في علم التوحيد. وغفر اللَّه لمن تعدى حد الشرع من المؤمنين ولا أخراهم يوم الدين. (ع)
586
بين كفرهم وبهتهم «١» مريم، وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. أو بل طبع اللَّه عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم: هو التزنية. فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) ؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ويجوز أن يضع اللَّه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً). روى أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم «اللهم أنت ربى وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ اللَّه من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله، فأخبره اللَّه بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجلا ينافق عيسى، فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء. وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. فإن قلت: شُبِّهَ مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت: هو مسند إلى الجار والمجرور وهو قَوْلِهِمْ كقولك خيل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول لأنّ قوله: إنا قتلنا يدل عليه، كأنه قيل: ولكن شبه لهم من قتلوه إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم، يعنى: ولكنهم يتبعون الظن. فإن قلت: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين «٢»، ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا، فذاك وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً وما قتلوه قتلا يقيناً. أو ما قتلوه متيقنين، كما ادّعوا
(١). قوله «وبهتهم مريم» أى رميها بما ليس فيها، وهو التزنية. أى الرمي بالزنا. (ع) [.....]
(٢). قال محمود: «إن قلت قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح... الخ» قال أحمد: وليس في هذا الجواب شفاء للغليل. والظاهر واللَّه أعلم أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ثم كانوا لا يخلون من ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرفعون إلى العلم فيه البتة وكيف يعلم الشيء على خلاف ما هو به فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن البتة، واللَّه أعلم.
587
ذلك في قولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) أو يجعل (يَقِيناً) تأكيداً لقوله: (وَما قَتَلُوهُ) كقولك: ما قتلوه حقا أى حق انتفاء قتله حقا. وقيل: هو من قولهم: قتلت الشيء علماً ونحرته علماً إذا تبلغ فيه علمك. وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كليا بحرف الاستغراق. ثم قيل: وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكما بهم لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ به. ونحوه: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمننّ قبل موته بعيسى، وبأنه عبد اللَّه ورسوله، يعنى: إذا عاين قبل أن تزهق روحه «١» حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. وعن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: آية ما قرأتها «٢» إلا تخالج في نفسي شيء منها «٣» يعنى هذه الآية، وقال إنى أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدوّ اللَّه، أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبىّ. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه اللَّه أو ابن اللَّه، فيؤمن أنه عبد اللَّه ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إلىّ وقال: ممن؟ قلت: حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية، فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية، أو من معدنها. قال الكلبي: فقلت له: ما أردت إلى أن تقول حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية. قال: أردت أن أغيظه، يعنى بزيادة اسم علىّ، لأنه مشهور بابن الحنفية.
وعن ابن عباس أنه فسره كذلك، فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال: لا تخرج نفسه حتى يحرّك بها شفتيه. قال: وإن خرّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن «٤» به. وتدل عليه قراءة أبىّ: إلا ليؤمننّ به قبل موتهم، بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم، لأنّ أحداً يصلح للجمع. فإن
(١). قال محمود: «يعنى إذا عاين قبل أن تزهق روحه... الخ» قال أحمد: كقول فرعون لما عاين الهلاك:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها... الخ». قال أحمد:
ويبعد هذا التأويل قوله: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) فان ظاهره التهديد، ولكن ما أريد بقوله في حق هذه الأمة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) واللَّه أعلم.
(٣). لم أجده. قلت: هو في تفسير الكلبي، رواه عن شهر. ورأيته قديما في كتاب المبتدإ وقصص الأنبياء لوثيمة بسنده من هذا الوجه.
(٤). لم أجده هكذا. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى قال: قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما «ليس من يهودى يموت حتى يؤمن بعيسى بن مريم. فقال له رجل من أصحابه: كيف والرجل يغرق أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار أو يأكله السبع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الايمان بعيسى عليه الصلاة والسلام
588
قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم، وكذلك قوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن اللَّه. وقيل:
الضميران لعيسى، بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روى أنه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك اللَّه في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه «١». ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به، على أن اللَّه يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.
