تفسير سورة الأعراف

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
سورة الأعراف
قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه - : اعلم أن سورة الأعراف مكيه إلا قوله - تعالى - :( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) إلى قوله - تعالى - :( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم )( ١ ) فإن هذا القدر نزل بالمدينة، و( قد ) ( ٢ ) روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بطول الطولين »( ٣ ) يعني : سورة الأعراف، وإنما سميت طول الطولين ؛ لأن أطول السور التي نزلت بمكة سورة الأنعام، وسورة الأعراف، والأعراف أطولهما.
١ - الأعراف: ١٦٣-١٧٢..
٢ - ليست في "ك"..
٣ - رواه البخاري (٢/٢٨٧ رقم ٨٧٤)، وأبو داود (١/٢١٥ رقم ٨١٢)، والنسائي (٢/١٦٩ رقم ٩٨٩، ٩٩٠) من حديث زيد بن ثابت..

قَوْله تَعَالَى ﴿المص﴾ مَعْنَاهُ: أَن الله أعلم وأفصل، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنا الله الْملك الصَّادِق، وَقَالَ الشّعبِيّ: لكل كتاب سر، وسر الْقُرْآن: حُرُوف التهجي فِي فواتح السُّور.
﴿كتاب أنزل إِلَيْك﴾ قَالَ الْفراء: تَقْدِيره: هَذَا كتاب أنزل إِلَيْك ﴿فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ﴾ أَي: شكّ، وَالْخطاب للرسول، وَالْأمة هم المُرَاد.
والحرج بمَكَان الشَّك، قَالَه الْفراء، وأنشدوا:
(لَوْلَا حرج يعزوني جئْتُك أغزوك وَلَا تغزوني)
وَقيل الْحَرج: هُوَ الضّيق، وَمَعْنَاهُ: لَا يضيقن صدرك بالإبلاغ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي
163
﴿للْمُؤْمِنين (٢) اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء قَلِيلا مَا﴾ لما بعث إِلَى الْكفَّار، قَالَ: " يَا رب إِنِّي أَخَاف أَن يثلغوا رَأْسِي، ويجعلوه كالخبزة؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: لَا يكن فِي صدرك ضيق من الإبلاغ؛ فَإِنِّي حافظك وناصرك ".
قَوْله: ﴿لتنذر بِهِ وذكرى للْمُؤْمِنين﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: كتاب أنزل إِلَيْك؛ لتنذر بِهِ، وذكرى للْمُؤْمِنين فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ.
164
قَوْله تَعَالَى: ﴿اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: الْقُرْآن وَالسّنة لأمر الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ﴾ فَالسنة وَإِن لم تكن (منزلَة)، فَهِيَ كالمنزلة بِحكم تِلْكَ الْآيَة، قَالَ الْحسن فِي هَذِه الْآيَة: يَا ابْن آدم، أمرت بِاتِّبَاع الْقُرْآن، فَمَا من آيَة إِلَّا وَعَلَيْك أَن تعلم فِيمَا نزلت، وماذا أُرِيد بهَا، حَتَّى تتبعه، وتعمل بِهِ.
﴿وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء﴾ يَعْنِي: من عاند الْحق، وَخَالفهُ، فَلَا تَتبعُوهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿من دونه أَوْلِيَاء﴾ لِأَن من اتخذ مذهبا، فَكل من سلك طَرِيقه وَاتبعهُ كَانَ من أوليائه، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء﴾ وَقَالَ مَالك بن دِينَار: وَلَا تَبْتَغُوا، يَعْنِي: الطّلب، وَالْمعْنَى: وَلَا تَبْتَغُوا من دونه أَوْلِيَاء. ﴿قَلِيلا مَا تذكرُونَ﴾، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " يتذكرون " وَالْمرَاد بهما وَاحِد، أَي: قَلِيلا مَا تتعظون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم من قَرْيَة أهلكناها﴾ " كم " للتكثير، و " رب " للتقليل.
قَالَ الشَّاعِر:
164
﴿تذكرُونَ (٣) وَكم من قَرْيَة أهلكناها فَجَاءَهَا بأسنا بياتاً أَو هم قَائِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين (٥) فلنسئلن الَّذين أرسل إِلَيْهِم ولنسئلن الْمُرْسلين (٦) فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم وَمَا كُنَّا غائبين (٧) وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ﴾
قَالَه الفرزدق.
﴿فَجَاءَهَا بأسنا بياتا﴾ أَي: عذابنا بياتا ﴿أَو هم قَائِلُونَ﴾ وَتَقْدِيره: لَيْلًا وهم نائمون، أَو نَهَارا وهم قَائِلُونَ، من القيلولة.
قَالَ الزّجاج: " أَو هم قَائِلُونَ " أَو لتصريف الْعَذَاب، يَعْنِي: مرّة بِاللَّيْلِ، وَمرَّة بِالنَّهَارِ كَمَا بَينا، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: ﴿وَكم من قَرْيَة أهلكناها﴾ فَمَا معنى قَوْله: ﴿فَجَاءَهَا بأسنا﴾ وَكَيف يكون مَجِيء الْبَأْس بعد الإهلاك؟ قيل: معنى قَوْله: ﴿أهلكناها﴾ أَي: حكمنَا بإهلاكها؛ فَجَاءَهَا بأسنا، وَقيل: قَوْله: ﴿فَجَاءَهَا بأسنا﴾ هُوَ بَيَان قَوْله: ﴿أهلكناها﴾، وَقَوله: ﴿أهلكناها﴾ هُوَ قَوْله: ﴿فَجَاءَهَا بأسنا﴾ وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل: أَعْطَيْتنِي فأحسنت إِلَيّ، لَا فرق بَينه وَبَين قَوْله: أَحْسَنت إِلَى مَا أَعْطَيْتنِي، وَأَحَدهمَا بَيَان للْآخر، كَذَلِك هَذَا.
165
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَمَا كَانَ دَعوَاهُم﴾ أَي: دعاؤهم، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: تَقول اللَّهُمَّ اجْعَلنِي فِي دَعْوَى الْمُسلمين، أَي: فِي دُعَاء الْمُسلمين فَقَوله: ﴿فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ مَعْنَاهُ: لم يقدروا على رد الْعَذَاب حِين جَاءَهُم الْعَذَاب، وَكَانَ حَاصِل أَمرهم أَن اعْتَرَفُوا بالخيانة حِين لَا ينفع الِاعْتِرَاف.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فلنسألن الَّذين أرسل إِلَيْهِم﴾ هَذَا سُؤال توبيخ، لَا سُؤال استعلام، يَعْنِي: نسألهم عَمَّا عمِلُوا فِيمَا بَلغهُمْ ﴿ولنسألن الْمُرْسلين﴾ عَن الإبلاغ
﴿فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم﴾ أَي: نخبرهم بِمَا عمِلُوا عَن بَصِيرَة وَعلم.
﴿وَمَا كُنَّا غائبين﴾ فَإِنَّهُ - جلّ وَعلا - مَعَ كل أحد بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق﴾ قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: الْقَضَاء يَوْمئِذٍ بِالْحَقِّ وَالْعدْل، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه أَرَادَ بِهِ: الْوَزْن بالميزان الْمَعْرُوف، وَهُوَ حق، وَكَيف
165
﴿الْحق فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون (٨) وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ (٩) وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض وَجَعَلنَا لكم﴾ يُوزن؟ اخْتلفُوا، قَالَ بَعضهم: توزن صَحَائِف الْأَعْمَال، وَقيل: يُوزن الْأَشْخَاص؛ وَعَلِيهِ دلّ قَول عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: " يُؤْتى بِالرجلِ الْعَظِيم الطَّوِيل، الأكول والشروب، يَوْم الْقِيَامَة، فيوزن فَلَا يزن عِنْد الله جنَاح بعوضة " وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا.
وَقيل: توزن الْأَعْمَال، فَإِن الْأَعْمَال الْحَسَنَة تَأتي على صُورَة حَسَنَة، والأعمال السَّيئَة تَأتي على صُورَة قبيحة؛ فَذَلِك الَّذِي يُوزن، وَفِي الْخَبَر " أَن ذَلِك الْمِيزَان لَهُ كفتان، كل كفة بِقدر مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب "، وَالْمِيزَان للْكُلّ وَاحِد، وَقيل لكل وَاحِد ميزَان. ﴿فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون﴾.
166
﴿وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم﴾ أَي: غبنوا أنفسهم ﴿بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ﴾ قَالَ الْحسن: إِنَّمَا ثقل ميزَان من ثقل مِيزَانه بِاتِّبَاع الْحق، وَحقّ لِمِيزَانٍ وضع فِيهِ الْحق أَن يثقل، وَإِنَّمَا خف ميزَان من خف مِيزَانه بِاتِّبَاع الْبَاطِل، وَحقّ الْمِيزَان لم يوضع فِيهِ إِلَّا الْبَاطِل أَن يخف.
ويروى عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله نَائِما ذَات يَوْم، وَرَأسه فِي حجري، فَبَكَيْت، فقطرت دموعي على خَدّه؛ فانتبه رَسُول الله فَقَالَ: مَالك؟ قلت: ذكرت الْقِيَامَة وأهوالها، فَهَل يذكر أحد أحدا يَوْمئِذٍ؟ فَقَالَ: أما فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فَلَا: عِنْد الْمِيزَان حَتَّى يعلم أيثقل مِيزَانه أم يخف، وَعند تطاير الصُّحُف حَتَّى يعلم أَن صَحِيفَته تُوضَع فِي يَمِينه أَو [فِي] شِمَاله، وعَلى
166
﴿فِيهَا معايش قَلِيلا مَا تشكرون (١٠) وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة﴾ الصِّرَاط ".
167
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض﴾ التَّمْكِين هَاهُنَا بِمَعْنى: التَّمْلِيك ﴿وَجَعَلنَا لكم فِيهَا معايش﴾ أَي: أَسبَاب تعيشون بهَا، وَقيل: جعلنَا لكم مَا تصلونَ بِهِ إِلَى المعاش ﴿قَلِيلا مَا تشكرون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: خَلَقْنَاكُمْ فِي صلب آدم، ثمَّ صورناكم فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات، وَقَالَ مُجَاهِد: خَلَقْنَاكُمْ فِي ظهر آدم، ثمَّ صورناكم يَوْم الْمِيثَاق، حِين أخرجهم كالذر، وَقيل: هَذَا فِي حق آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يَعْنِي: خلقنَا أصلكم آدم، ثمَّ صورناه؛ فَذكر بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد، وَقَالَ الْأَخْفَش - وَهُوَ أحد قولي قطرب -: إِن ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو، أَي: وصورناكم.
﴿ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: الْأَمر بسجود الْمَلَائِكَة كَانَ قبل خلق بني آدم، فَمَا معنى قَوْله: ﴿ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة﴾ عقيب ذكر الْخلق والتصوير؟
وَالْجَوَاب: أما على قَول مُجَاهِد، وَقَول من صرفه إِلَى آدم، يَسْتَقِيم الْكَلَام.
وَأما على قَول ابْن عَبَّاس، يرد هَذَا الْإِشْكَال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن المُرَاد بِهِ: ثمَّ أخْبركُم أَنا قُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا [لآدَم]، وَقيل فِيهِ: تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ، ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا، ثمَّ صورناكم،
167
﴿اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين (١١) قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين (١٢) قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يكون لَك أَن تتكبر فِيهَا فَاخْرُج إِنَّك من الصاغرين (١٣) قَالَ أَنْظرنِي إِلَى يَوْم يبعثون﴾ وَقيل " ثمَّ " بِمَعْنى " الْوَاو " أَي: وَقُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا، وَالْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب، وَهُوَ قَول الْأَخْفَش، وَأحد قولي قطرب، وَلم يرْضوا مِنْهُم ذَلِك، فَإِن كلمة " ثمَّ " لَا ترد بِمَعْنى الْوَاو، وَهِي للتعقيب.
﴿فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين﴾ وَقد ذكرنَا سُجُود الْمَلَائِكَة فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَأَن سجودهم كَانَ لآدَم.
168
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك﴾ " لَا " زَائِدَة، وَالْمرَاد: مَا مَنعك أَن تسْجد؟ وَقد سبق نَظَائِره.
﴿قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين﴾ فَإِن قيل: لم يكن هَذَا مِنْهُ جَوَابا عَمَّا سُئِلَ عَنهُ؟ قيل: تَقْدِيره قَالَ: لم أَسجد لِأَنِّي خير مِنْهُ، وَقيل: السُّؤَال مُقَدّر فِيهِ، كَأَنَّهُ قيل لَهُ: أَنْت خير أم هُوَ؟ فَقَالَ: أَنا خير مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: ظن الْخَبيث، وَرَأى أَن النَّار خير من الطين، وَلم يعلم أَن الْفضل لما جعل الله لَهُ الْفضل، وَقد فضل الله الطين على النَّار، وَلِأَن فِي طبع النَّار طيشا، وخفة، وإحراقا، وَفِي الطين رزانة، وحلم، وتواضع، وَأَمَانَة، فَيجوز أَن يكون خيرا من النَّار، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: أول من قَاس: إِبْلِيس، كَمَا بَينا.
وَقَوله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ فاهبط مِنْهَا﴾ أَي: فَاخْرُج مِنْهَا، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْكِنَايَة، قيل: أَرَادَ بِهِ: فاهبط من الْجنَّة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من الدرجَة الَّتِي جعله الله عَلَيْهَا من قبل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من الأَرْض؛ فَإِن الله - تَعَالَى - لما طرده؛ أخرجه من الأَرْض إِلَى جزائر الْبَحْر، وَكَانَ من قبل لَهُ ملك الأَرْض، حَتَّى قيل: إِنَّه لَا يدْخل الأَرْض إِلَّا خَائفًا، سَارِقا، على هَيْئَة شيخ عَلَيْهِ أطمار ﴿فَمَا يكون لَك أَن تتكبر فِيهَا﴾ يَعْنِي: بترك السُّجُود ﴿فَاخْرُج إِنَّك من الصاغرين﴾ أَي: الأذلة.
168
( ﴿١٤) قَالَ إِنَّك من المنظرين (١٥) قَالَ فبمَا أغويتني لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم (١٦) ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم وَعَن أَيْمَانهم وَعَن شمائلهم وَلَا تَجِد﴾
169
﴿قَالَ أَنْظرنِي﴾ أَي: أمهلني ﴿إِلَى يَوْم يبعثون﴾ سَأَلَ المهلة إِلَى الْقِيَامَة،
﴿قَالَ إِنَّك من المنظرين﴾ فأنظره الله - تَعَالَى - وَهَذَا الإنظار إِلَى النفخة الأولى، كَمَا قَالَ فِي مَوضِع آخر مُقَيّدا: ﴿إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم﴾ وَأَرَادَ بِهِ: النفخة الأولى، فَإِن قيل: وَهل يجوز أَن يُجيب الله دَعْوَة الْكَافِر؛ حَيْثُ أجَاب دَعْوَة اللعين؟ قيل: يجوز على طَرِيق الاستدراج وَالْمَكْر والإملاء لَا على سَبِيل الْكَرَامَة.
﴿قَالَ فبمَا أغويتني﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: بِمَا أضللتني، وَقيل: بِمَا خيبتني، فالإغواء بِمَعْنى: الخيبة، قَالَ الشَّاعِر:
(كم عمَّة لَك يَا جرير وَخَالَة فدعاء قد حلبت على عشارى)
(فَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما)
أَي: وَمن يخب لَا يعْدم على الخيبة لائما، وَقيل: مَعْنَاهُ: بِمَا دعوتني إِلَى مَا ضللت بِهِ ﴿لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم﴾ أَي: على صراطك الْمُسْتَقيم، وَهُوَ صِرَاط الدّين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم﴾
روى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن الحكم بن عتيبة أَنه قَالَ: ﴿لآتينهم من بَين أَيْديهم﴾ يَعْنِي: من قبل الدُّنْيَا بِأَن أزينها فِي قُلُوبهم، فيغتروا بهَا ﴿وَمن خَلفهم﴾ أَي: من قبل الْآخِرَة، بِأَن أَقُول: لَا بعث، وَلَا جنَّة، وَلَا نَار ﴿وَعَن أَيْمَانهم﴾ من قبل الْحَسَنَات ﴿وَعَن شمائلهم﴾ من قبل السَّيِّئَات، وَقَالَ ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة الْوَالِبِي عَنهُ -: لآتينهم من بَين أَيْديهم يَعْنِي: من قبل الْآخِرَة، وَمن خَلفهم (أَي) من قبل الدُّنْيَا، وَعَن أَيْمَانهم: أشبه عَلَيْهِم أَمر الدُّنْيَا، وَعَن شمائلهم: أشهى لَهُم ارْتِكَاب الْمعاصِي، قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ لآتينهم من كل الجوانب، قَالَ قَتَادَة: لم يقل الْخَبيث: من فَوْقهم؛ لِأَن الرَّحْمَة تنزل عَلَيْهِم من فَوْقهم.
169
﴿أَكْثَرهم شاكرين (١٧) قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذءوما مَدْحُورًا لمن تبعك مِنْهُم لأملأن جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ (١٨) وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة فكلا من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين (١٩) فوسوس لَهما الشَّيْطَان ليبدي لَهما مَا﴾
﴿وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين﴾ أَي: مُؤمنين فَإِن قيل: بأيش علم الْخَبيث أَنه لَا يجد أَكْثَرهم شاكرين؟ قيل: قَرَأَ من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: قَالَ ذَلِك ظنا؛ فَأجَاب كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه﴾.
170
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذءوما﴾ وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " مذموما "، وَالْمَعْرُوف. مذءوما من الذأم: وَهُوَ الْعَيْب، وَقيل: مَعْنَاهُ مقيتا من المقت.
﴿مَدْحُورًا﴾ أَي: مطرودا ﴿لمن تبعك مِنْهُم لأملان جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ﴾ اللَّام فِيهِ للقسم، يَعْنِي: أقسم لمن تبعك مِنْهُم لأملأن جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة﴾ وَقد بَينا هَذَا ﴿فكلا من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين﴾ وَقد بَينا على قَول ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا كَانَت شَجَرَة السنبلة، وَقيل: شَجَرَة التِّين، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: كَانَت شَجَرَة الكافور، وَقيل: كَانَت شَجَرَة تَأْكُل مِنْهَا الْمَلَائِكَة تسمى: شَجَرَة الْخلد.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فوسوس لَهما الشَّيْطَان﴾ الوسوسة: حَدِيث يلقيه الشَّيْطَان فِي قلب الْإِنْسَان، وَاخْتلفُوا كَيفَ وسوس لَهما وهما فِي الْجنَّة، وَهُوَ فِي الأَرْض؟
فَقيل: وسوس لَهما من الأَرْض؛ لِأَن الله - تَعَالَى - أعطَاهُ قُوَّة بذلك حَتَّى وسوس لَهما بِتِلْكَ الْقُوَّة من الأَرْض إِلَى الْجنَّة، وَقيل: حِين وسوس لَهما كَانَ فِي السَّمَاء؛ فَالْتَقَيَا على بَاب الْجنَّة هُوَ وآدَم، فوسوس، وَقيل: إِن الْحَيَّة خبأته فِي [أنيابها] وأدخلته الْجنَّة، فوسوس من بَين [أنيابها] ؛ فمسحت الْحَيَّة، وأخرجت من الْجنَّة.
﴿ليبدي لَهما مَا ووري عَنْهُمَا من سوءاتهما﴾ اللَّام فِيهِ لَام الْعَاقِبَة؛ فَإِنَّهُ لم
170
﴿ووري عَنْهُمَا من سوءاتهما وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين (٢٠) وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين (٢١) فدلاهما بغرور﴾ يوسوس لهَذَا، لَكِن عَاقِبَة أَمرهم فِي وسوسته أَنه أبدى لَهما مَا ستر من عورتيهما.
﴿وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين﴾ وَهَذِه كَانَت وسوسته؛ وَقَرَأَ يحيى بن أبي كثير وَالضَّحَّاك: " إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ " بِكَسْر اللَّام، وَالْمَعْرُوف: " ملكَيْنِ " بِفَتْح اللَّام، قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: لم يكن فِي الْجنَّة ملك لغير الله حَتَّى يَقُول: ملكَيْنِ من الْملك، وَكَانَ فِيهَا الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: مَا نهاكما الله عَن أكل هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أنكما إِذا اكلتما صرتما ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين.
171
﴿وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين﴾ وسوس لَهما، وَحلف عَلَيْهِ، وَهُوَ أول من حلف بِاللَّه كَاذِبًا، فَكل من حلف بِاللَّه كَاذِبًا؛ فَهُوَ من أَتبَاع إِبْلِيس، وَفِي الحَدِيث:
" إِن الْمُؤمن يخدع بِاللَّه " فَلَمَّا حلف إِبْلِيس على مَا وسوسه بِهِ؛ ظن آدم أَنه لَا يحلف أحد بِاللَّه إِلَّا صَادِقا؛ من سَلامَة قلبه، فاغتر بِهِ.
وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله: ﴿وقاسمهما﴾ من الْقِسْمَة، كَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهما: كلا من هَذِه الشَّجَرَة، فَمَا كَانَ من خير فلكما، وَمَا كَانَ من شَرّ وَسُوء فعلي.
وَقَوله: ﴿إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين﴾ يَعْنِي: المرشدين، المريدين للخير.
فَإِن قَالَ قَائِل: قَوْله: ﴿مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ﴾ دَلِيل على أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْآدَمِيّين، قيل: مَعْنَاهُ - وَالله أعلم -: أَنَّهُمَا رَأيا الْمَلَائِكَة فِي أحسن صُورَة، وَأَرْفَع منزلَة، وَفِي تَسْبِيح دَائِم من غير تَعب وَلَا شَهْوَة؛ فتمنيا أَن يصلا إِلَى تِلْكَ الْمنزلَة لَو أكلا من تِلْكَ الشَّجَرَة، ويتخلصا من التَّعَب، وَمن شَهْوَة البشرية، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيل على أَن الْملك أفضل من الْآدَمِيّ.
وَقَوله: ﴿فدلاهما بغرور﴾ أَي: حطهما من منزلَة الطَّاعَة إِلَى حَالَة الْمعْصِيَة، قَالَ
171
﴿فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين (٢٢) قَالَا﴾ الشَّاعِر:
(ويوسف إِذْ دلاه أَوْلَاد عِلّة فَأصْبح فِي قَعْر البريكة ثاويا)
وَأما الْغرُور: فَهُوَ إِظْهَار النصح مَعَ إبطان الْغِشّ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما﴾ فِي هَذَا دَلِيل على أَنَّهُمَا لم يمتعا فِي الْأكل، قَالَ ابْن عَبَّاس: قيل: إِن إزدادا؛ أخذتهما الْعقُوبَة، وَكَانَت عقوبتهما أَن تهافت عَنْهُمَا لباسهما، وبدت عورتهما.
﴿وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة﴾ قَالَ ثَعْلَب: جعلا يلصقان بعض الْوَرق بِالْبَعْضِ، ويستران الْعَوْرَة بِهِ، وَيُقَال: خصف النَّعْل؛ إِذا جعل طبقًا على طبق، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك الْوَرق، قَالَ ابْن عَبَّاس - وَبِه قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين -: إِنَّه ورق التِّين وَالزَّيْتُون، وَقيل: كَانَ ورق الموز.
﴿وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة﴾ يَعْنِي: عَن الْأكل مِنْهَا ﴿وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين﴾ أَي: بَين الْعَدَاوَة، ويحكى عَن أبي بن كَعْب، وَيذكر عَن عَطاء أَيْضا، أَنَّهُمَا قَالَا: لما بَدَت سوتهما فِي الْجنَّة، هرب آدم فِي الْجنَّة؛ فتعلقت شَجَرَة بِشعرِهِ، وناداه الرب: أفرارا مني يَا آدم؟ فَقَالَ: لَا بل حَيَاء مِنْك يَا رب.
