تفسير سورة الأعراف

تفسير المنار
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير المنار المعروف بـتفسير المنار .
لمؤلفه محمد رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ

(المص) هَذِهِ حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الرَّسْمِ بِشَكْلِ كَلِمَةٍ ذَاتِ أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكِنَّهَا تُقْرَأُ بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ سَاكِنَةً هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، صَادْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ غَيْرُ مُسَمَّى تِلْكَ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ هِيَ تَنْبِيهُ السَّامِعِ إِلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الصَّوْتِ مِنَ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَهِيَ كَأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ " أَلَا " وَ " هَاءِ " التَّنْبِيهِ. وَإِنَّمَا خُصَّتْ سُوَرٌ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الطُّوَلِ وَالْمِئِينَ الْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُوهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ لِدَعْوَتِهِمْ بِهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ - وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ فِيهِمَا مُوَجَّهَةً إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - وَكُلُّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ إِلَّا سُورَةَ مَرْيَمَ وَسُورَتَيِ
الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَسُورَةَ (ن). وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّوَرِ يَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ.
فَأَمَّا سُورَةُ مَرْيَمَ فَقَدْ فُصِّلَتْ فِيهَا قِصَّتُهَا بَعْدَ قِصَّةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا الْمُشَابِهَةِ لَهَا. وَيَتْلُوهُمَا ذِكْرُ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ مَبْدُوءًا كُلٌّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَعِيسَى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ تَفْصِيلِ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ بَعْدَ سَرْدِ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٢: ١٠٢) وَخُتِمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " أَيْ سُورَةُ مَرْيَمَ " بِإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ اتِّخَاذِ اللهِ تَعَالَى لِلْوَلَدِ، وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَهِيَ بِمَعْنَى سَائِرِ السُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ تُتْلَى لِلدَّعْوَةِ وَيُقْصَدُ بِهَا إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَصِدْقِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ.
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةُ الرُّومِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدِ افْتُتِحَتْ بَعْدَ (الم) بِذِكْرِ أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدَّعْوَةِ. فَالْأَوَّلُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ إِيذَاءُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ وَاضْطِهَادُهُمْ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ. كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُطْفِئُونَ نُورَ الْإِسْلَامِ وَيُبْطِلُونَ دَعْوَتَهُ بِفِتْنَتِهِمْ لِلسَّابِقِينَ إِلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ
262
لَا نَاصِرَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ بِحَمِيَّةِ نَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ وَكَانَ الْمُضْطَهَدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَجْهَلُونَ حِكْمَةَ اللهِ بِظُهُورِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ يَمْتَازُ بِهَا الصَّادِقُونَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ. فَكَانَتِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُفْتَتَحَ بِالْحُرُوفِ الْمُنَبِّهَةِ لِمَا بَعْدَهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةُ الرُّومِ هُوَ الْإِنْبَاءُ بِأَمْرٍ وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا يَكُنْ وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى قَوْمِهِ - وَبِمَا سَيَعْقُبُهُ مِمَّا هُوَ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ ذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ فَارِسَ غَلَبَتْ دَوْلَةَ الرُّومِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ قَدْ طَالَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمَا فَأَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ سَيَدُولُ وَتَغْلِبُ الرُّومُ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ
سِنِينَ. وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَدَقَ الْخَبَرُ وَتَمَّ الْوَعْدُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعْجِزَةً مَنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَوْ فَاتَ مَنْ تَلَاهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا لَمَا فَهِمُوا مِمَّا بَعْدَهَا شَيْئًا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُبْدَأَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَرْعِيَةِ لِلْأَسْمَاعِ الْمُنَبِّهَةِ لِلْأَذْهَانِ. وَكَانَ هَذَا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْضَ الِانْتِشَارِ، وَتَصَدِّي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَ السُّفَهَاءُ يَلْغَطُونَ إِذَا قَرَأَ وَيَصْخُبُونَ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦).
وَأَمَّا سُورَةُ " ن " فَفَاتِحَتُهَا وَخَاتِمَتُهَا فِي بَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ شُبْهَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦: ١) وَكَانَتْ شُبْهَةُ رَمْيِهِ - حَمَاهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ - بِتُهْمَةِ الْجُنُونِ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا مُكَابَرَةٍ، فَإِنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فَقِيرًا وَادِعًا سَلِمًا، لَيْسَ بِرَئِيسِ قَوْمٍ وَلَا قَائِدِ جُنْدٍ، وَلَا ذِي تَأْثِيرٍ فِي الشَّعْبِ بِخِطَابِةٍ وَلَا شِعْرٍ، يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَلَى ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ دِينَهُ سَيَهْدِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَإِصْلَاحَ شَرْعِهِ سَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ مَدَارِكِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْأُمِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَآيَاتِهِ فِي تَأْيِيدِ الْمُرْسَلِينَ، أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَصِفُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْعُلُومِ بِقَوْلِهِمْ: " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِهَا بِقَوْلِهِمْ: " سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ: بِقَوْلِهِمْ: " مُعَلَّمٌ
263
مَجْنُونٌ " (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (٥١: ٥٢، ٥٣).
نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ (ن) هُنَا بِمَعْنَى الدَّوَاةِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْقَلَمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَقُومُ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٩٦: ٣، ٤) وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْحُوتِ لِأَنَّ فِي السُّورَةِ ذِكْرًا لِصَاحِبِ الْحُوتِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَمَا كُتِبَتِ النُّونُ مُفْرَدَةً وَنُطِقَتْ سَاكِنَةً، بَلْ كَانَتْ تُذْكَرُ مُرَكَّبَةً وَمُعْرَبَةً كَقَوْلِهِ: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) (٢١: ٨٧) وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ، كَمَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ
تِلْكَ الْحُرُوفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَاتٌ إِلَى مَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ تَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ تَذْهَبُ فِيهَا الْأَفْهَامُ مَذَاهِبَ تُفِيدُ أَصْحَابَهَا عِلْمًا أَوْ عِبْرَةً، بِشَرْطِ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْأَخِيرِ جَعَلَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ هَذِهِ الْأَحْرُفَ مُقْتَطَعَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا: أَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي (المص) قَالَ أَنَا اللهُ أَفْضَلُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِيهِ قَالَ: هُوَ الْمُصَوِّرُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِيهِ قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ اللهِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِيهِ قَالَ: أَنَا اللهُ الصَّادِقُ. وَرَوَى أَبْنَاءُ جَرِيرٍ، وَالْمُنْذِرُ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (المص) وَ (طه) وَ (طسم) وَ (حم عسق) وَ (ق) وَ (ن) وَأَشْبَاهُ هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.
وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ - وَالِاسْمُ الْمُرْتَجَلُ لَا يُعَلَّلُ - وَهُوَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (الم) مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ آنِفًا، وَهِيَ الَّتِي فُتِحَ عَلَيْنَا بِهَا فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ الَّذِي كُنَّا نُلْقِيهِ فِي مَدْرَسَةِ دَارِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ فِيهِ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ، إِذْ أَثْبَتْنَا أَنَّ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ وَبَلَاغِةِ التَّعْبِيرَ، الَّتِي غَايَتُهَا إِفْهَامُ الْمُرَادِ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، أَنْ يُنَبِّهُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطَبَ إِلَى مُهِمَّاتِ كَلَامِهِ وَالْمَقَاصِدِ الْأُولَى بِهَا، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِمَا يُرِيدُهُ هُوَ مِنْهَا، وَيَجْتَهِدُ فِي إِنْزَالِهَا مِنْ نَفْسِهِ فِي أَفْضَلِ مَنَازِلِهَا وَمِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ لَهَا قَبْلَ الْبَدْءِ بِهَا لِكَيْلَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَدْ جَعَلَتِ الْعَرَبُ مِنْهُ هَاءَ التَّنْبِيهِ وَأَدَاةَ الِاسْتِفْتَاحِ، فَأَيُّ غَرَابَةٍ فِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ فِي
264
الْإِصْلَاحِ وَالْهُدَى؟ وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْخِطَابِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَتَكْيِيفِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ صَيْحَةِ التَّخْوِيفِ وَالزَّجْرِ، أَوْ غُنَّةِ الِاسْتِرْحَامِ وَالْعَطْفِ، أَوْ رَنَّةِ النَّعْيِ وَإِثَارَةِ الْحُزْنِ أَوْ نَغَمَةِ التَّشْوِيقِ وَالشَّجْوِ، أَوْ هَيْعَةِ الِاسْتِصْرَاخِ عِنْدَ الْفَزَعِ، أَوْ صَخَبِ التَّهْوِيشِ وَقْتَ الْجَدَلِ. وَمِنْهُ الِاسْتِعَانَةُ
بِالْإِشَارَاتِ، وَتَصْوِيرُ الْمَعَانِي بِالْحَرَكَاتِ وَمِنْهُ كِتَابَةُ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْجُمَلِ بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ أَوْ وَضْعُ خَطٍّ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
265
هَذَا وَإِنَّنِي بَعْدَ أَنْ هُدِيتُ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ لِبَدْءِ سُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ بِهَذِهِ
الْأَحْرُفِ بَحَثْتُ
266
عَنْ سَلَفٍ لِي فِي ذَلِكَ فَرَاجَعْتُ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ لِلرَّازِيِّ لِسِعَةِ اطِّلَاعِهِ وَبَسْطِهِ لِكُلِّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَمْ أَكُنْ أَقْرَأُ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ، فَأَلْفَيْتُهُ قَدْ ذَكَرَ لِلنَّاسِ قَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ.
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ، وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةً، وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي. (وَنَقُولُ: قَدْ نَقَلَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَعْقُولِ، وَفَصَّلَ ذَلِكَ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْلُومٌ، وَنَقَلَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا ٢١ قَوْلًا، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهَا
267
قَوْلُ ابْنِ رَوْقٍ وَقُطْرُبٍ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦) وَتَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى - لِمَا أَحَبَّ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَنَفْعِهِمْ - أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَعْرِفُونَهُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِإِسْكَاتِهِمْ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُرُوفَ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوهَا قَالُوا كَالْمُتَعَجِّبِينَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا أَصْغَوْا هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ، وَطَرِيقًا إِلَى انْتِفَاعِهِمُ اهـ. ثُمَّ سُمِّيَ هَذَا حِكْمَةً فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا، ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا - عَلَى طَرِيقَةِ الْمُفَسِّرِينَ لَا الصُّوفِيَّةِ - اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَفِي شَرْحِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهَاتٌ مَا نَصُّهُ " قَالَ الْحَرْبِيُّ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُنْتَبِهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا فَأُمِرَ جِبْرِيلُ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِهِ: الم، وَحم لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَصْغَى إِلَيْهِ (قَالَ) وَإِنَّمَا
لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ " أَلَا " وَ " أَمَّا " لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ لَهُ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ التَّنْبِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْعَدٌ، وَقَدْ كَانَ يَتَنَبَّهُ وَتَغْلِبُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الرُّوحِ الْأَمِينِ عَلَيْهِ وَدُنُوِّهِ مِنْهُ كَمَايُعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِالتَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّنْبِيهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا؛ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَوَجَّهُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ إِلَى مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَكُلُّهُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، فَهُمْ مَقْصُودُونَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ بِالدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ التَّتَبُّعِ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْحِكْمَةَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهَا بِهِ
268
ابْتِدَاءً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَوْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ ابْنُ كَثِيرٍ لَمَا ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ إِذْ نَقَلَهُ مُوجَزًا مُجْمَلًا عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ رَجَّحَ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ بَيَانُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا جَمِيعُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ مِنْ مُفَسِّرِي عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَلَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَاخْتَارَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إِذَا قِيلَ إِنَّ (المص) اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كِتَابٌ) وَإِلَّا فَهَذَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ كِتَابٌ كَقَوْلِهِ: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) (٢: ١، ٢) وَتَنْكِيرُ (كِتَابٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي جُمْلَةُ الْقُرْآنِ الْمُشَارُ إِلَى بَعْضِهِ الْمُنَزَّلُ بِالْفِعْلِ، وَجُمْلَةُ (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صِفَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ تَعْظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَ بَدْءُ نُزُولِهِ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (أُنْزِلَ) وَلَمْ يَقُلْ أَنْزَلَ اللهُ أَوْ أَنْزَلْنَاهُ إِيجَازًا مُؤْذِنًا بِأَنَّ الْمُنْزِلَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّعْرِيفِ، وَعَنْ إِسْنَادِهِ إِلَى الضَّمِيرِ أَوِ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْبَدِيعَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) حَرَجُ الصَّدْرِ ضِيقُهُ وَغَمُّهُ وَهُوَ مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعُ
الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَجِدُ السَّالِكُ فِيهِ سَبِيلًا وَاضِحًا يَنْفُذُ مِنْهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَرَجَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدِ تَفْسِيرُهُ بِالشَّكِّ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الشَّكَّ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ حَرَجِ الصَّدْرِ وَضِيقِ الْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ (الْآيَةِ ١٢٥) وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قِيلَ: هِيَ نَهْيٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ. وَقِيلَ: حُكْمٌ مِنْهُ نَحْوَ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٩٤: ١) اهـ. وَالنَّهْيُ أَوِ الدُّعَاءُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِ مَانِعٌ كَعِنَايَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ شَأْنٍ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (٧٣: ٥) ثُمَّ نَزَلَ فِي تَفْسِيرِهِ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩: ٢١) وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ الْوَحْيُ وَهُوَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا، وَكَانَ يَكَادُ يَهِيمُ بِشِدَّةِ وَقْعِهِ وَعِظَمِ تَأْثِيرِهِ حَتَّى يَكَادَ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ، وَأَيُّ قَلْبٍ يَحْتَمِلُ وَصَدْرٍ يَتَّسِعُ لِكَلَامِ اللهِ الْعَظِيمِ، يَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ شَرْحَهُ وَإِعَانَتَهُ عَلَى
269
حَمْلِهِ، وَهُوَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) فَهَذَا وَجْهُ مَظِنَّةِ وُقُوعِ الْحَرَجِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْهُ بِشَرْحِهِ لِصَدْرِهِ، وَيَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ تَكْوِينِيًّا.
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ تَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّفَ بِهِ هِدَايَةَ الثِّقْلَيْنِ وَإِصْلَاحَ أَهْلِ الْخَافِقَيْنِ، وَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَالطَّعْنِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِضِيقِ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (١٥: ٩٧) وَفِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَهَا: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦: ١٢٧) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ هُودٍ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١١: ١٢) وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَمْرٍ طَبْعِيٍّ كَهَذَا الِاجْتِهَادِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ بِوَعْدِ
اللهِ وَالتَّأَسِّي بِمَنْ سَبَقَ مِنْ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْوَجِيهَانِ، مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. يُنَافِيَانِ مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَرَجِ بِالشَّكِّ، وَيُغْنِيَانِ عَمَّا تَمَحَّلَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِهِ بِالتَّأْوِيلِ الشَّبِيهِ بِالْمَحَكِّ، وَمَا أَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ بِصَحِيحٍ حَتَّى بَالَغَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كُلُّ مَا صَحَّ مِنْهُ مَقْبُولٌ، إِلَّا إِذَا صَحَّ رَفْعُهُ إِلَى الْمَعْصُومِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) (١٠: ٩٤) فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ الْمَأْلُوفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَحَالِّ، وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠: ١٠٦) وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِهَا: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (٤٣: ٨١) وَفِي ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ. وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ مِنَ الصَّدْرِ، وَانْشِرَاحِهِ لِلنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَصْدَرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) (٦١: ٨) أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكِ حَرَجٌ مِنْهُ لِأَجْلِ الْإِنْذَارِ بِهِ لِئَلَّا يُكَذِّبَكَ النَّاسُ. وَالْإِنْذَارُ التَّعْلِيمُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْمُنْذَرِ وَالْعِقَابِ الَّذِي
270
يُنْذَرُهُ، أَيْ يُخَوَّفُ مِنْ وُقُوعِهِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) (٧٨: ٤٠) وَقَوْلُهُ: (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) وَالْمَفْعُولَانِ يُذْكَرَانِ كِلَاهُمَا تَارَةً وَيُذْكَرُ أَحَدُهُمَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَاتِ، وَقَدْ حُذِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُنَا لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ حَسَبَ الْقَاعِدَةِ، أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ إِذْ تُبَلِّغُهُمْ دِينَ اللهِ وَكُلَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ يَعْصِي رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِيجَازٌ بَلِيغٌ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (٦: ٩٢) وَقَدْ صَرَّحَ بِجَعْلِ الْإِنْذَارِ عَامًّا لِأُمَّةِ الْبَعْثَةِ كَافَّةً بُقُولِهِ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُوَنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (٢٥: ١) وَكَثِيرًا مَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ حَتْمًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (٣٥: ١٨)
وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (٣٦: ١١) وَقَوْلُهُ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) (٦: ٥١) الْآيَةَ.
وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ مَصْدَرٌ لِذِكْرِ الشَّيْءِ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَالِاسْمُ الذِّكْرُ بِالضَّمِّ وَكَذَا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ الْكَسْرَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى ذُكْرٍ مِنْكَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ؛ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ جَمَاعَةٌ عَلَيْهِ اهـ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالذِّكْرَى كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ النَّافِعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمُؤَثِّرَةِ - وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) (٧٩: ٤٢، ٤٣) عَلَى وَجْهٍ وَفُسِّرَتْ بِالْعِلْمِ - وَلَا بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّذَكُّرِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦: ٦٨) لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِنْسَاءِ وَقَدْ خَصَّهَا هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَوَاعِظِ كَمَا قَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥١) (: ٥٥) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩: ٥١) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (٢١: ٨٤) فِي سُورَةِ ص: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (٣٨: ٤٣) وَفِي سُورَةِ ق: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٥٠: ٨).
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْإِيمَانَ سَوَاءٌ كَانُوا آمِنُوا عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ أَمْ لَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَعَ مَا قَبْلَهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ وَسَائِرَ النَّاسِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَتَعِظَهُمْ ذِكْرَى نَافِعَةً مُؤَثِّرَةً لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ - أَوْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِلْإِنْذَارِ
271
الْعَامِّ وَالذِّكْرَى الْخَاصَّةِ، أَوْ هُوَ ذِكْرَى - أَوْ حَالُ كَوْنِهِ ذِكْرَى - لِمَنْ آمَنُوا وَلِمَنْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِلْإِنْذَارِ الْعَامِّ، الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي يَكْثُرُ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ، أَيْ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، الَّذِي هُوَ خَالِقُكُمْ وَمُرَبِّيكُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي شَرْعِ الدِّينِ لَكُمْ وَفَرْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْكُمْ، وَالتَّحْلِيلِ لِمَا يَنْفَعُكُمْ، وَالتَّحْرِيمِ لِمَا يَضُرُّكُمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِكُمْ مِنْكُمْ (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) تَتَّخِذُونَهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَكُمْ، بِمَا يُزَيِّنُ لَكُمْ ضَلَالَ تَقَالِيدِكُمْ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِكُمْ، فَتُوَلُّونَهُمْ أُمُورَكُمْ، وَتُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَرُومُونَ
مِنْكُمْ، مِنْ وَضْعِ أَحْكَامٍ، وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، أَوْ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَإِنَّمَا عَلَى الْعَالِمِ بِدِينِ اللهِ تَبْلِيغُهُ وَبَيَانُهُ لِلْمُتَعَلِّمِ لَا بَيَانَ آرَائِهِ وَظُنُونِهِ فِيهِ - وَلَا أَوْلِيَاءَ تَتَّخِذُونَهُمْ لِأَجْلِ إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذُنُوبِكُمْ، وَجَلْبِ النَّفْعِ لَكُمْ أَوْ رَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِصَلَاحِهِمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللهَ رَبُّكُمْ هُوَ الْوَلِيُّ، أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ تَذَكُّرًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فَلَا يُجْهَلَ وَيُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى، مِمَّا يَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَيَحْظَرُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِيهِ، أَوْ قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ فَتَرْجِعُونَ عَنْ تَقَالِيدِكُمْ وَأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصُ عَنْ عَاصِمٍ " تَذَكَّرُونَ " بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا (تَتَذَكَّرُونَ) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ " يَتَذَكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُخْرَى فِيهَا.
قَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ لُغَةً وَأَنْوَاعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا أَقْرَبُهَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) (٦: ١٢٩) وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَصْرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٦: ١٤) وَزِدْنَا هَذَا بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦: ٥١)
272
وَكَذَا تَفْسِيرُ: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (٦: ٧٠) كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ أُخْرَى مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا وَأَعَمِّهَا بَيَانًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (٢: ٢٥٧) الْآيَةَ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِوِلَايَةِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،
وَوِلَايَةِ الطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ.
وَنَكْتَفِي هُنَا بِأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَلِّي الْأَمْرِ - مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ وَإِلَهِهِمُ الْحَقِّ، وَهِيَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) شَرْعُ الدِّينِ، عَقَائِدُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ. (وَثَانِيهِمَا) الْخَلْقُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ فِي أُمُورِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي مَكَّنَ اللهُ مِنْهَا جَمِيعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَالْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ، وَتَسْخِيرِ الْقُلُوبِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ حَصْرِ الْوِلَايَةِ فِي اللهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِهِ تَوَلِّي أُمُورِ الْعِبَادِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُهُمْ وَشَرْعُ الدِّينِ لَهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى، هُوَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي طَاعَةِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا أَحَلُّوا لَهُمْ وَزَادُوا عَلَى الْوَحْيِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا طَاعَةً دِينِيَّةً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُنْزِلْهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ طَاعَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا الْأُمَرَاءِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَدَيُّنًا، وَمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ وَتَبْلِيغُهُ، وَإِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى فَهْمِهِ وَمَا عَسَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَطْبِيقِ الْعَمَلِ عَلَى النَّصِّ، وَحِكْمَةُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ كَبَيَانِ سِمْتِ الْقِبْلَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَهُمْ لَا يُتَّبَعُونَ فِي ذَلِكَ لِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْمُتْبَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِنَصِّهِ أَوْ فَحَوَاهُ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ وَتَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي تَنْفِيذِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيمَا نَاطَهُ بِهِمْ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْضِيَتِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَنَبْذِ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ
273
بِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي تَفْسِيرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤: ٥٩) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١) الْآيَةَ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ دَاخِلٌ
فِي عُمُومِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِهِ، وَكَذَا اتِّبَاعُهُ فِي أَحْكَامِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ مُوحًى بِهَا، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَدْ أَذِنَ لَنَا أَلَّا نَأْخُذَ بِظَنِّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثَابِتِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِظَنِّ غَيْرِهِ؟ وَمِنْهُ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
قَالَ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَاعْتَبِرُوا) كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءَ بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَدْ نَقَلْنَا فِي بَحْثِ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّازِيَّ قَدْ رَدَّ فِي مَحْصُولِهِ كَوْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٥٩: ٢) دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالًا آخَرَ بِالْآيَةِ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مُنَاقَشَةَ الْقِيَاسِيِّينَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
274
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَشْوِيَّةَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ
بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ طَاعِنًا فِي صِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ بَاطِلٌ اهـ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ هَدَى إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ، وَمُخَاطَبَتِهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَأَصْحَابِ الْعُقُولِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ تُنْكِرُ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلُ الْبَصِيرَةِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَعْلَ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَحَلًّا لِنَظَرِيَّاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ، وَمَوْقُوفًا إِثْبَاتُهَا عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ جَدَلِيَّةٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ أَصْحَابُهَا مِنْهَا غَيْرَ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنْ حَقِّ الْيَقِينِ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا عَقْلِيًّا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِتَلَقِّي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مِنْهُ مَعَ اجْتِنَابِ التَّأْوِيلِ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ فِي بَيَانِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَ بِهِ كُلَّ النَّاسِ، وَذِكْرَى وَمَوْعِظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا يَتَوَلَّوْنَهُ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى - الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقَوَاعِدِ لِأُصُولِ الدِّينِ - بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهَا وَلِمَا يَتْلُوهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فَبَدَأَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَقَالَ:
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) " كَمْ " خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ الْكَثْرَةَ وَالْقَرْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْقَرْيَةُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَلِلنَّاسِ جَمِيعًا (أَيْ مَعًا) وَيُسْتَعْمَلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (١٢: ٨٢) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
275
الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْقَرْيَةُ هَاهُنَا الْقَوْمُ أَنْفُسُهُمْ. اهـ. أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُضَافٍ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالتَّقْدِيرِ يَرَوْنَ أَنَّهُ
لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ تَهْلَكُ كَمَا يَهْلَكُ أَهْلُهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْمُضَافَ فِي قَوْلِهِ: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) فَيَقُولُونَ: جَاءَ أَهْلَهَا بَأْسُنَا - بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْبَيَاتِ وَالْقَيْلُولَةِ، وَالْمَدِينَةُ لَا تَبِيتُ وَلَا تَقِيلُ، وَالْبَيَاتُ: الْإِغَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَالْإِيقَاعُ بِهِ فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ فَهُوَ اسْمٌ لِلتَّبْيِيتِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا يُدَبِّرُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَنْوِيهِ لَيْلًا، وَمِنْهُ تَبْيِتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ. وَقِيلَ: يَأْتِي مَصْدَرًا لِبَاتَ يَبِيتُ إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَقِيلُونَ، أَيْ يَنَامُونَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَسَطَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: يَسْتَرِيحُونَ وَإِنْ لَمْ يَنَامُوا، يُقَالُ: قَالَ يَقِيلُ قَيْلًا وَقَيْلُولَةً.
وَالْمَعْنَى: وَكَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا لِعِصْيَانِ رُسُلِهَا فِيمَا جَاءُوهَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا، فَكَانَ هَلَاكُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، بِأَنْ جَاءَ بَعْضَهُمْ بَأْسُنَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَيِّتِينَ أَوْ بَائِتِينَ لَيْلًا كَقَوْمِ لُوطٍ، وَجَاءَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ قَائِلُونَ آمِنُونَ نَهَارًا كَقَوْمِ شُعَيْبٍ. وَالْوَقْتَانِ وَقْتَا دَعَةٍ وَاسْتِرَاحَةٍ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَ صَفْوَ اللَّيَالِي وَلَا مُوَاتَاةَ الْأَيَّامِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِالرَّخَاءِ فَيُعِدَّهُ آيَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ، وَقَدْ يُعْذَرُ بِالْغَفْلَةِ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا عُذْرَ وَلَا عَذِيرَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُرُورِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَعِزَّةِ عَصَبِيَّتِهِمْ، وَبِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آيَةُ رِضَى اللهِ عَنْهُمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) وَلَيْسَ أَمْرُهُمْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّتِي عَرَفَتْ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، أَوْ سُنَنَ اللهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ تَغْتَرُّ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَلَا تَرْجِعُ عَنْ غَيِّهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا الْعَذَابُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ عَطْفَ " جَاءَهَا " عَلَى " أَهْلَكْنَا " بِالْفَاءِ يُفِيدُ أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ وَقَعَ عَقِبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا تَفْصِيلِيًّا لِنَوْعَيْنِ مِنْهُ، أَحَدُهُمَا لَيْلِيُّ وَالْآخَرُ نَهَارِيٌّ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ مِنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِهْلَاكِ إِرَادَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) (٥: ٦) إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا وَاوُ الْحَالِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَصْلُ: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِنُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِفْرَادِ، لَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا) (٤: ٤٣) حَيْثُ انْفَرَدْنَا بِبَيَانِ فَرْقٍ وَجِيهٍ بَيْنَ الْحَالَيْنِ هُنَالِكَ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى وَيَنْطَبِقُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ
276
الْإِمَامُ عَبَدُ الْقَاهِرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ خَاصٌّ بِمَا كَانَتِ الْحَالُ فِيهِ وَصْفًا لِفَاعِلِ الْعَامِلِ فِيهَا كَآيَةِ النِّسَاءِ وَمِثْلِ قَوْلِكَ: نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ وَأَنَا صَائِمٌ، وَهِيَ هُنَا وَصْفٌ لِمَفْعُولِهِ فَتَأَمَّلْ. وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِالْإِعْرَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ هَلْ هِيَ لَامُ الْعَطْفِ أَوْ غَيْرُهَا، وَمَتَى تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هِيَ وَالضَّمِيرُ مَعًا وَمَتَى يَجِبُ أَحَدُهُمَا، وَهِيَ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ نَعْدُوهَا لِأَنَّهَا قَلَّمَا تُفِيدُ فِي الْمَعَانِي وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ فَائِدَةً تُذْكَرُ.
(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ، وَالِادِّعَاءُ نَفْسُهُ، وَالدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ، وَالْقَوْلُ مُطْلَقًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ: وَدَعْوَى فُلَانِ كَذَا - أَيْ قَوْلُهُ اهـ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ - وَعَلَى مَا قَبْلُهُ: (فَمَا) كَانَتْ غَايَةَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الدِّينِ وَزَعْمِهِمْ فِيهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ - أَوْ كَانُوا يَدَّعُونَهُ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِرَادَةِ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ - إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ بِبُطْلَانِهِ. وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ الْإِخْبَارُ بِنَوْعٍ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْمَادَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) (٣: ١٤٧) فَكَيْفَ إِذَا اخْتَلَفَتْ كَمَا هُنَا.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ فِي الدُّنْيَا يَنْدَمُ وَيَتَحَسَّرُ وَيَعْتَرِفُ بِظُلْمِهِ وَجُرْمِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَمَا كُلُّ مُعَاقَبٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَجْهَلُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِجَعْلِ عِقَابِهَا أَثَرًا لَازِمًا لَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا تَطَّرِدُ فِي الْأَفْرَادِ كَاطِّرَادِهَا فِي الْأُمَمِ، وَلَا تَكُونُ دَائِمًا مُتَّصِلَةً بِاقْتِرَافِ الذَّنْبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَقَعُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَشْعُرُ فَاعِلُهَا بِأَنَّهَا أَثَرٌ لَهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ السُّكَارَى مِنْهُ غَيْرَ مَا يَعْقُبُ الشُّرْبَ مِنْ
صُدَاعٍ وَغَثَيَانٍ، وَهُوَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ احْتِمَالُهُ وَتَرْجِيحُ لَذَّةِ النَّشْوَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يُوَلِّدُهُ السُّكْرُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ وَالْجِهَازِ التَّنَاسُلِيِّ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ النَّسْلِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَانْقِطَاعِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ (الْعَقْلِيَّةِ) فَهِيَ تَحْصُلُ بِبُطْءٍ، وَقَلَّمَا يَعْلَمُ غَيْرُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهَا مِنْ تَأْثِيرِ السُّكْرِ. ثُمَّ قَلَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِ تَأْثِيرِهَا هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ تَحْمِلَ السَّكُورَ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ دَاءَ الْخُمَارِ يُزْمِنُ وَحُبَّ السُّكْرِ يُضْعِفُ الْإِرَادَةَ، وَمَضَارُّ الزِّنَا الْجَسَدِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَفَاسِدُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّهِ الْجَسَدِيَّةِ، فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَفْطِنُ لَهَا. وَيَا لَيْتَ كُلَّ مَنْ عَلِمَ
277
بِضَرَرِ ذَنْبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ وَيَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَكْتَفِي بِالِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِذَنْبِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ لَا فِي دُنْيَاهُ، وَلَا فِي دِينِهِ، وَإِذَا كَانَ الرَّاسِخُ فِي الْفِسْقِ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ وَعَلِمَ بِهِ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ لَمْ يُصِبْهُ مِنْهُ ضَرَرٌ أَوْ أَصَابَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي بِهِ؟ إِنَّمَا تَسْهُلُ التَّوْبَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهِيَ لِأُولِي الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ تَقْهَرُ إِرَادَتُهُمْ شَهَوَاتِهِمْ فَهُمُ الْأَقَلُّونَ.
وَأَمَّا ذُنُوبُ الْأُمَمِ فَعِقَابُهَا فِي الدُّنْيَا مُطَّرِدٌ، وَلَكِنَّ لَهَا آجَالًا وَمَوَاقِيتَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَفْرَادِ بَلْ أَشَدُّ، فَإِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَاخْتِلَالُ النِّظَامِ وَنَشَأَ التَّرَفُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ تَمْرَضُ أَخْلَاقُهَا فَتَسُوءُ أَعْمَالُهَا وَتَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَيَفْسُدُ أَمْرُهَا وَتَضْعُفُ مَنْعَتُهَا، وَيَتَمَزَّقُ نَسِيجُ وَحْدَتِهَا، حَتَّى تُحْسَبَ جَمِيعًا وَهِيَ شَتَّى - فَيُغْرِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ بِهَا، فَتَسْتَوْلِي عَلَيْهَا، وَتَسْتَأْثِرُ بِخَيْرَاتِ بِلَادِهَا، وَتَجْعَلُ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتِ أَمْزِجَتِهَا وَقُوَاهَا، وَقَلَّمَا تَشْعُرُ أُمَّةٌ بِعَاقِبَةِ ذُنُوبِهَا قَبْلَ وُقُوعِ عُقُوبَتِهَا، وَلَا يَنْفَعُهَا بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَارِفُونَ: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعُمُّهَا الْجَهْلُ حَتَّى لَا تَشْعُرَ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ مِمَّا كَسَبَتْ أَيْدِيهَا، فَتَرْضَى بِاسْتِذْلَالِ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا رَضِيَتْ مِنْ قَبْلُ بِمَا كَانَ سَبَبًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
مَنْ سَاسَهُ الظُّلْمُ بِسَوْطِ بَأْسِهِ هَانَ عَلَيْهِ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ أَتَى
وَمَنْ يَهُنْ هَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ وَعِرْضُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَى
وَقَدْ تَنْقَرِضُ بِمَا يَعْقُبُهُ الْفِسْقُ وَالذُّلُّ مِنْ قِلَّةِ النَّسْلِ وَلَا سِيَّمَا فُشُوُّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ، أَوْ تَبْقَى مِنْهَا بَقِيَّةٌ مُدْغَمَةٌ فِي الْكَثْرَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَثَرَ لَهَا تُعَدُّ بِهِ أُمَّةٌ. وَقَدْ تَتَوَالَى عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ حَتَّى تَضِيقَ بِهَا ذَرْعًا، فَتَبْحَثُ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَلَا تَجِدُهَا بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ إِلَّا فِي أَنْفُسِهَا، وَتَعْلَمُ صِدْقَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤٢: ٣٠) ثُمَّ تَبْحَثُ عَنِ الْعِلَاجِ فَتَجِدُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١١: ١٣) وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّغْيِيرُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ فَتَصْلُحُ الْأُمُورُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ عَمُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تَوَسَّلَ بِهِ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ بِتَقْدِيمِهِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِهِمْ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ إِنَّمَا يَرْتَفِعُ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُ بِهِمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُفْسِدُونَ. وَمَتَى عَلِمَتِ الْأُمَّةُ دَاءَهَا وَعِلَاجَهُ فَلَا تَعْدِمُ الْوَسَائِلَ لَهُ.
278
فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ أَيْنَ مَكَانُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَالشُّعُورِ بِعُقُوبَةِ الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى عِلَاجِ التَّوْبَةِ، وَقَدْ ثُلَّتْ عُرُوشُهَا، وَخَوَتْ صُرُوحُ عَظَمَتِهَا عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَانَتْ أَجْدَرَ الشُّعُوبِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَاتِّقَائِهَا، وَأَسْبَابِ حِفْظِ الدُّوَلِ وَبَقَائِهَا، فَقَدْ أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ أَيْنَ هِيَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَرَكَ تَذْكِيرَهَا بِهِ الْعُلَمَاءُ، فَهَجَرَهُ الدَّهْمَاءُ، وَجَهِلَ أَحْكَامَهُ وَحِكَمَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، ثُمَّ نَبَتَتْ فِيهَا نَابِتَةٌ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أَقْنَعَهُمْ أَسَاتِذَتُهُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ لَا سَبَبَ لِهُبُوطِهَا وَسُقُوطِهَا إِلَّا اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، فَأَضَلُّوهُمُ السَّبِيلَ، وَلَفَتُوهُمْ عَنِ الدَّلِيلِ، فَذَنْبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ، وَذَنْبُ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَهُ، هَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةٌ لِلْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ الْخَادِعِينَ، وَأُولَئِكَ مُقَلِّدَةٌ لِشُيُوخِ الْحَشْوِيَّةِ الْجَامِدِينَ، فَمَتَى تَنْتَشِرُ دَعْوَةُ الْمُصْلِحِينَ أُولِي الِاسْتِقْلَالِ، فَتُجْمَعُ الْكِمْلَةُ بِمَا أُوتِيَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالِاعْتِدَالِ، عَلَى قَوْلِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
بَيَّنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُمَا بَدْءٌ لِلْإِنْذَارِ - بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ - بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ بِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، قَفَّى بِهِ عَلَى تَخْوِيفِ قَوْمِ الرَّسُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، بِتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْآجِلِ، وَهُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عَطَفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ وَيَجِيءُ بَعْدَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَأْسِ آخِرُ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ " الْفَاءَ " هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفَصِيحَةَ، وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَلِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَنْفُسِ
279
وَلَا سِيَّمَا خَبَرُ الْمَشْهُورِ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِالْأَمِينِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي بَلَغَتْهَا دَعْوَةُ الرُّسُلِ، يَسْأَلُ تَعَالَى كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِ وَعَنْ تَبْلِيغِهِ لِآيَاتِهِ، وَبِمَاذَا أَجَابُوهُمْ وَمَا عَمِلُوا مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَنِ التَّبْلِيغِ مِنْهُمْ وَالْإِجَابَةِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ.
بُيِّنَ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) (٦١: ١٣٠) وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٢٨: ٦٥) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرِوُنَ) (١٣: ٢٩) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (١٦: ٥٦) وَهُوَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الدِّينِ كَجَعْلِهِمْ لِمَعْبُودَاتِهِمْ نَصِيبًا مِمَّا رُزِقُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِهَا بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ مَا يُنْذِرُهُ الْقُبُورِيُّونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَأَعَمُّ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّحْلِ أَيْضًا: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦: ٩٣) وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّأْكِيدِ وَالْعُمُومِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥: ٩٢، ٩٣) وَمِنْهُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (٧: ٣٦) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الرُّسُلِ: (يَوْمَ
يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) (٥: ١٠٩) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَنَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ، وَ " الْمُرْسَلِينَ " هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ: جِبْرِيلُ خَاصَّةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ: فَإِنَّ الرُّسُلَ يُسْأَلُونَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا الرِّسَالَةَ، فَمَا هِيَ ذَنْبٌ يَتَوَقَّعُ إِنْكَارُهُ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي السُّؤَالِ الْعَامِّ وَمَا يُسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ أَحَادِيثُ سَيَأْتِي بَعْضُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ السُّؤَالَ الْعَامَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَهِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢٨: ٧٨) وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) (٥٥: ٣٩) قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ١٢٩) إِلَى بَعْضِهَا، وَهُوَ أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَوْمِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالِاعْتِذَارِ
280
يَكُونُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عَنِ الذَّنْبِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ يُفَسِّرُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُ وَيَمْتَازَ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ قَالَ بَعْدَهَا: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) (٥٥: ٤١) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ لَا يُسْأَلُونَ وَبِمَ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَازُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ حَمْلِ آيَةِ الْقَصَصِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ هَلْ أَذْنَبْتَ أَوْ هَلْ فَعَلْتَ كَذَا مِنَ الذُّنُوبِ؟ أَيْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْهُ بِذُنُوبِهِ وَقَدْ أَحْصَاهَا عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَهُوَ يَجِدُ مَا عَمِلَ حَاضِرًا فِي كِتَابِهِ مُتَمَثِّلًا فِي نَفْسِهِ، مَعْرُوضًا لَهَا فِيمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ - وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ لِمَ عَمِلَ كَذَا - أَيْ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ تَفْسِيرِهِ هُنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مُوسَى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (٢٨: ١١) وَبِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (١٢: ٣) وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْمُتَتَبَّعَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ قَصَصًا، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَصًا بِعِلْمٍ مِنَّا، يُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ وَمَا كَتَبَهُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ عَنْهُمْ (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُنَّا مَعَهُمْ نَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَنُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ، وَنُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ، كَمَا قَالَ: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (٤: ١٠٨) فَالسُّؤَالُ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، لَا لِأَجْلِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِعْلَامِ، وَهَذَا الْقَصَصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحِسَابُ وَيَتْلُوهُ الْجَزَاءُ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِهِ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا الْآيَاتُ فَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ " وَوَرَدَ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَأَعِدُّوا لِلْمَسَائِلِ جَوَابًا " قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: " أَعْمَالُ الْبِرِّ " وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِنَّ اللهَ سَائِلُ كُلِّ ذِي رَعِيَّةٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَقَامَ أَمْرَ اللهِ
281
فِيهِمْ أَمْ ضَيَّعَهُ. حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ " وَمَا رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ عَنِ الْمِقْدَامِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَكُونُ رَجُلٌ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا جَاءَ يَقْدُمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ وَيُسْأَلُونَ عَنْهُ " وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْظَرُ فِي صِلَاتِهِ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ " وَمَا رَوَاهُ هُوَ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ - قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ - تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ - وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ " وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَحُسَيْنٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُذْكَرُ كَثِيرًا فِي بَعْضِ خُطَبِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْبَزَّارَ وَالطَّبَرَانِيَّ رَوَيَاهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ " إِلَخْ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِي " عَلَّمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ - وَآخِرُهُ عِنْدَهُ
282
وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ " - هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمَعْنَى " دَانَ نَفْسَهُ " حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يُخَفَّفُ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا اهـ.
وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ تَنْضَبِطُ وَتُقَدَّرُ
بِالْوَزْنِ وَإِقَامَةِ الْمِيزَانِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ.
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَزْنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ. يُقَالُ وَزِنْتُهُ وَزْنًا وَزِنَةً. وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْوَزْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَا يُقَدَّرُ بِالْقِسْطِ وَالْقَبَّانِ اهـ. وَتَفْسِيرُهُ الْوَزْنُ بِالْمَعْرِفَةِ تَسَاهُلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ يُرَادُ بِهِ تَعَرُّفُ مِقْدَارِ الشَّيْءِ بِالْآلَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْمِيزَانَ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَبِالْقِسْطَاسِ وَهُوَ مِنَ الْقِسْطِ وَمَعْنَاهُ النَّصِيبُ الْعَادِلُ أَوْ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَدْلِ مَجَازًا، وَكَذَا الْمِيزَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ) (٤: ١٧) وَقَوْلُهُ فِي الرُّسُلِ كَافَّةً: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٥٧: ٢٥) وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتَقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ. إِذَا انْتَصَفَ. وَلَيْسَ لِفُلَانِ وَزْنٌ - أَيْ قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (١٨: ١٠٥) قَالَ الرَّاغِبُ وَقَوْلُهُ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (٧: ٨) فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّاسِ كَمَا قَالَ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (٢١: ٤٧) أَيْ وَلِذَلِكَ. قَالَ عَقِبَهُ (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (٢١: ٤٧) وَالتَّجَوُّزُ بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ.
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الرُّسُلَ وَالْأُمَمَ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَحِقُّ بِهِ الْأُمُورُ وَتُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ كُلِّ أَحَدٍ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْإِعْرَابِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْوَزْنَ الْحَقَّ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ، لَا أَنَّ الْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ حَقٌّ، فَالْحَقُّ صِفَةٌ لِلْوَزْنِ وَيَوْمَئِذٍ هُوَ الْخَبَرُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى وَالْوَزْنُ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قِيلَ: إِنِ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مِيزَانٍ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ لِكُلِّ امْرِئٍ مِيزَانٌ وَقِيلَ: لِكُلِّ عَمَلٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يُجْمَعُ بِاعْتِبَارِ الْمُحَاسَبِينَ وَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَافَرَ فُلَانٌ عَلَى الْبِغَالِ وَإِنْ رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مَوْزُونٍ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ رَجَحَتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ فِي دَارِ الثَّوَابِ (وَمَنْ خَفَّتْ مُوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
283
أَيْ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْكُفْرِ وَكَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، إِذْ حُرِمُوا السَّعَادَةَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لَهَا لَوْ لَمْ يُفْسِدُوا فِطْرَتَهَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَظْلِمُونَهَا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ
إِلَى نِهَايَةِ أَعْمَارِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ، وَعُدِّيَ الظُّلْمُ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْكُفْرِ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آيَةِ ١٠٣) وَفِي غَيْرِهَا.
وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّهُ لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَلَاحِ، وَالْكَافِرِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْخُسْرَانِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا فَهُوَ مُفْلِحٌ وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى بَعْضِ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِهَا، فَهَذَا الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فَرِيقُ الْجَنَّةِ وَفَرِيقُ السَّعِيرِ، وَهُنَالِكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَتْبَعُ الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الْوَزْنَ التَّفْصِيلِيَّ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَزْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزَنًا) وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَحْثِ الْوَزْنِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ قِيمَةٌ وَلَا قَدْرٌ، وَهُوَ لَا يَنْفِي وَزْنَ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورَ خِفَّتِهَا وَخُسْرَانِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (٢٣: ١٠٢ - ١٠٥) وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَتَيِ الْمَوَازِينِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ إِذْ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ فَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقِرُّونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا. وَهُوَ سَهْوٌ سَبَبُهُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَ عَلِقَ بِذِهْنِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَمَا مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَلَهُ حَسَنَاتٌ وَلَكِنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُهَا فَتَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا وَهِيَ تُحْصَى مَعَ السَّيِّئَاتِ وَتُضْبَطُ بِالْوَزْنِ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ مِقْدَارُ الْجَزَاءِ وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنَ التَّخْفِيفِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ بِمَا كَانَ مِنْ حِمَايَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبِّهِ لَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْخُصُوصِيَّةُ فِي نَوْعِ التَّخْفِيفِ وَمِقْدَارِهِ، إِذْ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُجَمَعِ عَلَيْهِ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُتَفَاوِتٌ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ أَبِي جَهْلٍ كَعَذَابِ أَبِي طَالِبٍ لَوْلَا الْخُصُوصِيَّةُ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (٤: ٤٠) وَمِنَ الْمَشَاهِدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَيَعْبُدُهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ كَمَا
قَالَ فِي
284
أَنْدَادِهِمْ: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ٢: ١٦٥) - وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ حُبِّهِمْ لِلَّهِ - وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَصِلُونَ الْأَرْحَامَ وَيَفْعَلُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْفَوَاحِشِ خَوْفًا مِنَ اللهِ. فَهَلْ يُسَوِّي الْحَكَمُ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُرْتَكِبِي الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْجِنَايَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا سِيَّمَا الْجَاحِدِينَ الْمُعَطِّلِينَ وَمُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنْهُمْ؟ حَاشَ لِلَّهِ. نَعَمْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ وَزْنَهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَلَّا يَكُونَ لَهَا مَعَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ دَخْلٌ فِي رُجْحَانِ مَوَازِينِهِمْ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْوَزْنِ وَالْمَوَازِينِ، هَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ التَّامِّ فِي تَقْدِيرِ مَا بِهِ يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ وَتَزْكِيَّتِهَا، وَفِي إِفْسَادِهَا وَتَدْسِيَّتِهَا، أَمْ هُنَاكَ وَزْنٌ حَقِيقِيٌّ، حِكْمَتُهُ إِظْهَارُ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَعَدْلِهِ فِي جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مُجَاهِدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ - وَكَذَا الْأَعْمَشُ وَالضَّحَّاكُ حَكَاهُ الرَّازِيُّ عَنْهُمَا - وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ: الْعَدْلُ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ حَسَنَاتُهُ. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ سَيِّئَاتُهُ اهـ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي فِيمَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، بَلْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ - كَمَا نَقَلَ الْحَافِظُ عَنْهُ - أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمِيزَانِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ وَيَمِيلُ بِالْأَعْمَالِ. وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ وَقَالُوا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ الْمُوَازِينَ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ لِيَرَى الْعِبَادُ أَعْمَالَهُمْ مُمَثَّلَةً لِيَكُونُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا إِذْ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. قَالَ: وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا. انْتَهَى.
نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ آخَرِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ (بَابُ قَوْلِ اللهِ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (٢١: ٤٧) وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ) وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ فَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ، كَمَا يَجُوزُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ كَذَلِكَ يَجُوزُ الْحَطُّ وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَوَازِينُ الْعَدْلُ. وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ وَلَهُ كِفَّتَانِ لَوْ وُضِعَ فِي إِحْدَاهُمَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ
وَمَنْ فِيهِنَّ لَوَسِعَتْهُ - وَمِنْ طَرِيقِ
285
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: ذُكِرَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: قِيلَ إِنَّمَا تُوزَنُ الصُّحُفُ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَإِنَّهَا أَعْرَاضٌ فَلَا تُوصَفُ بِثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ. وَالْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ حِينَئِذٍ تُجَسَّدُ أَوْ تُجْعَلُ فِي أَجْسَامٍ فَتَصِيرُ أَعْمَالُ الطَّائِعِينَ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ الْمُسِيئِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ تُوزَنُ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي يُوزَنُ الصَّحَائِفُ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ قَالَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالصُّحُفُ أَجْسَامٌ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ صَحَّحَهُ وَفِيهِ " فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةِ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ " انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ " وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ " تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ النَّارَ - قِيلَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ " أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ فِي فَوَائِدِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا أَنَّ صَاحِبَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ. مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَقْصَى السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مَا وَرَدَ فِي الْمِيزَانِ أَوِ الْوَزْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّقِيمَةِ أَوْ جُلِّهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا إِلَّا مَا خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ " كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُعْتَمِدَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ فِي صِفَةِ الْمِيزَانِ وَلَا فِي أَنَّ لَهُ كِفَّتَيْنِ وَلِسَانًا فَلَا نَغْتَرُّ بِقَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يَتَسَاهَلُونَ بِإِطْلَاقِ كَلِمَةِ الْإِجْمَاعِ وَلَا سِيَّمَا غَيْرُ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَالزَّجَّاجُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي عَزْوِ كُلِّ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْخَلَفُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كَمَا عَلِمْتُ،
فَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَزْنَ بِمِيزَانٍ، هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَمْ لِكُلِّ شَخْصٍ أَوْ لِكُلِّ عَمَلٍ مِيزَانٌ؟ وَفِي الْمَوْزُونِ بِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ الْأَشْخَاصُ لَا الْأَعْمَالُ، وَفِي صِفَةِ الْمَوْزُونِ وَالْوَزْنِ، وَفِيمَنْ يُوزَنُ لَهُمْ، أَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَمْ لَهُمْ وَلِلْكُفَّارِ؟ وَفِي صِفَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
286
وَلِهَذَا الْخِلَافِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ: (أَحَدُهَا) اخْتِلَافُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَنِ السَّلَفِ وَأَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ وَلَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَضْلًا عَنِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ.
(ثَانِيهَا) الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِهَا.
(ثَالِثُهَا) الرَّأْيُ وَالتَّخَيُّلُ وَالْقِيَاسُ مَعَ الْفَارِقِ فَإِنَّ الْخَلَفَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ خَاضُوا فِيمَا خَاضَ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ أَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَإِنْكَارِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بِحُجَّةِ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تُوزَنُ وَأَنَّ عِلْمَ اللهِ بِهَا يُغْنِي عَنْ وَزْنِهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ رَدًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَتَطْبِيقِ أَخْبَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمَأْلُوفِ فِي الدُّنْيَا فَزَعَمُوا أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّدُ وَتُوزَنُ أَوْ تُوضَعُ فِي صُوَرٍ مُجَسَّمَةٍ أَوْ أَنَّ الصَّحَائِفَ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَصَحَائِفَ الدُّنْيَا إِمَّا رِقٌّ (جِلْدٌ) وَإِمَّا وَرَقٌّ.
وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَخْبَارِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُحَكِّمُ رَأْيَنَا فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنُؤْمِنُ إِذًا بِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ وَزْنًا لِلْأَعْمَالِ قَطْعًا، وَنُرَجِّحُ أَنَّهُ بِمِيزَانٍ يَلِيقُ بِذَلِكَ الْعَالَمِ يُوزَنُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، لَا نَبْحَثُ عَنْ صُورَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عَنْ كِفَّتَيْهِ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِمَا كَمَا صَوَّرَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي مِيزَانِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جُلُّ الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَإِذَا كَانَ الْبَشَرُ قَدِ اخْتَرَعُوا مَوَازِينَ لِلْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَفَيَعْجَزُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَنْ وَضْعِ مِيزَانٍ لِلْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ؟ ! وَالنَّقْلُ وَالْعَقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الثَّابِتَةِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ: قَالَ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ١٣٩) وَقَالَ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (وَنَفْسٍ وَمَا سِوَاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مِنْ
دَسَّاهَا) (٩١: ٧ - ١٠) وَفِي سُورَةِ الْأَعْلَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (٨٧: ١٤، ١٥) وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ آخِرُهَا تَفْسِيرُ خَاتِمَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ حِكْمَةَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْحِسَابِ أَنَّهُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِعَدْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، إِذْ يَرَى فِيهِ عِبَادُهُ أَفْرَادًا
287
وَشُعُوبًا وَأُمَمًا ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةَ إِدْرَاكٍ وَوِجْدَانٍ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ فِي خَارِجِهَا ثَانِيًا، فِيَا لَهُ مِنْ مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، وَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ رَهِيبٍ، وَمَا أَشَدَّ غَفْلَةَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعِلْمِ اللهِ عَنْهُ.
وَلَوْلَا تَحْكِيمُ النَّاسِ الرَّأْيَ وَالْخَيَالَ فِيمَا لَا مَجَالَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِكُلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكُنَّا فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ، بِالِاخْتِصَارِ فِي بَيَانِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، دُونَ الشَّاذَّةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ " حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ " الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " بَابِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ " إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. (قَالَ) فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ غَيْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ الَّذِي بَالَغَ الْجُوزَجَانِيُّ فَوَصَفَهُ بِالْكَذِبِ لَكَفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالُوا: إِنَّ لَهُ مَنَاكِيرَ. وَطَرِيقُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ. وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمِيزَانِ ذَا كِفَّتَيْنِ وَلِسَانٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ
لِإِمْكَانِ جَعْلِ الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَجَعْلِ الْكِفَّةِ تَرْشِيحًا لَهَا فَإِنَّ بَابَ الْمَجَازِ فِي رُجْحَانِ الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاسِعٌ جِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَنْهَضُ بِسَنَدِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ حُجَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا رَاجِحَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ الْحَافِظَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ تَرْجِيحَ وَزْنِ الصُّحُفِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَةً لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ - قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَزْنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ عَدَّهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي الصِّحَّةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْعُلَمَاءُ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةً مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَرْجَحُ
288
عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِبَاحَتِهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَإِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ لَعَلَّ أَقْوَاهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ وَجْهَ تَخْلِيصِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَآمَنُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي نَجَاةِ مِثْلِهِ.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)
تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ وَاضِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى رَبُّ الْعِبَادِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَأَنَّهُ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ نَوْعَيِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ مَنْ يَتَّبِعُونَ أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءَ أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مَوْضُوعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ التَّنْزِيلِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ - إِلَّا مَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ - هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يُوَصِّلُهَا إِلَى كَمَالِهَا، وَالنَّاهِي لَهَا عَنْ كُلِّ مَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْكَمَالِ وَكَانَ افْتِتَانُ النَّاسِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِفْسَادِ الْفِطْرَةِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ سَبَبًا
لِإِصْلَاحِهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهِ الْمُوجِبِ لِلْمَزِيدِ مِنْهُ - لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَّرَ سُبْحَانَهُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَخَلْقِ أَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ فِيهَا، وَهُوَ بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَيَانُ خَلْقِ نَوْعِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ مُسْتَعِدًّا لِلْكَمَالِ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تَصُدُّهُ عَنْهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَفْرَادِهِ مِنِ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ شَيَاطِينِهَا الْمُلْقِينَ لَهَا أَوْلِيَاءَ يَتْبَعُونَهُمْ دُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِ النِّعَمِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَيَتْلُوهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الزِّينَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا.
فَهَذَا السِّيَاقُ الِاسْتِطْرَادِيُّ أَوِ الْمُشْبِهُ لِلِاسْتِطْرَادِ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ
289
وَالثَّلَاثِينَ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِلْأُمَمِ وَجَزَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَاتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَعَصَاهُمْ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبَلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ - فَتَأَمَّلْ دِقَّةَ بَلَاغَةِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا أَوْطَانًا تَتَبَوَّءُونَهَا وَتَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّاحَةِ فِي الْإِقَامَةِ فِيهَا، وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) جَمْعُ مَعِيشَةٍ وَهِيَ مَا تَكُونُ بِهِ الْعِيشَةُ وَالْحَيَاةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَغَيْرِهَا. أَيْ وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ فِيهَا ضُرُوبًا شَتَّى مِمَّا تَعِيشُونَ بِهِ عِيشَةً رَاضِيَةً وَالنُّكْتَةُ فِي تَقْدِيمِ " لَكُمْ فِيهَا " عَلَى " مَعَايِشَ " مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَعَايِشِ كَوْنُهَا نِعَمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّاسِ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لَهَا، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَا كَوْنُهَا مَجْعُولَةً وَمَخْلُوقَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْهُ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْمَعَايِشِ لَهُمْ أَهَمَّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي مَكَّنَهُمْ فِيهَا - فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْمَعَايِشُ وَكَوْنُهَا فِي الْوَطَنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ الْمَرْءُ وَكَوْنُ الْمَرْءِ مَالِكًا لَهَا وَمُتَصَرِّفًا فِيهَا، وَلَا مَشَاحَةَ فِي أَنَّ الْأَهَمَّ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَعِيشُ بِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
فِي وَطَنِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْوَاعُهُ وَأَنَّ تَكُونَ كَثِيرَةً وَهُوَ مَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ وَلَا تَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي تَقْدِيمِ مَا يَنْبَغِي وَتَأْخِيرِ مَا يَنْبَغِي مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَايِشُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى وَأَنْعَامٍ وَطَيْرٍ وَسَمَكٍ وَمِيَاهٍ صَافِيَةٍ وَأَشْرِبَةِ مُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكَانَتْ بِذَلِكَ - تَقْتَضِي شُكْرًا كَثِيرًا - وَكَانَ الشَّكُورُ مِنَ الْعِبَادِ قَلِيلًا (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) قَالَ تَعَالَى عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِهَا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أَيْ شُكْرًا قَلِيلًا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ لَا كَثِيرًا يُنَاسِبُ كَثْرَتَهَا وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ يَكُونُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا - وَثَانِيًا بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا - وَثَالِثًا بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. وَهُوَ هُنَا حِفْظُ حَيَاتِنَا الْبَدَنِيَّةِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالِاسْتِعَانَةُ بِذَلِكَ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِنَا الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَأْهِيلِهَا لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِأُصُولِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ٢٩...) الخ.
290
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (مَعَائِشَ) بِالْهَمْزِ، وَغَلَّطَهُ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ لَا يُهْمَزُ بَعْدَ أَلْفِ الْجَمْعِ إِلَّا الْيَاءُ الزَّائِدَةُ فِي الْمُفْرَدِ كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَيَاءُ مَعِيشَةٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْجَمْعِ كَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا خَطَأً مِنْهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ رَوَاهَا وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفْتَجِرَهَا افْتِجَارًا وَفِي الْمِصْبَاحِ قَوْلُ أَنَّهَا مِنْ مَعَشَ لَا مَنْ عَاشَ فَالْيَاءُ زَائِدَةٌ وَجَمْعُهَا مَعَائِشُ قَالَ: وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ وَالْأَعْرَجُ أَيْ فِي الشَّوَاذِّ وَأَلْحَقَهَا الْمُفَسِّرُونَ وَبَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بِمَا سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَمْثَالِهَا كَمَصَائِبَ وَمَعَائِبَ، وَقَالُوا إِنَّهُ مِنْ تَشْبِيهِ مَفَاعِلَ بِفَعَائِلَ. وَنَقُولُ إِنَّ الْعَرَبَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَضَعَهُ غَيْرُهُمْ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ، وَالْقُرْآنُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ كَلَامٍ فَأَوْلَى أَلَّا يُنْكَرَ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ لُغَةً عِنْدَ مَنْ رَوَاهَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا قُرْآنًا إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ أَصْلِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَاسْتِعْدَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْكَمَالِ بِإِغْوَاءِ
291
عَدُوِّ الْبَشَرِ الشَّيْطَانِ، وَيَلِيهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُتَّقَى بِهِ ذَلِكَ الْإِغْوَاءُ وَالْفَسَادُ، قَالَ تَعَالَى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى خَلَقْنَا جِنْسَكُمْ أَيْ مَادَّتَهُ مِنَ الصَّلْصَالِ وَالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالطِّينُ اللَّازِبُ الْمُتَغَيِّرُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَا مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ صُورَةَ بَشَرٍ سَوِيٍّ قَابِلٍ لِلْحَيَاةِ، أَوْ قَدَّرْنَا إِيجَادَكُمْ تَقْدِيرًا، ثُمَّ صَوَّرْنَا مَادَّتَكُمْ تَصْوِيرًا، وَمَعْنَى الْخَلْقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الشَّيْءِ الْمُقَدَّرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: خَلَقَ الْخَرَّازُ الْأَدِيمَ (أَيِ الْجِلْدَ) وَالْخَيَّاطُ الثَّوْبَ - قَدَّرَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَأَخْلَقَ لِي هَذَا الثَّوْبَ (قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ أَوْجَدَهُ عَلَى تَقْدِيرٍ أَوْجَبَتْهُ الْحِكْمَةُ اهـ. وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ اللُّغَوِيَّ
صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً. وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ وَهُوَ يُصَدِّقُ بِخَلْقِ آدَمَ وَبِخَلْقِ مَجْمُوعِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ يُقَدِّرُ اللهُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ الْمَادَّةَ الَّتِي يَخْلُقُهُ مِنْهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: (إِحْدَاهَا) وَرُوَاتُهَا كَثِيرُونَ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ فِيهِمَا: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. (وَالثَّانِيَةُ) خُلِقُوا فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صُوِّرُوا فِي الْأَرْحَامِ. أَخْرَجَهَا الْفِرْيَابِيُّ. (وَالثَّالِثَةُ) قَالَ: أَمَّا " خَلَقْنَاكُمْ " فَآدَمُ، وَأَمَّا " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " فَذُرِّيَّتُهُ. أَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهَا قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ صَوَّرَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ صَوَّرَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَالْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْهِنْدُوسِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ قَالَ:
(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أَيْ قُلْنَا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَوَّيْنَاهُ وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، مَا جَعَلْنَاهُ بِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَعَلَّمْنَاهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَهُوَ مِنَ الْجِنِّ لَا مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوِ الْجِنَّةُ (بِالْكَسْرِ) جِنْسًا لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلشَّيَاطِينِ الَّذِينَ هُمْ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَأَشْقِيَاؤُهُمْ. وَهَذَا السُّجُودُ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ لِآدَمَ لَا سُجُودَ عِبَادَةً، إِذْ نَصُّ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيُّ قَدْ تَكَرَّرَ بِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَا صَرَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قُوَى الْأَرْضِ الَّتِي تُدَبِّرُهَا الْمَلَائِكَةُ بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ الْقَصَصِيِّ، وَالْأَمْرُ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ تَكْوِينِيٌّ قَدَرِيٌّ، لَا تَكْلِيفِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ
292
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٤١: ١١) وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ وَفِي نِهَايَتِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ كَرَامَةٌ كَرَّمَ اللهُ بِهَا آدَمَ. وَقَالَ: كَانَتِ السَّجْدَةُ لِآدَمَ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ. وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَزَادَ أَنَّ إِبْلِيسَ حَسَدَ آدَمَ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَكْرِيمٌ امْتَحَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ طَاعَةَ ذَلِكَ الْعَالَمِ الْغَيْبِيِّ لَهُ فَظَهَرَتْ عِصْمَةُ
الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَفَسَقَ إِبْلِيسُ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (١٧: ٦٢) حَسَدَهُ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْفُسُوقِ عَنْ أَمْرِ اللهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْبَقَرَةِ وَالْكَهْفِ وَغَيْرِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ السُّؤَالِ التَّالِي.
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَسْجُدَ لِآدَمَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرْتُكَ فِيهِ بِالسُّجُودِ؟ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أَيْ مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّنِي أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينَ، وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَأَشْرَفُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْأَشْرَفِ أَنْ يُكَرِّمَ مَنْ دُونِهِ وَيُعَظِّمَهُ، أَيْ وَإِنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَبُّهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ ضُرُوبًا مِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ، مَا أَوْقَعَ اللَّعِينَ فِيهَا إِلَّا حَسَدُهُ وَكِبْرُهُ فَإِنَّهُمَا يُعْمِيَانِ الْبَصَائِرَ.