وقيل: الضمير في: (بِهِ) يرجع إلى اللَّه تعالى. وقيل: إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا فبأى ظلم منهم. والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه، وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر العظيمة. والطيبات التي حرّمت عليهم: ما ذكره
(١). أخرجه ابن حبان وأبو داود من رواية همام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبى هريرة في حديث أوله «الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إخوة أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإنى أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبى، وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه، فانه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يمسه بلل، بين محصرين، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يملكه اللَّه في زمانه الملك كلها إلا الإسلام إلى آخره» وأما قوله في أوله هنا «لا يبقى أحد من أهل الأرض إلا يؤمن به» فرواه الطبري من قول ابن عباس رضى اللَّه عنهما.
في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وحرّمت عليهم الألبان، وكلما أذنبوا ذنبا صغيراً أو كبيراً حرّم عليهم بعض الطيبات من المطاعم وغيرها وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ناسا كثيراً أو صدّاً كثيراً بِالْباطِلِ بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب لكِنِ الرَّاسِخُونَ يريد من آمن منهم، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه، والراسخون في العلم الثابتون فيه المتقنون المستبصرون وَالْمُؤْمِنُونَ يعنى المؤمنين منهم، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وارتفع الراسخون على الابتداء. ويُؤْمِنُونَ خبره. والْمُقِيمِينَ نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب اللَّه ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقيل:
هو عطف على: (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد اللَّه: والمقيمون، بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحى إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب وَرُسُلًا نصب بمضمر في معنى:
أوحينا إليك وهو: أرسلنا، ونبأنا، وما أشبه ذلك. أو بما فسره قصصناهم. وفي قراءة أبىّ: ورسل
590
قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب: أنهما قرءا (وَكَلَّمَ اللَّهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم «١»، وأن معناه وجرّح اللَّه موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت: كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل «٢»، وهم محجوجون بما نصبه اللَّه من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل اللَّه إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد «٣» مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا:
لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمى:
(١). قال محمود: ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم... الخ» قال أحمد: وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكارهم الكلام القديم الذي هو صفة الذات، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام، لا بذات اللَّه تعالى، فيرد عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا وأصواتا قائمة ببعض الأجرام، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف، حتى المشرك الذي قال اللَّه فيه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) فيضطر المعتزل إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح، وصدق الزمخشري وأنصف: إنه لمن يدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم، واللَّه الموفق
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل... الخ» قال أحمد: قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين تجرهم وتجرؤهم إلى إثبات أحكام اللَّه تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا، فيوجبون بعقولهم، ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم. ومما يوجبونه قبل ورود الشرع: النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون على ورود الشرع الموجب، فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل، أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع، فقد ترك واجباً استحق به التعذيب، وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع، وإذا تليت عليهم هذه الآية وهي قوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقيل لهم أما هذه الآية تناديكم يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل، فما تقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغيروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له، فقالوا: المراد أن الرسل تتمم حجة اللَّه وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالعقل، كما أجاب به الزمخشري، وقريبا من هذا التعسف يقولون إذا ورد عليهم قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من كلام الزمخشري قوله: إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل، وبذلك تقوم الحجة فنظن أن ذلك جار على سنن الصحة، إذ المعرفة باتفاق، والتوحيد بإجماع، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي، بل الحكم وجوب النظر، والمعرفة متلقاة من العقل المحض، والوجوب متلقى من النقل الصرف، وبه تقوم الحجة، وعليه يرتب الجزاء. واللَّه سبحانه ولى التوفيق والمعونة.
(٣). قوله «كما ترى علماء أهل العدل» أى كما ذهب إليه المعتزلة. وذلك أنهم حكموا العقل وجعلوه كافيا في معرفة الأحكام، كوجوب العدل وحرمة الظلم. وقال أهل السنة: لا حكم قبل الشرع. والمسألة مشهورة في علم الأصول، فالسؤال مبنى على مذهب المعتزلة. (ع)
591
لكنّ اللَّه يشهد، بالتشديد. فإن قلت: الاستدراك لا بدّ له من مستدرك «١» فما هو في قوله: (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) ؟ قلت: لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال: لكن اللَّه يشهد، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن اللَّه يشهد. وقيل: لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا: ما نشهد لك بهذا، فنزل (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة اللَّه بما أنزل إليه: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة:
شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت: بم يجابون لو قالوا: بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟
قلت: يجابون بأنه يعلم بشهادة اللَّه، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت: ما معنى قوله أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت: معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل: أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه.