172
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ اعْترف آدم بالذنب، وَسَأَلَ الْمَغْفِرَة، وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين معصيتة ومعصية إِبْلِيس، أَن إِبْلِيس عصى وأصر على الْمعْصِيَة، وآدَم عصى وَتَابَ عَن الْمعْصِيَة، وَأَن إِبْلِيس كَانَ مُتَعَمدا، وآدَم كَانَ سَاهِيا، وَاخْتلفُوا فِي أَن آدم هَل عرف عِنْد الْأكل أَنه مَعْصِيّة؟ قَالَ بَعضهم: عرف ذَلِك، لَكِن الله غفر لَهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَقيل: دخل عَلَيْهِ شُبْهَة من وَسْوَسَة إِبْلِيس، وَلم يكن مُتَعَمدا؛ إِذْ كَانَ مَعْصُوما نَبيا.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: ألم يكن
172
﴿رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (٢٣) قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين (٢٤) قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ (٢٥) يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم﴾ خَاطب إِبْلِيس بالهبوط من قبل، فَمَا معنى هَذِه الْإِعَادَة؟ قيل: إِن هَذَا الثَّانِي خطاب لآدَم وحواء والحية، قَالَه أَبُو صَالح، وإبليس خَارج من الْخطاب، وَقيل: الْخطاب للْكُلّ؛ لأَنهم وَإِن اقترفوا فِي وَقت الْإِخْرَاج والإنزال، (لَكِن) لما اجْتَمعُوا فِي الْإِنْزَال جمع بَينهم فِي الْخطاب، وَالْأول خَاص لإبليس، وَالْخطاب الثَّانِي عَام للْكُلّ.
﴿وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين﴾ وَفِي الْقَصَص: أَن آدم وَقع بِأَرْض الْهِنْد، وحواء بجدة، والحية بِمَيْسَان، وإبليس بأيلة، وَقيل: بمداد، وَقيل: وَقع إِبْلِيس بِأَرْض الْبَصْرَة، ثمَّ خرج إِلَى أَرض مصر وباض وفرخ فِيهِ.
وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لما أخرج الله - تَعَالَى - إِبْلِيس إِلَى الأَرْض، قَالَ: يَا رب، أَيْن مسكني؟ قَالَ: الحمامات؛ فَقَالَ: أَيْن مجلسي؟ قَالَ: الْأَسْوَاق، فَقَالَ: وأيش مطعمي؟ قَالَ: كل طَعَام لم يذكر عَلَيْهِ اسْمِي، فَقَالَ: وماذا شرابي؟ فَقَالَ: كل مُسكر. قَالَ: وَمَا حبالتي؟ فَقَالَ: النِّسَاء، فَقَالَ: وَمَا كتابتي؟ قَالَ: الوشم، فَقَالَ: وَمن رُسُلِي؟ قَالَ: الكهنة.
173
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ﴾ يَعْنِي: الأَرْض فِيهَا حَيَاتكُم وموتكم، وَمِنْهَا بعثكم.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أنزلنَا. وَلم ينزل اللبَاس من السَّمَاء؟ قيل: قد أنزل الْمَطَر، وكل نَبَات من الْمَطَر؛ فَكَأَنَّهُ أنزلهُ، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن كل مَا فِي الأَرْض فَهُوَ من بَرَكَات السَّمَاء؛ فَيكون كالمنزل من السَّمَاء، وعَلى هَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد﴾ وَإِنَّمَا يسْتَخْرج من الأَرْض، لَكِن نسبه إِلَى السَّمَاء، كَذَا هَذَا.
173
﴿وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير ذَلِك من آيَات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ (٢٦) يَا بني آدم لَا﴾
وَسبب نزُول الْآيَة: أَنهم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَيَقُولُونَ لَا نطوف فِي (أَثوَاب) عصينا الله - تَعَالَى - فِيهَا، وَكَانَ الرِّجَال يطوفون عُرَاة بِالنَّهَارِ، وَالنِّسَاء بِاللَّيْلِ؛ فَنزلت الْآيَة فِي الْمَنْع عَن ذَلِك. قَالَ الزُّهْرِيّ: كَانَت الْعَرَب يطوفون كَذَلِك عُرَاة إِلَّا الحمس، وهم قُرَيْش وأحلاف قُرَيْش، كَانُوا يطوفون فِي ثِيَابهمْ، وَسموا حمسا؛ بشدتهم فِي دينهم، وَمِنْه الحماسة لشدتها، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت النِّسَاء يطفن وعليهن رهاط، والرهط: قِطْعَة من صوف لَا تستتر تَمام الْعَوْرَة، وَرُبمَا كَانَت من سيورة، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَت الْمَرْأَة مِنْهُم تَطوف تضع يَدهَا على فرجهَا تستر بهَا عورتها، وَتقول:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله)
فَقَوله: ﴿قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم﴾ مَعْنَاهُ: قد أنزلنَا عَلَيْكُم مَا تسترون بِهِ عورتكم؛ فَلَا تطوفوا بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَقَوله: ﴿وريشا﴾ وَقُرِئَ: " ورياشا " مِنْهُم من فرق بَينهمَا.
قَالَ مُجَاهِد: الريش: المَال، وَقَالَ الْكسَائي: الريش: اللبَاس.
وَأما الرياش: قيل: هُوَ المعاش، يُقَال: تريش فلَان إِذا وجد مَا يعِيش بِهِ، وَقيل: الرياش: أثاث الْبَيْت، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الريش والرياش وَاحِد، وَهُوَ مَا يَبْدُو من اللبَاس، والشعرة وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
(وريشي مِنْكُم وهواي فِيكُم وَإِن كَانَت زيارتكم لماما)
أَي: قَلِيلا، وَقَوله: ﴿ولباس التَّقْوَى﴾ يقْرَأ بِالنّصب، (يَعْنِي) : وأنزلنا عَلَيْكُم لِبَاس التَّقْوَى، وَيقْرَأ: " ولباس التَّقْوَى " بِالرَّفْع، يَعْنِي: هُوَ لِبَاس التَّقْوَى.
174
﴿يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما﴾
قَالَ القتيبي: يَعْنِي: الثِّيَاب لِبَاس التَّقْوَى؛ فَإِن من اتَّقى الله يطوف لابسا لَا عَارِيا، وَفِي الحَدِيث: " إِن لِبَاس التَّقْوَى هُوَ الْحيَاء " لِأَنَّهُ يبْعَث على التَّقْوَى، وَهُوَ قَول الْحسن،
قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي كَأَنِّي أرى من لَا حَيَاء لَهُ وَلَا أَمَانَة وسط النَّاس عُريَانا)
قَالَ عِكْرِمَة: الْحيَاء وَالْإِيمَان فِي قرن وَاحِد، فَإِذا ذهب أَحدهمَا؛ تبعه الآخر، وَقَالَ قَتَادَة: لِبَاس التَّقْوَى: هوالإيمان، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان: لِبَاس التَّقْوَى: هُوَ السمت الْحسن، وَقَالَ عُرْوَة: هُوَ خشيَة الله، وَقيل: لِبَاس التَّقْوَى هَا هُنَا: لِبَاس الصُّوف، وَالثَّوْب (الخشن) الَّذِي يلْبسهُ أهل الْوَرع، وَقيل: هُوَ الْعَمَل الصَّالح.
﴿ذَلِك خير﴾ قيل: " ذَلِك " حِيلَة وَتَقْدِيره: ولباس التَّقْوَى خير، وَهَكَذَا قَرَأَهُ الْأَعْمَش، وَقيل: " ذَلِك " فِي مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: ذَلِك الَّذِي ذكر من اللبَاس والريش، وكل مَا ذكر خير ﴿ذَلِك من آيَات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ﴾.
175
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا بني آدم لَا يفتنتكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة﴾ أَي: لَا يضلنكم الشَّيْطَان، كَمَا فتن أبويكم فأخرجهما من الْجنَّة.
﴿ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما﴾ هُوَ مَا ذكرنَا من تهافت اللبَاس عِنْد أكلهَا من الشَّجَرَة، وَفِيه دَلِيل على أَنَّهُمَا مَا كَانَا يريان عورتهما من قبل؛ حَيْثُ قَالَ: ليريهما سوءاتهما وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك اللبَاس الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا مَا هُوَ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: لباسهما كَانَ من الظفر؛ كَأَن الله - تَعَالَى - ألبسهما من جنس ظفرهما، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: كَانَ لباسا من النُّور.
175
﴿إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ (٢٧) وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ (٢٨) قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ (٢٩) فريقا هدى﴾
﴿إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله﴾ أَي: وَجُنُوده ﴿من حَيْثُ لَا ترونهم﴾ يَعْنِي: أَن الشَّيْطَان وَجُنُوده يرونكم، وَأَنْتُم لَا ترونهم ﴿إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ﴾ يَعْنِي: أَن الشَّيَاطِين يوالون الْكفَّار، وَهَذَا قَوْله: ﴿أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزا﴾.
176
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا فعلوا فَاحِشَة﴾ قيل: الْفَاحِشَة هَا هُنَا هِيَ طوافهم عُرَاة، وَقيل: هِيَ الشّرك ( ﴿قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا﴾ قل) يَا مُحَمَّد: ﴿إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء﴾ وَهِي كل فعل قَبِيح بلغ النِّهَايَة فِي الْقبْح ﴿أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ والصدق ﴿وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا أَن مَعْنَاهُ: أقِيمُوا الصَّلَاة فِي كل مَسْجِد تدرككم فِيهِ الصَّلَاة، وَلَا تَقولُوا نؤخرها إِلَى مَسْجِدنَا، وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: استقبلوا الْقبْلَة بوجوهكم فِي كل صَلَاة، وَالثَّالِث مَعْنَاهُ: أَخْلصُوا صَلَاتكُمْ وعبادتكم لله - تَعَالَى -.
﴿وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ﴾ يَعْنِي: تعودُونَ فُرَادَى بِلَا أهل وَلَا مَال، كَمَا خَلقكُم فُرَادَى بِلَا أهل وَلَا مَال، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة﴾ قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: إِن إعادتكم أَحيَاء كخلقكم ابْتِدَاء، كِلَاهُمَا عَليّ هَين، وَالصَّحِيح أَن المُرَاد بِهِ: انه كَمَا خَلقكُم أشقياء وسعداء، ومؤمنين وكافرين، تعودُونَ كَذَلِك؛ وَعَلِيهِ دلّ
قَوْله - تَعَالَى -: {فريقا
176
﴿وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون (٣٠) يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا إِنَّه﴾ هدى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة) أَي: فريقا هدَاهُم الله، وفريقا أضلهم الله [تَعَالَى] ؛ فَوَجَبت عَلَيْهِم الضَّلَالَة، وَقد صَحَّ الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " حَدثنِي الصَّادِق المصدوق - يَعْنِي رَسُول الله -: أَن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى لَا يكون بَينه وَبَين الْجنَّة إِلَّا ذِرَاعا؛ فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار؛ فَيدْخل النَّار، وَإِن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار، حَتَّى لَا يبْقى بَينه وَبَين النَّار إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة؛ فَيدْخل الْجنَّة ".
﴿إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون﴾ وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن المستبصر بالْكفْر الَّذِي يحْسب أَنه على الْحق مثل المعاند سَوَاء.
177
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد﴾ هُوَ فِي الْأَمر بِالطّوافِ وَالصَّلَاة لابسا، وَفِي شواذ التفاسير: أَنه الْمشْط، وَلبس النَّعْل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: السكينَة، وَالْوَقار، وَذَلِكَ معنى مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِذا أتيتم الصَّلَاة فَلَا تأتوها وَأَنْتُم تسعون وَلَكِن ائتوها وَأَنْتُم تمشون، وَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار ".
﴿وكلوا وَاشْرَبُوا﴾ قَالَ الْفراء: إِنَّمَا أَمرهم بِالْأَكْلِ وَالشرب؛ لأَنهم كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتركون أكل اللَّحْم وَالدَّسم فِي وَقت الْمَوْسِم، كَمَا يتركون اللبَاس عِنْد الطّواف وَيَقُولُونَ: نَتْرُك اللَّحْم وَالدَّسم لله - تَعَالَى -.
﴿وَلَا تسرفوا﴾ أَي: بتحليل مَا حرم الله، وبتحريم مَا أحل الله، وكل مَال أنْفق
177
﴿لَا يحب المسرفين (٣١) قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (٣٢) قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ (٣٣) ﴾ فِي مَعْصِيّة الله؛ فَهُوَ سرف، وأصل الْإِسْرَاف: هُوَ مُجَاوزَة الْحَد بغلو أَو تَقْصِير ﴿إِنَّه لَا يحب المسرفين﴾.
178
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ﴾ يَعْنِي: اللبَاس عِنْد الطّواف ﴿والطيبات من الرزق﴾ يَعْنِي: مَا حرمُوا على أنفسهم من أكل اللَّحْم فِي أَيَّام الْمَوْسِم، مَعَ سَائِر مَا حرمُوا من الْبحيرَة، والسائبة وَنَحْوهَا. ﴿قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة﴾ قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين - وَهُوَ قَول الضَّحَّاك -: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: هِيَ للَّذين آمنُوا وللمشركين فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، خَالِصَة للْمُؤْمِنين يَوْم الْقِيَامَة: وَقيل: مَعْنَاهُ: خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة من التنغيص وَالْغَم، فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا مَعَ التنغيص وَالْغَم. ﴿كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن﴾ قَالَ قَتَادَة: هِيَ الزِّنَا سرا وعلنا، وَقَالَ غَيره: مَا ظهر مِنْهَا: نِكَاح الْمَحَارِم، وَمَا بطن: الزِّنَا ﴿وَالْإِثْم وَالْبَغي يُغير الْحق﴾ أما الْإِثْم فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: قَالَ الْفراء: كل مَا دون الْحَد، وَقيل: هُوَ كل الْمعاصِي، وَقيل: الْإِثْم الْخمر، وَقد ورد ذَلِك فِي الشّعْر:
(شربت (الْإِثْم) حَتَّى ضل عَقْلِي كَذَاك الْإِثْم يذهب بالعقول)
وَأما الْبَغي، قيل: هُوَ الاستطالة على النَّاس، وَقيل هُوَ الْفساد، وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ أَن يَقع فِي النَّاس بِغَيْر الْحق ﴿وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه﴾ وَتَقْدِيره: وَحرم أَن تُشْرِكُوا بِاللَّه ﴿مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا﴾ أَي: حجَّة ﴿وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ لأَنهم كَانُوا
178
﴿وَلكُل أمة اجل فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم﴾ ينسبون كل مَا ارتكبوا من الْفَوَاحِش والإشراك إِلَى الله - تَعَالَى - وَيَقُولُونَ: نفعله بِأَمْر الله؛ فَهَذَا قَوْلهم على الله مَا لَا يعلمُونَ.
179
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلكُل أمة أجل﴾ يَعْنِي: مُدَّة الْعُمر ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ فَإِن قيل: لم خص السَّاعَة، وهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ دون السَّاعَة، وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ؟ قيل: إِنَّمَا خصها لِأَنَّهَا أقل الْأَوْقَات الْمَعْلُومَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ﴾ فَقَوله: " إِمَّا " كلمتان: " إِن " و " مَا " فأدغمت إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: مَتى يأتكم، وَإِن يأتكم ﴿رسل مِنْكُم﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ رَسُولنَا خَاصَّة، وَقيل: كل الرُّسُل ﴿يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح﴾ أَي: اتَّقى الشّرك، وَأصْلح مَا بَينه وَبَين ربه ﴿فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا﴾ وَإِنَّمَا ذكر الاستكبار؛ لِأَن كل مكذب وكل كَافِر مستكبر، وَإِنَّمَا كذب وَكفر تكبرا، قَالَ الله - تَعَالَى - ﴿إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أَي: استكبروا عَن الْإِقْرَار بالوحدانية ﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته﴾ وَقد بَينا هَذَا الافتراء ﴿أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب﴾ فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا - وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: ينالهم مَا قدر لَهُم من خير وَشر.
وَالثَّانِي: قَول مُجَاهِد: ينالهم مَا وعدوا من خير وَشر.
وَالثَّالِث: قَول سعيد بن جُبَير: ينالهم مَا قضى لَهُم من الشقاوة والسعادة.
وَالرَّابِع: قَول مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَرَادَ بِهِ: الْأَجَل وَالْعَمَل والرزق.
179
﴿يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٣٦) فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم رسلنَا يتوفونهم قَالُوا أَيْن مَا كُنْتُم تدعون من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (٣٧) قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم قد خلت من قبلكُمْ من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي النَّار كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا حَتَّى إِذا﴾
وَفِيه قَول خَامِس مَعْرُوف: ينالهم نصِيبهم من الْعَذَاب الْمَذْكُور فِي الْكتاب؛ فَإِنَّهُ ذكر فِي الْكتاب عَذَاب الْفرق من الْكفَّار مثل: الْمُنَافِقين وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكين.
﴿حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم رسلنَا يتوفونهم﴾ يَعْنِي: ملك الْمَوْت وأعوانه ﴿يتوفونهم﴾ أَي: يتوفون عدد آجالهم ﴿قَالُوا أَيْن مَا كُنْتُم تدعون من دون الله﴾ يَعْنِي: الرُّسُل يَقُولُونَ للْكفَّار: أَيْن الَّذين كُنْتُم تدعون من دون الله من الْأَصْنَام؟ ﴿قَالُوا ضلوا عَنَّا﴾ أَي: ذَهَبُوا وفاتوا عَنَّا ﴿وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين﴾.
180
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم﴾ يَعْنِي: مَعَ أُمَم، وَهُوَ مثل قَول امْرِئ الْقَيْس:
(وَهل ينعمن من كَانَ أقرب عَهده ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال)
أَي: مَعَ ثَلَاثَة أَحْوَال: وَقيل: مَعْنَاهُ: ادخُلُوا بَين أُمَم (قد خلت) أَي: مَضَت ﴿من قبلكُمْ من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي النَّار﴾ وَفِيه دَلِيل على أَن الْجِنّ يموتون كالإنس؛ خلافًا لقَوْل الْحسن، حَيْثُ قَالَ: لَا يموتون.
﴿كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا﴾ قَالَ الْفراء: يَعْنِي: أُخْتهَا فِي الدّين لَا فِي النّسَب، يَعْنِي: يلعن الْيَهُود الْيَهُود، وَالنَّصَارَى النَّصَارَى.
﴿حَتَّى إِذا اداركوا﴾ أَي: تداركوا وتتابعوا واجتمعوا ﴿فِيهَا جَمِيعًا قَالَت أخراهم لأولاهم﴾ أَرَادَ بِهِ: أُخْرَى كل أمة، وَأولى كل أمة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: آخِرهم دُخُولا، وأولهم دُخُولا، وهم القادة مَعَ الأتباع؛ فَإِن القادة يدْخلُونَ أَولا.
180
﴿فضل فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكسبون (٣٩) إِن الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط وَكَذَلِكَ نجزي الْمُجْرمين (٤٠) لَهُم من جَهَنَّم مهاد وَمن فَوْقهم غواش وَكَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين﴾
﴿رَبنَا هَؤُلَاءِ أضلونا﴾ يَعْنِي: القادة أضلونا ﴿فآتهم عذَابا ضعفا من النَّار﴾ أَي: ضاعف لَهُم الْعَذَاب ﴿قَالَ لكل ضعف وَلَكِن لَا تعلمُونَ﴾ بِالتَّاءِ فَقَوله ﴿وَلَكِن لَا تعلمُونَ﴾ يَعْنِي: أَيهَا النَّاس لَا تعلمُونَ، أما من قَرَأَ بِالْيَاءِ فَمَعْنَاه: لَا يعلم القادة مَا للأتباع وَلَا الأتباع الأتباع مَا للقادة.
181
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالَت أولاهم﴾ يَعْنِي: القادة ﴿لأخراهم﴾ يَعْنِي: الأتباع ﴿فَمَا كَانَ لكم علينا من فضل﴾ قَالَ السّديّ: مَعْنَاهُ: أَنكُمْ كَفرْتُمْ، كَمَا كفرنا، وجحدتم كَمَا جحدنا، فَلَيْسَ لكم علينا من فضل، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لكم علينا من فضل فِي تَخْفيف الْعَذَاب ﴿فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكسبون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء﴾ اعْلَم أَن أَبْوَاب السَّمَاء تفتح لثَلَاثَة: للأعمال، والأدعية، والأرواح، وَفِي الْخَبَر. " أَن الْملك يصعد بِروح الْمُؤمن، وَلها ريح طيبَة؛ فتفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، ويصعد بِروح الْكَافِر، وَلها ريح مُنْتِنَة؛ فتغلق لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيُؤمر بطرحها فِي السجين فَذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: ( ﴿كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين﴾ كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين) " وَمعنى الْآيَة: أَنه لَا تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لأعمال الْكفَّار وأدعيتهم وأرواحهم.
181
( ﴿٤١) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة﴾
وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب الْجنَّة، لَكِن عبر عَنْهَا بِأَبْوَاب السَّمَاء؛ لِأَن أَبْوَاب الْجنَّة فِي السَّمَاء.
﴿وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط﴾ وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " يلج الْجمل " بِرَفْع الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: " حَتَّى يلج الْجمل " بِرَفْع الْجِيم مُخَفّفَة الْمِيم، وَقَرَأَ ابْن سِيرِين: " فِي سم الْخياط " بِرَفْع السِّين، وَالْمَعْرُوف ﴿حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط﴾ وَهُوَ الْجمل الْمَعْرُوف، وَسُئِلَ ابْن مَسْعُود عَن هَذَا الْجمل فَقَالَ: هُوَ زوج النَّاقة، كَأَنَّهُ استحمق السَّائِل حِين سَأَلَهُ عَمَّا لَا يخفى، ويحكى عَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ الأشطر الَّذِي عَلَيْهِ جولقان أسودان، وَأما الْجمل الَّذِي قَرَأَهُ ابْن مَسْعُود: فَهُوَ قلس السَّفِينَة، وَأما الْجمل بِالتَّخْفِيفِ، قيل: هُوَ أَيْضا قلس السَّفِينَة، وَقيل: هُوَ حَبل السَّفِينَة، وَأما السم والسم وَاحِد، وَهُوَ ثقبة الْمخيط، وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: تَأْكِيد منع دُخُولهمْ الْجنَّة، وَذَلِكَ سَائِر فِي كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ مثل قَوْلهم: لَا أفعل كَذَا حَتَّى يشيب الْغُرَاب، وَحَتَّى يبيض القار، وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِذا شَاب الْغُرَاب أتيت أَهلِي وَصَارَ القار كاللبن الحليب)
والقار والقير: شَيْء أسود، يضْرب بِهِ الْمثل، يُقَال: شَيْء كالقير والقار فِي السوَاد ﴿وَكَذَلِكَ نجزي الْمُجْرمين﴾.
182
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَهُم من جَهَنَّم مهاد﴾ أَي: فرش ﴿وَمن فَوْقهم غواش﴾ أَي: لحف وَهَذَا مثل قَوْله: ﴿لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل﴾.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ - رَحمَه الله -: التَّنْوِين فِي قَوْله ﴿غواش﴾ غير أُصَلِّي، وَإِنَّمَا هُوَ بدل عَن الْيَاء وَأَصله: " غواشي " وَمثله كثير ( ﴿وَكَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين﴾
وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا) أَي: طاقتها ﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ﴾.
182
﴿هم فِيهَا خَالدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جَاءَت رسل رَبنَا﴾
183
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صدروهم من غل تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار﴾. الغل الْغِشّ والحقد، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرْجُو أَن أكون أَنا وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر من الَّذين قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صدروهم من غل﴾.
وروى مُسلم فِي الصَّحِيح بِإِسْنَادِهِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ عَن الصِّرَاط حبسوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، فيقتص بَعضهم من بعض، حَتَّى إِذا نقوا وهذبوا، أذن لَهُم فِي دُخُول الْجنَّة؛ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لأَحَدهم أهْدى إِلَى منزله فِي الْجنَّة مِنْهُ إِلَى منزله فِي الدُّنْيَا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن على بَاب الْجنَّة عينا يشرب مِنْهَا أهل الْجنَّة ويغتسلون؛ فَيذْهب الغل والحقد من قُلُوبهم، ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة ".