(الْأَوَّلُ) الِاعْتِرَاضُ عَلَى رَبِّهِ وَخَالِقِهِ كَمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُهُ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَهَذَا كُفْرٌ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ أَوْ حِكْمَةٌ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ بَحَثَ عَنْهَا بِالتَّفَكُّرِ وَالْبَحْثِ وَسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ، وَصَبَرَ إِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، مُكْتَفِيًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ حَقَائِقِ خَلْقِهِ، وَحِكَمِ شَرْعِهِ، وَفَوَائِدِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
(الثَّانِي) الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ اعْتِرَاضَهُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُذْعِنُ لَا يَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ.
(الثَّالِثُ) جَعْلُ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَشْرُوطًا بِاسْتِحْسَانِ الْعَبْدِ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ رَفْضٌ لِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَتَرَفُّعٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَبْدِ، وَتَعَالٍ مِنْهُ إِلَى وَضْعِ نَفْسِهِ مَوْضِعَ النِّدِّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الدِّينِ كُفْرٌ، وَفِي الْعَقْلِ حَمَاقَةٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الرَّئِيسَ لِأَيَّةِ حُكُومَةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ جَمْعِيَّةٍ أَوْ شَرِكَةٍ إِذَا كَانَ لَا يُطِيعُهُ الْمَرْءُوسُونَ لَهُ إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَآرَاءَهُمْ، لَا يَلْبَثُ أَمْرُهُمْ أَنْ يَفْسُدَ بِأَنْ تَخْتَلَّ الْحُكُومَةُ وَتَسْقُطَ، وَيَنْكَسِرَ الْجَيْشُ وَيَهْلَكَ، وَتَنْحَلَّ الشَّرِكَةُ وَتُفْلِسَ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ يَقُومُ بِإِدَارَتِهَا كَثْرَةٌ، يَرْجِعُ نِظَامُهَا إِلَى جِهَةٍ
293
وَاحِدَةٍ، كَبَوَارِجِ الْحَرْبِ وَسُفُنِ التِّجَارَةِ وَمَعَامِلِ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الصَّلَاحُ وَالنِّظَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَتَوَقَّفُ
عَلَى طَاعَةِ الرَّئِيسِ وَهُوَ لَيْسَ رَبًّا تَجِبُ طَاعَتُهُ لِذَاتِهِ وَلَا لِنِعَمِهِ، وَلَا مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عَبِيدِهِ؟ ! وَيُشَارِكُ إِبْلِيسَ فِي هَذَا الْجَهْلِ وَمَا قَبْلَهُ كَثِيرُونَ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُؤْمِنِينَ: يَتْرُكُونَ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ مَثَلًا بِأَنَّ لَا فَائِدَةَ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صِيَامِهِمْ! ! عَلَى أَنَّ حِكَمَ الصِّيَامِ كَثِيرَةٌ جَلِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهَا مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ (ص١١٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ). وَفِي الْمَنَارِ.
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ إِبْلِيسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ اسْجُدْ لِآدَمَ فَقَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ". إِلَخْ. قَالَ جَعْفَرٌ فَمَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلِيسَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ.
(الرَّابِعُ) الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ بِالْمَادَّةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا التَّكْوِينُ. وَهَذَا جَهْلٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَوَادِّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْأَهْوَاءُ. وَأُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ التَّرْكِيبِ عَنَاصِرٌ بَسِيطَةٌ قَلِيلَةٌ يُرَجَّحُ أَنَّهَا مُتَحَوِّلَةٌ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَنِّ الْكِيمْيَاءِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ أَصْلُهَا خَسِيسٌ، فَالْمِسْكُ مِنَ الدَّمِ، وَجَوْهَرُ الْأَلْمَاسِ مِنَ الْكَرْبُونِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْفَحْمِ، وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُعَافَ مِنْ مَادَّةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُشْتَهَى وَيُحَبُّ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ اللهَبُ الْمُخْتَلِطُ بِالدُّخَّانِ فَمَا فَوْقَهُ دُخَّانٌ وَمَا تَحْتَهُ لَهَبٌ صَافٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْمَرْجِ مَعْنَاهَا الْخَلْطُ وَالِاضْطِرَابُ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ الصَّافِيَةُ خَيْرٌ مِنَ اللهَبِ الْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ. وَقَدْ سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى، بَلْ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.
(الْخَامِسُ) إِذَا سَلَّمْنَا جَدَلًا أَنَّ خَيْرِيَّةَ الشَّيْءِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهِ وَصَفَاتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَفْصِلُهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ نَوْعِهِ وَمُشَخِّصَاتِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جِنْسِهِ - فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الطِّينِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا فِيهَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعُقُولُ، وَلَيْسَ لِلنَّارِ أَوْ لِمَارِجِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْمَزَايَا وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا.
294
(السَّادِسُ) أَنَّ اللَّعِينَ غَفَلَ عَمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ آدَمَ مِنْ خَلْقِهِ بِيَدِهِ، وَالنَّفْخِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعْلِ اسْتِعْدَادِهِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ تَشْرِيفِهِ بِأَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَجَعْلِهِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا أَفْضَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ إِبْلِيسٍ بِعُنْصُرِ الْخِلْقَةِ وَبِالطَّاعَةِ.
فَهَذِهِ أُصُولُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ الَّتِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِيهَا حَسَدُهُ لِآدَمَ وَاسْتِكْبَارُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ وَنُظَرَاءَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ مُرْتَكِسُونَ فِيهَا كُلِّهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ عَدُوُّ اللهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، فَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، وَاسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللهِ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ فَأَهْلَكَهُ اللهُ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِلتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ حِوَارٌ فِيهِ بَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْوِينِ (كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ) وَأَنَّ الْقِصَّةَ بَيَانٌ لِغَرَائِزِ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةَ الْأَرْضِ الْمُدَبَّرَةَ بِأَمْرِ اللهِ وَإِذْنِهِ لِأُمُورِهَا بِالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نِظَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (٧٩: ٥) مُسَخَّرَةً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِذْ خَلَقَ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مُسْتَعِدًّا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا كُلِّهَا بِعِلْمِهِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِعَمَلِهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ كَخَوَاصِّ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ وَالنُّورِ وَالْأَرْضِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا، وَإِظْهَارِهِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِيهَا، وَمُسْتَعِدًّا لِاصْطِفَاءِ اللهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَإِقَامَةِ مَنِ اهْتَدَى بِهِمْ لِدِينِهِ وَمِيزَانِ شَرْعِهِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (٢: ٣١) إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّيْطَانَ عَاتِيًا مُتَمَرِّدًا عَلَى الْإِنْسَانِ بَلْ عَدُوًّا لَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ بِرُوحِهِ وَسَطٌ بَيْنِ رَوْحِ الْمَلَائِكَةِ الْمَفْطُورِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبَيْنَ رُوحِ الْجِنِّ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى شِرَارِهِمْ - وَهُمُ الشَّيَاطِينُ - التَّمَرُّدُ وَالْعِصْيَانُ، وَقَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا مِنْ رَبِّهِ فِي تَرْجِيحِ مَا بِهِ يَصْعَدُ إِلَى أُفُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا بِهِ يَهْبِطُ إِلَى أُفُقِ الشَّيَاطِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ زِيَادَةُ " لَا " فِي جُمْلَةِ " مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ " إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ " ص ": (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٣٨: ٧٥) وَقَدْ عُهِدَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ أَنْ تَجِيءَ " لَا " فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِ الصَّرِيحِ لِتَقْوِيَتِهِ وَتَوْكِيدِهِ، وَكَذَا فِي
غَيْرِ النَّفْيِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَحَاوُرِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٢٠: ٩٢، ٩٣) وَعَدُّوا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٦: ١٠٩)،
295
وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (٦: ١٥١) وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنَى النَّفْيِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى جَعْلِ " لَا " غَيْرَ زَائِدَةٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ. وَتَقَدَّمَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَأَشَرْنَا آنِفًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَنَعَ هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَالتَّضْمِينُ كَثِيرٌ مِنَ التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ النَّحْوِيُّونَ قِيَاسًا، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ كَثِيرًا بِالتَّعْدِيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) (٤: ٢) إِذْ ضَمِنَ الْأَكْلُ مَعْنَى الضَّمِّ فَعُدِّيَ بِ " إِلَى "، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَعْبِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ: (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (١٥: ٣٢) وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ مَعَهُمْ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ تَضْمِينَ الْمَنْعِ هُنَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالِاضْطِرَارِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا أَلْزَمَكَ أَوِ اضْطَرَّكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْفَصْلَ فِي حِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ جَمِيعًا بِـ " قَالَ " وَارِدٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعُ السُّؤَالَ يَتَشَوَّقُ لِمَعْرِفَةِ الْجَوَابِ. وَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ فَيُجَابُ.
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ وَالسُّقُوطُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَا دُونِهِ، أَوْ مِنْ مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ إِلَى مَا دُونِهَا. فَهُوَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الذَّنَبِ قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا آدَمَ وَكَانَتْ عَلَى نَشْزٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَابِسَةُ قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالظُّهُورِ فِي خِضَمِّ الْمَاءِ، فَخَيْرُ مَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِسُكْنَى الْإِنْسَانِ يَفَاعُهَا وَأَنْشَازُهَا، أَوِ الَّتِي أَسْكَنَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ جَنَّةُ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ لَهُ وَلِآدَمَ وَزَوْجِهِ بَعْدَ ذِكْرِ سُكْنَى الْجَنَّةِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَطه. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُلْحَقًا بِمَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْأَخْيَارِ قَبْلَ أَنْ يَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ مِنْ جِنْسِ الْجِنَّةِ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَيَكُونُ نَوْعَيْنِ مَلَائِكَةً وَشَيَاطِينَ، كَمَا قِيلَ فِي جَنَّةِ آدَمَ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حَيَاةِ النَّعِيمِ الْأُولَى لِلنَّوْعِ الَّتِي تُشْبِهُ نَعِيمَ الطُّفُولِيَّةِ لِأَفْرَادِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أَيْ فَمَا يَنْبَغِي لَكَ وَلَيْسَ مِمَّا تُعْطَاهُ مِنَ التَّصَرُّفِ أَنَّ
تَتَكَبَّرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلْكَرَامَةِ، أَوْ فِي هَذِهِ الْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ مَنْزِلَةُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مَكَانَةُ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ. وَالْكِبْرُ اسْمٌ لِلتَّكَبُّرِ وَهُوَ مَصْدَرُ تَكَبَّرَ أَيْ تَكَلَّفَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَكْبَرَ مِمَّنْ هِيَ فِي ذَاتِهَا أَصْغَرُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَفْسِيرُ الْكِبْرِ بِأَنَّهُ " بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ بِمَظْهَرِهِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ أَلَّا يُذْعِنَ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ بَلْ يَدْفَعُهُ أَوْ يُنْكِرُهُ تَجَبُّرًا وَتَرَفُّعًا، وَأَنْ يَحْتَقِرَ غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى
296
عَدَمِ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِمَزِيَّتِهِ وَفَضْلِهِ، أَوْ بِتَنْقِيصِ تِلْكَ الْمَزِيَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّ مَا دُونَهَا هُوَ فَوْقَهَا سَوَاءٌ ادَّعَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَرَفَعَهَا عَلَى غَيْرِهَا بِالْبَاطِلِ، أَوِ ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ بِأَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ بِقَصْدِ احْتِقَارِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَتَنْقِيصِ قَدْرِهِ. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ. أَيْ فَاخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ أَوِ الْمَكَانَةِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ: (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيْ أُولِي الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، أَظْهَرَ حَقِيقَتَكَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، بِإِظْهَارِهِ لِمَا كَانَ كَامِنًا فِي نَفْسِكَ مِنْ عِصْيَانِ الِاسْتِكْبَارِ. (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٣: ١٧٩) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى جَازَاهُ بِضِدِّ مُرَادِهِ، إِذْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ مَنْزِلَتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، فَجُوزِيَ بِهُبُوطِهَا مِنْهَا إِلَى مَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْمُتَكَبِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُورَةٍ حَقِيرَةٍ يَطَؤُهُمْ فِيهَا النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يُبْغِضُهُمْ إِلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَحْتَقِرُونَهُمْ وَلَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ - وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَلْيَقُ بِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلتَّكْلِيفِ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ جَزْمِهِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِلتَّكْوِينِ وَاقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ قَالَ:
" يَقُولُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ بِأَمْرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ: فَاهْبِطْ مِنْهَا بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مِنَ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الذَّلِيلِينَ الْحَقِيرِينَ. مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَمُكَافَأَةً لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ، وَسَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ".
(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ قَالَ بِلِسَانٍ قَالَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَوْ لِسَانِ حَالِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ عَلَى الْآخَرِ: رَبِّ أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ آدَمُ
وَذُرِّيَّتُهُ فَأَكُونَ أَنَا وَذُرِّيَّتِي أَحْيَاءً مَا دَامُوا أَحْيَاءً وَأَشْهَدُ انْقِرَاضَهُمْ وَبَعْثَهُمْ (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ مُخْبِرًا، أَوْ قَالَ مُرِيدًا وَمُنْشِئًا كَمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اهـ. فَهُوَ يُؤَكِّدُ بِهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْحِوَارِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ، لَا مُرَاجَعَةَ أَقْوَالٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ جُعِلَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ السُّؤَالِ إِيجَازًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَكَانَ جَوَابُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١٥: ٣٦ - ٣٨) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ
297
مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَرَادَ إِبْلِيسُ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ فَقِيلَ لَهُ " إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ " قَالَ: النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَبَيْنَ النَّفْخَةِ وَالنَّفْخَةِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَأُخْرِجَ الْأَوَّلُ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: فَلَمْ يُنْظِرْهُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى فِي الصُّورِ هِيَ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي بِهَا يُبْعَثُونَ وَلَيْسَ بَعْدَهَا مَوْتٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَرَادَ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ تُسَمَّى نَفْخَةَ الْفَزَعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ) (٢٧: ٨٧) وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩: ٦٨) وَلِاخْتِلَافِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ النَّفَخَاتِ ثَلَاثٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْبَعٌ. وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّهُمَا ثِنْتَانِ: وَهُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩: ٦، ٧) فَهُمْ يَفْزَعُونَ فَيُصْعَقُونَ، أَيْ يَمُوتُونَ بِالْأُولَى وَهِيَ الرَّاجِفَةُ وَيُبْعَثُونَ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي تَرْدُفُهَا وَتَتْبَعُهَا. وَأَصْلُ الصَّعْقِ تَأْثِيرُ الصَّاعِقَةِ فِيمَنْ تُصِيبُهُ مِنْ إِغْمَاءٍ وَغَشَيَانٍ أَوْ مَوْتٍ هُوَ الْغَالِبُ ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَشَيَانِ مِنْ كُلِّ صَوْتٍ شَدِيدٍ وَعَلَى الْمَوْتِ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ.
وَفِيمَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفَزَعِ وَالصَّعْقِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ عَلَى مَا اسْتَقْصَاهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ. وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ إِلَّا
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلٍ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ. مَنِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللهُ أَنْ يُصْعَقُوا؟ قَالَ: " هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ الْحَافِظُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرَيُّ اهـ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا بَلْ أَدْمَجَهُ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشُهَدَاءِ اللهِ حُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَشْهَدُونَ فِي الْآخِرَةِ بِضَلَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِهَدْيِهِمْ وَسُنَّتِهِمُ فِي اتِّبَاعِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْأَنْبِيَاءُ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ قَطْعًا، فَكُلُّ نَبِيٍّ يَشْهَدُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْهُمْ، يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا فَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الصِّدِّيقِينَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ وَكُلُّ صَدِّيقٍ شَهِيدٌ، وَمِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَلَا صَدِّيقٍ، وَلَكِنَّ كُلَّ شَهِيدٍ صَالِحٌ وَمَا كُلُّ صَالِحٍ بِشَهِيدٍ، فَبَيْنَ طَبَقَاتِ (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (٤: ٦٩) الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
الْمُطْلَقُ. وَإِذَا كَانَ الصَّعْقُ الْمُرَادُ هُوَ الْمَوْتُ فَلَا يَظْهَرُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَجْهٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْغَشَيَانُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي آيَةِ النَّمْلِ بِالْفَزَعِ وَكَانَتِ النَّفْخَةُ الْمُحْدِثَةُ لَهُ هِيَ الْأُولَى إِذْ يَتْلُوهُ مَوْتُ الْخَلْقِ وَخَرَابُ الدُّنْيَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ. وَظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا.
فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَنْتَهِي إِنْظَارُهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ بَلْ يَمُوتُ عَقِبَ النَّفْخَةِ الْأُولَى الَّتِي يَتْلُوهَا خَرَابُ هَذِهِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) (٦٩: ١٣، ١٤) إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يَشْمَلُ زَمَنَ مُقَدِّمَاتِهِ فَيُسَمَّى كُلُّ ذَلِكَ يَوْمًا، كَمَا يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى زَمَنِ الْمُقَدِّمَاتِ وَحْدَهَا وَتَارَةً عَلَى زَمَنِ الْغَايَةِ وَحْدَهَا؛ إِذْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ كَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا مِنْ سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) (٦٩: ١٥) الْآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقُ بِأَنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ
مُوسَى آخِذًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ قَالَ " فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ غَشَيَانٌ يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي مَوْقِفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ صَعْقُ النَّفْخَةِ الْأُولَى الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَإِلَّا كَانَ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَارِضُهُ مِمَّا عَلِمْتَ بَعْضَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ بِالَّذِي يَتَّسِعُ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنْهُمْ هَذَا الْإِنْظَارَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ وَالْإِغْوَاءِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ حِكْمَتِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الْإِغْوَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الْغِوَايَةِ وَهِيَ ضِدُّ الرَّشَادِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ الْمُرْدِي مِنْ قَوْلِهِمْ غَوَى الْفَصِيلُ - كَهَوَى وَرَمَى، وَغَوِيَ كَهَوِيَ وَرَضِيَ - إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ فَهَزَلَ وَكَادَ يَهْلَكُ. وَصِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ مِنْ أَجْلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ أُقْسِمُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَأَلْزَمَنَّهُ فَأَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَأَقْطَعُهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أُزَيِّنَ
لَهُمْ سُلُوكَ طُرُقٍ أُخْرَى أُشَرِّعُهَا لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ لِيَضِلُّوا عَنْهُ، وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَيْ فَلَا أَدَعُ جِهَةً مِنْ جِهَاتِهِمُ الْأَرْبَعِ إِلَّا وَأُهَاجِمُهُمْ مِنْهَا، وَهَذِهِ جِهَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَمَا أَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي يُرِيدُ إِضْلَالَهُمْ عَنْهُ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) (٦: ١٥٣) الْآيَةَ مَا يُوَضِّحُ مَا هُنَا، وَفُسِّرَ فِي الْآثَارِ بِالْإِسْلَامِ، وَبِطَرِيقَيِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِصَدِّهِ عَنْهُمَا (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) لِنِعَمِكَ عَلَيْهِمْ فِي عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ وَمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ رُسُلِكَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَكُونُ الشُّكْرُ التَّامُّ الْمُمْكِنُ صِفَةً لَازِمَةً لِأَكْثَرِهِمْ بَلْ لِلْأَقَلِّينَ مِنْهُمْ، قِيلَ إِنَّهُ قَالَ هَذَا عَنْ ظَنٍّ فَأَصَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٤: ٢٠) وَقِيلَ عَلَى عِلْمٍ بِالدَّلَائِلِ لَا بِالْغَيْبِ، وَالدَّلَائِلُ النَّظَرِيَّةُ غَيْرُ الْقَطْعِيَّةِ ظُنُونٌ. وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الشُّكْرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) وَهِيَ فَاتِحَةُ هَذَا السِّيَاقِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَرْبَعِ قَالَ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قَالَ أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) فَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ
(وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) أُشْبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَسْتَنُّ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) قَالَ: مُوَحِّدِينَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِأَصْلِ أُصُولِهِ وَمَنْبَتِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ. " مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ " مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا، " وَمِنْ خَلْفِهِمْ " - مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ " وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ": مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ " وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ " مِنْ جِهَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَهِيَ إِنَّمَا تُخَالِفُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ مُخَالَفَةَ تَنَاقُضٍ فِي اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَلِ الْمُرَادُ فِيمَا بَيْنَ الْأَيْدِي مَا هُوَ حَاضِرٌ أَوْ مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ وَيَتَخَلَّفُ عَنْهُ وَهُوَ الدُّنْيَا أَمْ مَا هُوَ وَرَاءَ حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ وَهُوَ الْآخِرَةُ؟ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَنْهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ " مِنْ فَوْقِهِمْ " عَلِمَ أَنَّ اللهَ فَوْقَهُمْ، وَفِي لَفْظٍ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مَا هُوَ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مَعَ تَفْصِيلٍ مَا كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَهُمَا مِنْ تَلَامِيذِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْفَوْقِيَّةُ مَعْنَوِيَّةٌ كَغَيْرِهَا، وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْطِقُ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَمِنْ صِفَاتِهِ " الْعَلِيُّ " فَنُؤْمِنُ بِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ جَمِيعًا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ بِمَا أَثْبَتْنَا بِهِ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَالشَّرُّ يُحَسِّنُهُ لَهُمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ " اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ".
(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) يُقَالُ ذَأَمَ الْمَتَاعَ (مِنْ بَابِ فَتَحَ) وَذَامَهُ بِالتَّخْفِيفِ يُذِيمُهُ ذَيْمًا وَذَامًا (بِالْقَلْبِ) إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ. وَيُقَالُ دَحَرَ الْجُنْدُ الْعَدُوَّ إِذَا طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ لِلَّفْظَيْنِ، وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالْخُرُوجِ قَدْ ذُكِرَ لِبَيَانِ سَبَبِهِ وَهَذَا لِبَيَانِ صِفَتِهِ، وَالْمَعْنَى اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكَ مَعِيبًا مَذْمُومًا مِنَ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ مَطْرُودًا مِنْ جَنَّتِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَجَعَلَهُ رَجِيمًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) جَهَنَّمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، أَخْبَرَ تَعَالَى خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يَتَّبِعْ إِبْلِيسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِيمَا يُزَيِّنُهُ لَهُمْ مِنَ
الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْفُجُورِ وَالْفِسْقِ؛ فَإِنَّ جَزَاءَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ أَهْلَ دَارِ الْعَذَابِ يَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ ص: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨: ٨٥) وَيَدْخُلُ فِي خِطَابِهِ أَعْوَانُهُ فِي الْإِغْوَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالنُّصُوصُ فِيهِمْ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (مِنْهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلْءَ يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَإِلَّا قِيلَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ وَيَعْفُو عَنْهُمْ.
وَفِي سُورَتَيِ الْحِجْرِ وَص اسْتِثْنَاءُ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ إِغْوَائِهِ - لَعَنَهُ اللهُ - حِكَايَةً عَنْهُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَكْثَرِ هُنَا. وَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٤٢) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (١٧: ٦٥) وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاعِيَةُ شَرٍّ، وَمَا تَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ إِلَّا مُخْتَارًا مُرَجِّحًا لِلْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ وَلِلشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُضِلِّينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِيَ) (١٤: ٢٢) وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ التَّذْكِيرِ بِهَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْآتِيَةِ فِي نُصْحِ بَنِي آدَمَ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ خِطَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا التَّحَاوُرِ الطَّوِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ خِطَابٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَالْوَحْيِ لِرُسُلِ الْبَشَرِ أَمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَيْفَ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرِيمَ؟ وَتَحَكَّمُوا فِي الْجَوَابِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ فِي جَوَابِ أَسْئِلَتِهِ، وَاسْتَشْكَلُوا أَمْرَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمُ الْمُبِينِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
301
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (الْآَيَةَ ١٧: ٦٤) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (٧: ٢٨) وَإِنَّمَا يُشْكِلُ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلتَّكْلِيفِ. وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْخِطَابَ لِلتَّكْوِينِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْوَاقِعِ مِنْ صِفَةِ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْتِعْدَادِهِمَا وَأَعْمَالِهِمَا الِاخْتِيَارِيَّةِ.
وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيهَا جَدَلٌ طَوِيلٌ، فَالْأَوَّلُونَ يُثْبِتُونَ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَنْفُونَ رِعَايَةَ الرَّبِّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلٍّ مِنْ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَجْعَلُونَ الْإِنْسَانَ مَجْبُورًا فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَالْآخَرُونَ
يُخَالِفُونَهُمْ، فَنَدَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْجَدَلِيَّةِ لِابْنَيْ بَجْدَتِهَا الرَّازِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ الشَّيَاطِينِ وَكَشْفِ شُبْهَةِ الْمُسْتَشْكِلِينَ لَهُ وَلِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ إِغْوَائِهِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ التَّكْوِينِ.
حِكْمَةُ خَلْقِ اللهِ الْخَلْقَ وَاسْتِعْدَادُ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ:
اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَنْ يَتَجَلَّى بِهَا الرَّبُّ الْخَالِقُ لَهَا بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِيُعْرَفَ وَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيَحْكُمَ وَيَجْزِيَ فَيَعْدِلَ وَيَغْفِرَ وَيَعْفُوَ وَيَرْحَمَ، إِلَخْ. فَهِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَمَجْلَى سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ، وَتُرْجُمَانُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١٧: ٤٤) لِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالنِّظَامِ، الدَّالَّيْنِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَوَحْدَانِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ، الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرُّ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ، مَدَارُهُ عَلَى مَا يُؤْلِمُ الْأَحْيَاءَ أَوْ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ شَرًّا لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ أَعَظَمُ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ أَكْبَرَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي يُزِيلُ مَرَضَهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَوْ أَطْوَلُ إِيلَامًا مِنْهُ، وَقَدْ تَفُوتُهُ مَنْفَعَةٌ صَغِيرَةٌ يَكُونُ فَوْتُهَا سَبَبًا لِمَنْفَعَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، كَالَّذِي يَبْذُلُ مَالَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ فَيُكْرَمُ وَيَكُونُ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ. وَحَظُّهُ مِنْ كَرَامَةِ الْأُمَّةِ وَعُمْرَانِ الْوَطَنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى تَحَقُّقِ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى أَنْ يَخْلُقَ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُقَابَلَاتُ وَالنِّسَبُ بَيْنَ بَعْضِهَا مُخْتَلِفَةً مِنْ تَوَافُقٍ وَتَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ أَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَأَنْ يُسِيءَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ
302
بَعْضُهُمْ مَفْطُورًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، دَائِبًا عَلَى عِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ، مُسْتَعِدًّا لِلْأَضْدَادِ فِي مَيْلِهِ وَطَبْعِهِ، يَتَنَازَعُهُ عَامِلَا الْكُفْرِ وَالشُّكْرِ، وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَقِيقَتَا التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَتَتَجَاذَبُهُ دَاعِيَتَا الْفُجُورِ وَالْبِرِّ، فَيَكُونُ لِشُكْرِهِ وَبِرِّهِ وَطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ مِنْ عِظَمِ الشَّأْنِ مَعَ مُعَارَضَةِ الْمَوَانِعِ مَا لَيْسَ
لِلْفُطُورِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَعْصِي فَيُفِيدُهُ الْعِصْيَانُ خَوْفًا وَرَهْبَةً، وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنِ اسْمَيِ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ وَقَدْ يَسْتَكْبِرُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ وَيُصِرُّ عَلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَيَكُونُ مَوْضِعًا لِعِقَابِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَآيَةٌ فِيهِ عَلَى تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ.
وَلَا نَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَفْطُورًا عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، مَجْبُورًا عَلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ الْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ عَلَى الرَّبِّ الْمَعْبُودِ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ - وَهُوَ شَرُّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالْجِنِّ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي عِصْيَانِهِ بَانِيًا إِيَّاهُ عَلَى شُبْهَةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللهُ نَوْعَهُ فَكَانُوا كَالْبَشَرِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ (الْجِنِّ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨: ٥٠) الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُودُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَعُقُوبَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ بَعْدَ عِصْيَانِ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى رَبِّهِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَصَرَّ عَلَى عِصْيَانِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى رَبِّهِ فَلَعَنَهُ وَأَخْزَاهُ، وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ عَدْلِهِ فِي عِقَابِهِ، وَقَصَّ قَصَصَهُمَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا بِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ النَّوْعَيْنِ، وَمَآلَ الْعَمَلَيْنِ، عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَابْتِلَاءً - اخْتِبَارًا - لِلْعَالِمِينَ يَمِيزُ اللهُ بِهِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ، وَيُزِيلُ بَيْنَ الطَّيِّبِينَ وَالْخَبِيثِينَ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمَا أَنَّ الْحَيَاةَ جِهَادٌ، يَظْهَرُ بِهِ مَا أُودِعَ فِي النُّفُوسِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَأَنَّ مِنْ حِكَمِ تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ، وَالْمَسُوسُ وَالسَّائِسُ، وَالْقَائِدُ وَالْجُنْدِيُّ، وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ، وَالزَّارِعُ وَالصَّانِعُ، وَالتَّاجِرُ وَالْعَامِلُ. فَلَوْلَا الْعُمَّالُ - مَثَلًا - لَمَا اتَّسَعَتْ مَسَائِلُ الْعُلُومِ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِمَا كَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَتْ نِعَمُ الْخَالِقِ وَسُنَنُهُ وَدَقَائِقُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَمَظَاهِرِ الْأَسْمَاءِ، وَمُوجِبَاتِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتْقَنٌ فِي صُنْعِهِ، مُظْهِرٌ
303
لِنَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا
شَيْءَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَلَا بِشَرٍّ مَحْضٍ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (١٥: ٨٥) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨: ٢٧)
وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنْ مَعْصِيَتَيْ أَبَوَيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ظُهُورُ اسْتِعْدَادِهِمْ وَإِظْهَارُ حُكْمِهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ فِي حَالَيِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَحُسْنُ الْأُسْوَةِ، وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَالِابْتِلَاءُ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهُ مِمَّا بَيَّنَّا - وَإِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الْآخَرِ - فَلَا خَفَاءَ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى فِطْرَةِ نَوْعَيْهِمَا، الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِيهِمَا، فَجِنْسُ الْجِنِّ أَوِ الْجِنَّةِ الْغَيْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ نَوْعَانِ أَوْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مَلَكِيٌّ يُلَابِسُ بَعْضُهُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، وَصِنْفٌ شَيْطَانِيٌّ يُلَابِسُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " ثُمَّ قَرَأَ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمَثَلُ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِرُوحِ الْإِنْسَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُ طَبْعَهُ - كَمَثَلِ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِجَسَدِهِ وَتَأْثِيرِهَا فِيهِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ وَسَمَّاهَا بَعْضُ الْأُدَبَاءِ النَّقَاعِيَّاتِ، فَإِنَّ مِنْهَا جِنَّةَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الْقَابِلِ لَهَا بِضَعْفِهِ، وَالْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا الصِّحَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْجِنُّ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لِلرُّوحَانِيِّينَ: الْمُسْتَتِرَةُ عَنِ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا بِإِزَاءِ الْإِنْسِ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ فَكُلُّ مَلَائِكَةٍ جِنٌّ وَلَيْسَ كُلُّ جِنٍّ مَلَائِكَةً، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا جِنٌّ. وَقِيلَ: بَلِ الْجِنُّ بَعْضُ الرُّوحَانِيِّينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَانِيِّينَ ثَلَاثَةٌ: أَخْيَارٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَوْسَاطٌ فِيهِمْ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الْجِنُّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) (٧٢: ١) إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) (٧٢: ١٤) وَالْجِنَّةُ جَمَاعَةُ الْجِنِّ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ وَحْدَةِ الْجِنْسِ؛
فَإِنَّهُ غَلَبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ اسْمَانِ مُمَيَّزَانِ لَهُمَا لِتَضَادِّهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْجِنَّةَ - بِالْكَسْرِ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٣٧: ١٥٨) بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَ
304
الْآيَةِ عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (٣٧: ١٤٩) الْآيَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْجِنَّةَ فِي الْآيَةِ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّسَبِ قَوْلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) أَيِ الْمَلَائِكَةُ (إِنَّهُمْ لَمُحْضِرُونَ) فِي النَّارِ مُقْدِمُونَ عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ. اهـ. مُلَخَّصًا بِالْمَعْنَى.
نَكْتَفِي هُنَا بِهَذَا وَنُحِيلُ فِي زِيَادَةِ بَسْطِهِ وَإِيضَاحِهِ عَلَى مَا تَكَرَّرَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ بَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوَتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَارِينَ فِي الْأَعْمَالِ وَكَذَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَوَسْوَسَتِهِمْ وَدَرَجَةِ تَأْثِيرِهَا فِي آيَاتِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا وَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي حِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
وَمِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ إِذَا قُوبِلَ مَا هَاهُنَا بِمَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ يُرَى خِلَافٌ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ مِنْ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْفَصْلِ فِي بَدْءِ كُلٍّ مِنْهَا بِـ " قَالَ " عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَاهُنَا عَطَفَ أَمْرَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ بِالْهُبُوطِ وَأَمْرَهُ الْأَوَّلَ لَهُ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ، وَكَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ " فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي " عَلَى أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَفَصَلَ طَلَبَ إِبْلِيسَ لِلْإِنْظَارِ وَجَوَابَ الرَّبِّ لَهُ وَأَمْرَهُ الثَّانِيَ بِالْخُرُوجِ وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَقَدْ وَصَلَ كُلًّا مِنْ طَلَبِ الْإِنْظَارِ وَجَوَابِهِ بِالْفَاءِ وَكَذَا فِي سُورَةِ ص، وَفَصَلَ تَعْلِيلَ إِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ بِإِغْوَاءِ الرَّبِّ لَهُ إِذْ قَالَ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) (١٥: ٣٩) فَخَالَفَ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَكِنِ اتَّفَقَتِ السُّورَتَانِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ.
فَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّنَا عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُنَزَّلَةً لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ اخْتَلَفَتْ أَسَالِيبُهَا بَيْنَ إِيجَازٍ وَإِطْنَابٍ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، حَتَّى لَا تُمَلَّ لِلَفْظِهَا وَلَا لِمَعَانِيهَا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَحْكِيَّةَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَبِّرَةٌ
عَنِ الْمَعَانِي وَشَارِحَةٌ لِلْحَقَائِقِ وَلَيْسَتْ نَقْلًا لِأَلْفَاظِ الْمُحْكَى
305
عَنْهُمْ بِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ أَعَاجِمُ، وَلَمْ تَكُنْ لُغَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْهُمْ كَلُغَةِ الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا - دَعْ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْقِصَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِحَقَائِقَ ثَابِتَةٍ فِي نَفْسِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ، وَمَا ثَمَّ أَقْوَالٌ قِيلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا - عَلِمْنَا هَذَا وَذَاكَ. وَلَكِنَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، وَأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَالِيبِ وَطُرُقَ التَّعْبِيرِ فِيهِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَا تَخْتَلِفُ إِلَّا لِنُكَتٍ تُفِيدُ مِنْ فَهْمِهَا فَائِدَةً لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، فَمَا فَائِدَةُ مَا ذُكِرَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْلَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي مَوْضِعِهِ أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مِثْلِهِ بِالْفَصْلِ اسْتِئْنَافًا وَلَا يَحْتَاجُ فِي زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ إِلَى نُكْتَةِ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَجَدْتَ أَنَّ طَلَبَ إِبْلِيسَ الْإِنْظَارَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ مَعْطُوفًا بِالْفَاءِ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ مَقْرُونًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَلَعَنَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - فَلَا غَرْوَ إِذَا جُعِلَ طَلَبُهُ لِلْإِنْظَارِ فِيهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبِلَهُ مُتَفَرِّعًا عَنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ إِذْ طَرَدْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، فَأَطِلْ حَيَاتِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِكَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى جَوَابًا مَعْطُوفًا عَلَى طَلَبِهِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الْحِكْمَةُ، لَا إِلَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ أُمْنِيَّتُهُ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى فِي إِنْظَارِ إِبْلِيسَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ هَذَا مِنْ طَلَبِهِ الْإِنْظَارَ.
وَأَمَّا نُكْتَةُ حَذْفِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) مَعَ إِثْبَاتِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّدْرِ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ وَالْقِصَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) وَالْفَاءُ تُوجِبُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبِلَهَا، وَالنِّدَاءُ أَوَّلًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَاسْتِئْنَافَ الْكَلَامِ وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَّةٍ لَا يَقْتَضِيهَا مَا قَبْلَهَا، فَلَمْ تَحْسُنِ الْفَاءُ مَعَ قَوْلِهِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) وَالْمَوْضِعَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا نِدَاءٌ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَ مَا بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ وُصِلَ الْقَسَمُ فِيهِمَا بِالْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْفَاءِ اهـ.
306
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)
هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ الْوَارِدِ فِي النَّشْأَةِ الْأَوْلَى لِلْبَشَرِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، أُنْزِلَتْ تَمْهِيدًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ بِمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي وَعْظِ بَنِي آدَمَ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أَيْ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ - كَمَا هُوَ نَصُّ التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ - عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ -
307
كَانَ بَعْدَ الْوَسْوَسَةِ لِآدَمَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالنِّدَاءُ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَالْأَمْرُ بِالسُّكْنَى قِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، يُقَابِلُهُ جَعْلُهُ أَمْرًا تَكْوِينِيًّا قَسْرِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي أَمْرِ إِبْلِيسَ، وَاللَّامُ فِي الْجَنَّةِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَهِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا أَوْ لَدَيْهَا آدَمُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ
(ن) :(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (٦٨: ١٧) ؛ لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ قِصَّتِهِ الْمُكَرِّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ رَفَعَهُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْجَنَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا جَنَّةُ الْآخِرَةِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ لَهُ زَوْجٌ؛ أَيِ امْرَأَةٌ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَىأَلْقَى عَلَى آدَمَ سُبَاتًا انْتَزَعَ فِي أَثْنَائِهِ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَخَلَقَ لَهُ مِنْهُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهَا سُمِّيَتِ امْرَأَةً " لِأَنَّهَا مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ " وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ " عَلَى حَدِّ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (٢١: ٣٧) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ " أَيْ لَا تُحَاوِلُوا تَقْوِيمَ النِّسَاءِ بِالشِّدَّةِ، وَوَثَنِيُّوا الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِآدَمَ أُمَّا وَلَهَا فِي مَدِينَتِهِمُ الْمُقَدِّسَةِ (بنارس) قَبْرٌ عَلَيْهِ قُبَّةٌ بِجَانِبِ قُبَّةِ قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُمِّهِ عِنْدَهُمُ الرَّمْزُ إِلَى الطَّبِيعَةِ. وَالْآيَةُ تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فِي السُّكْنَى وَالْمَعِيشَةِ بِاقْتِضَاءِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ الَّذِي يُعَدُّ مَا خَالَفَهُ شُذُوذًا.
(فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) أَيْ فَكُلَا مِنْ ثِمَارِهَا حَيْثُ شِئْتُمَا - وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) (٢: ٣٥) - وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَضَمَّنَ التِّكْرَارُ لِلْقَصَصِ فَوَائِدَ فِي كُلٍّ مِنْهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ فِي الْمَجْمُوعِ.
(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (٢: ١٨٧) فَهُوَ يَقْتَضِي الْبُعْدَ عَنْ مَوَارِدِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُغْرِي بِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ وَرَعًا وَاحْتِيَاطًا، " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَعْرِيفُ الشَّجَرَةِ كَتَعْرِيفِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ مُشَارٌ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ بِمَا يُعَيِّنُ شَخْصَهَا، وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ نَوْعُهَا وَلَا وَصْفُهَا، إِلَّا مَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَوَّلِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مَا نَصُّهُ " ٨ وَغَرَسَ الرَّبُّ الْإِلَهُ جَنَّةً مِنْ عَدْنٍ شَرْقًا وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ ٩ وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلْأَكْلِ وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ " ثُمَّ قَالَ " ١٥ وَأَخَذَ الرَّبُّ الْإِلَهُ
308
آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا ١٦ وَأَوْصَى
الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا ١٧ وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ " اهـ. وَقَدْ أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَمْ يَمُتْ يَوْمَ أَكَلَهَا وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمَا، أَيْ بِفِعْلِهِمَا مَا يُعَاقَبَانِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْحِرْمَانِ مِنْ ذَلِكَ الرَّغَدِ مِنَ الْعَيْشِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ تَعَبٍ فِي الْمَعِيشَةِ.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَسْوَسَةُ الْخَطِرَةُ الرَّدِيئَةُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ وَهُوَ صَوْتُ الْحُلِيِّ، وَالْهَمْسُ الْخَفِيُّ قَالَ: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) (٢٠: ١٢٠) وَقَالَ: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ) (١١٤: ٤) وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَسْوَاسٌ اهـ. فَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ هِيَ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَوْ أَرْوَاحِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مِرَارًا. وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَكَلَّمَهُمَا وَأَقْسَمَ لَهُمَا، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَمَنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ تَمْثِيلًا لِبَيَانِ حَالِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي تُنْقَلُ فِيهَا يُفَسِّرُ الْوَسْوَسَةَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الطُّفُولَةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ هَمًّا وَلَا نَصَبًا إِلَى طَوْرِ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ يَكُونُ كَثِيرَ التَّعَرُّضِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِهَا. وَقَدْ عَلَّلْتُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ بِأَنَّ غَايَتَهَا أَوْ غَرَضَهُ مِنْهَا أَنْ يُظْهِرَ لَهُمَا مَا غُطِّيَ وَسُتِرَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا يُقَالُ: وَارَى الشَّيْءَ إِذَا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، وُورِيَ الشَّيْءُ غُطِّيَ وَسُتِرَ، وَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَمْرٍ شَائِنٍ وَعَمَلٍ قَبِيحٍ. وَالسَّوْءَةُ السَّوْآءُ الْخَلَّةُ الْقَبِيحَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمُخَالِفَةُ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَسَوْءَةٌ لَكَ، وَوَقَعَتْ فِي السَّوْءَةِ السَّوْآءِ، قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ:
لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ يَا لِقَوْمِي لِلسَّوْءَةِ السَّوْآءِ
ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ بَدَتْ سَوْءَتُهُ وَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا اهـ. وَإِذَا أُضِيفَتِ السَّوْءَةُ إِلَى الْإِنْسَانِ أُرِيدَ بِهَا عَوْرَتُهُ الْفَاحِشَةُ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُهُ ظُهُورُهَا بِمُقْتَضَى الْحَيَاءِ الْفِطْرِيِّ مَا لَمْ يُفْسِدْهُ بِتَعَوُّدِ إِظْهَارِهَا مَعَ آخَرِينَ فَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمْ، وَجُمِعَتْ هُنَا عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إِضَافَةِ الْمُثَنَّى إِلَى ضَمِيرِهِ إِذْ يَسْتَثْقِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ فِيمَا هُوَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْمَعُونَ الْمُضَافَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (٦٦: ٤). وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْإِخْفَاءِ أَوِ الْمُوَارَاةِ لِسَوْآتِهِمَا عَنْهُمَا
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) (٢٠: ١٢١) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) أَيْ وَقَالَ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ لَهُمَا: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنْ تَأْكُلَا مِنْهَا إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: اتِّقَاءِ
أَنْ تَكُونَا بِالْأَكْلِ مِنْهَا مَلَكَيْنِ، أَيْ كَالْمَلَكَيْنِ فِيمَا أُوتِيَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْخَصَائِصِ كَالْقُوَّةِ وَطُولِ الْبَقَاءِ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بِفَوَاعِلِ الْكَوْنِ الْمُؤْلِمَةِ وَالْمُتْعِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ " مَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّامِ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الزَّجَّاجُ بِمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (٢٠: ١٢٠) وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ - أَوِ اتِّقَاءِ أَنْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ أَلْبَتَّةَ. وَأَوْهَمَهُمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُعْطِي الْآكِلَ صِفَةَ الْمَلَائِكَةِ وَغَرَائِزَهُمْ وَيَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي الْحَيَاةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى آدَمَ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ مِنَ الْعَالِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ دُونَ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْمُسَخَّرِينَ لِتَدْبِيرِ أُمُورِهَا الَّذِينَ كَانَ مَعْنَى سُجُودِهِمْ لَهُ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لِنَوْعِهِ جَمِيعَ قُوَى الْأَرْضِ وَعَوَالِمِهَا - وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى عَدَمِ سُجُودِ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) (٣٨: ٧٥) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَالِينَ خَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ.
(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ادَّعَى اللَّعِينُ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ مَحَلَّ الظَّنَّةِ فِي نُصْحِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا. أَكَّدَ دَعْوَاهُ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ وَأَغْلَظِهَا، وَهِيَ الْقَسَمُ وَإِنَّ وَاللَّامُ وَتَقْدِيمُ (لَكُمَا) عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الدَّالُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَأَقْسَمَ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ كَقَاسَمَهُ الْمَالَ، أَيْ أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا قِسْمًا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّيغَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ فَاعَلَ وَرَدَتْ لِلْمُفْرَدِ كَثِيرًا وَهَذَا مِنْهَا فَمَعْنَاهُ: وَحَلَفَ لَهُمَا، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى أَصْلِهَا وَوَجَّهُوهُ بِوُجُوهٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا أَقْسَمَا لَهُ أَنَّهُمَا يَقْبَلَانِ نَصِيحَتَهُ إِذَا أَقْسَمَ أَنَّهُ نَاصِحٌ: وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمَا طَلَبَا مِنْهُ
الْقَسَمَ فَجَعَلَ طَلَبَهُمَا الْقَسَمَ كَالْقَسَمِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِثْلُ هَذَا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُقْسِمَ لَهُمَا وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسِمَا لَهُ وَبَنَى قَسَمَهُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَأْلُوفِ.
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) دَلَّى الشَّيْءَ تَدْلِيَةً - أَرْسَلَهُ إِلَى الْأَسْفَلِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا لِأَنَّ فِي الصِّيغَةِ مَعْنَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ - أَيْ فَمَا زَالَ يَخْدَعُهُمَا بِالتَّرْغِيبِ فِي الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ بِذَلِكَ لَهُمَا بِهِ حَتَّى أَسْقَطَهُمَا وَحَطَّهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَطَاعَةِ الْفَاطِرِ بِمَا غَرَّهُمَا بِهِ، وَالْغُرُورُ الْخِدَاعُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) وَالْغَرَارَةِ (بِالْفَتْحِ) وَهُمْ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّجْرِبَةِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ
(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (٦: ١١٢) وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهِ بِخِدَاعِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقِيلَ: دَلَّاهُمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَلَبِّسِينَ بِغُرُورٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا اغْتَرَّا وَانْخَدَعَا بِقَسَمِهِ وَصَدَّقَا قَوْلَهُ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا، وَاسْتَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَا صَدَّقَاهُ وَاسْتَكْبَرَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّ تَصْدِيقَهُ كُفْرٌ، وَرَجَّحَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ بِتَزْيِينِ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبَّ التَّجْرِبَةِ وَاسْتِكْشَافَ الْمَجْهُولِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَمْنُوعِ، فَجَاءَ الْوَسْوَاسُ نَافِخًا فِي نَارِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ مُذَكِّيًا لَهَا، مُثِيرًا لِلنَّفْسِ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ النَّهْيِ، حَتَّى نَسِيَ آدَمُ عَهْدَ رَبِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَزْمِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُتَابَعَةِ امْرَأَتِهِ، وَيَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ تَأْثِيرِ شَيْطَانِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: (وَلَقَدْ عَهِدَنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (٢٠: ١١٥) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ " وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فُطِرَتْ عَلَى تَزْيِينِ مَا تَشْتَهِيهِ لِلرَّجُلِ وَلَوْ بِالْخِيَانَةِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِنَزْعِ الْعِرْقِ أَيِ الْوِرَاثَةِ.
(فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أَيْ فَلَمَّا ذَاقَا ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ظَهَرَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوْءَتُهُ وَسَوْءَةُ صَاحِبِهِ وَكَانَتْ مُوَارَاةً عَنْهُمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مِنَ الظُّفْرِ كَانَ يَسْتُرُهُمَا فَسَقَطَ عَنْهُمَا، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فِي رُءُوسِ أَصَابِعِهِمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مَجْهُولٍ كَانَ اللهُ تَعَالَى أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: بِنُورِ كَانَ يَحْجُبُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنِ
الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى ظُهُورِهَا لَهُمَا أَنَّ شَهْوَةَ التَّنَاسُلِ دَبَّتْ فِيهِمَا بِتَأْثِيرِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَبَّهَتْهُمَا إِلَى مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالْحَاجَةِ إِلَى سِتْرِهَا، وَشَرَعَا يَخْصِفَانِ أَيْ يَلْزَقَانِ أَوْ يَضَعَانِ وَيَرْبِطَانِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا مِنْ وَرَقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ الْعَرِيضِ مَا يَسْتُرُهَا - مِنْ خَصْفِ الْإِسْكَافِيِّ النَّعْلَ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا - فَالْمُوَارَاةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ حِسِّيَّةً فَمَا ثَمَّ إِلَّا الشَّعْرُ سَاتِرٌ خِلْقِيٌّ، وَقَدْ تُظْهِرُ الشَّهْوَةُ مَا أَخْفَاهُ الشَّعْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ الْأَكْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي شَرْحِ حَقِيقَتِهَا وَغَرَائِزِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِكِتَابِهِ.
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ وَقَالَ لَهُمَا رَبُّهُمَا الَّذِي يُرَبِّيهِمَا فِي طَوْرِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُرَبِّيهِمَا فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أَنْ تَقْرَبَاهَا، وَأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا مِنَ الْخَلْقِ، بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ ظَاهِرُهَا فَلَا تُطِيعَاهُ يُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ الْعَيْشُ
الرَّغْدُ إِلَى حَيْثُ الشَّقَاءُ فِي الْمَعِيشَةِ وَالتَّعَبُ فِي جِهَادِ الْحَيَاةِ! وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ طه: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدْوٌ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (٢٠: ١١٧) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا سَوَاءً مَا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ.
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَذَكَّرَا نَهْيَ الرَّبِّ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ وَعِصْيَانِنَا لَكَ كَمَا أَنْذَرْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْنَا ضَعْفَنَا وَعَجَزْنَا عَنِ الْتِزَامِ عَزَائِمِ الطَّاعَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا نَظْلِمُ بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِهِدَايَتِكَ لَنَا وَتَوْفِيقِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ، وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْجَهَالَةِ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَبِقَبُولِنَا إِذَا نَحْنُ تُبْنَا إِلَيْكَ، وَبِإِعْطَائِكَ إِيَّانَا مِنْ فَضْلِكَ، فَوْقَ مَا نَسْتَحِقُّ بِعَدْلِكَ، فَوَحَقِّكَ لَنَكُونَنَّ إِذًا مِنَ الْخَاسِرِينَ لِأَنْفُسِنَا وَلِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِتَزْكِيَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَتَّبِعُ سَبِيلَكَ، دُونَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ وَيَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ كَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. الَّذِي أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَاحْتَجَّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَصَرَّ.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ مَعْنَى كَلِمَاتِ آدَمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّهِ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢: ٣٧) قَالَهَا خَاشِعًا مُتَضَرِّعًا وَتَبِعَتْهُ زَوْجُهُ بِهَا، فَحَذْفُهُمَا لِمَفْعُولِ (تَغْفِرْ) - إِذْ لَمْ يَقُولَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا ذَنْبَنَا هَذَا أَوْ ظُلْمَنَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلَّقَا النَّجَاةَ مِنَ الْخُسْرَانِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَشْمَلُ هَذَا الذَّنْبَ وَغَيْرَهُ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يَتُوبُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ بَيَانِ حَالِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُبَيَّنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي حَمْلِ الْإِنْسَانِ لِلْأَمَانَةِ، وَكَوْنِهِ كَانَ بِذَلِكَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) إِلَخْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ قَدْ عُوقِبَا عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالتَّشْهِيرِ الدَّائِمِ بِإِعْلَامِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّتَهُمَا بِهِ، وَهَاكَ مَا أَجَابَهُمَا الرَّبُّ تَعَالَى بِهِ، إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ السُّؤَالِ عَنْهُ:
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَالْمَلَامُ، أَيِ اهْبِطُوا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَكَانَةِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ - بَعْضُكُمْ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، عَدُوٌّ لِبَعْضٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ عَدُوًّا لِلشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَفِعًا إِلَى إِغْوَائِهِ وَإِيذَائِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ عَدُوًّا بِأَلَّا يَغْفَلَ عَنْ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَلَا يَأْمَنَ وَسْوَسَتَهُ وَإِغْوَاءَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخَذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٣٥: ٦) وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا
بِالذَّاتِ وَلِذُرِّيَّتِهِمَا بِالتَّبَعِ وَفِيهِ خِطَابُ الْمَعْدُومِ - وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُمَا فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا) (٢٠: ١٢٣) إِلَخْ. وَفِي هَذِهِ التَّثْنِيَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لِآدَمَ وَحَوَّاءَ. وَالثَّانِي أَنَّهَا لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَحَوَّاءُ تَبَعٌ لِآدَمَ، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمُخَاطَبِينَ عَدُوًّا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ، لَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ الَّتِي خُلِقَتْ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، فَعَجَبًا لِمَنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا! وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقَيِ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ عِقَابٌ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَأْوِيلٌ لِكَوْنِهَا ظُلْمًا مِنْهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْعِقَابِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي طَبِيعَةِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْعَمَلِ السَّيِّئِ، مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى
الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ غَفَرَهُ تَعَالَى لَهُمَا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَجَعَلَتْهَا مَحَلًّا لِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (٢٠: ١٢١، ١٢٢).
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ اسْتِقْرَارٌ أَوْ مَكَانٌ تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمَتَاعٌ تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعِيشَتِكُمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ زَمَنٍ مُقَدَّرٍ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ أَعْمَارُكُمْ وَتَقُومُ بِهِ قِيَامَتُكُمْ، وَالْمُسْتَقَرُّ يُطْلَقُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْهُ، وَالْمَتَاعُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ هُنَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) فَهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُنَا فِيمَا خَاطَبَ بِهِ آخِرَنَا عَلَى لِسَانِ آخَرِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَهُ لِأَوَّلِنَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ الْمُجْمَلَ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتَأْنَفَهُ كَسَابِقِهِ وَهُوَ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتُمْ مِنْهَا تَحْيَوْنَ مُدَّةَ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لِكُلٍّ مِنْكُمْ وَلِمَجْمُوعِ نَوْعِكُمْ - أَوْ نَوْعَيْكُمْ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَعِنْدَمَا يُرِيدُ الْخَالِقُ أَنْ يَبْعَثَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (٢٠: ٥٥) وَهِيَ تُشْبِهُ النَّشْأَةَ الْأُولَى إِذْ قَالَ: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧: ٢٩) وَقَالَ مُذَكِّرًا بِهَا: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (٥٦: ٦٠ - ٦٢).
313
مَغْزَى الْقِصَّةِ وَالْعِبْرَةُ فِيهَا
قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا
إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (٢٠: ١٢٣ - ١٢٦) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَكِتَابُ اللهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ تَمِيمٌ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ.
314
هَذَا مُلَخَّصُ مَضْمُونِ الْقِصَّةِ أَوْ مُلَخَّصُ بَقِيَّتِهَا، وَأَمَّا مُلَخَّصُ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا بِغَرَائِزِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْكَمَالِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا دُونَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ إِلَى النَّقَائِصِ، وَأَنَّ أَنْفَعَ مَا يُعِينُنَا عَلَى تَرْبِيَّتِهَا عَهْدُ اللهِ إِلَيْنَا بِأَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَأَلَّا نَعْبُدَ مَعَهُ الشَّيْطَانَ وَلَا غَيْرَهُ، وَأَنْ نَذْكُرَهُ وَلَا نَنْسَاهُ فَنَنْسَى أَنْفُسَنَا، وَنَغْفُلُ عَنْ تَزْكِيَتِهَا، وَصَقْلِهَا بِصِقَالِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا عَرَضَ لَهَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ مَا يُلَوِّثُهَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُتْرَكْ صَارَ صَدَأً وَطَبْعًا مُفْسِدًا لَهَا، وَمَا أَفْسَدَ أَنْفُسَ الْبَشَرِ وَدَسَّاهَا إِلَّا غَفْلَةُ عُقُولِهِمْ
وَبَصَائِرِهِمْ عَنْهَا، وَتَرْكُهَا كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ أَهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينَ الضَّلَالَاتِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَتَهَا، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَا عَسَاهُ يَمْلِكُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ، وَأَعْلَاقِ الذَّخَائِرِ، فَإِنَّ حِرْصَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَبْذُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي أَحْقَرِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهَا أَقْصَى مَا تَسْمُو إِلَيْهِ هِمَّتُهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَيُحَاسِبُهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا بَذَلَتْ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ مَا يَصُدُّهَا عَنْهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْوَسَاوِسِ، وَيَنْصُبُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآرَاءِ وَالْخَوَاطِرِ، لِيَعْرِفَ كُنْهَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَيَلْتَزِمَهُمَا، وَأَضْدَادِهِمَا مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فَيَجْتَنِبَهُمَا. وَلِيَتَدَبَّرَ مَا قَفَّى بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْقِصَّةِ مِنَ الْوَصَايَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ.
الْإِشْكَالَاتُ فِي الْقِصَّةِ:
قَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الْإِشْكَالَاتِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّمَحُّلَاتِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَأَنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومُونَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَأَغْوَاهُ؟ وَكَيْفَ أَقْسَمَ لَهُ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يُخَالِفُ خَبَرَ اللهِ؟ وَكَيْفَ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ خَالِدًا فَطَمِعَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْبَعْثِ؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَكَيْفَ أَطَاعَهُ؟ وَهَلِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرُ وُجُوبٍ أَمْ إِبَاحَةٍ؟ وَهَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ - إِلَخْ. مَا هُنَالِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ كَانَتْ صُورِيَّةً. وَزَعَمَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْكَشْفِ أَوْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - فَأَمَّا عَلَى جَعْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَجَعْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّكْوِينِ لَا لِلتَّكْلِيفِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَمَا جَلَّيْنَاهُ فِيهِ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا رَسُولًا عِنْدَ بَدْءِ خَلْقِهِ اتِّفَاقًا، وَلَا مَوْضِعَ لِلرِّسَالَةِ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّسُلِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مُطْلَقًا، وَأَنَّ أَوَّلَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعِصْمَةُ
315
الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الرَّوَافِضِ. وَلَا يَظْهَرُ دَلِيلُ الْعِصْمَةِ وَلَا حِكْمَتُهَا فِيهِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ يَخَافُ مِنْ سُوءِ الْأُسْوَةِ عَلَيْهِ.
هَذَا مَا أَلْهَمَهُ تَعَالَى مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ
مَعَ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، وَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخْرَى فِي الْقِصَّةِ وَمَا يُنَاسِبُهَا. وَلَمْ نُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْآرَاءِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِ اللهِ وَلَا قَوْلِ رَسُولِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ إِذْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَوْ جُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا، وَقَدْ فُتِنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِنَقْلِهَا، كَقِصَّةِ الْحَيَّةِ وَدُخُولِ إِبْلِيسَ فِيهَا وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَوَّاءَ مِنَ الْحِوَارِ.
كَلِمَةٌ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَغَيْرِهَا
وَمَنْ أَرَادَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِيَعْلَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عِنْدَنَا وَمَا عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يُرَاجِعَ هُنَا سَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ الَّذِي نَشَرْنَاهُ مِنْهَا - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ أَحْيَلُ حَيَوَانِ الْبَرِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِحَوَّاءَ إِنَّهَا هِيَ وَزَوْجَهَا لَا يَمُوتَانِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَالَ لَهُمَا الرَّبُّ، بَلْ يَصِيرَانِ كَآلِهَةٍ يَعْرِفَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَأَنَّ حَوَّاءَ رَأَتْ أَنَّ الشَّجَرَةَ طَيِّبَةُ الْأَكْلِ بَهْجَةُ الْمَنْظَرِ مُنْيَةٌ لِلنَّفْسِ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا وَأَطْعَمَتْ زَوْجَهَا فَأَكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ فَخَاطَا لِأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ مِنْ وَرَقِ التِّينِ " فَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَهُوَ مُتَمَشٍّ فِي الْجَنَّةِ " فَاخْتَبَآ مِنْ وَجْهِهِ بَيْنَ الشَّجَرِ. فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ، فَاعْتَذَرَ بِتَوَارِيهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَسَأَلَهُ مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عُرْيَانٌ وَهَلْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَطْعَمَتْهُ. وَسَأَلَ الرَّبُّ الْمَرْأَةَ فَاعْتَذَرَتْ بِإِغْوَاءِ الْحَيَّةِ لَهَا " ١٤ فَقَالَ الرَّبُّ الْإِلَهُ لِلْحَيَّةِ: إِذْ صَنَعْتِ هَذَا فَأَنْتِ مَلْعُونَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَجَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِيَّةِ، عَلَى صَدْرِكِ تَمْشِينَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِكِ ١٥ وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَرْصُدِينَ عَقِبَهُ " وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إِنَّهُ يَكْثُرُ مَشَقَّاتُ حَمْلِهَا وَآلَامُ وِلَادَتِهَا وَأَنَّهَا تَنْقَادُ إِلَى بَعْلِهَا وَهُوَ يَسُودُهَا. وَقَالَ لِآدَمَ إِنَّ الْأَرْضَ مَلْعُونَةٌ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بِمَشَقَّةٍ يَأْكُلُ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَيَعْرَقُ وَجْهُهُ يَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى يَعُودَ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ " ٢٢ هُوَ ذَا آدَمُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ فَيَحْيَا إِلَى الدَّهْرِ ٣ فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَحْرُثَ الْأَرْضَ الَّتِي
أُخِذَ مِنْهَا " اهـ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا تَرَى وَلَيْسَ فِيمَا وَرَدَ فِي
316
الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُشْكِلٌ فِيهَا. وَقَدْ صَرَّحَ النَّصَارَى مِنْهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ فِي الْحَيَّةِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى إِغْوَاءِ حَوَّاءَ، وَنَقَلَ عَنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِمَا يُخَالِفُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَا يَغُرَنَّكَ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَكْثَرُهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِلْكَيْدِ لَهُ، وَكَذَا الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ. كَانَ الرُّوَاةُ يَنْقُلُونَ عَنِ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ مَا مَصْدَرُهُ عِنْدَهُ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَيَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. فَيَعُدُّونَهُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا لَا يُخَالِفُ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَيَنْقُلُونَ رِوَايَاتِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ. فَصَارَ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ الْمُخَالِفِ مِنَ الْمُوَافِقِ إِلَّا عَلَى أَسَاطِينِ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ. وَكُلَّمَا قَلَّ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمَّةِ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ بِالتَّسْلِيمِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا. وَزَادُوا وَنَقَصُوا. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَلَا نُصَدِّقُ رِوَايَاتِهِمْ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا حَرَّفُوهُ أَوْ زَادُوهُ، وَلَا نُكَذِّبُهَا لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا أُوتُوهُ فَحَفِظُوهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا صَحَّ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ زَنَادِقَتِهِمْ، وَيَقِلُّ فِي صَحِيحِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَإِنْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي تُرْوَى أَكْثَرُ أَحَادِيثِهِ عَنْعَنَةً وَأَقَلُّهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالسَّمَاعِ وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كِتَابٌ فِي فَنِّ التَّفْسِيرِ نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ بَحْثًا طَوِيلًا فِي الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَالَ إِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا. وَمِنْهُ فَصْلٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ - وَهُوَ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ - وَقَدْ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: -
" فَمَا كَانَ مِنْهُ مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِلَ، وَمَا لَا بِأَنْ نُقِلَ
عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ (أَيْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُمَا مِنْ خِيَارِهِمْ عِنْدَ الرُّوَاةِ وَمُعْظَمُ الْخُرَافَاتِ وَالْأَكَاذِيبِ نُقِلَتْ عَنْهُمَا) وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ
317
عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ وَأَمَّا الْقَسَمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ " اهـ
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)
بَعْدَ أَنَّ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ قِصَّةَ نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى وَمَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهَا هَذِهِ النَّصَائِحَ الْهَادِيَةَ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ طُرُقِ تَرْبِيَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ - كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ تَنَاسُبِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ السِّيَاقِ - فَقَالَ:
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) الرِّيشُ: لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ، وَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ كَالطَّيْرِ فِي كَثْرَةِ أَنْوَاعِ رِيشِهَا وَبَهْجَةِ مَنَاظِرِهَا وَتَعَدُّدِ أَلْوَانِهَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَالزِّينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ (وَرِيَاشًا) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. قِيلَ: الرِّيَاشُ جَمْعُ رِيشٍ، فَهُوَ كَشِعْبٍ
318
وَشِعَابٍ وَذِئْبٍ وَذِئَابٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الرِّيشُ وَالرِّيَاشُ بِمَعْنَى كَاللِّبْسِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ الرِّيَاشُ مُخْتَصٌّ بِالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيشُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ رَاشَهُ اللهُ يَرِيشُهُ رِيَاشًا وَرِيشًا. كَمَا يُقَالُ لَبِسَهُ يَلْبَسُهُ لِبَاسًا وَلِبْسًا (بِكَسْرِ اللَّامِ) (ثُمَّ قَالَ) وَالرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ الْمَتَاعِ مِمَّا يُلْبَسُ أَوْ يُحْشَى مِنْ فِرَاشٍ أَوْ دِثَارٍ وَالرِّيشُ إِنَّمَا هُوَ الْمَتَاعُ وَالْأَمْوَالُ عِنْدَهُمْ. وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي الثِّيَابِ وَالْكُسْوَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَالِ، يَقُولُونَ: أَعْطَاهُ سَرْجًا بِرِيشِهِ - أَيْ بِكُسْوَتِهِ وَجَهَازِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَحَسَنُ رِيشِ الثِّيَابِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرِّيَاشُ فِي الْخِصْبِ وَرَفَاهَةِ الْعَيْشِ. ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الرِّيشَ الْمَالُ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ الْمَعَاشُ أَوِ الْجَمَالُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مَعًا، بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِلِبَاسِ السَّتْرِ الَّذِي يُوَارِي الْعَوْرَاتِ وَلِبَاسِ التَّقْوَى.
خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْبَعِيدُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ عَرَبُهُمْ وَعَجَمُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالشِّرْعَةِ الْقَوِيمَةِ، تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، بِمَا يَقْرَعُ الْآذَانَ، فَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ أَنْ أَنْبَأَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ عُرْيِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِ - بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِ وَأَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَدْنَى الَّذِي يَسْتُرُ السَّوْءَةَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ إِلَى أَنْوَاعِ الْحُلَلِ الَّتِي تُشْبِهُ رِيشَ الطَّيْرِ فِي وِقَايَةِ الْبَدَنِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ وَالْجِمَالِ اللَّائِقَةِ بِجَمِيعِ ذُكْرَانِ الْبَشَرِ وَإِنَاثِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْنَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ عُلُوِّ سَمَائِنَا بِتَدْبِيرِنَا لِأُمُورِكُمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِنَا،
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَهُوَ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلُّهُ الَّذِي يُعَدُّ فَاقِدُهُ ذَلِيلًا مَهِينًا - وَرِيشًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَسَاجِدِكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ وَمَجَامِعِكُمْ، وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَكْمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَا يَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَالِامْتِنَانُ بِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْأُسْلُوبِ، أَوْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ بِطْرِيقِ الْمَنْطُوقِ عَلَى مَا اخْتَرْنَا آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ مَا ذُكِرَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِبَنِي آدَمَ مَادَّتَهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَرِيشِ الطَّيْرِ وَالْحَرِيرِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَّمَهُمْ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَسَائِلَ صُنْعِ اللِّبَاسِ مِنْهَا كَالزِّرَاعَةِ وَالْغَزْلِ وَالنَّسْجِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَإِنَّ مِنَنَهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَاتِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافُ مِنَنِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ شُعُوبِ بَنِي آدَمَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُمْ لَهُ أَعْظَمَ، فَقَدْ بَلَغَ مِنْ إِتْقَانِ صِنَاعَاتِ اللِّبَاسِ أَنَّ عَاهِلَ أَلْمَانِيَّةَ الْأَخِيرَ (قَيْصَرَهَا) دَخَلَ مَرَّةً أَحَدَ مَعَامِلِ الثِّيَابِ لِيُشَاهِدَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنَ
319
الْإِتْقَانِ فَجَزُّوا أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ صُوفَ بَعْضِ أَكْبَاشِ الْغَنَمِ - وَلَمَّا انْتَهَى مِنَ التِّجْوَالِ فِي الْمَعْمَلِ وَمُشَاهَدَةِ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ فِيهِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ قَدَّمُوا لَهُ مِعْطَفًا لِيَلْبَسَهُ تِذْكَارًا لِهَذِهِ الزِّيَارَةِ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ صُنِعَ مِنَ الصُّوفِ الَّذِي جَزُّوهُ أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ - فَهُمْ قَدْ نَظَّفُوهُ فِي الْآلَاتِ الْمُنَظِّفَةِ فَغَزَلُوهُ بِآلَاتِ الْغَزْلِ فَنَسَجُوهُ بِآلَاتِ النَّسْجِ فَفَصَلُوهُ فَخَاطُوهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ فَانْتَقَلَ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ مِنْ ظَهْرِ الْخَرُوفِ إِلَى ظَهْرِ الْإِمْبِرَاطُورِ.
وَامْتِنَانُهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ بِلِبَاسِ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (١٨: ٧) وَإِنْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِحْسَانَ الْعَمَلِ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ بِالزُّهْدِ فِيهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَيُنَاقِضُ غَرَائِزَهَا، بَلْ هُوَ مُهَذِّبٌ وَمُكَمِّلٌ لَهَا. وَحُبُّ الزِّينَةِ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الدَّافِعَةِ لَهُمْ إِلَى إِظْهَارِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلِيقَةِ وَأَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (٧: ٣٢) فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى كَوْنِهَا ابْتِلَاءً أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ بِهَا طَالِبَهَا مَا يَقْصِدُ مِنْهَا؟ وَوَاجِدَهَا أَيَشْكُرُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَمَاذَا يَقْصِدُ وَيَنْوِي بِتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ مِنْهَا. وَفَاقِدُهَا أَيَصْبِرُ عَلَى
فَقْدِهَا أَمْ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ وَحَاسِدًا لِأَهْلِهَا؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) فَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ اللِّبَاسُ الْمَعْنَوِيُّ الْمَجَازِيُّ. فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ عَيَّنَ التَّقْوَى - أَيِ اللِّبَاسُ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى - وَذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَقَالَ: يَتَّقِي اللهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ تَفْسِيرُهُ بِالْإِسْلَامِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنَ الرِّيشِ وَاللِّبَاسِ وَعَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ الْحَيَاءُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ. وَمُرَادُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ طِيبِ السَّرِيرَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَهُ. وَرَوَوْا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ عَمَلًا سِرًّا إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهُ عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي أَنَّهُ قَالَ وَرِيَاشًا وَلَمْ يَقُلْ وَرِيشًا، وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ بِمَا يَلْبَسُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَا: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَلْبَسُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا. هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ مُلَخَّصَةٌ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، فَفِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَرْبِ: الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَالْآلَاتُ الَّتِي يُتَّقَى
320
بِهَا الْعَدُوُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (١٦: ٨١) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي دَاوُدَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (٢١: ٨٠) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ التَّقْوَى هُنَا فِيمَا يَعُمُّ هَذَا وَذَاكَ. أَيْ تَقْوَى اللهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَتَقْوَى فَتْكِ الْعَدُوِّ بِلَبْسِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَنَحْوِهِمَا، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَارَضُ مَدْلُولَاتُهَا فِي الِاشْتِرَاكِ وَفِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ فِي لِبَاسِ التَّقْوَى أَنَّهُ لِبَاسُ النُّسُكِ وَالتَّوَاضُعِ كَدُرُوعِ الصُّوفِ وَمُرَقَّعَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا بَعْضُ الْعُبَّادِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرٌّ لَا خَيْرٌ لِأَنَّهَا لِبَاسُ شَهْوَةٍ وَشُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ. وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرِّيشُ.
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ نِعَمِ اللهِ بِإِنْزَالِ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ إِحْسَانِهِ إِلَى بَنِي آدَمَ وَكَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُعِدَّهُمْ وَتُؤَهِّلَهُمْ لِتَذَكُّرِ فَضْلِهِ وَمِنَنِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهَا، وَاتِّقَاءِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ بِإِبْدَاءِ الْعَوْرَاتِ تَارَةً وَبِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ تَارَةً أُخْرَى، وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَوَافِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ عُرَاةً وَمَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الضَّمِيرِ فِي الرَّبْطِ. وَجَعَلَ جُمْلَةَ (ذَلِكَ خَيْرٌ) خَبَرًا لِقَوْلِهِ: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا بِتَكْرَارِ الْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْلِ (ذَلِكَ) صِفَةَ لِبَاسٍ وَمِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا لَهُ.
(يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ. وَتَكْرَارُ النِّدَاءِ فِي مَقَامِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ مِنْ أَقْوَى أَسَالِيبِ التَّنْبِيهِ وَالتَّأْثِيرِ، يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْعُرُ بِهِ فِي قَلْبِهِ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ قِصَّةُ الْجِنِّ مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِذْ جَاءَ فِيهَا الْوَعْظُ وَالْإِنْذَارُ بِتَكْرَارِ النِّدَاءِ: يَا قَوْمَنَا.... يَا قَوْمَنَا.... وَوَعْظُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: يَا قَوْمِ..... يَا قَوْمِ..... وَقَدْ فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نِسْبَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْجَدِّ الَّذِي صَارَ رَئِيسَ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي انْحَصَرَ نَسَبُهَا فِيهِ كَقُرَيْشٍ، وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، وَعُثْمَانَ مُؤَسِّسِ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ عَلِيٍّ الْكَبِيرِ مُؤَسِّسِ دَوْلَةِ مِصْرَ الْجَدِيدَةِ. أَوِ الَّذِي لَهُ صِفَةٌ مُمْتَازَةٌ يَقْتَضِي الْمَقَامُ تَذْكِيرَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِهَا لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِيهَا أَوْ لِلتَّعْرِيضِ
321
بِتَجَرُّدِهِ مِنْهَا مَثَلًا. كَأَنْ تَقُولَ لِبَعْضِ أَحْفَادِ الْخِدِيوِي تَوْفِيقٍ يَا ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ هَذَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي مَقَامِ السَّخَاءِ وَسَعَةِ الْعَطَاءِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا. وَلَوْ قُلْتَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا ابْنَ تَوْفِيقٍ كَانَ خَطَأً؛ فَإِنَّ تَوْفِيقًا لَمْ يَشْتَهِرْ بِصِفَةِ السَّخَاءِ وَكَثْرَةِ الْهِبَاتِ. وَتَسْمِيَةُ النَّاسِ أَبْنَاءَ آدَمَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَفِي كُلٍّ مِنْهَا تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ أَحَدُ الْأَجْدَادِ وَلَيْسَ هُوَ الْأَبُ. فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِالنِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا عَرَضَهُمَا
عَلَى النَّارِ لِيَعْرِفَ الزَّيْفَ مِنَ النُّضَارِ. وَحَجَرُ الصَّائِغِ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ يُسَمَّى الْفَتَّانَةَ، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ بِالْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ غَالِبًا، وَقَدْ تَكُونُ بِالِاسْتِمَالَةِ بِالشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْسَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ.
وَمَعْنَى (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) : لَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَوَسْوَسَتِهِ لَكُمْ فَتُمَكِّنُوهُ بِذَلِكَ مِنْ خِدَاعِكُمْ بِهَا وَإِيقَاعِكُمْ فِي الْمَعَاصِي، كَمَا وَسْوَسَ لِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَزَيَّنَ لَهُمَا مَعْصِيَةَ رَبِّهِمَا. فَفَتَنَهُمَا حَتَّى عَصَيَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا عَنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَا يَتَمَتَّعَانِ بِنَعِيمِهَا، وَدَخَلَا فِي طَوْرٍ آخَرَ مِنَ الْحَيَاةِ يُكَابِدُونَ فِيهَا شَقَاءَ الْمَعِيشَةِ وَهُمُومَهَا وَأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَفْتُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَسْهَلُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَفَاوَتَ نَعِيمُ الْجَنَّتَيْنِ وَمُدَّةُ اللُّبْثِ فِيهِمَا.
(يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) أَيْ أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِعًا عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا - أَيْ سَبَبًا لِنَزْعِ مَا اتَّخَذَاهُ لِبَاسًا لَهُمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ أَنْ يُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أَوْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِرَاءَتَهُمَا سَوْآتِهِمَا دَائِمًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ أَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا عُرْيَانَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ ثِيَابٌ تُصْنَعُ وَمَا ثَمَّ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَيْثُ يُوجَدُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَكَانَ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجَا مِنْهَا؟ وَجَمِيعُ الْبَاحِثِينَ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَعَادِيَّاتِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّنَاعَاتِ يَعِيشُونَ عُرَاةً، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا اكْتَسَوْا بِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ وَجُلُودُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَصْطَادُونَهَا، وَلَا يَزَالُ فِي الْمُتَوَحِّشِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعْلُهُمْ (يَنْزِعُ) حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُخْرِجُ، وَمِثْلُهُ جَعَلَهُ حَالًا (مِنْ أَبَوَيْكُمْ) الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ مَا هَنَا عَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظُهُورِ سَوْآتِهِمَا لَهُمَا عَقِبَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ بَعْدَ سَتْرِهِمَا سَوْآتِهِمَا بِمَا خَصَفَا عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فَنُزِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ مُوَارًى فَظَهَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى.
322
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا اللِّبَاسُ حِسِّيًّا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنَوِيًّا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ لِبَاسَهُمَا كَانَ الظُّفْرُ، وَأَنَّهُ نُزِعَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ تَذْكِرَةً وَزِينَةً، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ السَّوْءَتَيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا
هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) قَالَ: التَّقْوَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ غَيْرَهَا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَارَ التَّفْوِيضُ وَتَرْكُ تَعْيِينِ ذَلِكَ اللِّبَاسِ.
وَهَذَا مَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ التَّعْيِينَ فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنَ الْمَعْصُومِ. وَأَمَّا مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَرَاهَةِ رُؤْيَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَوْءَةَ الْآخَرِ حَتَّى فِي خَلْوَةِ الْمُبَاعَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْفِطْرَةِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَلْ هُوَ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ شَدِيدٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهَا فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ الْحَلَّالِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا بِمَا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاحِ وَلَا حَجْرَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ. وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ فَآدَابٌ إِرْشَادِيَّةٌ لِلْخَوَاصِّ يَسْتَفِيدُ كُلٌّ مِنْهَا بِقَدْرِ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَدَرَجَةِ أَدَبِهِ وَفَضِيلَتِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى مِنْهَا وَلَا رَأَتْ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَعْلَ رُؤْيَةِ السَّوْءَةِ وَلَا سِيَّمَا بَاطِنُهَا مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا فَلَا يَحْسُنُ التَّمَادِي فِيهَا - مِمَّا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ تَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْعِنَانِ فِي الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ صَاحِبُهُ زِيَادَةَ اللَّذَّةِ فَيَصْدُقُ قَوْلُ الْأَمْثَالِ: مَنْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ وَقَعَ فِي النُّقْصَانِ. وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتِ الْآكِلَ وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ، وَمَا جَاوَزَ حَدَّهُ جَاوَرَ ضِدَّهُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ عَالِيَةٌ لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا حَكِيمٌ خَبِيرٌ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ مُنْتَهَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّةِ - وَإِنْ مُبَاحَةً - فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ أَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَلَا فِطْرِيٍّ وَلَا طِبِّيٍّ آلَ أَمْرُهُ فِي الْإِسْرَافِ إِلَى إِضْعَافِ هَذِهِ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِثَارَتِهَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا نَاقِصَةً وَيُكَرِّرُ إِضْعَافَهَا بَعْدَ إِثَارَتِهَا بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ حَتَّى تَكُونَ مَرَضًا. وَيَكُونُ صَاحِبُهَا حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُتْرَفِينَ سَيِّئِي الْهَضْمِ شَدِيدِي الْإِقْهَاءِ وَالطَّسِّيِّ يُكْثِرُونَ حَتَّى فِي سِنِّ الشَّبَابِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُحَرِّضَاتِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعَاجِينِ وَالْحُبُوبِ السَّامَّةِ
الَّتِي تُقَوِّي الْبَاهَ فَتَنْتَابُهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْهَرَمُ إِذَا لَمْ يُسْرِعِ الْحِمَامُ.
323
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِمَّا يَبْغِي مِنَ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ وَضَرَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَانَا هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ جُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَلَا نَرَاهُمْ (وَأَصْلُ الْقَبِيلِ: الْجَمَاعَةُ كَالْقَبِيلَةِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبِيلَةَ بِمَنْ كَانَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَالْقَبِيلُ أَعَمُّ) وَ (حَيْثُ) ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ غَيْرَ مَرْئِيِّينَ مِنْكُمْ، وَالضَّرَرُ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى كَانَ خَطَرُهُ أَكْبَرَ، وَوُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِاتِّقَائِهِ أَشَدَّ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَثْبُتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْمِجْهَرِ - أَيِ الْمِرْآةِ أَوِ النَّظَّارَةِ الْمُكَبِّرَةِ لِلْمَرْئِيَّاتِ - وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ مِنْهَا جِنَّةً مِنَ الدِّيدَانِ أَوِ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ تَنْفُذُ إِلَى الْبَدَنِ بِنَقْلِ الذُّبَابِ أَوِ الْبَعُوضِ أَوِ الْقَمْلِ أَوِ الْبَرَاغِيثِ، أَوْ مَعَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ أَوِ الْهَوَاءِ، فَتَتَوَالَدُ وَتُنَمَّى بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَى الْمَرْءِ رِئَتَهُ فِي دَاءِ السُّلِّ، وَأَمْعَاءَهُ فِي الْهَيْضَةِ الْوَبَائِيَّةِ، وَدَمَهُ فِي الطَّاعُونِ وَالْحُمَّيَاتِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبَبِ الطَّاعُونِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، وَإِلَى دَاءِ السُّلِّ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَحَوُّلِ الْغُبَارِ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ.
وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ: تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا. أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ
الْوَاقِيَةِ فِيهِ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ.
كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَأْثِيرَهَا فِي
324
قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، كَدُخُولِ تِلْكَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَعْضَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى وَاتِّقَاؤُهَا كَاتِّقَائِهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ، وَحُبُّ الْحَقِّ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُخْلَصُونَ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٣٩ - ٤٢) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا آدَمُ وَزَوْجُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ
إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (٢٣) الْآيَةَ. وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠٠، ٢٠١) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ.
325
قَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ تَأْثِيرِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الْمُجْتَنَّةِ فِي الْأَجْسَادِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَقَدْ أَعَدْنَاهُ هُنَا مُفَصَّلًا لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَقْوَى مَا يَرُدُّونَ بِهِ شُبَهَاتِ بَعْضِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنَّةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ؛ أَوْ لِأَنَّ وَجُودَهُمْ بَعِيدٌ عَنِ النَّظَرِيَّاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يُنْكِرُونَ وَجُودَهَا أَيْضًا هِيَ أَوْسَعُ الْأَوْطَانِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ صَحِيحًا وَأَصْلًا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لَمَّا بَحَثَ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى الْمَجْهُولَةِ، وَلَمَا كُشِفَتْ هَذِهِ الْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي ارْتَقَتْ بِهَا عُلُومُ الطِّبِّ وَالْجِرَاحَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا، وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِلِارْتِقَاءِ بِكَشْفِ أَمْثَالِهَا، وَلَمَّا عُرِفَتِ الْكَهْرَبَاءُ الَّتِي أَحْدَثَ كَشْفُهَا هَذَا التَّأْثِيرَ الْعَظِيمَ فِي الْحَضَارَةِ، وَلَوْ لَمْ تُكْشَفْ هَذِهِ الْمَيْكُرُوبَاتُ وَأَخْبَرَ أَمْثَالَهُمْ بِهَا مُخْبِرٌ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ لِعَدُّوهُ مَجْنُونًا، وَجَزَمُوا بِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ أَحْيَاءٍ لَا تُرَى يُوجَدُ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ الصَّغِيرَةِ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَبْدَانِ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ إِلَخْ. كَمَا أَنَّ مَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَمَا تَعْرِفُهُ الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ الْآنَ مِنْ تَخَاطُبِ النَّاسِ بِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِآلَاتِ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ اللَّاسِلْكِيَّةِ - كُلُّهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَقَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ.
فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ
تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا: إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ
326
أَعْوَانًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ، مُعْتَصِمِينَ بِتَقْوَى اللهِ وَهَدْيِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ بِالْبَاطِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، لَمَا خَانُوا اللهَ وَخَانُوا أَمَانَةَ أُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمُ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَطَمَعًا فِي تَأَثُّلِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ لِأَوْلَادِهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٨: ٢٧، ٢٨).
بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ (فِي١٠ أَغُسْطُسَ سَنَةَ ١٩٠٣) وَكَتَبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ (ج ٣ م ٢٣ مِنَ الْمَنَارِ).
وَمِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى الْبَشَرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطِبِّ الدِّينِ الرُّوحِيِّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ لَا يَقِفُونَ فِيهَا عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهُ حَمَلَتُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ زَادُوا وَمَا زَالُوا يَزِيدُونَ فِيهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، مَا جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ وَفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَفِّرُونَهُمْ مِنْهُ - فَتَرَاهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْوَسْوَاسَ الضَّارَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ كَمَا يَجِبُ،
وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَضْلِيلَ الدَّجَّالِينَ وَالدَّجَّالَاتَ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُمْرِضُونَ الْأَجْسَادَ وَيَخْطِفُونَ الْأَطْفَالَ. وَأَنَّ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ صِلَةً بِهِمْ وَتَأْثِيرًا فِي حَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الضَّرَرِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى النَّفْعِ بِشِفَاءِ الْمَرْضَى وَرَدِّ الْمَفْقُودِينَ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْعُشَّاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّارُ الَّذِي يُخْرِجُونَ بِهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْأَجْسَادِ بِزَعْمِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْخُرَافَاتِ مَضَارٌّ وَرَزَايَا كَثِيرَةٌ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ. فَهِيَ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْمَادِّيِّينَ عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْجُهَّالِ وَالدَّجَّالِينَ. وَالدِّينُ لَمْ يُثْبِتْ لِلشَّيَاطِينِ مَا يَزْعُمُهُ الدَّجَّالُونَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّيَاطِينِ وَسْوَسَةً هِيَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا كَتَأْثِيرِ جِنَّةِ الْهَوَامِّ فِي الْأَجْسَادِ الْمُسْتَعِدَّةِ. وَأَنَّ مُقَاوَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرَوْنَ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَنْفُونَ مَا أَثْبَتَ كِتَابُ اللهِ وَيُثْبِتُونَ مَا نَفَاهُ. وَيَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى الْجِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (٧٢: ١) وَلَكِنْ
327
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَآهُمْ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الشَّيَاطِينَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَرَى أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ
الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ
328
لَهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ الدَّجَّالِ الْمُفْتَرِي الْمُحْتَالِ حَتَّى أَقْنَعْنَهَا بِكَذِبِهِ بَعْدَ أَنْ خَسِرَتْ كُلَّ مَا كَانَتْ تَرْبَحُهُ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي سَبِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَنَاجِيلَ أَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ وَتَصْرَعُهُمْ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (٢: ٢٧٥) وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَمْثِيلٌ حَكَى بِهِ مَا كَانَ مَأْلُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ دُونَ الْخُرَافِيِّينَ وَقَائِعُ فِيهِ كَوَقَائِعِ الْإِنْجِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أُسْتَاذِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَلْ تُنْكِرُ كُلَّ ذَلِكَ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ أَسَانِيدَ صَحِيحَةً مُتَّصِلَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا لَا حُجَّةَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا - وَإِنْ كَانَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ مِنْ أَجَلِّ الثِّقَاتِ عِنْدَنَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا بِالْجَزْمِ - فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهَا إِجْمَالٌ، هِيَ بِهِ قَابِلَةٌ لِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدَّجَّالِينَ الَّتِي يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَأَيْنَ دَجَلُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُحْتَالِينَ مِنْ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا، فَيَشْفِي عَلَى يَدَيْهِ مَصْرُوعًا أَلَمَّ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمْ لَمْ يُلِمَّ، وَمَا إِلْمَامُ الشَّيْطَانِ بِبَعْضِ النَّاسِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا حَتَّى نَحَارَ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَنَا بَلْ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُصْرَعُ أَصْحَابُهَا لَابَسَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا أَمْ لَا لَتُشْفَى بِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَبِتَأْثِيرِ إِرَادَةِ الْأَرْوَاحِ الْقَوِيَّةِ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَائِلَةً شِفَاءَهَا، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينَ يُدَارُونَ الْمَادِّيِّينَ أَوْ يُبَالُونَ بِإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ لَهُمْ، بَلْ نَرَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ يُفِيدُ فِي مَجْمُوعِهِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَا لَنَا لَا نَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِدُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَتَاتِ الِاتِّفَاقِ وَنَوَادِرِ الْمُصَادَفَاتِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِنَا (القلمون) فِي سُورِيَّةَ رَجُلٌ صَيَّادٌ اسْمُهُ (عُمَرُ كَسِنْ) رَمَى شَبَكَتَهُ لَيْلَةً فِي الْبَحْرِ فَسَمِعَ صَوْتًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ يُصْرَعُ، وَيُخَيَّلُ هُجُومُ فِئَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ مُتَّهِمِينَ إِيَّاهُ بِإِصَابَةِ فَتَاةٍ مِنْهُمْ، وَرَآنِي وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْحِسِّ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي كُنْتُ أَخْلُو فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ فِي حُجْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَبِيَدِي مِخْصَرَةٌ قَصِيرَةٌ مِنَ الْأَبَنُوسِ كُنْتُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا - وَلَمْ يَكُنْ رَأَى ذَلِكَ قَطُّ - رَآنِي أَطْرُدُ الْجِنَّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِخْصَرَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ ذَكَرُوا لِي أَمْرَهُ، ثُمَّ دَعَوْنِي إِلَى رُؤْيَتِهِ وَرُقْيَتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَذَهَبْتُ فَأَلْفَيْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مِمَّنْ
329
حَوْلَهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: جَاءَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَشِيدٌ.... وَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ وَخُشُوعٍ وَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى رَأْسِهِ وَقُلْتُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ هَذَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا أَذْكُرُهُ وَشَفَاهُ تَعَالَى وَأَذْهَبَ عَنْهُ الرَّوْعَ ثَانِيَةً بِنَحْوِ مِمَّا أَذْهَبَهُ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّنِي
لَمْ أَرَ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَرَانِي أُجَادِلُهُمْ وَأَذُودُهُمْ عَنْهُ، وَالْوَاقِعَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عِنْدِي، وَلَا أُعِدُّهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى كَوْنِ صَرْعِهِ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَنَا فِي الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَنْ شَهِدَهَا.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَاشِرُ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذَا الصَّرَعِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَحْدُثُ لَهُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ قَطُّ، وَمِنْهُمْ حَمُّودَهْ بِكْ أَخُو شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كُنْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعَاشَرَةً لَهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يُكْثِرُ زِيَارَتَهُمْ إِلَّا وَرَأَى حَمُّودَهْ يُصْرَعُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اشْتِدَادِ النَّوْبَاتِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِ الشَّيْخِ وَبَعْدِهِ، حَتَّى كَانَتْ رُبَّمَا تَتَعَدَّدُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَمْكُثُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَامِي. وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ صَدِيقُنَا مُحَمَّد شَرِيف الْفَارُوقِيُّ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - وَلَا أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْأَرْوَاحِ تَأْثِيرٌ فِي بَعْضٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا أَنْفِي عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوَادِرِ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يَنْقُلُونَ عَنْ جَدِّي الثَّالِثِ غَرَائِبَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَإِنَّنِي لَمْ أَذْكُرْ هَذَا إِلَّا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنِّي أَمِيلُ فِي تَشَدُّدِي فِي كَشْفِ غِشِّ الدَّجَّالِينَ إِلَى آرَاءِ الْمَادِّيِّينَ وَثَانِيهِمَا: أَلَّا يَجْعَلَ أَحَدٌ مَا نُقِلَ عَنْ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِرْسَالِهِ رَسُولًا إِلَى الْمَصْرُوعِ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّيْطَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُنْكِرُ دَجَلَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ عِبَادِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الدُّعَاةِ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، بِتَخْوِيفِ النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِيفُ مِنْهُمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ عِبَادَةً لَهُمْ، كَمَا يَعْبُدُ الْيَزِيدِيَّةُ إِبْلِيسَ جَهْرًا بِدَعْوَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَّقُونَ شَرَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَانِسَةِ وَالْمُتَشَاكِلَةِ، أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ شِرَارُ الْجِنِّ أَوْلِيَاءَ لِشِرَارِ الْإِنْسِ،
330
وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِيمَانَ إِذْعَانٍ بِحَيْثُ يَهْتَدُونَ بِوَحْيِهِ وَيُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَآدَابِهِ حَتَّى يَبْعُدَ التَّنَاسُبُ وَالتَّجَانُسُ بَيْنَهُمَا. فَهَذَا الْجَعْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْجَبْرِيَّةُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَهُ خَارِجًا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ وَنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى مُكْتَسِبِيهَا بِاعْتِبَارِ صُدُورِهَا عَنْهُمْ، وَإِلَى الْخَالِقِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَسُنَنِهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذِهِ الْوِلَايَةَ إِلَى مُكْتَسِبِيهَا بِمُزَاوَلَةِ أَسْبَابِهَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي قَرِيبًا:
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) فَاكْتِسَابُ الْكُفَّارِ لِوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِ وَسْوَسَتِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الشِّرِّيرَةِ مِنْ لَمَتِهِمْ، كَاكْتِسَابِ ضُعَفَاءِ الْبِنْيَةِ لِلْأَمْرَاضِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهَا، كَالْقَذَارَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْفَاسِدَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ جَرَاثِيمِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا - فَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالْمُتَوَلُّونَ لِقُرَنَائِهِ مِنْ أَهْلِ الطَّاغُوتِ وَالدَّجَلِ وَالنِّفَاقِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، لَا بِطَاعَتِهِمْ فِي وَسْوَسَتِهِمْ فَقَطْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِيذُ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعِيذُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (٧٢: ٦) وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ الْيَوْمَ بِالْبَخُورِ وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦: ٦٠، ٦١) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الشَّيَاطِينِ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَشَدِّهِ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَسْفَلِهَا، فَهَلْ يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنَ الَّذِي يَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ فِي مَصَالِحِهِ يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَ عَلَى الْجِنِّ وَجَعَلَهُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ كَالشَّيَاطِينِ لَتَصَرَّفُوا فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُونَ بِجِنَّةِ الْهَوَامِّ وَمَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ - وِفَاقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَّا أَشَدُّ مِنْ خَوْفِنَا مِنْهُمْ - وَالْوَسْوَسَةُ مِنْهُمْ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِنَا لِقَبُولِهَا فَذَنْبُهَا عَلَيْنَا. وَمَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ مِنْ ضَرَرِهِمْ وَصَرْعِهِمْ فَأَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَدَجَلٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
331
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ آثَارِ وِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ إِنَّهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي إِغْوَائِهِمْ فِي أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَشْعُرُونَ بِقُبْحِهَا.
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: وَإِذَا فَعَلَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ، قَبِيحًا مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْفَاحِشَةُ، وَذَلِكَ تَعَرِّيهِمْ لِلطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَتَجَرُّدُهُمْ لَهُ فَعُذِلُوا عَلَى مَا أَتَوْا مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَعُوتِبُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَجَدْنَا عَلَى مِثْلِ مَا نَفْعَلُ آبَاءَنَا فَنَحْنُ نَفْعَلُ مِثْلَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِمْ وَاللهُ أَمَرَنَا بِهِ فَنَحْنُ نَتَّبِعُ أَمْرَهُ فِيهِ اهـ. وَالْفَاحِشَةُ: كُلُّ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَفَسَّرَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ هُنَا بِطَوَافِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانُوا يَعْذِلُونَهُمْ وَيُقَبِّحُونَ فِعْلَتَهُمْ هَذِهِ كَانُوا يُجِيبُونَ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَمِمَّا رَوَاهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: نَطُوفُ كَمَا وَلَدَتْنَا أُمَّهَاتُنَا، فَتَضَعُ الْمَرْأَةُ عَلَى قُبُلِهَا النِّسْعَةَ (أَيِ الْقِطْعَةَ مِنْ سُيُورِ الْجِلْدِ) أَوِ الشَّيْءَ فَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْفَاحِشَةِ وَمَا رُوِيَ مِنْ شُبْهَتِهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ بِبَيْتِ رَبِّهِمْ فِي ثِيَابٍ عَصَوْهُ بِهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ.
فَأَمَّا اعْتِذَارُهُمْ بِالتَّقْلِيدِ فَقَدْ رَدَّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ. وَقَالَ مُفَسِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالرَّازِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُجِبْ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَهِيَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ حَاصِلٌ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَلَوْ كَانَ حَقًّا لَزِمَ الْقَوْلُ بِحَقِّيَّةِ الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. فَلَمَّا كَانَ
332
فَسَادُ هَذَا الطَّرِيقِ ظَاهِرًا لَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى الْجَوَابَ عَنْهُ، هَذَا تَقْرِيرُ الرَّازِيِّ، وَقَوْلُهُ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ وَكَوْنُهُ حُجَّةً دَاحِضَةً فِي نَظَرِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ زَعْمَهُ أَنَّ هَذَا سَبَبٌ
لِعَدَمِ الرَّدِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَقَدْ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (٢: ١٧٠) وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّدِّ الصَّحِيحِ هُنَا بِرَدِّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْمُتَضَمِّنُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِتِلْكَ الْفَحْشَاءِ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْحَضَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا الْقَوْلُ تَكْذِيبٌ لَهُمْ مِنْ طَرِيقَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا خِلَافَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ أَيْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْفَحْشَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهَا هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ النَّقَائِصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ مَنْ تَوَسَّعُوا فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا طَرِيقُ النَّقْلِ فَهُوَ أَنَّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ بِوَحْيٍ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولٍ مِنْ عِنْدِهِ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى لَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَالِاسْتِفَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ، وَلِلرَّدِّ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فَإِنَّهُمْ بِاتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ فِي آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ.
وَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ النَّقْلِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ وَالنَّفْيِ، تَوَجَّهَتِ الْأَنْفُسُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ فَبَيَّنَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ. قَائِلًا لِرَسُولِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أَيِ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْوَسَطُ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا نَظِيفًا لَائِقًا بِحَالِ لَابِسِهِ فِي النَّاسِ، لَا ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي تَفْرِيطِ التَّبَذُّلِ، وَلَا فِي إِفْرَاطِ التَّطَرُّسِ. وَسَيَأْتِي الْأَمْرُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْعِبَادَةِ وَلُبَابِهَا، الدَّالُّ عَلَى جَهْلِهِمْ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
فَأَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - أَوْ وَقُلْ لَهُمْ: أَقِيمُوا إِلَخْ.
إِقَامَةُ الشَّيْءِ: إِعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَتَوْفِيَتُهُ شُرُوطَهُ كَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ.
333
وَالْوَجْهُ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ٣٠: ٣٠) مِنَ الثَّانِي. وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ وَصِحَّةُ الْقَصْدِ؛ فَإِنَّ الْوَجْهَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ، وَمَا هُنَا مِنَ الثَّانِي وَإِنْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرُهُ بِالْأَوَّلِ أَيْضًا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ أَيْنَمَا كَانَ. وَالْمَعْنَى أَعْطُوا تَوَجُّهَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْبُدُونَهُ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَصَرْفِ الشَّوَاغِلِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِبَادَةُ طَوَافًا أَوْ صَلَاةً أَوْ ذِكْرًا أَوْ فِكْرًا - وَادْعُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، بِأَلَّا تَشُوبُوا دُعَاءَكُمْ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ عِبَادَتِكُمْ لَهُ بِأَدْنَى شَائِبَةٍ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا إِلَى مَا وُضِعَ لِلتَّذْكِيرِ بِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا - وَلَا مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَحُبُّ إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى عِبَادَتِكُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْكُمْ بِهَا وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِكُمْ فِيهَا. وَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ زَاعِمِينَ أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ وَيُقِيمَ وَجْهَهُ لَهُ حَنِيفًا، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الطَّاهِرِينَ الْمُكَرَّمِينَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَهُ وَيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَهَذَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ، وَشُبْهَتُهُمْ فِيهِ كَشُبْهَتِهِمْ فِي عَدَمِ الطَّوَافِ فِي ثِيَابٍ عَصَوْهُ فِيهَا، وَجَعْلُهُمْ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الدِّينِ وَنِسْبَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ وَقَوْلٌ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا أَوْحَى إِلَيْهِمْ مَا نَطَقَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِالْأَمْرِ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، وَالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ - كَمَا أَمَرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَجَعَلَ الظَّاهِرَ عُنْوَانًا لِلْبَاطِنِ فِي طَهَارَتِهِ وَحُسْنِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَحَرِّي الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ.
(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) هَذَا تَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَدَعْوَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي إِثْرِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ وَمَنَاطِ الْأَمْرِ فِيهِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي سِيَاقِ أَصْلِ تَكْوِينِ الْبَشَرِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَا لِلشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَعَدَمِ سُلْطَانِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، فَإِنَّهَا دَعْوَى مُتَضَمِّنَةٌ لِلدَّلِيلِ بِتَشْبِيهِ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ فَهُوَ يَقُولُ:
كَمَا بَدَأَكُمْ رَبُّكُمْ خَلْقًا وَتَكْوِينًا بِقُدْرَتِهِ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - حَالَةَ كَوْنِكُمْ فَرِيقَيْنِ - فَرِيقًا هَدَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ، فَاهْتَدَوْا بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِقَامَةِ وُجُوهِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَدُعَائِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا - وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ لِاتِّبَاعِهِمْ إِغْوَاءَ الشَّيْطَانِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ:
334
ثَبَتَتْ بِثُبُوتِ أَسْبَابِهَا الْكَسْبِيَّةِ، لَا أَنَّهَا جُعِلَتْ غَرِيزَةً لَهُمْ فَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَيْهَا، يَدُلُّ عَلَى هَذَا تَعْلِيلُهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَادَ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِينَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ خِطَابِ الْمُحْتَجِّينَ مِنْهُمْ بِمَا يُبْطِلُ حُجَّتَهُمُ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمْ - وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا يُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِيِّ وَالْعُدْوَانِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فِيمَا تُلَقِّنُهُمُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَجَعْلِ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى زُلْفَى، وَجَعْلِ الرَّبِّ تَعَالَى كَالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ، لَا يَقْبَلُ عِبَادَةَ عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ. كَالْمَلِكِ الْجَاهِلِ مَعَ وُزَرَائِهِ وَحُجَّابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ شُبْهَتِهِمْ عَلَى طَوَافِهِمْ عُرَاةً، وَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَأَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْبَشَرِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَقَلُّ الْكُفَّارِ الْجَاحِدُونَ لِلْحَقِّ كِبْرًا وَعِنَادًا كَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ فِي عُصُورِهِمْ، وَحَاسِدِيهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَكَرَّمَهُمْ بِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَاسْتَكْبَرَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ فِرْعَوْنُ وَالْمَلَأُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) وَمِنْهُمْ كُبَرَاءُ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣) وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَضَالُّونَ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، أَوْ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١٨: ١٠٣، ١٠٤) وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ عُذْرًا مَقْبُولًا لَكَانَ أَكْثَرُ كُفَّارِ الْأَرْضِ
فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ مَعْذُورِينَ نَاجِينَ كَالْمُؤْمِنِينَ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَدْ أَضَلَّ الْأُلُوفَ الَّتِي لَا تُحْصَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ " فَتَرَكُوا هِدَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاتَّبَعُوا الْبِدَعَ الْمُسْتَحْدَثَةَ، فَإِذَا دَعَوْا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ قَالُوا: قَالَ الشَّيْخُ فُلَانٌ، وَفَعَلَ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ فُلَانٌ، وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَهْدَى مِنَّا بِالسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا
335
أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانُ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ
وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ الْحَقِّ لِيَتْبَعَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْحَثْ.
ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ فَاتَّبَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ طَاقَتُهُ وَكَانَ مُخَالِفًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَدْخُلُ فِي مَدْلُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦). وَقَدِ اشْتَرَطُوا
فِي حُجِّيَّةِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ كَوْنَهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْحُجَّةِ يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُ مِنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا بَلَغَهُ بِصُورَةٍ مُشَوَّهَةٍ تَدْعُو إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَاتِّقَاءِ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي النَّظَرِ فِيهَا، وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِهَا، وَمَا أَجْهَلَهُمْ بِحَالِ الْعَصْرِ وَأَهْلِهِ وَبِالدَّعْوَةِ وَأَدِلَّتِهَا، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا مُنْذُ قُرُونٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَهِلُوهَا.
قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ التَّعْلِيلِ أَوِ التَّأْكِيدِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ " بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا " وَالْأَوَّلُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ هَدَاهُ اللهُ تَعَالَى، شَامِلٌ لِلْمُعَانِدِ وَالْمُخْطِئِ، وَالثَّانِي مُخْتَصٌّ بِالثَّانِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمُقَصِّرِ فِي النَّظَرِ وَالْبَاذِلُ غَايَةَ الْوُسْعِ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ الذَّمِّ عَلَى الْأَخِيرِ وَخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَمَذْهَبُ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ أَصْلًا وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَمْ يُدْرِكْ بِهِ الْحَقَّ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَدَعْ فِي الْقَوْسِ مَنْزَعًا فِي طَلَبِهِ، فَحَيْثُ يُعْذَرُ الْأَوَّلُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، يُعْذَرُ
336
الثَّانِي لِذَلِكَ. وَلَا يَرَوْنَ مُجَرَّدَ الْمَالِكِيَّةِ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ حُجَّةً. وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْتِزَامُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ مُعَانِدٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَظُهُورِ أَمْرِ الْحَقِّ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ - وَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الْيَوْمَ كَافِرٌ مُسْتَدِلٌّ - مِمَّا لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا مُسْلِمٌ مُعَانِدٌ، أَوْ مُسْتَدِلٌّ بِمَا هُوَ أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ. وَإِنَّهُ لَأَوْهَنُ الْبُيُوتِ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَانِدُ وَمِنَ الْمَعْطُوفِ الْمُخْطِئُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَا اهـ.
هَذَا وَإِنَّ الْمَعْذُورَ فِي الْخَطَأِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ كَالْمُصِيبِ، وَإِنَّ الَّذِي يَتَحَرَّى الْحَقَّ الْمَرْضِيَّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى الْمُنَجِّيَ فِي الْآخِرَةِ، لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ بِإِخْلَاصِهِ فِي النَّظَرِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَمَعْرِفَتُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ إِذْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ فِي نَظَرِهِ عَلَى هَوًى. وَيَتَفَاوَتُ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدُونَ الْمُخْطِئُونَ بِتَفَاوُتِ حُظُوظِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَاجْتِنَابِ ضِدِّهِ، إِذْ بِذَلِكَ تَتَزَكَّى الْأَنْفُسُ، وَالْمَدَارُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَا هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا هُنَا. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا وَمُخْرِجُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةً وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أَحِلُّهُ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَأَلْقَتْ ثِيَابَهَا فَطَافَتْ وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى قُبُلِهَا وَقَالَتْ: (الْبَيْتَ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)
إِلَى قَوْلِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِاللَّيْلِ عُرَاةً وَأَكْثَرُهَا مُطْلَقَةٌ. وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا حَجُّوا فَنَزَلُوا فِي أَدْنَى الْحِلِّ نَزَعُوا ثِيَابَهُمْ وَوَضَعُوا رِدَاءَهُمْ وَدَخَلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ رِدَاءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ صَدِيقٌ مِنَ الْحُمْسِ فَيُعِيرُهُ ثَوْبَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ طَعَامِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلُونَ، فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ يُضْرَبُ وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ قَتَادَةَ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْ حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ فِي
الطَّوَافِ إِلَّا الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَيِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ: يَطُوفُونَ بِثِيَابِهِمْ - وَهَذَا حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الِانْفِرَادِ بِهِ - وَيَأْتُونَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ لَا مِنْ بَابِهِ إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَقَدْ أَبْطَلَ هَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢: ١٨٩) وَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (جَبَلُ قُزَحٍ) بِمُزْدَلِفَةَ لَا فِي عَرَفَاتٍ وَيُعَلِّلُونَ هَذَا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَعَرَفَةُ خَارِجُ حَدِّ الْحَرَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَلَمَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْفِرُ الْحَجَّاجُ مِنْ بَيْنِهِمَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَوْقِفِ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عَرَفَةَ فَيَقِفُونَ فِيهَا فَخَابَ ظَنُّهُمْ، وَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِيَازَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَبَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِنَّهُ أَبَى أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فِي " مِنًى " يَسْتَظِلُّ فِيهِ مِنَ الشَّمْسِ لَمَّا أَرَادُوا عَمَلَهُ لَهُ. وَقَالَ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا فِي نُزُولِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ اللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ مُبْطِلَةً لِتِلْكَ الضَّلَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَاحِشَةِ، وَمُقَرِّرَةً لِوُجُوبِ اتِّخَاذِ الْمَلَابِسِ لِلسَّتْرِ وَلِزِينَةِ التَّجَمُّلِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قُلْنَا فِي مِثْلِهِ قَبْلَهُ وَنَزِيدُ أَنَّهُ يَشْمَلُ النِّسَاءَ بِالتَّبَعِ لِلرِّجَالِ شَرْعًا لَا لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَسَنَعُودُ إِلَى
338
هَذَا فِي تَفْسِيرِ آخِرِهَا، وَالزِّينَةُ: مَا يُزَيِّنُ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ، فَهِيَ اسْمٌ مِنْ زَانَهُ يَزِينُهُ زَيْنًا، ضِدُّ شَانَهُ - أَيْ عَابَهُ - يَشِينُهُ شَيْنًا. وَأَخْذُهَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّزَيُّنِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِأَخْذِ مَا يُزَيَّنُ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الثِّيَابُ الْحَسَنَةُ الْمُعْتَادَةُ، بِدَلِيلِ الْقَرِينَةِ وَالْإِضَافَةِ وَسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ - وَإِلَّا فَأَنْوَاعُ الزِّينَةِ فِي الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ - وَمِنْهَا الْمَالُ وَالْبَنُونُ - فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ الَّتِي يَتَحَبَّبْنَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ شَاغِلَةً عَنِ الْعِبَادَةِ، وَأَقَلُّ هَذِهِ الزِّينَةِ مَا يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ أَقْبَحَ مَا يَشِينُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَقَدِ اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا لِأَجْلِ جَعْلِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِصِحَّةِ الصَّلَاة
وَالطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ وَقَالُوا: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّجَمُّلِ بِزِينَةِ اللِّبَاسِ اللَّائِقِ عِنْدَ الصَّلَاةِ - وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَفِي الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزِّينَةِ لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ النَّاسِ فِي تَزَيُّنِهِمُ الْمُعْتَدِلِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِلِ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْمَلِ حَالَةٍ لَائِقَةٍ بِهِ لَا تَكَلُّفَ فِيهَا وَلَا إِسْرَافَ، فَمَنْ قَدَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ عَلَى عِمَامَةٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ، لَا يَكُونُ مُتَمَثِّلًا لِلْأَمْرِ بِالزِّينَةِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى إِزَارٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فَقَطْ (وَهِيَ عِنْدُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ السَّوْءَتَانِ فَقَطْ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ) لِلرَّجُلِ وَمَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَإِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ بَيَانِ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ لَا شَرْطَ لِصِحَّتِهَا. وَإِنَّ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، حَتَّى جُعِلَتِ النِّعَالُ مِنَ الزِّينَةِ وَهِيَ كَذَلِكَ وَإِنْ تَرَكَهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّهُمْ يَفْرِشُونَهَا كَمَا يَفْرِشُونَ بُيُوتَهُمْ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالْبُسُطِ وَالطَّنَافِسِ.
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ (أَيْ أَرَادَ الصَّلَاةَ) فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ إِذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلْ أَحَدُكُمْ فِي صِلَاتِهِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ " وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُصَلِّينَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي لِحَافٍ (ثَوْبٌ يُلْتَحَفُ بِهِ) وَاحِدٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عُدَيٍّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ - قَالُوا: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: الْبِسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا " وَأَخْرَجَ
339
الْعُقَيْلِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللهِ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قَالَ: " صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ " وَفِي مَعْنَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِضْعَةُ أَحَادِيثَ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ يُؤَيِّدُهَا مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَكَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: " أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ. ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللهُ فَأَوْسِعُوا. جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ، وَذَكَرُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَا فَقَالَ أُبَيٌّ: الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَفِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ - فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَلَمْ يَأْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ - أَيْ لَمْ يُقَصِّرْ - وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ السِّبْطِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ لَبِسَ أَجْوَدَ ثِيَابِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ فَأَتَجَمَّلُ لِرَبِّي وَهُوَ يَقُولُ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وَالْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا مَا حَقَّقَهُ وَفَصَّلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ كَالنَّفَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) (٦٥: ٧) فَمَنْ عِنْدَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلْيَسْتُرْ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهِ وَيُصَلِّ بِهِ - فَإِنْ لَمْ يَسْتُرْ إِلَّا الْعَوْرَةَ كُلَّهَا أَوِ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ - وَهِيَ السَّوْءَتَانِ - فَلْيَسْتُرْ بِهِ مَا يَسْتُرُهُ، وَمَنْ وَجَدَ ثَوْبَيْنِ مَهْمَا يَكُنْ نَوَعُهُمَا أَوْ أَكْثَرَ فَلْيُصَلِّ بِهِمَا، وَالْخُلَاصَةُ أَنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوْسَطِ حَالٍ حَسَنَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَدَّ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقْدُ الرَّجُلِ لِلثِّيَابِ اللَّائِقَةِ بِهِ بَيْنَ أَمْثَالِهِ حَتَّى الْعِمَامَةِ لِلْعَالِمِ.
هَذَا الْأَمْرُ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - لَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُعْرَفُ بَعْضُ قِيمَتِهِ مِمَّا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ مَنْ قَرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُتَوَحِّشِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي الْحَرَجَاتِ وَالْغَابَاتِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ يَأْوُونَ إِلَى
الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَالْقَبَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْوَثَنِيَّةِ
340
فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْبِحَارِ وَجِبَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، كُلُّهُمْ يَعِيشُونَ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ نِسَاءً وَرِجَالًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَا وَصَلَ إِلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَعَلَّمَهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ بِإِيجَابِهِ لِلسَّتْرِ وَلِلزِّينَةِ إِيجَابًا شَرْعِيًّا، وَلَمَّا أَسْرَفَ بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الْأُورُبِّيِّينَ فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ لِتَنْفِيرِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَحْوِيلِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، وَلِتَحْرِيضِ أُورُبَّةَ عَلَيْهِمْ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ، فَذَكَرَ فِي رَدِّهِ أَنَّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ مِنْهُ عَلَى أُورُبَّةَ بِنَشْرِهِ لِلْمَدَنِيَّةِ فِي أَهْلِهَا بِحَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْعُرْيِ وَإِيجَابِهِ لُبْسَ الثِّيَابِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِرَوَاجِ تِجَارَةِ النَّسِيجِ الْأُورُبِّيَّةِ فِيهِمْ. بَلْ أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ كَانَ يَغْلِبُ فِيهَا مَعِيشَةُ الْعُرْيِ، حَتَّى إِذَا مَا اهْتَدَى بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ صَارُوا يَلْبَسُونَ وَيَتَجَمَّلُونَ ثُمَّ صَارُوا يَصْنَعُونَ الثِّيَابَ، وَقَلَّدَهُمْ جِيرَانُهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْضَ التَّقْلِيدِ، وَهَذِهِ بِلَادُ الْهِنْدِ عَلَى ارْتِقَاءِ حَضَارَةِ الْوَثَنِيِّينَ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَا يَزَالُ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ عُرَاةً أَوْ أَنْصَافَ أَوْ أَرْبَاعَ عُرَاةٍ، فَتَرَى بَعْضَ رِجَالِهِمْ فِي مَعَاهِدِ تِجَارَتِهِمْ وَصِنَاعَتِهِمْ بَيْنَ عَارٍ لَا يَسْتُرُ إِلَّا السَّوْءَتَيْنِ - وَيُسَمُّونَهُمَا " سَبِيلَيْنِ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ - أَوْ سَاتِرٍ لِنِصْفِهِ الْأَسْفَلِ فَقَطْ، وَامْرَأَةٍ مَكْشُوفَةِ الْبَطْنِ وَالْفَخِذَيْنِ أَوِ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِنَ الْجِسْمِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ. وَقَدِ اعْتَرَفَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمُنْصِفِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الَّذِينَ عَلَّمُوهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ وَالْأَكْلَ فِي الْأَوَانِي. وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ فُقَرَائِهِمْ يَضَعُونَ طَعَامَهُمْ عَلَى وَرَقِ الشَّجَرِ وَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ سَتْرًا وَزِينَةً لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حُكَّامَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ مِنْ أَرْقَى مُسْلِمِي الْأَرْضِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَأْثِيرًا فِي وَثَنِيِّ بِلَادِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْجَهْلُ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اللِّبَاسِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَمِنْهُمْ نِسَاءُ مُسْلِمِي (سيام) اللَّاتِي لَا يَرَيْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَوْرَةً سِوَى السَّوْءَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَحَيْثُ يَقْوَى الْإِسْلَامُ يَكُونُ السَّتْرُ وَالزِّينَةُ اللَّائِقَةُ بِكَرَامَةِ الْبَشَرِ وَرُقِيِّهِمْ.
فَمِنْ عَرِفَ مِثْلَ هَذَا عَرِفَ قِيمَةَ هَذَا الْأَصْلِ الْإِصْلَاحِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الدِّينُ الْمَدَنِيُّ الْأَعْلَى أَخْذَ الزِّينَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ - يَعْنِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ - لَمَا نَقَلَ أُمَمًا وَشُعُوبًا كَثِيرَةً مِنَ الْوَحْشِيَّةِ الْفَاحِشَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُ هَذَا الْفَضْلَ لَهُ مَنْ يَجْهَلُ التَّارِيخَ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهِلْهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي مُتَحَذْلِقَةِ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ فِي مَلْهًى أَوْ مَقْهًى أَوْ حَانَةٍ مُتَّكِئًا مُمِيلًا طَرْبُوشَهُ عَلَى رَأْسِهِ
يَقُولُ: مَا مَعْنَى جَعْلِ أَخْذِ زِينَةِ النَّاسِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى وَحْيٍ إِلَهِيٍّ وَلَا شَرْعٍ دِينِيٍّ؟ وَقَدْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ إِرْشَادٌ عَالٍ أَيْضًا فِيهِ صَلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا عَصْرٍ مِنْ
341
الْأَعْصَارِ، وَكُلُّ مَا بَلَغُوهُ مِنْ سِعَةِ الْعِلْمِ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يُغْنِهِمْ عَنْهُ، بَلْ هُوَ يُغْنِي الْمُهْتَدِي بِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ مُعْظَمِ وَصَايَا الطِّبِّ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ - وَالْمَعْنَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَكُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاشْرَبُوا الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ النَّافِعَةِ الْمُسْتَلِذَّاتِ (وَلَا تُسْرِفُوا) فِيهَا وَلَا تَعْتَدُوا بَلِ الْزَمُوا الِاعْتِدَالَ (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أَيْ إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَنْفَعَتِكُمْ، لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْإِسْرَافِ بِقَدْرِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ، فَالنَّهْيُ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، بَلْ حَذْفُ الْمَعْمُولِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ لَا تُسْرِفُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ جِنْسَ الْمُسْرِفِينَ - أَيْ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ سُنَنَهُ فِي فِطْرَتِهِمْ، وَشَرِيعَتَهُ فِي هِدَايَتِهِمْ، بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ضَرَرِ أَبْدَانِهِمْ، وَضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَضَارِّ الْإِسْرَافِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ. أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " وَفِي مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ إِذَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. وَالْمَخِيلَةُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ) الْخُيَلَاءُ وَالْإِعْجَابُ وَالْكِبْرُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ " وَلَا تُسْرِفُوا " قَالَ: فِي الثِّيَابِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: مِنَ السَّرَفِ أَنْ يَكْتَسِيَ الْإِنْسَانُ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قَالَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَفِي أُخْرَى قَالَ: أَحَلَّ اللهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً.. وَلَمْ يَذْكُرِ اللِّبَاسَ وَالْمَخِيلَةَ تَظْهَرُ فِيهِ وَلَا تَظْهَرُ فِي نَفْسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنَّمَا قَدْ تَظْهَرُ فِي أَوَانِيهَا كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِسْرَافِ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْحُدُودُ مِنْهَا طَبِيعِيٌّ كَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالظَّمَأِ وَالرَّيِّ، فَلَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِذَا أَحَسَّ بِالْجُوعِ وَمَتَى
شَعَرَ بِالشِّبَعِ كَفَّ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلِذُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِالظَّمَأِ وَاكْتَفَى بِمَا يُزِيلُهُ رَيًّا فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لِاسْتِلْذَاذِ بَرْدِ الشَّرَابِ أَوْ حَلَاوَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا فِي أَكْلِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ نَافِعًا لَهُ - وَمِنْهَا اقْتِصَادِيٌّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الثَّلَاثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَخْلِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْتَغْرِقُ كَسْبَهُ، فَمَنْ نَفَيْنَا عَنْهُ الْإِسْرَافَ الطَّبِيعِيَّ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، قَدْ يَكُونُ مُسْرِفًا فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ نَوْعُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ مِمَّا لَا يَفِي دَخْلَهُ بِمِثْلِهِ - وَمِنْهَا عَقْلِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ، وَمِنْهَا عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَمِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمِنَ الشَّرَابِ الْخَمْرَ وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ مِنْهُمَا كَالسُّمُومِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ الْحَرِيرَ الْمُصْمَتَ أَيِ الْخَالِصَ وَكَذَا الْغَالِبَ - عَلَى
342
الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ - فَهَذِهِ أَشْيَاءٌ مُحَرَّمَةٌ بِأَعْيَانِهَا، فَلَا تُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. وَحَرَّمَ مِمَّا يُلَابِسُهَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهَذَا وَمَا قَبِلَهُ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُ مِنَ السَّرَفِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَنَهَى أَيْضًا عَنْ لِبَاسِ الشُّهْرَةِ وَعَنْ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِهِمْ.
وَاعْتَبَرَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ عُرْفَ النَّاسِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (٦٥: ٧) الْآيَةَ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْغَنِيِّ لِزَوْجَتِهِ الْغَنِيَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ غِذَاءٍ وَلِبَاسٍ، وَلَكِنَّ دَرَجَاتِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا وَتَحْدِيدُهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ عُرْفُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنْهُمُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي طَاقَتِهِمْ - وَمَنْ تَجَاوَزَ طَاقَتَهُ مُبَارَاةً لِمَنْ هُمْ فِي الثَّرْوَةِ مِثْلُهُ مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَوْ لِمَنْ هُمْ أَغْنَى مِنْهُ وَأَقْدَرُ كَانَ مُسْرِفًا، وَكَمْ خَرَّبَتْ هَذِهِ الْمُبَارَاةُ وَالْمُنَافَسَةُ مِنْ بُيُوتٍ كَانَتْ عَامِرَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتُّبِعَتْ فِيهَا أَهْوَاءُ النِّسَاءِ فِي التَّنَافُسِ فِي الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، وَالْمُهُورِ وَتَجْهِيزِ الْعَرَائِسِ وَاحْتِفَالَاتِ الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ الْوَلَائِمِ وَالْوَضَائِمِ وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَرَى مِنَ الْعَارِ أَنْ تَلْبَسَ الْغِلَالَةَ أَوِ الْحُلَّةَ فِي زِيَارَتِهَا لِأَمْثَالِهَا مَرَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ زِيَارَةٍ مِنْ حُلَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَهَذَا سَرَفٌ كَبِيرٌ وَضَرَرُهُ عَلَى الْأُمَّةِ أَكْبَرٌ مِنْ ضَرَرِهِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي تَأْتِي بِكُلِّ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنَ الْبِلَادِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَتَذْهَبُ ثَرْوَتُهَا إِلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى اسْتِذْلَالِهِمْ وَسَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ.
وَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ فِي التَّقَشُّفِ: فَإِنَّ هَذَا الْهَدْيَ الْقُرْآنِيَّ هُوَ أَصْلُ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ فَلَهُ سَبَبٌ يَعْرِفُهُ الْوَاقِفُ عَلَى جُمْلَةِ سِيرَتِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَافُوا عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ بِالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ إِلَى تِلْكَ السَّعَةِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا.
عَلَى أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى التَّقَشُّفِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ تَدَيُّنًا مَعْهُودٌ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ كَضِدِّهِ، وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَصْدُ هُوَ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ الشَّرْعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ مِنَ الْإِسْرَافِ ضَعِيفٌ وَمُعَارَضٌ بِالصِّحَاحِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَاجَهْ " إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَ " ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَحِكْمَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يَكْبَحْ جُمُوحَهَا بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ عَنْ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا
343
تَقُودُهُ إِلَى الْإِسْرَافِ وَإِلَى شُرُورٍ أُخْرَى؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللهُ الصِّيَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَقَدْ مَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْغُلُوِّ وَشَرَعُوا فِيهِ بِتَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ وَغَشَيَانِ النِّسَاءِ حَتَّى اسْتَأْذَنَ بَعْضُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِصَاءِ فَأَدَّبَهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ تَفْصِيلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) (٥: ٨٧) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ وَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ مَا عَنَى بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ بِنَقْلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الزُّهْدِ فِي الطَّعَامِ كَالْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ فَأَكْثَرُهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَوْضُوعُ وَالضَّعِيفُ وَأَقَلُّهُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ مِنْ خَشِنٍ وَمُسْتَلَذٍّ، لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسَرِينَ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلِلْمُوسَرِينَ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِهِ، وَقَدْ أُيْسِرُوا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ اللَّحْمُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِالطَّعَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمَاءِ وَالشَّرَابِ، فَلَا يَشْرَبُ إِلَّا النَّظِيفَ الْعَذْبَ، وَيُحِبُّ الْبَارِدَ الْحُلْوَ، حَتَّى كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَكَانَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ يَلْبَسُ مَا كَانَ يَلْبَسُ قَوْمُهُ. وَلَبِسَ مِنْ خَشِنِ اللِّبَاسِ وَمَنْ أَجْوَدِ أَنْوَاعِهِ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ضَرُورَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَلَكِنْ ضَلَّ فِيهَا فَرِيقَانِ مِنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ - فَرِيقُ الْبُخَلَاءِ وَالْغُلَاةِ فِي الدِّينِ، الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ النَّافِعَةِ بُخْلًا وَشُحًّا أَوْ يُحَرِّمُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْرِيمًا دَائِمًا أَوْ فِي أَيَّامٍ أَوْ أَشْهُرٍ مَخْصُوصَةٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِضْعَافِ الْجِسْمِ - وَفَرِيقُ الْمُتْرَفِينَ الْمُسْرِفِينَ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ كَمَا تَتَمَتَّعُ الْأَنْعَامُ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا فِي تَمَتُّعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا تَقِفُ عِنْدَ حَاجَةِ فِطْرَتِهَا دُونَهُمْ فَلَا تَعْدُوا فِيهَا دَاعِيَةَ غَرِيزَتِهَا الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا حَيَاتَهَا الْفَرْدِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا الْمُتْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي ذَلِكَ فَيَأْكُلُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْجُوعِ وَيَشْرَبُونَ عَلَى غَيْرِ ظَمَأٍ، وَيَتَجَاوَزُونَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا يَتَجَاوَزُونَهُ فِي غَيْرِهِمَا وَيَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّوَابِلِ وَالْمُحَرِّضَاتِ لِلشَّهْوَةِ فَيُصَابُونَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِتَمَدُّدِ الْمَعِدَةِ، وَسُوءِ الْهَضْمِ وَفَسَادِ الْأَمْعَاءِ مِنَ التُّخْمَةِ، وَكَثْرَةِ الْفَضَلَاتِ فِي الْجِسْمِ الَّتِي تُحْدِثُ تَصَلُّبَ الشَّرَايِينِ الْمُعَجِّلَ بِالْهَرَمِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي شَهْوَةِ دَاعِيَةِ النَّسْلِ الَّتِي بَيَّنَّا ضَرَرَ الِانْهِمَاكِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا قَرِيبًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ سَتْرِ السَّوْءَتَيْنِ حَتَّى فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ لِأَجْلِ هَذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي زِينَةِ اللِّبَاسِ.
344
هَذَا وَإِنَّ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ قَوَاعِدُ وَأُصُولٌ، فُرِّعَتْ مِنْهَا مَسَائِلُ وَفُرُوعٌ فَيَحْسُنُ الِاسْتِنَارَةُ بِهَا وَبِعِلْمِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ: وَاتِّبَاعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (٤: ٥).