ويحتمل: أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك، كما قال في آخر سورة الجنّ. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) والإحاطة بمعنى العلم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره، لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ).
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٧ الى ١٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
كَفَرُوا وَظَلَمُوا جمعوا بين الكفر والمعاصي «٢»، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين
(١). قال محمود: «إن قلت الاستدراك لا بد له من مستدرك... الخ» قال أحمد: ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.
(٢). قال محمود: «أى جمعوا بين الكفر والمعاصي... الخ» قال أحمد: يعدل من الظاهر، لعله يتروح إلى بث طرف من العقيدة الفاسدة في وجوب وعيد العصاة، وأنهم مخلدون تخليد الكفار. وقد تكرر ذلك منه. وهذه الآية تنبو عن هذا المعتقد، فانه جعل الفعلين أعنى الكفر والظلم كليهما صلة للموصول المجموع، فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده. ألا تراك إذا قلت: الزيدون قاموا، فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة، واللَّه الموفق.
أصحاب كبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما «١» إلا بالتوبة وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم. أو لا يهديهم يوم القيامة طريقا إلا طريقها يَسِيراً أى لا صارف له عنه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٠ الى ١٧١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١)
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وكذلك (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) انتصابه بمضمر، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث، علم أنه يحملهم على أمر فقال: (خَيْراً لَكُمْ) أى اقصدوا، أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث. وهو الإيمان والتوحيد لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته، حيث جعلته مولودا لغير رشدة «٢». وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وهو تنزيهه عن الشريك والولد. وقرأ جعفر بن محمد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بوزن السكيت. وقيل لعيسى (كلمة اللَّه) (وكلمة منه) لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل له: روح اللَّه، وروح منه، لذلك، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذى روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحىّ وإنما اخترع اختراعا من عند اللَّه وقدرته خالصة. ومعنى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أوصلها إليها وحصلها فيها ثَلاثَةٌ خبر مبتدإ محذوف، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس. وأنهم يريدون بأقنوم الأب: الذات، وبأقنوم الابن: العلم، وبأقنوم روح القدس: الحياة، فتقديره اللَّه ثلاثة وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة. والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن اللَّه والمسيح
(١). قوله «في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فقد تغفر الكبيرة بالشفاعة، أو بمجرد الفضل. (ع)
(٢). قوله «مولودا لغير رشدة» أى لزنية، وفي الصحاح: تقول «هو لرشدة» خلاف قولك «لزنية». (ع)
ومريم ثلاثة آلهة، وأنّ المسيح ولد اللَّه من مريم. ألا ترى إلى قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون: في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم. ويدل عليه قوله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمّهاتها، وأن اتصاله باللَّه تعالى من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره وابتداعه جسدا حيا من غير أب، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله: (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) وحكاية اللَّه أوثق من حكاية غيره.
ومعنى سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ سبحه تسبيحا من أن يكون له ولد. وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة ورفع النون: أى سبحانه ما يكون له ولد. على أنّ الكلام جملتان لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بيان لتنزهه عما نسب إليه، يعنى أنّ كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو متعال عن صفات الأجسام والأعراض وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكل إليه الخلق كلهم أمورهم، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٢]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢)
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة «١» من نكفت الدمع. إذا
(١). قال محمود معناه لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة... الخ قال أحمد: وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء. وذهب القاضي أبو بكر منا والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري. ونحن بعون اللَّه نشبع القول في المسألة من حيث الآية فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:
أحدها: أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، وبين طائفتنا في هذا الطرف خلاف.
السؤال الثاني: أن قوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضى كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح. وفي هذا السؤال أيضاً نظر لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال: يلزم القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول. ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة. والأحاديث متوافرة بذلك. وحينئذ لا يخلو، إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه. لا سبيل إلى الأول، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني- وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع- ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعاً.
الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابنى على هذا الأمر زيد ولا عمرو.
قلت: وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فان هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت: لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانياً، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة.
وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض.
ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة النائى عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر، فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبداً للَّه غير مستنكف من العبودية، لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً للَّه وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذاً بقوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة، فإنك ترقيت من تعظيم اللَّه تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز، لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم، فقد يقال: ذاك من خواصه، احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذمياً، فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت: لا تؤذ ذمياً، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهى، إذ يساوى الذمي في سبب الاحترام وهو الانسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم. فان قلت: ولا مسلماً، لم تحدد له فائدة ولم تعلمه غير ما علمه أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحياناً تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق. وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى. ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والأنهار، لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ولما اقتضى الانصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف. وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام، مستندين إلى كونه أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة اللَّه تعالى، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار اللَّه له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلب عاليها سافلها، فيكون تفضيل الملائكة إذاً بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش، وأن خوارقهم أكثر. وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء. وليس في الآية عليه دليل. ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا أى موجوداً من غير أب، أنبأنا اللَّه تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة اللَّه، بل ولا الملائكة المخلوقين من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى. ويشهد لذلك أن اللَّه تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب، وشبه العجيب من قدرته
بالأعجب إذ عيسى مخلوق من أم، وآدم من غير أم ولا أب ولذلك قال: (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد، فقد استد النظر وطابق صيغة الآية، واللَّه أعلم. وعلى الجملة فالمسألة سمعية والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر، صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. وما أحسن تأكيد الزمخشري لاستدلاله ببعث الملائكة المعنيين بأنهم المقربون، ومن ثم ينشئ ظهور من فصل القول في الملائكة والأنبياء، فلم يعمم التفضيل في الملائكة ولا في الأنبياء، بل فضل ثم فصل. وليس الغرض إلا ذكر محامل الآية، لا البحث في اختلاف المذاهب، واللَّه الموفق. [.....]
594
نحيته عن خدك بإصبعك لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً
595
وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم. فإن قلت: من أين دلّ قوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)
على أنّ المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية، فكيف بالمسيح؟
ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقرّبين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة.
ومثاله قول القائل:
وَمَا مِثْلُهُ مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ وَلَا الْبَحْرُ ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ «١»
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج: ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ علىّ رضى اللَّه عنه: عُبيداً للَّه، على التصغير. وروى أن وفد نجران قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
(١). «يلتج» أى تضطرب لجته وهي معظم مائه. و «الزاخر» المرتفع. يقول: وليس مثل ممدوحى من الناس الذين يجاودهم حاتم، ولا من الذين يجاودهم البحر الزاخر، أى يضاهيهم في الجود. فالبحر: عطف على «حاتم» بالغ في وصف ممدوحه بأن مثله لا يضاهي في الكرم، فيلزم أنه هو لا يضاهي أيضا، فنفى المضاهاة عن المثل كناية عن نفيها عن الممدوح. وفيه مبالغة أيضا من جهة ترقيه من نفى مجاودة أكرم الناس إلى نفى مجاودة أنفع الأشياء. والفعل بالنسبة للبحر مجاز أو مشاكلة. أو شبه البحر بإنسان وأثبت له المجاورة على طريق المكنية وهذا على أن «يجاود» مبنى للفاعل، فان كان مبنيا للمجهول فالمعنى أن حاتم ليس مثله ممن يضاهي في الجود، كما أن البحر لا يضاهي في النفع. فقد شبهه بالبحر ضمنا.
596
لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأى شيء أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد اللَّه ورسوله. قال: إنه ليس بعار «١» أن يكون عبداً للَّه. قالوا: بلى، فنزلت: أى لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأنّ العار ألصق به. فإن قلت: علام عطف قوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ)
؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يعطف على المسيح، أو على اسم «يكون» أو على المستتر في: َبْداً)
لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، كقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد اللَّه هو ومن فوقه. فإن قلت: قد جعلت الملائكة وهم جماعة عبداً للَّه في هذا العطف، فما وجهه؟ قلت: فيها وجهان: أحدهما أن يراد: ولا كل واحد من الملائكة أو ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عباداً للَّه، فحذف ذلك لدلالة (عبد الله) عليه إيجازاً. وأمّا إذا عطفتهم على الضمير في: َبْداً)
فقد طاح هذا السؤال. قرئَ سَيَحْشُرُهُمْ)
بضم الشين وكسرها وبالنون.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٣ الى ١٧٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
فإن قلت: التفصيل غير مطابق للمفصل «٢» لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصل على فريق واحد. قلت: هو مثل قولك: جمع الإمام الخوارج، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين، أحدهما: أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه،
(١). أخرجه الواحدي في الأسباب عن ابن الكلبي.