﴿وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله﴾، وَفِي هَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة ﴿لقد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ تِلْكَ تَأْنِيث ذَلِك، وَمعنى الْآيَة: كَأَنَّهُمْ إِذا رَأَوْا الْجنَّة من بعيد نُودُوا: أَن تلكم الْجنَّة، وَقيل: هَذَا النداء يكون فِي الْجنَّة، فينادون: هَذِه الْجنَّة الَّتِي أورثتموها، وَفِي الْخَبَر: " أَن لكل وَاحِد منزلا فِي الْجنَّة ومنزلا فِي النَّار، ثمَّ يَرث الْمُؤمن من الْكَافِر منزله فِي الْجنَّة، وَيَرِث الْكَافِر من الْمُؤمن منزله فِي النَّار ".
183
﴿بِالْحَقِّ ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ (٤٣) ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا فَهَل جدتم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة الله على الظَّالِمين (٤٤) الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله﴾
184
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا﴾ وَهَذَا قبل التطبيق على جَهَنَّم ﴿قَالُوا نعم﴾ وَقد بَينا أَن جَوَاب الِاسْتِفْهَام الَّذِي فِيهِ جحد: " بلَى "، وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تجحد: " نعم " ﴿فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة الله على الظَّالِمين﴾.
﴿الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله﴾ أَي: يعرضون عَن الدّين ﴿ويبغونها عوجا﴾ أَي: يطْلبُونَ الدّين بالزيغ، والعوج بِمَعْنى الزيغ هَا هُنَا ( ﴿وهم بِالآخِرَة كافرون﴾
وَبَينهمَا حجاب) وَهُوَ حجاب بَين الْجنَّة وَالنَّار. ﴿وعَلى الْأَعْرَاف رجال﴾ قيل: الْأَعْرَاف: سور بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَذَلِكَ قَوْله: ﴿فَضرب بَينهم بسور﴾ وَقيل: هُوَ مَكَان مُرْتَفع، وَالْأول أصح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَأما الرِّجَال الَّذين على الْأَعْرَاف، اخْتلفُوا فيهم، قَالَ ابْن مَسْعُود، وَحُذَيْفَة، وَعَطَاء: هم قوم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم، وَقَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد، هم قوم من الْمَلَائِكَة فِي صُورَة رجال من الْإِنْس، وَحكى مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هم قوم غزوا بِغَيْر إِذن آبَائِهِم، فاستشهدوا، فبقوا على الْأَعْرَاف تمنع شَهَادَتهم دُخُولهمْ النَّار، وَيمْنَع عصيانهم الْآبَاء دُخُولهمْ الْجنَّة ".
184
﴿ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة كافرون (٤٥) وَبَينهمَا حجاب وعَلى الْأَعْرَاف رجال يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَاب الْجنَّة أَن سَلام عَلَيْكُم لم يدخلوها وهم يطمعون (٤٦) وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبنَا لَا تجعلنا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين (٤٧) ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف رجَالًا يعرفونهم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم﴾
وَقَالَ الْحسن: هم أهل الْفضل من الْمُؤمنِينَ، جعلُوا على الْأَعْرَاف؛ فيطلعون على أهل الْجنَّة وَالنَّار، يطالعون أَحْوَال الْفَرِيقَيْنِ ﴿يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ﴾ أَي: يعْرفُونَ أهل الْجنَّة ببياض وُجُوههم، وَأهل النَّار بسواد وُجُوههم.
﴿وَنَادَوْا أَصْحَاب الْجنَّة أَن سَلام عَلَيْكُم﴾ فَإِذا رَأَوْا أهل الْجنَّة قَالُوا: سَلام عَلَيْكُم ﴿لم يدخلوها﴾ يَعْنِي: أَصْحَاب الْأَعْرَاف لم يدخلُوا الْجنَّة ﴿وهم يطمعون﴾ يَعْنِي: فِي دُخُول الْجنَّة، قَالَ الْحسن: الَّذِي جعل الطمع فِي قُلُوبهم يوصلهم إِلَى مَا يطمعون. وَقَالَ حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ: لَا يخيب الله أطماعهم.
185
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبنَا لَا تجعلنا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: إِذا اطلعوا على أهل النَّار، وَمَا هم فِيهِ؛ استعاذوا بِاللَّه من النَّار.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف رجَالًا يعرفونهم بِسِيمَاهُمْ﴾ قيل: إِنَّهُم يرَوْنَ الْكفَّار؛ فيعرفونهم، مثل: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأبي جهل، وَأبي لَهب، وَنَحْوهم فينادونهم ﴿قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم﴾ يَعْنِي: مَا نفعكم اجتماعكم وتظاهركم فِي الدُّنْيَا ﴿وَمَا كُنْتُم تستكبرون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة﴾ وَذَلِكَ حِين قَالُوا
185
﴿وَمَا كُنْتُم تستكبرون (٤٨) أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ (٤٩) ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة أَن أفيضوا علينا من المَاء أَو مِمَّا رزقكم الله قَالُوا إِن الله حرمهما على الْكَافرين (٥٠) الَّذين﴾ للْكفَّار مَا قَالُوا، ثمَّ ينظرُونَ إِلَى أهل الْجنَّة؛ فيرون خبابا، وَعمَّارًا، وبلالا، وصهيبا وَنَحْوهم، فَيَقُول أَصْحَاب الْأَعْرَاف لأولئك الْكفَّار: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة﴾ يَعْنِي: أَهَؤُلَاءِ الَّذين حلفتم أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة، وَقد دخلُوا، يَعْنِي: خبابا، وَعمَّارًا، وَنَحْوهمَا.
ثمَّ يَقُول الله - تَعَالَى -: ﴿ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ﴾ وَفِيه قَول آخر: أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف إِذا قَالُوا لأولئك الْكفَّار مَا قَالُوا؛ يَقُول الْكفَّار لَهُم: إِن دخلُوا أُولَئِكَ الْجنَّة وَنحن فِي النَّار فَأنْتم لم تدْخلُوا الْجنَّة بعد، فيعيرونهم على ذَلِك، ويحلفون أَنهم (لَا يدْخلُونَ) الْجنَّة؛ فَيَقُول الله - تَعَالَى - لأولئك الْكفَّار: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم﴾ يَقُوله لأَصْحَاب الْأَعْرَاف؛ فيدخلهم الْجنَّة ﴿وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ﴾.
186
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة أَن أفيضوا علينا من المَاء أَو مِمَّا رزقكم الله﴾ فِي هَذَا دَلِيل على أَنهم كَمَا يُعَذبُونَ بالنَّار؛ فَيكون عَلَيْهِم عَذَاب الْجُوع والعطش مَعَ عَذَاب النَّار؛ حَتَّى يسْأَلُوا الطَّعَام وَالشرَاب.
وَفِي الْخَبَر " أَن الرجل من أهل النَّار يرى أَخَاهُ أَو قرينه فِي الْجنَّة؛ فَيَقُول لَهُ من النَّار: يَا أخي أَغِثْنِي بِشَربَة مَاء فقد احترقت. فَيَقُول: إِن الله حرمه على الْكَافرين؛ فَذَلِك قَول الله - تَعَالَى -: ﴿قَالُوا إِن الله حرمهما على الْكَافرين﴾ يَعْنِي: الطَّعَام وَالشرَاب، وَهَذَا تَحْرِيم منع لَا تَحْرِيم تعبد، وَاعْلَم أَن لسقي المَاء أجر عَظِيم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سقى مُؤمنا شربة مَاء؛ بعده الله من جَهَنَّم شوط فرس ".
186
﴿اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم ننساهم كَمَا نسوا لِقَاء يومهم هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (٥١) وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب فصلناه على علم هدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (٥٢) هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله يَقُول الَّذين نسوه من قبل قد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ فَهَل لنا من شُفَعَاء فيشفعوا لنا أَو نرد فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (٥٣) إِن ربكُم الله الَّذِي خلق﴾
187
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الَّذين اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ مَعْنَاهُ: أكلا وشربا، قَالَه عبد الله بن الْحَارِث، وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذين كَانَت همتهم الدُّنْيَا، واشتغالهم بهَا؛ فهم الَّذين اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا، وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا.
﴿فاليوم ننساهم﴾ أَي: نتركهم ﴿كَمَا نسوا لِقَاء يومهم هَذَا﴾ أَي: كَمَا تركُوا الْعَمَل للقاء يومهم هَذَا ﴿وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب﴾ أَي: أتيناهم بِالْقُرْآنِ ﴿فصلناه﴾ أَي: بَينا مَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام ﴿على علم﴾ أَي: على علم بِمَا يصلحهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: على علم بالثواب وَالْعِقَاب ﴿هدى﴾ أَي: هاديا ﴿وَرَحْمَة﴾ أَي: ذُو رَحْمَة ﴿لقوم يُؤمنُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿هَل ينظرُونَ﴾ أَي: هَل ينتظرون ﴿إِلَّا تَأْوِيله﴾ قَالَ مُجَاهِد: (مَعْنَاهُ) إِلَّا جزاءه، وَقَالَ قَتَادَة: إِلَّا عاقبته، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم هَل ينتظرون إِلَّا مَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم من مصير أهل الْجنَّة إِلَى الْجنَّة، وَأهل النَّار إِلَى النَّار ﴿يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله﴾ أَي: جَزَاؤُهُ، وَمَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم.
﴿يَقُول الَّذين نسوه﴾ أَي: تَرَكُوهُ من قبل ﴿قد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ﴾ اعْتَرَفُوا بِهِ حِين لَا يَنْفَعهُمْ الِاعْتِرَاف ﴿فَهَل لنا من شُفَعَاء فيشفعوا لنا أَو نرد﴾ يَعْنِي: إِلَى الدُّنْيَا ﴿فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل﴾ ﴿قد خسروا أنفسهم﴾ أَي: نَقَصُوا حق أنفسهم ﴿وضل عَنْهُم﴾ أَي: ذهب وَفَاتَ عَنْهُم ﴿مَا كَانُوا يفترون﴾.
187
﴿السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يغشي اللَّيْل النَّهَار يَطْلُبهُ حثيثا﴾
188
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام﴾.
قَالَ مُجَاهِد: هِيَ من يَوْم الْأَحَد إِلَى الْجُمُعَة، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فِي سِتَّة أَيَّام، وَلم تكن أَيَّام حِين خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: وَمَا يُدْرِينَا أَنَّهَا لم تكن، بل كَانَت؛ فَإِن الله - تَعَالَى - أخبر، وَقَوله وَخَبره صدق، وَقيل: يجوز أَن يكون المُرَاد بِهِ على تَقْدِير سِتَّة أَيَّام، فَإِن قيل: وَمَا الْحِكْمَة فِي خلقهَا فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ قَادِرًا على خلقهَا فِي طرفَة عين؟ قيل: لِأَن خلقهَا على التأني أدل على الْحِكْمَة، فخلقها على التأني ليَكُون أدل على حكمته، ولطف تَدْبيره، وَفِيه أَيْضا تَعْلِيم النَّاس، وتنبيه الْعباد على التأني فِي الْأُمُور، وَفِي الْخَبَر " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان ".
﴿ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش﴾ أول الْمُعْتَزلَة الاسْتوَاء بِالِاسْتِيلَاءِ، وأنشدوا فِيهِ:
(قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق من غير سيف وَدم مهراق)
(وَأما أهل السّنة فيتبرءون من هَذَا التَّأْوِيل، وَيَقُولُونَ: إِن الاسْتوَاء على الْعَرْش صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، كَذَلِك يحْكى عَن مَالك بن أنس، وَغَيره من السّلف، أَنهم قَالُوا فِي هَذِه الْآيَة: الْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة.
﴿يغشى اللَّيْل النَّهَار﴾ أَي: يُغطي اللَّيْل على النَّهَار، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: يغشي اللَّيْل النَّهَار، ويغشي النَّهَار اللَّيْل؛ كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ( ﴿يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل﴾ يَطْلُبهُ حثيثا) أَي: سَرِيعا، وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ
188
﴿وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين (٥٤) ادعوا ربكُم تضرعا وخفية إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وَطَمَعًا إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ﴾ يعقب أَحدهمَا الآخر، ويخلفه على أَثَره فَكَأَنَّهُ فِي طلبه.
﴿وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره﴾ أَي: مذللات بِمَا أُرِيد مِنْهَا ﴿أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين﴾ أَي: تَعَالَى بالوحدانية.
189
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ادعوا ربكُم تضرعا وخفية﴾ أَي: ضارعين متذللين خاشعين، وخفية أَي: سرا ﴿إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ﴾ قَالَ ابْن جريج: الْجَهْر بِالدُّعَاءِ عدوان، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " سَيكون أَقوام يعتدون فِي الطّهُور وَالدُّعَاء " وروى: " أَنه رأى أَقْوَامًا يصيحون بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ لَهُم: أربعوا على أَنفسكُم، فَإِنَّكُم لَا تدعون [أصما] وَلَا غَائِبا، وَإِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا، وَهُوَ مَعكُمْ " بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَقيل: من الاعتداء فِي الدُّعَاء: أَن يسْأَل لنَفسِهِ دَرَجَة لَيْسَ من أَهلهَا؛ بِأَن يسْأَل دَرَجَة الْأَنْبِيَاء، وَلَيْسَ بِنَبِي، ودرجة الشُّهَدَاء، وَلَيْسَ بِشَهِيد.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها﴾ أَي: بعد إصْلَاح الأَرْض بِالدّينِ والشريعة، وَقَالَ الضَّحَّاك: من الْفساد فِي الأَرْض تغوير الْمِيَاه، وَقطع الْأَشْجَار المثمرة، وَكسر الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير.
﴿وادعوه خوفًا وَطَمَعًا﴾ أَي: خوفًا من الله وَطَمَعًا لثوابه {إِن رَحْمَة الله قريب
189
﴿الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته حَتَّى إِذا أقلت سَحَاب اثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات كَذَلِك نخرج الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾ من الْمُحْسِنِينَ) فَإِن قيل: الْقَرِيب نعت الْمُذكر، وَالرَّحْمَة مُؤَنّثَة، وَالله - تَعَالَى - قَالَ: قريب، وَلم يقل: قريبَة؛ قيل: قَالَ الزّجاج: الرَّحْمَة هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَفو والغفران، وَقَالَ الْأَخْفَش: هِيَ بِمَعْنى الإنعام؛ فَيكون النَّعْت رَاجعا إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، قَالَ الْفراء: إِذا كَانَ الْقرب فِي النّسَب؛ فنعت الْمُؤَنَّث مِنْهُ يكون على التَّأْنِيث، وَأما الْقرب فِي غير النّسَب؛ فالنعت مِنْهُ يذكر وَيُؤَنث، وانشدوا فِيهِ:
(عَشِيَّة لَا عفراء مِنْك قريبَة فتدنو وَلَا عفراء مِنْك بعيد)
فَذكر النَّعْت مرّة على التَّأْنِيث، وَمرَّة على التَّذْكِير.
190
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح بشرا﴾ يقْرَأ: " بشرا " من الْبشَارَة، وَيقْرَأ: " نشرا " وَهُوَ جمع النشور، كالرسول وَالرسل، وَذَلِكَ ريح طيبَة، وَيقْرَأ: " نشرا " بجزم الشين، وَهُوَ جمع النشور أَيْضا كالرسول وَالرسل وَالْكتاب والكتب.
﴿بَين يَدي رَحمته﴾ يَعْنِي: الْمَطَر ﴿حَتَّى إِذا أقلت﴾ أَي: حملت: ﴿سحابا ثقالا﴾ يَعْنِي: بِالْمَاءِ ﴿سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات كَذَلِك نخرج الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾ اسْتدلَّ بإحياء الأَرْض بعد مَوتهَا على إحْيَاء الْمَوْتَى، وَفِي ذَلِك دَلِيل بَين، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن بَين النفختين أَرْبَعِينَ عَاما فَيُرْسل الله - تَعَالَى - مَطَرا من السَّمَاء كَمثل منى الرِّجَال، فَيدْخل الأَرْض؛ فينبت مِنْهُ النَّاس، ثمَّ يحشرون بالنفخة الثَّانِيَة ".
190
( ﴿٥٧) والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه وَالَّذِي خبث لَا يخرج إِلَّا نكدا كَذَلِك نصرف الْآيَات لقوم يشكرون (٥٨) لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم (٥٩) قَالَ الْمَلأ من قومه إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين (٦٠) قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (٦١) أبلغكم رسالات رَبِّي وأنصح لكم وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (٦٢) أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (٦٣) ﴾
191
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه﴾ ﴿وَالَّذِي خبث﴾ يَعْنِي: الأَرْض السبخة ﴿لَا يخرج إِلَّا نكدا﴾ أَي: نزرا قَلِيلا، قَالَ الشَّاعِر:
(فأعط مَا أَعْطيته طيبا لَا خير فِي المنكود والناكد)
وَهَذَا مثل ضربه الله - تَعَالَى - للْمُؤْمِنين وللكافرين؛ فَإِن الْمُؤمن يخرج مَا يخرج من نَفسه من الْإِيمَان والخيرات سهلا سَمحا، وَالْكَافِر يخرج مَا يخرج من الْخيرَات نزرا قَلِيلا ﴿كَذَلِك نصرف الْآيَات لقوم يشكرون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم﴾ ذكر فِي هَذِه الْآيَة قصَّة نوح وَقَومه، وَسَيَأْتِي.
﴿قَالَ الْمَلأ من قومه إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين، قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين﴾ علم الله - تَعَالَى - النَّاس بِذكر قَوْله حسن الْجَواب، حَيْثُ قَالَ: " لَيْسَ بِي ضَلَالَة " وَلم يقل: أَنْتُم الضلال، كَمَا جرت عادتنا.
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من ربّ العالمين ) علّم الله - تعالى - الناس بذكر قوله حسن الجواب، حيث قال :«ليس بي ضلالة » ولم يقل : أنتم الضلال، كما جرت عادتنا.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أبلغكم رسالات رَبِّي وأنصح لكم﴾ النصح: هُوَ أَن يُرِيد لغيره من الْخَيْر مثل مَا يُرِيد لنَفسِهِ، وَمَعْنَاهُ: أرشدكم أَنِّي أُرِيد لنَفْسي مَا أُرِيد لكم ﴿وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم﴾ الْعجب: هُوَ تَغْيِير النَّفس عِنْد رُؤْيَة أَمر خَفِي عَلَيْهِ بَاطِنه {ولتتقوا ولعلكم ترحمون
فَكَذبُوهُ فأنجيناه وَالَّذين مَعَه فِي الْفلك) أَي: فِي السَّفِينَة.
191
﴿فَكَذبُوهُ فأنجيناه وَالَّذين مَعَه فِي الْفلك وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (٦٤) وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (٦٥) قَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه إِنَّا لنراك فِي سفاهة وَإِنَّا لنظنك من الْكَاذِبين (٦٦) قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (٦٧) أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين (٦٨) أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم فِي الْخلق بصطة فاذكروا﴾
﴿وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا﴾ وَسَتَأْتِي الْقِصَّة ﴿إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين﴾ أَي: عَن الْحق.
192
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِلَى عَاد﴾ أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد ﴿أَخَاهُم هودا﴾ قَالَ الْفراء: كَانَ أَخَاهُم فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: كَانَ آدَمِيًّا مثلهم ﴿قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون﴾.
﴿قَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه إِنَّا لنراك فِي سفاهة﴾ أَي: فِي حمق وجهالة {وَإِنَّا لنظنك من الْكَاذِبين
قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين) وَهُوَ أَيْضا من حسن الْجَواب
﴿أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين﴾ وَقد بَينا معنى النصح.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء﴾ يَعْنِي: فِي الأَرْض ﴿من بعد قوم نوح﴾ أَي: من بعد إهلاكهم.
(وزادكم فِي الْخلق بسطة) وَأَرَادَ بِهِ: البسطة فِي الطول، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق ابْن يسَار وَالسُّديّ: كَانَت قامة الطَّوِيل من قوم عَاد مائَة ذِرَاع، وقامة الْقصير مِنْهُم سِتِّينَ ذِرَاعا ﴿فاذكروا آلَاء الله لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾.
192
{آلَاء الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (٦٩) قَالُوا أجئتنا لنعبد الله وَحده وَنذر مَا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين (٧٠) قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب أتجادلونني فِي أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا نزل الله بهَا من سُلْطَان فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (٧١) فأنجيناه وَالَّذين مَعَه برحمة منا وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (٧٢) وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب أَلِيم (٧٣) واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء
193
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالُوا أجئتنا لنعبد الله وَحده وَنذر مَا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا﴾ يَعْنِي: من الْأَصْنَام ﴿فأتنا بِمَا تعدنا﴾ أَي: من الْعَذَاب ﴿إِن كنت من الصَّادِقين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب﴾ الرجس وَالرجز: هُوَ الْعَذَاب، وَالْغَضَب: السخط ﴿آأتجادلونني فِي أَسمَاء﴾ أَي: لأجل أَسمَاء ﴿سميتموها أَنْتُم وآباؤكم﴾ أَي الْأَصْنَام نحتموها وسميتموها أَنْتُم وآباؤكم ﴿مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان﴾ أَي: برهَان ( ﴿فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين﴾
فأنجيناه وَالَّذين مَعَه) هودا وَقَومه ﴿برحمة منا وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين﴾ أَي: قَطعنَا أصلهم، واستأصلناهم بِالْعَذَابِ.
قَوْله - تَعَالَى - ﴿وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم﴾ أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم ﴿صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة﴾ سَأَلُوهُ أَن يخرج من الصَّخْرَة نَاقَة، وأشاروا إِلَى صَخْرَة صماء ملساء؛ فَدَعَا صَالح - عَلَيْهِ السَّلَام - فتمخضت الصَّخْرَة كَمَا تتمخض الحبلى، وأخرجت النَّاقة؛ فَخرجت ألفت " سقبا " من ساعتها ﴿فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله﴾ قيل: كَانَ لَهُم وَاد يشربون مِنْهُ فَجعلُوا يَوْمًا للناقة، وَيَوْما لَهُم؛ فَتَشرب النَّاقة يَوْمهَا جَمِيع مَاء الْوَادي، وتبدلهم بذلك لَبَنًا ﴿وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب أَلِيم﴾.
193
(من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا فاذكروا آلَاء الله وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (٧٤) قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون (٧٦) فعقروا النَّاقة وعتوا عَن أَمر رَبهم وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الْمُرْسلين (٧٧))
194
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض﴾ أَي: أنزلكم، قَالَ الشَّاعِر:
(فبوئت فِي صميم معشرها فتم فِي قَومهَا مبوؤها)
﴿تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا﴾ كَانُوا فِي الصَّيف يسكنون فِي بيُوت من الطين، وَفِي الشتَاء يسكنون فِي بيُوت نحتوها فِي الْجَبَل، وَقيل: إِنَّمَا كَانُوا ينحتون الْبيُوت فِي الْجَبَل؛ لِأَن بيُوت الطين مَا كَانَت تبقى مُدَّة أعمارهم؛ لطول أعمارهم. ﴿فاذكروا آلَاء الله﴾ أَي نعم الله ﴿وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين﴾ العيث: أَشد الْفساد.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم﴾ يَعْنِي: قَالَ الْكفَّار مِنْهُم للْمُؤْمِنين ﴿أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه﴾ وَهَذَا اسْتِفْهَام أُرِيد بِهِ الْجحْد؛ لأَنهم كَانُوا يجحدون إرْسَاله {قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ
قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون فعقروا النَّاقة وعتوا عَن أَمر رَبهم) العتو الغلو فِي الْبَاطِل ﴿وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تعدنا﴾ أَي: من الْعَذَاب ﴿إِن كنت من الْمُرْسلين فَأَخَذتهم الرجفة﴾ الرجفة: زَلْزَلَة الأَرْض وحركتها، وَكَانُوا قد أهلكوا بالصيحة والرجفة ﴿فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين﴾ أَي: خامدين ميتين، وَمِنْه الرماد الجاثم، وَقيل: جاثمين أَي: خارين على ركبهمْ ووجوههم، وَقيل: إِنَّهُم احترقوا بالصاعقة حَتَّى صَارُوا كالرماد الجاثم.