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) : حَرَّمَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا زِينَةَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ تَعَبُّدًا وَقُرْبَةً، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَذَلِكَ، وَحَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَحَرَّمَ غَيْرُهُمْ
مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ كَذَلِكَ. فَجَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. الْمُطَهِّرُ الْمُرَبِّي لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ - يُنْكِرُ هَذَا التَّحَكُّمَ وَالظُّلْمَ لِلنَّفْسِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) إِنْكَارِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ. لَا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ سُبْحَانَهُ حَقَّ التَّبْلِيغِ عَنْهُ لِغَيْرِهِمْ، وَإِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُؤْذِنُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَالْمِنَّةِ بِهَا. وَإِخْرَاجُهَا لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَوَادِّهَا لَهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ طَرَائِقَ صُنْعِهَا، بِمَا أَوْدَعَ فِي فَطْرِهِمْ مِنْ حُبِّهَا. وَفِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِبْدَاعِ فِيهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ لِلْمُنْعِمِ شُكْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ بِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ عِلْمًا (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حَلَالًا يُؤْخَذُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهَا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٦٨) وَالْمَائِدَةِ (٥: ٩٠ - ٩١).
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْبَشَرَ مُسْتَعِدِّينَ لِإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمْ مَيْلًا إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ وَكَشْفِ الْمَجْهُولَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَفِيَّاتِ، لَا حَدَّ لَهُ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَحُبًّا لِلشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالزِّينَةِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، لَا حَدَّ لَهُ أَيْضًا. فَانْدَفَعُوا بِهَذِهِ الْغَرَائِزِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ كَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ، فَلَمْ يَدَعُوا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِلَّا عَنَوْا بِالْبَحْثِ فِيهِ، وَلَا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِعُقُولِهِمْ إِلَّا بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْثُهُمْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لِأَغْرَاضٍ شَتَّى لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُقْضَى عَلَيْهَا بِالنِّهَايَةِ وَكَأَنَّمَا هُمْ مَخْلُوقُونَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا حَدَّ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ غَرَائِزُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَدٌّ.
345
وَلَقَدْ كَانَتْ غَرِيزَةُ حُبِّ الزِّينَةِ وَغَرِيزَةُ حُبِّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ سَبَبًا لِتَوَسُّعِ الْبَشَرِ فِي أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَمَا يُرَقِّيهَا مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ وَإِظْهَارِ عَجَائِبِ عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْعَالَمِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْخَلْقِ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّ مَا تَنْبُتُ لَهُ الْأَرْضُ مِنَ الْغِذَاءِ لِحِفْظِ حَيَاةِ أَفْرَادِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَبَقَاءِ حَيَاتِهِ النَّوْعِيَّةِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، لَمَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْأَعْمَالِ. وَهَلْ كَانَ مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ خَلْقِهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَكْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا
عَنْهَا إِلَّا بِدَافِعِ غَرِيزَةِ كَشْفِ الْمَجْهُولِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَمْنُوعِ؟ وَهَلْ كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ حِرْمَانِهِمَا مِنَ الرَّاحَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي يَعِيشَانِ فِيهَا رَغَدًا بِغَيْرِ عَمَلٍ، إِلَّا لِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي جَعْلِ هَذَا النَّوْعِ عَالِمًا صِنَاعِيًّا تَدْفَعُهُ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَمَلِ وَيَدْفَعُهُ الْعَمَلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَيَدْفَعُهُ حُبُّ الرَّاحَةِ إِلَى التَّعَبِ، وَيُثْمِرُ لَهُ التَّعَبُ الرَّاحَةَ؟
وَقَدْ عُرِفَ مِنِ اخْتِبَارِ قَبَائِلِ هَذَا النَّوْعِ وَشُعُوبِهِ فِي حَالَيْ بَدَاوَتِهِ وَحَضَارَتِهِ، أَنَّهُ يَتْعَبُ وَيَبْذُلُ فِي سَبِيلِ الزِّينَةِ فَوْقَ مَا يَتْعَبُ وَيَبْذُلُ فِي سَبِيلِ ضَرُورِيَّاتِ الْمَعِيشَةِ، وَكَثِيرًا مَا يُفَضِّلُهَا عَلَيْهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَالْمَرْءُ قَدْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لِيُوَفِّرَ لِنَفْسِهِ ثَمَنًا لِثَوْبٍ فَاخِرٍ يَتَزَيَّنُ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَجَامِعِ، وَمَاذَا تَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لِلزِّينَةِ مِنَ الرَّجُلِ، وَقَدْ تُؤْثِرُهَا عَلَى جَمِيعِ اللَّذَّاتِ الْأُخْرَى؟ وَإِنَّ تَوَسُّعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي أَنْوَاعِ الزِّينَةِ الَّتِي يُنَفِّسُونَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، هُوَ الَّذِي وَسَّعَ الطُّرُقَ لِاسْتِفَادَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ فَضْلِ أَمْوَالِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ الْغَوَّاصِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِحَارِ، وَعُمَّالَ الصِّيَاغَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالتَّطْرِيزِ وَالْبِنَاءِ وَالنَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ وَسَائِرِ الزِّينَاتِ، كُلَّهُمْ أَوْ جُلَّهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَتَزَيَّنُ الْأَغْنِيَاءُ بِمَا يَعْمَلُونَ لَهُمْ وَهُمْ مِنْهُ مَحْرُومُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ مَعِيشَةٍ وَزِينَةِ تَلِيقُ بِهِمْ إِلَّا بِسَبَبِ تَنَافُسِ الْأَغْنِيَاءِ فِيهِ.
فَحُبُّ الزِّينَةِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْعُمْرَانِ، وَإِظْهَارُ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَهِيَ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ فِي نَفْسِهَا، إِنَّمَا يُذَمُّ الْإِسْرَافُ فِيهَا وَالْغَفْلَةُ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا. وَمِنَ الْإِسْرَافِ فِيهَا جَعْلُهَا شَاغِلَةً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ سَائِرِ مَعَالِي الْأُمُورِ وَالْكِمَالَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مِنْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ عَمَلِيَّةٍ أَوِ اجْتِمَاعِيَّةٍ، دُنْيَوِيَّةً كَانَتْ أَوْ أُخْرَوِيَّةً، وَمِنْهُ إِضَاعَةُ الْوَقْتِ الطَّوِيلِ فِي التَّطَرُّزِ وَالتَّطَرُّسِ وَالتَّوَرُّنِ كَمَا يَفْعَلُ النِّسَاءُ وَبَعْضُ الشُّبَّانِ، وَكَذَلِكَ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْمُومَةُ لَيْسَتْ لَوَازِمَ لِلزِّينَةِ، وَالطَّيِّبَاتُ تَحْصُلُ بِحُصُولِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا، وَلَيْسَ الْحِرْمَانُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ عِلَّةً سَبَبِيَّةً وَلَا غَائِيَّةً لِلْقِيَامِ بِمَعَالِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا لِشُكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالرِّضَا عَنْهُ، وَلَا هُوَ أَعْوَنُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ يَقَعُ بِكُلٍّ مِنْ حُصُولِهِمَا وَالْحِرْمَانِ مِنْهُمَا، وَإِنَّ الْمَالِكَ لَهُمَا أَقْدَرُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَشُكْرِهِ وَتَزْكِيَةِ
346
نَفْسِهِ وَنَفْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْفَاقِدِ لَهُمَا. فَلَا وَجْهَ إِذًا لِتَحْرِيمِ الدِّينِ لَهُمَا، وَلَا لِجَعْلِهِ إِيَّاهُمَا عَائِقَيْنِ عَنِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ وَثَنِيُّوا الْبَرَاهِمَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَرَتْ عَدْوَاهُ التَّقْلِيدِيَّةُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، وَسَرَتْ عَدْوَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ إِلَى كَثِيرٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا يَبُثُّونَ فِي الْأُمَّةِ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَرُوحَهُ وَسِرَّهُ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ. وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِأُمَّتِكَ: هِيَ - أَيِ الزِّينَةُ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ - ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِالتَّبَعِ لَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا مِثْلَهُمْ. وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ حَالَ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (فَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ " خَالِصَةٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ) - وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِصَةً مِنْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ دِينَ اللهِ الْحَقَّ يُورِثُ أَهْلَهُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (٢: ١٢٣، ١٢٤) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (٧٢: ١٦) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا.
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانُوا أَحَقَّ مِنَ الْكَافِرِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي تَرَقِّيهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ بِمَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيمَا أَحْكَمَ مِنْ صُنْعِهَا، وَعَلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِشُكْرِهِ عَلَيْهَا بِلِسَانِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ كُلَّمَا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَيَزْدَادُ شُكْرًا لَهُ كُلَّمَا زَادَتْ نِعَمُهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَثَمَرَاتِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْنَا بِتَمْكِينِنَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَعَلَ لَنَا فِيهَا مِنَ الْمَعَايِشِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشُّكْرِ قَبُولَ النِّعْمَةِ وَاسْتِعْمَالَهَا فِيمَا وَهَبَهَا الْمُنْعِمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ شُكْرُ الْجَوَارِحِ وَلَا يَكْمُلُ شُكْرُ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَشُكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ إِلَّا بِشُكْرِ الْأَعْضَاءِ الْعَمَلِيِّ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ " الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ " وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ جَعْلِ التَّنْظِيرِ فِيهِ بَيْنَ الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ وَالصَّائِمِ الصَّابِرِ دُونَ الْجَائِعِ
347
الصَّابِرِ، أَنَّ الْجُوعَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ، وَلَكِنَّ الصِّيَامَ عَمَلٌ نَفْسِيٌّ يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ، فَهُوَ طَاعَةٌ كَالْأَكْلِ بِالنِّيَّةِ مَعَ الشُّكْرِ.
وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِدُونِ إِسْرَافٍ هُمَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ، وَلَهُمَا التَّأْثِيرُ الْعَظِيمُ فِي جَوْدَةِ النَّسْلِ الَّذِي تَكْثُرُ بِهِ الْأُمَّةُ، وَالْأَطِبَّاءُ يُحْظِرُونَ الزَّوَاجَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَرْضَى وَيُعِدُّونَ زَوَاجَهُمْ خَطَرًا عَلَى صِحَّتِهِمْ، وَجِنَايَةً عَلَى نَسْلِهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِسُوءِ حَالِ نَسْلِهَا وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، يَقْصِدُ بِحُسْنِ تَغْذِيَةِ بَدَنِهِ بِالطَّيِّبَاتِ كُلَّ مَا يَعْقِلُهُ مِنْ فَوَائِدِهَا، وَيَتَجَنَّبُ مَا نَهَى الله عَنْهُ مِنَ الْإِسْرَافِ فِيهَا وَمِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَتَكْثُرُ حَسَنَاتُهُ فِيهِ، فَلَا غَرْوَ إِذْ عُدَّ فِي أَكْلِهِ كَالصَّائِمِ فِيمَا يَنَالُهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ " أَيْ فِي الْمُلَامَسَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ كَثَوَابِ الصَّدَقَةِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ " - رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - وَالْكَافِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ فِي الْغَالِبِ إِلَّا التَّمَتُّعَ بِالشَّهْوَةِ غَيْرُ مُتَحَرٍّ لِلْحَلَالِ وَلَا لِحُسْنِ النِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ " الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ".
وَاللِّبَاسُ الْجَيِّدُ النَّظِيفُ لَهُ فَوَائِدُ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ كَرَامَةِ الْمُتَجَمِّلِ بِهِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مِنْ وَرَاءِ الْأَعْيُنِ، وَفِيهِ إِظْهَارٌ لِنِعْمَةِ اللهِ بِهِ وَبِالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ فِي الْقُلُوبِ غَيْرُ شَأْنِ التَّجَمُّلِ فِي نَفْسِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُثَابُ بِنِيَّتِهِ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ مَحْمُودٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ فَقَالَ: " أَلَكَ مَالٌ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ الْمَالِ " قَالَ: قَدْ آتَانِي اللهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ: " فَإِذَا آتَاكَ اللهُ فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتُهُ " وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ أَتَيْتُ عَلِيًّا فَقَالَ:
ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا هَذِهِ الْحُلَّةِ؟ قُلْتُ مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: وَجَّهَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى ابْنِ الْكَوَّاءِ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَيَّ قَمِيصٌ رَقِيقٌ وَحُلَّةٌ، فَقَالُوا لِي: أَنْتَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَلْبَسُ مِثْلَ هَذِهِ الثَّيَابِ؟ قُلْتُ: أَوَّلُ مَا أُخَاصِمُكُمْ
348
بِهِ قَالَ اللهُ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وَ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَيْ حِبَرَةٍ.
وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَزِيدَ النَّوْفَلِيَّ كَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: مِنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَلْبَسُ الدُّقَاقَ، وَتَأْكُلُ الرُّقَاقَ وَتَجْلِسُ عَلَى الْوَطِئِ، وَتَجْعَلُ عَلَى بَابِكَ حَاجِبًا، وَقَدْ جَلَسْتَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ وَقَدْ ضُرِبَتْ إِلَيْكَ الْمَطِيُّ، وَارْتَحَلَ إِلَيْكَ النَّاسُ وَاتَّخَذُوكَ إِمَامًا وَرَضُوا بِقَوْلِكَ، فَاتَّقِ اللهَ تَعَالَى يَا مَالِكُ، وَعَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ، كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِالنَّصِيحَةِ مِنِّي كِتَابًا مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالسَّلَامُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ، سَلَامُ اللهِ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيَّ كِتَابُكَ فَوَقَعَ مِنِّي مَوْقِعَ النَّصِيحَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْأَدَبِ، أَمْتَعَكَ اللهُ بِالتَّقْوَى وَجَزَاكَ بِالنَّصِيحَةِ خَيْرًا. وَأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ لِي أَنِّي آكُلُ الرُّقَاقَ وَأَلْبَسُ الدُّقَاقَ، وَأَحْتَجِبُ وَأَجْلِسُ عَلَى الْوَطِئِ، فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَلَا تَدَعُنَا مِنْ كِتَابِكَ فَلَسْنَا نَدَعُكَ مِنْ كِتَابِنَا وَالسَّلَامُ اهـ.
إِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ فَمُرَادُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: أَنَّ تَرْكَ مَجْمُوعِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِمَنْ صَارَ يَقْتَدِي بِهِ مِثْلُهُ، أَوْ قَالَهُ تَوَاضُعًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْهُ. وَلَمْ يَكُنِ النَّوْفَلِيُّ مِنْ طَبَقَةِ مَالِكٍ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ، بَلْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ كَانَ
قَشَفُ بَعْضِ السَّلَفِ عَنْ قِلَّةِ، وَتَقَشَّفَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ الْقُدْوَةِ. وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْقَلْبِ، فَلَا يُنَافِيهِ الِاعْتِدَالُ فِي الزِّينَةِ وَطَيِّبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا كَثْرَةِ الْمَالِ إِذَا أُنْفِقَ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَتَرْبِيَةِ الْعِيَالِ. وَقَدْ جَهِلَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الصُّوفِيَّةِ وَبَيَّنَهُ أَحَدُ أَرْكَانِ التَّحْقِيقِ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَالسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مُرِيدِيهِ شَكَوْا إِلَيْهِ إِقْبَالَ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَخْرِجُوهَا مِنْ قُلُوبِكُمْ إِلَى أَيْدِيكُمْ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّكُمْ.
فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ هِيَ حَقُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَهُمْ بِالذَّاتِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَعْلَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا. وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ
349
عَلَيْهَا، ذَلِكَ الشُّكْرُ الَّذِي يَحْفَظُهَا لَهُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ فِيهَا بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَمِنْهُ تُفْهَمُ حِكْمَةُ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أَيْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْعِلْمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَحِكَمِهَا وَلَوْ بَعْدَ خِطَابِهِمْ بِهَا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لِحُكْمِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ أَفْرَادٌ وَأُمَمٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَشَرِ إِفْرَاطًا وَتَفْرِيطًا، لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَمَصَالِحَهُمْ وَطُرُقَ الْحَضَارَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهِمْ، وَقَدْ فَصَّلَهَا تَعَالَى لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُوَافِقِ هَدْيُهَا لِفِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ فِي بَدَاوَتِهِمْ وَحَضَارَتِهِمْ وَإِفْرَاطِهِمْ وَتَفْرِيطِهِمْ فِيهِمَا، قَبْلَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَعَادَتِهِمْ، فَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ مِنَ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ خُلَاصَةُ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ، مَا كَانَ لِمِثْلِهِ أَنْ يَعْلَمَهَا بِذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَحْيُ اللهِ لَهُ. وَقَدْ قَصَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ قَدْ ذَكَرُوا مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَأْيِيدِهِمْ لِوُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ. فَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْلَمُ مِنْ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ بِكُلِّ الْعُلُومِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنْهُمْ أَعْلَمُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ بِذَلِكَ.
نَعَمْ هَكَذَا كَانَ، فَلَوْلَا الْقُرْآنُ لَمَا خَرَجَتِ الْعَرَبُ مِنْ ظُلُمَاتِ جَاهِلِيَّتِهَا وَبَدَاوَتِهَا وَوَثَنِيَّتِهَا إِلَى ذَلِكَ النُّورِ، الَّذِي صَلُحَتْ بِهِ وَأَصْلَحَتْ أُمَمًا كَثِيرَةً بِالدِّينِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْآدَابِ بِمَا أَحْيَتْ مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ وَفُنُونِهَا، وَأَصْلَحَتْ مِنْ فَاسِدِهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ تَعْرِيفُ الدِّينِ الْمَشْهُورِ بِأَنَّهُ: وَضْعٌ إِلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ
بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ نَجَاحُهُمْ فِي الْحَالِ، وَفَلَاحُهُمْ فِي الْمَآلِ. أَوْ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ الْكَثِيرُونَ عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الْحَضَارَةِ أَوْ يَجْهَلُوا أَنَّهُ الْقُرْآنُ. حَتَّى كَانَ الْجَهْلُ لِسَبَبِهَا سَبَبًا لِإِضَاعَتِهِ وَإِضَاعَتِهَا، وَأَمْسَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَجْهَلِ الشُّعُوبِ وَأَفْقَرِهِمْ وَأَضْعَفِهِمْ، وَأَقَلِّهِمْ خِدْمَةً لِدِينِهِمْ - فَغَايَةُ دِينِهِمْ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتُهَا وَسِيَادَتُهَا وَمُلْكُهَا، وَأَنْ يَكُونُوا فِيهَا شَاكِرِينَ لِلَّهِ عَلَيْهَا، قَائِمِينَ بِمَا يُرْضِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَكُلِّ مَا تَقْتَضِيهِ خِلَافَتُهُ فِي الْأَرْضِ وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ أَحَدُ حُكَمَاءِ دِينِهِمْ، ثُمَّ انْتَهَى هَذَا الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ سَبَبُ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْلِهِمْ وَذَهَابِ مُلْكِهِمْ! وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ بُطْلَانَ هَذَا الْجَهْلِ الَّذِي قَلَبَ الْحَقِيقَةَ قَلْبًا وَحُجَّتُنَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَارِيخُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَارِئِينَ قَلِيلُونَ، وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِنْهُمْ أَقَلُّ وَالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَنْدَرُ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
350
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ التَّنْزِيلُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ تَحْرِيمَ زِينَةِ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ - قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا لِضَرَرٍ ثَابِتٍ لَازِمٍ لَهَا لَا لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَكُلُّهَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ لَا مِنْ مَوَاهِبِهِ وَنِعَمِهِ الْخَلْقَيْهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِهِمْ دُونَ مَا هُوَ نَافِعٌ لَهُمْ فَقَالَ:
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ تَقْتَضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَكَذَبُوا عَلَى اللهِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ مَا أَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ نِعَمِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ وَكَذَا لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي فِي كُتُبِهِ، عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ أَوِ السِّتَّةَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الضَّارَّةِ الَّتِي يَجْنُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَجَعَلَ تَحْرِيمَهَا هُوَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يُبَاحُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ بِـ (إِنَّمَا) وَهِيَ:
١، ٢: الْفَوَاحِشُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ - فَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ، وَهِيَ الْفَعْلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ الَّتِي فَحُشَ قُبْحُهَا فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَكَانُوا يُطْلِقُونَهَا عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْبُخْلِ الشَّدِيدِ وَعَلَى الْقَذْفِ بِالْفَحْشَاءِ وَالْبَذَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْقُبْحِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ فِي تَفْسِيرِ (٦: ١٥١) وَهِيَ مِنْ آيَاتِ الْوَصَايَا الْعَشْرِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ إِحَالَةٌ فِي تَفْسِيرِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ عَلَى تَفْسِيرِ (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) (٦: ١٢٠) مِنْ تِلْكَ السُّورَةِ.
٣ و٤: الْإِثْمُ وَالْبَغْيُ - تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِثْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَبِيحُ الضَّارُّ فَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي: الْكَبَائِرِ مِنْهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ. وَالصَّغَائِرِ كَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ لِغَيْرِ الْحَلِيلَةِ
351
وَهُوَ اللَّمَمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (٥٣: ٣٢) فَعَطَفَ الْفَوَاحِشَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ لَا عَلَى الْإِثْمِ، فَعَطَفَ الْفَوَاحِشَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ لَا عَلَى الْإِثْمِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْبَغْيِ عَلَى الْإِثْمِ هُنَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: طَلَبٌ لِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ أَوْ بِسَهْلٍ أَوْ مَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَقَالُوا: بَغَى الْجُرْحُ - إِذَا تَرَامَى إِلَى الْفَسَادِ، أَوْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي فَسَادِهِ. وَمِنْهُ الْبَغْيُ فِي الْأَرْضِ الْوَارِدُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (١٠: ٢٣) وَقَدْ صَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِالْفَسَادِ: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) (٢٨: ٧٧) وَإِذَا عُدِّيَ الْبَغْيُ بِـ " عَلَى " كَانَ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَعْرَاضِهِمْ وَمِنْهُ: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) (٢٨: ٧٦) (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) (٣٨: ٢٢) (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (٤٩: ٩) بَلْ ذَهَبَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَغْيِ طَلَبُ تَجَاوُزِ الِاقْتِصَادِ فِي الْقَدْرِ أَوِ الْوَصْفِ سَوَاءً تَجَاوَزَهُ بِالْفِعْلِ أَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ. وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْعَدْلِ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَرْضِ إِلَى التَّطَوُّعِ. وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لَهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ
اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا وَفِي غَيْرِهِمَا يُؤَيِّدُ تَعْرِيفَنَا وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ. كَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرَيْنِ: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ) (٥٥: ٢٠) وَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) (١٨: ١٠٨) وَقَوْلِهِ: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) (٣: ٨٣) (أَفَحُكَمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (٥: ٥٠) (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) (٦: ١٦٤) (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (٩: ٤٧) (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) (٧: ٤٥). وَمِنْهُ الْبِغَاءُ: وَهُوَ طَلَبُ النِّسَاءِ الْفَاحِشَةَ. وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَمِنْهُ: (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا) (٧: ١٤٠) (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَابْغِنِي ضَالَّتِي - اطْلُبْهَا لِي، وَأَبْغِي ضَالَّتِي - أَعِنِّي عَلَى طَلَبِهَا. قَالَ رُؤْبَةُ: "
فَاذْكُرْ بِخَيْرٍ وَأَبْغِنِي مَا يُبْتَغَى
" أَيِ اصْنَعْ بِي مَا يَجِبُ أَنْ يُصْنَعَ، وَخَرَجُوا بُغْيَانًا لِضَوَالِّهِمُ اهـ. وَكُلُّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِنَا. فَإِنَّ طَلَبَ الضَّالَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ حِيَازَةِ الْمَالِكِ طَلَبٌ لِمَا يَعْسُرُ، بَلْ نَاشِدُهَا يَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهُ بِالْفِعْلِ، وَرُؤْبَةُ يَطْلُبُ إِحْسَانًا وَكَرَامَةً لَيْسَتْ حَقًّا لَهُ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْبَغْيَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْإِثْمُ الَّذِي فِيهِ تَجَاوُزٌ لِحُدُودِ الْحَقِّ، أَوِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَفْرَادِ النَّاسِ أَوْ جَمَاعَاتِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ الْإِثْمُ بِالْعُدْوَانِ كَقَوْلِهِ: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (٢: ٨٥) (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (٥: ٢) (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (٥: ٦٢) وَمِنْهُ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) (٢: ١٧٣) أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ غَيْرَ طَالِبٍ لَهَا لِذَاتِهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ لِلْحَقِّ وَلَا عَادٍ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْهَا (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ).
وَقَدْ قَيَّدَ الْبَغْيَ بِكَوْنِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِاسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ
352
الْمَعْرُوفَةِ أَوِ الْمَأْلُوفَةِ فِيمَا لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ، وَلَا هَضْمَ لِحُقُوقِ الْجَمَاعَاتِ وَلَا الْأَفْرَادِ، كَالْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا حُقُوقٌ، أَوِ الَّتِي تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ فِيهَا عَنْ بَعْضِ حُقُوقِهِمْ فَيَبْذُلُونَهَا عَنْ رِضًى وَارْتِيَاحٍ لِمَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ يَرْجُونَهَا بِبَذْلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَيْدَ لِلتَّأْكِيدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنِ الْإِثْمَ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ، وَالْعُدْوَانُ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْقَدْرِ وَالزِّيَادَةِ، فَهُوَ تَعَدِّي مَا أُبِيحَ إِلَى الْقَدْرِ الْمُحَرَّمِ، كَالِاعْتِدَاءِ فِي أَخْذِ الْحَقِّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ عَمَّا لَهُ، وَبِإِتْلَافِ أَضْعَافِ مَا أُتْلِفَ عَلَيْهِ، أَوْ قَوْلِ أَضْعَافِ مَا قِيلَ فِيهِ. فَهَذَا كُلُّهُ تَعَدٍّ لِلْعَدْلِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا أُبِيحَ لَهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُ فَتَعَدَّاهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ إِسَاغَةُ الْغُصَّةِ بِجُرْعَةٍ مِنْ خَمْرٍ فَتَنَاوَلَ الْكَأْسَ كُلَّهَا، أَوْ أُبِيحَ لَهُ نَظْرَةُ الْخِطْبَةِ وَالسَّوْمِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْمُدَاوَاةِ، فَأَطْلَقَ عِنَانَ طَرْفِهِ فِي مَيَادِينَ مَحَاسِنِ الْمَنْظُورِ، وَأَسَامَ طَرْفَ نَاظِرِهِ فِي تِلْكَ الرِّيَاضِ وَالزُّهُورِ، فَتَعَدَّى
الْمُبَاحَ إِلَى الْقَدْرِ الْمَحْظُورِ، إِلَخْ مَا أَطَالَ بِهِ فِي وَصْفِ نَظَرِ الشَّهْوَةِ وَمَفَاسِدِهِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَغْيِ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا قُرِنَ بِالْعُدْوَانِ كَانَ الْبَغْيُ ظُلْمَهُمْ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ كَالسَّرِقَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى وَالْعُدْوَانُ تَعَدِّيَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ اللهِ (قَالَ) فَهَهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: حَقُّ لِلَّهِ وَلَهُ حَدٌّ، وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ وَلَهُ حَدٌّ، فَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ تَجَاوُزُ الْحَدَّيْنِ إِلَى مَا وَرَاءَهُمَا، أَوِ التَّقْصِيرُ عَنْهُمَا فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا اهـ.
(٥) : الشِّرْكُ بِاللهِ - وَهُوَ مَعْرُوفٌ - وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا سُلْطَانٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ لَهَا سُلْطَةً عَلَى الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) (٦: ١٤٨) الْآيَةَ وَنَصٌّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ مُؤَيَّدٍ بِالْبُرْهَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) (٢٣: ١١٧) الْآيَةَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي إِلَّا كَذَلِكَ. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فِي دِينِهِ وَنَاطَ بِهِ تَصْدِيقَ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَرَدَّهَا، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَوْضُوعِهَا، حَتَّى كَأَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى الشِّرْكِ يُصَدَّقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ فَرْضِ الْمُحَالِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي فَضْلِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ عَلَى تَوْحِيدِهِ: (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٢٧: ٦٤) عَلَى أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِمْ بُرْهَانٌ فِيمَا أَقَامَ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ الْبُرْهَانَ، وَكَيْفَ يَكُونُ لَدَيْهِمْ مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ، كَقَوْلِهِ: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ
353
الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (١٠: ٦٨) " إِنْ " هُنَا نَافِيَةٌ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَدْنَى دَلِيلٍ بِهَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ الَّذِي تَقُولُونَهُ مَعَ أَنَّ مَا تُبْطِلُ الْبَرَاهِينُ وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ مِثْلَهُ يَحْتَاجُ مُدَّعِيهِ إِلَى أَقْوَى الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ وَأَعْظَمِهَا سُلْطَانًا عَلَى الْعُقُولِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ مِنَ الْعَقْلِ، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ قَالَ: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا.
٦: الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَهُوَ أَعْظَمُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى فِي دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، فَإِنَّهُ أَصْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَمَنْشَأُ تَحْرِيفِ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ، وَشُبْهَةُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ، النَّاسِخِ كِتَابُهُ الْمَعْصُومُ لِلْأَدْيَانِ الْمُبَدَّلَةِ، وَالْمُهَيْمِنِ عَلَى الْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ، الْمُحَرَّرَةِ سُنَّةُ رَسُولِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُحْصَاةِ تَرَاجُمُ رُوَاتِهَا فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَنْتَشِرَ فِي أَهْلِهِ الِابْتِدَاعُ، وَتَتَعَارَضَ فِيهِ الْمَذَاهِبُ وَتَتَعَادَى الْأَشْيَاعُ، مَعَ نَهْيِ كِتَابِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَوَعِيدِهِ الْمُتَفَرِّقِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ النَّارِ، وَمَعَ بَيَانِهِ لِلْمَخْرَجِ مِنْ فِتْنَةِ التَّنَازُعِ، وَمُعَالَجَتِهِ لِأَدْوَاءِ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ. وَلَكِنَّهُمْ حَكَّمُوا الْأَهْوَاءَ حَتَّى فِي الْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ، فَاتَّبَعُوا كَمَا أَنْبَأَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (٢: ٢١٣).
وَمِنْ غُمَّةِ الْجَهْلِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذَا، حَتَّى عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَرْوُونَ حَدِيثَ: " لَتَتْبَعُنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " مَنْ؟ ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ: " شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا ". فَهُمْ يَقُولُونَ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي أَسْبَابِ هَذَا الِابْتِدَاعِ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي أَقْوَالِ مَنْ بَحَثَ فِيهَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحَافِظِ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ رَأْسَ الْبَلِيَّةِ فِي هَذَا الِابْتِدَاعِ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَبْتَدِعُ أَوْ يَتْبَعُ مُبْتَدِعًا فِي أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فُرُوعِهِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَدِلُّ عَلَى بِدْعَتِهِ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ مَبَادِئُ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، قُرُونِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ بِمَانِعٍ لَهَا إِذْ كَانَ مِنَ الْأَفْرَادِ، لَا مِنْ مَصْدَرِ الْقُوَّةِ وَالنِّظَامِ - الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ زَالَ الْعِلْمُ أَوْ كَادَ؛ إِذْ لَا عِلْمَ إِلَّا عِلْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ صَارَ مَحْصُورًا فِي أَفْرَادٍ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُمُ الْعَوَامُّ وَلَا يَتْبَعُهُمُ الْحُكَّامُ، ثُمَّ فَشَا النِّفَاقُ وَالدِّهَانُ. وَصَارَ طَلَبُ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ حِرْفَةً لِلْكَسَالَى وَالرُّذَّالِ.
354
رَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: " إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ -
إِذَا ظَهَرَ الْإِدْهَانُ فِي خِيَارِكُمْ، وَالْفُحْشُ فِي شِرَارِكُمْ، وَالْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالْفِقَةُ فِي رُذَّالِكُمْ " أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ وَأَقَرَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ: فَسَادُ الدِّينِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ، اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَصَلَاحُ النَّاسِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ، تَابَعَهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ (قَالَ) وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّغَرِ فِي هَذَا صِغَرُ الْقَدْرِ لَا السِّنِّ اهـ.
وَصَغِيرُ الْقَدْرِ هُوَ الْمَهِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَضِيلَةِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ مَا يُحْتَرَمُ بِهِ وَيُتَّخَذُ قُدْوَةً، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُسْتَرْزِقَةَ بِطَلَبِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْكَبِيرَ هُوَ الْكَبِيرُ بِعَقْلِهِ وَفَضْلِهِ، لَا بِنَسَبِهِ وَمَالِهِ.
حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالرَّأْيُ وَالظَّنُّ لَيْسَ مِنَ الْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٥٣: ٢٨) وَمَا شُرِعَ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِيهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَإِدَارِيَّةٍ، لَا فِي أُصُولِ دِينِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَا حُرِّمَ عَلَى عِبَادِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا، فَإِنَّ اللهَ أَكْمَلَ دِينَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ نَقْصًا يُكْمِلُهُ غَيْرُهُ بِظَنِّهِ وَرَأْيِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ وَلَا مُفْتٍ أَنْ يُسْنِدَ رَأْيَهُ الِاجْتِهَادِيَّ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَيَقُولُ: هَذَا حُكْمُ اللهِ وَهَذَا دِينُهُ، بَلْ يَقُولُ: هَذَا مَبْلَغُ اجْتِهَادِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَإِلْهَامِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ فَإِنَّهُ يَجْتَنِبُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى عِبَادِ اللهِ شَيْئًا، أَوْ يُوجِبَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ نَصٍّ صَرِيحٍ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَجْتَنِبُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ هَذَا مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ النُّصُوصِ، وَمَا أَكْثَرَ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذَا الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللهِ وَحْدَهُ، وَمَنْ تَهَجَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِيهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا لَهُ، وَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ يَتَحَامَوْنَ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ، وَيَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى حَتَّى فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا كَانَ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ يَقْصِدُونَ بِالتَّوَسُّعِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ فَتْحَ أَبْوَابِ الْفَهْمِ لَا التَّشْرِيعِ الَّذِي أُلْصِقَ بِهِمْ، حَتَّى إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ أَكْرَهُ كَذَا - مِنْ بَابِ
الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ - جَعَلَ أَتْبَاعُهُ
355
مِنْ بَعْدِهِ قَوْلَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَعَلُوا بَعْضَهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَفَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا خِطَابُ اللهِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا وَبَعْضَهَا لِلتَّنْزِيهِ، وَجَعَلُوا الِاقْتِضَاءَ فِيهَا غَيْرَ جَازِمٍ وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقِيَمِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ فِي كِتَابِهِ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ هَذَا نَصُّهُ:
" وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَتْ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ، وَمَحْرَّمٌ تَحْرِيمُهُ عَارِضٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ اللهِ وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَنِسْبَتَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَغْيِيرَ دِينِهِ وَتَبْدِيلَهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَتَحْقِيقَ مَا أَبْطَلَهُ وَإِبْطَالَ مَا أَحَقَّهُ، وَعَدَاوَةَ مَنْ وَالَاهُ وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ. وَحُبَّ مَا أَبْغَضَهُ وَبُغْضَ مَا أَحَبَّهُ. وَوَصْفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ إِثْمًا، وَهُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَيْهِ أُسِّسَتِ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ. فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.
" وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا، وَصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَحَذَّرُوا فِتْنَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا فِي مِثْلِهِ فِي إِنْكَارِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِذْ مَضَرَّةُ الْبِدَعِ وَهَدْمُهَا لِلدِّينِ وَمُنَافَاتُهَا لَهُ أَشَدُّ. وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ مِنْ عِنْدِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ فَقَالَ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (١٦: ١١٦) الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَسَبَ إِلَى أَوْصَافِهِ مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أَوْ نَفَى عَنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ أَحَلَّ اللهُ كَذَا وَحَرَّمَ اللهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْ هَذَا. يَعْنِي: التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
" وَأَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ هُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ
مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتِهِ، كَمَا تَكُونُ الْوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ. فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، دُونَ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ
356
بِلَا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِ اللهِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبًا لِدُخُولِ النَّارِ، وَاتِّخَاذِ مَنْزِلَةٍ مِنْهَا مُبَوَّأَةٍ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ كَصَرِيحِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا انْضَافَ إِلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُرْسِلِ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ صَرِيحٍ: افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) فَذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْبِدَعِ، وَأَنَّى بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، أَوْ يَظُنُّهَا سُنَّةً، فَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا؟ فَلَا تَنْكَشِفُ لِهَذَا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا، إِلَّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَكَثْرَةِ إِطْلَاعِهِ عَلَيْهَا وَدَوَامِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا، وَلَا تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّ السُّنَّةَ بِالذَّاتِ تَمْحَقُ الْبِدْعَةَ وَلَا تَقُومُ لَهَا، وَإِذَا طَلَعَتْ شَمْسُهَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَطَعَتْ مِنْ قَلْبِهِ ضَبَابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وَأَزَالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلَالَةٍ، إِذْ لَا سُلْطَانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطَانِ الشَّمْسِ. وَلَا يَرَى الْعَبْدُ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَيُعِينُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَتِهَا إِلَى نُورِ السُّنَّةِ، إِلَّا تَجْرِيدُ الْمُتَابَعَةِ، وَالْهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللهِ، بِالِاسْتِعَانَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ اللَّجْإِ إِلَى اللهِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِهِ بِالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَهَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ " وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ اهـ.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)
هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِمَّا قَفَّى بِهِ عَلَى النِّدَاءِ الثَّالِثِ لِبَنِي آدَمَ، وَوَجْهُ وَصْلِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ مَجَامِعَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَهِيَ أُصُولُ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، فِي إِثْرِ إِبَاحَةِ أُصُولِ الْمَنَافِعِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ
النَّافِعَةِ لَهُمْ، أَوْ إِيجَابِهَا بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِسْرَافِ فِيهَا - وَسَبَقَ هَذِهِ وَتِلْكَ مَا قَفَّى بِهِ عَلَى النِّدَاءِ الثَّانِي مِنْ بَيَانِ أَصْلِ الْأُصُولِ لِمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَهُوَ الْقِسْطُ وَالْعَدْلُ فِي الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، وَعِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الدِّينِ وَعَقِيدَةِ الْبَعْثِ - وَلَمَّا وَصَلَ مَا هُنَالِكَ بِقَسْمِ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ
357
مُهْتَدِينَ وَضَالِّينَ - وَصَلَ مَا هُنَا بِبَيَانِ عَاقِبَةِ الْأُمَمِ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَوْ رَدِّهَا، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقَتِهَا بَعْدَ الْقَبُولِ أَوِ الزَّيْغِ عَنْهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَقُولِ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) إِلَخْ دُونَ مَا حَرَّمْتُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَنَافِعِ بِأَهْوَائِكُمْ وَجَهَالَاتِكُمْ - وَقُلْ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أَيْ أَمَدٌ مَضْرُوبٌ لِحَيَاتِهَا، مُقَدَّرٌ فِيمَا وَضَعَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مِنَ السُّنَنِ لِوُجُودِهَا، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَجَلُ مَنْ يَبْعَثُ اللهُ فِيهِمْ رُسُلًا لِهِدَايَتِهِمْ فَيَرُدُّونَ دَعْوَتَهُمْ كِبْرًا وَعِنَادًا فِي الْجُحُودِ، وَيَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ فَيُعْطَوْنَهَا مَعَ إِنْذَارِهِمْ بِالْهَلَاكِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا فَيُكَذِّبُونَ فَيَهْلَكُونَ، وَبِهَذَا هَلَكَ أَقْوَامُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهَلَاكِ كَانَ خَاصًّا بِأَقْوَامِ الرُّسُلِ أُولِي الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ لِأَقْوَامِهِمْ، وَقَدِ انْتَهَى بِبِعْثَةِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ) (٢١: ١٠٧) لَكِنَّ انْتِهَاءَهُ عِنْدَ اللهِ لَا يَمْنَعُ جَعْلَهُ إِنْذَارًا لِقَوْمِهِ خَاصَّةً بِهَلَاكِهِمْ إِنْ أُعْطَوْا مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ إِرْضَاءً لِعِنَادِهِمْ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْعَهُمْ إِيَّاهُ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي الْأُمَمِ أَنَّ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُعْطِ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَقْتَرِحُونَهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَتَفْسِيرِهَا، وَهَذَا الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ لِحَيَاةِ الْأُمَمِ سَعِيدَةً عَزِيزَةً بِالِاسْتِقْلَالِ، الَّتِي تَنْتَهِي بِالشَّقَاءِ وَالْمَهَانَةِ أَوِ الِاسْتِعْبَادِ وَالِاسْتِذْلَالِ، إِنْ لَمْ تَنْتَهِ بِالْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ مَنُوطٌ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَالْعُمْرَانِ، وَأَسْبَابُهُ مَحْصُورَةٌ فِي مُخَالَفَةِ هَدْيِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، بِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ، وَبِاقْتِرَافِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، وَبِخُرَافَاتِ
الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَبِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ بِإِرْهَاقِ الْأُمَّةِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، تَحَكُّمًا مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣: ١١).
فَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ السَّعِيدَةِ، ارْتَكَبَتْ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَالْمَفَاسِدَ الْمُبِيدَةَ، إِلَّا سَلَبَهَا اللهُ سَعَادَتَهَا وَعِزَّهَا، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا مَنِ اسْتَذَلَّهَا وَسَلَبَ مُلْكَهَا (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١١: ١٠٢).
وَأَمَامُنَا تَارِيخُ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ سُلِبَ مُلْكُهُ كُلُّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِبَ بَعْضُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى رُشْدِهِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْهُ.
358
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ آجَالِ الْأُمَمِ - وَإِنْ عُرِفَتْ أَسْبَابُهُ وَسُنَنُهُ - لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَدِّدَهُ بِالسِّنِينَ وَالْأَيَّامِ، وَهُوَ مُحَدَّدٌ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِالسَّاعَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) السَّاعَةُ: فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَالسَّاعَةُ الْفَلَكِيَّةُ اصْطِلَاحٌ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ ٢٤ جُزْءٍ مِنْ مَجْمُوعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُ كُلِّ أُمَّةٍ كَانَ عِقَابُهُمْ فِيهِ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ أَقَلَّ تَأَخُّرٍ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَجِيءْ، أَوْ لَا يَمْلِكُونَ طَلَبَ تَأْخِيرِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ طَلَبَ تَقْدِيمِهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ " اسْتَقْدَمَ " وَرَدَ بِمَعْنَى قَدِمَ وَأَقْدَمَ وَتَقَدَّمَ كَمَا وَرَدَ " اسْتَجَابَ " بِمَعْنَى أَجَابَ، وَمِثْلُهُ " اسْتَأْخَرَ "، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا كَوْنَ الْأَصْلِ فِي السِّينِ وَالتَّاءِ لِلطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةٍ لِلطَّلَبِ، وَالطَّلَبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ أَتَى سَبَبَ الشَّيْءِ كَانَ طَالِبًا لَهُ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنِ اسْتِتْبَاعِهِ لَهُ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَرْتَكِبُ أَسْبَابَ الْهَلَاكِ تَكُونُ طَالِبَةً لَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَابُدَّ أَنْ يَأْتِيَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّلَبَ هُوَ الَّذِي لَا يُرَدُّ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ هُنَا أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تَمْلِكُ طَلَبَ تَأْخِيرِ الْهَلَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهِ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى إِرَادَتِهَا أَسْبَابُ الْهَلَاكِ، ذَلِكَ بِأَنْ تَتْرُكَ الْفَوَاحِشَ وَالْآثَامَ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ، وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِسْرَافَ فِي التَّرَفِ الْمُفْسِدِ لِلْأَخْلَاقِ، وَخُرَافَاتِ الشِّرْكِ الْمَفْسَدَةَ لِلْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ، وَكَذَا التَّكَالِيفَ التَّقْلِيدِيَّةَ بِتَكْثِيرِ مَا ابْتُدِعَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، الَّتِي لَمْ يُخَاطِبِ الرَّبُّ بِهَا الْعِبَادَ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الصَّلَاحَ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِالْجَزْمِ، وَغَيْرَ مَشْرُوطٍ بِهَذَا الشَّرْطِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (١٥: ٤، ٥) قُلْنَا: إِنَّ امْتِنَاعَ السَّبْقِ وَالتَّأَخُّرِ أَوْ طَلَبَهُ وَالسَّعْيَ لَهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِ مَقَادِيرِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يَتَغَيَّرُ، وَسُنَنَهُ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّأْخِيرُ أَوْ طَلَبُهُ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَابِهِ إِذَا جَاءَ الْأَجَلُ بِالْفِعْلِ، وَلِهَذَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحُسْنِ، مِنْهَا مَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالتَّحْدِيدِ، وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِالتَّقْرِيبِ. كَقُوَّةِ الْحَرَارَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَجْسَامِ. وَقُوَّةِ الْمَوَادِّ الضَّاغِطَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الِانْفِجَارِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُضْبَطُ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ. وَمِنْهَا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّذِي يُمْسَكُ وَرَاءَ السُّدُودِ كَخَزَّانِ أَسْوَانَ. فَقُوَّةُ السَّدِّ وَمَقَادِيرُ الْمَاءِ وَقُوَّةُ ضَغْطِهِ مُقَدَّرَةً بِحِسَابٍ. وَكَذَا الْمَاءُ وَالْوَقُودُ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ مَرَاكِبُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَالْغَازُ الْمُحَرِّكُ لِلطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدِ فِي الْجَوِّ، يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مَسَافَةٍ مِنْهُ، وَالْجَزْمُ بِوُقُوفِ هَذِهِ الْمَرَاكِبِ بَعْدَ نَفَادِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ مُنَظَّمٍ بِعِلْمٍ صَحِيحٍ، يَأْتِي فِيهِ مِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ ضَبْطُهُ وَتَحْدِيدُهُ بِقَدْرِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ، مِثْلِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَسُنَنِ الضَّغْطِ وَالْجَذْبِ، كَكَوْنِ جَاذِبِيَّةِ الثِّقْلِ عَلَى نِسْبَةِ
359
مُرَبَّعِ الْبُعْدِ. وَمِمَّا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالتَّقْرِيبِ، فَيُخْطِئُ فِيهِ الْمُقَدِّرُ وَيُصِيبُ، تَقْدِيرُ سَيْرِ الْأَمْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ كَالسُّلِّ الرِّئَوِيِّ، فَإِنَّ لَهُ دَرَجَاتٍ يُسْرِعُ قَطْعُ الْمَسْلُولِ لَهَا وَيُبْطِئُ بِقَدْرِ قُوَّةِ الْمَنَاعَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ فِي جِسْمِهِ وَطُرُقِ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جَوْدَةِ الْهَوَاءِ وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ. وَكَمْ مِنْ مَرَضٍ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى إِمْكَانِ الشِّفَاءِ مِنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ مَعَهَا الْمُعَالَجَةُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ، كَالسَّرَطَانِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُ بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ وَيَتَعَذَّرُ فِي آخَرَ.
وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ، قَدْ يَبْلُغُ فِيهَا الْفَسَادُ دَرَجَةً تَسْتَعْصِي فِيهَا مُعَالَجَتُهُ عَلَى أَطِبَّاءِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّهَا إِذَا تَنَبَّهَتْ قَبْلَ انْتِشَارِ الْفَسَادِ فِيهَا، وَتَبْرِيحِهِ بِزُعَمَائِهَا وَدَهْمَائِهَا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مِنْ أَفْرَادِ الْمُصْلِحِينَ أَوْ جَمَاعَاتِهِمْ مَنْ يُنْقِذُهَا فَيُرْشِدُهَا إِلَى تَغْيِيرِ مَا بِأَنْفُسِهَا مِنَ الْفَسَادِ فَيُغَيِّرُ اللهُ مَا بِهَا، وَهُوَ مِنِ اسْتِئْخَارِ الْهَلَاكِ أَوْ مَنْعِهِ عَنْهَا قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهَا.
وَقَدْ سَبَقَ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ إِلَى الْكَلَامِ فِي آجَالِ الْأُمَمِ وَأَعْمَالِ
الدُّوَلِ، وَبَيَانِ مَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْهَرَمِ، وَكَوْنِهِ إِذَا وَقَعَ لَا يَرْتَفِعُ، فَأَصَابَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ وَأَخْطَأَ فِي بَعْضٍ، وَمِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ جَعْلُهُ عُمْرَ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةَ أَجْيَالٍ أَيْ ١٢٠ سَنَةً كَالْأَجَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَفْرَادِ عَلَى تَقْدِيرِ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي الْأَطِبَّاءِ. وَلَوْ قَالَ: عُمْرُ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ اللهِ. طُفُولِيَّةٌ، وَبُلُوغُ أَشُدِّ وَرُشْدٍ، وَشَيْخُوخَةٍ وَهَرَمٍ. وَلَمْ يُقَدِّرْهَا بِالسِّنِينَ لَسَدَّدَ وَقَارَبَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالِانْغِمَاسِ فِي حَمْأَةِ الرَّذَائِلِ وَالْفِسْقِ قَدْ بَلَغَ مِنْ أُمَمِ أُورُبَّةَ مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَمَا بَالَهَا تَزْدَادُ قُوَّةً وَعِزَّةً وَعَظَمَةً. حَتَّى صَارَتِ الْأُمَمُ الْمَغْلُوبَةُ عَلَى أَمْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَذِلَّةُ لَهَا، تَعْتَقِدُ أَنَّ تَقْلِيدَهَا فِي مَدَنِيَّتِهَا الْمَادِّيَّةِ وَحُرِّيَّةِ الْفِسْقِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ - إِلَّا تَعَدِّي الْفَرْدِ عَلَى حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ - هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهَا عَزِيزَةً سَعِيدَةً مِثْلَهَا.
قُلْنَا: إِنَّ تَأْثِيرَ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأُمَمِ يُشْبِهُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأَفْرَادِ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَالْأَمْزِجَةِ فِي احْتِمَالِ الْأَمْرَاضِ، وَاخْتِلَافِ وَسَائِلِ الْمَعِيشَةِ وَالْعِلَاجِ، فَأَطِبَّاءُ الْأَبْدَانِ مُجْمِعُونَ عَلَى مَضَارِّ السُّكَّرِ الْكَثِيرَةِ وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِلْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْبَدَنِ الْقَوِيِّ دُونَ تَأْثِيرِهَا فِي الْبَدَنِ الضَّعِيفِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا يُبْطِئُ تَأْثِيرَ ضَرَرِهِ عَنْ تَأْثِيرِ الْكَثِيرِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا أَضَرُّ مِنْ بَعْضٍ، وَأَطِبَّاءُ الِاجْتِمَاعِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْفِسْقِ وَالتَّرَفِ مُفْسِدٌ لِلْأُمَمِ، وَأَنَّ الظُّلْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْغُلُوَّ فِي الْمَطَامِعِ وَالْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّنَازُعَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَلَكِنْ لَدَى هَذِهِ الدُّوَلِ كَثِيرًا مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ الَّتِي تُقَاوِمُ بِهَا سُرْعَةَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، كَالْأَدْوِيَةِ وَطُرُقِ الْوِقَايَةِ الَّتِي تُقَاوِمُ بِهَا سُرْعَةَ تَأْثِيرِ هَذِهِ
360
الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ، وَالرِّيَاضَةُ الشَّاقَّةُ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا إِضْعَافُ التَّرَفِ لِلْأَبْدَانِ. وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْقُوَى الْوَاقِيَةِ لِلْأُمَمِ النِّظَامُ وَمُرَاعَاةُ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى فِي نَفْسِ الظُّلْمِ، وَفِي إِخْفَائِهِ عَمَّنْ يَضُرُّ الظَّالِمِينَ عِلْمُهُمْ بِهِ وَلَوْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَإِتْقَانِ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَابِ فِي إِلْبَاسِ ظُلْمِهِمْ لِبَاسَ الْعَدْلِ، وَجَعْلِ بَاطِلِهِمْ عَيْنَ الْحَقِّ، وَإِبْرَازِ إِفْسَادِهِمْ فِي صُورَةِ الْإِصْلَاحِ، وَإِيجَادِ أَنْصَارٍ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظْلُومِينَ، بَلْ إِقْنَاعِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ، بِأَنَّ سِيَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ سِيَادَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ الْمِصْرِيِّ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ
الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الظُّلْمِ الْأَجْنَبِيِّ فِي مِصْرَ وَأَمْثَالِهَا.
لَقَدْ كَانَ هَذَا الظُّلْمُ فَوْضَى فَهُذِّبَتْ حَوَاشِيهِ حَتَّى صَارَ ظُلْمًا مُنَظَّمَا
وَقَدْ قُلْتُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَرَّةً: مَا بَالُ بَاطِلِ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فِي شُئُونِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ ثَابِتًا نَامِيًا لَا يَدْمَغُهُ الْحَقُّ؟ - أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ - فَقَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالتَّبَعِ لِلنِّظَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْحَقِّ، أَيْ فَهُوَ يَزُولُ إِذَا قُذِفَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ مُؤَيَّدٍ بِنِظَامٍ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ لَهُ الْمُسْتَعْبِدُونَ لَهُمْ فِي الشَّرْقِ، مَعَ مُبَارَاتِهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ دُونَ التَّرَفِ وَالْفِسْقِ.
بِيدَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَمْنَعُ انْتِقَامَ اللهِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْهُمْ، فَهُوَ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ اسْتِئْخَارِ الْعَذَابِ بِأَسْبَابِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ، وَلَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ مَنْعِهِ. فَإِنَّمَا مَنْعُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ، وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ. وَإِنَّ حُكَمَاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَقَدْ نَقَلْنَا بَعْضَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمَنَارِ، وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَنَا فِي مَدِينَةِ (جِنِيفَ - سِوِيسْرَةَ) إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقَلَاءِ يَتَوَقَّعُونَ قُرْبَ هَلَاكِ أُورُبَّةَ فِي حَرْبٍ عَاجِلَةٍ شَرٍّ مِنَ الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي فَقَدَتْ بِهَا أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنْ قَتْلَى الْمَعَارِكِ، وَمِثْلَهُمْ مَا بَيْنَ قَتِيلِ مَرَضٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ، وَمُشَوَّهٍ أَضْحَى عَالَةً عَلَى الْوَطَنِ. وَإِنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ أَلَّا يَعْدُوَ هَلَاكُهَا هَذَا الْجِيلَ. وَمِنْهَا مَا قَالَهُ أَحَدُ ضُبَّاطِ الْإِنْكِلِيزِ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مِنْ حَدِيثٍ دَارَ بَيْنَهُمْ فِي عُمْرِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ الَّذِي ذَهَبَ بِإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِ، وَأَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ أَنَّهَا قَدْ تَعِيشُ ثَمَانِينَ عَامًا. وَقَدْ كُنْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ أَتَحَدَّثُ مَعَ بَعْضِ أَذْكِيَاءِ الْيَهُودِ فِي مَفَاسِدِ الْفَرَنْسِيسِ وَقِلَّةِ نَسْلِهِمْ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّنِي أَظُنُّ أَنَّ أَجَلَهُمْ لَا يَتَجَاوَزُ هَذَا الْجِيلَ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ جِيلَيْنِ اثْنَيْنِ. كُلُّ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ. وَإِنَّمَا الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوِ الْإِلْمَامِ بِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ الْعُمْرَانِ لَا فِي الْغَرْبِ وَلَا فِي الشَّرْقِ، هُوَ أَنَّ إِسْرَافَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ فِي الْفِسْقِ، وَإِصْرَارِ حُكُومَاتِهَا عَلَى سِيَاسَةِ الْإِفْرَاطِ فِي الطَّمَعِ وَالْمَكْرِ، وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى الِاسْتِعْمَارِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَأْيِيدِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَالِ، عَلَى الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْعُمَّالِ - كُلُّ ذَلِكَ مِنْ دُودِ الْفَسَادِ الْمُفْضِي إِلَى
361
الْهَلَاكِ. وَلْيُرَاجِعْ مَنْ شَاءَ مَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ السِّيَاسِيِّ السُّوِيسِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مِنْ رِحْلَتِي الْأُورُبِّيَّةِ فِي الْمَنَارِ (ج ٨ م ٢٣).
عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ الْأَخِيرَةَ قَدْ ثَلَّتْ عَرْشَ قَيَاصِرَةِ الرُّوسِ وَالنَّمِسَةِ، وَمَزَّقَتْ مَمَالِكَهُمَا كُلَّ مُمَزَّقٍ، كَمَا مَزَّقَتْ سَلْطَنَةَ آلِ عُثْمَانَ فَجَعَلَتْهَا فِي خَبَرِ كَانَ. وَأَسْقَطَتْ عَرْشَ عَاهِلِ الْأَلْمَانِ، وَصَارَتْ دَوْلَتُهُمْ جُمْهُورِيَّةً، وَثَلَّتْ عُرُوشَ مُلُوكٍ آخَرِينَ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ فِي أُورُبَّةَ لَمْ يَتَّعِظُوا وَلِمَ يَزْدَجِرُوا، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ وَالْأَخْلَاقِ وَفَلَاسِفَةُ التَّارِيخِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيْهِمْ دَاءُ الْأُمَمِ الَّذِي هَلَكَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَتَّعِظُونَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَنْبِهِمْ، وَلَا يَثُوبُونَ إِلَى رُشْدِهِمْ؟.
قُلْنَا: إِنَّ أَمْرَنَا فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَدْ أَنْذَرَنَا رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ مِثْلَ هَذَا فِي أَمْرِ دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا جَمِيعًا، وَلِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، مَا لَيْسَ لِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ الْمَادِّيِّينَ، فَمِنَّا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَعُ النُّذُرَ، وَمَنْ لَا يَعْقِلُهَا إِذَا سَمِعَهَا (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) (٨: ٢٣) وَمَنْ يَتَمَارَوْنَ بِهَا أَوْ يَتَأَوَّلُونَهَا، وَمَنْ تُغْرِهِمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّقُونَهَا، فَتَعْدُوهُمْ أَوْ يَعْدُونَهَا، وَمَنْ يَجْهَلُونَ عِلَاجَ الْعِلَّةِ أَوْ يَعْجَزُونَ عَنْهُ، وَمَتَى أَزْمَنَ الدَّاءُ بَطُلَ فِعْلُ الدَّوَاءِ، وَإِذَا تَمَكَّنَتِ الْأَهْوَاءُ فِي الْأَنْفُسِ وَصَارَتْ مَلَكَاتٍ لَهَا، مَلَكَتْ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، وَغَلَبَتْهَا عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَهَذَا مُشَاهَدُ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمُ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا. فَإِنَّكَ تَرَى بَعْضَ الْأَطِبَّاءِ يَسْكَرُونَ وَهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ضَرَرِ السُّكْرِ، وَلَكِنَّ دَاعِيَتَهُ أَرْجَحُ فِي النَّفْسِ مِنْ وَازِعِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ. عَذَرْتُ طَبِيبًا عَلَى الشُّرْبِ مُذَكِّرًا لَهُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ضُرِّهِ - فَقَالَ لِأَنْ أَعِيشَ عَشْرًا بِلَذَّةٍ آثَرُ عِنْدِي مِنْ أَنْ أَعِيشَ عِشْرِينَ مَحْرُومًا مِنْهَا. فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا مَضْمُونًا لَكَ، لَجَازَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ، وَلَكِنَّ عِلْمَكُمْ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. فَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الْخَمْرَ تُحْدِثُ لَكَ مِنَ الْأَسْقَامِ مَا تَعِيشُ بِهِ الْعِشْرِينَ فِي أَشَدِّ الْآلَامِ؟ فَسَكَتَ. وَقَدِ ابْتُلِيَ بِالصَّرَعِ وَغَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتُبْ.
وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ كُنَّا بِهِدَايَةِ دِينِنَا أُمَّةً عَزِيزَةً قَوِيَّةً مُتَّحِدَةً، فَمَزَّقَتْنَا الْأَهْوَاءُ فَضَعُفْنَا ثُمَّ سَاعَدَ الزَّمَانُ بَعْضَ شُعُوبِنَا فَاعْتَزَّتْ وَعَلَتْ ثُمَّ انْخَفَضَتْ وَضَعُفَتْ، وَقَدْ قَامَ مِنَّا مَنْ يُنْذِرُنَا وَيُذَكِّرُنَا بِآيَاتِ رَبِّنَا وَيَدْعُونَا بِهَا إِلَى مَا يُحْيِينَا فَأَعْرَضَ أُمَرَاؤُنَا وَعُلَمَاؤُنَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ دَهْمَاؤُنَا (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) (٥٤: ٤، ٥) (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (١٠: ١٠١).
362
هَذَا - وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي آجَالِ الْأَفْرَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلَا
شَكَّ فِي أَنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ أَجَلًا فِي عِلْمِ اللهِ وَفِي تَقْدِيرِهِ (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٦: ٢) فَأَمَّا الَّذِي فِي عِلْمِهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا نَفْيَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَلَا كَوْنَ النَّاسِ مَجْبُورِينَ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَبِالْوَحْيِ جَمِيعًا وَالْحَقُّ الْوَاقِعُ مِثَالٌ وَمِصْدَاقٌ لِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ فَاعِلًا فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَاشِفٌ لَهُ.
وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْخَلْقِ فَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا بِالْعُمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ فِي مُتَوَسِّطِ تَقْدِيرِ أَطِبَّاءِ عَصْرِنَا. وَهُمْ يُقَدِّرُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ عُمْرًا بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْ قُوَّةِ جِسْمِهِ وَأَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَوَظَائِفِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّقْدِيرِ أَنْ يَعِيشَ بِنِظَامٍ وَاعْتِدَالٍ وَتَقْوًى، فَإِذَا أَخَلَّ بِذَلِكَ اخْتَلَّ التَّقْدِيرُ وَبَعُدَ عَنِ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا بِحَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى. وَمَنْ قُتِلَ أَوْ غَرِقَ مَثَلًا قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لَهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ انْتِهَاءِ عُمْرِهِ الطَّبِيعِيِّ أَوِ التَّقْدِيرِيِّ. وَلَكِنْ بِأَجَلِهِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي نَقْصِ الْعُمْرِ وَإِطَالَتِهِ وَالْإِنْسَاءِ فِيهِ بِالْأَسْبَابِ الْعَمَلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجَلِ التَّقْدِيرِيِّ أَوِ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَظْهَرِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ، وَهَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ طُولِ الْعُمْرِ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي مَنْشَؤُهُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالرَّجَاءُ فِي مَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَضْعُفُ عَنْهُ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِالتَّجَارِبِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّ الْهُمُومَ وَالْأَكْدَارَ وَلَا سِيَّمَا الدَّاخِلِيُّ مِنْهَا كَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، يُضْعِفَانِ قُوَى النَّفْسِ الْحَيَوِيَّةِ وَيُهْرِمَانِ الْجِسْمَ قَبْلَ إِبَّانِ الْهَرَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ
وَلِلْهُمُومِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِثْلُهَا فِي تَقْصِيرِ الْعُمْرِ الطَّبِيعِيِّ قِلَّةُ الْغِذَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَدَنُ وَالْإِسْرَافُ فِيهِ وَفِي كُلِّ لَذَّةٍ. وَكَذَا فِي الرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ وَكَثْرَةِ التَّعَرُّضِ لِلنَّجَاسَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْأَمْكِنَةِ الْقَذِرَةِ الَّتِي لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ وَلَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي لِامْتِصَاصِ الرُّطُوبَاتِ وَقَتْلِ جَرَاثِيمِ الْفَسَادِ فِيهَا، وَالْأُمَمُ الْعَلِيمَةُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تُحْصِي دَائِمًا عَدَدَ الْمَرْضَى وَالْمَوْتَى فِيهَا، وَتَضَعُ لَهَا نِسَبًا حِسَابِيَّةً تَعْرِفُ بِهَا مُتَوَسِّطَ الْآجَالِ
فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِهَا ثُبُوتًا قَطْعِيًّا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الْوَفِيَّاتِ تَحْسِينُ وَسَائِلِ الْمَعِيشَةِ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا، وَالتَّوَقِّي مِنَ الْأَمْرَاضِ بِاجْتِنَابِ أَسْبَابِهَا الْمَعْرُوفَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمُعَالَجَتُهَا بَعْدَ طُرُوئِهَا كَذَلِكَ. وَكُلُّ مَا ثَبَتَ وَوَقَعَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
363
الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ قَدْ سَبَقَ بِهِ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْوَاقِعِ بِنَاقِضٍ لِشَيْءٍ مِمَّا وَرَدَ فِي نَصِّ كِتَابِ رَبِّنَا تَعَالَى وَمَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ، وَهَذَا مِنْ حُجَجٍ كَوْنِ هَذَا الدِّينَ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يُقَرِّرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ الَّذِي لَا يَزِيدُهُ تَرَقِّي عُلُومِ الْبَشَرِ وَتَجَارُبِهَا إِلَّا تَأْكِيدًا، وَنَاهِيكَ بِمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَسَنَعُودُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ فِي مُنَاسَبَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْعَطْفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا تَتِمُّ بِهِ الْفَائِدَةُ وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا الْجَزَائِيَّةِ فَيَكُونُ حَاصِلُ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ إِذَا جَاءَ، وَهُمْ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنْ يَهْلَكُوا قَبْلَ مَجِيئِهِ. وَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِعَطْفِهِ عَلَى (لَا يَسْتَأْخِرُونَ) الَّذِي هُوَ جَزَاءُ قَوْلِهِ: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (٢٣: ٤٣) وَأَمَّا حِكْمَةُ الْعُدُولِ عَنِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ هُنَا فَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ تَأْخِيرَ الْأَجَلِ أَوْ تَأْخِيرَ الْهَلَاكِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ مُمْكِنٌ لِلْأُمَّةِ الَّتِي تَعْرِفُ أَسْبَابَهُ وَتَمْلِكُ الْعَمَلَ بِهَا، كَتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْفُجُورِ إِلَى أَضْدَادِهَا وَهُوَ يَتَّضِحُ بِمَا ضَرَبْنَا لَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ آنِفًا.
(يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
هَذَا النِّدَاءُ هُوَ الرَّابِعُ لِبَنِي آدَمَ كَافَّةً مُنْذُ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ
يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ هُوَ وَمَا قَبْلَهُ حِكَايَةٌ لِمَا خَاطَبَ اللهُ بِهِ كُلَّ أُمَّةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهَا وَبَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْ أُصُولِ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِهِدَايَتِهِمْ بِهِ إِلَى مَا لَا غِنًى لَهُمْ عَنْهُ فِي تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ. وَقَدْ تَخَلَّلَ النِّدَاءُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بَعْضَ مَا يُنَاسِبُ أُمَّةَ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي آيَاتِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي الْخِطَابِ - وَأَمَّا هَذَا النِّدَاءُ فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ جُمْلَةِ الرُّسُلِ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ بَيَانِ آجَالِ الْأُمَمِ؛ وَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَيْهِ بَيَانَ جَزَاءِ مَنِ اتَّبَعَ الرُّسُلَ
364
وَمَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ - فَهَذَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) " إِمَّا " مُرَكَّبَةٌ مِنْ " إِنِ " الشُّرْطِيَّةِ وَ " مَا " الَّتِي تُفِيدُ تَأْكِيدَ الشَّرْطِ وَكَذَا الْعُمُومَ فِي قَوْلٍ. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمُ الْبَشَرِ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِيَ الَّتِي أُنْزِلُهَا عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ مَا أَفْرِضُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُصْلِحَةِ وَمَا أُحَرِّمُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُفْسِدَةِ - فَمَنِ اتَّقَى مَا نَهَيْتُ عَنْهُ وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ بِمَا أَوْجَبْتُ عَلَيْهِ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فِي الدُّنْيَا كَحُزْنِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَوَاضِعَ أَشْبَهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا (٢: ٣٨: ٦: ٤٨ فَيُرَاجَعُ.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الِاسْتِكْبَارُ عَنِ الْآيَاتِ هُوَ رَفْضُ قَبُولِهَا كِبْرًا وَعِنَادًا لِمَنْ جَاءَ بِهَا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا مَتْبُوعًا لِلْمُسْتَكْبِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فَوْقَهُ، أَوْ أَقْوَامَهُمْ فَوْقَ قَوْمِهِ، أَوْ يُحِبُّونَ أَنْ يُرُوا النَّاسَ وَيُوهِمُوهُمْ ذَلِكَ، فَرُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ الْمُسْتَكْبِرُونَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرَى مِنَ الضَّعَةِ وَالْمَهَانَةِ أَنْ يَكُونَ مَرْءُوسًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا أَوْ أَكْبَرُ سِنًّا، فَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ - وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضُ عَشِيرَتِهِ بَنِي هَاشِمٍ - وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَتْبَعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ وَآخَرِينَ، مَاتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَدَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَتْبَعَ رَجُلًا مِنْهُمْ إِلَّا بِالتَّبَعِ لِعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ هُمْ لَهُ، وَلَكِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ النُّبُوَّةَ يَجِبُ حَصْرُهَا فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَذَلِكَ أُمَرَاءُ الْمَجُوسِ
وَرُؤَسَاءُ دِينِهِمْ إِذْ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ الْعَرَبَ كَافَّةً إِلَّا مَنْ هَدَى اللهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَزَالُ بَعْضُ الشُّعُوبِ يَأْبَى الِاهْتِدَاءَ بِالْإِسْلَامِ اسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِ أَهْلِهِ، بَلْ نَرَى بَعْضَ غُلَاةِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ التُّرْكِ كَذَلِكَ، حَتَّى نَقَلَتْ صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ قَوْمَهُ يَسْتَنْكِفُونَ أَنْ يَتَسَفَّلُوا لِاتِّبَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ قَالَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ إِثْمًا (! !).
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ مَنْ جَاءَ بِهَا حَسَدًا لَهُ عَلَى الرِّيَاسَةِ، وَتَفْضِيلًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ لِقَوْمِهِمْ عَلَى قَوْمِهِ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِيهَا، لَا كَالَّذِينِ يُعَذَّبُونَ فِيهَا زَمَنًا مُعَيَّنًا عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَدْ بَلَّغُوا أُمَمَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ فِي اتِّقَاءِ مَا يُفْسِدُ فِطْرَتَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِهِ وَالرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي إِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ بِالطَّاعَاتِ - يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَمْنُ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ وَالْحُزْنُ عَلَى كُلِّ مَا يَقَعُ إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ تَكْذِيبَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالِاسْتِكْبَارَ عَنِ اتِّبَاعِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ فَوْقَ مَا بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ سَكَتَ عَنِ الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ هُنَا لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)
هَذَا بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِي وَصْفِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِاللهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَجَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا مَبْنِيًّا عَلَى السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا سِيَّمَا خَاتِمَتُهُ وَهِيَ خِطَابُ بَنِي آدَمَ بِالْجَزَاءِ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِهِ مُجْمَلًا. قَالَ تَعَالَى:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ فِي
366
الْآيَاتِ السَّابِقَةِ - وَهُوَ كَذَلِكَ - فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا مَا بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، أَوْ عَزَا إِلَى دِينِهِ أَيَّ حُكْمٍ لَمْ يُنَزِّلْهُ عَلَى رُسُلِهِ، أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِمَا هُوَ أَدَلُّ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ عَنِ اتِّبَاعِهَا، أَوِ الِاسْتِهْزَاءُ بِهَا، أَوْ تَفْضِيلُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ.
(أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) فِي الْكِتَابِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ كِتَابُ الْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الرُّسُلِ (وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ) وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ: " مَا وُعِدُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ " فَإِنَّ الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ عَلَى الْأَعْمَالِ أَيْ وَالْوَعِيدَ بِدَلِيلِ بَيَانِهِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَهُوَ عَامٌ يَشْمَلُ جَزَاءَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهُ كِتَابُ الْمَقَادِيرِ الَّذِي كَتَبَ اللهُ فِيهِ نِظَامَ الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْهَا أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَمَا يَبْعَثُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ كَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ إِلَخْ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ الْمُفَصَّلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ النَّصِيبِ مِنَ الْآيَةِ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ، وَفَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ النَّصِيبَ بِالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالْعَمَلِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَفَسَّرَهُ أَبُو صَالِحٍ وَالْحَسَنُ بِالْعَذَابِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَمَا وُعِدُوا بِهِ فِي كِتَابِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي أُثْبِتَ فِي كِتَابِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَفْسِ النَّصِيبِ الَّذِي يَنَالُهُمْ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالدُّنْيَا أَمْ بِالْآخِرَةِ أَمْ عَامٌّ فِيهِمَا؟ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِمُوَافَقَتِهِ لِمِثْلِ قَوْلِهِ: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) (١٧: ٢٠) وَقَوْلِهِ: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) (٣١: ٢٤) وَبِمُوَافَقَتِهِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أَيْ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمُ الَّذِي كُتِبَ لَهُمْ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ حَتَّى إِذَا مَا انْتَهَى بِانْتِهَاءِ آجَالِهِمْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ يَتَوَفَّوْنَهُمْ - وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالتَّوَفِّي أَيْ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الْأَجْسَادِ - (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أَيْ يَسْأَلُهُمْ رُسُلُ الْمَوْتِ حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَوَفَّوْنَهُمْ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَدْعُونَهُمْ غَيْرَ اللهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الْمُضِرَّاتِ؟ ادْعُوهُمْ لِيُنْجُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ الْآنَ (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) أَيْ قَالُوا: غَابُوا عَنَّا فَلَا نَرْجُو مِنْهُمْ مَنْفَعَةً. وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ بِدُعَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ عِنْدَهُ تَعَالَى كَأَعْوَانِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَوُزَرَائِهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، جَاهِلِينَ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ
367
لَا يَسْتَغْنَوْنَ عَنِ الْأَعْوَانِ وَالْمُسَاعِدِينَ لِجَهْلِهِمْ بِأُمُورِ النَّاسِ وَعَجْزِهِمْ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَقَضَائِهَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٢١ - ٢٤، ٩٣، ٩٤) وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) فَيُرَاجَعَانِ فَفِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ وَلَا هُنَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي آخِرِ آيَةِ (١٤٤) مِنَ الْأَنْعَامِ أَيْضًا وَفَسَّرْنَا الِافْتِرَاءَ عَلَى اللهِ فِيهَا بِمِثْلِ مَا فَسَّرْنَاهُ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي آخِرِ آيَةِ (١٣٠) مِنْهَا.
(قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أَيْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أَوْ أَحَدُ مَلَائِكَتِهِ بِأَمْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ: ادْخُلُوا مَعَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ وَمَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ. أَوِ ادْخُلُوا فِي ضِمْنِ أُمَمٍ مِثْلِكُمْ قَدْ سَبَقَتْكُمْ كَائِنَةٍ فِي دَارِ الْعَذَابِ. وَقُدِّمَ الْجِنُّ لِأَنَّ شَيَاطِينَهُمْ مُبْتَدِئُو الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ وَلِلْإِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) هَذَا بَيَانٌ لِشَيْءٍ مِنْ حَالَتِهِمْ فِي دُخُولِ النَّارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بَعْدَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِهِ. أَيْ كُلَّمَا دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِي النَّارِ وَاسْتَقْبَلَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، لَعَنَتْ أُخْتَهَا فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ الَّتِي ضَلَّتْ هِيَ بِاتِّبَاعِهَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهَا فِي كُفْرِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (٢٩: ٢٥) إِلَخْ.
(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) أَيْ حَتَّى إِذَا تَتَابَعُوا وَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ فِيهَا قَالَتْ أُخْرَى كُلٍّ مِنْهُمْ لِأُولَاهَا وَمُقَدَّمِيهَا فِي الرُّتْبَةِ وَالرِّيَاسَةِ أَوْ فِي الزَّمَنِ أَيْ لِأَجَلِهَا وَفِي شَأْنِهَا - وَإِنَّمَا الْخِطَابُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ - رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا عَنِ الْحَقِّ بِاتِّبَاعِنَا لَهُمْ وَتَقْلِيدِنَا إِيَّاهُمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَأَعْطِهِمْ ضِعْفًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ لِإِضْلَالِهِمْ إِيَّانَا فَوْقَ الْعَذَابِ عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَكُونَ عَذَابُهُمْ ضِعْفَيْنِ، ضِعْفًا لِلضَّلَالِ وَضِعْفًا لِلْإِضْلَالِ.
(قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) أَيْ يَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى لَهُمْ: لِكُلٍّ مِنْهُمْ ضِعْفٌ مِنَ الْعَذَابِ بِإِضْلَالِهِ فَوْقَ عَذَابِهِ عَلَى ضَلَالِهِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
367
(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١٦: ٢٥) وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ عَذَابِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَوْ جَسَدِيٌّ وَنَفْسِيٌّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ النَّارَ فِي سُورَةِ الْهُمَزَةِ بِأَنَّهَا تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَيِ الْقُلُوبِ، فَإِذَا رَأَى الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْعِقَابِ ظَنُّوا أَنَّ عَذَابَهُمْ كَعَذَابِهِمْ فِيمَا يَأْكُلُونَ مِنَ الزَّقُّومِ وَالضَّرِيعِ وَيَشْرَبُونَ مِنَ الْمَاءِ الْحَمِيمِ، وَفِيمَا تَلْفَحُهُمُ النَّارُ بِرِيحِهَا السَّمُومِ، وَفِيمَا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا الْيَحْمُومِ، فَمَثَلُهُمْ مَعَهُمْ كَمَثَلِ الْمَسْجُونِينَ فِي الدُّنْيَا، مِنْهُمُ الْمُجْرِمُ الْعَرِيقُ فِي إِجْرَامِهِ مِنْ تُحُوتِ النَّاسِ وَأَشْقِيَائِهِمْ، وَالرَّئِيسُ الزَّعِيمُ فِي قَوْمِهِ، الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ فِي وَطَنِهِ، لَا يَشْعُرُ الْأَوَّلُ بِمَا يُقَاسِيهِ الْآخَرُ مِنْ عَذَابِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الذُّلِّ. بَلْ يَظُنُّ أَنَّ عُقُوبَتَهُمَا وَاحِدَةٌ فِي أَلَمِهَا كَمَا هِيَ صُورَتُهَا.
وَحَمْلُ الْأُولَى عَلَى الرُّؤَسَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَالْأُخْرَى عَلَى أَتْبَاعِهِمُ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الزَّمَنِ أَوْ فِي دُخُولِ النَّارِ، عَلَى أَنَّ شَأْنَ مُبْتَدِعِ الضَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الزَّمَنِ تَقَدُّمًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهَا وَلَوْ فِي عَصْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) (٣٤: ٣١) إِلَى آخِرِ الْحِوَارِ، وَمِثْلِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي سِيَاقِ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللهِ وَجَعْلِهِمْ وُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ، أَوْ طَاعَتِهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِغَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَتَبَرُّؤِ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ (٢: ١٦٥ - ١٦٧) وَقَدِ اسْتَشْهَدْنَا فِي
تَفْسِيرِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فَيُرَاجَعُ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّ كُلَّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ. وَأَنَّ أَئِمَّةَ الْهُدَى مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْبِطُونَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَفْتَحُوا لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْفَهْمِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا، مَعَ نَهْيِهِمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِعَرْضِ كَلَامِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَخْذِ مَا وَافَقَهُمَا وَرَدِّ مَا عَدَاهُ. وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ تَنْتَمِي إِلَيْهِمْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ، وَأَئِمَّةُ الْعِتْرَةِ الَّذِينَ تَنْتَمِي إِلَيْهِمُ الشِّيعَةُ كَالْإِمَامَيْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. لَمْ يُبِحْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ التَّقْلِيدَ - وَقَدْ حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ - فَهُمْ بُرَآءُ مِنْ جَمِيعِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي دِينِ اللهِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَوَرَدَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْقَصَصِ وَالْأَحْزَابِ وَالصَّافَّاتِ وَص وَغَيْرِهِنَّ.
وَأَمَّا حَمْلُ الْأُولَى وَالْأُخْرَى عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ فِيهِ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ عَلَيْهِ: لَكِنْ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ضِعْفٌ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنَ اللَّفْظِ - لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَلِلْقَاعِدَةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِقَدْرِهِ مَثَلًا. نَعَمْ إِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ
369
بِالْقُذَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُضِلُّ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ مَنِ ابْتَدَعَ الضَّلَالَ أَوْ دَعَا إِلَيْهِ أَوْ كَانَ قُدْوَةً فِيهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ مِثْلَ وِزْرِ مَنْ أَضَلَّهُ سَوَاءً كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَمْ لَا، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ الضِّعْفَ الْآخَرَ عَلَى الْأَتْبَاعِ عِقَابٌ عَلَى التَّقْلِيدِ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكَرْخِيِّ.
قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْأُولَى: وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْهُدَى ضَلَالٌ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعَذَابَ. أَيْ فَكَيْفَ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ الَّذِي قِيلَ فِي أَهْلِهِ:
عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا
وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ هُنَا، فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَقْتَضِي مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ عَلَى الْعَمَلِ الْمُقَلَّدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَنْبٌ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللهُ بِالْكِتَابِ. وَالْفِطْرَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ جَزَاءَ الضِّعْفِ عَلَى الْأَتْبَاعِ بِأَنَّ اتِّخَاذَهُمُ الرُّؤَسَاءَ مَتْبُوعِينَ مِمَّا يَزِيدُ فِي طُغْيَانِهِمْ، أَوْ بِأَنَّهُ طَلَبٌ لِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْعِصْيَانِ - يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ ذُنُوبٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْ عِقَابِهَا بِأَنَّهُ ضِعْفٌ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ الضِّعْفَ هُنَا هُوَ الزَّائِدُ عَلَى عِقَابِ الذَّنْبِ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يُلَابِسُهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي مُحَاوَرَةِ الْأَتْبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَتْبُوعِينَ مِنْ سُورَةِ ص: (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) (٣٨: ٦١) فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حِكَايَةً عَنِ التَّابِعِينَ الْمَرْءُوسِينَ فِي النَّارِ: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (٣٣: ٦٧، ٦٨).
وَقَدْ كَانَ مِنْ سَبْقِ رَحْمَةِ اللهِ لِغَضَبِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَغَلَبَةِ فَضْلِهِ عَلَى عَدْلِهِ، أَنْ وَعَدَ بِمُضَاعَفَةِ جَزَاءِ الْحَسَنَاتِ لِذَاتِهَا دُونَ السَّيِّئَاتِ. كَمَا قَالَ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (٦: ١٦٠) وَكَمَا قَالَ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (٤: ٤٠) وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِهِ فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ عَلَى الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَسُوءِ الْقُدْوَةِ، إِلَّا آيَةَ الْفَرْقَانِ فَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الشِّرْكِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمَعَاصِي: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (٢٥: ٦٨، ٦٩) وَلَوِ انْفَرَدَتْ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْمُضَاعَفَةِ بِحُكْمٍ جَدِيدٍ لَا يَتَعَارَضُ مَعَهَا لَمْ تَكُنْ مُشْكِلَةً، وَلَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِهَا وَبِقَاعِدَةِ الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا،
370
إِلَّا مَنْ أَغْوَى غَيْرَهُ وَأَضَلَّهُ بِقَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ فَكَانَ قُدْوَةً سَيِّئَةً لَهُ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمُقَرِّرَةِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِقَابَ فِيهَا عَلَى مَجْمُوعِ الشِّرْكِ وَكَبَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مُقَسَّمٌ عَلَيْهِمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءٌ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ، فَكَانَ مُضَاعَفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِقَابِ الْمُشْرِكِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِفْ تِلْكَ الْكَبَائِرِ، أَوْ عِقَابِ مُقْتَرِفِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يُضَاعَفَ الْعَذَابُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ انْتِفَاءِ الْإِضْلَالِ وَسُوءِ الْقُدْوَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْمَعَاصِي
مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُجَاهِرًا بِضَلَالِهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِضْلَالُ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، وَقَدْ قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي كُلِّ مُجَاهَرَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ: (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ) (٣٣: ٦٨) فَإِنَّ لَفْظَ الضِّعْفِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ الَّتِي يَقْتَضِي وُجُودُ أَحَدِهَا وُجُودَ الْآخَرِ كَالزَّوْجِ وَهُوَ تَرَكُّبُ قَدْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ فَضِعْفُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُثَنِّيهِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى عَدَدٍ اقْتَضَى ذَلِكَ الْعَدَدَ وَمِثْلَهُ، فَضِعْفُ الْوَاحِدِ اثْنَانِ وَضِعْفُ الْعَشْرَةِ عِشْرُونَ، فَإِذَا قِيلَ أَعْطِهِ ضِعْفَيْنِ مِنْ كَذَا كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطِهِ اثْنَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا قِيلَ أَعْطِهِ ضِعْفَيْ وَاحِدٍ بِالْإِضَافَةِ كَانَ مَعْنَاهُ أَعْطِهِ وَاحِدًا وَضِعْفَيْهِ أَيْ ثَلَاثَةً وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ.
(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) هَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِ أُخْرَاهُمْ أَوْ مِنْ جَوَابِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُمْ - وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّنَا نَحْنُ أَضْلَلْنَاكُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهَذَا أَدْنَى فَضْلٍ تَطْلُبُونَ بِهِ أَنْ يَكُونَ عَذَابُكُمْ دُونَ عَذَابِنَا وَالذَّنْبُ وَاحِدٌ، وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِتَلَبُّسِكُمْ بِالضَّلَالِ الْمُقْتَضِي لَهُ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِكَسْبِكُمْ لَهُ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُهُ. وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٧: ٢٧ - ٣٣).
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَأَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَّا أَوْ مِنَّا وَمِنْكُمْ ضِعْفًا مِنَ الْعَذَابِ، فَلَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا فَضْلٌ يُخَفَّفُ بِهِ عَنْكُمْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مِثْلَنَا، فَنَحْنُ لَمْ نَكُنْ بِمُكْرِهِينَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ فَعَلْتُمُوهُ بِاخْتِيَارِكُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ لَكُمُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا لَوِ اهْتَدَيْتُمْ بِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَتَرَكْتُمُونَا فِي ضَلَالِنَا وَغِوَايَتِنَا، وَلَا يَنْفَعُكُمْ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ لَنَا إِذَا لَمْ يُخَفَّفْ عَنْكُمْ عَذَابُكُمْ، فَإِنَّ كِلَانَا لَا يَشْعُرُ إِلَّا بِعَذَابِ نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)
(٤٣: ٣٩).
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)
هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ، بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْبَيَانِ، قَالَ:
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) لِمُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفَتُّحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ قَوْلَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُقْبَلُ أَعْمَالُهُمْ وَلَا تُرْفَعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تُرْفَعُ أَعْمَالُ الصَّالِحِينَ. كَمَا قَالَ: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٣٥: ١٠) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ مِنْ عَمَلِهِمْ شَيْءٌ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ لِعَمَلٍ وَلَا دُعَاءٍ. وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. (وَالثَّانِي) أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ لَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ وَتُفْتَحُ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَرُوِيَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَخْبَارٌ مَرْفُوعَةٌ فِي قَبُولِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرَدِّ رُوحِ الْكَافِرِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ قَالَ: لَا لِأَرْوَاحِهِمْ وَلَا لِأَعْمَالِهِمْ.
(وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ (الْجَمَلُ) بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْبَعِيرُ الْبَازِلُ أَيِ الَّذِي طَلَعَ نَابُهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَدْخُلَ مَا هُوَ مَثَلٌ فِي عِظَمِ الْجِرْمِ وَهُوَ الْجَمَلُ الْكَبِيرُ فِيمَا هُوَ مَثَلٌ فِي الضِّيقِ وَهُوَ ثُقْبُ الْإِبْرَةِ - وَتُسَمَّى الْخِيَاطَ بِالْكَسْرِ وَالْمِخْيَطِ بِوَزْنِ الْمِنْبَرِ - وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَالْمُرَادُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ أَوْ تَأْيِيدُهُ. وَكَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَفْطَنُوا لِنُكْتَةِ هَذَا التَّعْلِيقِ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجَمَلِ وَسَمِّ الْخِيَاطِ فَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْهُ فَيُجَابُونَ بِمَا يُؤَكِّدُ الْمُرَادَ. سُئِلَ عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَقَالَ: هُوَ زَوْجُ النَّاقَةِ - وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: ابْنُ النَّاقَةِ الَّذِي يَقُومُ فِي الْمِرْبَدِ عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ.
وَالْمِرْبَدُ (كَمِنْبَرٍ) مَحْبَسُ الْإِبِلِ وَكَذَا الْغَنَمِ، وَمَكَانٌ بِالْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ كَانَتْ تُحْبَسُ بِهِ أَوْ كَانَ سُوقًا لَهَا.
372
وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ تَفْسِيرُ الْجَمَلِ هُنَا بِالْحَبْلِ الْغَلِيظِ، وَهُوَ الْقَلْسُ الَّذِي يَكُونُ فِي السُّفُنِ لِشَبَهِهِ بِالْخَيْطِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخْرَى ضَبَطَهَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِأَوْزَانِ سُكْرٍ وَصُرَدٍ وَقُفْلٍ وَعُنُقٍ وَحَبْلٍ وَذَكَرٍ أَنَّهُ قُرِئَ بِهِنَّ.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ نَجْزِي جِنْسَ الْمُجْرِمِينَ، أَيِ الَّذِينَ صَارَ الْإِجْرَامُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ. وَأَصْلُ مَعْنَاهُ قَطْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ إِفْسَادٍ، وَلَا سِيَّمَا إِفْسَادُ الْفِطْرَةِ بِالْكُفْرِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَعَاصِي وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَجْرَمَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَجْرَمَ جُرْمًا بِثَوْرَةِ غَضَبٍ أَوْ نَزْوَةِ شَهْوَةٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤: ١٧) وَقَالَ: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣: ١٣٥) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُسَمَّوْنَ مُجْرِمِينَ.
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) جَهَنَّمُ اسْمٌ لِدَارِ الْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ، قِيلَ: أَعْجَمِيٌّ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رُكْبَةٌ جِهِنَّامٌ (بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ) أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. فَهُوَ بِمَعْنَى الْهَاوِيَةِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا عَرَبِيَّةٌ جَعَلَ مَنْعَ صَرْفِهَا لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَالْمِهَادُ الْفِرَاشُ وَالْغَوَاشِي جَمْعُ غَاشِيَةٍ وَهِيَ مَا يُغْشِي الشَّيْءَ أَيْ يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ، وَيُنَاسِبُ الْمِهَادُ مِنْهَا اللِّحَافَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
هُنَا، فَالْغِشَاءُ: الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَالْفَرَسُ الْأَغْشَى مَا تَسْتُرُ غُرَّتُهُ جَبْهَتَهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ جَهَنَّمَ مُطْبِقَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُحِيطَةٌ بِهِمْ كَمَا فَعَلَ: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (١٠٤: ٨) وَكَمَا قَالَ: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (٢٩: ٥٤) (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أَيْ وَمِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ نَجْزِي جِنْسَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِشَرْطِهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمُجْرِمِينَ آنِفًا. وَأَفَادَتِ الْآيَتَانِ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي صِفَتَيِ الْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢: ٢٥٤) وَهَذَا تَحْقِيقُ الْقُرْآنِ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ وَلِذَلِكَ خَالَفُوهُ فِي عُرْفِهِ.
373
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، يَبْدَأُ بِأَحَدِهِمَا لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ قَبْلَهُ وَيُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْآخَرِ؛ وَلِهَذَا عَطَفَ بَيَانَ جَزَاءِ السُّعَدَاءِ عَلَى بَيَانِ جَزَاءِ الْأَشْقِيَاءِ فَقَالَ:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أَيْ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَهِيَ لَا عُسْرَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ إِذْ (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أَيْ لَا نَفْرِضُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ، وَهُوَ مَا لَا يَضِيقُ بِهِ ذَرْعُهُ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (مَعَ إِسْنَادِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ إِرَادَةِ الْيُسْرِ دُونَ الْعُسْرِ فِي آيَاتِ الصِّيَامِ مِنْهَا، وَمِنْ عَدَمِ إِرَادَةِ الْحَرَجِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ نُصُوصٌ قَطْعِيَّةٌ فِي يُسْرِ الدِّينِ
وَسُهُولَتِهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ الْمُتَوَسِّعُونَ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا حِمْلًا ثَقِيلًا يَعْسُرُ تَعَلُّمُهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي وُسْعِ أَحَدٍ عَمَلُهُ (إِلَّا الْمُتَنَطِّعِينَ مِنَ الْعِبَادِ) حَتَّى إِنَّ أَحْكَامَ الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا لَا يُمْكِنُ تَلَقِّي مَا كَتَبُوهُ فِيهَا إِلَّا فِي عِدَّةِ أَشْهُرٍ.
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَيْ أُولَئِكَ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا نَفْسُ الْإِنْسَانِ، وَتَزْكُو فَتَكُونُ أَهْلًا لِلنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ، هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَدًا. وَقَدْ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ.
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) أَيْ وَنَزَعْنَا مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ حِقْدٍ وَضِغْنٍ مِمَّا يَكُونُ مِنْ عَدَاوَةٍ أَوْ حَسَدٍ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَفِي قُلُوبِهِمْ أَدْنَى لَوْثَةٍ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الدَّارِ وَأَهْلِهَا، وَيَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ تَنْغِيصِ النَّعِيمِ فِيهَا، تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فَيَرَوْنَهَا وَهُمْ فِي غُرُفَاتِ قُصُورِهِمْ تَتَدَفَّقُ فِي جَنَّاتِهَا وَبَسَاتِينِهَا فَيَزْدَادُونَ حُبُورًا لَا تَشُوبُهُ شَائِبَةُ كَدَرٍ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا يَجُوزُونَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ظُلَامَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ غِلٌّ " وَرَوَى هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا سِيقُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً فِي أَصْلِ سَاقِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَيَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فَهُوَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْأُخْرَى فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَلَنْ يُشْعَثُوا وَلَنْ يُشْحَبُوا بَعْدَهَا أَبَدًا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ). وَعَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، أَيْ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا عَامًّا مُطْلَقًا.
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " مَا كُنَّا " بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا مِنَ الْمُخَالِفِ لِرَسْمِ الْمَصَاحِفِ. أَيْ وَيَقُولُونَ شَاكِرِينَ لِلَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْمُعَبِّرَةِ عَنْ غِبْطَتِهِمْ وَبَهْجَتِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا فِي الدُّنْيَا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ هَذَا
النَّعِيمُ جَزَاءَهُ - فَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِلْعِلْمِ بِالسَّبَبِ - وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ، أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِنَا وَلَا مُقْتَضَى بَدِيهَتِنَا أَوْ فِكْرَتِنَا أَنْ نَهْتَدِيَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِنَا لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ إِلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّانَا لِاتِّبَاعِ رُسُلِهِ وَمَعُونَتِهِ لَنَا عَلَيْهَا وَرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ.
عِلَاوَةً عَلَى هِدَايَةِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَنَا عَلَيْهَا، وَهِدَايَةِ مَاخَلَقَ لَنَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ، تَاللهِ (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فَهَذَا مِصْدَاقُ مَا وَعَدَنَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ وَنُودُوا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَنْ قِيلَ لَهُمْ: تِلْكُمْ هِيَ الْجَنَّةُ الْبَعِيدَةُ الْمَنَالِ - لَوْلَا فَضْلُ ذِي الْجَلَالِ، وَالْإِكْرَامِ - الَّتِي وَعَدَ بِوِرَاثَتِهَا الْأَتْقِيَاءَ، أُورِثْتُمُوهَا بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الصَّالِحَاتِ، فَعَلَامَةُ الْبُعْدِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، إِذِ السِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَالتَّبَوُّءِ مِنْ غُرَفِ قُصُورِهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حِسِّيًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النِّدَاءَ يَكُونُ عِنْدَ مَا يَرَوْنَهَا مُنْصَرِفِينَ إِلَيْهَا مِنَ الْمَوْقِفِ، وَبَعْضُهُمْ زَمَنِيًّا مُرَادًا بِهِ الْجَنَّةُ الْمَوْصُوفَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدُ ذِكْرِهَا، وَالْوَعْدُ بِهَا، وَهُوَ وَجِيهٌ.
تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ عَنْ نَيْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْجَنَّةِ بِالْإِرْثِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا لِلشَّيْءِ مِنْ حَائِزٍ إِلَى آخَرَ، كَانْتِقَالِ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى وَارِثِهِ وَانْتِقَالِ الْمَمَالِكِ مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَكَذَا إِرْثٌ لِلْعِلْمِ وَالْكِتَابِ قَالَ تَعَالَى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) (٢٧: ١٦) وَقَالَ: (وَرِثُوا الْكِتَابَ) (٧: ١٦٩) وَقَالَ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (٣٥: ٣٢)
375
وَلَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ إِيرَاثُهَا هُنَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَإِرْثُهَا فِي قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) (١١، ١٠: ٢٣) عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ بِالْإِرْثِ عَنِ الْمِلْكِ الَّذِي لَا مُنَازِعَ فِيهِ. (وَثَانِيهِمَا) مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْجَنَّةِ هُوَ حَقُّهُ إِذَا طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ وَسَعَى إِلَيْهِ فِي صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَا وَعَدَ بِهِ جَمِيعَ أَفْرَادِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَرَثَتِهِمُ النَّاشِرِينَ لِدَعْوَتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَمَنْ كَفَرَ خَسِرَ مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُعْطِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَلَهُ حَظٌّ مِنَ الْإِرْثِ. وَالِاسْتِعْمَالَانِ مَجَازِيَّانِ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ لَا مُتَبَايِنَانِ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَ مِنْ
مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلٌ مُبِينٌ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَدَخَلُوا مَنَازِلَهُمْ، رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا فَقِيلَ: هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَيَقْتَسِمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ شَوْذَبَ فِي تَفْسِيرِ: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) (١٩: ٦٣) وَرُوِيَ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا فِي تَفْسِيرِ: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ الْأَرْبَعَةُ - أَبْنَاءُ جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبِي حَاتِمٍ وَمَرْدَوَيْهِ - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ " فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ).
وَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ الْجَنَّةِ تُنَالُ بِالْعَمَلِ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ، بَعْضُهَا بِلَفْظِ الْإِرْثِ وَبَعْضُهَا بِلَفْظِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ - قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ - وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ ": وَلَهُ تَتِمَّةٌ، وَرُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ - فَمَعْنَاهُ: أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ مَهْمَا يَكُنْ عَظِيمًا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةَ لِذَاتِهِ لَوْلَا رَحْمَةُ اللهِ وَفَضْلُهُ، إِذْ جَعَلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ دُخُولٌ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " أَيْ لَا تُبَالِغُوا وَلَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَتَكَلَّفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْخُلُونَهَا بِفَضْلِهِ وَيَقْتَسِمُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ.
376
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ
تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النَّارَ وَأَهْلَهَا، وَالْجَنَّةَ وَأَهْلَهَا، بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا بَعْضَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ - فَرِيقِ الْجَنَّةِ وَفَرِيقِ السَّعِيرِ - مِنَ الْحِوَارِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي دَارِهِ، وَتَمَكُّنِهِ فِي قَرَارِهِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّارَيْنِ فِي عَالَمٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ هُوَ سُورٌ وَاحِدٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِشْرَافِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي عِلِّيِّينَ؛ عَلَى أَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِي سِجِّينٍ مِنْ هَاوِيَةِ الْجَحِيمِ، فَيُخَاطِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا يَزِيدُ أَهْلَ الْجَنَّةِ عِرْفَانًا بِقِيمَةِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَزِيدُ أَهْلَ النَّارِ حَسْرَةً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ وَشَقَاءً عَلَى شَقَائِهِمْ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاتِّصَالِ الْقُرْبَ الْمَعْهُودَ عِنْدَنَا فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْمُتَخَاطِبِينَ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا تُقَاسُ بِالذِّرَاعِ أَوِ الْبَاعِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تُحَدَّدُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْأَشْهُرِ أَوِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْآخِرَةِ أَنْ تَغْلِبَ فِيهِ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى الْمَادَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، فَيُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ هُوَ عَلَى بُعْدٍ شَاسِعٍ مِنْهُ وَيَرَاهُ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى غَرِيبًا بَعِيدًا عَنِ الْمَأْلُوفِ عِنْدَ أَجْدَادِنَا الْأَوَّلِينَ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْآنَ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ مَنْ يَسْتَبْعِدُهُ بَعْدَ اخْتِرَاعِ الْبَشَرِ لِلْآلَاتِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا مِنْ أَبْعَادِ أُلُوفِ الْأَمْيَالِ، إِمَّا بِالْإِشَارَاتِ الْكَاتِبَةِ كَالتِّلِغْرَافِ السِّلْكِيِّ وَاللَّاسِلْكِيِّ، أَوْ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ كَالتِّلِيفُونِ السِّلْكِيِّ وَاللَّاسِلْكِيِّ، وَقَدْ نَبَّأَتْنَا أَخْبَارُ الِاخْتِرَاعَاتِ فِي الشَّمَالِ بِصُنْعِ آلَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وَالْخِطَابِ، إِنْ كَانَ لَمَّا يَتِمَّ صُنْعُهَا فَقَدْ كَادَ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
377
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) التَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعْهُودٌ فِي الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ الْبَلِيغَةِ، وَأَشْهَرُ نُكَتِهِ جَعْلُ الْمُسْتَقْبَلِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالَّذِي وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ سَوْفَ يُنَادُونَ أَصْحَابَ النَّارِ حَتَّى إِذَا مَا وَجَّهُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِمْ سَأَلُوهُمْ سُؤَالَ تَبَجُّحٍ وَافْتِخَارٍ بِحُسْنِ حَالِهِمْ، وَتَهَكُّمٍ وَتَذْكِيرٍ بِمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةِ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَتَقْرِيرٍ لَهُمْ بِصِدْقِ مَا بَلَّغُوهُمْ مِنْ وَعْدِ رَبِّهِمْ لِمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ قَائِلِينَ. قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ فِيهِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ حَقًّا؟.
قَالُوا: (وَعدَنَا رَبُّنَا) وَلَمْ يَقُولُوا لِأَهْلِ النَّارِ: (وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ) بَلْ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ - لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَحَلٌّ لِذَلِكَ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّ
أَهْلَ النَّارِ لَيْسُوا مَحَلًّا لَهُ، فَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ كَمَا وُجِّهَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (١٣: ٣٥) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (٤٧: ١٥) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ) (٤٠: ٨) وَقَوْلِهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) (١٩: ٦١) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَعْدَ خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي الْخَيْرِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ خَاصٌّ بِالشَّرِّ أَوِ السُّوءِ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ، وَمَا وَعَدَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ حَقًّا بِدُخُولِنَا الْجَنَّةَ وَدُخُولِكُمُ النَّارَ؟ وَهَذَا يُوَافِقُ قَاعِدَةَ حَذْفِ الْمَعْمُولِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُطْلَقُ الْوَعْدُ فِي الشَّرِّ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَوْعُودِ بِهِ صَرَاحَةً وَلَا ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَّا إِذَا قُيِّدَ بِتَعَلُّقِهِ بِالشَّرِّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَتُهُ تَوَعُّدًا لِلتَّهَكُّمِ أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الْخَيْرِ أَوْ لِلتَّغْلِيبِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٢٢: ٧٢) وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) (٢: ٢٦٨) عَلَى أَنَّ لِوَعْدِ الشَّيْطَانِ هُنَا نُكْتَةً أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ شَرٌّ فِي صُورَةِ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخِدَاعِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَسْوَسَةِ لِلْمَرْءِ بِتَرْكِ الصَّدَقَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ اتِّقَاءً لِلْفَقْرِ بِذَهَابِ مَالِهِ، وَتَظْهَرُ مُقَابَلَةُ الْمُشَاكَلَةِ فِي وَعْدِ اللهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٦٨ و٧٢) وَالثَّالِثُ: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) (٣٦: ٥٢) أَشَارَ إِلَى الْبَعْثِ. وَلَكِنْ فِي التَّنْزِيلِ مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ، كَقَوْلِهِ فِي وَعِيدِ قَوْمِ صَالِحٍ: (ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (١١: ٦٥) وَلَهُ نَظَائِرُ، عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ
378
قَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ جَوَازِ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ، وَالْعُقَلَاءَ يَعُدُّونَهُ فَضْلًا، وَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مَعَ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْوَعِيدِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) (٢٢: ٤٧) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ. نَعَمْ قَدْ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ فِي الْوَعِيدِ الْمُقَيَّدِ وَلَوْ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى بِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ كَبَعْضِ الْمَعَاصِي، دُونَ الْمُؤَكَّدِ أَوِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يُقَيِّدُهُ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ وَلَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ حُذِفَ تَخْفِيفًا لِلْإِيجَازِ أَوْ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا أَوْعَدَكُمْ رَبُّكُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالْعَذَابِ حَقًّا؟ وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا؟ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمَا قَبْلَهُ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا) هِيَ الْمُفَسِّرَةُ.
(قَالُوا نَعَمْ) أَيْ قَالَ أَهْلُ النَّارِ: نَعَمْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَ رَبُّنَا حَقًّا. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ نَعِمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ نُسِبَتْ إِلَى كِنَانَةَ وَهُذَيْلٍ (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) التَّأْذِينُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ، وَاللَّعْنَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مَعَ الْخِزْيِ وَالْإِهَانَةِ. أَيْ فَكَانَ عَقِبَ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَنْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قَائِلًا: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، الْجَانِينَ عَلَيْهَا بِمَا أَوْجَبَ حِرْمَانَهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَارْتِكَاسَهَا فِي عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ بِمَا يَصِفُهُمْ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَنُكِّرَ الْمُؤَذِّنُ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِمَا يَقُولُهُ هُنَالِكَ لِلتَّخْوِيفِ مِنْهُ هُنَا، وَلَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ عِلْمًا صَحِيحًا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْوَحْيِ. وَلَكِنَّ الْمَعْهُودَ فِي أُمُورِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَلَا سِيَّمَا الْآخِرَةُ أَنْ يَتَوَلَّى مِثْلَ ذَلِكَ فِيهَا مَلَائِكَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْآلُوسِيُّ: هُوَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَاحِبُ الصُّورِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَقِيلَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُهُمَا يَأْمُرُهُ اللهُ بِذَلِكَ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِيَّةِ عَنِ الرِّضَا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَعِيدٌ عَنْ هَذَا الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا وَهُوَ إِذْ ذَاكَ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ وَاضِعِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِرُوَاةِ الْآثَارِ لَمْ يَضَعُوهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ وَقَدْ كَانَ فِي أَئِمَّتِهِمْ مَنْ يُعَدُّ مِنْ شِيعَةِ عَلَيٍّ وَآلِهِ كَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالْحَاكِمِ، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ عَدَّلَ كَثِيرًا مِنَ الشِّيعَةِ فِي رِوَايَتِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَبِلْنَاهَا، وَلَا نَرَى كَوْنَهُ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ مَانِعًا مِنْهَا، وَلَوْ كُنَّا نَعْقِلُ لِإِسْنَادِ هَذَا التَّأْذِينِ إِلَيْهِ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ مَعْنًى يُعَدُّ بِهِ فَضِيلَةً أَوْ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَقَبِلْنَا الرِّوَايَةَ بِمَا دُونَ السَّنَدِ الصَّحِيحِ، مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا
379
أَوْ مُعَارَضًا بِرِوَايَةٍ أَقْوَى سَنَدًا أَوْ أَصَحَّ مَتْنًا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ لَعْنَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ، أَوِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَرَفْعِ لَعْنَةٍ.
ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجًا) تَقَدَّمَ أَنَّ صَدَّ يَصُدُّ يَجِيءُ لَازِمًا بِمَعْنَى يُعْرِضُ وَيَمْتَنِعُ عَنِ الشَّيْءِ، وَمُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى يَصُدُّ غَيْرَهُ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْإِيجَازَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا - أَيِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ وَيُضِلُّونَ النَّاسَ عَنْهَا، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ سُلُوكِهَا، وَيَبْغُونَهَا مُعْوَجَّةً أَوْ ذَاتَ عِوَجٍ، أَيْ غَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ وَلَا مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لَا يَسْلُكَهَا أَحَدٌ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْعَوَجُ بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ عَوِجَ الشَّيْءُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَعْوَجُ، وَالِاسْمُ الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَعَاجَ يَعُوجُ إِذَا عَطَفَ، وَالْعِوَجُ فِي الْأَرْضِ أَلَّا تَسْتَوِيَ، وَفِي التَّنْزِيلِ: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) (٢٠: ١٠٧) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعِوَجِ فِي الْحَدِيثِ اسْمًا وَفِعْلًا وَمَصْدَرًا وَفَاعِلًا وَمَفْعُولًا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ شَكْلٍ مَرْئِيٍّ كَالْأَجْسَامِ، وَبِالْكَسْرِ بِمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ كَالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْكَسْرُ يُقَالُ فِيهِمَا مَعًا، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. (ثُمَّ قَالَ) وَعَوِجَ الطَّرِيقُ وَعِوَجُهُ زَيْغُهُ، وَعِوَجُ الدِّينِ وَالْخُلُقِ فَسَادُهُ وَمَيْلُهُ عَلَى الْمُثُلِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْعَوَجَ (بِالتَّحْرِيكِ) يُقَالُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَالْعِوَجَ (بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ) يُقَالُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْفِكْرِ وَالْبَصِيرَةِ كَالدِّينِ وَالْمَعَاشِ.
وَأَمَّا بَغْيُ الظَّالِمِينَ - أَيْ طَلَبُهُمْ - أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللهِ عِوَجًا، أَيْ غَيْرَ مُسْتَوِيَةٍ وَلَا مُسْتَقِيمَةٍ فَيَكُونُ عَلَى صُوَرٍ شَتَّى، فَأَصْحَابُ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ - وَهُوَ الشِّرْكُ - يَشُوبُونَ التَّوْحِيدَ بِشَوَائِبَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، أَعَمُّهَا الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا الدُّعَاءُ، فَلَا يَتَوَجَّهُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ غَيْرَهُ عَلَى أَنَّهُ شَفِيعٌ عِنْدَهُ وَوَاسِطَةٌ لَدَيْهِ أَوْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ (وَمَا أُمِروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (٩٨: ٥) (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (٢٢: ٣١) (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (٦: ١٦١) (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦: ٧٩) بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ تَوًّا وَيَدْعُونَهُ مِنْ دُونِهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ رَبُّهُمْ وَلَا يَذْكُرُونَهُ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ يَتَأَوَّلُونَ فَيَقُولُ الْعَامِّيُّ: الْمَحْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ، الْوَاسِطَةُ لَا تُنْكَرُ. وَيَقُولُ الْمُعَمَّمُ دَعِيُّ الْعِلْمِ: هَذَا تَوَسُّلٌ وَاسْتِشْفَاعٌ، لَا عِبَادَةَ وَلَا دُعَاءَ، وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَوْلِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ كَالشُّهَدَاءِ. وَقَدْ فَنَّدْنَا دَعْوَاهُمْ مِرَارًا.
وَالظَّالِمُونَ بِالِابْتِدَاعِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا بِمَا يَزِيدُونَ فِي الدِّينِ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ، الَّتِي لَمْ تَرِدْ
380
فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْبِدَعِ النَّظَرِيَّاتُ الْفِكْرِيَّةُ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْجَدَلِيَّةُ، وَمُحَاوَلَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الدِّينِ وَالْفَلْسَفَةِ الْعَقْلِيَّةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الِابْتِدَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَأَمَّا الِابْتِدَاعُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْوَارِدَةِ وَالشَّعَائِرِ الْمَشْرُوعَةِ، فَمِنْهُ مَا كَانَ كَاحْتِفَالَاتِ الْمَوَالِدِ وَتَرْتِيلَاتِ الْجَنَائِزِ وَأَذْكَارِ الْمَآذِنِ - كَالزِّيَادَةِ فِي الْأَذَانِ - وَمَا كَانَ فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ فِي إِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا وَتَشْرِيفِهَا وَإِيقَادِ الْمَصَابِيحِ وَالسُّرُجِ مِنَ الشُّمُوعِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهَا، فَإِنَّ خَوَاصَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِآرَاءٍ سَقِيمَةٍ، وَأَقْيِسَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ عَقِيمَةٍ، وَاسْتِحْسَانَاتٍ يُنْكِرُونَ أُصُولَهَا وَيَأْخُذُونَ بِفُرُوعِهَا. وَعَوَامُّهُمْ يَقُولُونَ: قَالَ فُلَانٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، وَفَعَلَ فُلَانٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الصَّالِحِينَ، وَنَحْنُ لَا نَفْهَمُ كَلَامَ اللهِ وَلَا كَلَامَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا نَفْهَمُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ، بَلْ وُجِدَ وَلَا يَزَالُ يُوجَدُ مِنَ الْمُعَمَّمِينَ الْمُدَرِّسِينَ مَنْ يُصَرِّحُونَ فِي دُرُوسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ فِي زَمَانِهِمْ أَنْ يَعْمَلَ بِكِتَابِ اللهِ وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بِمَا نَقَلَهُ الْمُحَدِّثُونَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يُلَقِّنُهُ إِيَّاهُ أَيُّ عَالِمٍ يَنْتَمِي إِلَى مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ مَا يُلَقَّنَهُ عَنْ إِمَامِ الْمَذْهَبِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مَبْنِيٍّ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَذْهَبًا كَعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ مَالِكٍ بِشَرْطِهِ، وَكَوْنُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْخِلَافِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ.
وَالظَّالِمُونَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا بِالتَّشْكِيكِ فِيهَا بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ يَقْصِدُ بِهَا بُطْلَانَ الثِّقَةِ بِهَا وَالصَّدَّ عَنْهَا، وَمَذَاهِبُ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَنَافِذِ التَّشَيُّعِ وَالتَّصَوُّفِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ كَانَ لِوَاضِعِي تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ مِنَ الْفُرْسِ غَرَضٌ سِيَاسِيٌّ مِنْ إِفْسَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَهْلِهِ وَإِحْدَاثِ الشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ إِضْعَافُ الْعَرَبِ وَإِزَالَةُ مُلْكِهِمْ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ إِعَادَةِ مُلْكِ فَارِسٍ وَسُلْطَانِ الْمِلَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، ثُمَّ رَسَخَ بِالتَّقْلِيدِ فِي طَوَائِفَ مِنْ أَجْنَاسٍ أُخْرَى حَتَّى الْعَرَبِ جَهِلُوا أَصْلَهُ، وَمِنَ
الْأَفْرَادِ مَنْ يُحَاوِلُ إِفْسَادَ دِينِ قَوْمِهِ عَلَيْهِمْ لِيَكُونُوا مِثْلَهُ، فَلَا يَكُونُ مُحْتَقَرًا بَيْنَهُمْ، وَمِنْ زَنَادِقَةِ عَصْرِنَا مَنْ يُحَاوِلُونَ هَذَا لِظَنِّهِمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا كَالْإِفْرِنْجِ فِي حَضَارَتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ إِلَّا إِذَا تَرَكُوا دِينَهُمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ الْإِفْرِنْجَ يَتَعَصَّبُونَ لِدِينِهِمْ وَيُنْفِقُونَ الْمَلَايِينَ فِي سَبِيلِ نَشْرِهِ.
وَالظَّالِمُونَ فِي الْأَحْكَامِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا بِتَرْكِ تَحَرِّي مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنِ الْتِزَامِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، بِأَلَّا يُحَابِي أَحَدٌ لِعَقِيدَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ، وَلَا لِغِنَاهُ أَوْ قُوَّتِهِ، وَلَا يَهْضِمُ حَقَّ أَحَدٍ لِضَعْفِهِ أَوْ فَقْرِهِ، وَلَا لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ
381
(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (٥: ٨) بَلْ مِنْهُمْ مَنْ بَغَى هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْعَادِلَةَ الْمُعْتَدِلَةَ عِوَجًا فِي أَسَاسِ نِظَامِهَا وَأُصُولِ أَحْكَامِهَا، فَجَعَلَ حُكُومَتَهَا مِنْ قَبِيلِ الْحُكُومَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، ذَاتِ السُّلْطَةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ.
وَالظَّالِمُونَ بَالَغُوا فِيهَا جَعَلُوا يُسْرَهَا عُسْرًا، وَسَعَتَهَا ضِيقًا وَحَرَجًا، وَزَادُوا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ، أَضْعَافَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا صَحَّ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، مِمَّا ضَاقَتْ بِهِ مُطَوَّلَاتُ الْأَسْفَارِ، الَّتِي تَنْقَضِي دُونَ تَحْصِيلِهَا الْأَعْمَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ غَايَةَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا الْفَقْرَ وَالْمَهَانَةَ، وَالذِّلَّةَ وَالِاسْتِكَانَةَ، خِلَافًا لِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ عِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَوْنِهِمْ أَوْلَى بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا مِنَ الْكَافِرِينَ.
فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَنْ يَبْغُونَهَا عِوَجًا مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهَا وَالْمُدَّعِينَ لِهِدَايَتِهَا، وَأَمَّا أَعْدَاؤُهَا الصُّرَحَاءُ فَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي خَاتَمِ رُسُلِهِ جَهْرًا بِمَا يَخْلُقُونَ مِنَ الْإِفْكِ، وَمَا يُحَرِّفُونَ مِنَ الْكَلِمِ، وَمَا يَخْتَرِعُونَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَمَا يُنَمِّقُونَ مِنَ الْمُشَكِّكَاتِ وَأَمْرُهُمْ مَعْرُوفٌ، وَأَجْرَؤُهُمْ عَلَى الْبُهْتَانِ وَالزُّورِ وَتَعَمُّدِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ فَرِيقَانِ - دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ الطَّامِعُونَ فِي تَنْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ حِرْفَةً عَلَيْهَا مَدَارُ رِزْقِهِمْ، وَرِجَالُ السِّيَاسَةِ الِاسْتِعْمَارِيُّونَ الطَّامِعُونَ فِي اسْتِعْبَادِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِعْمَارِ بِلَادِهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ظَهِيرٌ لِلْآخَرِ، فَالْحُكُومَةُ السُّودَانِيَّةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ حَرَّمَتْ مَجَلَّةَ الْمَنَارِ عَلَى مُسْلِمِي السُّودَانِ بِسَعْيِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَسَعَايَتُهُمْ لِأَنَّ دَعْوَتَهُمْ لَا تَرُوجُ فِي قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْمَنَارَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) فَهُوَ خَاصٌّ بِمُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنْ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَهُمْ شَرُّ تِلْكَ الْفِرَقِ كُلِّهَا - أَيْ وَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ كُفْرًا رَاسِخًا
قَدْ صَارَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى إِجْرَامِهِمْ فَيَتُوبُوا مِنْهُ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (بِالْآخِرَةِ) عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ فَإِنَّ أَصْلَ كُفْرِهِمْ قَدْ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْهُ لَهُ تَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي إِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ التَّقْدِيمَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ بِلَعْنِ هَؤُلَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَصِفُهُمْ بِالظُّلْمِ، وَيُسْنِدُ إِلَيْهِمُ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَبَغْيِهَا عِوَجًا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَيَصِفُهُمْ بِالْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ زَالَ الْكُفْرُ بِهَا، بِعَيْنِ الْيَقِينِ فِيهَا، وَفَاتَ زَمَنُ الصَّدِّ عَنْهَا، وَبَغْيِهَا عِوَجًا وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا تَصْوِيرُ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، لِيَتَذَكَّرُوهَا هُمْ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ التَّأْذِينَ بِهَا، وَيَعْلَمُوا عَدْلَ اللهِ بِعِقَابِهِمْ عَلَيْهَا. وَلِيَعْتَبِرَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مَنْ يَتَصَوَّرُ حَالَهُمْ هَذِهِ فَكَانَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْدِلَ هُنَا عَنْ صِيغَةِ الْمَاضِي إِلَى صِيغَةِ الْحَالِ حَتَّى يُخَيَّلَ
382
أَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْكَلَامِ. كَمَا كَانَتِ الْبَلَاغَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي تَحَاوُرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ إِلَى صِيغَةِ الْمَاضِي لِإِثْبَاتِ الْقَطْعِ بِهِ وَتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُمْ بِمَا ذُكِرَ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤَذِّنِ.
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) أَيْ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حِجَابٌ يَفْصِلُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ إِلَيْهِ. وَالْحِجَابُ مِنَ الْحَجْبِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ - كَالْكِفَافِ مِنَ الْكَفِّ وَالصِّوَانِ مِنَ الصَّوْنِ - وَهُوَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. وَالْحِسِّيُّ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ دُونَ الرُّؤْيَةِ كَالزُّجَاجِ وَمَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَحْدَهَا كَالسُّتُورِ، وَمَا يَمْنَعُهُمَا جَمِيعًا كَالْأَسْوَارِ وَالْحِيطَانِ. وَمِنَ الْحَجْبِ الْمَعْنَوِيِّ مَنْعُ الْإِرْثِ حِرْمَانًا أَوْ نُقْصَانًا، وَهُوَ الْحِجَابُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ هُوَ السُّورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينِ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسُ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (٥٧: ١٣) الْآيَةَ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ فِي بَاطِنِهِ وَالنَّارَ مِنْ قِبَلِ ظَاهِرِهِ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَكُونُ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ) قَالَ: يَعْنِي بِالسُّورِ حَائِطًا بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ - يَعْنِي بَاطِنَ السُّورِ - فِيهِ الرَّحْمَةُ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يَعْنِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَرَوَى هُوَ وَرَوَاهُ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ قَبْلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا يُنَاكِحُونَهُمْ
وَيُعَاشِرُونَهُمْ وَكَانُوا مَعَهُمْ أَمْوَاتًا، وَيُعْطَوْنَ النُّورَ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ إِذَا بَلَغُوا السُّورَ يُمَازُ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَالسُّورُ كَالْحِجَابِ فِي الْأَعْرَافِ فَيَقُولُونَ: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسُ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) الْأَعْرَافُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَجَمْعٌ لِكَلِمَتَيِ الْأَعْرَفِ وَالْعُرْفِ (بِوَزْنِ قُفْلٍ) وَيُطْلَقُ عَلَى أَعَالِي الْأَشْيَاءِ وَأَوَائِلِهَا وَكُلِّ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ عُرْفُ الدِّيكِ وَعُرْفُ الْفَرَسِ وَهُوَ الشَّعْرُ عَلَى أَعْلَى الرَّقَبَةِ، وَعُرْفُ السَّحَابِ، رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِوَايَاتٌ: (١) الْأَعْرَافُ هُوَ الشَّيْءُ الْمُشْرِفُ: (٢) سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ: (٣) تَلٌّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ جَلَسَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. (٤) السُّورُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَعْرَافَ هُوَ ذَلِكَ السُّورُ وَالْحِجَابُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ وَأَهْلِهِمَا، أَوْ أَعَالِيهِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا أُولَئِكَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ جَمِيعًا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِمَا - فِيمَا يَظْهَرُ - فَيَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْهُمَا بِسِيمَاهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ
: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٨٠: ٣٨ - ٤١) وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَذِكْرُهُ عَبَثٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ التَّنْزِيلُ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ مَعْرِفَةُ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ وَهُوَ لَا يَظْهَرُ هُنَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (٧: ٤٨) فَهَذِهِ سِيمَا خَاصَّةٌ لِأَنَّهَا لِأَفْرَادٍ مَخْصُوصِينَ، وَتِلْكَ سِيمَا عَامَّةٌ لِأَنَّهَا لِفَرِيقَيْنِ أَفْرَادُهُمَا غَيْرُ مَحْصُورِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ عَدَّهَا الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: (الْأُولَى) أَنَّهُمْ بَعْضُ أَشْرَافِ الْخَلْقِ الْمُمْتَازِينَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ وَلَا مِنَ الْأَشْرَارِ الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا النَّارَ، بَلْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ خَرَجُوا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِدُونِ إِذْنِ آبَائِهِمْ وَاسْتُشْهِدُوا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعْصِيَةُ آبَائِهِمْ - وَهَذَا خَاصٌّ يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ الَّذِي قَبْلَهُ. (وَالثَّالِثَةُ) أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ صِفَةٍ خَاصَّةٍ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ بَلْ مَنْزِلَةٍ بَيْنَهُمَا هِيَ الْأَعْرَافُ، وَفِي هَؤُلَاءِ أَقْوَالٌ: (١) أَهْلُ الْفَتْرَةِ: (٢) مُؤْمِنُو الْجِنِّ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ فِي أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ، وَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَضْعِ: (٣) أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ سِنِّ التَّكْلِيفِ: (٤) أَوْلَادُ الزِّنَا: (٥) أَهْلُ الْعَجَبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ لَا وَجْهَ لَهُمَا الْبَتَّةَ. (٦) آخِرُ مَنْ يَفْصِلُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَهُمْ عُتَقَاؤُهُ مِنَ النَّارِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ " أَقْوَامٌ كَانُوا قَدِ امْتَحَشُوا فِي النَّارِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، فَيُخْرِجُهُمُ اللهُ مِنْهَا وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ فِيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ " وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَلَهُمْ أَقْوَالٌ: (١) أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ السِّيَاقِ اهـ. وَإِنَّمَا عَدُّهُ غَرِيبًا عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِتَسْمِيَتِهِ الْمَلَائِكَةَ رِجَالًا وَهُمْ
384
لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ.
(٢) أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَجْعَلُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّهُمْ شُهَدَاؤُهُ عَلَى الْأُمَمِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الرَّازِيُّ.
(٣) أَنَّهُمْ عُدُولُ الْأُمَمِ الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ، فَكَمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَشْهَدُ عَلَى أُمَّتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُهَدَاءُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَهُ - ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْأُمَمِ شُهَدَاءَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَقَالَ فِي خِطَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (٢: ١٤٣) وَقَالَ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٣٩: ٦٩) إِلَخْ. وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِفَضَائِلِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ، وَالْتِزَامِهِمْ لِلْخَيْرِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَوْلَاهُمْ لَفُقِدَتِ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ.
(٤) أَنَّهُمُ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ ذُو الْجَنَاحَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَجْلِسُونَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الصِّرَاطِ يُعْرَفُونَ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَ الْآلُوسِيُّ أَنَّ الضَّحَّاكَ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ نَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ تَفَاسِيرِ الشِّيعَةِ، وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ، أَيْ فَيُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمْ أَوْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَمْيِيزِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ عَلَى الصِّرَاطِ لِمَنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ، وَمَنْ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا خَاصَّةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالنَّوَاصِبِ وَأَيْنَ الْأَعْرَافُ مِنَ الصِّرَاطِ؟ هَذَا بَعِيدٌ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ جِدًّا.
(٥) قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ. وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا تُعْقَلُ حِكْمَتُهُ إِذَا رُدَّ إِلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ فِيهِ غَرَابَةً.
وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ - بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، وَفِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الرِّجَالِ وَحْدَهُمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِرِجَالٍ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَالتَّغْلِيبُ لَا يَظْهَرُ هُنَا، كَمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ خِلَافًا لِأَبِي مِجْلَزٍ إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يَقْبَلُهُ كَأَنْ يَقُولَ: " عِبَادٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ " وَيُنَافِي كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا آخِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، كَمَا يُنَافِي كَوْنَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الشُّهَدَاءَ وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
385
(وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ نَادَوْهُمْ بِقَوْلِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا السَّلَامَ يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبِشَارَةُ بِالنَّجَاةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ فَإِنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ بِالسِّيمَا إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ كُلٍّ فِي دَارِهِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الشُّهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ فَهُوَ تَحِيَّةٌ مَحْضَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)
(٥٦: ٢٥، ٢٦)
وَلَا يَمْنَعُ هَذَا الْوَجْهُ وَلَا ذَاكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ وَرَدَ التَّنْزِيلُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِتَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنَعِمَ عُقْبَى الدَّارِ) (١٣: ٢٣، ٢٤)
وَقَوْلُهُ: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَيْ نَادَوْهُمْ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا مَعَهُمْ وَهُمْ طَامِعُونَ فِي ذَلِكَ، أَوْ حَالَ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدُ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا لِمَا بَدَا لَهُمْ مِنْ يُسْرِ الْحِسَابِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِي الْمَوْقِفِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، لَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَدْخُلُوهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْمَوْقِفِ ادْخُلُوا النَّارَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَلَوْ نَادَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلَ انْتَهَى بِالْمَعْنَى لَا أَذْكُرُ أَيَّ الْمَكَانَيْنِ قَدَّمَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ.
(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَفَادَ هَذَا التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ أَنَّهُمْ يُوَجِّهُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ بِالْقَصْدِ وَالرَّغْبَةِ وَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ رُؤْيَةَ أَصْحَابِ النَّارِ. فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَهُمْ، أَيْ حُوِّلَتْ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَلْقَاهُمْ وَتُبْصِرُهُمْ فِيهَا - وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ تَوَخٍّ وَلَا رَغْبَةٍ، بَلْ بِصَارِفٍ يَصْرِفُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ بِمُقْتَضَى سُرْعَةِ تَحَوُّلِهَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ - قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ حَيْثُ هُمْ وَلَا حَيْثُ يَكُونُونَ. وَهَذَا الدُّعَاءُ لَا يَظْهَرُ صُدُورُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِعْظَامُ حَالِ الظَّالِمِينَ وَاسْتِفْظَاعُ مَآلِهِمْ، لَا حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ، وَيُجَابُ بِهَذَا الْأَخِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْأَنْبِيَاءُ هُمْ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ.
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ أَلْيَقُ بِحَالِ مَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَكَانُوا مَوْقُوفِينَ
386
مَجْهُولًا مَصِيرُهُمْ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمُ النَّارَ وَقَعَدَتْ بِهِمْ
سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ فَقَالَ لَهُمْ: فَاذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ يُحَاسِبُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) الْآيَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ وَيَرْجَحُ. قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ عُرِضَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إِلَى يَسَارِهِمْ رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ فَقَالُوا: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ (قَالَ) : فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أَمَةٍ نُورًا، فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ. فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (٦٦: ٨) وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ فَإِنَّ النُّورَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا (قَالَ سَعِيدٌ) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرٌ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَةً. ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَحْدَانُهُ أَعْشَارَهُ اهـ.