(٢). قال محمود: «إن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل... الخ» قال أحمد: المراد بالمفصل: من لم يستنكف ومن استنكف لسبق ذكرهما. ألا ترى أن المسيح والملائكة المقربين ومن دونهم من عباد اللَّه لم يستنكفوا عن عبادة اللَّه وقد جرى ذكرهم. ويرشد إليه تأكيد الضمير بقوله: َمِيعاً) فكأنه قال فسيحشر إليه المقربين وغيرهم جميعاً. ووقوع الفعل المتصل به الضمير جزاء لقوله: َ مَنْ يَسْتَنْكِفْ)
لا يعين اختصاص الضمير بالمستنكفين لأن المصحح لارتباط الكلام قد وجد مندرجا في طى هذا الضمير الشامل لهم ولغيرهم. وحينئذ يكون المفصل مشتملا على الفريقين، وتفصيله منطبق عليه، واللَّه أعلم.
ولأنّ ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ والثاني، وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب اللَّه. البرهان والنور المبين: القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وبالنور المبين: ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ في ثواب مستحق وتفضل وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو طريق الإسلام. والمعنى: توفيقهم وتثبيتهم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
روى أنه آخر ما نزل من الأحكام «١». كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع، فأتاه جابر بن عبد اللَّه فقال: إنّ لي أختا، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ «٢» وقيل: كان مريضا فعاده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إنى كلالة فكيف أصنع في مالى؟ «٣» فنزلت إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر. ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة لا النصب على الحال. أى: إن هلك امرؤ غير ذى ولد. والمراد بالولد الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى لأن الابن يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس، وبالأخت التي هي لأب وأم دون التي لأم، لأنّ اللَّه تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وأما الأخت للأم فلها السدس
(١). قوله «روى أنه آخر ما نزل من الأحكام» أى قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ... ) الخ. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس.
(٣). متفق عليه من رواية ابن المنذر عنه. وأخرجه أصحاب السنن، لكن ليس في رواية أحد منهم فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) إلا عند مسلم، من رواية ابن عيينة عنه بلفظ فنزلت (يَسْتَفْتُونَكَ) - الآية (فائدة) روى النسائي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) - الآية وفي البخاري من رواية الشعبي عن ابن عباس «آخر آية نزلت آية الزنا» وروى الطبري من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبى بن كعب قال: آخر آية نزلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - الآية.
598
في آية المواريث مسوّى بينها وبين أخيها وَهُوَ يَرِثُها وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أى ابن لأن الأبن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت: الابن لا يسقط الأخ وحده فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفى الولد؟ قلت:
بين حكم انتفاء الولد، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة، وهو قوله عليه السلام «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» «١» والأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد: ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع «٢» في قوله فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ وإن كانوا إخوة؟ قلت: أصله: فان كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً: وإنما قيل: فان كانتا، وإن كانوا، كما قيل: من كانت أمّك. فكما أنت ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه، والمراد بالإخوة. الإخوة لا الأخوات، تغليباً لحكم الذكورة أَنْ تَضِلُّوا مفعول له. ومعناه:
كراهة أن تضلوا. عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثاً، وأعطى من الأجر كمن اشترى محرّراً، وبريء من الشرك وكان في مشيئة اللَّه من الذين يتجاوز عنهم «٣».
(١). متفق عليه، من حديث ابن عباس بلفظ «فلأولى رجل ذكر» وأخرجه كذلك الترمذي والحاكم وأبو يعلى والبزار (فائدة) قال ابن الجوزي: لفظ «عصبة» لا يحفظ في هذا الحديث
(٢). قال محمود: «إن قلت إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع... الخ» ؟ قال أحمد: وقد سبق له هذا التمثيل في مثل هذا الموضع ولو مثل بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أسلم إذ في لفظ «من» من الإبهام ما يسوغ وقوعها على الأصناف المختلفة من مذكر ومؤنث وتثنية وجمع. ومثل الآية سواء قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن جعل الجملة مفعولا ثانياً للحسبان، فان أصل الكلام: هي العدو، إذ الضمير على هذا الاعراب للصيحة، ولكنه ذكره وجمعه لمكان الخبر، واللَّه أعلم.
(٣). تقدم الكلام على أسانيده في آخر سورة آل عمران.
599
Icon