194
﴿فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (٧٨) فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين (٧٩) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾
195
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ) العتو الغلو في الباطل ( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ) أي : من العذاب ( إن كنت من المرسلين
فأخذتهم الرجفة ) الرجفة : زلزلة الأرض وحركتها، وكانوا قد أهلكوا بالصيحة والرجفة ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) أي : خامدين ميتين، ومنه الرماد الجاثم، وقيل : جاثمين أي : خارّين على ركبهم ووجوههم، وقيل : إنهم احترقوا بالصاعقة حتى صاروا كالرماد الجاثم.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خاطبهم وَقد هَلَكُوا؟ قيل: هُوَ كَمَا خَاطب الرَّسُول الْكفَّار الْقَتْلَى يَوْم بدر حِين ألقاهم فِي القليب؛ جَاءَ إِلَى رَأس الْبِئْر، وَقَالَ: " يَا عتبَة، يَا شيبَة، وَيَا أَبَا جهل، قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حَقًا؛ فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا؟ فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، كَيفَ تخاطب قوما قد جيفوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُم بأسمع مِنْهُم؛ وَلَكنهُمْ لَا يقدرُونَ على الْإِجَابَة " وَقيل: إِنَّمَا خاطبهم بِهِ؛ ليَكُون عِبْرَة لمن خَلفهم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: فَتَوَلّى عَنْهُم، فَأَخَذتهم الرجفة، فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين، وَذَلِكَ أَن الله - تَعَالَى - مَا كَانَ ليعذب قوما ونبيهم بَينهم.
وروى أَبُو الزبير عَن جَابر: " أَن النَّبِي مر بمنازل ثَمُود فِي أَرَاضِي تَبُوك، فَقَالَ لأَصْحَابه: يَا أَيهَا النَّاس، لَا تسألوا الله الْآيَات؛ فَإِن هَؤُلَاءِ سَأَلُوا النَّاقة؛ فأخرجها الله لَهُم؛ فَكَانَت ترد من هَذَا الْفَج، وتصدر من هَذَا الْفَج، فَعَقَرُوهَا؛ فَأنْزل الله عَلَيْهِم الْعَذَاب فَلم ينج مِنْهُم أحد إِلَّا رجل كَانَ فِي الْحرم؛ فَلَمَّا خرج أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُم من الْعَذَاب وَكَانَ ذَلِك الرجل يكنى أَبَا رِغَال ".
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ أَي: وَأَرْسَلْنَا لوطا، وَاذْكُر لوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴿أتأتون الْفَاحِشَة﴾ الْفَاحِشَة: الفعلة القبيحة الَّتِي هِيَ فِي غَايَة الْقبْح ﴿مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين﴾ قَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: إِن تِلْكَ الفعلة لم
195
﴿أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين (٨٠) إِنَّكُم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم مسرفون (٨١) وَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجوهم من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون (٨٢) فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين (٨٣) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (٨٤) وَإِلَى﴾ يَفْعَلهَا أحد قبلهم
196
﴿إِنَّكُم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء﴾ فسر تِلْكَ الْفَاحِشَة ﴿بل أَنْتُم قوم مسرفون﴾ أَي: مجاوزون حد الْأَمر.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجوهم من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون﴾ مَعْنَاهُ: يتنزهون عَن أدبار الرِّجَال، قَالَ قَتَادَة: ذموهم من غير ذمّ، وعابوهم من غير عيب.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين﴾ أَي: من البَاقِينَ فِي الْعَذَاب؛ يُقَال: غبر إِذا بقى. وأنشدوا:
(وَلست يَا معد فِي الرِّجَال أسائل هَذَا وَذَا مَا الْخَبَر)
(وَلَكِنِّي مدده الْأَصْفَر بن قيس بِمَا قد مضى وَمَا غبر)
وَقيل مَعْنَاهُ: من الغابرين عَن النجَاة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا﴾ فِي الْقِصَّة: أَن الله - تَعَالَى - أرسل جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَتَّى قلع مدينتهم، وَقيل: كَانَت مَدَائِن قلعهَا ورفعها إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَلبهَا؛ وَبِذَلِك سموا مؤتفكة؛ لأَنهم قلبوا وأفكوا، وَأما الإمطار بِالْحِجَارَةِ، كَانَ على من شَذَّ مِنْهُم فِي الطّرق، وَقيل: بَعْدَمَا قلبهم أمط عَلَيْهِم بِالْحِجَارَةِ ﴿فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِلَى مَدين﴾ أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين، قيل: هُوَ مَدين بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَكَانَ أُولَئِكَ من نَسْله، وَقيل: لَيْسَ بِذَاكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم قَبيلَة.
196
﴿مَدين أَخَاهُم شعيبا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله من لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (٨٥) وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون وتصدون عَن سَبِيل الله من آمن بِهِ وتبغونها عوجا واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم﴾
وَقَوله: ﴿أَخَاهُم شعيبا﴾ أَي: فِي النّسَب لَا فِي الدّين ﴿قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله ﴿قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم﴾ وَلم تكن لَهُم آيَة؟ قيل: بل كَانَت لَهُم آيَة، إِلَّا أَنَّهَا لم تذكر فِي الْقُرْآن، وَلَيْسَت كل الْآيَات مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن ﴿فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان﴾ وَكَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويبخسون فِي الموازين ﴿وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم﴾ أَي: لَا تنقصوهم من حُقُوقهم.
﴿وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها﴾ يَعْنِي: إصلاحها ببعث الرَّسُول وَالْأَمر بِالْعَدْلِ ﴿ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ يَعْنِي: إِن آمنتم فَذَلِك خير لكم، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كُنْتُم مُؤمنين.
197
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون﴾ أَي: طَرِيق، قَالَ الشَّاعِر:
(حشونا قَومهمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى جعلناهم أذلّ من الصِّرَاط)
يَعْنِي: من الطَّرِيق.
﴿توعدون وتصدون عَن سَبِيل الله﴾ قيل: إِنَّهُم كَانُوا يبعثون إِلَى الطّرق من يهدد النَّاس، فَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ الْإِيمَان بشعيب وقصده يهددونه وَيَقُولُونَ: إِن آمَنت بشعيب نقتلك؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿توعدون﴾ أَي: تهددون. والإيعاد: التهديد، وَأما الْوَعْد فيذكر فِي الْخَيْر وَالشَّر؛ إِذا ذكر الْخَيْر وَالشَّر مَقْرُونا بِهِ، فَأَما إِذا أطلق فَلَا يذكر إِلَّا فِي الْخَيْر، أما فِي الشَّرّ عِنْد الْإِطْلَاق، يُقَال: أوعد.
﴿وتصدون عَن سَبِيل الله من آمن﴾ أَي: تمْنَعُونَ عَن الدّين من قصد الْإِيمَان ﴿وتبغونها عوجا﴾ أَي: تطلبون الاعوجاج فِي الدّين، والعدول عَن الْقَصْد؛ قَالَه الزّجاج؛ وَذكر الْأَزْهَرِي فِي التَّقْرِيب: أَنه يُقَال: فِي الدّين عوج، وَفِي الْعود عوج.
197
﴿وانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (٨٦) وَإِن كَانَ طَائِفَة مِنْكُم آمنُوا بِالَّذِي أرْسلت بِهِ وَطَائِفَة لم يُؤمنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين (٨٧) قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودن فِي ملتنا قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين (٨٨) قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا وسع رَبنَا كل شَيْء علما﴾
﴿واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم﴾ أَي: فِي الْعدَد، وَقيل مَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم قَلِيلا أَي: بِالْمَالِ؛ فكثركم بالغنى ﴿وانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين﴾ أَي: مِمَّن كَانَ قبلكُمْ.
198
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن كَانَ طَائِفَة مِنْكُم آمنُوا بِالَّذِي أرْسلت بِهِ وَطَائِفَة لم يُؤمنُوا﴾ وَذَلِكَ أَن بَعضهم آمن، وَبَعْضهمْ كفر ﴿فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودن فِي ملتنا﴾ قَالَه كفار قومه ﴿قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين﴾ يَعْنِي: تَفْعَلُونَ هَذَا، وَإِن كُنَّا كارهين
﴿قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَصح لفظ الْعود من شُعَيْب، وَلم يكن على ملتهم قطّ؟ قيل مَعْنَاهُ: إِن صرنا فِي ملتكم، وَعَاد بِمَعْنى صَار وَكَانَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(لَئِن كَانَت الْأَيَّام أحسن مرّة [إِلَيّ] فقد عَادَتْ لَهُنَّ ذنُوب)
أَي: كَانَت لَهُنَّ ذنُوب.
وَقَوله: ﴿بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا﴾ يَعْنِي: من الدُّخُول فِي ملتهم ابْتِدَاء، وَقيل المُرَاد بِهِ: قوم شُعَيْب ﴿وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا﴾ فَإِن قيل: وَهل يَشَاء الله عودهم إِلَى الْكفْر؟ قيل: وَمَا الْمَانِع مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا الْآيَة على وفْق قَول أهل السّنة، وكل ذَلِك جَائِز فِي الْمَشِيئَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: ﴿وسع رَبنَا كل شَيْء علما على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ﴾ أَي: اقْضِ بِالْحَقِّ، فَإِن قيل: كَيفَ طلب
198
﴿على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين (٨٩) وَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه لَئِن اتبعتم شعيبا إِنَّكُم إِذا لخاسرون (٩٠) فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (٩١) الَّذين كذبُوا شعيبا كَأَن لم يغنوا فِيهَا الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين (٩٢) فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رسالات رَبِّي وَنَصَحْت لكم فَكيف آسى على قوم كَافِرين (٩٣) وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا﴾ الْقَضَاء من الله بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك على طَرِيق طلب الْقَضَاء الْحق، وَإِنَّمَا هُوَ على نعت قَضَائِهِ بِالْحَقِّ؛ فَإِن صفة قَضَائِهِ الْحق، وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ﴾ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء ﴿وَأَنت خير الفاتحين﴾.
199
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه لَئِن اتبعتم شعيبا﴾ يَعْنِي: فِي دينهم {إِنَّكُم إِذا لخاسرون
فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين) وَقد بَينا هَذَا فِي قصَّة ثَمُود.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الَّذين كذبُوا شعيبا كَأَن لم يغنوا فِيهَا﴾ أَي: كَأَن لم يقيموا فِيهَا، يُقَال: غنيت بِموضع كَذَا، أَي أَقمت، والمغاني: الْمنَازل؛ قَالَه ثَعْلَب، وَقَالَ الشَّاعِر، وَهُوَ حَاتِم الطَّائِي:
(عنينا زَمَانا بالتصعلك والغنى وكلا سقاناه بكأسيهما الدَّهْر)
(فَمَا زادنا بأوا على ذِي قرَابَة غنانا وَلَا أزرى بأحسابنا الْفقر)
وَقَالَ الْأَخْفَش: معنى قَوْله: ﴿كَأَن لم يغنوا فِيهَا﴾ أَي: كَأَن لم يتنعموا فِيهَا {الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين
فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رسالات رَبِّي وَنَصَحْت لكم فَكيف آسى) أَي: أَحْزَن ﴿على قوم كَافِرين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء﴾.
قَالَ ابْن مَسْعُود: البأساء: الْفقر، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض، وَهَذَا معنى قَول من قَالَ:
199
﴿أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يضرعون (٩٤) ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء فأخذناهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون﴾ البأساء فِي المَال، وَالضَّرَّاء فِي النَّفس، وَقيل: البأساء: الْجُوع، وَالضَّرَّاء: الْفقر، وَقيل: أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء يَعْنِي: بالحروب ﴿لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَي: لكَي (يتضرعوا).
200
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة﴾ قَالَ مُجَاهِد: السَّيئَة: الشدَّة، والحسنة: الخصب ﴿حَتَّى عفوا﴾ أَي: حَتَّى كَثُرُوا، وَمِنْه قَول النَّبِي: " قصوا الشَّوَارِب وَاعْفُوا اللحى " أَي: كَثُرُوا اللحى، وَقيل: حَتَّى عفوا: حَتَّى سمنوا.
﴿وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء﴾ أَي: هَذَا كَانَ عَادَة الدَّهْر قَدِيما لنا ولآبائنا؛ فَلم ينتبهوا لما أَصَابَهُم من الشدَّة ﴿فأخذناهم بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة ﴿وهم لَا يَشْعُرُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ يَعْنِي: من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات، وَقيل: بَرَكَات السَّمَاء: إِجَابَة الدَّعْوَات، وبركات الأَرْض: تسهيل الْحَاجَات ﴿وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أَو أَمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا ضحى وهم يَلْعَبُونَ﴾ يَعْنِي: أَن يَأْتِيهم عذابنا لَيْلًا وَنَهَارًا
200
( ﴿٩٧) أَو أَمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا ضحى وهم يَلْعَبُونَ (٩٨) أفأمنوا مكر الله فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم لخاسرون (٩٩) أَو لم يهد للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض من بعد أَهلهَا أَن لَو نشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ ونطبع على قُلُوبهم فهم لَا يسمعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين (١٠١) وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين (١٠٢) ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بآيتنا إِلَى فِرْعَوْن وملئه﴾ ﴿وهم يَلْعَبُونَ﴾ وكل من اشْتغل بِمَا لَا يجزى عَلَيْهِ؛ فَهُوَ لاعب.
201
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٧:قوله - تعالى - :( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ) يعني : أن يأتيهم عذابنا ليلا ونهارا

( وهم يلعبون ) وكل من اشتغل بما لا يجزى عليه ؛ فهو لاعب.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أفأمنوا مكر الله﴾ أَي: عَذَاب الله، ومكر الله أَخذه فَجْأَة ﴿فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أَو لم يهد للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض﴾ يَعْنِي: أَو لم يتَبَيَّن للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض من بعد هَلَاك قَومهَا ﴿أَن لَو نشَاء أصبناهم﴾ يَعْنِي: أَنا لَو نشَاء أَخَذْنَاهُم ( ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ ونطبع على قُلُوبهم فهم لَا يسمعُونَ) أَي: نختم على قُلُوبهم حَتَّى لَا يفقهوا وَلَا يسمعوا.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل﴾ هَذَا فِي قوم مخصوصين، علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ ﴿كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد﴾ أَي: من وَفَاء بالعهد، قل السّديّ: هُوَ الْعَهْد يَوْم الْمِيثَاق، لم يوفوا بِهِ ﴿وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين﴾ أَي: مَا وجدنَا أَكْثَرهم إِلَّا فاسقين، قيل: أَرَادَ بِالْفِسْقِ هَا هُنَا الْخُرُوج عَمَّا يَقْتَضِيهِ دينهم من الْوَفَاء بالعهد، وَكَانَ هَذَا من بَعضهم دون بعض.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فظلموا بهَا﴾ وَقد بَينا أَن الظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وظلمهم: وضع الْكفْر مَوضِع
201
﴿فظلموا بهَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (١٠٤) حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل (١٠٥) قَالَ إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين (١٠٦) فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين (١٠٧) وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين (١٠٨) قَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن إِن هَذَا لساحر عليم (١٠٩) يُرِيد أَن﴾ الْإِيمَان ﴿فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين﴾.
202
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين حقيق على أَن لَا أَقُول﴾ أَي: حقيق بِأَن لَا أَقُول، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَمَعْنَاهُ: حَرِيص بِأَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق، وَقُرِئَ: " حقيق عَليّ " أَي: وَاجِب على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق.
﴿قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل﴾ وَذَلِكَ أَنه أَرَادَ مُوسَى أَن يخرج بهم إِلَى الشَّام ﴿قَالَ﴾ ي - يَعْنِي: فِرْعَوْن - ﴿إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين﴾.
﴿ حقيق على أن لا أقول ﴾ أي : حقيق بأن لا أقول، وهكذا قرأ ابن مسعود، ومعناه : حريص بأن لا أقول على الله إلا الحق، وقرئ :" حقيق علي " ( ١ ) أي : واجب علىّ أن لا أقول على الله إلا الحق.
( قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ) وذلك أنه أراد موسى أن يخرج بهم إلى الشام
١ - هي قراءة نافع، بتشديد الياء، وفتحها. انظر النشر (٢/٢٧٠)..
( قال ) - يعني : فرعون - ( إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ).
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَألْقى عَصَاهُ﴾ قيل: إِن ملكا أعطَاهُ تِلْكَ الْعَصَا، وللعصا قصَّة، ستأتي فِي قصَّة شُعَيْب فِي سُورَة الْقَصَص إِن شَاءَ الله.
﴿فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين﴾ الثعبان: الْحَيَّة الذّكر، وَفِي الْقَصَص: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما ألْقى الْعَصَا، صَارَت ثعبانا عَظِيما، مَلأ قصر فِرْعَوْن، وَقيل: كَانَ بَين شدقيه ثَمَانُون ذِرَاعا، وَقيل: إِنَّه أَخذ قصر فِرْعَوْن بَين نابيه؛ فهرب مِنْهُ فِرْعَوْن وَأَخذه الْبَطن فِي ذَلِك الْيَوْم أَرْبَعمِائَة مرّة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين﴾ قيل: إِنَّه نزع يَده من جيبه، وَقيل: من تَحت إبطه ﴿فَإِذا هِيَ بَيْضَاء﴾ لَهَا شُعَاع كَالشَّمْسِ يتلألأ، وَكَانَ مُوسَى آدم اللَّوْن.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن إِن هَذَا لساحر عليم﴾ يَعْنِي: مُوسَى
202
﴿يخرجكم من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون (١١٠) قَالُوا أرجه وأخاه وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين (١١١) يأتوك بِكُل سَاحر عليم (١١٢) وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن قَالُوا إِن لنا لأجرا إِن كُنَّا نَحن الغالبين (١١٣) قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ لمن المقربين (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن﴾
203
﴿يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون﴾ أَي: بِمَاذَا تشيرون؟ قَالَه فِرْعَوْن لِقَوْمِهِ، وَقيل: إِن هَذَا من قَول الْمَلأ، قَالُوا لفرعون وخاصته: مَاذَا تأمرون وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا ذَلِك لفرعون خَاصَّة؛ لَكِن ذكرُوا بِلَفْظ الْجمع تفخيما وتعظيما.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالُوا أرجه وأخاه﴾ أَي: أرجئه، والإرجاء: التَّأْخِير، يُقَال: أرجأت أَمر كَذَا، أَي أخرت، وَمِنْه المرجئة، سموا بذلك؛ لتأخيرهم الْعَمَل فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَن الْعَمَل لَيْسَ من الْإِيمَان، وَيقْرَأ: " أرجه " من غير همز، قيل مَعْنَاهُ: التَّأْخِير أَيْضا، قَالَ الْمبرد: مَعْنَاهُ: اتركه يَرْجُو، وَمعنى الْكل وَاحِد؛ فَإِنَّهُم أشاروا عَلَيْهِ بِتَأْخِير أمره، وَترك التَّعَرُّض لَهُ، وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَنهم أشاروا بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ لم يكن فيهم ولد عاهر، إِذْ لَو كَانَ فيهم ولد عاهر لأشاروا بِالْقَتْلِ.
﴿وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين﴾ هِيَ مَدَائِن الصَّعِيد، وَهُوَ فَوق مصر
﴿يأتوك بِكُل سَاحر عليم﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن أرسل أَصْحَاب الشَّرْط إِلَى تِلْكَ الْمَدَائِن ليجمعوا السَّحَرَة ويأتوا بهم.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن﴾ وَفِيه حذف، يَعْنِي: فَأرْسل؛ فجَاء السَّحَرَة، وَاخْتلفُوا فِي عَددهمْ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا اثْنَي وَسبعين رجلا، وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: كَانُوا (اثْنَي) عشر ألفا، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: كَانُوا ثَمَانِينَ ألفا. وَالْمَعْرُوف أَنهم كَانُوا سبعين ألفا.
﴿قَالُوا إِن لنا لأجرا إِن كُنَّا نَحن الغالبين قَالَ نعم﴾ لكم الْأجر ﴿وَإِنَّكُمْ لمن المقربين﴾ أَي: لكم الْمنزلَة الرفيعة مَعَ الْأجر.
203
﴿تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين (١١٥) قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم (١١٦) وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون (١١٧) فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (١١٨) فغلبوا هُنَالك﴾
204
( قال نعم ) لكم الأجر ( وإنكم لمن المقربين ) أي : لكم المنزلة الرفيعة مع الأجر.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقى﴾ يَعْنِي: الْعَصَا ﴿وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين﴾ يَعْنِي: عصينا
﴿قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس﴾ أَي: صرفُوا أعين النَّاس عَن إِدْرَاك حَقِيقَتهَا؛ فعلوا من التمويه والتخييل، وَهَذَا هُوَ السحر.
﴿واسترهبوهم﴾ أَي: السَّحَرَة طلبُوا رهبة النَّاس؛ فرهبوهم، وَقَالَ الْمبرد: السِّين فِيهِ زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: أرهبوهم ﴿وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون﴾ وَيقْرَأ: " تلقف مَا يأفكون " مخففا، وَيقْرَأ فِي الشواذ " تلقم " وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: " تلقم " مخففا، وَمعنى الْكل وَاحِد. والتلقف: الْأَخْذ بِسُرْعَة، وَمَعْنَاهُ: تتلقم مَا يأفكون أَي: مَا يكذبُون من التخاييل الكاذبة، وَفِي الْقَصَص: أَن السَّحَرَة كَانُوا سبعين ألف، مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم عَصا، فَألْقوا عصيهم؛ فَإِذا هِيَ تتحرك كالحيات، ثمَّ ألْقى مُوسَى عَصَاهُ؛ فَصَارَت ثعبانا، وتلقف كل ذَلِك، وَقصد النَّاس الَّذين حَضَرُوا؛ فَوَقع الزحام عَلَيْهِم؛ فَهَلَك خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا فِي الزحام، ثمَّ أَخذه مُوسَى؛ فَصَارَت عَصا كَمَا كَانَت؛ فَذَلِك قَوْله ﴿فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون﴾ قَالَ الشَّاعِر:
(أَنْت عَصا مُوسَى الَّتِي لم تزل تلقف مَا يأفكه السَّاحر)
وَقَالَ آخر:
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: مَعْنَاهُ: ظهر الْحق أَي: ظهر عَصا مُوسَى على عصيهم، وَقيل مَعْنَاهُ: ظَهرت نبوة مُوسَى على دَعْوَى فِرْعَوْن الربوبية
﴿فغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين﴾ أَي: ذليلين.
204
﴿وانقلبوا صاغرين (١١٩) وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين (١٢٠) {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين (١٢١) رب مُوسَى وَهَارُون (١٢٢) قَالَ فِرْعَوْن آمنتم بِهِ قبل أَن آذن لكم إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا فَسَوف تعلمُونَ (١٢٣) لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون (١٢٥) وَمَا تنقم منا إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا رَبنَا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مُسلمين (١٢٦) وَقَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن أتذر مُوسَى وَقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض ويذرك وآلهتك قَالَ﴾
205
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين﴾ وَاخْتلفُوا فِي سجودهم، قَالَ بَعضهم: ألهمهم الله - تَعَالَى - أَن يسجدوا فسجدوا، وَقيل: إِن مُوسَى وَهَارُون سجدا شكرا لله - تَعَالَى - فوافقهم السَّحَرَة
﴿قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين﴾ قيل: إِن فِرْعَوْن لما سمع ذَلِك مِنْهُم قَالَ: آمنتم بِي؟ فَقَالُوا:
﴿رب مُوسَى وَهَارُون﴾ وَقَالَ فِرْعَوْن: ﴿آمنتم بِهِ قبل أَن آذن لكم إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة﴾ قَالَ السّديّ: كَانَ مُوسَى قد قَالَ لرئيس السَّحَرَة: إِن غلبتك غَدا لتؤمنن بِي؟ فَقَالَ: لآتينك بِسحر أغلبك، وَإِن غلبتني آمَنت بك فَهَذَا معنى قَول فِرْعَوْن: ﴿إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة﴾ أَي: تَدْبِير دبرتموه فِي الْمَدِينَة ﴿لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا﴾ أَي: لتغلبوا أَهلهَا ( ﴿فَسَوف تعلمُونَ﴾
وقال فرعون :( آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ) قال السدي : كان موسى قد قال لرئيس السحرة : إن غلبتك غدا لتؤمنن بي ؟ فقال : لآتينك بسحر أغلبك، وإن غلبتني آمنت بك فهذا معنى قول فرعون :( إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ) أي : تدبير دبرتموه في المدينة ( لتخرجوا منها أهلها ) أي : لتغلبوا أهلها ( فسوف تعلمون ).
لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ) هددهم بِهَذِهِ الْعُقُوبَات، وَهِي مَعْلُومَة
﴿قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون﴾ فَهَذَا قَالُوهُ تَسْلِيَة لقُلُوبِهِمْ.
﴿وَمَا تنقم منا﴾ أَي: وَمَا تكره منا، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا تعيب علينا ( ﴿إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا﴾ رَبنَا أفرغ) أَي: أنزل ﴿علينا صبرا وتوفنا مُسلمين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن﴾ وَإِنَّمَا سموا مَلأ لمعنيين: أَحدهمَا: أَنهم كَانُوا يملئون صُدُور النَّاس هَيْبَة، وَقيل: لأَنهم كَانُوا مليئين بِمَا فوض إِلَيْهِم. ﴿أتذر مُوسَى وَقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض﴾ أَرَادوا بِهَذَا الْفساد: مُخَالفَة أَمر فِرْعَوْن ﴿ويذرك وآلهتك﴾ وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وإلاهتك " أَي: عبادتك، وَقيل: الإلاهة:
205
﴿سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين (١٢٨) قَالُوا أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا قَالَ عَسى ربكُم أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم﴾ الشَّمْس، وَكَانَ فِرْعَوْن يعبد الشَّمْس، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا جَاءَ مُوسَى وَألقى الْعَصَا فقد بَطل السحر والساحر)
(تروحنا من اللعباء عصرا فأعجلنا الإلاهة أَن تؤوبا)
أَي: أعجلنا الشَّمْس أَن ترجع، وَالْمَعْرُوف ﴿ويذرك وآلهتك﴾.
قَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: وَكَانَ فِرْعَوْن يعبد الْبَقر، وَقَالَ السّديّ: كَانَ قد اتخذ أصناما، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: هَذِه آلِهَتكُم، وَأَنا إِلَه الْآلهَة، وَقَالَ الْحسن: كَانَ قد علق على عُنُقه صليبا - وَكَانَ يعبده - فَلذَلِك قَالُوا: " ويذرك وآلهتك " وَهَذَا كَانَ إغراء مِنْهُم لفرعون على مُوسَى ﴿قَالَ سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ﴾ وَكَانَ من قبل يفعل ذَلِك ثمَّ تَركه، ثمَّ عَاد إِلَيْهِ ثَانِيًا فَقَالَ: ﴿سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون﴾.
206
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا﴾ وَفِي الشواذ: " يُورثهَا " ﴿من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين﴾ أَي: فِي النَّصْر وَالظفر.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قَالُوا أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا﴾ فِيهِ أَقْوَال:
قَالَ الْحسن: كَانَ الْإِيذَاء بِأخذ الْجِزْيَة؛ كَانَ فِرْعَوْن يَأْخُذ الْجِزْيَة مِنْهُم قبل مَجِيء مُوسَى وَبعده، وَقيل: هُوَ من قتل الْأَبْنَاء؛ كَانَ يقتل أَبْنَاءَهُم، ويستحيي نِسَاءَهُمْ قبل مَجِيء مُوسَى؛ ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، وَذكر جُوَيْبِر فِي تَفْسِيره: أَن المُرَاد بِهِ أَن فِرْعَوْن كَانَ يسخرهم ويستعملهم إِلَى نصف النَّهَار، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى استسخرهم كل النَّهَار بِلَا أجر وَلَا شَيْء، وَذكر الْكَلْبِيّ: أَنهم كَانُوا يضْربُونَ لَهُ اللَّبن بتبن فِرْعَوْن قبل مَجِيء
206
﴿فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ وَنقص من الثمرات لَعَلَّهُم يذكرُونَ (١٣٠) فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة قَالُوا لنا هَذِه وَإِن تصبهم سَيِّئَة يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه أَلا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (١٣١) وَقَالُوا مهما تأتنا بِهِ من آيَة لتسحرنا بهَا فَمَا نَحن لَك بمؤمنين (١٣٢) فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم﴾ مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى أجبرهم على أَن يضربوه بتبن من عِنْدهم.
﴿قَالَ عَسى ربكُم﴾ وَهِي كلمة التطميع ﴿أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي: حَتَّى يجازيكم على مَا يرى وَاقعا مِنْكُم لَا على مَا علم فِي الْغَيْب مِنْكُم.
207
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ﴾ أَي: بِالْقَحْطِ والجدب.
تَقول الْعَرَب جاءتنا سنة أَي: سنة جَدب، فَأَخذهُم الله - تَعَالَى - بِالسِّنِينَ ﴿وَنقص من الثمرات لَعَلَّهُم يذكرُونَ﴾ أَي: يتعظون، وَذَلِكَ: أَن الشدَّة ترقق الْقُلُوب وترغبها إِلَى الله - تَعَالَى -.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة﴾ أَي: الخصب ﴿قَالُوا لنا هَذِه﴾ أَي: هَذَا كَانَ عَادَة الدَّهْر بِنَا ﴿وَإِن تصبهم سَيِّئَة﴾ أَي: جَدب ﴿يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه﴾ أَي: يَقُولُونَ: هَذَا من شُؤْم مُوسَى وَمن مَعَه ﴿أَلا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله﴾ أَي: الشؤم وَالْبركَة وَالْخَيْر وَالشَّر كُله من الله - تَعَالَى - وَقيل مَعْنَاهُ: الشؤم الْعَظِيم هُوَ الَّذِي لَهُم عِنْد الله - تَعَالَى - فِي الْآخِرَة، تَقول الْعَرَب: طَار لفُلَان سعد، وطار لفُلَان شُؤْم ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا مهما﴾ أَي: مَتى مَا {تأتنا بِهِ من آيَة لتسحرنا بهَا فَمَا نَحن لَك بمؤمنين
فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان) قَالَ عَطاء: أَرَادَ بالطوفان: الْمَوْت الذريع، وَقيل: السَّيْل الْعَظِيم، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم مُطِرُوا من السبت إِلَى السبت، حَتَّى بلغ المَاء تراقيهم، فَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يجلس غرق فِي المَاء؛ فاستغاثوا بمُوسَى وَقَالُوا: ادْع الله حَتَّى يمسك ونؤمن لَك؛ فَدَعَا الله - تَعَالَى - فَأمْسك عَنْهُم الْمَطَر، فأخرجت
207
الأَرْض تِلْكَ السّنة نباتا كثيرا وأخصبت، فَقَالُوا: هَذَا كَانَ خيرا لنا، فَلم يُؤمنُوا وَكَفرُوا بِهِ؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم الْجَرَاد؛ فَأكل زرعهم ونباتهم إِلَّا قَلِيلا؛ فاستغاثوا بمُوسَى حَتَّى يَدْعُو الله - تَعَالَى - فَيدْفَع عَنْهُم ذَلِك.
وَفِي أَخْبَار عمر - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه قل الْجَرَاد فِي زَمَانه سنة، فَبعث رَاكِبًا قبل الْيمن وراكبا قبل الشَّام وراكبا قبل الْعرَاق؛ ليطلبوا الْجَرَاد؛ فجَاء رَاكب الْيمن بكف من جَراد، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - الله أكبر، إِن لله - تَعَالَى - ألف أمة: سِتّمائَة فِي الْبر، وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبَحْر، وَأول أمة تهْلك الْجَرَاد، ثمَّ تتبعهم سَائِر الْأُمَم الباقيين ".
وَفِي الْأَخْبَار: أَن مَرْيَم سَأَلت [رَبهَا]، وَقَالَت: يَا رب أَطْعمنِي لَحْمًا بِلَا دم؛ فأطعمها الْجَرَاد. وَفِي الْخَبَر " مَكْتُوب على صدر كل جَرَادَة جند الله الْأَعْظَم ".
رَجعْنَا إِلَى الْقِصَّة، فَلَمَّا رفع عَنْهُم الْجَرَاد لم يُؤمنُوا أَيْضا؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم الْقمل، قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة: الْقمل صغَار الْجَرَاد، وَهِي: الدبي الَّتِي لَيست لَهَا أَجْنِحَة، وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - أَن الْقمل: سوس الْحِنْطَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ كبار القراد، وسمى القراد الْكَبِير: حمنان أَيْضا، وَقيل: الْقمل هُوَ الْقمل، وَقيل: هُوَ الرعاف. فاستغاثوا بمُوسَى، فَدَعَا الله فَرفع عَنْهُم فَلم يُؤمنُوا؛ فَسلط عَلَيْهِم الضفادع.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى جَاءَ إِلَى شط الْبَحْر وَأَشَارَ بعصاه إِلَى أدنى الْبَحْر وأقصاه، فَخرجت الضفادع حَتَّى امْتَلَأت بُيُوتهم - وَكَانَت قوافز - وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا فتح فَاه ليَتَكَلَّم تثب فِي فِيهِ، وكل من نَام مِنْهُم فَإِذا انتبه من النّوم يرى على بدنه مِنْهَا قدر ذِرَاع، وَكَانَ إِذا تكلم الرجل تقفز فِي فَمه، ثمَّ رفع عَنْهُم فَلم يُؤمنُوا؛ فَجعل الله نيل مصر عَلَيْهِم دَمًا - وَكَانَ كل ذَلِك للقبط خَاصَّة - وَكَانَ القبطي يَأْخُذ من النّيل الدَّم، وَبَنُو إِسْرَائِيل يَأْخُذُونَ المَاء، حَتَّى كَانَ الْكوز الْوَاحِد يشرب القبطي مِنْهُ دَمًا عبيطا،
208
﴿الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم آيَات مفصلات فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين (١٣٣) وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل (١٣٤) فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الرجز إِلَى أجل هم بالغوه إِذا هم ينكثون (١٣٥) فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين (١٣٦) وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهَا وتمت كلمت رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا﴾ والإسرائيلي مَاء؛ فَذَلِك معنى قَوْله: ﴿فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم، آيَات مفصلات﴾ وتفصيلها أَن كل عَذَاب مِنْهَا يَمْتَد أسبوعا، وَكَانَ بَين كل عذابين شهر ﴿فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين﴾.
209
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ مَا سبق من الْعَذَاب، وَقيل: هُوَ عَذَاب الطَّاعُون، قَالَ سعيد بن جُبَير: مَاتَ مِنْهُم بالطاعون سَبْعُونَ ألفا فِي يَوْم وَاحِد، وَالرجز الرجس: الْعَذَاب.
﴿قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك﴾ يَعْنِي: من إِجَابَة دعوتك ﴿لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل﴾ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن يخرج بهم إِلَى الشَّام
﴿فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الرجز إِلَى أجل هم بالغوه﴾ وَذَلِكَ الْغَرق فِي اليم ﴿إِذا هم ينكثون﴾ أَي: ينقضون الْعَهْد
﴿فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين﴾ وللغرق قصَّة ستأتي فِي موضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
﴿وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهَا﴾ قيل أَرَادَ بهَا أَرض مصر وَالشَّام، وَقيل: أَرَادَ بهَا الشَّام وَحده، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْأُرْدُن وفلسطين، وَقَوله ﴿باركنا فِيهَا﴾ أَي: بِالْخصْبِ وَالسعَة.
﴿وتمت كلمة رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا﴾ وَتلك الْكَلِمَة: وعده الَّذِي وعدهم، وَذَلِكَ فِي قَوْله: ﴿ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين﴾ فَلَمَّا أورثهم تِلْكَ الْأَرَاضِي وانجزهم ذَلِك
209
﴿صَبَرُوا ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه وَمَا كَانُوا يعرشون (١٣٧) وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون (١٣٨) إِن هَؤُلَاءِ متبر مَا هم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (١٣٩) قَالَ أغير الله أبغيكم إِلَهًا وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين (١٤٠) وَإِذ أنجيناكم من آل﴾ الْوَعْد؛ قَالَ: تمت كلمة رَبك، أَي: تمّ وعده لَهُم، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا: حسنى لِأَنَّهَا كَانَت على وفْق مَا يحبونَ ﴿ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه﴾ أَي: أهلكنا ذَلِك عَلَيْهِم ﴿وَمَا كَانُوا يعرشون﴾ (أَي يبنون ويسقفون تجبرا وتكبرا.
210
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم﴾ أَي: يلازمون عبَادَة تِلْكَ الْأَصْنَام، وهم قوم من العمالقة رَآهُمْ بَنو إِسْرَائِيل عاكفين على أصنام لَهُم ﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة﴾ وَلم يكن ذَلِك من بني إِسْرَائِيل شكا فِي وحدانية الله - تَعَالَى - وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: اجْعَل لنا شَيْئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إِلَى الله - تَعَالَى - وظنوا أَن ذَلِك لَا يضر الدّيانَة، وَكَانَ ذَلِك من شدَّة جهلهم.
{قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون
إِن هَؤُلَاءِ متبر مَا هم فِيهِ) أَي: مدمر مَا هم فِيهِ ( ﴿وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾
قَالَ) يَعْنِي: مُوسَى ﴿أغير الله أبغيكم إِلَهًا﴾ أَي: أطلب لكم إِلَهًا تعظمونه غير الله ﴿وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين﴾ وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " أَن رَسُول الله لما رَجَعَ من حنين مر على شَجَرَة يُقَال لَهَا: ذَات أنواط، وَقد عكف حولهَا قوم من الْأَعْرَاب يعظمونها، وَقد عَلقُوا عَلَيْهَا أسلحتهم، فَقَالَ أَصْحَابه: يَا رَسُول الله، لَو جعلت لنا ذَات أنواط كَمَا لَهُم ذَات أنواط فَقَالَ: عَلَيْهِ - الصَّلَاة وَالسَّلَام - الله أكبر، هَذَا مثل مَا قَالَ قوم مُوسَى لمُوسَى: ﴿اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة﴾.
210
﴿فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب يقتلُون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (١٤١) وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتممناها بِعشر فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين﴾
211
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذ أنجيناكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب﴾ أَي: يذيقونكم شَرّ الْعَذَاب، وَقد ذكرنَا معنى هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
﴿يقتلُون أبناءكم﴾ يَعْنِي: صغَار أبناءكم ﴿ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾ قيل مَعْنَاهُ: فِي تعذيبهم إيَّاكُمْ بلَاء من ربكُم عَظِيم، وَقيل: فِي إنجائنا إيَّاكُمْ ﴿بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾ أَي: نعْمَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتتمناها بِعشر﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ أَيَّام ذِي الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة ﴿فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة﴾ فَإِن قيل: ذكر الثَّلَاثِينَ وَالْعشر يُغني عَن ذكر الْأَرْبَعين، فَمَا معنى هَذَا التّكْرَار؟ قيل: كَرَّرَه تَأْكِيدًا، وَقيل: فَائِدَة قَوْله: ﴿فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة﴾ قطع الأوهام عَن الزِّيَادَة؛ لِأَنَّهُ لما وَقت الثَّلَاثِينَ أَولا، ثمَّ زَاد عَلَيْهِ عشرا، رُبمَا يَقع فِي الأوهام زِيَادَة أُخْرَى، فَذكره لقطع الأوهام عَن الزِّيَادَة، وَذكر الثَّلَاثِينَ فِي الِابْتِدَاء وَالْعشر مفصلا: ليعلم أَن الْمِيقَات كَانَ كَذَلِك مفصلا ثَلَاثِينَ ذِي الْقعدَة وَعشرا من ذِي الْحجَّة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَصُوم ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ يَأْتِي الطّور يكلمهُ؛ فصَام ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَفِي بعض التفاسير: صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فتغيرت رَائِحَة فَمه، فَأخذ ورق الخرنوب وتناوله؛ لتزول رَائِحَة فَمه، فَأمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم عشرا أخر؛ لتعود الرَّائِحَة، وَتَمام الْقِصَّة فِي الْآيَة الثَّانِيَة.
﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي﴾ اسْتَخْلَفَهُ على قومه ﴿وَأصْلح﴾ أَي: ارْفُقْ ﴿وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين﴾ أَي: لَا تتبع آراءهم وأهواءهم.
211
( ﴿١٤٢) وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك قَالَ لن تراني وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر﴾
212
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا﴾ يَعْنِي الْوَقْت الَّذِي وَقت لَهُ على مَا بَينا ﴿كَلمه ربه﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن الله - تَعَالَى - لما استحضره بِجَانِب الطّور [و] أنزل ظلمَة على سَبْعَة فراسخ، وطرد عَنهُ الشَّيْطَان، ونحى عَنهُ الْملكَيْنِ، وَكَلمه حَتَّى أسمعهُ وأفهمه. وَفِي الْقِصَّة: كَانَ جِبْرِيل مَعَه فَلم يسمع مَا كَلمه ربه.
﴿قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك﴾ قَالَ الزّجاج: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره أَرِنِي نَفسك أنظر إِلَيْك. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ سَأَلَ الرُّؤْيَة وَقد علم أَن الله عز وَجل لَا يرى فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ الْحسن: هاج بِهِ الشوق؛ فَسَأَلَ الرُّؤْيَة. وَقيل: سَأَلَ الرُّؤْيَة ظنا مِنْهُ أَنه يجوز أَن يرى فِي الدُّنْيَا.
﴿قَالَ لن تراني﴾ يسْتَدلّ من يَنْفِي الرُّؤْيَة بِهَذِهِ الْكَلِمَة، وَلَيْسَ لَهُم فِيهَا مستدل؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يقل: إِنِّي لَا أرى؛ مَتى يكون حجَّة لَهُم؛ وَلِأَنَّهُ لم ينْسبهُ إِلَى الْجَهْل فِي سُؤال الرُّؤْيَة، كَمَا نسب إِلَيْهِ قومه بقَوْلهمْ: " اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة " لما لم يجز ذَلِك، وَأما معنى قَوْله ﴿لن تراني﴾ يَعْنِي: فِي الْحَال أَو فِي الدُّنْيَا.
﴿وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني﴾ مَعْنَاهُ: اجْعَل الْجَبَل بيني وَبَيْنك؛ فَإِنَّهُ أقوى مِنْك، فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني؛ وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه يجوز أَن يرى؛ لِأَنَّهُ لم يعلق الرُّؤْيَة بِمَا يَسْتَحِيل وجوده؛ لِأَن اسْتِقْرَار الْجَبَل مَعَ تجليه لَهُ غير مُسْتَحِيل، بِأَن يَجْعَل لَهُ قُوَّة الِاسْتِقْرَار مَعَ التجلي.
﴿فَلَمَّا تجلى ربه للجبل﴾ أَن ظهر للجبل: قيل: إِنَّه جعل للجبل بصرا وَخلق فِيهِ حَيَاة، ثمَّ تجلى لَهُ فتذكرك على نَفسه. وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله - تَعَالَى - تجلى للجبل بِقدر أُنْمُلَة الْخِنْصر، ثمَّ وضع ثَابت إبهامه على أُنْمُلَة خِنْصره، فَقيل لَهُ: أَتَقول بِهَذَا؟ فَقَالَ: يَقُول بِهِ أنس وَرَسُول الله، وَلَا
212
﴿مُوسَى صعقا فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ (١٤٣) قَالَ يَا مُوسَى﴾ أَقُول بِهِ أَنا! : وَضرب فِي صدر الْقَائِل " وَفِي بعض الرِّوَايَات " أَنه تجلى للجبل بِقدر جنَاح بعوضة أَو أقل ".
﴿جعله دكا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: صَار تُرَابا. وَقَالَ الْحسن وسُفْيَان: ساخ فِي الأَرْض، وَفِي بعض التفاسير: أَنه صَار سِتَّة أجبل: ثَلَاثَة بِمَكَّة: وَذَلِكَ ثَوْر وثبير وحراء، وَثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ: رضوى وَأحد وورقان، وَقيل: انقلع الْجَبَل من أَصله، وَوَقع فِي الْبَحْر، فَهُوَ يذهب فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَأما من حَيْثُ اللُّغَة: قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: ﴿جعله دكا﴾ أَي: مدكوكا مدقوقا، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " جعله دكاء " ممدودا، يُقَال: أَرض دكاء إِذا كَانَ فِيهَا ناتئ ومواضع مُرْتَفعَة كالقلال، والدكاوات: الرواسِي من الأَرْض، وَمَعْنَاهُ: أَنه جعله كالأرض المرتفعة، وَخرج من كَونه جبلا.
وَقَوله: ﴿وخر مُوسَى صعقا﴾ قَالَ قَتَادَة: أَي مَيتا، وَكَانَ قد مَاتَ تِلْكَ السَّاعَة. وَقَالَ الْحسن وَابْن عَبَّاس: خر مغشيا عَلَيْهِ. وَهَذَا أليق بالنظم؛ لِأَنَّهُ قَالَ ﴿فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ وَهَذَا التَّنْزِيه. ﴿تبت إِلَيْك﴾ يَعْنِي: من سُؤال الرُّؤْيَة قبل الْإِذْن ﴿وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ﴾ يَعْنِي أَنا أول الْمُؤمنِينَ بِأَن من يراك متجليا فِي الدُّنْيَا لَا يسْتَقرّ مَكَانَهُ، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنا أول الْمُؤمنِينَ بأنك لَا ترى فِي الدُّنْيَا.
213
﴿إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء موعظة وتصفيلا لكل شَيْء فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك﴾
214
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد أعْطى غَيره الرسالات، فَمَا معنى قَوْله: ﴿اصفيتك على النَّاس برسالاتي﴾ ؟ قيل: لما لم يكن إِعْطَاء الرسَالَة على الْعُمُوم فِي حق النَّاس، استقام قَوْله: ﴿اصطفيتك على النَّاس برسالاتي﴾ وَإِن شَاركهُ فِيهَا غَيره، وَهَذَا مثل قَول الرجل: خصصتك بمشورتي، وَإِن شاور غَيره، لَكِن لما تكن الْمُشَاورَة على الْعُمُوم؛ استقام الْكَلَام. ﴿فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ﴾ لما أَنْعَمت عَلَيْك من إِعْطَاء الرسَالَة وَالْكَلَام، وَهَذِه الْآيَة فِي تَسْلِيَة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَيْثُ سَأَلَ الرُّؤْيَة فَلم يحظ بهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وكتبنا لَهُ فِي الألواح﴾ وَأَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة، وَفِي الْخَبَر: " أَن الله - تَعَالَى - خلق آدم بِيَدِهِ، وَكتب التَّوْرَاة بِيَدِهِ، وغرس شَجَرَة طُوبَى بِيَدِهِ ".
وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الألواح، قَالَ الْحسن: كَانَت الألواح من خشب، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت من زبرجد أَخْضَر، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَت من ياقوتة حَمْرَاء، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: كَانَت من برد. وَقيل: نزلت الألواح والتوراة مَكْتُوبَة عَلَيْهَا كنقش الْخَاتم.
﴿من كل شي موعظة﴾ أَي: تذكرة، وَحَقِيقَة الموعظة: هِيَ التَّذْكِير والتحذير مِمَّا يخَاف عاقبته. ﴿وتفصيلا لكل شَيْء﴾ أَي: بَيَانا للْحَلَال وَالْحرَام وَمَا أمروا بِهِ، وَمَا نهو عَنهُ ﴿فَخذهَا بِقُوَّة﴾ أَي: بجد واجتهاد، وَقيل مَعْنَاهُ: بِقُوَّة الْقلب.