فَهَذَا أَوْضَحُ بَيَانٍ مُفَصَّلٍ لِلْقَوْلِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ، وَلِلْأَثَرَيْنِ الْمَوْقُوفَيْنِ فِيهِ قُوَّةُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْقِفِ وَقِيلَ أَنْ يَجْعَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ، فَإِنَّ السُّورَ الَّذِي فُسِّرَتِ الْأَعْرَافُ بِهِ أَوْ بِأَعْيَالِهِ يُضْرَبُ بَعْدَ ذَهَابِهِمْ مِنَ الْمَوْقِفِ يَسِيرُونَ بِنُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ آيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ كَلِمَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَعْرِفَتَهُمْ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَنِدَاءَهُمْ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْعُنْوَانُ قَبْلَ وُجُودِهِمْ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى التَّأْوِيلِ بِجَعْلِهِ مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: (أَعْصِرُ خَمْرًا)
(١٢: ٣٦) وَيُجَابُ عَنْ تَخْصِيصِ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُخَاطِبُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ دُونَ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
387
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)
هَذَا النِّدَاءُ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّبِيِّينَ أَوْ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِهِ عَمَّنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِهِ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) كَرَّرَ ذِكْرَهُمْ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ بِهِ فَلَمْ يَقُلْ: (وَنَادَوْا) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَكَوْنِ هَذَا النِّدَاءِ خَاصًّا فِي مَوْضُوعٍ خَاصٍّ، فَكَانَ مُسْتَقِلًّا دُونَ مَا قَبْلَهُ الْمُوَجَّهِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي جُمْلَتِهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ لِمَنْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِغِنَاهُمْ وَقُوَّتِهِمُ الْمُحْتَقَرِينَ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمْ، أَوْ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ عُصْبَةٍ تَمْنَعُهُمْ وَتَذُودُ عَنْهُمْ، الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَغْنَاهُ اللهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ قَوِيًّا فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ نَعِيمَ الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ هُنَالِكَ آخِرَةٌ (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمَعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٤، ٣٥) وَمِنْهُمْ طُغَاةُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْإِسْلَامَ فِي مَكَّةَ وَاضْطَهَدُوا أَهْلَهُ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَا أَهْلِ النَّارِ الْعَامَّةِ كَسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمُ الْخَاصَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِسِيمَا الْمُسْتَكْبِرِينَ إِذْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ رَذِيلَةٌ خَاصَّةٌ صِفَةٌ وَعَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ " فَيَعْرِفُهُ فَيَشْفَعُ لَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ ثُمَّ يَمْسَخُهُ اللهُ ذِيخًا مُنْتِنًا لِيَزُولَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خِزْيُهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مَسْخَهُ ضَبْعًا مُنَاسِبٌ لِحَمَاقَتِهِ وَنَتْنِ الشِّرْكِ [رَاجِعْ ص٤٤٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ] وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. أَيْ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ لِلْمَالِ وَكَذَا لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاسْتِكْبَارُكُمْ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْ عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَلَا أَفَادَكُمْ شَيْئًا مِنَ الثَّوَابِ؟.
(أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أَيْ يُشِيرُونَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ
388
كَانُوا يَضْطَهِدُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَآلِ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ مُتَهَكِّمِينَ بِخِزْيِهِمْ وَفَوْزِ مَنْ كَانُوا يَحْتَقِرُونَهُمْ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنَالُهُمْ بِرَحْمَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ
مِنَ الدُّنْيَا مَا أَعْطَاكُمْ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أَيْ قِيلَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ مِمَّا يَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ مِنْ جَرَّاءِ شَيْءٍ يُنَغِّصُ عَلَيْكُمْ حَاضِرَكُمْ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَلَكِنَّهُ قَلَّ فِي كَلَامِ الْمُوَلِّدِينَ، حَتَّى لَا تَرَاهُ إِلَّا فِي كَلَامِ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْمُنْشِئِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِهَؤُلَاءِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إِلَخْ. وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ؛ إِذْ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ أَنْ يُخَاطِبُوا مَنْ هُمْ فَوْقَهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ لَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا بَعْدَهُ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَلِيقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْمُتَبَادَرُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ فِي النَّارِ قَدْ أَقْسَمُوا بِاللهِ لَا يَنَالُ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مِنَ اللهِ رَحْمَةٌ، فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ فَكَانُوا آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا فِيمَا سَمِعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مُعَارَضٌ بِمَا فِي الصِّحَاحِ فِي آخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ: أَنَّ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ - إِنْ صَحَّ وُجُودُ الْأَعْرَافِ حِينَئِذٍ - بَعْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَقَبْلَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ - لَوْلَا مَا يُنَافِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ - يُرَجِّحُ أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ هُنَالِكَ تَمْيِيزٌ وَتَفْضِيلٌ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ بِرِجَالٍ وَإِنْ أَوَّلَهُ، أَوْ مُسَلَّمٌ بِكَوْنِهِمْ فِي صُورَتِهِمْ. وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يُرَجِّحَانِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ بِمَعُونَةِ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ، يُوقَفُونَ عَلَى الْأَعْرَافِ طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ يَظْهَرُ فِيهَا عَدْلُ اللهِ تَعَالَى بِعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ بِأَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَهُمْ، وَلَا بِأَصْحَابِ السَّيِّئَاتِ الرَّاجِحَةِ بِدُخُولِ النَّارِ مَعَهُمْ وَلَوْ بَقَوْا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لَكَانَ عَدْلًا وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَدْلِ بِالْفَضْلِ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ إِخْرَاجِ مَنْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقِسْمَةِ الثُّنَائِيَّةِ (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)
(٤٢: ٧).
وَكُلٌّ مِنْ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا التَّرْجِيحُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَهُ مُرَجِّحَاتٌ
وَمُعَارَضَاتٌ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهَا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ نِدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) (٤٤) الْآيَةَ. وَنِدَاءِ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ الَّذِي يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الْآخِرَةِ تَقْتَضِي إِمْكَانَ إِفَاضَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ عَلَى مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ مِنَ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ، وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَهُ الْمَعْقُولَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ. وَإِفَاضَةُ الْمَاءِ صَبُّهُ وَمَادَّةُ الْفَيْضِ فِيهَا مَعْنَى الْكَثْرَةِ، وَمَا رَزَقَهُمُ اللهُ يَشْمَلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَ الْمَاءِ مِنْ أَشْرِبَةٍ وَ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ: (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) لِلتَّخْيِيرِ فَهِيَ لَا تَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَيُقَدِّرُ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مُنَاسِبًا لِلرِّزْقِ عَلَى حَدِّ " عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا " وَالصَّوَابُ أَنَّ الْفَيْضَ وَالْإِفَاضَةَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الْمَاءِ وَالدَّمْعِ فَيُقَالُ فَاضَ الرِّزْقُ وَالْخَيْرُ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ أَعْطَاهُ غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ - أَيْ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. وَعَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِفَاضَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِلرَّاغِبِ الَّذِي جَعَلَهَا وَعَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِفَاضَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِلرَّاغِبِ الَّذِي جَعَلَهَا اسْتَعَارَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَسْتَجْدُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَتَمَتَّعُونَ بِهَا مِنْ شَرَابٍ وَطَعَامٍ، وَقَدَّمُوا طَلَبَ الْمَاءِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي " سُمُومٍ وَحَمِيمٍ " يَكُونُ شُعُورُهُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ أَشَدَّ مِنْ شُعُورِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ الطَّيِّبِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِاسْتِجْدَاءِ: يُنَادِي الرَّجُلُ أَخَاهُ
فَيَقُولُ: يَا أَخِي أَغِثْنِي فَإِنِّي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ: أَجِبْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الطَّلَبِ قَالَ: يَسْتَسْقُونَهُمْ وَيَسْتَطْعِمُونَهُمْ - وَفِي قَوْلِهِ: (حَرَّمَهُمَا) قَالَ: طَعَامَ الْجَنَّةِ وَشَرَابَهَا. وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ وَالْبَيْهَقِيُّ
390
فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَرِبَ مَاءً بَارِدًا فَبَكَى فَسُئِلَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ ذَكَرْتُ آيَةً فِي كِتَابِ اللهِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) (٣٤: ٥٤) فَعَرَفْتُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَشْتَهُونَ إِلَّا الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَا حَصْرَ فِيهَا. وَفِي الشُّعَبِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ سَقْيُ الْمَاءِ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) " وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ " سَقْيُ الْمَاءِ ".
(قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الْحَرَامُ فِي اللُّغَةِ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ الْمَنْعُ قِسْمَانِ: تَحْرِيمٌ بِالْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ كَتَحْرِيمِ اللهِ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ وَأَرْضِ الْحَرَمِ أَنْ يُؤْخَذَ صَيْدُهَا أَوْ يُقْطَعَ شَجَرُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا (أَيْ يُنْزَعَ حَشِيشُهَا الرَّطْبُ). وَتَحْرِيمٌ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَهْرِ كَتَحْرِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا عَلَى الْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النارُ) (٥: ٧٢) أَيْ قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الِاسْتِجْدَاءِ: إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ مَاءَ الْجَنَّةِ وَرِزْقَهَا عَلَى الْكَافِرِينَ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا، فَلَا يُمْكِنُ إِفَاضَةُ شَيْءٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي النَّارِ، فَإِنَّ لَهُمْ مَاءَهَا الْحَمِيمَ وَطَعَامَهَا مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ.
وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ هَذَا الْحِرْمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ أَعْمَالًا لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ فَتَكُونُ أَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ، بَلْ هِيَ إِمَّا لَهْوٌ وَهُوَ مَا يُشْغِلُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْجِدِّ وَالْأَعْمَالِ الْمُفِيدَةِ بِالتَّلَذُّذِ بِمَا تَهْوَى النَّفْسُ، وَإِمَّا لَعِبٌ وَهُوَ مَا لَا تُقْصَدُ مِنْهُ فَائِدَةٌ صَحِيحَةٌ كَأَعْمَالِ الْأَطْفَالِ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَكَانَ كُلُّ هَمِّهِمُ التَّمَتُّعَ بِشَهَوَاتِهَا وَلِذَّاتِهَا - حَرَامًا كَانَتْ أَوْ حَلَالًا - لِأَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا،
وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا لَهَا سَعْيَهَا بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَتُرَقِّيهَا فَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا. بَلْ كَانَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ لَا مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا لِذَلِكَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِالتَّمَتُّعِ بِنِعَمِ اللهِ فِيهَا الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ.
وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٦: ٢٩) إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (٣٢) وَفِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي اللَّعِبِ وَاللهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ
391
فِيهَا وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ، وَتَقْدِيمِ اللهْوِ عَلَى اللَّعِبِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَلْيُرَاجَعْ أَيْضًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (٦: ٧٠) وَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ فِي تَفْسِيرِ اتِّخَاذِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا.
(فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) هَذَا مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مَحْدُودٌ بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مِقْدَارٌ، وَالْمُرَادُ: نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمَنْسِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِدُهُ أَحَدُكُمَا كَمَا جَعَلُوا هَذَا الْيَوْمَ مَنْسِيًّا أَوْ كَالْمَنْسِيِّ بِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّزَوُّدِ لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (٢: ١٩٨) أَيْ لِهِدَايَتِهِ لَكُمْ - لَا لِلتَّشْبِيهِ - عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ: الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ.
(وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) بَلْ يَتَعَيَّنُ فِيهِ التَّعْلِيلُ، فَنِسْيَانُ اللهِ لَهُمُ الْمُرَادُ بِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ - مَعْلُولٌ بِنِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يَوْمِ الْجَزَاءِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ لَهُ وَبِجُحُودِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ بِدِينِهِ وَرَفْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَيَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا.
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)
مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْجَزَاءِ وَحَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ إِنْذَارٌ عَامٌّ وَمَوْضُوعُهُ عَامٌّ، إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَى بَادِيَ بَدْءٍ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَلِهَذَا جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضَمَائِرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً تَشْمَلُ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ وَيَكُونُ الْكِتَابُ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا لِلْجِنْسِ، وَأَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَوْقِعُهَا مِمَّا قَبْلَهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ بَيَانُ حُجَّةِ اللهِ عَلَى
عَلَى الْبَشَرِ كَافَّةً، وَإِزَاحَةُ عِلَلِ الْكُفَّارِ وَإِبْطَالُ مَعَاذِيرِهِمْ إِنْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لِذَلِكَ الْجَزَاءِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا الثَّانِي. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أَيْ وَلَقَدْ جِئْنَا هَؤُلَاءِ النَّاسَ بِكِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، كَامِلِ التِّبْيَانِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. فَصَّلْنَا آيَاتِهِ تَفْصِيلًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَسَعَادَتِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، حَالَ كَوْنِهِ أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مَنَارَ هِدَايَةٍ عَامَّةٍ وَسَبَبَ رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانَ إِذْعَانٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَهُوَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الْعِلْمِيِّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِرَحْمَتِهِ.
التَّفْصِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْحَقَائِقِ وَالْمَسَائِلِ الْمُرَادِ بَيَانُهَا مَفْصُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِمَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ، وَاخْتِلَاطَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي الْأَفْهَامِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ذِكْرَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ وَلَا التَّطْوِيلَ بِبَيَانِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ، فَفِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِنَا: أَسْهَبَ حَيْثُ يَنْبَغِي الْإِسْهَابُ، وَأَوْجَزَ حَيْثُ يَكْفِي الْإِيجَازُ.
مِثَالُ ذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ أَنَّ الْبَشَرَ قَدْ فُتِنُوا بِالشِّرْكِ، وَلَبِسَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْأَمْرُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَةِ الرَّبِّ خَالِقِ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرِ أُمُورِهِ هُوَ الْوَاجِبُ لَهُ الْمُمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ، دُونَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ التَّوَجُّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ، الْمُقَرَّبِينَ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِمْ إِلَيْهِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ مَا يَعْجِزُ الْمَرْءُ عَنْ نَيْلِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَمَحْضُهَا، وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعْبُودًا وَإِلَهًا. وَشُبْهَتُهُمْ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اتِّخَاذَ وَلِيٍّ مَعَ اللهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ مِمَّا يُرْضِيهِ. وَأَنَّ الْمَحْظُورَ هُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْهُ، مَأْخَذُ هَذَا مَا يَعْهَدُونَ مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الرَّعَايَا الضُّعَفَاءُ الْمُسْتَذِلُّونَ بِوُزَرَائِهِمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِمْ بِحَوَاشِيهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ قَرَّرَ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ هَذَا الشِّرْكِ وَأَطْنَبَ فِي تَفْصِيلِهِ كُلَّ الْإِطْنَابِ.
وَمِثَالُهُ فِي الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا مِمَّا يَكْفِي فِيهِ الْقُدْوَةُ وَالتَّأَسِّي بِالرَّسُولِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ بَيَانُ التَّنْزِيلِ، فَلِهَذَا لَمْ يُبَيِّنْهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تُؤَدَّى بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِإِقَامَتِهَا أَيِ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَقْوَمِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَبَيْنَ حِكْمَتِهَا وَفَائِدَتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقَامَةِ لَهَا وَالْحِكْمَةِ فِي وُجُوبِهَا مِمَّا يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ.
وَمِثَالُهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالِارْتِقَاءُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا فِيهِ التَّقْلِيدَ وَالْأَخْذَ بِأَقْوَالِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَرُؤَسَاءِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَلِهَذَا
كَرَّرَ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَضَلَالِ الْمُقَلِّدِينَ، وَجَهْلِ الظَّانِّينَ وَالْمُرْتَابِينَ، وَكَرَّرَ الْحَثَّ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْبُرْهَانِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَنْ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَبِمِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْبُوعَ الْهُدَى وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْمَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَا شَقَاءَ الطَّاعِنِينَ فِي هِدَايَتِهِ.
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أَيْ لَيْسَ أَمَامَهُمْ شَيْءٌ يَنْتَظِرُونَهُ فِي أَمْرِهِ إِلَّا وُقُوعَ تَأْوِيلِهِ. وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ إِلَيْهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ الَّذِي يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ. فَالنَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ كَتَأْوِيلِ
الرُّؤْيَا هُوَ عَاقِبَتُهُمَا. وَالْمَآلُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) قَالَ: عَاقِبَتَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: عَوَاقِبَهُ، مِثْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا وُعِدَ فِيهِ مِنْ مَوْعِدٍ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْ تَأْوِيلِهِ أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ فَيَتِمُّ تَأْوِيلُهُ يَوْمَئِذٍ إِلَخْ فَجَمَعَ كَلَامُهُ كُلَّ مَا لَهُ مَآلٌ يُنْتَظَرُ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ الصَّادِقَةِ الَّتِي وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهَا كُلًّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرٍ وَثَوَابٍ، وَالْكَافِرِينَ مِنْ خِذْلَانٍ وَعِقَابٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وَنِهَايَتُهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَزُولُ كُلُّ شُبْهَةٍ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ فِي الدُّنْيَا أَيْ تَرَكُوهُ كَالْمَنْسِيِّ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُتَحَقِّقِ فَتَمَارَيْنَا بِهِ وَأَعْرَضْنَا عَنْهُ، حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أَيْ يَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّمَنِّي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِهِ فَيَقَعُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ. وَبَعْدَ الْيَأْسِ فِيهَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، حَيْثُ يَقُولُونَ فِيهَا كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦: ١٠٠ - ١٠٢) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءَ) (٦: ٩٤) الْآيَةَ - وَإِنَّمَا يَتَمَنَّوْنَ الشُّفَعَاءَ أَوْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُمْ أَوَّلًا لِأَنَّ قَاعِدَةَ الشِّرْكِ الْأَسَاسِيَّةَ أَنَّ النَّجَاةَ عِنْدَ اللهِ وَكُلَّ مَا يَطْلُبُ مِنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَعْلَمُونَ هُنَالِكَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢١: ٢٨) يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَعْمَلُوا فِيهَا غَيْرَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِهِمُ الْأُولَى، لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لِمَرْضَاتِهِ تَعَالَى بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (آيَتَيْ ٢٧، ٢٨) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ تَمَنِّيهِمْ
394
لَوْ يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ
لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِحَالِهِمْ وَغَايَةِ تَمَنِّيهِمْ يَقُولُ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَدْسِيسهَا وَتَدْنِيسِهَا بِالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَعَدَمِ تَزْكِيَتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَيَوْمَئِذٍ يَضِلُّ وَيَغِيبُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ خَبَرِ الشُّفَعَاءِ كَقَوْلِهِمْ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٠: ١٨) فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ عِوَضٍ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي (س٦: ١٢، ٢٠) وَتَفْسِيرُ: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فِي (٦: ٢٤) وَنَحْوِهَا: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦: ٩٤).
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْمَعَادِ، سَبَبَ هَلَاكِ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانِ أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَعِبَادَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ، دُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ أَوِ ابْتَدَعَهُ لَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِخَمْسِ آيَاتٍ جَامِعَةٍ لِجُمْلَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدِّينِ بِإِيجَازٍ بَلِيغٍ ابْتَدَأَهَا بِآيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ الْهَادِيَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ بُرْهَانًا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ وَالْمَالِكُ وَالْمُدَبِّرُ وَالْمُرَبِّي، وَالْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ، أَيِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ وَمُسَاعَدَةِ الْأَسْبَابِ لَهُ، فَيَدْعُوهُ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ
395
بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ
الَّتِي يُرْجَى أَنْ تُرْضِيَهُ، وَبِالنَّذْرِ لَهُ وَالذَّبْحِ بِاسْمِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ، سَوَاءً كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ خَاصًّا بِهِ أَوْ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْبُودٍ آخَرَ هُوَ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ. وَأَمَّا اسْمُ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ (اللهُ) فَهُوَ اسْمٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي يَنْفِي الْمُوَحِّدُونَ الْحُنَفَاءُ رُبُوبِيَّةَ غَيْرِهِ وَأُلُوهِيَّةَ سِوَاهُ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ أَكْبَرُ الْأَرْبَابِ أَوْ رَئِيسُهُمْ، وَأَعْظَمُ الْآلِهَةِ أَوْ مَرْجِعُهُمُ الَّذِي يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَمْثَالُهُمْ يَنْفُونَ وُجُودَ رَبٍّ سِوَاهُ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ آلِهَةً تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ.
وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ يُطْلَقَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مَخْلُوقٍ، أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْعَالَمِ الْعِلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ - وَإِنْ كَانَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فِيهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ - وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ خَالِقَ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَاحِدٌ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَرْبَابًا كَانُوا يُقَيِّدُونَ رُبُوبِيَّتَهُمْ بِأُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرُهَا، وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٤٧٣، ٤٧٤ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَيَخُصُّونَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ بَاسِمٍ كَاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا الثَّنَوِيَّةَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَبَّيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ أَحَدُهُمَا: خَالِقُ النُّورِ وَفَاعِلُ الْخَيْرِ، وَالثَّانِي: خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَمَصْدَرُ الشَّرِّ.
فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِمَا وَحْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ تُطْلَقُ السَّمَاوَاتُ عَلَى مَا دُونَ الْعَرْشِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا وُصِفَتْ بِالسَّبْعِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ فَهِيَ مِنْ أَيَّامِ اللهِ الَّتِي يَتَحَدَّدُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ يَكُونُ فِيهِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي يَمْتَازُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ كَامْتِيَازِ أَيَّامِنَا بِمَا يَحُدُّهَا مِنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ، وَأَيَّامِ الْعَرَبِ بِمَا كَانَ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْحَرْبِ وَالْخِصَامِ، وَأَيَّامِ اللهِ الَّتِي أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِهَا هِيَ أَزْمِنَةُ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢٢: ٤٧) وَوَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠: ٤) وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ مِنْ أَيَّامِ أَرْضِنَا، الَّتِي يُحَدُّ لَيْلُ الْيَوْمِ وَنَهَارُهُ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً مِنَ السَّاعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ إِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُ خَلْقِهَا فِي أَيَّامٍ مِنْهَا. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى خَلْقَهَا وَخَلْقَ السَّمَاءِ
فِي سُورَةِ (حم السَّجْدَةِ - فُصِّلَتْ) بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَالَ: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونِ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١: ٩ - ١٢)
396
وَوَصَفَ أَصْلَ تَكْوِينِهِمَا وَحَالَ مَادَّتِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ:
(١) أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ كَانَتْ دُخَانًا أَيْ مِثْلَ الدُّخَانِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَفَسَّرَ الْجَلَالُ الدُّخَانَ بِالْبُخَارِ الْمُرْتَفِعِ، وَذَهَبَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ ظَلْمَانِيٌّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَادَّتَهَا أَوِ الْأَجْزَاءَ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنْهَا.
(٢) أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ وَاحِدَةٌ ثُمَّ فَتَقَ اللهُ رَتْقَهَا أَيْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فَخَلَقَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْعُلَا.
(٣) أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ كَانَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَكُونُ الْيَابِسَةُ وَالْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِيهِمَا وَمَصَادِرُ الْقُوتِ وَهِيَ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
(٤) أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ خُلِقَتْ مِنَ الْمَاءِ.
فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ كَالدُّخَانِ حِينَ فُتِقَتْ مِنْ رَتْقِ الْمَادَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ مُبَاشَرَةً أَوْ غَيْرَ مُبَاشَرَةٍ وَأَنَّ الْيَوْمَ الثَّانِي هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ مَائِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ بُخَارِيَّةً أَوْ دُخَانِيَّةً، وَإِنَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي تَكَوَّنَتْ فِيهِ الْيَابِسَةُ وَنَتَأَتْ مِنْهَا الرَّوَاسِي فَتَمَاسَكَتْ بِهَا، وَأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ أَجْنَاسُ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهِيَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ. فَهَذِهِ أَزْمِنَةٌ لِأَطْوَارٍ مِنَ الْخَلْقِ قَدْ تَكُونُ مُتَدَاخِلَةً. وَأَمَّا السَّمَاءُ الْعَامَّةُ وَهِيَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ
الْأَرْضِ فَقَدَ سَوَّى أَجْرَامَهَا مِنْ مَادَّتِهَا الدُّخَانِيَّةِ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ زَمَنَيْنِ كَالزَّمَنَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَ فِيهِمَا جِرْمُ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي مَوْضِعِهِ.
هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ يَتَّفِقُ مَعَ الْمُخْتَارِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامُ السَّمَاوِيَّةُ وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَانَتْ كَالدُّخَانِ، وَيُسَمُّونَهَا السَّدِيمَ، وَكَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً رَتْقًا ثُمَّ انْفَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيُصَوِّرُونَ ذَلِكَ تَصْوِيرًا مُسْتَنْبَطًا مِمَّا عَرَفُوا مِنْ سُنَنِ الْخَلْقِ، إِذَا صَحَّ كَانَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَادَّةَ السَّدِيمِيَّةَ كَانَتْ مُؤَلَّفَةً مِنْ أَجْزَاءٍ دَقِيقَةٍ مُتَحَرِّكَةٍ، وَأَنَّهَا قَدْ تَجَمَّعَ بَعْضُهَا وَانْجَذَبَ إِلَى بَعْضٍ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ مِنْهَا كُرَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِ نَفْسِهَا، وَأَنَّ شِدَّةَ الْحَرَكَةِ
397
أَحْدَثَتْ فِيهَا اشْتِعَالًا فَكَانَتْ ضِيَاءً - أَيْ نُورًا ذَا حَرَارَةٍ، وَهَذِهِ الْكُرَةُ الْأُولَى مِنْ عَالَمِنَا هِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الشَّمْسَ.
وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْكَوَاكِبَ الدَّرَارِيَّ التَّابِعَةَ لِهَذِهِ الشَّمْسِ فِيمَا نُشَاهِدُ مِنْ نِظَامِ عَالَمِنَا هَذَا قَدِ انْفَتَقَتْ مِنْ رَتْقِهَا، وَانْفَصَلَتْ مِنْ جِرْمِهَا، وَصَارَتْ تَدُورُ عَلَى مَحَاوِرِهَا مِثْلِهَا. وَمِنْهَا أَرْضُنَا هَذِهِ، فَقَدْ كَانَتْ مُشْتَعِلَةً مِثْلَهَا. ثُمَّ انْتَقَلَتْ مِنْ طَوْرِ الْغَازَاتِ الْمُشْتَعِلَةِ إِلَى طَوْرِ الْمَائِيَّةِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بِنِظَامٍ مُقَدَّرٍ بِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْعُنْصُرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا بُخَارُ الْمَاءِ فَكَانَا يَرْتَفِعَانِ مِنْهَا فِي الْجَوِّ فَيَبْرُدَانِ فَيُكَوِّنَانِ بُخَارًا فَمَاءً يَنْجَذِبُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَتَبَخَّرُ مِنْهَا حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهَا طَوْرُ الْمَائِيَّةِ. ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الْيَابِسَةُ فِي هَذَا الْمَاءِ بِتَجْمِيعِ مَوَادِّهَا طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهَا الْمَعَادِنُ وَالْأَحْيَاءُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالنَّبَاتِيَّةُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ أَجْزَاءِ الْمَادَّةِ وَتَجَمُّعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِنِسَبٍ وَمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَحْثِ وَالْحَفْرِ أَنَّ بَعْضَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ خَالِيَةٌ مِنْ آثَارِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ جَمِيعًا فَعُلِمَ أَنَّ تَكَوُّنَهَا كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا فِيهَا.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا فَصَّلُوهَا بِهِ مِمَّا رَأَوْهُ أَقْرَبَ النَّظَرِيَّاتِ إِلَى سُنَنِ الْكَوْنِ وَصِفَةِ عَنَاصِرِهِ الْبَسِيطَةِ وَحَرَكَتِهَا، وَتَكُونُ الْمَعَادِنُ مِنْهَا، وَالْمَادَّةُ الزُّلَالِيَّةُ ذَاتُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا كَانَتْ أَصْلَ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ كَالتَّغَذِّي وَالِانْقِسَامِ وَالتَّوَلُّدِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (بُرُتُوبِلَاسْمَا) وَصِفَةِ تَكَوُّنِ الْخَلَايَا الَّتِي تَرَكَّبَتْ مِنْهَا الْأَجْسَامُ الْعُضْوِيَّةُ - كُلُّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِخَلْقِ الْعَوَالِمِ أَطْوَارًا بِسُنَنٍ ثَابِتَةٍ وَتَقْدِيرٍ مُنَظَّمٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ
شَيْءٌ جُزَافًا، وَقَدْ أَرْشَدَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَامَّةِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ مَا قَالُوهُ مِنْ فُرُوعِهَا وَمَسَائِلِهَا - بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٥٤: ٤٩) وَقَوْلِهِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (٢٥: ٢) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) (٧١: ١٣ - ١٧) فَمِنْ دَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَائِقَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِعِبَارَةٍ لَا يَتَحَيَّرُونَ فِي فَهْمِهَا وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا مُجْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ فَهْمُ مَا وَرَاءَهَا مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرَقِّي الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْخَاصَّةِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ سَبَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا يَظَنُّ الْآنَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِفْرِنْجِ قَدِ انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَسَائِلِ نِظَامِ الْخَلْقِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُورَةَ كَانَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ مَغْمُورَةً فِي الْبِحَارِ فَحَصَلَ فِيهَا طِينٌ لَزِجٌ فَتَحَجَّرَ بَعْدَ الِانْكِشَافِ، وَحَصَلَ الشُّهُوقُ بِحَفْرِ السُّيُولِ وَالرِّيَاحِ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ فِيهَا الْجِبَالُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الظَّنَّ أَنَّا نَجِدُ
398
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ إِذَا كَسَرْنَاهَا أَجْزَاءَ الْمَائِيَّةِ كَالْأَصْدَافِ وَالْحِيتَانِ اهـ.
يَظُنُّ بَعْضُ قَصِيرِي النَّظَرِ وَضَعِيفِي الْفِكْرِ أَنَّ الْخَلْقَ الْأُنُفَ - (بِضَمَّتَيْنِ) : الْجُزَافُ - الَّذِي لَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَلَا تَدْرِيجَ نِظَامٍ - أَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَعَلَى عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا الظَّنَّ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مَا عُلِمَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ الْبَاحِثِينَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَسُنَنِهِ بِالْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ كُفْرُهُمْ ذُهُولًا وَاشْتِغَالًا عَنِ الصَّانِعِ بِدِقَّةِ الصَّنْعَةِ، وَتَجْوِيزًا لِحُصُولِ النِّظَامِ فِيهَا بِنَفْسِهِ مُصَادَفَةً وَاتِّفَاقًا، وَالصَّوَابُ الْمَعْقُولُ: أَنَّ النِّظَامَ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ. فَإِنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي الْعَالَمِ أَظْهَرُ الْبَرَاهِينِ عَلَى وَحْدَةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَمَا لَا نِظَامَ فِيهِ هُوَ الَّذِي قَدْ يَخْطُرُ فِي بَالِ رَائِيهِ أَنَّ وُجُودَهُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ أَوْ مِنْ قَذَفَاتِ الضَّرُورَةِ الْعَمْيَاءِ أَوْ بِفِعْلِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَأَيُّ عَاقِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْمَةٍ مِنَ الْحَصَى يَرَاهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَبَيْنَ قَصْرٍ مَشِيدٍ، فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مُتْرَفُو الْأَغْنِيَاءِ مِنْ حُجُرَاتٍ وَمَرَافِقَ، أَفَيُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ النِّظَامُ الْعَامُّ فِي الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ
وَوَحْدَةُ السُّنَنِ الَّتِي قَامَ بِهَا بِالْمُصَادَفَةِ؟ أَوْ أَثَرِ إِرَادَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؟ ! كَلَّا.
(فَإِنْ قِيلَ) : قَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ هِيَ مِنْ أَيَّامِ دُنْيَانَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا، وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: " خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتَ وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ " وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ جُزَافًا وَدُفْعَةً وَاحِدَةً لِكُلِّ نَوْعٍ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِنَا الْقَصِيرَةِ.
(فَالْجَوَابُ) : أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَهُوَ أَقْوَاهَا مَرْدُودٌ بِمُخَالَفَةِ مَتْنِهِ لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ وَأَمَّا سَنَدُهُ فَلَا يَغُرَّنَّكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَهُ بِهِ، فَهُوَ قَدْ رَوَاهُ كَغَيْرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ الْمَصِّيصِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهُوَ قَدْ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ حَدَّثَ بَعْدَ اخْتِلَاطِ عَقْلِهِ، كَمَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِيرَادِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَفِيهِ اسْتِيعَابُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَاللهُ تَعَالَى قَالَ: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وَلِهَذَا تَكَلَّمَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلُوهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ لَيْسَ مَرْفُوعًا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ. أَيْ فَيَكُونُ رَفْعُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ مِنْ خَلْطِ حَجَّاجِ بْنِ الْأَعْوَرِ. وَقَدْ هَدَانَا اللهُ مِنْ قَبْلُ إِلَى حَمْلِ بَعْضِ مُشْكِلَاتِ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُعَنْعَنَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي أَدْخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُخْتَرَعَةِ وَخَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَذِبُهُ
399
وَدَجَلُهُ لِتَعَبُّدِهِ، وَقَدْ قَوِيَتْ حُجَّتُنَا عَلَى ذَلِكَ بِطَعْنِ أَكْبَرِ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَزَى إِلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ. عَلَى أَنَّ رُوَاةَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَخْرَجُوا عَنْ كَعْبٍ خِلَافَ هَذَا كَرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَدَأَ اللهُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبَعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَجَعَلَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ. وَثَمَّةَ آثَارٌ أُخْرَى عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَقْدِيرِ الْيَوْمِ مِنْهَا بِأَلْفِ سَنَةٍ. مِنْهَا رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَهَذَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْا تِلْكَ الْأَيَّامَ بِأَسْمَاءِ أَيَّامِنَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْنُونَ أَنَّهَا مِنْهَا، عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ الْأُولَى مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ الْأُولَى.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ آدَمَ خُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا رَوَاهُ عَنْ كَعْبٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ خَلْقَ آدَمَ قَدْ كَانَ بَعْدَ أَنْ تَمَّ خَلْقُ الْأَرْضِ وَصَارَتْ أَيَّامُهَا كَمَا نَعْلَمُ، فَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَعْلَمَ رَسُولَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ كَمَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ " فُصِّلَتْ ".
وَسَرْدُ الْآيَاتِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ يُخَالِفُ بِتَفْصِيلِهِ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً تَتَعَاصَى عَلَى التَّأْوِيلِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ خَدَمُوا الدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ عَلَى كَثْرَةِ مَسَائِلِهَا مَطْعَنًا فِي كَوْنِ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَحْيًا كَسَائِرِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَجَزَمُوا بِتَفْسِيرِ الْيَوْمِ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ وَإِنْ وَرَدَ فِي وَصْفِ كُلٍّ مِنْهَا: " وَكَانَ مَسَاءَ وَكَانَ صَبَاحَ " وَهَاكَ أَمْثَلُ حَلٍّ لِلْإِشْكَالِ عِنْدَهُمْ: قَالَ الدُّكْتُورُ بوست فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بَعْدَ تَلْخِيصِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ: وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ إِنَّ قِصَّةَ الْخَلِيقَةِ فِي هَذَيْنِ الْإِصْحَاحَيْنِ لَا تُطَابِقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَالْجِيُولُوجْيَا (أَيْ عِلْمَ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ) وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ أَجَبْنَا:
(أَوَّلًا) : إِنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْخَلِيقَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ كَلَامًا عِلْمِيًّا.
(ثَانِيًا) : إِنَّهُ يُطَابِقُ قَوَاعِدَ الْعِلْمِ الرَّئِيسِيَّةَ مُطَابَقَةً غَرِيبَةً لَا يَسَعُنَا الْبَحْثُ عَنْهَا هُنَا مَلِيًّا، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَادَّةَ قَبْلَ النُّورِ وَلَازِمَةٌ لِظُهُورِ النُّورِ، وَأَنَّ النُّورَ الْمُنْتَشِرَ قَدْ سَبَقَ جَمْعَ الْمَادَّةِ عَلَى هَيْئَةِ شُمُوسٍ وَسَيَّارَاتٍ، وَأَنَّ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ لَمْ تَظْهَرْ لِلْوَاقِفِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ قَبْلَ فَصْلِ الْأَبْخِرَةِ عَنْ سَطْحِهَا وَتَكْوِينِ الْجِلْدِ، وَأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَقَتِ الْحَيَاةَ النَّبَاتِيَّةَ وَالْحَيَوَانِيَّةَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ آخِرُ الْخَلِيقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَبْحَاثًا لَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا هُنَا، وَلَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي فَصَّلَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ لِلْخَلِيقَةِ لَمَا رَضِيَ مِنَّا بوست بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَى التَّوْرَاةِ. وَمِنَ
الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ
400
مَوْضُوعٌ لِبَيَانِ صِفَةِ الْخَلْقِ بِالتَّفْصِيلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخَالِفَ الْوَاقِعَ إِذَا كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ: وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَجْلِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا.
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِ اسْتَوَى بَعْدَ تَكْوِينِ هَذَا الْمُلْكِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيُصَرِّفُ نِظَامَهُ حَسَبَ تَقْدِيرِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١٠: ٣) وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمْدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣: ٢، ٣) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.
الْعَرْشُ فِي الْأَصْلِ الشَّيْءُ الْمُسَقَّفُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَبَيَّنَّا اشْتِقَاقَهُ فِي تَفْسِيرِ الْجَنَّاتِ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى هَوْدَجٍ لِلْمَرْأَةِ يُشْبِهُ عَرِيشَ الْكَرْمِ، وَعَلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ وَكُرْسِيِّهِ الرَّسْمِيِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ التَّسَاوِي وَاسْتِقَامَةُ الشَّيْءِ وَاعْتِدَالُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ: اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى السَّرِيرِ وَالْفِرَاشِ، وَانْتَهَى شَبَابُهُ وَاسْتَوَى، وَاسْتَوَى عَلَى الْبَلَدِ اهـ، وَقَالَ فِي مَادَّة عَ رَشَ: وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ إِذَا مَلَكَ، وَثَلَّ عَرْشُهُ إِذَا هَلَكَ اهـ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَاسْتَوَى عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ - كِنَايَةً عَنِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: مَبْسُوطُ الْيَدِ وَمَقْبُوضُ الْيَدِ، كِنَايَةً عَنِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ اهـ.
لَمْ يَشْتَبِهْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي مَعْنَى اسْتِوَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى عِلْمِهِمْ بِتَنَزُّهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ، إِذْ كَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ وَانْفِرَادِهِ هُوَ بِتَدْبِيرِهِ. وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ وَصِفَتِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ، بَلْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ عَرْشٍ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ عَرْشًا خَلَقَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَنَّ لَهُ حَمَلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ كَمَا تَدُلُّ اللُّغَةُ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ:
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) (١١: ٧) وَلَكِنَّ عَقِيدَةَ التَّنْزِيهِ الْقَطْعِيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ كَانَتْ مَانِعَةً لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ شُبْهَةَ تَشْبِيهٍ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ. كَيْفَ وَأَنَّ بَعْضَ الْقَرَائِنِ الضَّعِيفَةِ لَفْظِيَّةً
401
أَوْ مَعْنَوِيَّةً تَمْنَعُ فِي لُغَتِهِمْ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْبَشَرِيِّ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لَا يُعْقَلُ؟ فَكَيْفَ وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْبَشَرِ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا وَكِنَائِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي كُلِّ مَا أَسْنَدَهُ الرَّبُّ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي وَرَدَتِ اللُّغَةُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَلْقِ: أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْكَمَالِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ تَشْبِيهِ الرَّبِّ بِخَلْقِهِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ اتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، لَا بِمَعْنَى الِانْفِعَالِ الْحَادِثِ الَّذِي نَجِدُهُ لِلْحُبِّ وَالرَّحْمَةِ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا مَا نَعْهَدُهُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ مُلُوكِنَا. وَحَسْبُنَا أَنْ نَسْتَفِيدَ مِنْ وَصْفِهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ أَثَرَهُمَا فِي خَلْقِهِ، وَأَنْ نَطْلُبَ رَحْمَتَهُ وَنَعْمَلَ مَا يُكْسِبُنَا مَحَبَّتَهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَثُوبَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْتَفِيدُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى عَرْشِهِ كَوْنَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ قَرَنَهُ فِي آخِرِ آيَةِ يُونُسَ بِقَوْلِهِ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١٠: ٣) وَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (٣٢: ٤) وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا صَدَّرْنَا بِهِ تَفْسِيرَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهَا كَأَمْثَالِهَا تُقَرِّرُ وَحْدَانِيَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ لِوَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَإِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى مَعَهُ بِمَعْنَى مَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنَ الشَّفَاعَةِ.
أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ فِي الْجُمْلَةِ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ. فَإِنْ صَحَّ كَانَ سَبَبُهُ شُبْهَةً بَلَغَتْهَا مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، إِذْ حَدَثَ مِنْ بَعْضِهِمُ الِاشْتِبَاهُ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ، كَمَا كَثُرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يَفْهَمُ اللُّغَةَ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَمْ يَتَلَقَّ الدِّينَ عَنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ. فَكَانَ الْمُشْتَبِهُ يَسْأَلُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فَيُجِيبُونَ بِمَا تَلَقَّوْا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ إِمْرَارِ النُّصُوصِ وَقَبُولِهَا كَمَا وَرَدَتْ وَتَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَاسْتِنْكَارِ السُّؤَالِ فِي صِفَاتِهِ عَنِ الْكَيْفِ.
وَأَخْرَجَ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنَّ رَبِيعَةَ شَيْخَ
الْإِمَامِ مَالِكٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ، وَأَخْرَجَا أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ هَذَا السُّؤَالَ أَيْضًا فَوَجَدَ وَجْدًا شَدِيدًا وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ، وَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ لِلسَّائِلِ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ لَهُ كَيْفَ: " وَكَيْفَ " عَنْهُ
402
مَرْفُوعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ صَاحِبُ بِدْعَةٍ. اهـ. كَأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُشَكِّكٌ غَيْرُ مُسْتَفْتٍ لِيَعْلَمَ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَقَالَاتٍ كَثِيرَةً وَقَالَ: وَإِنَّمَا يَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ - وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٤٢: ١١) بَلِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ قَالَ: مَنْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَنَفَى عَنِ اللهِ النَّقَائِصَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى اهـ.
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلتَّدْبِيرِ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (يُغَشِّي) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنَ الْإِغْشَاءِ يُقَالُ غَشِيَ (كَرَضِيَ) فُلَانٌ أَصْحَابَهُ إِذَا أَتَاهُمْ، وَغَشِيَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ لَحِقَهُ وَغَطَّاهُ.
وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ غِشْيَانُ الْمَوْجِ وَالْيَمِّ وَالدُّخَانِ وَالْعَذَابِ لِلنَّاسِ وَغِشْيَانُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ. وَأَغْشَاهُ وَغَشَّاهُ إِيَّاهُ بِالتَّشْدِيدِ جَعَلَهُ يَغْشَاهُ أَيْ يَلْحَقُهُ وَيغْلِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ. وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ. وَمِنْهُ إِغْشَاءُ اللَّيْلِ النَّهَارَ وَتَغْشِيَتُهُ وَغِشْيَانُهُ إِيَّاهُ. قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّيْلُ إِذَا يَغْشَى) (٩٢: ١) أَيْ يُغْشِي النَّهَارَ، وَقَالَ: (وَاللَّيْلُ إِذَا
يَغْشَاهَا) (٩١: ٤) وَالضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ أَيْ يَتْبَعُ ضَوْءُهَا وَيَغْلِبُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ اللَّيْلَ الَّذِي هُوَ الظُّلْمَةُ يَغْشَى النَّهَارَ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ يَتْبَعُهُ وَيَغْلِبُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَيَسْتُرُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ حَثِيثُ السَّيْرِ، وَمَضَى حَثِيثًا - كَمَا فِي الْأَسَاسِ وَغَيْرِهِ - أَيْ مُسْرِعًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْقُبُهُ سَرِيعًا كَالطَّالِبِ لَهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ - كَمَا قَالُوا - وَهَذَا الطَّلَبُ السَّرِيعُ يَظْهَرُ أَكْمَلَ الظُّهُورِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ الْأَرْضِ كُرَوِيَّةَ الشَّكْلِ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِهَا تَحْتَ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ نِصْفُهَا مُضِيئًا بِنُورِهَا دَائِمًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُظْلِمًا دَائِمًا. وَمَسْأَلَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي كُلِّ قُطْرٍ، وَمُخَاطَبَةُ أَهْلِهِ بِالتِّلِغْرَافِ بِأَنْ تَسْأَلَ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ وَقْتَهُمْ نِصْفَ النَّهَارِ مَثَلًا فَيُجِيبُوكَ، بَلِ الْبَرْقِيَّاتُ تَطُوفُ كُلَّ يَوْمٍ مُدُنَ الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مُبَيِّنَةً ذَلِكَ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَعْقُولِ،
403
وَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا مِنْ مُقَابِلِهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَحَكَوُا الْقَوْلَ بِدَوَرَانِهَا عَلَى مَرْكَزِهَا وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ نَظَرِيَّاتٍ تُشَكِّكُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا وَلَا تَنْقُضُهُ - كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهِمَا - وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩: ٥) أَدَلُّ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَذَا عَلَى دَوَرَانِهَا، فَإِنَّ التَّكْوِيرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللَّفُّ عَلَى الْمُسْتَدِيرِ كَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَوَرَانِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا الْوَاسِعِ حَوْلَ الْأَرْضِ وَإِمَّا بِاسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَهُوَ الَّذِي قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَلَى رُجْحَانِهِ.
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) الْأَمْرُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُقَابِلُ لِلنَّهْيِ تَوَسُّعًا فِيهِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُذَلَّلَاتٍ خَاضِعَاتٍ لِتَصَرُّفِهِ مُنْقَادَاتٍ لِمَشِيئَتِهِ فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ مُبْتَدَأٌ بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمُسَخَّرَاتٍ خَبَرُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ التَّسْخِيرِ بِأَمْرِهِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ غَيْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِي مَوْضِعِهِ.
(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) " أَلَا " أَدَاةٌ يُفْتَتَحُ بِهَا الْقَوْلُ الَّذِي يُهْتَمُّ بِشَأْنِهِ، لِأَجْلِ تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَضْمُونِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى تَأَمُّلِهِ، وَالْخَلْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ، وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ بِقَدَرٍ؛ أَيْ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ الْخَلْقَ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ لِذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَهُ فِيهَا الْأَمْرُ وَهُوَ التَّشْرِيعُ وَالتَّكْوِينُ وَالتَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ فَهُوَ الْمَالِكُ، وَالْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا بَعْضَ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِتَدْبِيرِهِ تَعَالَى لِلْأَمْرِ عَقِبَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ. وَمِنْ هَذَا التَّدْبِيرِ مَا سَخَّرَ اللهُ لَهُ الْمَلَائِكَةَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (٧٩: ٥) مِنْ نِظَامِ الْعَالَمِ وَسُنَنِهِ، وَمِنْهُ الْوَحْيُ يَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ. وَيَشْمَلُهُمَا قَوْلُهُ: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مَثَلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) (٦٥: ١٢) وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْخَلْقُ مَا دُونَ الْعَرْشِ وَالْأَمْرُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا فِي الْآيَةِ.
وَلِلصُّوفِيَّةِ أَنَّ عَالَمِ الْخَلْقِ مَا أَوْجَدَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ مَثَلًا، وَالْأَمْرُ مَا أَوْجَدَهُ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ: " كُنْ " كَالرُّوحِ وَأَصْلِ الْمَادَّةِ وَالْعُنْصُرِ الْأَوَّلِ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي عَالَمَ الشَّهَادَةِ وَالْحِسِّ بِعَالَمِ الْخَلْقِ وَعَالَمِ الْمُلْكِ وَيُسَمِّي عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الْأَمْرِ وَالْمَلَكُوتِ
404
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ) (٣: ٥٩) أَيْ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. فَجِسْمُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ وَرَوْحُهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى.
(تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أَيْ تَعَاظَمَتْ وَتَزَايَدَتْ بَرَكَاتُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ وَمُدَبِّرِ أُمُورِهِمْ. وَالْحَقِيقِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِمْ. فَتَبَارَكَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الثَّابِتُ، فَهِيَ هُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ الشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ عَلَى عِبَادِهِ دُونَ مَا عَبَدُوهُ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَادَّةِ الْبَرَكَةِ فِي تَفْسِيرِ (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) (٦: ٩٢) فَيُرَاجَعُ:
(تَنْبِيهٌ) عَنَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِتَكَلُّفِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ عَلَى الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْيُونَانِيَّةِ، فَزَعَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ هِيَ الْأَفْلَاكُ الْمَرْكُوزُ فِيهَا زُحَلُ وَالْمُشْتَرَى
وَالْمِرِّيخُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالزَّهْرَةُ وَعُطَارِدُ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ هُوَ الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي رَكَزَتْ فِيهِ جَمِيعُ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ، وَأَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ الَّذِي وَصَفُوهُ بِالْأَطْلَسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النُّجُومِ، وَتِلْكَ نَظَرِيَّاتٌ قَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَسَقَطَ كُلُّ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا مِنْ تَكَلُّفٍ وَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ لِرَدِّهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ حَمْلِ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي زَمَنِنَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَرْشَدَ الْبَشَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ وَتَرَكَ ذَلِكَ لِبَحْثِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ. وَهِدَايَةُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْكَوْنِ وَسُنَنِهِ وَسِيلَةً لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَتَكْمِيلِ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَوِ اهْتَدَى دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ بِهِدَايَتِهِ هَذِهِ لَمَا جَعَلُوا الْعِلْمَ وَسِيلَةً لِلْقَتْلِ وَالتَّدْمِيرِ وَقَهْرِ الْقَوِيِّ بِهِ لِلضَّعِيفِ.
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنْ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
بَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ تَعَالَى لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَكَّرَهُمْ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَيْهَا أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهَا مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ إِفْرَادُهُ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ رُوحُهَا وَمُخُّهَا الدُّعَاءُ فَقَالَ:
405
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) التَّضَرُّعُ تَفَعُّلٌ مِنَ الضَّرَاعَةِ مَعْنَاهُ تَكَلُّفُهَا أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا أَوْ إِظْهَارُهَا وَاخْتَارَهُ الرَّاغِبُ، وَهِيَ مَصْدَرُ ضَرَعَ كَخَشَعَ إِذَا ضَعُفَ وَذَلَّ، وَتَلَوَّى وَتَمَلْمَلَ، وَمَأْخَذُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَعَ إِلَيْهِمْ إِذَا تَنَاوَلَ ضَرْعَ أُمِّهِ، وَإِنَّ حَاجَةَ الصَّغِيرِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ إِلَى الرِّضَاعِ مِنْ أَمِّهِ لَمِنْ أَشَدِّ مَظَاهِرِ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ بِشُعُورِ الْوِجْدَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ خُصَّ اسْتِعْمَالُ التَّضَرُّعِ فِي التَّنْزِيلِ بِمَوَاطِنِ الشِّدَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ ٤٢، ٤٣، ٦٣ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ " (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (٧٦) وَذَلِكَ أَنَّ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الشِّدَّةِ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا، وَلَهُ مَظْهَرَانِ: التَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ،
وَالْخُفْيَةُ وَالْإِسْرَارُ. أَيِ ادْعُوا رَبَّكُمْ وَمُدَبِّرَ أُمُورِكُمْ مُتَضَرِّعِينَ مُبْتَهِلِينَ إِلَيْهِ تَارَةً، وَمُسِرِّينَ مُسْتَخْفِينَ تَارَةً أُخْرَى، أَوْ دُعَاءُ تَضَرُّعٍ وَتَذَلُّلٍ وَابْتِهَالٍ، وَدُعَاءُ مُنَاجَاةٍ وَإِسْرَارٍ وَوَقَارٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الدُّعَاءَيْنِ وَقْتٌ، وَدَاعِيَةٌ مِنَ النَّفْسِ، فَالتَّضَرُّعُ بِالْجَهْرِ الْمُعْتَدِلِ تَحْسُنُ فِي حَالِ الْخَلْوَةِ وَالْأَمْنِ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَ وَمِنْ سَمَاعِهِمْ لِصَوْتِهِ، فَلَا جَهْرُهُ يُؤْذِيهِمْ وَلَا الْفِكْرُ فِيهِمْ يَشْغَلُهُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الرَّبِّ وَحْدَهُ، أَوْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دُعَاءَهُ بِحُبِّ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَالْإِسْرَارُ يَحْسُنُ فِي حَالِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاعِرِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مَا وَرَدَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ مِنَ الْجَمِيعِ، كَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ وَتَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ سَتْرًا وَلِبَاسَا شُرِعَ فِيهِ الْجَهْرُ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ لِلْمُجْتَهِدِ فِي خَلْوَتِهِ يَطْرُدُ الْوَسْوَاسَ، وَيُقَاوِمُ فُتُورَ النُّعَاسِ، وَيُعِينُ عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَبُكَاءِ الْخُشُوعِ لِلرَّحْمَنِ.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَنَا. وَمِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَنْ جَعَلَ التَّضَرُّعَ وَالْخُفْيَةَ مُتَّفِقَيْنِ غَيْرَ مُتَقَابِلَيْنِ، بِتَفْسِيرِ التَّضَرُّعِ بِالتَّخَشُّعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسَ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ " هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَفِيهِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ إِذَا لَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إِلَى رَفْعِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا خَفَضَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَإِذَا دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى الرَّفْعِ رَفَعَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ اهـ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْجَهْرِ وَنَاهِيكَ بِكَوْنِهِ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْجَهْرَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَرْضَى لِلرَّبِّ وَأَرْجَى لِلْقَبُولِ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (١٧: ١١٠).
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقِهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ
406
الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّارُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ
فَيَكُونَ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) (١٩: ٣) اهـ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءِ وَالصِّيَاحِ فِي الدُّعَاءِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ.
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُحِبُّ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. وَالِاعْتِدَاءُ تَجَاوُزُ الْحُدُودِ فِيهَا، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، إِلَّا مَا كَانَ انْتِصَافًا مِنْ مُعْتَدٍّ ظَالِمٍ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ أَفْضَلُ، وَالِاعْتِدَاءُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ بِحَسْبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا مَنْ تَجَاوَزَهُ كَانَ مُعْتَدِيًا (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢: ٢٢٩).
وَشَرُّ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَلَوْ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَنِيفَ مَنْ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَلَا يَدْعُو مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (٧٢: ١٨) أَيْ لَا مَلِكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا وَلِيًّا. وَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ فِيمَا يَعْجِزُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ بِغَيْرِ التَّدَاوِي وَتَسْخِيرِ قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ - فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى نَحْوِ " الْحَجُّ عَرَفَةُ " وَفِي مَعْنَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ يُقَوِّيهِ تَفْسِيرُهُ لِلصَّحِيحِ، وَقَدْ يُفَسِّرُونَهُ بِالْعِبَادَةِ فِي جُمْلَتِهَا دُونَ أَفْرَادِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمُّ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (١٧: ٥٦، ٥٧) جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِيمَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَأَمَّهُ وَعُزَيْرًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، أَيْ كُلُّهُمْ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الضُّرِّ أَوْ تَحْوِيلِهِ عَنْكُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ هُمْ عَبِيدُ اللهِ يَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَالزُّلْفَى - أَيُّهُمْ أَقْرَبُ - أَيْ أَقْرَبُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ
407
يَعْبُدُ اللهَ وَيَدْعُوهُ طَلَبًا لِلْوَسِيلَةِ عِنْدَهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، فَكَيْفَ يَدْعُونَ مَعَهُ أَوْ مَنْ دُونَهُ؟ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ " قَالُوا: وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ " الْقُرْبُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " ثُمَّ قَرَأَ: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَهُمُّ أَقْرَبُ) وَابْتِغَاءُ ذَلِكَ يَكُونُ بِدُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْآيَاتُ الْمُنْكِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ وَكَوْنَهُ عِبَادَةً لَهُمْ وَشِرْكًا مِنَ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ الْمُضِلِّينَ لِلْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُمْ لَا بَأْسَ بِدُعَائِكُمْ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا تَوَسُّلٌ بِهِمْ إِلَى اللهِ لِيُقَرِّبُوكُمْ مِنْهُ بِشَفَاعَتِهِمْ لَكُمْ عِنْدَهُ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ.
وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي اللُّغَةِ وَجَهْلٌ بِهَا، فَأَهْلُ اللُّغَةِ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عِبَادَةً، وَالْوَسِيلَةُ فِي الدِّينِ هِيَ غَايَةٌ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْقُرْبُ مِنْهُ تَعَالَى، وَالتَّوَسُّلُ طَلَبُ ذَلِكَ، فَهُوَ التَّقَرُّبُ مِنْهُ بِمَا يَرْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ عِبَادَتِكَ لَهُ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِكَ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (٥٣: ٣٩) وَالَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِدُعَائِهِمْ أَنْ يُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَأَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ نَفْعَهُمْ وَلَا كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ اللهُ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. نَعَمْ إِنَّ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعٌ مِنَ الْأَحْيَاءِ دُونَ الْأَمْوَاتِ، وَيُسَمَّى فِي اللُّغَةِ تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَعَهُ، وَمِنْهُ تَوَسُّلُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ بِالْعَبَّاسِ، بَدَلًا مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمَا يُشْرَعُ بَعْدَهَا مِنَ الدُّعَاءِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللهِ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُعَابُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُعَابُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَأَنْتُمْ تُحَمِّلُونَ الْآيَاتِ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ! ! وَهَذَا الْقَوْلُ جَهْلٌ فَاضِحٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا ذَمَّ الشِّرْكَ إِلَّا لِذَاتِهِ، وَمَا ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ
إِلَّا لِأَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِهِ، وَإِنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا كَانُوا إِلَّا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ مَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّرْكِ أَحْبَطَ إِيمَانَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَحْبَطُ إِيمَانُ مَنْ أَشْرَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَةِ سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْرِكْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، بِأَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ الْعِبَادِ وَحْدَهُ، فَهَذَا الْإِيمَانُ عَامٌّ قَلَّ مَنْ أَشْرَكَ فِيهِ، فَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّوَجُّهِ فِيهَا لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ الْمُسَخَّرِينَ بِأَمْرِهِ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (٩٨: ٥).
وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِاللَّفْظِ كَالتَّكَلُّفِ وَالسَّجْعِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمَعْنَى وَهُوَ طَلَبُ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ
408
مِنْ وَسَائِلِ الْمَعَاصِي وَمَقَاصِدِهَا كَضَرَرِ الْعِبَادِ، وَأَسْبَابِ الْفَسَادِ، وَطَلَبِ الْمُحَالِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ كَطَلَبِ إِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَتَبْدِيلِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا، وَمِنْهُ طَلَبُ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، مَعَ تَرْكِ وَسَائِلِهِ كَأَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَالنِّظَامِ، وَالْغِنَى بِدُونِ كَسْبٍ، وَالْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (٣٥: ٤٣).
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قَالَ: فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَا يَسْأَلُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا - وَنَحْوًا مِنْ هَذَا - وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا. فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ خَيْرًا كَثِيرًا وَتَعَوَّذْتَ بِهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ - وَفِي لَفْظٍ - يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أَيْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِعَمَلٍ ضَائِرٍ وَلَا بِحُكْمٍ جَائِرٍ، مِمَّا يُنَافِي صَلَاحَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَعُقُولِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ مِنْ زِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَطُرُقِ مُوَاصَلَةٍ وَوَسَائِلِ تَعَاوُنٍ - لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ تَعَالَى لَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِغْلَالِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ، وَامْتِنَانِهِ بِهَا عَلَيْهِمْ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا) (٢: ٢٩) وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٥: ١٣) وَمِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ فِيهَا، فَالْإِصْلَاحُ الْأَعْظَمُ إِنَّمَا هُوَ إِصْلَاحُهُ تَعَالَى لِحَالِ الْبَشَرِ، بِهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِكْمَالِ ذَلِكَ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِينَ، فَأَصْلَحَ بِهِ عَقَائِدَ الْبَشَرِ بِبِنَائِهَا عَلَى الْبُرْهَانِ، وَأَصْلَحَ بِهِ أَخْلَاقَهُمْ وَآدَابَهُمْ بِمَا جَمَعَ لَهُمْ فِيهَا بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَصْلَحَ سِيَاسَتَهُمْ وَنَوَّعَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِشَرْعِ حُكُومَةِ الشُّورَى الْمُقَيَّدَةِ بِأُصُولِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ. وَالْبَشَرُ سَادَةُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْهَا كَالْقَلْبِ مِنَ الْجَسَدِ وَالْعَقْلِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَا صَلَحُوا صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَشَدُّ الْفَسَادِ الْكِبْرُ وَالْعُتُوُّ، الدَّاعِيَانِ إِلَى الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ كَيْفَ أَصْلَحُوا كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَجَزُوا عَنْ إِصْلَاحِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، بِمُعَادَاتِهِمْ أَكْمَلَ الْأَدْيَانِ، فَحَوَّلَتْ دُوَلُهُمْ كُلَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، إِلَى إِفْسَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَتَعَادَى شُعُوبُهُ بِالتَّنَازُعِ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِبَاحَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَبَذْلِ ثَرْوَةِ الْعَامِلِينَ مِنْ شُعُوبِهِمْ، فِي سَبِيلِ التَّنْكِيلِ بِالْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَلَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
409
وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (٥٦، ٨٥) فَقَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ فِي فَسَادٍ فَأَصْلَحَهُمُ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ دَعَا إِلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ اهـ. وَالْإِفْسَادُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ أَظْهَرُ قُبْحًا مِنَ الْإِفْسَادِ عَلَى الْإِفْسَادِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْإِصْلَاحِ أَكْبَرُ حُجَّةً عَلَى الْمُفْسِدِ إِذَا هُوَ لَمْ يَحْفَظْهُ وَيَجْرِي عَلَى سَنَنِهِ. فَكَيْفَ إِذَا هُوَ أَفْسَدَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ وَضْعِهِ؟ وَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَإِلَّا فَالْإِفْسَادُ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ، فَحُجَّةُ اللهِ عَلَى الْخُلُوفِ وَالْخَلَائِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، لِمَا كَانَ مِنْ إِصْلَاحِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، أَظْهَرُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ.
(وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أَعَادَ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ بِقَيْدٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا النَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَنْ لَا يُعَرِّفُ نَفْسَهُ بِالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى
رَحْمَةِ رَبِّهِ الْغَنِيِّ الْقَدِيرِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلَا يَدْعُوهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَلَا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ وَطَمَعًا فِي غُفْرَانِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِفْسَادِ مِنْهُ إِلَى الْإِصْلَاحِ، إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ. وَالْمَعْنَى: وَادْعُوهُ خَائِفِينَ أَوْ ذَوِي خَوْفٍ مِنْ عِقَابِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ لِشَرْعِهِ الْمُصْلِحِ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِذَاتِ بَيْنِكُمْ، وَتَنَكُّبِكُمْ لِسُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي صِحَّةِ أَجْسَامِكُمْ وَشُئُونِ مَعَايِشِكُمْ - وَهَذَا الْعِقَابُ يَكُونُ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَاقِيهِ فِي الْآخِرَةِ - وَطَامِعِينَ فِي رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي حَالِ النَّفْسِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَنْ تَكُونَ غَارِقَةً فِي الشُّعُوبِ بِالْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى الرَّبِّ الْقَدِيمِ الرَّحِيمِ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. يَصْرِفُ الْأَسْبَابَ، وَيُعْطِي بِحِسَابٍ وَغَيْرِ حِسَابٍ، فَإِنَّ دُعَاءَ الرَّبِّ الْكَرِيمِ بِهَذَا الشُّعُورِ، يُقَوِّي أَمَلَ النَّفْسِ، وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَأْسِ، عِنْدَ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، وَالْجَهْلِ بِوَسَائِلِ النَّجَاحِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ فَائِدَةٌ إِلَّا هَذَا لَكَفَى، فَكَيْفَ وَهُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبَابُهَا، وَإِجَابَتُهُ مَرْجُوَّةٌ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ وَآدَابِهِ، وَأَوَّلُهَا عَدَمُ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِإِعْطَاءِ الدَّاعِي مَا طَلَبَهُ، كَانَتْ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. وَلَا أَرَى بَأْسًا بِأَنْ أَقُولَ غَيْرَ مُبَالٍ بِإِنْكَارِ الْمَحْرُومِينَ: إِنَّنِي قَلَّمَا دَعَوْتُ اللهَ دُعَاءً خَفِيًّا شَرْعِيًّا رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَّا اسْتَجَابَ لِي، أَوْ ظَهَرَ لِي وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ أَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ كَانَ خَيْرًا مِنْهَا.
(إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى الْفِعْلِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَعْمَالِهِمُ الْمُتْقِنِينَ لَهَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَمَنْ أَحْسَنَ فِي الْعِبَادَةِ نَالَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا نَالَ حُسْنَ النَّجَاحِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّعَاءِ اسْتُجِيبَ لَهُ، أَوْ أُعْطِيَ خَيْرًا مِمَّا طَلَبَهُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ قَبْلَهَا، مُبَيِّنَةٌ لِفَائِدَةِ الدُّعَاءِ الْعَامَّةِ كَمَا قَرَّرْنَا. فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٤٠: ٦٠).