﴿وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها﴾ قَالَ قطرب: أَي: بحسنها. وَاعْلَم أَن الْأَحْسَن مَا
214
﴿يَأْخُذُوا بأحسنها سأريكم دَار الْفَاسِقين (١٤٥) سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين (١٤٦) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة حبطت أَعْمَالهم هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا﴾ كَانَ فِيهِ من الْفَرَائِض الْمَكْتُوبَة والنوافل الْمَنْدُوب إِلَيْهَا فَإِنَّهَا الْأَحْسَن، وَأما الْحسن: مَا كَانَ مُبَاحا، وَقيل: معنى قَوْله: ﴿يَأْخُذُوا بأحسنها﴾ أَي: بِأَحْسَن الْأَمريْنِ فِي كل شَيْء، كالعفو أحسن من الاقتصاص، وَالصَّبْر أحسن من الِانْتِصَار ﴿سأريكم دَار الْفَاسِقين﴾ وَقَرَأَ قسَامَة بن زُهَيْر: " سأورثكم " من التوريث، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: سأورثكم أَرض مصر، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " سأريكم " قَالَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة: سأريكم جَهَنَّم، وَقيل: أَرَادَ بِهِ مصَارِع الْكفَّار. قَالَ قَتَادَة: دَار الْفَاسِقين أَرَادَ بهَا الشَّام؛ على معنى: أريكم فِيهَا مَا أهلكت من قرى الْكفَّار قبلكُمْ؛ لِأَن مُوسَى خرج بهم إِلَى الشَّام.
215
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق﴾ قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة مَعْنَاهُ: سأمنعهم فهم الْقُرْآن، قَالَ الزّجاج تَقْدِيره: سأصرفهم عَن قبُول آياتي، وَأما التكبر: هُوَ طلب الْفضل من غير اسْتِحْقَاق.
﴿وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا﴾ وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ: " سَبِيل الرشاد " المعدوف: " سَبِيل الرشد " وَيقْرَأ أَيْضا: " سَبِيل الرشد " والرشد والرشد وَاحِد، وَهُوَ الصّلاح.
﴿وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا﴾ يَعْنِي: سَبِيل الضَّلَالَة ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين﴾ لأَنهم لما لم يتدبروا الْقُرْآن فكأنهم عَنهُ غافلين
﴿وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة حبطت أَعْمَالهم﴾ أَي: بطلت أَعْمَالهم ﴿هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم﴾ وَيقْرَأ: " من حليهم "
215
﴿يعْملُونَ (١٤٧) ﴾ وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم عجلا جسدا لَهُ خوار ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا اتخذوه وَكَانُوا ظالمين (١٤٨) وَلما سقط فِي يديهم) ﴿عجلا جسدا لَهُ خوار﴾ أَي: جَسَد لَهُ خوار، وَيقْرَأ فِي الشواذ: " لَهُ جؤار " وَهُوَ بِمَعْنى الخوار، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الطّور قَالَ لِقَوْمِهِ: أرجع إِلَيْكُم بعد ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا لم يرجع إِلَيْهِم بعد الثَّلَاثِينَ ظنُّوا أَنه مَاتَ، كَانَ السامري فِي بني إِسْرَائِيل مُطَاعًا بَينهم، وَكَانَ صائغا، فَقَالَ لَهُم: اجْمَعُوا لي مَا أَخَذْتُم من الْحلِيّ من آل فِرْعَوْن أصنع لكم شَيْئا، فدفعوا إِلَيْهِ مَا أخذُوا من الْحلِيّ فصاغ مِنْهُ الْعجل، قَالَ الْحسن: كَانَ السامري قد رأى جِبْرِيل يَوْم غرق فِرْعَوْن على فرس، فَأخذ قَبْضَة من أثر قدم فرسه.
قَالَ عِكْرِمَة: ألقِي فِي روعه أَنه فِي أَي شَيْء ألْقى تِلْكَ القبضة من التُّرَاب يحيا بهَا ذَلِك الشَّيْء، وَذَلِكَ أَنه رأى مَوَاضِع قدم الْفرس تحضر فِي الْحَال وتنبت، فَلَمَّا صاغ الْعجل ألقِي فِي روعه أَن يلقِي تِلْكَ القبضة فِي فَمه فألقاها فِي فَم الْعجل فحيي، فَصَارَ لَحْمًا ودما من ذهب، وَله خوار فَإِنَّهُ خار، ثمَّ قَالَ السامري: ﴿هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي﴾ على مَا سَيَأْتِي فِي قصَّته فِي سُورَة طه، وَقيل: إِنَّه مَا خار إِلَّا مرّة، وَقيل كَانَ يخور كثيرا، كَمَا تخور الْبَقَرَة، وَكَانَ كلما خار سجدوا لَهُ، وَكلما سكت رفعوا رُءُوسهم.
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: لم تنْبت فِيهِ حَيَاة أصلا، وَلم يكن لَهُ خوار حَقِيقَة، وَإِنَّمَا الَّذِي سمعُوا من الخوار كَانَ بحيلة، وَالصَّحِيح هُوَ الأول. ثمَّ اخْتلفُوا فِي عدد الَّذين عبدُوا الْعجل، قَالَ الْحسن: كلهم عبدوه إِلَّا هَارُون وَحده، وَقيل: - وَهُوَ الْأَصَح -: عَبده كلهم إِلَّا هَارُون وَاثنا عشر ألف رجل مِنْهُم.
﴿ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا﴾ وَهَذَا دَلِيل على أَن الله مُتَكَلم لم يزل وَلَا يزَال؛ لِأَنَّهُ اسْتدلَّ بِعَدَمِ الْكَلَام من الْعجل على نفي الإلهية.
216
﴿وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا قَالُوا لَئِن لم يَرْحَمنَا رَبنَا وَيغْفر لنا لنكونن من الخاسرين (١٤٩) وَلما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا قَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي أعجلتم أَمر ربكُم وَألقى الألواح وَأخذ بِرَأْس أَخِيه يجره إِلَيْهِ قَالَ ابْن أم إِن الْقَوْم استضعفوني﴾
﴿وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا ﴿اتخذوه وَكَانُوا ظالمين﴾ بِوَضْع الإلهية فِي غير موضعهَا.
217
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما سقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا﴾ قَالَ الْفراء: تَقول الْعَرَب: سقط فلَان فِي يَده إِذا بَقِي نَادِما متحيرا على مَا فَاتَهُ، كَأَنَّهُ حصل النَّدَم فِي يَده ﴿قَالُوا لَئِن لم يَرْحَمنَا رَبنَا وَيغْفر لنا لنكونن من الخاسرين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا﴾ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: الأسف: شَدِيد الْغَضَب، وَقيل: الأسف: أَشد الْحزن، وَكَأن مُوسَى رَجَعَ نَادِما حَزينًا يَقُول: لَيْتَني كنت فيهم فَلم يَقع لَهُم مَا وَقع.
﴿قَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي﴾ أَي: (بئْسَمَا فَعلْتُمْ خَلْفي) ﴿أعجلتم أَمر ربكُم﴾ مَعْنَاهُ: أسبقتم أمرربكم، يَعْنِي: بفعلكم الَّذِي فَعلْتُمْ من غير أَمر ربكُم، وَقيل مَعْنَاهُ: استعجلتم وعد ربكُم.
﴿وَألقى الألواح﴾ وَكَانَ حَامِلا لَهَا، فألقاها على الأَرْض من شدَّة الْغَضَب، وَفِي التَّفْسِير: أَنه لما أَلْقَاهَا رَجَعَ بَعْضهَا إِلَى السَّمَاء وَبَقِي مِنْهَا لوحان، فَرجع مَا كَانَ فِيهِ أَخْبَار الْغَيْب، وَبَقِي مَا كَانَ فِيهِ الموعظة وَالْأَحْكَام من الْحَلَال وَالْحرَام، وَقيل: لما ألْقى الألواح انْكَسَرَ بَعْضهَا، فشدها مُوسَى بِالذَّهَب ﴿وَأخذ بِرَأْس أَخِيه﴾ يَعْنِي: هَارُون، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: وَأخذ بِشعر رَأس أَخِيه ﴿يجره إِلَيْهِ قَالَ ابْن أم﴾ يَعْنِي هَارُون قَالَ لمُوسَى: ابْن ام، وَيقْرَأ بِكَسْر الْمِيم ونصبها، فَأَما بِكَسْر الْمِيم مَعْنَاهُ يَا ابْن أُمِّي، قَالَ الشَّاعِر:
217
﴿وكادوا يقتلونني فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم لظالمين (١٥٠) قَالَ رب اغْفِر لي ولأخي وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِن الَّذين اتَّخذُوا الْعجل سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نجزي المفترين (١٥٢) ﴾
(يَا ابْن امي وَيَا شَقِيق نَفسِي أَنْت خلفتني لأمر كؤود)
واما بِنصب الْمِيم، فَوجه النصب فِيهِ أَن قَوْله: " ابْن ام " كلمتان، لكنهما ككلمة وَاحِدَة، مثل قَوْلهم: " حَضرمَوْت " و " بعلبك " ركب أحد الاسمين فِي الآخر، فَبَقيَ على النصب تبيينا.
﴿إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن هَارُون كَانَ لما مضى مِيقَات الثَّلَاثِينَ يقوم بَينهم خَطِيبًا، فيخطب كل يَوْم ويبكي، وَيَقُول: أنْشدكُمْ بِاللَّه لَا تعبدوا الْعجل، فَإِن مُوسَى رَاجع غَدا - إِن شَاءَ الله - فَهَكَذَا كَانَ يفعل ثَلَاثَة أَيَّام، فَلَمَّا لم يرجع بعد الثَّلَاث قَالُوا: إِنَّه قد مَاتَ، فخلوه، وَأَقْبلُوا على عبَادَة الْعجل، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء﴾ والشماتة فعل مَا يسر بِهِ الْعَدو ﴿وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين﴾ أَي: لَا تجعلني مَعَ الْكَافرين وَمن جُمْلَتهمْ.
218
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب اغْفِر لي ولأخي﴾ يَعْنِي مَا فعلت بأخي من أَخذ شعره، وجره، وَكَانَ بَرِيئًا، قَوْله: ﴿ولأخي﴾ يعين: مَا وَقع لَهُ من تَقْصِيره إِن قصر ﴿وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين اتَّخذُوا الْعجل﴾ فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: اتَّخذُوا الْعجل إِلَهًا ﴿سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ قيل: أَرَادَ بالذلة الْجِزْيَة، وَقيل: أَرَادَ قيل بَعضهم بَعْضًا مَعَ علمهمْ أَنهم قد ضلوا ﴿وَكَذَلِكَ نجزي المفترين﴾ أَي: كل مفتر على الله، وَمن القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: هَذَا فِي كل مُبْتَدع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
218
﴿وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (١٥٣) وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب أَخذ الألواح وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون (١٥٤) وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أخذتهم الرجفة قَالَ﴾
219
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا﴾ أَي: من بعد التَّوْبَة ﴿لغَفُور رَحِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب﴾ وَقَرَأَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة: " وَلما سكن عَن مُوسَى الْغَضَب " وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب: " وَلما سير عَن مُوسَى الْغَضَب " وَفِي مصحف حَفْصَة: " وَإِنَّمَا أسكت عَن مُوسَى الْغَضَب " وَمعنى الْكل وَاحِد أَي: سكن عَن مُوسَى الْغَضَب. وَالسُّكُوت والإسكات مَعْرُوف، وَيُقَال: رجل سكيت إِذا كَانَ كثير السُّكُوت.
﴿أَخذ الألواح﴾ وَذَلِكَ أَنه كَانَ أَلْقَاهَا فَأَخذهَا ﴿وَفِي نسختها﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بهَا الألواح؛ وَذَلِكَ أَن لَهَا أصل نسخت مِنْهُ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: إِن مُوسَى لما ألْقى الألواح انْكَسَرت، فنسخ مِنْهَا نُسْخَة أُخْرَى، فَذَلِك المُرَاد بِهِ من قَوْله: ﴿وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة﴾ أَي: هدى من الضَّلَالَة، وَرَحْمَة من الْعَذَاب ﴿للَّذين هم لرَبهم يرهبون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قومه﴾ فِيهِ حذف، أَي: من قومه ﴿سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا﴾ وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن كلهم لم يعبدوا الْعجل - وَهُوَ الْأَصَح - وَاخْتلفُوا أَنه لأي شَيْء اخْتَارَهُمْ؟ قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ ليعتذروا إِلَى الله من عبَادَة أُولَئِكَ الَّذين عبدُوا الْعجل، وَقيل: إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ ليسمعوا كَلَام الله؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوا ذَلِك مُوسَى ﴿فَلَمَّا أخذتهم الرجفة﴾ قَالَ مُجَاهِد: رجفت بهم الأَرْض؛ فماتوا، وَقيل: وَقعت رعدة وزلزلة فِي أعضائهم، حَتَّى كَاد ينْفَصل بَعْضهَا من بعض، وَقيل: إِنَّمَا أهلكهم عُقُوبَة على مَا سَأَلُوا من رُؤْيَة الله جهرة.
219
﴿رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين (١٥٥) واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة إِنَّا هدنا إِلَيْك قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من﴾
(قَالَ رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي) وَذَلِكَ أَن مُوسَى ظن أَن الله - تَعَالَى - إِنَّمَا أهلكهم بِعبَادة أُولَئِكَ الْقَوْم الْعجل، وَخَافَ أَن بني إِسْرَائِيل يَتَّهِمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: إِن مُوسَى قَتلهمْ؛ قَالَ: ﴿رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل﴾ يَعْنِي: عندعبادة الْعجل قبل أَن آتِي بهم ﴿وإياي﴾ بقتل القبطي الَّذِي كَانَ مُوسَى قَتله، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمَشِيئَة الأزلية، كَأَنَّهُ فوض إهلاكهم إِلَى مَشِيئَته، أَي: لَو شِئْت فِي الْأَزَل أهلكتهم وإياي وَمن فِي الْعَالم، فَلَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْك.
﴿أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا﴾ اخْتلفُوا فِيهِ أَنه كَيفَ قَالَ: أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا، وَكَانَ يعلم أَن الله - تَعَالَى - لَا يهْلك أحدا بذنب غَيره؟ فَقَالَ بَعضهم: هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْجحْد، وَهُوَ قَول ابْن الْأَنْبَارِي أَي: لَا تُهْلِكنَا بِفعل السُّفَهَاء، وَهَذَا مثل قَول الرجل لصَاحبه: أتجهل عَليّ وَأَنا أحلم؟ ! أَي: لَا أحلم، وَيُقَال فِي الْمثل: أغدة كَغُدَّة الْبَعِير؟ وَمَوْت فِي بَيت السلولية؟ أَي: لَا يكون هَذَا قطّ، وَقَالَ الشَّاعِر:
(أتنسى حِين تصقل عارضيها بِعُود بشامة سقِِي البشام)
أَي: لَا تنسى، وَقيل: هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِثْبَات، وَالْمرَاد مِنْهُ السُّؤَال، كَأَنَّهُ يسْأَله أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا؟.
﴿إِن هِيَ إِلَّا فتنتك﴾ أَي: بليتك ﴿تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين﴾.
220
قَوْله تَعَالَى: ﴿واكتب لنا﴾ أَي: أوجب لنا ﴿فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ وَهِي
220
﴿أَشَاء ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ (١٥٦) الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي﴾ النِّعْمَة والعافية ﴿وَفِي الْآخِرَة﴾ أَي: وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، فَحذف.
﴿إِنَّا هدنا إِلَيْك﴾ أَي: تبنا إِلَيْك، وَقَرَأَ أَبُو وجزة السَّعْدِيّ: " هدنا إِلَيْك " بِكَسْر الْهَاء، أَي: ملنا إِلَيْك ﴿قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء﴾ وَهَذَا على وفْق قَول أهل السّنة؛ فَإِن لله - تَعَالَى - أَن يُصِيب بعذابه من يَشَاء من عباده أذْنب أَو لم يُذنب، وصحف بعض الْقَدَرِيَّة، فَقَرَأَ: " عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَسَاءَ " من الْإِسَاءَة، وَلَيْسَ بِشَيْء.
﴿ورحمتي وسعت كل شَيْء﴾ قَالَ الْحسن وَقَتَادَة: وسعت رَحمته الْبر والفاجر فِي الدُّنْيَا، وَهِي لِلْمُتقين يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي الْآثَار: الرَّحْمَة مسجلة للبر والفاجر فِي الدُّنْيَا.
{فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ
221
الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي) وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة لهَذِهِ الْأمة، وَذَلِكَ أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - سَأَلَ أَن يكْتب الرَّحْمَة لَهُ ولأمته، فكتبها لأمة مُحَمَّد وَفِي الْأَخْبَار: " أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - قَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر، ويؤمنون بِاللَّه، فاجعلهم من أمتِي، قَالَ الله - تَعَالَى -: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة صَدَقَاتهمْ فِي بطونهم - يَعْنِي: يأكلها فقراؤهم، وَكَانَت صدقَات قومه وَمن قبلهم تأكلها النَّار - فاجعلهم من أمتِي، فَقَالَ - تَعَالَى -: تِلْكَ أمة احْمَد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة هم آخر النَّاس خُرُوجًا، وَأول النَّاس فِي الْجنَّة دُخُولا، فاجعلهم من أمتِي. فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ، يراعون الشَّمْس والأوقات لذكرك، فاجعلهم من أمتِي. فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد
221
﴿التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون (١٥٧) قل يَا أَيهَا﴾ فِي التَّوْرَاة أمة إِذا هم أحدهم بحسنة كتبتها لَهُ حَسَنَة، وَإِن عمل بهَا كتبتها لَهُ عشرا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَإِذا هم بسيئة لم تَكْتُبهَا (عَلَيْهِ)، فَإِن عمل بهَا كتبتها عَلَيْهِ وَاحِدَة، اجعلهم من أمتِي، فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَألْقى الألواح، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من أمة مُحَمَّد ". وَهَذَا قَول آخر، ذكر فِي سَبَب إلقائه الألواح، وَالْأول أظهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي﴾ هُوَ مُحَمَّد وَقد بَينا معنى الْأُمِّي فِيمَا سبق.
﴿الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا﴾ أَي: مَوْصُوفا ﴿عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات﴾ يَعْنِي: مَا حرمه الْكفَّار من السوائب والوصائل والبحائر والحوامي، وَنَحْو ذَلِك ﴿وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث﴾ وَذَلِكَ مثل: الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَنَحْوه ﴿وَيَضَع عَنْهُم إصرهم﴾ الإصر: كل مَا يثقل على الْإِنْسَان من قَول أَو فعل، والإصر: الْعَهْد الثقيل: وإصرهم: أَن الله - تَعَالَى - جعل تَوْبَتهمْ بِقَتْلِهِم أنفسهم ﴿والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم﴾ وَذَلِكَ مثل مَا كَانَ عَلَيْهِم من قرض مَوضِع النَّجَاسَة عَن الثَّوْب بالمقراض، وَلَا يجزئهم غسلهَا، وَأَنه كَانَ لَا تجوز صلَاتهم إِلَّا فِي الْكَنَائِس، وَأَنه لَا يجوز لَهُم أَخذ الدِّيَة عَن الْقَتِيل بل كَانَ يتَعَيَّن الْقصاص، وَكَانَ يجب عَلَيْهِم قطع الْجَوَارِح الْخَاطِئَة لَا يسعهم غير ذَلِك، فسماها أغلالا؛ لِأَنَّهَا كَانَت كالطوق فِي عنقهم.
﴿فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ﴾ أَي: بِمُحَمد ﴿وعزروه﴾ أَي: عظموه {ونصروه وَاتبعُوا
222
﴿النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يحيي وَيُمِيت فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤمن بِاللَّه وكلماته واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون (١٥٨) وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ (١٥٩) وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر﴾ النُّور الَّذِي أنزل مَعَه) وَهُوَ الْقُرْآن ﴿أُولَئِكَ هم المفلحون﴾.
223
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه لَا هُوَ يحيي وَيُمِيت فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤمن بِاللَّه وكلماته﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا يُؤمن بِاللَّه وَبِالْقُرْآنِ وَيقْرَأ: " وكلمته " قيل: هِيَ الْقُرْآن أَيْضا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِالْكَلِمَةِ: عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - ﴿واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ﴾ روى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هَؤُلَاءِ قوم بأقصى الشرق وَرَاء الصين عِنْد مطلع الشَّمْس، كَانُوا على شَرِيعَة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - إِلَى أَن بعث مُحَمَّد فَلَمَّا بعث مُحَمَّد آمنُوا بِهِ، وَكَانُوا على الْحق من لدن مُوسَى إِلَى زمَان مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَقيل: هم الَّذين أَسْلمُوا فِي زمن النَّبِي من الْيَهُود مثل (ابْن) صوريا، وَابْن سَلام، وَنَحْوهمَا، وَالْأول أظهر.
وَقَوله: ﴿وَبِه يعدلُونَ﴾ أَي: يقومُونَ بِالْحَقِّ وَالْعدْل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما﴾ أَي: فرقناهم فرقا، وَقَوله: ﴿اثْنَتَيْ عشرَة﴾ يُقَال فِي اللُّغَة: اثْنَتَيْ عشرَة بِكَسْر الشين وبجزم الشين، والجائز فِي الْقُرْآن بجزم الشين، فَإِن قيل: لم لم يقل: اثْنَي عشر أسباطا على التَّذْكِير؟ قيل: إِنَّمَا ذكره على التَّأْنِيث لِأَنَّهُ يرجع إِلَى الْأُمَم.
223
﴿فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا قد علم كل أنَاس مشربهم وظللنا عَلَيْهِم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (١٦٠) وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فبدل الَّذين ظلمُوا مِنْهُم قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ (١٦٢) ﴾
قَالُوا: وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها. وقطعناهم أسباطا أمما اثْنَتَيْ عشرَة، وَقيل فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة فرقة أسباطا أمما، فَيكون بَدَلا عَن الْفرْقَة، وَقد بَينا أَن الأسباط فِي بني إِسْحَاق كالقبائل فِي بني إِسْمَاعِيل، وأنشدوا فِي السبط:
(عَليّ وَالثَّلَاثَة من بنيه... هم الأسباط لَيْسَ بهم خَفَاء)
(فسبط سبط إِيمَان وبر... وسبط غيبته كربلاء)
أَي: كرب وبلاء.
﴿وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر﴾ وَقد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
﴿فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا﴾ أَي: انفجرت ﴿قد علم كل أنَاس مشربهم وظللنا عَلَيْهِم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ﴾ وَقد سبق تَفْسِيره فِي سُورَة الْبَقَرَة.
224
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطاياكم﴾ وَيقْرَأ: " خطيئاتكم " وَكِلَاهُمَا وَاحِد ﴿سنزيد الْمُحْسِنِينَ﴾ وَقد بَينا هَذَا أَيْضا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
﴿فبدل الَّذين ظلمُوا﴾ قد بَينا معنى هَذَا التبديل {مِنْهُم قولا غير الَّذِي قيل
224
﴿واسئلهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر إِذْ يعدون فِي السبت إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون (١٦٣) وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى﴾ لَهُم فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم رجزا من السَّمَاء) أَي عذَابا من السَّمَاء ﴿بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ﴾.
225
قَوْله تَعَالَى ﴿واسألهم عَن الْقرْيَة﴾ هَذَا سُؤال توبيخ وتقريع لَا سُؤال استعلام، وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْقرْيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الأيلة. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هِيَ طبرية الشَّام. وَقيل: إِنَّهَا مَدين ﴿الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر﴾ أَي: مجاورة الْبَحْر ﴿إِذْ يعدون فِي السبت﴾ أَي: يجاوزون أَمر الله فِي السبت، وَكَانَ الله - تَعَالَى - حرم عَلَيْهِم أَن يعملوا فِي السبت عملا سوى الْعِبَادَة.
﴿إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا﴾ أَي: ظَاهِرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمِنْه الشوارع لظهورها، وَقيل: هُوَ من الشُّرُوع، وَهُوَ الدُّخُول، فَيكون مَعْنَاهُ أَن تِلْكَ الْقرْيَة كَانَ بجنبها خليج الْبَحْر، فتدخله الْحيتَان يَوْم السبت وَلَا تدخله فِي سَائِر الْأَيَّام. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تأتيهم مثل الكباش السمان الْبيض يَوْم السبت تشرع إِلَى أَبْوَابهم، ثمَّ لَا يرى شَيْء مِنْهَا فِي غير يَوْم السبت فَذَلِك قَوْله: ﴿وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم﴾ وَقَرَأَ الْحسن: " لَا يسبتون " بِضَم الْيَاء، أَي: لَا يدْخلُونَ فِي السبت، وَالْمَعْرُوف: " لَا يسبتون " وَمَعْنَاهُ: لَا يعظمون السبت، يُقَال: (أسبت) إِذا دخل السبت، وسبت إِذا عظم السبت، يَعْنِي: وَيَوْم لَا يعظمون السبت ﴿لَا تأتيهم﴾ وعَلى قِرَاءَة الْحسن: وَيَوْم لَا يدْخلُونَ السبت لَا تأتيهم، وَكَانَ ذَلِك ابتلاء من الله - تَعَالَى - لَهُم كَمَا قَالَ: ﴿كَذَلِك نبلوهم﴾ أَي: نختبرهم ﴿بِمَا كَانُوا يفسقون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَنهم احْتَالُوا بحيلة الِاصْطِيَاد؛ فَكَانُوا يضعون الحبال يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى تقع فِيهَا الْحيتَان يَوْم السبت، ثمَّ يأخذونها يَوْم الْأَحَد، وَقيل: إِن الشَّيْطَان وسوس إِلَيْهِم أَن الله - تَعَالَى -
225
﴿ربكُم ولعلهم يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس بِمَا كَانُوا يفسقون (١٦٥) فَلَمَّا عتوا عَن مَا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم﴾ لم يَنْهَاكُم عَن الِاصْطِيَاد فِي هَذَا الْيَوْم وَإِنَّمَا نهاكم عَن الْأكل، فاصطادوا يَوْم السبت، ثمَّ افْتَرَقُوا على ثَلَاث فرق: فرقة اصطادت، وَفرْقَة نهت وَأمرت بِالْمَعْرُوفِ، وَفرْقَة سكتت؛ فَقَالَت الفرقتان للفرقة العاصية: لَا نساكنكم قَرْيَة عصيتم الله فِيهَا؛ فاعتزلنا الْقرْيَة وَخَرجُوا، فَلَمَّا أَصْبحُوا جَاءُوا إِلَى بَاب الْقرْيَة، فَلم يفتحوا لَهُم الْبَاب؛ فَجَاءُوا بسلم، فَلَمَّا صعدوا بالسلم، رَأَوْهُمْ قد مسخوا قردة، قَالَ قَتَادَة: كَانَت لَهُم أَذْنَاب يتعادون.
فَقَوله: ﴿وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم﴾ هِيَ الْفرْقَة الساكتة، قَالَت للفرقة الناهية: ﴿لم تعظون قوما﴾ يَعْنِي: الْفرْقَة العاصية ﴿الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى ربكُم﴾ أَي: موعظتنا معذرة، وَذَلِكَ أَنا قد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، فنأتهم هَذَا الْأَمر وَإِن لم يقبلُوا؛ حَتَّى يكون ذَلِك لنا عذرا عِنْد الله - تَعَالَى - وَيقْرَأ " معذرة " بِالنّصب، أَي: نعتذر معذرة إِلَى ربكُم ﴿ولعلهم يَتَّقُونَ﴾.
226
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ﴾ أَي: تركُوا مَا ذكرُوا بِهِ، قيل: كَانُوا يصطادون سَبْعَة أَيَّام، وَقيل: كَانُوا قد اصطادوا يَوْمًا وَاحِدًا.
﴿أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء﴾ يَعْنِي: الْفرْقَة الناهية ﴿وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس﴾ يَعْنِي: الْفرْقَة العاصية، فأخذناهم بِعَذَاب بئيس على وزن فعيل. وَبئسَ على وزن فعل، وَبئسَ على وزن فعلل، وَالْكل وَاحِد، وَمَعْنَاهُ: بِعَذَاب شَدِيد، قَالَ ابْن عَبَّاس: بِعَذَاب لَا رَحْمَة فِيهِ.
﴿بِمَا كَانُوا يفسقون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَدْرِي أَن الْفرْقَة العاصية قد هَلَكت، وَأَن الْفرْقَة الناهية قد نجت، وَلَا أَدْرِي مَا حَال الْفرْقَة الساكتة.
قَالَ عِكْرِمَة: مَا زلت أنزلهُ - يَعْنِي: من الْآيَات دَرَجَة دَرَجَة - وأبصره - يَعْنِي: ابْن عَبَّاس - حَتَّى قَالَ: نجت الْفرْقَة الساكتة، وكساني بذلك حلَّة. فَإِن عِكْرِمَة كَانَ
226
﴿كونُوا قردة خَاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذ تَأذن رَبك ليبْعَثن عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء الْعَذَاب إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم (١٦٧) وقطعناهم فِي الأَرْض أمما مِنْهُم الصالحون وَمِنْهُم دون ذَلِك وبلوناهم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات لَعَلَّهُم يرجعُونَ﴾ يكلمهُ فِي الْآيَة، ويستدل بظاهرها؛ حَتَّى ظهر الدَّلِيل لِابْنِ عَبَّاس على نجاة الْفرْقَة الساكتة، وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ فِي ظَاهر الْآيَة أَنه قَالَ: ﴿فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ﴾ وَتلك الْفرْقَة لم ينسوا ذَلِك، وَالثَّانِي أَنه قَالَ: ﴿أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء﴾ والفرقة الساكتة قد نهوا نهي تحذير بقَوْلهمْ: لم تعظون قوما الله مهلكهم.
وَالثَّالِث أَنه قَالَ: ﴿وأخذنا الَّذين ظلمُوا﴾ يَعْنِي: بالاصطياد يَوْم السبت؛ وهم مَا ظلمُوا بالاصطياد، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نجت الفرقتان، وَهَلَكت وَاحِدَة.
227
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا عتوا عَمَّا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ﴾ وَهَذَا أَمر تكوين، وَقَوله: ﴿خَاسِئِينَ﴾ أَي: مبعدين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ تَأذن رَبك﴾ أَي: أعلم رَبك، قَالَ الشَّاعِر:
(تَأذن إِن شَرّ النَّاس حَيّ يُنَادي من شعارهم يسَار)
وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: تألى رَبك وَحلف ﴿ليبْعَثن عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء الْعَذَاب﴾ أَي: يذيقهم سوء الْعَذَاب، وَهُوَ الْجِزْيَة، وَقيل: هُوَ قتل بخْتنصر إيَّاهُم فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يبْعَث عَلَيْهِم الْعَذَاب، وَقد أهلكهم؟ وَقيل: أَرَادَ بِهِ على أبنائهم، وَمن يَأْتِي بعدهمْ ﴿إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقطعناهم فِي الأَرْض أمما﴾ أَي: فرقناهم فرقا، وَمَعْنَاهُ: شتتنا أَمر الْيَهُود فَلَا يَجْتَمعُونَ على كلمة وَاحِدَة ﴿مِنْهُم الصالحون﴾ يَعْنِي: الَّذين أَسْلمُوا مِنْهُم ﴿وَمِنْهُم دون ذَلِك﴾ يَعْنِي الَّذين بقوا على الْكفْر.
﴿وبلوناهم﴾ أَي: اختبرناهم ﴿بِالْحَسَنَاتِ والسيئات﴾ أَي: بِالْخصْبِ والجدب وَالْخَيْر وَالشَّر ﴿لَعَلَّهُم يرجعُونَ﴾.
227
( ﴿١٦٨) فخلف من بعدهمْ خلف ورثوا لكتاب يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سيغفر لنا وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَن لَا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق ودرسوا مَا فِيهِ وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون (١٦٩) ﴾
228
قَوْله تَعَالَى: ﴿فخلف من بعدهمْ خلف﴾ اعْلَم أَن الْخلف يُقَال فِي الذَّم والمدح جَمِيعًا، لَكِن عِنْد الْإِطْلَاق الْخلف للمدح، وَالْخلف للذم، قَالَ الشَّاعِر:
(لنا لقدم الأولى إِلَيْك وخلفنا لأولنا فِي طَاعَة لله تَابع)
وَهَاهُنَا للذم، وَأَرَادَ بِهِ أَبنَاء الَّذين سبق ذكرهم من أَصْحَاب السبت ﴿ورثوا الْكتاب﴾ يَعْنِي: انْتقل إِلَيْهِم الْكتاب ﴿يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى﴾ أَي: حطام الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا سميت الدُّنْيَا دنيا؛ لِأَنَّهَا أدنى إِلَى الْخلق من الْآخِرَة؛ وَلذَلِك قَالَ: ( ﴿عرض هَذَا الْأَدْنَى﴾ وَيَقُولُونَ سيغفر لنا) وَهَذَا اغترار مِنْهُم بِاللَّه - تَعَالَى - وَفِي الحَدِيث: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت، والفاجر من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة " ﴿وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه﴾ قَالَ مُجَاهِد: وَصفهم بالإصرار على الذَّنب، وَقيل مَعْنَاهُ: إِنَّهُم يَأْخُذُونَ أخذا بعد أَخذ لَا يبالون من حَلَال كَانَ أَو من حرَام، بل يَأْخُذُونَ من غير تفتيش.
﴿ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَلا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق﴾ أَي: أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد أَلا يَقُولُوا على الله الْبَاطِل فِي التوارة ﴿ودسوا مَا فِيهِ﴾ أَي: علمُوا ذَلِك فِيهِ بالدرس، قَالَه الضَّحَّاك، ودرس الْكتاب: قِرَاءَته مرّة بعد أُخْرَى ﴿وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون﴾.
228
﴿وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين (١٧٠) وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة وظنوا أَنه وَاقع بهم خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (١٧١) وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم﴾
229
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة﴾ قيل: هَذَا فِي أمة مُحَمَّد وَقيل: هُوَ فِيمَن أسلم من الْيَهُود، يمسكون بِالْقُرْآنِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاة ﴿إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة﴾ نتقنا أَي: رفعنَا الْجَبَل فَوْقهم، وَقد ذكر هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة ﴿وظنوا أَنه وَاقع بهم﴾ يَعْنِي: وأيقنوا، وَالظَّن: الْيَقِين: وَقيل: غلب على ظنهم أَنه وَاقع بهم ﴿خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ وَقد ذكرنَا الْقِصَّة فِي سُورَة الْبَقَرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ﴾ فِي الْآيَة نوع إِشْكَال، وَشَرحهَا وتفسيرها فِي الْأَخْبَار، روى مَالك فِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَادِهِ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِن الله - تَعَالَى - مسح ظهر آدم، فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ، ثمَّ مسح ظهر آدم فاستخرج ذُرِّيَّة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل النَّار، وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ، فَقيل: يَا رَسُول الله، فَفِيمَ الْعَمَل إِذا؟ فَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - إِذا خلق للجنة أَهلا استعملهم بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يدخلهم الْجنَّة، وَإِذا خلق للنار خلقا استعملهم بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يدخلهم النَّار " وَالْمَعْرُوف وَالَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة الْمُفَسّرين فِي معنى الْآيَة أَن الله - تَعَالَى -
229
﴿أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين (١٧٢) أَو﴾ مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة بَيْضَاء كَهَيئَةِ الذَّر يتحركون، ثمَّ مسح صفحة ظهر آدم الْيُسْرَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة سَوْدَاء كَهَيئَةِ الذَّر، فَقَالَ: يَا آدم، هَؤُلَاءِ ذريتك، ثمَّ قَالَ لَهُم: ﴿أَلَسْت بربكم﴾ ؟ قَالُوا: بلَى، فَقَالَ للبيض: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة برحمتي وَلَا أُبَالِي، وهم أَصْحَاب الْيَمين، وَقَالَ للسود: هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي، وهم أَصْحَاب الشمَال، ثمَّ أعادهم جَمِيعًا فِي صلبه، فَأهل الْقُبُور محبوسون حَتَّى يخرج أهل الْمِيثَاق كلهم من أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء.
قَالَ الله تَعَالَى فِيمَن نقض الْعَهْد: ﴿وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد﴾ وروى أَبُو الْعَالِيَة عَن أبي بن كَعْب فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: جمعهم الله جَمِيعًا، فجعلهم أرواحا ثمَّ صورهم، ثمَّ استنطقهم، فَقَالَ: ﴿أَلَسْت بربكم﴾ ؟ قَالُوا: بلَى، شَهِدنَا أَنَّك رَبنَا وإلهنا، لَا رب لنا غَيْرك، قَالَ الله - تَعَالَى -: فَأرْسل إِلَيْكُم رُسُلِي، وَأنزل عَلَيْكُم كتبي، فَلَا تكذبوا رُسُلِي، وَصَدقُوا كَلَامي، فَإِنِّي سأنتقم مِمَّن أشرك وَلم يُؤمن بِي، فَأخذ عَهدهم وميثاقهم.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله استخرج ذُرِّيَّة آدم، فنثرهم بَين يَدي آدم، ثمَّ كَلمهمْ قبلا - أَي: عيَانًا - فَقَالَ: ﴿أَلَسْت بربكم﴾ ؟ قَالُوا: بلَى. وَقيل: جعل لَهُم عقولا يفهمون بهَا، وألسنة ينطقون بهَا، ثمَّ خاطبهم وألهمهم الْجَواب.
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين عَن عُلَمَاء السّلف: إِن الْكل قَالُوا: بلَى، لَكِن الْمُؤمنِينَ قَالُوا: بلَى طَوْعًا، وَقَالَ الْكَافِرُونَ كرها، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها﴾.
رَجعْنَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لما كَانَ الاستخراج من ظهر آدم، فَكيف قَالَ: {أَخذ رَبك من بني آدم من
230
﴿تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون (١٧٣) ﴾ ظُهُورهمْ) ؟ قَالَ بعض الْعلمَاء فِي جَوَابه: إِن الله - تَعَالَى - استخرجهم من صلب آدم على التَّرْتِيب الَّذِي يُخرجهُ من بني آدم من ظُهُورهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلذَلِك قَالَ: ﴿أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ﴾.
وَاعْلَم أَن الْمُعْتَزلَة تأولوا هَذِه الْآيَة، فَقَالُوا: أَرَادَ بِهِ الْأَخْذ من ظُهُور بني آدم على التَّرْتِيب الَّذِي مَضَت بِهِ السّنة من لدن آدم إِلَى فنَاء الْعَالم.
وَقَوله: ﴿وأشهدهم على أنفسهم﴾ يَعْنِي كَمَا نصب من دَلَائِل الْعُقُول الَّتِي تدل على كَونه رَبًّا، ويلجئهم إِلَى الْجَواب بقَوْلهمْ: بلَى، وأنكروا الْمِيثَاق. وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل، وَأما أهل السّنة مقرون بِيَوْم الْمِيثَاق، وَالْآيَة على مَا سبق ذكره.
﴿وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين﴾ وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: ﴿شَهِدنَا﴾ قل بَعضهم: هَذَا من قَول الله وَالْمَلَائِكَة قَالُوا: شَهِدنَا، وَقيل: هُوَ قَول المخاطبين، قَالُوا: بلَى شَهِدنَا، وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: أَن الله تَعَالَى قَالَ للْمَلَائكَة: اشْهَدُوا، فَقَالُوا: شَهِدنَا.
وَأما قَوْله تَعَالَى: ﴿أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة﴾ يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء، فَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فتقدير الْكَلَام: وأشهدهم على أنفسهم لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة: إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين، وَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فتقدير الْكَلَام: أخاطبكم أَلَسْت بربكم؟ لِئَلَّا تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة: إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين. فَإِن قَالَ قَائِل: الْحجَّة إِنَّمَا تلْزم فِي الدُّنْيَا إِذا رجعُوا عَن ذَلِك الْعَهْد الَّذِي كَانَ يَوْم الْمِيثَاق وَاحِد لَا يذكر ذَلِك الْمِيثَاق حَتَّى يكون بِالرُّجُوعِ معاندا، فَتلْزمهُ الْحجَّة، وَقيل: إِن الله - تَعَالَى - قد أوضح الدَّلَائِل ونصبها على وحدانيته، وَصدق قَوْله، وَقد أخبر عَن يَوْم الْمِيثَاق، وَهُوَ صَادِق فِي الْأَخْبَار، فَكل من نقض ذَلِك الْعَهْد كَانَ معاندا ولزقته الْحجَّة.
231
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل﴾ يَعْنِي: إِنَّمَا أخذت مَا أخذت
231
﴿وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولعلهم يرجعُونَ (١٧٤) واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ﴾ من الْعَهْد والميثاق عَلَيْكُم جَمِيعًا؛ لِئَلَّا تَقولُوا: ﴿إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ﴾ يَعْنِي: أَن الْجِنَايَة من الْآبَاء، وَكُنَّا أتباعا لَهُم؛ فيجعلوا لأَنْفُسِهِمْ حجَّة وعذرا عِنْد الله، وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن أَوْلَاد الْكفَّار يكونُونَ مَعَ الْكفَّار.
﴿أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون﴾ أَي: تأخذنا بِجِنَايَة آبَائِنَا المبطلين؟.
232
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولعلهم يرجعُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود: فِي بلعم بن باعور، وَيُقَال: بلعام بن باعر، كَانَ فِي مَدِينَة الجبارين، وَكَانَ مَعَه الِاسْم الْأَعْظَم، فَلَمَّا قصدهم مُوسَى بجنده، قَالُوا لبلعم: إِن مُوسَى رجل فِيهِ حِدة، فَادع الله حَتَّى يرد عَنَّا مُوسَى، وَقيل: إِن ملكهم دَعَاهُ إِلَى نَفسه وَقَالَ لَهُ ذَلِك، فَقَالَ بلعم: لَو فعلت ذَلِك ذهب ديني ودنياي، فألحوا عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا الله - تَعَالَى - فاستجيبت دَعوته، ورد عَنْهُم مُوسَى، وأوقعهم فِي التيه، فَلَمَّا وَقَعُوا فِي التيه، قَالَ مُوسَى: يَا رب بِمَ حبستنا فِي التيه؟ قَالَ: بِدُعَاء بلعم. قَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ فَكَمَا استجبت دَعوته فِينَا فاستجب دَعْوَتِي فِيهِ، ثمَّ دَعَا الله - تَعَالَى - حَتَّى ينْزع عَنهُ اسْمه الْأَعْظَم وَالْإِيمَان، فَفعل، وَقيل: نزع الله عَنهُ الِاسْم الْأَعْظَم وَالْإِيمَان، معاقبة لَهُ على مَا دَعَا، وَلم يكن ذَلِك بدعوة مُوسَى؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فانسلخ مِنْهَا﴾.
وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: الْآيَة فِي أُميَّة بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيّ كَانَ يطْلب الدّين قبل مبعث النَّبِي، وَكَانَ يطْمع أَن يكون نَبيا، فَلَمَّا بعث النَّبِي حسده وَكفر بِهِ، وَكَانَ أُميَّة صَاحب حِكْمَة وموعظة حَسَنَة.
وَقَالَ الْحسن: الْآيَة فِي منافقي الْيَهُود. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي نَبِي من الْأَنْبِيَاء بَعثه الله - تَعَالَى - إِلَى قومه، فرشاه قومه. وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال؛ لِأَن الله تَعَالَى يعْصم أنبياءه عَن مثل ذَلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - أَن الْآيَة فِي رجل من بني إِسْرَائِيل كَانَت لَهُ ثَلَاث دعوات مستجابة أعطَاهُ الله تَعَالَى ذَلِك، وَكَانَت لَهُ امْرَأَة
232
﴿مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين (١٧٥) وَلَو شِئْنَا لرفعناه وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون (١٧٦) سَاءَ مثلا الْقَوْم الَّذين﴾ دَمِيمَة؛ فَقَالَت لَهُ: ادْع الله أَن يَجْعَلنِي من أجمل نسَاء الْعَالم، فَدَعَا الله تَعَالَى فَاسْتَجَاب دَعوته؛ فتمردت واستعصت عَلَيْهِ؛ فَدَعَا الله تَعَالَى أَن يَجْعَلهَا كلبة؛ فَجعلت، فَقَالَ لَهُ بنوها: ادْع الله أَن يردهَا، فَدَعَا الله تَعَالَى فَعَادَت كَمَا كَانَت، فَذَهَبت فِيهَا دعواته الثَّلَاثَة، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ أظهر.
وَقَوله: ﴿فَأتبعهُ الشَّيْطَان﴾ أَي: أدْركهُ الشَّيْطَان، يُقَال: تبعه إِذا سَار فِي أَثَره، وَاتبعهُ إِذا أدْركهُ ﴿فَكَانَ من الغاوين﴾ أَي: من الضَّالّين.
233
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا﴾ أَي لرفعنا دَرَجَته ومنزلته بِتِلْكَ الْآيَات وأمتناه قبل أَن يكفر، وَقيل مَعْنَاهُ: لَو شِئْنَا [لحلنا] بَينه وَبَين الْكفْر ﴿وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض﴾ أَي: مَال إِلَى الدُّنْيَا، ﴿وَاتبع هَوَاهُ﴾ وَهَذِه أَشد آيَة فِي حق الْعلمَاء، وقلما يخلوا عَن أحد هذَيْن عَالم من الركون إِلَى الدُّنْيَا، ومتابعة الْهوى.
﴿فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث﴾ ضرب لَهُ مثلا بأخس حَيَوَان فِي أخس الْحَال؛ فَإِنَّهُ ضرب لَهُ الْمثل بالكلب لاهثا، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنَّك إِن حملت على الْكَلْب وطردته يَلْهَث، وَإِن تتركه يَلْهَث، فَكَذَلِك الْكَافِر، إِن وعظته وزجرته فَهُوَ ضال، وَإِن تركته فَهُوَ ضال، واللهث: إدلاع اللِّسَان.
﴿ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا﴾ ضرب الْمثل ثمَّ بَين أَنه مثل ذَلِك (الَّذِي) سبق ذكره، وَقيل: هَذَا كُله ضرب مثل للْكفَّار مَكَّة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يتمنون أَن يكون مِنْهُم بني، فَلَمَّا بعث النَّبِي حسدوه وَكَفرُوا؛ فَكَانُوا كفَّارًا قبل بعثته وكفارا (بعد بعثته) ﴿فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون﴾.
233
﴿كذبُوا بِآيَاتِنَا وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ (١٧٧) من يهد الله فَهُوَ الْمُهْتَدي وَمن يضلل فَأُولَئِك هم الخاسرون (١٧٨) وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا﴾
234
قَوْله تَعَالَى ﴿سَاءَ مثلا الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أَي: بئس الْمثل مثلا الْقَوْم ( ﴿وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ﴾
من يهد الله) أَي: من يهده الله ﴿فَهُوَ المهتد وَمن يضلل﴾ أَي: وَمن يضلله الله ﴿فَأُولَئِك هم الخاسرون﴾ وَهَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة؛ حَيْثُ نسب الْهِدَايَة والضلالة إِلَى فعله من غير سَبَب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس﴾ أَي: خلقنَا لِجَهَنَّم كثيرا، وَهَذَا على وفْق قَول أهل السّنة، وروت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة، وَخلق لَهَا أَهلا؛ خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب بائهم، وَخلق النَّار، وَخلق لَهَا أَهلهَا، خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم " وَهَذَا فِي الصَّحِيح، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وَأَسْمَاء قبائلهم، وَخلق النَّار، وَخلق لَهَا أَهلا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وَأَسْمَاء قبائلهم - وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيح - لَا يُزَاد فيهم وَلَا ينقص " وَقيل معنى قَوْله: ﴿وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم﴾ أَي: ذرأناهم، وعاقبة أَمرهم إِلَى جَهَنَّم، وَاللَّام لَام الْعَاقِبَة، وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل:
(يَا أم سليم فَلَا تجزء عَن فللموت مَا تَلد الوالدة)
وَقَالَ آخر:
234
﴿يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون (١٧٩) وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾
وَالْأول أصح، وَأقرب إِلَى مَذْهَب أهل السّنة، وَقَوله: ﴿لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنهم لما لم يفقهوا بقلوبهم مَا انتفعوا بِهِ، وَلم يبصروا بأعينهم، وَلم يسمعوا بآذانهم؛ مَا انتفعوا بِهِ؛ فكأنهم لَا يفقهُونَ وَلَا يبصرون وَلَا يسمعُونَ شَيْئا، وَهَذَا كَمَا قَالَ مِسْكين الدَّارِيّ:
(وللموت تغذوا الوالدات سخالها كَمَا لخراب الدَّهْر تبنى المساكن)
(أعمى إِذا مَا جارتي برزت حَتَّى توارى جارتي الخدر)
(أَصمّ عَمَّا كَانَ بَينهمَا سَمْعِي وَمَا بِالسَّمْعِ من وقر)
﴿أُولَئِكَ كالأنعام﴾ يَعْنِي: فِي أَن همتهم من الدُّنْيَا الْأكل والتمتع بالشهوات ﴿بل هم أضلّ﴾ وَذَلِكَ أَن الْأَنْعَام تميز بَين المضار وَالْمَنَافِع، وَأُولَئِكَ لَا يميزون مَا يضرهم عَمَّا يَنْفَعهُمْ ﴿أُولَئِكَ هم الغافلون﴾.