410
وَالْإِحْسَانُ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِهَدْيِ دِينِ الْفِطْرَةِ، الدَّاعِي لِحَسَنَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَزَاءُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (٥٥: ٦٠) كَمَا أَنَّ الْإِسَاءَةَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَجَزَاءَهَا مِنْ جِنْسِهَا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٥٣: ٣١) وَقَالَ الرَّسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَالْإِحْسَانُ وَاجِبٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِهِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَيُتَّقَى مَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابَ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشَدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فَدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (٤٧: ٤) أَيْ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَعْدَاءَكُمُ الْكُفَّارَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَقَاتِلُوهُمْ بِضَرْبِ الرِّقَابِ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى الْقَتْلِ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّعْذِيبِ بِمِثْلِ ضَرْبِ الرَّأْسِ مَثَلًا - وَنَاهِيكَ بِتَهْشِيمِ الرُّءُوسِ وَتَقْطِيعِ الْأَعْضَاءِ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَطِبَّاءُ جِرَاحَةٍ يُخَفِّفُونَ آلَامَهَا - حَتَّى إِذَا ظَهَرَ لَكُمُ الْغَلَبُ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْخَانِ فِيهِمْ فَاتْرُكُوا الْقَتْلَ وَاعْمَدُوا إِلَى الْأَسْرِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَى الْأَسْرَى بِالْعِتْقِ مَنًّا، وَإِمَّا أَنْ تَفْدُوا بِهِمْ مَنْ أُسِرَ مِنْكُمْ فِدَاءً.
وَكَذَلِكَ الْإِحْسَانُ فِي الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِهِ، وَمِنْهُ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ لِلْأَكْلِ يَجِبُ أَنْ يَحْسُنَ فِيهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّبَ الْحَيَوَانُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْمَوْقُوذَةَ وَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَنْحَلَّ قُوَاهَا وَتَمُوتَ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْبَشَرِ يَعُدُّونَ الرَّحْمَةَ ضَعْفًا فِي النَّفْسِ تَجِبُ مُقَاوَمَتُهُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ، أَيْ بِإِفْسَادِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَوْدَعَ فِيهَا الرَّبُّ الرَّحِيمُ جُزْءًا مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يَتَرَاحَمُ بِهَا خَلْقُهُ وَيَتَعَاطَفُونَ، وَقَاعِدَةُ التَّرْبِيَةِ الْمَادِّيَّةِ أَنَّ أُمُورَ الْحَيَاةِ كُلَّهَا تِجَارَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ الْعَاجِلُ، فَإِذَا رَأَيْتَ امْرَأً أَوْ طِفْلًا أَوْ عَشِيرَةً أَوْ أَمَةً عُرْضَةً لِلْآلَامِ وَالْهَلَاكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ رِبْحٌ وَفَائِدَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُمْ فَلَا تُكَلِّفْ نَفْسَكَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ لَكَ أَوْ لِقَوْمِكَ رِبْحٌ مِنْ ظُلْمِ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوْ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ وَإِشْقَائِهِ بِالِاسْتِعْبَادِ، وَإِفْسَادِ الْأَخْلَاقِ وَإِرْهَاقِ الْأَجْسَادِ، فَافْعَلْ ذَلِكَ وَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ الَّتِي يَدُلُّكَ عَلَيْهَا الْعِلْمُ وَتُمَكِّنُكَ مِنْهَا الْقُوَّةُ، بَلْ هُمْ يُرَبُّونَ
أَوْلَادَهُمْ عَلَى أَلَّا يَنَالُوا مِنْهُمْ شَيْئًا إِلَّا بِعَمَلٍ
411
يَعْمَلُونَهُ لَهُمْ، لِيَطْبَعُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَلَكَةَ طَلَبِ الرِّبْحِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَهَذَا حَسَنٌ إِذَا لَمْ يَنْزِعُوا مِنْهَا عَوَاطِفَ الرَّحْمَةِ وَحُبَّ الْإِحْسَانِ بِمُرَاغَمَةِ الْفِطْرَةِ وَإِفْسَادِهَا.
عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَامَ بِنَاءُ الِاسْتِعْمَارِ الْإِفْرِنْجِيِّ فِي الْعَالَمِ، فَكُلُّ دَوْلَةٍ أُورُبِّيَّةٍ تَسْتَوْلِي عَلَى شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ تَعْنِي أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِإِفْسَادِ أَخْلَاقِهِ وَإِذْلَالِ نَفْسِهِ وَاسْتِنْزَافِ ثَرْوَتِهِ، وَكُلُّ مَا تَعْمَلُهُ فِي بِلَادِهِ مِنْ عَمَلٍ عُمْرَانِيٍّ كَتَعْبِيدِ الطُّرُقِ وَإِصْلَاحِ رَيِّ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ تَوْفِيرِ رِبْحِهَا مِنْهَا، وَتَمْكِينِهَا مِنْ سَوْقِ جُيُوشِهَا الَّتِي تَسْتَعْبِدُ بِهَا أَهْلَهَا، وَقَدْ قَرَأْنَا فِي هَذَا الْعَامِ مَقَالَاتٍ لِسَائِحَةٍ أَمِيرِكَانِيَّةٍ طَافَتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الشَّرْقِ الْأَقْصَى، وَصَفَتْ إِذْلَالَ الْمُسْتَعْمِرِينَ فِيهَا لِلْأَهَالِي بِنَحْوِ جَرِّهِمْ لِعَرَبَاتِهِمْ، وَالدَّوْسِ عَلَى رِقَابِهِمْ وَظُهُورِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَنْفُسِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ بِإِبَاحَةِ شُرْبِ سُمُومِ الْأَفْيُونِ وَالْكُحُولِّ (الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ السُّمِّ)، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ بِوَسَائِلَ نِظَامِيَّةٍ - فَذَكَرَتْ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَشْمَئِزُّ نُفُوسُ الرُّحَمَاءِ الْمُهَذَّبِينَ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْرِبُ مِنْهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ فِي حَرْبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي بِلَادِهِمْ (أُورُبَّةَ) مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ؟ فَهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ قَتْلَى هَذِهِ الْحَرْبِ بَلَغَتْ عَشَرَةَ مَلَايِينَ شَابٍّ، وَالْمُشَوَّهِينَ الْمُعَطَّلِينَ مِنَ الْجِرَاحِ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ مِلْيُونًا، وَأَنَّ نَفَقَاتِ التَّدْمِيرِ قُدِّرَتْ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ مِلْيُونِ جُنَيْهٍ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَهِيَ لَوْ أُنْفِقَتْ عَلَى إِصْلَاحِ كُلِّ مَمَالِكِ الْمَعْمُورَةِ لَكَفَتْ، وَلَا تَزَالُ الدُّوَلُ الظَّافِرَةُ الْمُسَلَّحَةُ تُرْهِقُ الَّذِينَ لَا سِلَاحَ بِأَيْدِيهِمْ وَتُحَاوِلُ الْإِجْهَازَ عَلَيْهِمْ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ الْحَرْبِ ضَرُورَةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا، وَيُفْتَرَضُ الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِيهَا؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَرَّ بِامْرَأَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلَاهُمَا " أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا؟ " وَقَدْ شَهِدَ لَنَا الْمُؤَرِّخُونَ الْمُنْصِفُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. اللهُمَّ ارْحَمْنَا وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاحِمِينَ، وَأَجِرْنَا مِنْ شَرِّ الْمُفْسِدِينَ الْقُسَاةِ الظَّالِمِينَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ (قَرِيبٌ) وَقَعَتْ خَبَرًا لِلرَّحْمَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُطَابِقًا لِلْمُبْتَدَإِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِأَنْ يُقَالَ هُنَا " قَرِيبَةٌ "
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا وَتَوْجِيهِهِ بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا مَا بَيْنَ لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ وَبَعْضُهَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ. (مِنْهَا) أَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ هُنَا لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ فَلَا تُتْرَكُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ. (وَمِنْهَا). وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ نُكْتَةً جَامِعَةً بَيْنَ التَّوْجِيهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ - أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ هُنَا مُذَكَّرٌ. قِيلَ: هُوَ الْمَطَرُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ الْعَامُّ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ، إِذْ لَا مَعْنَى لِقُرْبِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ،
412
فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ إِحْسَانَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ لَنَا مُسَلْسَلًا عَنْ شَيْخِنَا الْقَاوُقْجِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (٤٢: ١٧) وَ (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) (٣٣: ٦٣) وَقَدْ يُعَلِّلُهُ فِيهِمَا بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَنْ يَقُولُ بِهَا وَهُمُ الْجُمْهُورُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ (قَرِيبٌ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ بِرَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، كَمَا أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَإِجَابَتِهِ مِنَ الدَّاعِينَ. وَكَثِيرًا مَا يُعْطَى الْمُضَافُ صِفَةَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَضَمِيرَهُ، وَمَهْمَا يَقُلْ فَالِاسْتِعْمَالُ قَدْ وَرَدَ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَأَعْلَاهُ، فَمَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِمَّا عَلَّلُوهُ بِهِ لِطَرْدِ قَوَاعِدِهِمْ قَالَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُعْجِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَقُلْ إِنَّ هَذَا مِنَ السَّمَاعِيِّ، وَمَا هُوَ بِبِدَعٍ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا.
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ أَنَّ رَحْمَتَهُ الْعَامَّةَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِهِمْ، ذَكَّرَنَا بِمَا نَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرًا مِنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي أَظْهَرِ أَنْوَاعِ
هَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ إِرْسَالُ الرِّيَاحِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الرِّزْقِ، وَسَبَبُ حَيَاةِ كُلِّ حَيٍّ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، فَقَالَ:
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَ بِهِ تَعَالَى تَدْبِيرَهُ لِأَمْرِ الْعَالَمِ فِي إِثْرِ إِثْبَاتِهِ لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، فِي قَوْلِهِ:
413
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) إِلَخْ. وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ الْإِسْلَامُ.
الرِّيحُ: الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي الْأَكْثَرِ وَقَدْ تُذَكَّرُ بِمَعْنَى الْهَوَاءِ، وَأَصْلُهَا رِوْحٌ بِالْوَاوِ وَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا - كَالْمِيزَانِ وَأَصْلُهَا مِوْزَانٌ لِأَنَّهَا مِنَ الْوَزْنِ - وَجَمْعُهَا رِيَاحٌ وَأَرْوَاحٌ وَكَذَا أَرْيَاحٌ وَهُوَ شَاذٌّ وَالْهَوَاءُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأَحْيَاءِ، إِذْ وُجُودُهُ شَرْطٌ لِحَيَاةِ كُلِّ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، فَلَوْ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَرْضِ لَمَاتَ كُلُّ حَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلَا تَتِمُّ مَنَافِعُهُ إِلَّا بِحَرَكَتِهِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا رِيحًا، وَسَنُذَيِّلُ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ بِنُبْذَةٍ عِلْمِيَّةٍ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَأَهَمِّ مَنَافِعِهِ الْعَامَّةِ. وَمِنْ أَهَمِّهَا فِعْلُهُ فِي تَوْلِيدِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الْآيَةِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الرِّيحَ) مُفْرَدَةً وَالْبَاقُونَ (الرِّيَاحَ) بِالْجَمْعِ، وَرُسِمَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ لِتَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَلِذَلِكَ أَمْثَالٌ، وَالرِّيَاحُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَرْبَعٌ بِحَسَبِ مَهَابِّهَا مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: الشَّمَالُ وَالْجَنُوبُ وَسُمِّيَتَا بِاسْمِ جِهَةِ مَهَبِّهِمَا، وَالثَّالِثَةُ الصَّبَا وَالْقَبُولُ وَهِيَ الشَّرْقِيَّةُ، وَالرَّابِعَةُ الدَّبُورُ وَهِيَ الْغَرْبِيَّةُ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَنْسِبُونَ رِيحَ الصَّبَا إِلَى نَجْدٍ، وَالْجَنُوبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَالشَّمَالَ إِلَى الشَّمَالِ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَنْحَرِفُ عَنْ هَذِهِ الْمَهَابِّ الْأَصْلِيَّةِ فَتَكُونُ بَيْنَ ثِنْتَيْنِ مِنْهَا تُسَمَّى النَّكْبَاءَ مُؤَنَّثَ الْأَنْكَبِ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ نَكَبَ عَنِ الشَّيْءِ أَوْ عَنِ الطَّرِيقِ نَكْبًا وَنُكُوبًا إِذَا انْحَرَفَ وَتَحَوَّلَ عَنْهُ، وَمِنْهُ (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (٢٣: ٧٤) وَإِذَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ مِنْ مَهَابٍّ وَنَوَاحٍ مُخْتَلِفَةٍ سَمَّوْهَا الْمُتَنَاوِحَةَ. وَمِنَ الْمَأْثُورِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الرِّيَاحَ تَشْتَرِكُ فِي إِثَارَةِ السَّحَابِ
الْمُمْطِرِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الصَّبَا تُثِيرُهُ وَالشَّمَالَ تَجْمَعُهُ، وَالْجَنُوبَ تَدِرُّهُ وَالدَّبُورَ تُفَرِّقُهُ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي وَصْفِ سَحَابٍ مُمْطِرٍ دَعَا لِبِلَادِهِ بِهِ:
جَونٌ أَعَارَتْهُ الْجَنُوبُ جَانِبًا مِنْهَا وَوَاصَتْ صَوْبَهُ يَدُ الصَّبَا
ثُمَّ قَالَ:
إِذَا خَبَتْ بُرُوقُهُ عَنَّتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا تُثِيرُ مِنْهُ مَا خَبَا
وَإِنْ وَنَتْ رُعُودُهُ حَدَا بِهَا حَادَى الْجَنُوبِ فَحَدَتْ كَمَا حَدَا
وَيَخْتَلِفُ تَأْثِيرُ الرِّيَاحِ فِي الْأَقْطَارِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنْهَا. فَالصَّبَا وَالْجَنُوبُ لَا يَأْتِيَانِ بِالْمَطَرِ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ لِأَنَّ مَهَبَّهُمَا الصَّحَارِي الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا وَلَا نَبَاتَ، وَإِنَّمَا تَأْتِي بِهِ الشَّمَالُ وَالدَّبُورُ لِأَنَّ مَهَبَّهُمَا مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ فَيَحْمِلَانِ بُخَارَ الْمَاءِ مِنْهُ وَمِنَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي الْوَجْهِ الْبَحْرِيِّ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ دِيَارُ الشَّامِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُثِيرُ سَحَابَ الْمَطَرِ فِيهَا الدَّبُورُ (الْغَرْبِيَّةُ) فَإِذَا هَبَّتِ الصَّبَا (الشَّرْقِيَّةُ) وَغَلَبَتِ انْقَشَعَ السَّحَابُ وَخَفَّتْ رُطُوبَةُ
414
الْجَوِّ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ الرِّيحَ الْوَاحِدَةَ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ أَحْيَانًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ كَمَا تُبَشِّرُ بِهِ رِيحَانِ فِي قُطْرٍ آخَرَ، أَوْ أَنَّ الرِّيَاحَ بِأَنْوَاعِهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ فِي الْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، عَلَى أَنَّ الرِّيحَ يُرَادُ بِهَا عِنْدَ إِطْلَاقِهَا الْجِنْسُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ كَغَيْرِهِ: إِنْ عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا إِرْسَالَ الرِّيحِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَعِبَارَةٌ عَنِ الْعَذَابِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَعِبَارَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ رَأَى أَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا فِي بَيَانِ آيَاتِ اللهِ أَوْ رَحْمَتِهِ وَلَا سِيَّمَا رَحْمَةُ الْمَطَرِ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْمُفْرَدَةُ فَذُكِرَتْ فِي عَذَابِ قَوْمِ عَادٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) (٣: ١١٧) وَقَوْلِهِ: (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) (١٤: ١٨) وَقَوْلِهِ: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (٢٢: ٣١) وَنَحْوِهِ فِي التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: (فَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيِحِ) (١٧: ٦٩) الْآيَةَ. وَلَكِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ بِالتَّقَابُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) (١٠: ٢٢) الْآيَةَ، وَرَدَتْ فِي مَقَامِ
الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِهَا لِسُلَيْمَانَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَبَإٍ وَصَ.
(وَقَوْلُهُ) تَعَالَى: (بُشْرًا) قَرَأَهُ عَاصِمٌ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الشِّينِ، مُخَفَّفُ بُشُرٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ بَشِيرٌ كَنُذُرٍ جَمْعُ نَذِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بَشْرًا بِالتَّخْفِيفِ حَيْثُ وَقَعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ بِمَعْنَى نَاشِرَاتٍ أَوْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ وَالنَّشْرَ مُتَقَارِبَانِ.
(حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَأَقَلَّهُ وَاسْتَقَلَّ بِهِ رَفَعَهُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ وَكُلُّ شَيْءٍ حَمَلْتَهُ فَقَدْ أَقْلَلْتَهُ، وَأَقْلَلْتُهُ عَنِ الْأَرْضِ رَفَعْتُهُ أَيْضًا، قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِلَّةِ بِالْكَسْرِ لِقَوْلِهِمْ أَقَلَّهُ وَاسْتَقَلَّهُ أَيْ وَجَدَهُ قَلِيلًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ: أَقَلَّ الْقُلَّةَ - وَهِيَ بِالضَّمِّ الْجَرَّةُ - فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ قُلَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يُقِلُّهَا أَيْ يَحْمِلُهَا أَوْ يَرْفَعُهَا بِيَدَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ، وَالسَّحَابُ الْغَيْمُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدٍ بِالتَّاءِ فَيُقَالُ سَحَابَةٌ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُفْرَدُ وَصْفُهُ وَيُجْمَعُ، وَالثِّقَالُ مِنْهُ الْمُتَشَبِّعَةُ بِبُخَارِ الْمَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّبَّ الْمُدَبِّرَ لِأُمُورِ الْخَلْقِ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، لِعِبَادِهِ بِالْمَطَرِ، أَيْ قُدَّامَهَا مُبَشِّرَاتٍ بِهَا وَنَاشِرَاتٍ لِأَسْبَابِهَا حَتَّى إِذَا حَمَلَتْ سَحَابًا ثِقَالًا وَرَفَعَتْهُ فِي الْهَوَاءِ (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أَيْ سَيَّرْنَاهُ وَسُقْنَاهُ بِهَا إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ أَيْ أَرْضٍ لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِنَّمَا حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ الْحَيِّ فِيهَا " فَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى " كَمَا فِي آيَةِ فَاطِرٍ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ٣٥: ٩)
415
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ كَغَيْرِهِ: وَيُطْلَقُ الْبَلَدُ وَالْبَلْدَةُ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عَامِرًا كَانَ أَوْ خَلَاءً، وَفِي التَّنْزِيلِ (إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ٣٥: ٩) أَيْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ وَلَا مَرْعَى فَنُخْرِجُ ذَلِكَ بِالْمَطَرِ فَتَرْعَاهُ أَنْعَامُهُمْ، فَأُطْلِقَ الْمَوْتُ عَلَى عَدَمِ النَّبَاتِ وَالْمَرْعَى، وَأُطْلِقَ الْحَيَاةُ عَلَى وُجُودِهِمَا اهـ. أَقُولُ: وَغَلَبَ عُرْفُ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَخْصِيصِ الْبَلَدِ بِالْمَكَانِ الْآهِلِ بِالسُّكَّانِ فِي الْمَبَانِي.
(فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) أَيْ فَأَنْزَلْنَا بِالسَّحَابِ الْمَاءَ، فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ - أَوْ بِالْبَلَدِ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِيهِ، أَوْ بِالرِّيَاحِ وَالْمُخْتَارُ هُنَا كَوْنُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِنَّ الرِّيحَ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ أَوِ الْأَرْضِ الرَّطْبَةِ وَتَرْفَعُهُ فِي الْجَوِّ، وَهِيَ سَبَبُ تَحَوُّلِ الْبُخَارِ
إِلَى مَاءٍ بِتَبْرِيدِهَا لَهُ - فَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْبُخَارُ مَاءً أَثْقَلَ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَسْقُطُ مِنْ خِلَالِهِ إِلَى الْأَرْضِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي جَاذِبِيَّةِ الثِّقْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (٣٠: ٤٨) وَفِي سُورَةِ النُّورِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (٢٤: ٤٣) الْوَدْقُ: الْمَطَرُ، أَيْ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ وَأَثْنَائِهِ وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُرَادٌ بِالسَّمَاءِ فِيهِ السَّحَابُ لِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَالسَّمَاءُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَلَا الْإِنْسَانَ وَيُفَسَّرُ بِالْقَرَائِنِ، وَمِنَ الْخَطَإِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَسْكَنُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى السَّحَابِ الَّذِي هُوَ كَالْغِرْبَالِ لَهَا وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُصَرِّحُ بِخِلَافِهِ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ وَالِاخْتِبَارُ؛ فَإِنَّ سُكَّانَ الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ يَبْلُغُونَ فِي تَوْقِهَا السَّحَابَ الْمُمْطِرَ ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَهُ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَيَكُونُ دُونَهُمْ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ سَمَاءً تَسْمِيَةً حَقِيقِيَّةً ثُمَّ أُطْلِقَتْ لَفْظُ السَّمَاءِ عَلَى الْمَطَرِ نَفْسِهِ، فَكَانَتْ تَقُولُ: جَاءَ مَكَانَ كَذَا فِي إِثْرِ سَمَاءٍ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهَا آنِفًا: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (٢٤: ٤٣) فَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ السَّمَاءِ فِيهَا عَيْنَ السَّحَابِ وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جِهَةُ الْعُلُوِّ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا السَّحَابُ كَقَوْلِهِ: (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ) (٣٠: ٤٨) وَقَوْلِهِ: (مِنْ جِبَالٍ) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْجِبَالِ: قِطَعُ السَّحَابِ الَّتِي تُشْبِهُ الْجِبَالَ شَبَهًا تَامًّا فِي عِظَمِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَشَنَاخِيبِهَا وَقُلَلِهَا، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْخَلْقِ تَشَابُهٌ كَالتَّشَابُهِ بَيْنَ السَّحَابِ
416
وَالْجِبَالِ. وَالْمَعْنَى: وَيُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ سُحُبٍ فِيهَا كَالْجِبَالِ بَرَدًا عَظِيمَ الشَّأْنِ فِي شَكْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِيمَنْ يُصِيبُهُ، وَ (مِنْ) فِيهِ صِلَةٌ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ. وَمَا رُوِيَ مُخَالِفًا لِهَذَا فَمِنْ إِسْرَائِيلِيَّاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) عَطَفَ كُلًّا مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ عَلَى سَوْقِ السَّحَابِ وَمِنْ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَهُوَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْزَالُ الْمَاءِ يَعْقُبُ سَوْقَ السَّحَابِ الثِّقَالِ وَجَعْلَهُ كِسَفًا أَوْ رُكَامًا بِدَقَائِقَ
مَعْدُودَةٍ قَلَّمَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى السَّاعَاتِ، وَسَبَبُ السُّرْعَةِ فِيهِ شِدَّةُ الرِّيحِ، وَيُقَابِلُهُ سَبَبُ الْبُطْءِ وَهُوَ ضَعْفُهَا. وَأَمَّا إِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ فَأَمَدُ التَّعْقِيبِ فِيهِ أَوْسَعُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ أَيَّامٍ تَخْتَلِفُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاخْتِلَافِ الْأَقْطَارِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ. وَمِنَ التَّعْقِيبِ مَا يَكُونُ فِي أَشْهُرٍ أَوْ سِنِينَ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ: تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ - فَهُوَ يَصْدُقُ بِمَنْ يُولَدُ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ الْغَالِبَةِ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ بِالتَّقْرِيبِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُنَافِي التَّعْقِيبُ فِيهِ زِيَادَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.
وَالثَّمَرَاتُ جَمْعُ ثَمَرَةٍ وَهِيَ وَاحِدَةُ الثَّمَرِ (بِتَحْرِيكِ كُلٍّ مِنْهُمَا) وَالثَّمَرُ يُجْمَعُ عَلَى ثِمَارٍ - كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ - وَجَمْعُ الثِّمَارِ ثَمَرٌ - كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ - وَهُوَ يُجْمَعُ عَلَى أَثْمَارٍ - كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ - قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَالثَّمَرُ هُوَ الْحَمْلُ الَّذِي تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ سَوَاءً أَكَلَ أَوْ لَا. فَيُقَالُ: ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَثَمَرُ الْعَوْسَجِ، وَثَمَرُ الدَّوْمِ وَهُوَ الْمُقِلُّ، كَمَا يُقَالُ: ثَمَرُ النَّخْلِ، وَثَمَرُ الْعِنَبِ اهـ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَوْضَحُ مِنْ قَوْلِ الرَّاغِبِ: الثَّمَرُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَطَعَّمُ مِنْ أَعْمَالِ الشَّجَرَةِ. وَالْمُرَادُ بِكُلِّ الثَّمَرَاتِ: جَمِيعُ أَنْوَاعِهَا عَلَى اخْتِلَافِ طُعُومِهَا وَأَلْوَانِهَا وَرَوَائِحِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ بَلَدٍ مَيِّتٍ يُنْزِلُ اللهُ فِيهِ الْمَاءَ يُخْرِجُ بِهِ جَمِيعَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّالِيَةِ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ وَمِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْبِلَادَ تَخْتَلِفُ أَرْضُهَا فِيمَا تُخْرِجُهُ وَفِي الْإِخْرَاجِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْضِ اللهِ كُلِّهَا. وَيَكْفِي فِي كُلِّ أَرْضٍ أَنْ تُخْرِجَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَلِمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. قَالَ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٣: ٤) وَقَفَّى عَلَى التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ كَمَا قَالَ هُنَا:
(كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أَيْ مِثْلِ هَذَا الْإِخْرَاجِ لِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ بِإِحْيَائِهَا بِالْمَاءِ نُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا قَادِرٌ عَلَى ذَاكَ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ هَذَا الشَّبَهَ فَيَزُولُ اسْتِبْعَادُكُمْ لِلْبَعْثِ الَّذِي عَبَّرْتُمْ عَنْهُ بِقَوْلِكُمْ: (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٣٦: ٧٨) ؟ (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٣٧: ١٦) (أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) (٣٧: ٥٣) (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٥٠: ٣) وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى إِنْكَارِكُمْ لَا مَنْشَأَ لَهُ إِلَّا مَا تَحْكُمُونَ
417
بِهِ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنِ امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، ذَاهِلِينَ عَنْ خُرُوجِ النَّبَاتِ الْحَيِّ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، وَعَنْ
عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَيَاةِ النَّبَاتِ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ، فِي خُضُوعِهِمَا لِقُدْرَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي الْآيَةِ هُوَ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالْحَيُّ فِي عُرْفِهِمْ يُعْرَفُ بِالنَّمَاءِ وَالتَّغَذِّي كَالنَّبَاتِ، وَبِالْحِسِّ وَالتَّحَرُّكِ بِالْإِرَادَةِ كَالْحَيَوَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعِلْمَ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّ الْحَيَّ لَا يُولَدُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ بِأَنْوَاعِهِ مِنْ أَدْنَى الْحَشَرَاتِ إِلَى أَعْلَاهَا، فَالنَّبَاتُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ الْقَفْرَاءِ بَعْدَ سَقْيِهَا بِالْمَاءِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ بُذُورٌ أَوْ جُذُورٌ فِيهَا حَيَاةٌ كَامِنَةٌ لَا تَظْهَرُ مِنْ مَكْمَنِهَا إِلَّا بِالْمَاءِ، كَمَا أَنَّ الْبُيُوضَ الَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْحَيَوَانُ - أَدْنَاهَا كَالصِّئْبَانِ وَبُذُورِ الدِّيدَانِ، وَأَوْسَطُهَا كَبَيْضِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّاتِ، وَأَعْلَاهَا كَبُيُوضِ الْأَرْحَامِ - كُلُّهَا ذَاتُ حَيَاةٍ لَا تُنْتِجُ إِلَّا بِتَلْقِيحِ مَاءِ الذُّكُورِ لَهَا؟.
قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ وَاضِعِي اللُّغَةِ فَهِيَ اصْطِلَاحٌ جَدِيدٌ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ خُوطِبُوا بِعُرْفِهِمْ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فَفَهِمُوا، بَلْ إِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ خُرُوجِ النَّبَاتِ الْحَيِّ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، فَلَوْلَا تَغَذِّي الْبُذُورِ وَالْجُذُورِ بِمَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ بِسَبَبِ الْمَاءِ لَمَا نَبَتَتْ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ قَالُوا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَبْلَى كُلُّهُ إِلَّا عَجَبَ الذَّنَبِ وَهُوَ أَصْلُ الذَّنَبِ الْمُسَمَّى بِالْعُصْعُصِ أَوْ رَأْسِ الْعُصْعُصِ فَهُوَ كَنَوَاةِ النَّخْلَةِ تَبْقَى فِيهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً بَعْدَ فَنَاءِ الْجِسْمِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُ النَّاسُ مِنْ عَجَبِ الذَّنَبِ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَفْعَلُ هَذَا الْمَطَرُ فِي الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ أَصْلٌ صَرِيحٌ يُعَدُّ حُجَّةً قَطْعِيَّةً فِي مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى كَهَذِهِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْآحَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَا يُثْبِتُ بَقَاءَ عَجَبِ الذَّنَبِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ... وَيَبْقَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجَبُ الذَّنَبِ فِيهِ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ لِلْمَرْفُوعِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ أَرْبَعُونَ " ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ (قَالَ) وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجَبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَهُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا يُرْسِلُ اللهُ فِيهَا عَلَى الْمَوْتَى مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ مِنْ مَاءٍ تَحْتَ الْعَرْشِ يُسَمَّى مَاءَ الْحَيَوَانِ فَيَنْبُتُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِذَلِكَ الْمَطَرِ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِمُ الرُّوحُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَيُعَارِضُهُ كَوْنُ الْأَرْضِ تَصِيرُ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى كَمَا يَأْتِي
418
قَرِيبًا هَبَاءً مُنْبَثًّا وَهَذَا قَطْعِيٌّ، وَهُوَ يُعَارِضُ الْمَرْفُوعَ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ مَطْعَنًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ نَفْسِهِ، فَأَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِجْمَالِهِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ عَجَبِ الذَّنَبِ لَا يَبْلَى بِطُولِ بَقَائِهِ لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى مُطْلَقًا، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ. وَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ وَسِرَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْإِمَامُ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بِفَنَائِهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
عَجَبُ الذَّنَبِ كَالرُّوحِ لَكِنْ صَحَّحَا الْمُزَنِيُّ لِلْبِلَى وَرَجَّحَا
وَإِنَّمَا يُقَالُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّبَاتِ وَبِالْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً. وَأَنَّ الْأَحْيَاءَ الْأُولَى وُجِدَتْ فِيهَا بِالتَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ الَّذِي انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَسَلْسُلِ الْأَحْيَاءِ؛ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ مُسْتَعِدَّةً لَهُ كَمَا كَانَتْ وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ. وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِأَنَّ الْأَرْضَ تَفْنَى بِتَفَرُّقِ مَادَّتِهَا، ثُمَّ يُعِيدُهَا اللهُ كَمَا بَدَأَهَا. قَالَ تَعَالَى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (٥٦: ٤ - ٦) فَهَذِهِ الرَّجَّةُ الَّتِي سَمَّاهَا فِي سُوَرٍ أُخْرَى بِالْقَارِعَةِ وَالصَّاخَّةِ. وَالْمَعْقُولُ أَنَّ كَوْكَبًا يَقْرَعُهَا بِاصْطِدَامِهِ بِهَا فَتُفَتَّتُ جِبَالُهَا وَتَكُونُ كَالْهَبَاءِ الْمُتَفَرِّقِ فِي الْجَوِّ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ بِالسَّدِيمِ. وَقَالَ تَعَالَى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١: ١٠٤) (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)
وَالْأَشْبَهُ أَنَّ تَشْبِيهَ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِجْمَالُ دُونَ التَّفْصِيلِ، فَكَمَا خَلَقَ اللهُ جَسَدَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ خَلْقًا ذَاتِيًّا مُبْتَدَأً ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ - يَخْلُقُ أَجْسَادَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ خَلْقًا ذَاتِيًّا مُعَادًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا أَرْوَاحَهَا الَّتِي كَانَتْ بِهَا أَنَاسِيَّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُ يَجْعَلُهَا مُتَسَلْسِلَةً بِالتَّوَالُدِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى، إِذْ كَانَتِ الْأَجْسَادُ كَاللِّبَاسِ لِلْأَرْوَاحِ أَوِ السَّكَنِ لَهَا، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ قَدْ بَلَغُوا مِنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْ يُحَلِّلُوا بَعْضَ الْمَوَادِّ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ عَنَاصِرَ كَثِيرَةٍ ثُمَّ يَرْكَبُوهَا، أَفَيَعْجِزُ خَالِقُ الْعَالَمِ كُلِّهِ أَوْ يُسْتَبْعَدُ عَلَى قُدْرَتِهِ أَنْ يُعِيدَ أَجْسَادَ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ وَأَيُّ فَرْقٍ عِنْدَهُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ !.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الرُّوحِيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى الْأَرْوَاحَ الْمُجَرَّدَةَ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَادَّةِ الْكَوْنِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وَأَنَّهَا بِذَلِكَ تُرَكِّبُ لِنَفْسِهَا مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ جِسْمًا لَطِيفًا أَوْ كَثِيفًا تَحِلُّ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاؤُنَا بِالتَّشَكُّلِ فِي تَفْسِيرِ مَجِيءِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بِشَكْلِ أَعْرَابِيٍّ وَأَحْيَانًا فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَتَمَثُّلِهِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَادِّيُّونَ لَا يُصَدِّقُونَ الرُّوحَانِيِّينَ فِي هَذَا، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا قُصَارَى إِنْكَارِهِمْ أَنْ قَالُوا إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ
419
عِنْدَنَا. وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا غَيْرَ مُحَالٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّا وَهَبَ الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقِ، أَفَيَكُونُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَفْعَلَهُ الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْأَرْوَاحِ فِيهِ عَمَلًا؟.
لَيْسَ لِلْكُفَّارِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الْبَعْثِ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَسْتَبْعِدُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ قَدْ قَرَّبَهُ تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ كُبَرَاءِ الْغَرْبِ: لَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مُحَالٌ. وَلَكِنْ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ شُبْهَةٌ عَلَى حَشْرِ الْأَجْسَادِ تُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحْشَرُ بِجَسَدِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ لِكَيْ يَقَعَ الْجَزَاءُ بَعْدَهُ عَلَى الْبَدَنِ الَّذِي اقْتَرَفَ الْأَعْمَالَ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْإِيرَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهَا مَادَّةُ الْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ يَعْرِضُ لَهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّرْكِيبُ فَتَدَخُلُ الطَّائِفَةُ مِنْهَا فِي عِدَّةِ أَبْدَانٍ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَمِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مَا تَأْكُلُهُ الْحِيتَانُ أَوِ الْوُحُوشُ وَمِنْهَا مَا يُحْرَقُ فَيَذْهَبُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ فِي الْهَوَاءِ فَيَتَّصِلُ كُلُّ بُخَارِيٍّ - أَوْ
غَازِيٍّ - مِنْهَا بِجِنْسِهِ كَبُخَارِ الْمَاءِ وَعُنْصُرَيْهِ وَالْكَرْبُونِ، وَيَنْحَلُّ مَا يُدْفَنُ فِي الْأَرْضِ فِيهَا ثُمَّ يَتَغَذَّى بِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّبَاتُ الَّذِي يَأْكُلُ بَعْضَهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ فَيَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَجْسَادِهَا، وَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ لُحُومِ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي تَغَذَّتْ مِنْ أَجْسَادِ النَّاسِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، فَلَا يَخْلُصُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ جَسَدٌ خَاصٌّ بِهِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ تَنْحَلُّ وَتَنْدَثِرُ بِالتَّدْرِيجِ، وَكُلَّمَا انْحَلَّ بَعْضُهَا بِالتَّبَخُّرِ وَبِمَوْتِ بَعْضِ الدَّقَائِقِ الْحَيَّةِ يَحِلُّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ مِنَ الْغِذَاءِ بِنِسْبَةِ الدَّمِ الْمُتَحَوِّلِ مِنْ مُنْتَظِمَةٍ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَلَا يَمُرُّ بِضْعُ سِنِينَ عَلَى جَسَدٍ إِلَّا وَيَتِمُّ انْدِثَارُهُ وَتَجَدُّدُهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ يُحْشَرُ بِجَسَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا؟
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لِلْجَسَدِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّةً وَأَجْزَاءً فَضْلِيَّةً، وَالَّذِي يُعَادُ بِعَيْنِهِ هُوَ الْأَصْلِيُّ دُونَ الْفَضْلَةِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْأَصْلِيَّ عِبَارَةً عَنْ ذَرَّاتٍ صَغِيرَةٍ كَعَجَبِ الذَّنَبِ الَّذِي وَرَدَ أَنَّهُ كَحَبَّةِ خَرْدَلٍ، بَلْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي وَرَدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْدَعَهَا فِي صُلْبِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ بِصُورَةِ الذَّرِّ، كَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (١٧٢) الْآيَةَ - وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَجَوَّزَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ حُسَيْنُ الْجِسْرُ فِي الرِّسَالَةِ الْحُمَيْدِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذَّرُّ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِتَنَاهِي صِغَرِهِ كَالْأَحْيَاءِ الْمِجْهَرِيَّةِ أَيِ الَّتِي لَا تُرَى إِلَّا بِالْمِنْظَارِ الْمُسَمَّى بِالْمِجْهَرِ (الميكروسكوب).
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْتِزَامَ الْقَوْمِ بِوُجُوبِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ الَّتِي كَانَتْ لِكُلِّ حَيٍّ بِأَعْيَانِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا غَيْرُ لَازِمٍ لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ، فَجَمِيعُ قُضَاةِ الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَبْدَانَ الْبَشَرِ تَتَجَدَّدُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ
420
غَيْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَقُولُ إِنَّ الْعِقَابَ يَسْقُطُ عَنِ الْجَانِي بِانْحِلَالِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ الَّتِي زَاوَلَ بِهَا الْجِنَايَةَ وَتَبَدَّلَ غَيْرُهَا بِهَا. فَمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا فَمَا نَحْنُ بِمُلْزَمِينَ قَبُولَ الْإِيرَادِ وَتَكَلُّفَ دَفْعِهِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ لَا تَتَغَيَّرُ بِهَذَا التَّبَدُّلِ، فَقَدْ تَبَدَّلَتْ أَجْسَادُنَا مِرَارًا وَلَمْ تَتَبَدَّلْ بِهَا حَقِيقَتُنَا وَلَا مَدَارِكُنَا، وَلَا تَأْثِيرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي زَاوَلْنَاهَا قَبْلَ التَّبَدُّلِ فِي أَنْفُسِنَا، بَلْ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّبَدُّلُ إِلَّا كَتَبَدُّلِ الثِّيَابِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَعْلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمِثْلِ هَذَا وَلَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ الْأَخِيرَةُ مَعْلُومَةً
فِي عَصْرِهِمْ، قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ أَشْهَرُ كُتُبِ الْكَلَامِ فِي التَّحْقِيقِ بَعْدَ بَيَانِهِ لِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ جَمِيعًا مَا نَصُّهُ:
" نَعَمْ رُبَّمَا يَمِيلُ كَلَامُهُ وَكَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَعَادَيْنِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِذَلِكَ الْبَدَنِ بَدَنًا فَيُعِيدُ إِلَيْهِ نَفْسَهُ الْمُجَرَّدَةَ الْبَاقِيَةَ بَعْدَ خَرَابِ الْبَدَنِ. وَلَا يَضُرُّنَا كَوْنُ غَيْرِ الْبَدَنِ الْأَوَّلِ بِحَسَبِ الشَّخْصِ وَلَا امْتِنَاعُ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ، وَمَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ جُرْدًا مُرْدًا، وَكَوْنِ ضِرْسِ الْكُفَّارِ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ يُعَضِّدُ ذَلِكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) (٤: ٥٦) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٣٦: ٨١) إِشَارَةً إِلَى هَذَا.
(فَإِنْ قِيلَ) : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُثَابُ وَالْمُعَاقَبُ بِاللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْجُسْمَانِيَّةِ غَيْرَ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَةَ، وَارْتَكَبَ الْمَعْصِيَةَ. (قُلْنَا) : الْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْإِدْرَاكِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلرُّوحِ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الْآلَاتِ وَهُوَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ، وَكَذَا الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ مِنَ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلشَّخْصِ مِنَ الصِّبَا إِلَى الشَّيْخُوخَةِ إِنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ وَإِنْ تَبَدَّلَتِ الصُّوَرُ وَالْهَيْئَاتُ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَعْضَاءِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ جَنَى فِي الشَّبَابِ فَعُوقِبَ فِي الْمَشِيبِ إِنَّهَا عُقُوبَةٌ لِغَيْرِ الْجَانِي.
(قَالَ) " لَنَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي إِثْبَاتِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ دَلِيلُ السَّمْعِ، وَالْمُفْصِحَ عَنْهُ غَايَةَ الْإِفْصَاحِ مِنَ الْأَدْيَانِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْكُتُبِ الْقُرْآنُ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَدَّعُونَ إِثْبَاتَهُ بَلْ وُجُوبَهُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ - وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ، وَعِقَابُ الْعَاصِينَ، وَإِعْوَاضُ الْمُسْتَحِقِّينَ. وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِإِعَادَتِهِمْ فَيَجِبُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَأَتَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَرُبَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى تَقْرِيرِ الْفَنَاءِ وَمَبْنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِي كَوْنِ تَرْكِ الْجَزَاءِ ظُلْمًا لَا يَصِحُّ صُدُورُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَعَ إِمْكَانِ الْمُنَاقَشَةِ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الْمَعَادُ الرُّوحَانِيُّ، وَيَدْفَعُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ هِيَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَوِ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ لَا الرُّوحُ وَحْدَهُ، وَلَا يَصِلُ الْجَزَاءُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ إِلَّا بِإِعَادَتِهَا.
421
(وَالْجَوَابُ) أَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ الْأَمْرَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ فَالْمُسْتَحِقُّ هُوَ الرُّوحُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ عَلَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَهُوَ
الْمَبْدَأُ لِلْكُلِّ، وَإِنِ اعْتُبِرَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَلْزَمُ أَنْ يُعَادَ جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ الْكَائِنَةِ مِنْ أَوَّلِ التَّكْلِيفِ إِلَى الْمَمَاتِ وَلَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ.
" وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْإِعَادَةَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَيَكُونُ وَاقِعًا. أَمَّا الْإِمْكَانُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا عُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ أَوْ تَفَرَّقَ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ مَاتَ بَعْدَ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِذَلِكَ. وَالْفَاعِلُ هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلِمَا تَوَاتَرَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نُصُوصٍ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرُهَا التَّأْوِيلَ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٣٦: ٧٨، ٧٩). (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦: ٥١). (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١٧: ٥١) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (٧٥: ٣، ٤) (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٤١: ٢١) (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) (٤: ٥٦) (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) (٥٠: ٤٤) (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (١٠٠: ٩) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنَ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا (وَهِيَ) كَثِيرَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِثْبَاتُ الْحَشْرِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَإِنْكَارُهُ كُفْرٌ بِيَقِينٍ.
(فَإِنْ قِيلَ) : الْآيَاتُ الْمُشْعِرَةُ بِالْمِيعَادِ الْجُسْمَانِيِّ لَيْسَتْ أَكْثَرَ وَأظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّشْبِيهِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ تَأْوِيلُهَا قَطْعًا، فَلْنَصْرِفْ هَذِهِ أَيْضًا إِلَى بَيَانِ الْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَأَحْوَالِ سَعَادَةِ النُّفُوسِ وَشَقَاوَتِهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَبْدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَبْعُوثُونَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلَائِقِ لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَتَبْقِيَةِ النِّظَامِ الْمُفْضِي إِلَى صَلَاحِ الْكُلِّ، وَذَلِكَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْبِشَارَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ لَذَّةً وَكَمَالًا، وَالْإِنْذَارِ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ أَلَمًا وَنُقْصَانًا. وَأَكْثَرُهُمْ عَوَامٌّ تَقْصُرُ عُقُولُهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَرِفُوهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. فَوَجَبَ أَنْ تُخَاطِبَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِمَا هُوَ مِثَالٌ لِلْمَعَادِ الْحَقِيقِيِّ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا لِلْعَوَامِّ، وَتَتْمِيمًا لِأَمْرِ النِّظَامِ. وَهَذَا مَا قَالَهُ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ: إِنَّ الْكَلَامَ مَثَلٌ وَخَيَالَاتٌ لِلْفَلْسَفَةِ.
(قُلْنَا) : إِنَّمَا يَجِبُ التَّأْوِيلُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّاهِرِ وَلَا تَعَذُّرَ هَاهُنَا، سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْبَدَنِ الْمُعَادِ مِثْلَ الْأَوَّلِ لَا عَيْنَهُ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ عَلَى
422
الْإِشَارَةِ إِلَى مِثَالِ مَعَادِ النَّفْسِ وَالرِّعَايَةِ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ نِسْبَةً لِلْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْكَذِبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْقَصْدِ إِلَى تَضْلِيلِ أَكْثَرِ الْخَلَائِقِ وَالتَّعَصُّبِ طُولَ الْعُمْرِ لِتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ وَإِخْفَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا هَذِهِ الظَّوَاهِرَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا عِنْدَكُمْ. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ مَعَ إِرَادَتِهَا مِنَ الْكَلَامِ وَثُبُوتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَثَلٌ لِلْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَاللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَذَا أَكْثَرُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَنْ يَنْفِيهِ اهـ. كَلَامُ التَّفْتَازَانِيِّ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا تَظْهَرُ لَهُ دِقَّةُ أَفْهَامِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ صَوَّرُوا الشُّبْهَةَ بِنَحْوٍ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ أَحْدَثِ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الْعَصْرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَجَابُوا عَنْهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ جَوَابٍ آخَرَ، وَمَا قَالَهُ الْفَارَابِيُّ وَأَمْثَالُهُ فَهُوَ كَأَكْثَرِ فَلْسَفَتِهِمْ فِيمَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ جَهلًا بِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ، وَضَلَالًا فِي تَأْوِيلِ الْأَدْيَانِ، فَالْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ، وَكَمَالُهُ بِحُصُولِ لَذَّاتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ جَمِيعًا وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ رُوحَانِيًّا مَحْضًا لَكَانَ مَلَكًا أَوْ شَيْطَانًا وَلَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِرَارًا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ الْفَضْلِيَّةِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ، وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَتَفْسِيرُ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ بِالذَّرِّ أَوْ مَا يُشْبِهُ الَّذِي وَرَدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي صُلْبِ آدَمَ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجَرَاثِيمُ الْمُشَبَّهَةُ بِالذَّرِّ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَعْنِيهَا مَنْ يَقُولُونَ بِحَشْرِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا.
وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهًا آخَرَ مِنَ النَّظَرِ الْعِلْمِيِّ وَهُوَ خَلْقُ اللهِ لِلْبَشَرِ فِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ جَرَاثِيمَ حَيَّةً تَتَسَلْسَلُ فِي سَلَائِلِهِمُ التَّنَاسُلِيَّةِ، فَإِنَّ مَسْأَلَةَ أُصُولِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ أَخْفَى مَسَائِلِ الْخَلْقِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْمَبَاحِثِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ فِي حَالِهَا هَذِهِ فَهُوَ مِنْ أَصْلٍ حَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ مِنْ جَرَاثِيمِ الْأَحْيَاءِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّبَاتِيَّةِ يَنْدَمِجُ فِيهِ جَمِيعُ مُقَوِّمَاتِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا إِذَا قُدِّرَ لَهُ أَنْ يُولَدَ وَيَنْمَى
وَيَكْمُلَ خَلْقُهُ، فَنَوَاةُ النَّخْلَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُلِّ خَوَاصِّ النَّخْلَةِ الَّتِي تَنْبُتُ مِنْهَا حَتَّى لَوْنِ بُسْرِهَا وَشَكْلِهِ وَدَرَجَةِ حَلَاوَتِهِ عِنْدَمَا يَصِيرُ رَطْبًا فَتَمْرًا، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ كَيْفَ وُجِدَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ وَالْجَرَاثِيمُ فِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ مِنْهُمُ الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْأَنْوَاعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَالْقَائِلُونَ بِالْخَلْقِ التَّدْرِيجِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ النُّشُوءِ، وَالِارْتِقَاءِ، إِلَّا أَنَّ لِهَؤُلَاءِ نَظَرِيَّةً فِي تَصْوِيرِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ مِنْ مَادَّةٍ زُلَالِيَّةٍ مُكَوَّنَةٍ مِنْ عَنَاصِرَ مُخْتَلِفَةٍ لَهَا قُوَى التَّغَذِّي وَالِانْقِسَامِ وَالتَّوَالُدِ، فِي وَقْتٍ كَانَتْ طَبِيعَةُ الْأَرْضِ فِيهَا غَيْرَ طَبِيعَتِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ وَمَا يُشْبِهُهُ مُنْذُ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ وَلَكِنْ كَيْفَ صَارَ لِمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى وَالْعُلْيَا، جَرَاثِيمُ مُشْتَمِلَةٌ
423
عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَسْرَارِ لَا تَتَوَلَّدُ إِلَّا مِنْهَا؟ إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ بِهَذَا وَلَا بِمَا قَبْلَهُ (مَا أَشْهَدَتْهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (١٨: ٥١).
أَطَالَ شَيْخُنَا حُسَيْنُ الْجِسْرُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَأَثْبَتَ أَنَّهَا مِنَ الْمُمْكَنَاتِ إِذْ لَا مُحَالَ فِي إِيدَاعِ الْمَلَايِينِ الْكَثِيرَةِ مِنَ النَّسَمِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْحَيَّةِ بِعَدَدِ جَمِيعِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ، وَارْتَأَى أَنَّ مُسْتَوْدَعَهَا مِنْ آدَمَ كَانَ فِي مَنِيِّهِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ بِالْوِقَاعِ (قَالَ) " فَتَحِلُّ فِي الْبُزُورِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مِبْيَضِ زَوْجَتِهِ فَيَكُونُ هَيَاكِلُهَا مِنْ تِلْكَ الْبُزُورِ مَعَ السَّائِلِ الْمَنَوِيِّ وَيُطَوِّرُهَا أَطْوَارًا حَتَّى تَبْلُغَ صُورَةَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَوَّلُ ذَرَّةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ نَقَلَهَا إِلَى بِزْرَتِهَا نَقَلَ مَعَهَا عَدَدَ الذَّرَّاتِ الَّتِي تَكُونُ أَوْلَادًا لَهَا ثُمَّ يَنْقِلُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ فِيمَا بَعْدُ عَنْ هَيْكَلِ هَذِهِ الذَّرَّةِ الْأُولَى، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي بَقِيَّةِ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ يَفْعَلُ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ... وَعِنْدَ بُلُوغِ كُلِّ هَيْكَلٍ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ يُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى الرُّوحَ فَتَحِلُّ فِي ذَرَّتِهَا وَتَسْرِي فِيهَا وَفِي هَيْكَلِهَا الْحَيَاةُ وَالْحَرَكَةُ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ مَجْمُوعُ الرُّوحِ وَالذَّرَّةِ، وَهَذِهِ الذَّرَّةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي قَالَ بِهَا أَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا الْبَاقِيَةُ مُدَّةَ الْعُمْرِ وَهِيَ الْمُعَادَةُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ تُفَارِقَهَا بِالْمَوْتِ، وَالْهَيْكَلُ هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ الَّتِي تَرُوحُ وَتَجِيءُ وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ. فَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مَوْتَ الْإِنْسَانِ فَصَلَ عَنْ ذَرَّتِهِ الرُّوحَ، فَفَارَقَتْهَا
الْحَيَاةُ وَفَارَقَتِ الْهَيْكَلَ الَّذِي هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ وَحَلَّهُمَا الْمَوْتُ، فَيَأْخُذُ الْهَيْكَلُ بِالِانْحِلَالِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالدُّخُولِ فِي تَرْكِيبِ غَيْرِهِ مَا يَجْرِي، وَالذَّرَّةُ مَحْفُوظَةٌ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى كَمَا تُحْفَظُ ذَرَّاتُ الذَّهَبِ مِنَ الْبِلَى وَالِانْحِلَالِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي تَرْكِيبِ حَيَوَانٍ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ هَيْكَلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ مَحْفُوظَةً غَيْرَ مُنْحَلَّةٍ، فَإِذَا انْحَلَّ ذَلِكَ الْهَيْكَلُ عَادَتْ مَحْفُوظَةً فِي أَطْبَاقِ الثَّرَى وَلَا تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لِذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهُ، غَايَةُ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لَهَا، وَانْحِلَالُ هَيْكَلِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى حَيَاتَهَا أَعَادَ الرُّوحَ إِلَيْهَا، فَتَعُودُ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ وَبَقِيَّةُ خَوَاصِّهَا وَإِنْ كَانَ هَيْكَلُهَا مُنْحَلًّا.
وَمِنْ هُنَا تَنْحَلُّ شُبَهُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ الَّتِي وَرَدَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ قَبْلَ الْبَعْثِ.
" ثُمَّ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ الْخَلْقَ لِلْحِسَابِ أَعَادَ تَكْوِينَ هَيَاكِلِ الذَّرَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ، سَوَاءً كَانَتْ هِيَ الْأَجْزَاءَ السَّابِقَةَ أَوْ غَيْرَهَا - إِذِ الْمَدَارُ عَلَى عَدَمِ تَبَدُّلِ الذَّرَّاتِ، وَأَحَلَّ الذَّرَّاتِ فِي تِلْكَ الْهَيَاكِلِ، وَبِتَعَلُّقِ الرُّوحِ بِهَا تَقُومُ فِيهَا وَفِي هَيَاكِلِهَا الْحَيَاةُ، وَيَقُومُ الْبَشَرُ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا فِي بَقِيَّةِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ تَفْصِيلِهِ ".
424
ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمَادِّيِّينَ الْأَمْثَالَ الْمُقَرِّبَةَ لِذَلِكَ بِأَنْوَاعِ جَنَّةِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ " الْمَيِكْرُوبَاتِ " وَحَيَاتِهَا فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا بِنِظَامٍ غَرِيبٍ، وَدُخُولِ الْمَرَضِيَّةِ مِنْهَا فِي أَجْسَادِ الْمَرْضَى وَسَرَيَانِهَا فِي دَوْرَةِ الدَّمِ، وَبِالْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّةِ مِنْهَا فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنَ الْأُنْثَيَيْنِ وَيُلَقِّحُ بَذُورَ الْأُنْثَى - وَقَالَ بَعْدَ تَلْخِيصِ مَا قَالُوهُ فِي صِفَتِهَا وَقَدْرِهَا وَحَرَكَتِهَا -: فَأَيُّ مَانِعٍ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّةَ جَعَلَهَا الْخَالِقُ تَعَالَى تَحْمِلُ ذَرَّاتِ بَنِي آدَمَ الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَتَسِيرُ بِهَا فِي السَّائِلِ الْمَنَوِيِّ حَتَّى تُلْقِيَهَا فِي الْبُزُورِ الْمُنْفَصِلَةِ مِنْ مِبْيَضِ الْمَرْأَةِ؟... ثُمَّ عَلَّلَ بِهَذَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَنْتَقِلُ مِنَ الْأَبِ إِلَى الْأُمِّ خِلَافًا لِقَوْلِهِمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ بِزْرَةِ أُمِّهِ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّلْقِيحِ.
ثُمَّ ذَكَرَ عَمَلَ الْقَلْبِ وَتَعْلِيلَهُمْ لِحَرَكَتِهِ الْمُنْتَظِمَةِ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّهُ هُوَ مَرْكَزُ الذَّرَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَنَّهَا بِحُلُولِ الرُّوحِ فِيهَا تَتَحَرَّكُ تِلْكَ الْحَرَكَةُ الْمُنْتَظِمَةُ الَّتِي تَنْشَأُ
عَنْهَا دَوْرَةُ الدَّمِ، وَبَعْدَ إِيضَاحِ ذَلِكَ قَالَ:
" وَخُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْحَقِيقِيَّ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ هُوَ الذَّرَّةُ الَّتِي تَحِلُّ فِي الْقَلْبِ وَتَحِلُّ فِيهَا الرُّوحُ فَتُكْسِبُهَا الْحَيَاةَ وَتَسْرِي الْحَيَاةُ إِلَى الْهَيْكَلِ، ثُمَّ الْهَيْكَلُ إِنَّمَا هُوَ آلَةٌ لِقَضَاءِ أَعْمَالِ تِلْكَ الذَّرَّةِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَلِاكْتِسَابِ مَعَارِفِهَا بِسَبَبِهِ، وَتِلْكَ الذَّرَّةُ مَعَ الرُّوحِ الْحَالَّةِ فِيهَا هِيَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمَعَادِ وَالْمُنَعَّمِ وَالْمُعَذَّبِ - إِلَى آخِرِ مَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ.
" وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ نَجِدُ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الْبَعْثِ وَسُؤَالِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ وَحَيَاةِ بَعْضِ الْبَشَرِ فِي قُبُورِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَقَطَتْ بِرُمَّتِهَا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَاللهُ أَعْلَمُ ".
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ صَرِيحَةٌ فِي إِعَادَةِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ أَوْ بَعْضِهِ كَالْعِظَامِ - كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ السَّعْدِ - وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَرَدَتْ لِدَفْعِ إِشْكَالَاتٍ أُخْرَى كَانَتْ تَعْرِضُ لِأَفْكَارِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي إِعَادَتِهَا، إِذْ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَعْثِ لَا تَنْصَرِفُ أَفْكَارُهُمْ إِلَّا إِلَى إِعَادَةِ هَذَا الْهَيْكَلِ الْمُشَاهَدِ لَهُمْ، فَيَقُولُونَ كَيْفَ تَعُودُ الْحَيَاةُ لِلْعِظَامِ بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ رَمِيمًا؟ فَتَدْفَعُ هَذِهِ النُّصُوصُ إِشْكَالَاتِهِمْ بِقُدْرَةِ اللهِ الشَّامِلَةِ وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ. (قَالَ) : وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّوَجُّهَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي إِعَادَةِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الذَّرَّاتُ لِتَدْفَعَ بِهِ الْإِشْكَالَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي تَقَدَّمَتْ فَلْيُتَأَمَّلْ، اهـ. ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِنَّ مَا حَرَّرَهُ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْإِشْكَالِ عَمَّنْ يَعْرِضُ لَهُ.
فَهَذَا مُلَخَّصُ رَأْيِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ كَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُحَاوَلَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَضْلِيَّةِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لِكُلِّ فَرْدٍ ذَرَّةً حَيَّةً فِي بَدَنِهِ كَالْجِنَّةِ الَّتِي لَا تُرَى فِي الْمَاءِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِمَا بِغَيْرِ الْمِنْظَارِ الْمُكَبِّرِ (الْمِجْهَرِ).
425
نَعَمْ إِنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَحْمِلَ الْحَيَوَانُ الْمَنَوِيُّ الَّذِي يُلَقِّحُ بُوَيْضَةَ الْمَرْأَةِ فِي الرَّحِمِ ذَرَّةً حَيَّةً هِيَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ. كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَيَوَانُ الْمَنَوِيُّ
نَفْسُهُ هُوَ الَّذِي يُنَمَّى فِي الْبُوَيْضَةِ وَيَكُونُ إِنْسَانًا، وَأَنَّ أَصْلَهُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنِ ازْدِوَاجِ خَلِيَّتِهِ بِخَلِيَّتِهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَأَيُّهَا كَانَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِكِبَرِهِ وَنَمَائِهِ كَمَا تَكُونُ نَوَاةُ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً بَاسِقَةً مُثْمِرَةً، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْفَرْعُ عَيْنَ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ آخَرُ بِشَكْلٍ مُصَغَّرٍ فِي هَذَا الْهَيْكَلِ لَا فِي الْقَلْبِ وَلَا فِي الْمَنِيِّ، وَإِنَّمَا قَدْ يَكُونُ فِي هَيْكَلِهِ أَصْلٌ وَأُصُولٌ لِأَنَاسِيِّ آخَرِينَ يَكُونُونَ فُرُوعًا لَهُ إِذَا أَرَادَ اللهُ ذَلِكَ، كَمَا يَكُونُ لِلنَّخْلَةِ النَّابِتَةِ مِنَ النَّوَاةِ نَوَى كَثِيرَةً يُمْكِنُ أَنْ يَنْبُتَ مِنْهَا نَخْلٌ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ أَنَّ سِرَّ حَرَكَةِ الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَ لَا يَزَالُ مَجْهُولًا، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّمَ الْوَارِدَ مِنْهُ إِلَى الْخِصْيَتَيْنِ هُوَ الَّذِي يُغَذِّيهِمَا، وَبِتَغَذِّيهِمَا بِهِ تَنْقَسِمُ خَلَايَاهُمَا فَتَتَوَلَّدُ الْحَيَوَانَاتُ الْمَنَوِيَّةُ مِنِ انْقِسَامِهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، تَتَغَذَّى بِالتَّوَالُدِ الَّذِي يَكُونُ مِنِ انْقِسَامِ الْخَلَايَا الَّتِي تَتَكَوَّنُ بِنْيَتُهَا مِنْهَا، وَمِنْ غَرِيبِ صُنْعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أَنَّ فِي كُلِّ خَلِيَّةٍ مِنْ خَلَايَا الْأَجْسَادِ الْحَيَّةِ نُوَيَّتَيْنِ (تَصْغِيرُ نَوَاةِ) صَغِيرَتَيْنِ تَتَوَلَّدُ الْخَلِيَّةُ الْجَدِيدَةُ بِاقْتِرَانِهِمَا، فَسُنَّةُ الزَّوَاجِ عَامَّةٌ فِي أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ وَفِي دَقَائِقِ بِنْيَةِ كُلٍّ مِنْهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
وَسُنَّةُ الزَّوَاجِ فِي النِّتَاجِ بَلْ كُلُّ تَوَلُّدٍ تَرَاهُ فِي الدُّنَا فَاجْتَلَّهُ فِي الْحَيَوَانِ نَاطِقًا وَأَعْجَمًا وَفِي النَّبَاتِ الْمُجْتَنَى بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ بَدَتْ فِي بِنْيَةٍ زَادَ بِهَا الْحَيُّ امْتِدَادًا وَنَمَى خَلِيَّةٌ تُقْرَنُ فِي غُضُونِهَا نُوَيَّتَانِ فَإِذَا الْفَرْدُ زَكَا
وَالْحَيَوَانَاتُ الْمَنَوِيَّةُ تَتَوَلَّدُ مِنَ الْخَلَايَا الْمُبَطَّنَةِ بِهَا الْخُصْيَةُ مِنْ دَاخِلِهَا بِسَبَبِ تَغْذِيَةِ الدَّمِ لَهَا وَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِ سَبَبٍ خَفِيٍّ لِذَلِكَ كَذَرَّاتٍ حَيَّةٍ لَا تُرَى فِي الْمَنَاظِيرِ الْمُكَبِّرَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ، فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ مَنَاظِيرُ أَرْقَى مِنْهَا يَرَى فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَكْتِرْيَا مَا لَا يُرَى الْآنَ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَوَانَ الْمَنَوِيَّ لَهُ خَلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهُ رَأْسٌ وَجِسْمٌ وَذَنَبٌ
وَرَأْسُهُ هُوَ نَوَاةُ الْخَلِيَّةِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحَرَكَةِ شَدِيدُ الِاضْطِرَابِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ عَهْدِ بُلُوغِ الْحُلُمِ لَا قَبْلَهُ، فَإِذَا وَصَلَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِلَى رَحِمِ الْأُنْثَى مَعَ الْمَنِيِّ الَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ تَبْحَثُ بِطَبِيعَتِهَا عَنِ الْبُوَيْضَةِ
426
الَّتِي فِيهِ، فَالَّذِي يَعْلُقُ بِهَا يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِيهَا وَهِيَ مِثْلُهُ ذَاتُ نَوَاةٍ أَوْ نُوَيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَحْصُلُ التَّلْقِيحُ بِاقْتِرَانِ النُّوَيَّتَيْنِ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُوَيْضَاتِ النَّسْلِ تَكُونُ فِي الْبِنْتِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهَا فَتُولَدُ وَفِيهَا أُلُوفٌ مِنْهَا مَعْدُودَةٌ لَا تَزِيدُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَسْقُطُ مِنْهَا فِي زَمَنِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ تَتَكَوَّنُ فِيهَا بُوَيْضَاتُ النَّسْلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِسَبَبِ دَمِ الْحَيْضِ، ذَلِكَ بِأَنَّ فِي دَاخِلِ الرَّحِمِ عُضْوَيْنِ مُصْمَتَيْنِ يُشْبِهَانِ خُصْيَتَيِ الرَّجُلِ يُسَمَّيَانِ الْمِبْيَضَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي دَاخِلِهِمَا بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةً جِدًّا لَا تُرَى إِلَّا بِالْمَنَاظِيرِ الْمُكَبِّرَةِ تَكُونُ فِي حُوَيْصِلَاتٍ يَقْتَرِبُ بَعْضُهَا مِنْ سَطْحِ الْمِبْيَضِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْفَجِرَ فَتَخْرُجُ مِنْهُ الْبُوَيْضَةُ إِلَى بُوقِ الرَّحِمِ، فَتَكُونُ مُسْتَعِدَّةً بِذَلِكَ لِتَلْقِيحِ الْحَيَوَانِ الْمَنَوِيِّ لَهَا، وَأَكْثَرُهَا يَضْمُرُ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ وَلَا يَنْفَجِرَ، وَإِنَّمَا يَنْفَجِرُ مَا يَنْفَجِرُ مِنْهَا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ كُلَّ حَيْضَةٍ تُفَجِّرُ حُوَيْصَلَةً وَاحِدَةً، تَكُونُ مِنْهَا بُوَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّنَاوُبِ بَيْنَ الْمِبْيَضَيْنِ مَرَّةً فِي الْأَيْمَنِ وَمَرَّةً فِي الْأَيْسَرِ، وَقَدِ اهْتَدَى أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ بِالتَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ إِلَى أَنَّ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمِبْيَضِ الْأَيْمَنِ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الذَّكَرُ وَالَّتِي تَكُونُ فِي الْمِبْيَضِ الْأَيْسَرِ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْأُنْثَى، وَأَنَّهُ مَتَى عُرِفَ بِوَضْعِ الْمَرْأَةِ أَوَّلَ وَلَدٍ لَهَا مَتَى كَانَ حَمْلُهَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بَعْدَ ذَلِكَ دَوْرُ بُوَيْضَةِ الذَّكَرِ وَدَوْرُ بُوَيْضَةِ الْأُنْثَى فِي الْغَالِبِ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ لِنَوْعِ الْمَوْلُودِ إِنْ قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمَا. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا التَّوْأَمَانِ فَسَبَبُهُمَا إِمَّا انْفِجَارُ بُوَيْضَتَيْنِ فَأَكْثَرَ شُذُوذًا، وَإِمَّا اشْتِمَالُ الْبُوَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى نُوَيَّتَيْنِ يُلَقَّحَانِ مَعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ لِلِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ وَدَقَائِقِ حِكْمَتِهِ بَعْدَ تَوْفِيَةِ مَسْأَلَةِ الْبَعْثِ حَقَّهَا مِنَ الْبَحْثِ وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ بَحْثُ التَّكْوِينِ فِي سِيَاقِ خَلْقِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ.