235
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا﴾ الْأَسْمَاء الْحسنى هِيَ مَا وَردت فِي الْخَبَر، روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما - مائَة غير وَاحِد - من أحصاها دخل الْجنَّة "، وَقَوله: ﴿الْحسنى﴾ يرجع إِلَى التسميات، وَقَوله ﴿فَادعوهُ بهَا﴾ وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: يَا عَزِيز، يَا رَحْمَن، وَنَحْو هَذَا، وَاعْلَم أَن أَسمَاء الله تَعَالَى على التَّوْقِيف؛ فَإِنَّهُ يُسمى جوادا وَلَا يُسمى سخيا، وَإِن كَانَ فِي معنى الْجواد، وَيُسمى رحِيما وَلَا يُسمى رَقِيقا، وَيُسمى عَالما وَلَا يُسمى عَاقِلا، وعَلى هَذَا لَا يُقَال: يَا خَادع، يَا مكار، وَإِن ورد فِي الْقُرْآن ( ﴿يخادعون الله وَهُوَ خادعهم﴾ ويمكرون ويمكر الله) لَكِن لما لم يرد الشَّرْع بتسميته بِهِ لم يجز ذَلِك لَهُ.
﴿وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ﴾ قَالَ يَعْقُوب بن السّكيت صَاحب الْإِصْلَاح:
235
﴿وَبِه يعدلُونَ (١٨١) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ (١٨٢) وأملي لَهُم إِن كيدي متين (١٨٣) أَو لم يتفكروا مَا بِصَاحِبِهِمْ من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير﴾ الْإِلْحَاد: هُوَ الْميل عَن الْحق، وَإِدْخَال مَا لَيْسَ فِي الدّين، قيل: والإلحاد فِي الْأَسْمَاء هَاهُنَا: كَانُوا يَقُولُونَ فِي مُقَابلَة اسْم الله: اللآت، وَفِي مُقَابلَة الْعَزِيز: الْعُزَّى، وَمَنَاة فِي مُقَابلَة المنان، وَقيل: هُوَ تسميتهم الْأَصْنَام آلِهَة، وَهَذَا أعظم الْإِلْحَاد فِي الْأَسْمَاء، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾.
236
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ﴾ روى قَتَادَة مُرْسلا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هَؤُلَاءِ من هَذِه الْأمة، وَقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ " وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قوم مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ﴾ قَالَ الْأَزْهَرِي: الاستدراج: هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَمِنْه درج الْكتاب، وَقيل: الاستدراج من الله هُوَ أَن العَبْد كلما ازْدَادَ مَعْصِيّة زَاده الله - تَعَالَى - نعْمَة، وَقيل: هُوَ أَن يكثر عَلَيْهِ النعم وينسيه الشُّكْر، ثمَّ يَأْخُذهُ بَغْتَة؛ فَهَذَا هُوَ الاستدراج من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأملي لَهُم﴾ أَي: أمْهل لَهُم وأؤخر لَهُم ﴿إِن كيدي متين﴾ أَي: شَدِيد.
قَوْله تَعَالَى ﴿أَو لم يتفكروا مَا بِصَاحِبِهِمْ من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير مُبين﴾ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رُوِيَ: " أَن النَّبِي ذَات لَيْلَة صعد الصَّفَا، وَهُوَ يُنَادي طول اللَّيْل: يَا بني فلَان، يَا بني فلَان، إِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا قد جن، يَصِيح طول اللَّيْل؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة " ﴿أَو لم يتفكروا﴾ " يَعْنِي: فِي حَال مُحَمَّد أَنه لَا يَلِيق بِحَالهِ الْجُنُون.
236
{مُبين (١٨٤) أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا خلق الله من شَيْء وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ (١٨٥) من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون (١٨٦) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا إِلَّا هُوَ ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (١٨٧)
237
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ يَعْنِي: استدلوا بهَا على وحدانية الله تَعَالَى ﴿وَمَا خلق الله من شَيْء﴾ أَي: أَو لم ينْظرُوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء ﴿وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم﴾ يَعْنِي: لَعَلَّ قد اقْترب أَجلهم فيموتوا قبل أَن يُؤمنُوا ﴿فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ﴾ أَي: بِأَيّ نَبِي بعد مُحَمَّد، وَبِأَيِّ كتاب بعد كتاب مُحَمَّد يُؤمنُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من يضلل الله﴾ أَي: من يضلله الله ﴿فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون﴾ أَي: فِي غلوهم فِي الْبَاطِل ﴿يعمهون﴾ يتحيرون ويترددون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها﴾ أَي: مثبتها، يُقَال: أرسى، أَي: أثبت، وَمَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة مَتى قِيَامهَا ﴿قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا﴾ لَا يظهرها لوَقْتهَا ( ﴿إِلَّا هُوَ﴾ ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض) أَي: خَفِي علمهَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَكَأَنَّمَا ثقلت، وكل خَفِي ثقيل، وَمَعْنَاهُ: ثقيل وصفهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ بِمَا يكون فِيهَا من تكوير الشَّمْس وَالْقَمَر، وتكوير النُّجُوم، وتسيير الْجبَال، وطي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقيل مَعْنَاهُ: عظم وُقُوعهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
﴿لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة.
﴿يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا﴾ أَي كَأَنَّك مسرور بسؤالهم عَنْهَا، يُقَال: تحفيت فلَانا فِي الْمَسْأَلَة إِذا سَأَلته وأظهرت السرُور فِي سؤالك، فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة:
237
﴿قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا فَلَمَّا تغشاها حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ﴾ يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنَّك حفي بسؤالهم، وَقيل مَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا أَي: عَالم بهَا، يُقَال: أحفيت فلَانا، إِذا مَا بالغت فِي الْمَسْأَلَة عَنهُ حَتَّى علمت، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: كَأَنَّك حفي عَنْهَا، أَي: كَأَنَّك بالغت فِي السُّؤَال عَنْهَا، حَتَّى علمت ﴿قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾.
238
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم الخصب من الجدب لأعددت من الخصب للجدب وَمَا مسني الْجُوع، قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ ابْن جريج: مَعْنَاهُ: لَو كنت أعلم مَتى أَمُوت لاستكثرت من الْخيرَات والطاعات، وَمَا مسني السوء أَي: مَا بِي جُنُون؛ لأَنهم كَانُوا نسبوه إِلَى الْجُنُون.
القَوْل الثَّالِث: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم مَتى السَّاعَة لأخبرتكم بقيامها حَتَّى تؤمنوا، وَمَا مسني السوء يَعْنِي: بتكذيبكم ﴿إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة﴾ يَعْنِي: آدم ﴿وَجعل مِنْهَا زَوجهَا﴾ يَعْنِي: حَوَّاء ( ﴿ليسكن إِلَيْهَا﴾ فَلَمَّا تغشاها) أَي: وَطئهَا، والغشيان أحسن كِنَايَة عَن الْوَطْء، يُقَال: تغشاها وتخللها، إِذا وَطئهَا.
﴿حملت حملا خَفِيفا﴾ هُوَ أول مَا تحمل الْمَرْأَة من النُّطْفَة ﴿فمرت بِهِ﴾ وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " فمرت بِهِ " خَفِيفا من المرية أَي: شكت، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " فمارت بِهِ: " أَي: تحركت بِهِ من المور، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فاستمرت بِهِ " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَمَعْنَاهُ: فمرت بِالْحملِ حَتَّى قَامَت وَقَعَدت وَدخلت وَخرجت، وَقيل: هُوَ مقلوب، وَتَقْدِيره فَمر الْحمل بهَا حَتَّى قَامَت وَقَعَدت ﴿فَلَمَّا أثقلت﴾ أَي: حَان
238
﴿فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما لَئِن آتيتنا صَالحا لنكونن من الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهما﴾ وَقت الْولادَة ﴿دعوا الله ربهما﴾.
وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْلِيس جَاءَ إِلَى حَوَّاء حِين حبلت، وَقَالَ لَهَا: أَتَدْرِينَ مَا فِي بَطْنك؟ قَالَت: لَا. فَقَالَ: لَعَلَّه بَهِيمَة، وَإِنِّي أخْشَى أَن تكون لَهَا قرنان تشق بهما بَطْنك؛ فخافت حَوَّاء، وَجَلَست حزينة، ثمَّ عَاد إِلَيْهَا اللعين، وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن أَدْعُو الله تَعَالَى حَتَّى يَجعله إنْسَانا متكلما؟ قَالَت: نعم. إِنِّي قد وسوست إلَيْكُمَا مرّة فأطيعاني حَتَّى أَدْعُو، فَقَالَت: مَاذَا نصْنَع؟ قَالَ اللعين: إِذا ولدت تسميه عبد الْحَارِث - وَكَانَ اسْم إِبْلِيس من قبل الْحَارِث - فَذكرت ذَلِك لآدَم، فتوافقا على ذَلِك، فَلَمَّا ولدت سمياه عبد الْحَارِث، وَقيل: إِنَّهَا ولدت مرّة فسمياه عبد الله فَمَاتَ، ثمَّ ولدت ولد آخر فسمياه عبد الله فَمَاتَ، فجَاء اللعين، وَقَالَ: أما علمتما أَن الله تَعَالَى لَا يدع عَبده عندكما، فَإِذا ولدت ولدا فَسَمِّيهِ عبد الْحَارِث، حَتَّى يحيا، فَلَمَّا ولدت الثَّالِث سمياه عبد الْحَارِث فَعَاشَ وَحيا.
وَفِي الْخَبَر: قَالَ النَّبِي: " خدعهما إِبْلِيس مرَّتَيْنِ: مرّة فِي الْجنَّة، وَمرَّة فِي الأَرْض " وَأَرَادَ بِهِ هَذَا ". قَوْله ﴿فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما﴾ يَعْنِي: آدم وحواء ﴿لَئِن آتيتنا صَالحا﴾ أَي: ولدا سوى الْخلق، إِذْ كَانَا [يدعوان] أَن يَجعله الله إنْسَانا مثلهمَا خوفًا من وَسْوَسَة إِبْلِيس ( ﴿لنكونن من الشَّاكِرِينَ﴾
239
فَلَمَّا آتاهما صَالحا) أَي: سوى الْخلق ﴿جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما﴾ يَعْنِي سمياه عبد الْحَارِث، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: ﴿جعلا لَهُ شُرَكَاء﴾ وآدَم كَانَ نَبيا مَعْصُوما عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه؟
قيل: لم يكن هَذَا إشراكا فِي التَّوْحِيد، وَإِنَّمَا ذَلِك إشراك فِي الِاسْم، وَذَلِكَ لَا يقْدَح فِي التَّوْحِيد، وَهُوَ مثل تَسْمِيَة الرجل وَلَده عبد يَغُوث وَعبد زيد وَعبد عَمْرو، وَقَول الرجل لصَاحبه: أَنا عَبدك، وعَلى ذَلِك قَول يُوسُف - صلوَات الله عَلَيْهِ -: ﴿إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي﴾ وَمثل هَذَا لَا يقْدَح، وَأما قَوْله: ﴿فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ﴾
239
﴿صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ (١٩٠) أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون (١٩١) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (١٩٢) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون (١٩٣) إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ ابْتِدَاء كَلَام بعد الأول، وَأَرَادَ بِهِ: إشراك أهل مَكَّة، وَلَئِن أَرَادَ بِهِ الْإِشْرَاك الَّذِي سبق استقام الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ كَانَ الأولى أَلا يفعل مَا أَتَى بِهِ من الْإِشْرَاك فِي الِاسْم، وَكَانَ ذَلِك زلَّة مِنْهُ، فَلذَلِك قَالَ: ﴿فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ﴾ وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن هَذَا فِي جَمِيع بني آدم. قَالَ عِكْرِمَة: وَكَأن الله يُخَاطب بِهِ كل وَاحِد من الْخلق بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة﴾ يَعْنِي: خلق كل وَاحِد من أَبِيه ﴿وَجعل مِنْهَا زَوجهَا﴾ أَي: جعل من جِنْسهَا زَوجهَا ﴿ليسكن إِلَيْهَا﴾ يَعْنِي: كل زوج إِلَى زَوجته ﴿فَلَمَّا تغشاها﴾ أَي: وَطئهَا ﴿حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ﴾ وَهَذَا قَول حسن فِي الْآيَة.
وَقيل: إِنَّمَا عبر بِآدَم وحواء عَن جَمِيع أولادهما؛ لِأَنَّهُمَا أصل الْكل، وَالْأول أشهر وَأظْهر، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَسَعِيد بن جُبَير. وَجَمَاعَة الْمُفَسّرين كلهم قَالُوا: إِن الْآيَة فِي آدم وحواء كَمَا بَينا.
240
قَوْله تَعَالَى: ﴿أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَام لَا يخلقون شَيْئا بل هم مخلوقون
﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا﴾ أَي: منعا ﴿وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم﴾ هَذَا فِي قوم مخصوصين علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ ﴿سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون﴾ أَي: سَوَاء دعوتموهم أَو لم تدعوهم لَا يُؤمنُونَ)
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تكون الْأَصْنَام عبادا أمثالنا؟ قيل: قَالَ مقَاتل: أَرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَة. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا
240
( ﴿١٩٤) ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون (١٩٥) إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين (١٩٦) وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الشَّيَاطِين. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا يعْبدُونَ الكهنة وَالشَّيَاطِين، وَالصَّحِيح أَنه فِي الْأَصْنَام، وهم عباد أَمْثَال النَّاس فِي الْعِبَادَة، وعبادتهم التَّسْبِيح، وللجمادات تَسْبِيح كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. ﴿وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ﴾ وَقَوله ﴿أمثالكم﴾ يَعْنِي: أَن الْأَصْنَام مذللون مسخرون لما أُرِيد مِنْهُم مثلكُمْ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم﴾ وَمَعْنَاهُ: أمثالكم فِي شَيْء دون شَيْء كَذَلِك هَاهُنَا وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: ﴿أمثالكم﴾ لأَنهم صوروها على صُورَة الْأَحْيَاء، وطلبوا مِنْهَا مَا يطْلب من الْأَحْيَاء.
﴿فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ وَهَذَا لبَيَان عجزهم، ثمَّ أكده فَقَالَ:
241
﴿ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا﴾ وَذَلِكَ أَن قدرَة المخلوقين إِنَّمَا تكون بِهَذِهِ الْآلَات والجوارح، وَلَيْسَت لَهُم تِلْكَ الْآلَات، بل أَنْتُم أكبر قدرَة مِنْهُم لوُجُود هَذِه الْأَشْيَاء فِيكُم.
﴿قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون﴾ أَي: فَلَا تمهلون.
قَوْله تَعَالَى: (إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب) يَعْنِي: ناصري ومعيني الله الَّذِي نزل الْكتاب، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " إِن ولي الله " بِكَسْر الْهَاء، وَمَعْنَاهُ: جِبْرِيل ولي الله الَّذِي نزل الْكتاب أَي: نزل بِالْكتاب ﴿وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين﴾ يَعْنِي: جِبْرِيل ولي الصَّالِحين، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل﴾.
قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ نصركم وَلَا أنفسهم
241
﴿نصركم وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (١٩٧) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون (١٩٨) خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ واعرض عَن الْجَاهِلين﴾ ينْصرُونَ) وَهَذَا لبَيَان عجزهم أَيْضا
242
﴿وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَام ﴿وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر النّظر من الْأَصْنَام؟ قَالَ الْكسَائي: تَقول الْعَرَب: دَاري تنظر إِلَى دَار فلَان، إِذا كَانَت مُقَابلَة لما، فَكَذَلِك قَوْله: ﴿وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك﴾ يَعْنِي: نظر الْمُقَابلَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين﴾ روى: " أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة، قَالَ: يَا رَسُول الله، أَتَيْتُك بمكارم الْأَخْلَاق، فروى أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أسأَل رَبِّي، ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ: صل من قَطعك، وَأعْطِ من حَرمك واعف عَن من ظلمك ".
ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْعَفو، فَقَالَ عَطاء: هُوَ الْفضل من أَمْوَال النَّاس. وَكَانَ فِي الِابْتِدَاء يجب التَّصَدُّق بِمَا فضل من الْحَاجَات، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الزَّكَاة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو﴾ وَقَالَ ابْن الزبير: الْعَفو: مَا تيَسّر من أَخْلَاق النَّاس، أَي: خُذ الميسور من أَخْلَاق النَّاس مثل: قبُول الِاعْتِذَار، وَالْعَفو والمساهلة فِي الْأُمُور، وَترك الْبَحْث عَن الْأَشْيَاء وَنَحْو ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَأمر بِالْعرْفِ﴾ هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مَا يعرفهُ الشَّرْع.
وَقَوله: ﴿وَأعْرض عَن الْجَاهِلين﴾ يَعْنِي: إِذا سفه عَلَيْك الْجَاهِل فَلَا تكافئه وَلَا تقابله بالسفه، وَذَلِكَ مثل قَوْله: ﴿وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما﴾ وَذَلِكَ
242
( ﴿١٩٩) وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم (٢٠٠) إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون (٢٠١) وإخوانهم يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون (٢٠٢) وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها قل إِنَّمَا﴾ سَلام الْمُنَازعَة، قَالَ: ﴿وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما﴾ يَعْنِي: أكْرمُوا أنفسهم عَن الْخَوْض فِيهِ.
وروى أَن عُيَيْنَة بن حصن - وَكَانَ سيد غطفان - لما قدم الْمَدِينَة قَالَ للْحرّ بن قيس: لَك وَجه عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ فَاسْتَأْذن لي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذن لَهُ فَدخل على عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ: إِنَّك لَا تقضي فِينَا بِالْحَقِّ، وَلَا تقسم فِينَا بِالْعَدْلِ، فَغَضب عمر وهم أَن يُؤَدِّيه، فَقَالَ الْحر بن قيس: إِن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَأعْرض عَن الْجَاهِلين﴾ وَهَذَا من الْجَاهِلين، فَسكت عمر - رَضِي الله عَنهُ -.
243
قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ﴾ النزغ من الشَّيْطَان: الوسوسة ﴿فاستعذ بِاللَّه﴾ أَي: استجر بِاللَّه ﴿إِنَّه سميع عليم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طيف من الشَّيْطَان﴾ وتقرأ: " طائف " ومعناهما وَاحِد.
قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْغَضَب. وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ الوسوسة. وأصل الطيف: الْجُنُون.
﴿تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون﴾ وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم إِذا وسوسهم الشَّيْطَان بالمعصية ذكرُوا عِقَاب الله؛ فَإِذا هم كافون عَن الْمعْصِيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: ذكرُوا الله؛ فَإِذا هم يبصرون الْحق عَن الْبَاطِل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وإخوانهم﴾ أَي: أشباههم من الشَّيَاطِين ﴿يمدونهم﴾ أَي: يردونهم ﴿فِي الغي﴾ فِي الضَّلَالَة ﴿ثمَّ لَا يقصرون﴾ أَي: لَا يكفون.
243
﴿أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (٢٠٤) وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا﴾
244
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبتها﴾ كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي الْآيَات (تعنتا) ويستكثرون مِنْهَا، فَإِذا لم يقْرَأ عَلَيْهِم آيَة قَالُوا: لَوْلَا اجتبيتها، أَي: هلا اختلقتها وقلتها من تِلْقَاء نَفسك. قَالَ: ﴿قل إِنَّمَا أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون﴾ قَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ، وَالنَّخَعِيّ: هَذَا فِي الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة. وَقَالَ عَطاء وَمُجاهد: هُوَ فِي الْخطْبَة. وَلم يرْضوا من مُجَاهِد هَذَا القَوْل؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالْجُمُعَة إِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَن الِاسْتِمَاع فِي جَمِيع الْخطْبَة وَاجِب، وَلَا يخْتَص بِالْقِرَاءَةِ فِي الْخطْبَة. فَالْأول أصح.
وَلَيْسَ لمن يرى ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام مستدل (فِي الْآيَة) ؛ لِأَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام لَا تنَافِي الِاسْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ يتبع سكتات الإِمَام، وَلِأَن الْآيَة فِيمَا وَرَاء الْفَاتِحَة؛ بِدَلِيل حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كُنْتُم خَلْفي فَلَا تقرءوا إِلَّا بِأم الْقُرْآن ".
وَفِي الْآيَة: قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَه أَبُو هُرَيْرَة. وَهَذَا قَول حسن.
قَوْله تَعَالَى ﴿وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخيفه﴾ قيل: هَذَا فِي الدُّعَاء أَي: ادْع الله بالتضرع والخيفه. وَقيل: هُوَ فِي صَلَاة السِّرّ.
244
﴿وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَلَا تكن من الغافلين (٢٠٥) إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ (٢٠٦).
{وَدون الْجَهْر من القَوْل﴾
أَرَادَ بِهِ: فِي صَلَاة الْجَهْر لَا تجْهر جَهرا شَدِيدا ﴿بِالْغُدُوِّ والأصال﴾ فالغدو: أَوَائِل النَّهَار، وَالْآصَال: أَوَاخِر النَّهَار ﴿وَلَا تكن من الغافلين﴾ عَن ذكر الله.
245
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين عِنْد رَبك﴾ يَعْنِي: الْمَلَائِكَة؛ ذكرهم بالتقريب والكرامة ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ﴾ يَعْنِي: إِن كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبَادَة الله تَعَالَى؛ فَالَّذِينَ عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا.
وَقد ورد فِي السُّجُود أَخْبَار مِنْهَا: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا سجد ابْن آدم؛ اعتزل الشَّيْطَان يبكي، وَيَقُول: يَا ويلاه، أَمر ابْن آدم بِالسُّجُود فَسجدَ؛ فَلهُ الْجنَّة، وَأمرت بِالسُّجُود فأبيت؛ فلي النَّار ".
وَفِي حَدِيث ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ: " أَنه أَتَى النَّبِي بوضوئه لِحَاجَتِهِ فَقَالَ: سلني. فَقلت: أُرِيد مرافقتك فِي الْجنَّة، فَقَالَ: أَو غير ذَلِك؟ فَقلت: هُوَ ذَاك، فَقَالَ: أَعنِي على نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى أَبُو فَاطِمَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من عبد يسْجد لله سَجْدَة؛ إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة ". وَالله أعلم.
245

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم وَأَطيعُوا﴾
تَفْسِير سُورَة الْأَنْفَال
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: سُورَة الْأَنْفَال مَدَنِيَّة إِلَّا سبع آيَات؛ وَذَلِكَ من قَوْله: ﴿وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا﴾ إِلَى آخر الْآيَات السَّبع؛ فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة، وَأكْثر السُّورَة فِي غَزْوَة بدر.
246
Icon