ضَرَبَ اللهُ إِحْيَاءَ الْبِلَادِ بِالْمَطَرِ، مَثَلًا لِبَعْثِ الْبَشَرِ، ثُمَّ ضَرَبَ اخْتِلَافَ إِنْتَاجِ الْبِلَادِ، مَثَلًا لِمَا فِي الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ، لِلْغَيِّ وَالرَّشَادِ، فَقَالَ:
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، أَيْ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَرْضَ مِنْهَا الطَّيِّبَةُ الْكَرِيمَةُ التُّرْبَةِ الَّتِي يَخْرُجُ نَبَاتُهَا بِسُهُولَةٍ. وَيُنَمَّى بِسُرْعَةٍ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْغَلَّةِ طَيِّبَ الثَّمَرَةِ، وَمِنْهَا الْخَبِيثَةُ التُّرْبَةِ كَالْحَرَّةِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا عَلَى قِلَّتِهِ وَخُبْثِهِ - إِنْ أَنْبَتَتْ - إِلَّا بِعُسْرٍ وَصُعُوبَةٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: النَّكِدُ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ إِلَى طَالِبِهِ بِتَعَسُّرٍ
427
وَيُقَالُ رَجُلٌ نَكَدٌ وَنَكِدٌ (أَيْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا) وَنَاقَةٌ نَكْدَاءُ. طَفِيفَةُ الدَّرِّ صَعْبَةُ الْحَلْبِ - وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِي خَبُثَ) حَذَفَ مَوْصُوفَهُ، أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ، وَهُوَ دُونَ الْخَبِيثِ فِي الْخُبْثِ، فَإِنَّ صِيغَةَ فَعِيلٍ مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الثَّابِتَةِ، وَالنَّكِدُ قَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ هَذَا مِنَ الْخُبْثِ. وَمِنْ دِقَّةِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذَيْنِ التَّعْبِيرَيْنِ دِلَاتُهُمَا عَلَى التَّرْغِيبِ فِي طَلَبِ الرُّسُوخِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَجَنُّبِ أَدْنَى الْخُبْثِ وَالنَّقْصِ وَبَيْنَ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " وَقَدْ فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي نَفَعَ وَانْتَفَعَ كَالْهَادِي وَالْمُهْتَدِي، وَالثَّالِثَ الَّذِي لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ كَالْجَاحِدِ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي انْتَفَعَ غَيْرُهُ بِعِلْمِهِ مِنْ دُونِهِ كَالْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ غَيْرَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ الْمُشَبَّهِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تَنْبُتُ وَحَالُهُ مَعْلُومَةٌ بَلْ لَهُ أَحْوَالٌ، فَمِنْهُ الْمُنَافِقُونَ وَمِنْهُ الْمُفَرِّطُونَ وَيَدُلُّ الْمَثَلَانِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ سَبَبٌ فِطْرِيٌّ لِهَذَا التَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ تُفَضَّلَ الْمَرْأَةُ التَّقِيَّةُ الْكَرِيمَةُ الْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةُ الْأَعْرَاقِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ دَنِيءٍ، وَكَذَا عَلَى الْمَرْأَةِ
الْمُتَعَلِّمَةِ غَيْرِ الْكَرِيمَةِ الْخُلُقِ وَلَا الطَّيِّبَةِ الْعِرْقِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْمَعَادِنِ، وَشَبَّهَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ بِخَضْرَاءِ الدِّمْنِ أَيْ حَشِيشِ الْمَزْبَلَةِ.
وَمَنِ اخْتَبَرَ النَّاسَ رَأَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّيِّبِينَ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ، وَأَنَّ الْخَبِيثِينَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَلَا الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَكِدًا، بَعْدَ إِلْحَافٍ أَوْ إِيذَاءٍ فِي الطَّلَبِ أَوْ إِدْلَاءٍ إِلَى الْحُكَّامِ وَمُرَاوَغَةٍ فِي الْخِصَامِ.
(كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي هَذَا التَّصْرِيفِ الْبَدِيعِ الْمِثَالِ الْمُوَضَّحِ بِالْأَمْثَالِ، نُصَرِّفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ جَلِيَّةٍ تُبَيِّنُ مُرَادَنَا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نِعَمَنَا، بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُنَا، فَيَسْتَحِقُّونَ مَزِيدًا مِنْهَا، وَتَثْوِيبَنَا عَلَيْهَا. عَبَّرَ بِالشُّكْرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاهْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِرْشَادِ وَبِالتَّذْكِيرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِدْلَالُ.
428
اسْتِطْرَادٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْهَوَاءِ وَالرِّيَاحِ الْهَوَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْكِيمْيَاءِ بِالْغَازِ، لَا لَوْنَ لَهُ وَلَا رَائِحَةَ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبًا مَزْجِيًا مِنْ عُنْصُرَيْنِ غَازِيَّيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمُّونَ أَحَدَهُمَا (الْأُكْسُجِينَ) وَخَاصَّتُهُ تَوْلِيدُ الِاحْتِرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ وَإِحْدَاثُ الصَّدَإِ فِي الْمَعَادِنِ وَهُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ، وَثَانِيهِمَا (الْآزُوتُّ - أَوِ النِّيتْرُوجِينُ) وَهُوَ أَخَفُّ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ وَزْنًا وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ خَوَاصِّهِ وَمِنْ عَنَاصِرَ أُخْرَى (كَالْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ (وَحَمْضِ الْكَرْبُونِ) وَهُوَ أَصْلُ مَادَّةِ الْفَحْمِ وَغَازِهِ السَّامِّ (وَالْهِلْيُومِ وَالنِّيُونِ وَالْكِرِيتُونِ) وَهِيَ عَنَاصِرُ اكْتُشِفَتْ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَتَكْثُرُ فِيهِ أَنْوَاعُ الْغَازَاتِ وَالْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ وَتَخْتَلِفُ كَثْرَةُ هَذِهِ الْمَوَادِّ وَقِلَّتُهَا بِاخْتِلَافِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهَا إِلَى مَسَافَةِ ٣٠٠ كِيلُو مِتْرٍ بِالتَّقْرِيبِ.
يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ عُنْصُرَ الْحَيَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَمْ تُوجَدِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا النَّبَاتِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَالْإِنْسَانُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ تَسْتَنْشِقُ الْهَوَاءَ فَيُطَهِّرُ مَا فِيهِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ دِمَاءَهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ فَيَخْرُجُ بِالتَّنَفُّسِ إِلَى الْجَوِّ فَيَتَغَذَّى بِهِ النَّبَاتُ. وَلَوِ احْتَبَسَ مَا يَتَّلِدُ فِي دَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السُّمُومِ الْآلِيَّةِ فِي صَدْرِهِ لَأَمَاتَهُ مَسْمُومًا كَمَا يَمُوتُ الْغَرِيقُ بِعَدَمِ دُخُولِ الْهَوَاءِ فِي رِئَتَيْهِ. فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مِصْبَاحِ
زَيْتِ الْبِتْرُولِ الَّذِي يَمُدُّ أُكْسُجِينُ الْهَوَاءِ اشْتِعَالَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّكَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى فُوَّهَةِ زُجَاجَةِ الْمِصْبَاحِ غِطَاءً مُحْكَمًا يَنْطَفِئُ نُورُهُ سَرِيعًا؟ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ كَالسَّمَكِ فَإِنَّ الْهَوَاءَ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ كَافٍ لَهَا.
وَالنَّبَاتُ يَمْتَصُّ الْكَرْبُونَ السَّامَّ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَتَغَذَّى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَدَعُ الْأُكْسُجِينَ لِلْحَيَوَانِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ مِنْهُ حَظَّهُ، وَيُفِيدُ فِي الْحَيَاةِ صِنْوَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
وَالْبَاسِقَاتُ رَفَعَتْ أَكُفَّهَا تَسْتَنْزِلُ الْغَيْثَ وَتَطْلُبُ النَّدَى تَمْتَلِجُ الْكَرْبُونَ مِنْ ضَرْعِ الْهَوَى تُؤْثِرُنَا بِالْأُكْسُجِينِ الْمُنْتَقَى
وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ يُسَاعِدُ جُذُورَ النَّبَاتِ عَلَى امْتِصَاصِهَا الْغِذَاءَ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ إِنَّ السُّمُومَ الَّتِي تَنْحَلُّ فِي الْبَدَنِ يَخْرُجُ قِسْمٌ عَظِيمٌ مِنْهَا مِنْ مَسَامِّهِ بُخَارًا أَوْ عَرَقًا فَيَمْتَصُّهَا الْهَوَاءُ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْجَوِّ الْوَاسِعِ، وَلَوِ انْسَدَّتْ مَسَامُّ الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ الرِّئَتَيْنِ كَافِيًا لِوِقَايَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ مِيتَةِ التَّسَمُّمِ.
429
وَمِنْ مَنَافِعِ الْهَوَاءِ الَّتِي يَغْفُلُ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ شُكْرِ الرَّبِّ عَلَيْهَا تَطْهِيرُهُ سَطْحَ الْأَرْضِ الَّتِي نَعِيشُ عَلَيْهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْقَذِرَةِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ فِيهَا مِنْ جِنَّةِ الْأَحْيَاءِ الضَّارَّةِ " مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ " فَهُوَ يَمْتَصُّهَا وَيَدْفَعُهَا فِي هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ فَيَتَفَرَّقُ شَمْلُهَا وَتَزُولُ قُوَّةُ اجْتِمَاعِهَا، وَقَدْ تَمُوتُ مُحْتَرِقَةً بِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَيَنْبَغِي اتِّقَاءُ الْغُبَارِ الَّذِي يَحْمِلُهَا فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " تَنَكَّبُوا الْغُبَارَ فَإِنَّ مِنْهُ النَّسَمَةَ " وَهِيَ ذَاتُ النَّفْسِ الْحَيَّةِ بَلْ لَوْلَا الْهَوَاءُ لَتَعَذَّرَ أَنْ يَجِفَّ ثَوْبٌ غُسِلَ، بَلْ لَكَانَتِ الْأَرْضُ مَغْمُورَةً بِالْمَاءِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْمَاءُ بِغَيْرِ الْهَوَاءِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا مَعْرُوفَةٌ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُزْدَوِجٌ بِالْآخَرِ فَالْهَوَاءُ يَتَخَلَّلُ الْمِيَاهَ، وَالْمُجَاوِرُ مِنْهُ لِلْأَرْضِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ وَهُوَ يَقِلُّ فِيهِ وَيَكْثُرُ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَقُرْبِهِ مِنْهَا، وَمِمَّا أَثْبَتَهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ فِي الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا مِنَ الْجَوِّ كَقُلَلِ الْجِبَالِ وَمَا فَوْقَهَا فَإِنَّ عُنْصُرَ (الْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ يَكْثُرُ كَثْرَةً عَظِيمَةً فِي أَعْلَى كُرَةِ الْهَوَاءِ، وَيَقِلُّ الْأُكْسُجِينُ فِي طَبَقَاتِ
الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَكْثُرُ بِجِوَارِ الْأَرْضِ لِثِقْلِهِ النَّوْعِيِّ فَهُوَ أَثْقَلُ مِنْ صِنْوِهِ النِّيتْرُوجِينِ وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْهَوَاءَ يَتَحَوَّلُ بِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالضَّغْطِ إِلَى مَاءٍ ثُمَّ إِلَى جَلِيدٍ - كَمَا أَنَّ الْمَاءَ يَتَبَخَّرُ بِالْحَرَارَةِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاءً أَوْ كَالْهَوَاءِ فِي لَطَافَتِهِ وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَحْسَبُونَهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَعُلَمَاءُ الْعَرَبِ فَرَّقُوا بَيْنَ بُخَارِ الْمَاءِ وَكُرَةِ الْهَوَاءِ. وَلَكِنَّ اسْمَ الْبُخَارِ فِي لُغَتِهِمْ يَشْمَلُ كُلَّ الْمَوَادِّ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَصْعَدُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ " الْغَازَاتِ " وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِي الْهَوَاءِ مِنْ حَيْثُ حَجْمِهِ لَا ثِقْلِهِ ٢١ جُزْءًا فِي الْمِائَةِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ و٨٧ فِي الْمِائَةِ مِنَ النِّيتْرُوجِينِ وَوَاحِدًا فِي الْمِائَةِ مِنَ الْأَرْغُونِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ فِي الْهَوَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلْأَرْضِ وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ لِحَيَاةِ أَكْثَرِ الْأَحْيَاءِ حَيَاةً صَالِحَةً مُعْتَدِلَةً، فَإِذَا زَادَ الْأُكْسُجِينُ زِيَادَةً كَبِيرَةً أَوْ نَقُصَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَعُدْ صَالِحًا لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ بَلْ يَصِيرُ نَارًا مُحْرِقَةً أَوَسُمًّا زُعَافًا. فَكَوْنُ النِّيتْرُوجِينِ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْأُوكْسُجِينِ فِي حَجْمِ الْهَوَاءِ ضَرُورِيٌّ لِتَعْدِيلِهِ وَجَعْلِهِ صَالِحًا لِذَلِكَ.
وَالنِّيتْرُوجِينُ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ صَالِحًا لِلْحَيَاةِ - فَهُوَ إِذَا وُضِعَ فِيهِ حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَمُوتَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ سَامٍّ - وَضَرُورَتُهُ لِلْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ تَعْدِيلِهِ لِلْأُكْسُجِينِ وَمَنْعِهِ إِيَّاهُ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ذَاتِهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْعُلْيَا مِنْهَا وَأَعْلَاهَا الْإِنْسَانُ، فَإِذَا خَلَا طَعَامُهَا مِنَ الْمَادَّةِ النِّيتْرُوجِينِيَّةِ لَمْ يَكْفِ لِحَيَاتِهَا بِهِ.
وَالنِّيتْرُوجِينُ يُوجَدُ فِي أَجْسَامِ النَّبَاتِ كَمَا يُوجَدُ فِي لَحْمِ الْحَيَوَانِ وَبَيْضِهِ وَلَبَنِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ
430
فِيهِ، وَالنَّبَاتُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَسَائِرُ غِذَاءِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْمَوَادِّ النَّبَاتِيَّةِ، وَمُعْظَمُهَا مِنَ الْكَرْبُونِ، وَهُوَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَمِنِ امْتِصَاصِهِ لِغَازِ الْحَامِضِ الْكَرْبُونِيِّ مِنَ الْهَوَاءِ.
فَهَذَا الْغَازُ عَلَى شِدَّةِ ضَرَرِهِ وَقُوَّةِ سُمِّهِ فِي الْهَوَاءِ لِمَنْ يَسْتَنْشِقُهُ لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي رُكْنِ الْمَعِيشَةِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ النَّبَاتُ.
إِذَا كَثُرَ هَذَا الْحَامِضُ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ وَاحِدًا فِي الْمِائَةِ كَانَ ضَارًّا فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ ١٠ فِي الْمِائَةِ صَارَ شَدِيدَ الْخَطَرِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَهُوَ يَكْثُرُ فِي الْمَبَانِي الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ، وَالَّتِي تَكْثُرُ
فِيهَا السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ الزَّيْتِيَّةُ وَالْغَازِيَةُ وَكَذَا الشُّمُوعُ فَإِنَّهَا تُوَلِّدُهُ بِاحْتِرَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا نَوَافِذُ مُتَقَابِلَةٌ يَدْخُلُ الْهَوَاءُ مِنْ بَعْضِهَا وَيَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّ هَوَاءَهَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَتَسَمَّمُ دَمُ مَنْ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ١٦ مِتْرًا مُكَعَّبًا مِنَ الْهَوَاءِ فِي السَّاعَةِ، وَهُوَ يَنْفُثُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ٢٢ لِتْرًا مِنْ هَذَا الْغَازِ السَّامِّ (الْكَرْبُونِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ جَمِيعُ النَّاسِ الِاجْتِمَاعَ وَنَوْمَ الْكَثِيرِينَ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهَا مَصَابِيحُ مُوقَدَةٌ، وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ وَقُودِ الْفَحْمِ فِيهَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلِاخْتِنَاقِ كَمَا ثَبَتَ عِلْمًا وَتَجْرِبَةً، إِلَّا إِذَا وُضِعَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ تَمَّ اشْتِعَالُهُ وَذَهَبَ غَازُهُ فِي الْهَوَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ.
عَلِمْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْخَالِقَ الْحَكِيمَ قَدْ جَعَلَ الْهَوَاءَ مُرَكَّبًا مِنَ الْمَوَادِّ الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَجَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَجْمِ وَالثِّقْلِ مُنَاسِبَةً لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا نَقُصَ أَحَدُهَا بِتَصَرُّفِ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ فِيهِ بِالتَّغَذِّي وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالنَّفْثِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ اخْتِلَالًا وَتَفَاوُتًا فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ كَانَ لَهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مَا يُعِيدُ إِلَيْهِ اعْتِدَالَهُ وَيَحْفَظُهُ لَهُ، كَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي وَرَقِ النَّبَاتِ الْأَخْضَرِ، وَمِنْ تَمَوُّجِ الْبِحَارِ فِي تَوْلِيدِ الْأُكْسُجِينِ، وَحَمْلِ الرِّيَاحِ لَهُ إِلَى الصَّحَارِي الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَاءِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ.
تَسْتَفِيدُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مِنَ الْهَوَاءِ بِفِطْرَتِهَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَسْبِيٍّ وَلَا إِلَى عَمَلٍ صِنَاعِيٍّ تَهْتَدِي بِهِمَا إِلَى الْتِزَامِ مَنَافِعِهِ وَاتِّقَاءِ مَضَارِّهِ إِلَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ - وَهُوَ سَيِّدُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ بِمَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنِ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ إِلَى غَيْرِ حَدٍّ يُعْرَفُ - وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ وَالْعَمَلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ وَدَقَّتْ صِنَاعَتُهُ صَارَ أَشَدَّ حَاجَةً إِلَى الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، فَأَهْلُ الْبَدَاوَةِ أَقَلُّ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى حَيَاةِ الْفِطْرَةِ، وَأَقَلُّ جِنَايَةً عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فِي أَغْذِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ.
يَبْنِي أَهْلُ الْحَضَارَةِ الدُّورَ فَيَجْعَلُونَ فِي كُلِّ دَارٍ بُيُوتًا كَثِيرَةً وَمَرَافِقَ مُخْتَلِفَةً، فَإِذَا لَمْ يُرَاعُوا
431
فِيهَا تَخَلُّلَ الْهَوَاءِ وَنُورِ الشَّمْسِ لَهَا فَسَدَ هَوَاؤُهَا، وَكَثُرَتْ فِيهَا جِنَّةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ الَّتِي تَفْتِكُ بِأَهْلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي جُمْلَةِ
مَا يُقِيمُونَ مِنَ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ وَالْمَعَامِلِ وَالْمَدَارِسِ وَالثُّكْنَاتِ لِلسَّكَنِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْجُنْدِ الَّتِي يُسَمَّى مَجْمُوعُهَا الْمَدِينَةَ إِلَى مِثْلِ مَا يُرَاعَى فِي كُلِّ دَارٍ مِنْ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ، كَسِعَةِ الشَّوَارِعِ وَالْجَوَادِ الْعَامَّةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْهَا مِنَ النَّوَاشِطِ الْخَاصَّةِ بِطَائِفَةٍ مِنَ السُّكَّانِ بِحَيْثُ يَكُونُ الِانْتِفَاعُ بِالْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ عَامًّا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ حَدَائِقُ وَبَسَاتِينُ وَاسِعَةً مُبَاحَةً لِجَمِيعِ أَهْلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ إِلَى الشَّجَرِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، وَلِيَخْتَلِفَ إِلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَحْوَجُهُمْ إِلَيْهَا الْأَطْفَالُ يَتَفَيَّئُونَ ظِلَالَهَا وَيَسْتَنْشِقُونَ هَوَاءَهَا النَّقِيَّ الْمُنْعِشَ. فَإِذَا قَصَّرُوا فِي هَذَا انْتَابَتِ الْأَمْرَاضُ مَنْ يُقِيمُونَ فِي الدُّورِ الَّتِي لَا يُطَهِّرُهَا الْهَوَاءُ وَالنُّورُ، ثُمَّ تَسْرِي إِلَى مَنْ يُخَالِطُهُمْ مِنْ سَائِرِ طَبَقَاتِ السُّكَّانِ.
وَخَيْرُ الْهَوَاءِ الْمُعْتَدِلِ بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْجَفَافِ وَالرُّطُوبَةِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَارِّ إِفْرَازُ الْعَرَقِ مِنَ الْجِلْدِ وَهُوَ مُطَهِّرٌ لِبَاطِنِ الْبَدَنِ كَتَطْهِيرِ الْحَمَّامِ لِظَاهِرِهِ، بِمَا يَخْرُجُ مَعَهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الْمَيِّتَةِ وَالْمَوَادِّ السَّامَّةِ، فَهَذِهِ الْفَائِدَةُ تُوَازِي ضَرَرَهُ فِي عُسْرِ التَّنَفُّسِ وَقِلَّةِ مَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي الرِّئَةِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ وَقِلَّةِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ، وَفِي ضَعْفِ الْهَضْمِ وَاسْتِرْخَاءِ الْجِسْمِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَارِدِ تَشْدِيدُ الْأَعْصَابِ وَتَنْشِيطُ الْجِسْمِ، وَهُوَ يُحْدِثُ حَرَارَةً فِي الْبَاطِنِ بِكَثْرَةِ مَا يَدْخُلُ مَعَهُ مِنَ الْأُكْسُجِينِ فِي الْجَوْفِ (وَهُوَ مُوَلِّدُ الْحَرَارَةِ وَالِاشْتِعَالِ) فَيَحْتَاجُ إِلَى كَثْرَةِ الْوَقُودِ الَّذِي يَحْرِقُهُ، وَهُوَ الْغِذَاءُ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْأَكْلُ وَيَقْوَى الْهَضْمُ فِي الْجَوِّ الْبَارِدِ، وَتَشْتَدُّ الْحَاجَةُ فِيهِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَالْعَمَلِ لِدَفْعِ الدَّمِ إِلَى الشَّرَايِينِ الَّتِي فِي ظَاهِرِ الْجِسْمِ لِتَدْفِئَتِهِ، فَهُوَ يُفِيدُ الْأَقْوِيَاءَ الْأَصِحَّاءَ وَيَضُرُّ الضُّعَفَاءَ وَالْمُصَابِينَ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ الصَّدْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي تَخْفِيفُ الطَّعَامِ فِي زَمَنِ الْحَرِّ، وَاجْتِنَابُ الْإِكْثَارِ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا سِيَّمَا الْأَحْمَرُ مِنْهُ وَمِنَ الْحَلْوَى وَالْأَدْهَانِ، وَجَعْلُ مُعْظَمِ الْغِذَاءِ مِنَ الْبُقُولِ وَالْفَاكِهَةِ.
وَمِنْ حِكَمِ اللهِ تَعَالَى وَلُطْفِ تَدْبِيرِهِ فِي الْهَوَاءِ وَفِي اخْتِلَافِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مَا يُحْدِثُهُ هَذَا الِاخْتِلَافُ مِنَ الرِّيَاحِ وَمَا لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْأَحْيَاءِ وَلَا سِيَّمَا النَّاسُ.
فَمِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْكَوْنِ أَنَّ الْحَرَارَةَ تُمَدِّدُ الْأَجْسَامَ فَيَخِفُّ وَزْنُهَا، وَأَنَّ الْمَائِعَاتِ وَالْأَبْخِرَةَ وَالْغَازَاتِ مِنْهَا يَعْلُو مَا خَفَّ مِنْهَا عَلَى مَا ثَقُلَ، فَإِذَا وُضِعَ مَاءٌ وَزَيْتٌ فِي إِنَاءٍ يَكُونُ الزَّيْتُ فِي أَعْلَاهُ وَإِنْ وُضِعَ أَوَّلًا، وَالْمَاءُ فِي أَسْفَلِهِ وَإِنْ وُضِعَ آخِرًا؛ لِأَنَّ الزَّيْتَ أَخَفُّ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَاءُ السَّخِنُ يَكُونُ فِي أَعْلَى الْإِنَاءِ وَالْبَارِدُ فِي أَسْفَلِهِ، وَمَتَى سُخِّنَ كُلُّهُ يَكُونُ أَعْلَاهُ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ أَسْفَلِهِ. فَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ إِذْ سُخِّنَ الْهَوَاءُ الْمُجَاوِرُ لِلْأَرْضِ بِحَرَارَتِهَا لَا يَلْبَثُ
432
أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الْجَوِّ وَيَحِلُّ مَحَلَّهُ هَوَاءٌ أَبْرَدُ مِنْهُ لِحِفْظِ التَّوَازُنِ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (٦٧: ٣) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي حُدُوثِ الرِّيَاحِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَرَارَةَ الْأَرْضِ تَكُونُ عَلَى أَشُدِّهَا فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ وَسَطُ عَرْضِ الْأَرْضِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، حَيْثُ تَكُونُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عَمُودِيَّةً فَيَكُونُ تَأْثِيرُ حَرَارَتِهَا فِي الْأَرْضِ عَلَى أَشُدِّهِ، ثُمَّ يَضْعُفُ تَأْثِيرُهَا فِي جِهَتَيِ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ حَيْثُ تَقَعُ الْأَشِعَّةُ مَائِلَةً بِقَدْرِ هَذَا الْمَيْلِ فَتَكُونُ الْحَرَارَةُ مُعْتَدِلَةً، ثُمَّ تَكُونُ بَارِدَةً حَتَّى تَصِلَ فِي مِنْطَقَةِ الْقُطْبَيْنِ إِلَى دَرَجَةِ الْجَلِيدِ الدَّائِمِ لِقِلَّةِ مَا يُصِيبُهَا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَائِلًا فِي الْأُفُقِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ سُنَّتُهَا يَوْمًا وَاحِدًا نِصْفُهُ لَيْلٌ وَنِصْفُهُ نَهَارٌ، وَلَيْلُ كُلٍّ مِنْ نَاحِيَةِ الْقُطْبَيْنِ نَهَارُ الْآخَرِ. وَتَحْدِيدُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَوْضِعُهُ عِلْمُ (الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوِ الرِّيَاضِيَّةِ) وَلِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْقُرْبِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، أَهَمُّهَا الْجِبَالُ وَالْأَنْجَادُ وَالْأَغْوَارُ وَالْقُرْبُ أَوِ الْبُعْدُ مِنَ الْبِحَارِ.
لَوْلَا حَرَكَةُ الْهَوَاءِ وَحُدُوثُ الرِّيَاحِ بِمَا ذَكَرْنَا لَازْدَادَتْ حَرَارَةُ الْبِقَاعِ الْحَارَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ حَتَّى تَكُونَ مُحْرِقَةً لِكُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلَازْدَادَ قَرُّ الْبِقَاعِ الْبَارِدَةِ حَتَّى يَيْبَسَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا فَيَكُونُ جَلِيدًا كَمَا يَحْصُلُ لِأَسْمَاكِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الشَّمَالِيَّةِ، الَّتِي تُجَمَّدُ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ حَتَّى إِذَا مَا عَادَتْ مِيَاهُهَا إِلَى سَيَلَانِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ لَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاكُ وَعَادَتْ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ وَسَائِرُ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ.
بِالرِّيَاحِ يَنْتَفِعُ جَوُّ كُلٍّ مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، مِنْ جَوِّ الْآخَرِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا، فَبِارْتِفَاعِ هَوَاءِ الْمِنْطَقَةِ الِاسْتِوَائِيَّةِ الْحَارِّ لِخِفَّتِهِ وَانْخِفَاضِ هَوَاءِ الْقُطْبَيْنِ لِثِقْلِهِ يَحْدُثُ فِي كُلٍّ مِنْ
نِصْفَيْ كُرَةِ الْأَرْضِ تَيَّارَانِ هَوَائِيَّانِ بَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ وَطَرَفَيْهَا - كَمَا يَحْدُثُ فِي جَوِّ كُلِّ قُطْرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ مِنَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى إِلَى وَقْتِ الْأَصِيلِ أَوْ إِلَى اللَّيْلِ فَيَرْتَفِعُ وَيَأْتِي بَدَلَهُ هَوَاءٌ مُعْتَدِلٌ لَطِيفٌ مِنْ جَوِّنَا نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَرُّ الشَّدِيدُ عِدَّةَ أَيَّامٍ يَخْلُفُهُ هَوَاءٌ بَارِدٌ مُعْتَدِلٌ أَيَّامًا أُخْرَى. وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الْأَقْطَارِ الْمُجَاوِرَةِ لَنَا - فَكُلَّمَا كَانَتْ حَرَكَةُ الرِّيحِ شَدِيدَةً كَانَ مَدَاهَا أَبْعَدَ، وَأَقَلُّ حَرَكَةٍ فِي الْهَوَاءِ تُرِيكَ كَيْفَ يُعْدَلُ الْجَوُّ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَخْتَبِرَهُ فِي حُجْرَتِكَ إِذَا فَتَحْتَ نَافِذَةً فِيهَا وَأَخَذْتَ شَمْعَةً أَوْ ذُبَالَةً - فَتِيلَةً - مُوقَدَةً فَوَضَعْتَهَا فِي أَعْلَى النَّافِذَةِ مَرَّةً وَفِي أَسْفَلِهَا أُخْرَى، فَإِنَّكَ تَرَى النُّورَ فِي أَسْفَلِهَا مَائِلًا نَحْوَكَ وَفِي أَعْلَاهَا مَائِلًا عَنْكَ إِلَى خَارِجِ الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ الْحَارَّ الَّذِي فِي الْحُجْرَةِ هُوَ الْخَفِيفُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهَا وَيَدْخُلُ بَدَلَهُ هَوَاءُ الْجَوِّ الَّذِي هُوَ أَبْرَدُ مِنْ هَوَاءِ الْحُجْرَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْهَوَاءُ الْخَارِجِيُّ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ هَوَاءِ الْبُيُوتِ فِي أَوْقَاتِ هُبُوبِ الرِّيحِ السَّمُومِ
433
وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْرَفُ سَبَبُ اخْتِلَافِ النَّسِيمِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فِي سَوَاحِلِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ تَارَةً مِنَ الْبَرِّ كَوَقْتِ اللَّيْلِ وَتَارَةً مِنَ الْبَحْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي النَّهَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ أَقَلُّ تَأَثُّرًا بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا سِيَّمَا الرَّمْلِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ.
هَذَا وَإِنَّ لِلرِّيَاحِ فِي اتِّجَاهِهَا بَيْنَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُطْبِ جَنُوبًا وَشَمَالًا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا شَرْقًا وَغَرْبًا أَسْبَابًا مَعْرُوفَةً، كَمَا أَنَّ لِقُوَّةِ الرِّيَاحِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَقْطَارِ أَوْقَاتًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، كَالرِّيَاحِ الْمَوْسِمِيَّةِ الَّتِي تَشْتَدُّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ حَيْثُ تَكُونُ الْبِحَارُ الشَّمَالِيَّةُ وَكَذَا الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ رَهْوًا أَوْ مُعْتَدِلَةَ الِاضْطِرَابِ تَبَعًا لِسُكُونِ الرِّيحِ وَاعْتِدَالِهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَسْبَابَ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَكَوْنِ أَصْلِ الْمُنْتَظِمِ مِنْهَا أَرْبَعًا وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ الرِّيَاحَ التِّجَارِيَّةَ الْمُوَاتِيَةَ وَالْمُضَادَّةَ أَوِ الْعَكْسِيَّةَ وَالرِّيَاحَ الْمَوْسِمِيَّةَ - كُلُّ تِلْكَ الْأَسْبَابِ - مَعْرُوفَةٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ تَبَعًا لِعِلْمِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَبِهَيْئَةِ الْأَرْضِ وَحَرَكَتِهَا وَفُصُولِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَتَى تَهِبُّ الرِّيحُ فِي بِلَادِهِ وَمَتَى تَسْكُنُ وَمَتَى يَشْتَدُّ الْحَرُّ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الصَّيْفِ وَالْبَرْدُ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الشِّتَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الرِّيَاحِ نَقْلُهَا لِمَادَّةِ اللَّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ النَّبَاتِ
إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنَّ مِنَ الشَّجَرِ مَا هُوَ ذَكَرٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أُنْثَى كَالنَّخْلِ، فَوَظِيفَةُ الْأَوَّلِ تَلْقِيحُ الْآخَرِ وَهَذَا إِنَّمَا يُثْمِرُ بِتَلْقِيحِ ذَاكَ لَهُ وَلَا يُثْمِرُ بِغَيْرِ تَلْقِيحٍ، وَإِذَا أُجِيدَ التَّلْقِيحُ كَانَ سَبَبًا لِجَوْدَةِ الثَّمَرِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا مَا تَشْتَمِلُ كُلُّ شَجَرَةٍ مِنْهُ عَلَى أَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ الْمُلَقِّحَةِ وَأَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ الْمُثْمِرَةِ، وَالرِّيَاحُ تَنْقُلُ اللَّقَاحَ فِيمَا لَا تَتَّصِلُ ذُكُورُهُ بِإِنَاثِهِ نَقْلًا تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (١٥: ٢٢) وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيمَا يَظْهَرُ، حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ اللَّقْحَ هُنَا مَجَازِيًّا بِتَشْبِيهِ تَأْثِيرِ الرِّيَاحِ فِي السَّحَابِ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْمَطَرُ بِتَأْثِيرِ اللَّقَاحِ فِي الْحَيَوَانِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَمْلِ وَالنِّتَاجِ.
وَأَمَّا مَنَافِعُ الرِّيَاحِ فِي إِحْدَاثِ الْمَطَرِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي جَعَلْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ مُتَمِّمًا لَهُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَيَانِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهَا، وَالْمَطَرُ هُوَ الْأَصْلُ لِمِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَالْيَنَابِيعِ وَالْآبَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (٣٩: ٢١) وَالْمَاءُ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيِ الْأُكْسُجِينِ وَالْأَيُدْرُوجِينِ، وَيُخَالِطُ مَاءَ الْمَطَرِ مِنْهُ وَهُوَ أَنْقَاهُ بَعْضُ مَا يَحْمِلُهُ الْهَوَاءُ مِنَ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْمَوَادِّ الْمُنْفَصِلَةِ مِنَ الْهَوَاءِ وَعَوَالِمِهَا، وَمِيَاهُ الْأَرْضِ يُخَالِطُهَا كَثِيرٌ مِنْ مَوَارِدِهَا وَبَعْضُهَا ضَارٌّ فِي الشُّرْبِ وَبَعْضُهَا نَافِعٌ وَلِذَلِكَ يَفْضُلُ بَعْضُ الْمِيَاهِ
434
بَعْضًا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهَا يُنْقَلُ فِي الْقَوَارِيرِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى أَقْطَارٍ أُخْرَى وَيُبَاعُ فِيهَا غَالِيَ الثَّمَنِ لِلشُّرْبِ وَمَا يَضُرُّ شُرْبُهُ لِلرَّيِّ وَالتَّحْلِيلِ قَدْ يَنْفَعُ لِغَيْرِ الشُّرْبِ، وَمِنْهَا الْمِيَاهُ الْمَعْدِنِيَّةُ الْمُسَهِّلَةُ وَالنَّافِعَةُ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ دُونَ بَعْضٍ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ، هُمَا الْأَصْلَانِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ وَلِلْحَرَارَةِ وَالنُّورِ فِيهِمَا، وَسُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي حَرَكَتِهِمَا وَانْتِقَالِهِمَا مَا عَلِمْتَ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ (الْهَوَاءُ وَالْمَاءُ وَالنُّورُ وَالْحَرَارَةُ) أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ الْكَرِيمَةِ كُلِّهَا، وَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَهَا عَامَّةً مَبْذُولَةً لَا يُمْكِنُ احْتِكَارُهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنَافِعِهَا مَا يُسَهِّلُ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِلْمَنَارِ أَنْ يَفْهَمَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَسَاطِينُ عُلَمَاءِ الْكِيمْيَاءِ وَالطَّبِيعَةِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ بِهَا عِلْمًا، وَهَذَا مِصْدَاقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
(١٧: ٨٥).
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ).
435
قَصَصُ الرُّسُلِ الْمَشْهُورِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ
هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمَشْهُورِ ذِكْرُهُمْ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، قَدْ سَبَقَ التَّمْهِيدُ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِدَاءِ اللهِ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) - إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ ٣٥ و٣٦ - وَمِنْهُ يُعْلَمُ وَجْهُ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ.
قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بِالْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ خَبَرِهَا لِأَوَّلِ مَنْ وَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ إِذْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ، عَلَى كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عُلُومِ الْأُمَمِ وَقَصَصِ الرُّسُلِ شَيْءٌ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلِمَةً فِي بَيْتِ شِعْرٍ مَأْثُورٍ أَوْ عِبَارَةً نَاقِصَةً مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَيْثُ كَانُوا يَلْقَوْنَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ أَوِ الشَّامِ أَوْ مِمَّنْ تَهَوَّدُ أَوْ تَنَصَّرَ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُمْ أَوْ جُلُّهُمْ ظَلُّوا عَلَى أُمِّيَّتِهِمْ. وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَامُهُ فِي بَدْءِ الْجُمْلَةِ، وَهِيَ لَا تَكَادُ تَجِيءُ إِلَّا مَعَ " قَدْ " لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ التَّوَقُّعِ، وَنُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ هُمْ قَوْمُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْبَحْثِ فِي عَدَدِ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ وَهَلْ يُعَدُّ آدَمُ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ (ص٥٠١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ طَبْعَةُ الْهَيْئَةِ) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ هُمُ الَّذِينَ صَوَّرُوا بَعْضَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ ثُمَّ وَضَعُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِإِحْيَاءِ ذِكْرِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، ثُمَّ عَبَدُوا صُوَرَهُمْ وَتَمَاثِيلَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ (ص ٤٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ طَبْعَةُ الْهَيْئَةِ) وَغَيْرِهِ.
(فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أَيْ فَنَادَاهُمْ بِصِفَةِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ اسْتِمَالَةً لَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِمْ، بِدُعَاءٍ يَطْلُبُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمْ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا الْمَطَالِبُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ فِي طَلَبِهِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا التَّوَجُّهُ وَالدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبَابُهَا فَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ بِاللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَوَجَّهَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ - لَا اسْتِقْلَالًا وَلَا بِالتَّبَعِ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ التَّوَسُّطِ بِهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ، الَّذِي ضَلَّ بِهِ أَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْخَلْقِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ إِلَهٍ) يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَعُمُومَهُ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ " مَا عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ
436
أَوْ أُكُلٍ " (بِضَمَّتَيْنِ) أَفَادَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مِمَّا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ. وَلَوْ قَالَ: مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ أَوْ أُكُلٌ - لَصَدَقَ بِانْتِفَاءِ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مِمَّا يُقَدَّمُ عَادَةً لِمَنْ يُرِيدُ الْغَدَاءَ أَوِ الْعَشَاءَ مِنْ خُبْزٍ وَإِدَامٍ، فَإِنْ كَانَ لَدَى الْقَائِلِ بَقِيَّةٌ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَائِدَةِ أَوْ قَلِيلٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ لَا يَكُونُ كَاذِبًا وَالْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ هُنَا - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ نَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا لِرَجَاءِ النَّفْعِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْهُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَجْلِ تَوَسُّطِهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى - بَلِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ " غَيْرِهِ " بِالْكَسْرِ عَلَى الصِّفَةِ لِلَفْظِ " إِلَهٍ " وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ.
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هَذَا إِنْذَارٌ مُسْتَأْنَفٌ عُلِّلَ بِهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَدْنَى شَوَائِبِ الشِّرْكِ بِهَا، وَبَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِالرِّسَالَةِ. أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِذَا لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الطُّوفَانِ، وَيَضْعُفُ بِأَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بَلْ بَعْدَ طُولِ الْإِبَاءِ وَالرَّدِّ وَالْوُصُولِ مَعَهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْيَأْسِ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَتِهِ حِكَايَةً عَنْهُ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي
إِلَّا فِرَارًا) (٧١: ٥، ٦) الْآيَاتِ وَبِقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١١: ٣٦) الْآيَاتِ - إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ الْعَظِيمِ عَذَابُ الدُّنْيَا مُطْلَقًا.
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الْمَلَأُ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رُوَاءً بِمَا يَكُونُ عَادَةً مِنْ تَأَنُّقِهِمْ بِالزِّيِّ الْمُمْتَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّمَائِلِ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ لِنُوحٍ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ بَيِّنٍ ظَاهِرٍ، بِنَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَةِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، الَّذِينَ هُمْ وَسِيلَتُنَا وَشُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقْبَلُنَا بِبَرَكَتِهِمْ. وَيُعْطِينَا سُؤَالَنَا بِوَسَاطَتِهِمْ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَنَحْنُ لَا نَرَى أَنْفُسَنَا أَهْلًا لِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِنَا، لِمَا نَقْتَرِفُهُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُبْعِدُنَا عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ الْأَقْدَسِ بِغَيْرِ شَفِيعٍ وَلَا وَسِيطٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ. حَكَمُوا بِضَلَالِهِ وَأَكَّدُوهُ بِالتَّعْبِيرِ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِإِنَّ وَاللَّامِ وَبِالظَّرْفِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْإِحَاطَةِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ مُحِيطَةٍ بِكَ لَا تَهْتَدِي مَعَهَا إِلَى الصَّوَابِ سَبِيلًا. وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ عَلَيْهِ مِنَ الثِّقَةِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) نَادَاهُمْ بِاسْمِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ ثَانِيَةً تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ وَلَا لَهُمْ إِلَّا الْخَيْرَ، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِقَ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى ضَلَالَةً، كَمَا
437
أَفَادَ التَّنْكِيرُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الضَّلَالِ، فَبَالَغَ فِي النَّفْيِ كَمَا بَالَغُوا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ (بِي) تَعْرِيضٌ بِضَلَالِهِمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى نَفْيِ الضَّلَالَةِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهَا لَهُ فِي ضِمْنِ تَبْلِيغِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى فَقَالَ:
(وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَسْتُ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ فَقَطْ بَلْ أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَيْكُمْ لِيَهْدِيَكُمْ بِاتِّبَاعِي سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَيُنْقِذَكُمْ عَلَى يَدَيَّ مِنَ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ بِالشِّرْكِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَعَاصِي الْمُدَنِّسَةِ لِلْأَنْفُسِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَرْوَاحِ. وَالْقُدْوَةُ فِي الْهُدَى، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فِيمَا بِهِ أَتَى، وَمِنْ آثَارِ رَحْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَلَّا يَدَعَكُمْ عَلَى شِرْكِكُمُ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ بِجَهْلِكُمْ، حَتَّى يُبَيِّنَ لَكُمُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَنْفُسُ مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا
جَاءَ بِهِ بِدَعْوَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. فَقَالَ:
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو " أُبْلِغُكُمْ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْلَاغِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ الْمُفِيدِ مِنَ التَّبْلِيغِ، لِلتَّدْرِيجِ وَالتَّكْرَارِ الْمُنَاسِبِ لِجَمْعِ الرِّسَالَةِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ: مِنْهُ الْعَقَائِدُ وَأَهَمُّهَا التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ، وَيَتْلُوهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَبِالْمَلَائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَمِنْهُ) الْآدَابُ وَالْحِكَمُ وَالْمَوَاعِظُ وَالْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَلَوْ آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ لَمَا كَانَ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) قَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فِيهِ صَلَاحُ صَاحِبِهِ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ لَكُمُ الْوُدَّ أَيْ أَخْلَصْتُهُ، وَنَاصِحُ الْعَسَلِ خَالِصُهُ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ الْجِلْدَ خِطْتُهُ، وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ، وَالنِّصَاحُ (كَكِتَابٍ) الْخَيْطُ اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَفِي زِيَادَةِ اللَّامِ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ خَالِصَةً لِلْمَنْصُوحِ مَقْصُودًا بِهَا جَانِبُهُ لَا غَيْرَ فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاصِحُ فَيَقْصِدُ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا نَصِيحَةَ أَمْحَضُ مِنْ نَصِيحَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ اهـ. فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّصِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا صَلَاحُ الْمَنْصُوحِ لَهُ لَا النَّاصِحِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنْهَا وَجَاءَتْ تَبَعًا فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ النَّصِيحَةُ خَالِصَةً، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الدِّينُ النَّصِيحَةُ - قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ - لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا حَالِيَّةٌ. أَيْ أُبَلِّغُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَأَنْصَحُ لَكُمْ بِمَا
أَعِظُكُمْ بِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَنَا فِي هَذَا وَذَاكَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيَّ لَا تَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا. أَوْ: وَأَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَشُئُونِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِهِ وَتَعَلُّقِهَا وَآثَارِهَا فِي خَلْقِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ - فَإِذَا نَصَحْتُ لَكُمْ وَأَنْذَرْتُكُمْ عَاقِبَةَ شِرْكِكُمْ وَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا جَحَدْتُمْ وَعَانَدْتُمْ فَإِنَّمَا أَنْصَحُ لَكُمْ عَنْ عِلْمٍ
يَقِينٍ لَا تَعْلَمُونَهُ.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) الْهَمْزَةُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْوَاوُ بَعْدَهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ مِنْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ وَمَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْكُمْ؟ (لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يُحَذِّرَكُمْ عَاقِبَةَ كُفْرِكُمْ، وَيُعَلِّمَكُمْ بِمَا أَعَدَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ بِمَا تَفْهَمُونَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْكُمْ - وَلِأَجْلِ أَنْ تَتَّقُوا بِهَذَا الْإِنْذَارِ مَا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْإِفْسَادِ فِي أَرْضِهِ - وَلْيُعِدْكُمْ بِالتَّقْوَى لِرَحْمَةِ رَبِّكُمُ الْمَرْجُوَّةِ لِكُلِّ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ وَاتَّقَى، عَلَّلَ مَجِيئَهُ بِالرِّسَالَةِ بِعِلَلٍ ثَلَاثٍ مُتَعَاقِبَةٍ مُرَتَّبَةٍ كَمَا تَرَى.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أَنَّ شُبْهَتَهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ هِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، كَأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَصِفَاتِهَا الْعَامَّةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِي فِي الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا وَيَمْنَعُ الِانْفِرَادَ بِشَيْءٍ مِنْهَا! وَهَذَا بَاطِلٌ بِالِاخْتِبَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَضَلِيَّةِ، وَفِي الْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَشَرِ عَظِيمٌ جِدًّا لَا يُشْبِهُهُمْ فِيهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا التَّسَاوِي بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَهَلْ يَمْنَعُ أَنْ يَخْتَصَّ الْخَالِقُ الْحَكِيمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْمَعْهُودِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْمُكْتَسَبِ بِالتَّعَلُّمِ؟ كَلَّا، إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدِ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَنَفَذَتْ بِهِ قُدْرَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) فَكَذَّبُوهُ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ فَأَنْجَيْنَاهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالَّذِينَ سَلَكَهُمْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (١١: ٤٠) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ - أَوِ الْمَعْنَى: أَنْجَيْنَاهُ وَأَنْجَيْنَاهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أَيِ السَّفِينَةِ (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) أَيْ وَأَغْرَقَنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بِالطُّوفَانِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، وَلِمَاذَا كَذَّبُوا؟ إِنَّهُمْ مَا كَذَّبُوا إِلَّا لِعَمًى فِي بَصَائِرِهِمْ حَالَ دُونَ اعْتِبَارِهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِرْسَالِ
الرُّسُلِ وَحِكْمَةِ
رُبُوبِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعَمُونَ جَمْعُ عَمٍ وَهُوَ ذُو الْعَمَى، وَأَصْلُهُ عَمِيَ بِوَزْنِ كَتِفَ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِعَمَى الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ، وَالْأَعْمَى يُطْلَقُ عَلَى الْفَاقِدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ زُهَيْرٌ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ).
440
قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هُودٌ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَوُلِدَ لِهُودٍ أَرْبَعَةٌ: قَحْطَانُ وَمُقْحِطٌ وَقَاحِطٌ
وَفَالِغٌ فَهُوَ أَبُو مُضَرَ، وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ، وَالْبَاقُونَ لَيْسَ لَهُمْ نَسْلٌ. وَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالٍ سَمَّاهُمْ وَمِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ قَالُوا جَمِيعًا: إِنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا - وَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ وَدٍّ وَسُوَاعَ وَيَغُوثَ وَنَسْرٍ، فَاتَّخَذُوا صَنَمًا يُقَالُ لَهُ صَمُودُ وَصَنَمًا يُقَالُ لَهُ الْهَتَّارُ فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا، وَكَانَ هُودٌ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ، وَكَانَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَصْبَحِهِمْ وَجْهًا وَكَانَ فِي مِثْلِ أَجْسَادِهِمْ أَبْيَضَ بَادِيَ الْعَنْفَقَةِ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَكَذَّبُوهُ (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (٤١: ١٥)... وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْأَحْقَافِ، وَالْأَحْقَافُ الرَّمْلُ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ بِالْيَمَنِ. وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَ: كَانَتْ عَادٌ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ الذَّرِّ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قُبِرَ هُودٌ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ عِنْدَ رَأْسِهِ سُمْرَةٌ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِحَالِهِ وَحَالِ قَوْمِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ هُودًا، كَمَا يُقَالُ فِي أُخُوَّةِ الْجِنْسِ كُلِّهِ يَا أَخَا الْعَرَبِ. وَلِلدِّينِ أُخُوَّةٌ رُوحِيَّةٌ كَأُخُوَّةِ الْجِنْسِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْقَرِيبِ أَوِ الْوَطَنِيِّ الْكَافِرِ أَخًا. وَحِكْمَتُهُ كَوْنُ رَسُولِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ أَنْ يُفْهِمَهُمْ وَيَفْهَمَ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَعَدَّ الْبَشَرُ لِلْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ، أَرْسَلَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ كَافَّةً وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ لِتَوْحِيدِ الدِّينِ، الْمُرَادِ بِهِ تَوْحِيدُ الْبَشَرِ وَإِدْخَالُهُمْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا وَلَكِنَّ الْجُمْلَةَ هُنَاكَ عُطِفَتْ بِالْفَاءِ وَفُصِّلَتْ هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي مِنْ سَائِرِ الْقِصَصِ. وَالْفَرْقُ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ أَنَّ الْعَطْفَ هُنَالِكَ جَاءَ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ كَوْنُ التَّبْلِيغِ جَاءَ عَقِبَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَلَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا
كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْقَصَصِ أَنْ يَجِيءَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ
441
الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُرَاجَعَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ كَمَا تَرَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَثَلًا يَسْأَلُ وَقَدْ عَلِمَ مِنْ أَمْرِ قِصَّةِ نُوحٍ مَا عَلِمَ: فَمَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَاذَا قَالَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ؟ أَكَانَ أَمْرُهُ مَعَهُمْ كَأَمْرِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ أَمِ اخْتَلَفَ الْحَالُ؟
(أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ أَفَلَا تَتَّقُونَ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي لِتَنْجُوا مِنْ عِقَابِهِ؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَاسْتِبْعَادِ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِقَوْمِ نُوحٍ مَا كَانَ وَفِي سُورَةِ هُودٍ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١١: ٥١) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا وَذَاكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأُخْرَى لِتَنْوِيعِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَلَلِ عَنِ الْقَارِئِ، وَقَدِ اقْتَبَسَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ الْمُكَرَّرَةِ فَتَحَرَّى فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَائِدَةٍ.
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) وَصَفَ الْمَلَأَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْكُفْرِ دُونَ مَلَإِ قَوْمِ نُوحٍ، قِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ آمَنَ (كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ) وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالسَّفَاهَةُ خِفَّةُ الْحِلْمِ وَسَخَافَةُ الْعَقْلِ وَتَنْكِيرُهَا لِبَيَانِ نَوْعِهَا أَوِ الْمُبَالَغَةِ بِعِظَمِهَا، أَيْ قَالُوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ تَامَّةٍ رَاسِخَةٍ تُحِيطُ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِأَنَّكَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى دِينِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ، بَلْ قُمْتَ تَدْعُو إِلَى دِينٍ جَدِيدٍ تَحْتَقِرُ فِيهِ الْأَوْلِيَاءَ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهِمْ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِشَفَاعَتِهِمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَادًا كَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، اتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى مِثَالِ أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ وَسَيَأْتِي نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ هُودًا وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا الْخُلُودُ إِلَخْ. وَمِثْلَ قَوْلِهِمْ هَذَا قَالَ وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ لِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّكُمْ سُفَهَاءُ لَا ثَبَاتَ لَكُمْ، وَإِنَّكُمْ حَقَّرْتُمْ أَوْلِيَاءَكُمْ وَآبَاءَكُمْ.
(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أَيْ فِي دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَكَّدُوا ظَنَّهُمُ الْآثِمَ، كَمَا أَكَّدُوا مَا قَبْلَهُ مِنْ تَسْفِيهِهِمُ الْبَاطِلَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ؛ إِذْ عَبَّرُوا عَنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِالْكَاذِبِينَ وَجَعَلُوهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَالظَّنُّ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ، فَلَوْ قَالُوا إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَكَانُوا كَاذِبِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ. وَأَمَّا حُكْمُهُمْ عَلَيْهِ بِالسَّفَاهَةِ فَكَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ
مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ.
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ لَيْسَ بِي أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ضُرُوبِ السَّفَاهَةِ وَشَوَائِبِهَا، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَهِيَ أَمَانَةٌ عَنْهُ، فَلَا يَخْتَارُ لَهَا إِلَّا أَهْلَ الْحَصَافَةِ بِرُجْحَانِ الْعَقْلِ وَسِعَةِ الْحِلْمِ وَكَمَالِ الصِّدْقِ وَإِلَّا لَفَاتَ مَا يَقْصِدُ بِهَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ تَقُمْ بِهَا لِلَّهِ الْحُجَّةُ.
442
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) بَيَانٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَحَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، أَيْ أُبَلِّغُكُمُ التَّكَالِيفَ الَّتِي أُرْسِلْتُ بِهَا، وَالْحَالُ أَنَّنِي أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ إِيَّاهُ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ سَعَادَتَكُمْ، أَمِينٌ عَلَى مَا أَقُولُ فِيهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّنِي لَا أَكْذِبُ عَلَيْكُمْ فَكَيْفَ أَكْذِبُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ؟ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ نُوحٍ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ النُّصْحَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ ثَابِتٌ لَهُ عِنْدَهُمْ، لِمَا يَعْهَدُونَ مِنْ سِيرَتِهِ مَعَهُمْ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ؛ لِأَنَّهُمْ رَمَوْهُمْ بِالْكَذِبِ وَالسَّفَاهَةِ، وَقَوْمُ نُوحٍ إِنَّمَا رَمَوْهُ بِالضَّلَالَةِ.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِ نُوحٍ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) أَيْ وَاذْكُرُوا فَضْلَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَنِعَمَهُ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزَادَكُمْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسْطَةً وَسِعَةً فِي الْمُلْكِ وَالْحَضَارَةِ. أَوْ زَادَكُمْ بَسْطَةً فِي خَلْقِ أَبْدَانِكُمْ؛ إِذْ كَانُوا طُوَالَ الْأَجْسَامِ أَقْوِيَاءَ الْأَبْدَانِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةُ الْأَصْلِ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي طُولِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى قُوَّتِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَفُصِّلَتْ (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَاذْكُرُوا نِعَمَ اللهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ لَعَلَّكُمْ تَفُوزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ لِلشَّاكِرِينَ مِنْ إِدَامَتِهَا عَلَيْهِمْ وَزِيَادَتِهَا لَهُمْ، وَلَنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا عَبَدْتُمُوهُ وَحْدَهُ وَلَمْ تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ جَعْلِهِ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فَإِنَّ هَذَا حِجَابٌ دُونَهُ، وَمَنْ حَجَبَ نَفْسَهُ عَمَّا كَرَّمَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا حُجِبَ عَنْ لِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يُحْجَبُ عَنْ رَبِّهِمُ الْكَافِرُونَ. لَا الْمُؤْمِنُونَ الشَّاكِرُونَ.
(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) الْمُرَادُ مِنَ الْمَجِيءِ الْإِتْيَانُ بِالرِّسَالَةِ حَسْبَ دَعْوَاهُ الصَّادِقَةِ فِي نَفْسِهَا الْكَاذِبَةِ فِي ظَنِّهِمُ الْآثِمِ. عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الْمَجِيءَ وَالذِّهَابَ وَالْقُعُودَ وَالْقِيَامَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ وَبَيَانِ حَالِهِ - يُقَالُ: جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ كَيْفَ يُحَارِبُونَ، وَذَهَبَ يُقِيمُ قَوَاعِدَ الْعُمْرَانِ، (وَنَذَرَ) بِمَعْنَى نَتْرُكَ، لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْ مَادَّتِهِ إِلَّا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ.
وَالْمَعْنَى: أَجِئْتَنَا لِأَجْلِ أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَامِ، وَنَتْرُكَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مَعَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ فَنُحَقِّرَهُمْ وَنَمْتَهِنَهُمْ بِرَمْيِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَنُحَقِّرَ أَوْلِيَاءَنَا وَشُفَعَاءَنَا عِنْدَ اللهِ بِتَرْكِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَهُمُ الْوَسِيلَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ وَالتَّعْظِيمِ
لِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمْ وَالنَّذْرِ لَهُمْ وَذَبْحِ الْقَرَابِينِ عِنْدَهُمْ؟ وَهَلْ يَقْبَلُ اللهُ عِبَادَتَنَا مَعَ ذُنُوبِنَا إِلَّا بِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ؟ اسْتَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَاسْتَعْجَلُوا الْوَعِيدَ قَالُوا:
(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أَيْ فَجِئْنَا بِمَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِكَ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تَوْحِيدِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي إِنْذَارِكَ أَوْ فِي أَنَّكَ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْوَعْدَ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: (أَفَلَا تَتَّقُونَ) وَصَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِقَوْلِهِ (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢٦: ١٣٥) (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) يُطْلَقُ الرِّجْسُ عَلَى الْقَبِيحِ الْمُسْتَقْذَرِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى وَبِمَعْنَى الرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَوْ سَيِّئُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ وَفَسَّرَ الرِّجْسَ بِالْعَذَابِ قَالَ لِأَنَّهُ جَزَاءُ مَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرِّجْسِ، وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمَادَّةِ أَنَّ الرَّجْسَ بِالْفَتْحِ صَوْتُ الرَّعْدِ وَأَنَّهُ يُقَالُ: رَجَسَتِ السَّمَاءُ وَارْتَجَسَتْ: قَصَفَتْ بِالرَّعْدِ (قَالَ) وَالنَّاسُ فِي مَرْجُوسَةٍ، أَيْ فِي اخْتِلَاطٍ قَدِ ارْتَجَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمُ اهـ. وَمِثْلُهَا فِي هَذَا مَادَّةُ الرِّجْزِ وَمِنْهُ فِي " ٣٤: ٥، ٤٥: ١١ " (لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ) وَقَدْ كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ وَوَقَعَ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، أَيْ ذَاتَ صَوْتٍ شَدِيدٍ عَاتِيَةً كَانَتْ (تَنْزِعُ النَّاسَ) مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ تَرْمِيهِمْ بِهَا صَرْعَى (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٥٤: ٢٠) قَدْ قُلِعَ مِنْ مَنَابِتِهِ وَزَالَ عَنْ أَمَاكِنِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرِّجْسِ وَالِارْتِجَاسِ وَالرِّجْزِ وَالِارْتِجَازِ وَقَوْلُهُ: (وَقَعَ) مَجَازٌ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُتَوَقَّعِ لِتَحَقُّقِهِ وَقُرْبِهِ، وَعَطَفَ الْغَضَبَ عَلَى الرِّجْسِ لِبَيَانِ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الِانْتِقَامُ الْحَتْمُ فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِهِ، مَا كَانَ مِنْهُ حَتْمًا عِقَابُهُ كَهَذَا، وَمَا كَانَ مُمْكِنًا دَفْعُهُ بِالتَّوْبَةِ كَعِقَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. اللهُمَّ تُبْ عَلَى أُمَّتِنَا وَارْفَعْ عَنْهَا رِجْسَ الْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ، وَأَعْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ.
(أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) أَيْ أَتُخَاصِمُونَنِي وَتُمَارُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ وَضَعْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الَّذِينَ قَلَّدْتُمُوهُمْ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ، لِمُسَمَّيَاتٍ اتَّخَذُوهَا فَاتَّخَذْتُمُوهَا آلِهَةً زَاعِمِينَ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ
إِلَى اللهِ زُلْفَى وَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لَكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ يُصَدِّقُ زَعْمَكُمْ بِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَكُمْ، وَكَيْفَ وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ عِبَادُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَطَلَبِ مَا لَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْهُ بِالْأَسْبَابِ، أَيْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ فِي تَوْجِيهِ قُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦: ٧٩) وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَتِهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَّا مِمَّا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ؛ إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا يُرْضِيهِ وَيَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ غَيْرُهُ إِلَّا الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أَيْ فَانْتَظِرُوا نُزُولَ الْعَذَابِ الَّذِي طَلَبْتُمُوهُ بِقَوْلِكُمْ: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وَلَكِنَّنِي مُوقِنٌ وَأَنْتُمْ مُرْتَابُونَ، وَجَادٌّ وَأَنْتُمْ هَازِلُونَ.
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أَيْ فَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا أَنْجَيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُنَا (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أَيِ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بِرِيحٍ عَاتِيَةٍ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) (٤٦: ٢٥).
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).
قِصَّةُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَطَنِ صَالِحًا. سُئِلَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ يُقَالُ لَهُ أَخٌ؟ قَالَ: الْأَخُ فِي الدَّارِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ. رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَ (صَالِحًا) بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لِـ (أَخَاهُمْ) وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ آنِفًا فِي قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَمُودُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ قِيلَ: سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ بْنِ عَامِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ ابْنُ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ.. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُمْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ مَائِهِمْ؛ فَالثَّمْدُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ. وَثَمُودُ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِإِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ إِذْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ وَيُصْرَفُ بِتَأْوِيلِ الْحَيِّ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ عَلَمٌ لِمُذَكَّرٍ وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الْحِجْرَ (بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ -) بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنِ. وَعَنِ الْحَافِظِ الْبَغَوَيِّ فِي نَسَبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْفِ بْنِ مَاشِخَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاذِرَ بْنِ ثَمُودَ. وَمِثْلُهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي إِلَّا أَنَّهُ ضَبَطَ حَاذِرَ بِالْجِيمِ حَاجِرَ، وَزَادَ بَعْدَ ثَمُودَ بْنِ عَابِرِ بْنِ آدَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قَدْ عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبِهِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ بِبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ وَهِدَايَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِأَنَّ حَوَادِثَ الْأُمَمِ وَضَوَابِطَ التَّارِيخِ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الزَّمَانِ أَوْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ حُكِيَ هُنَا عَنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْآيَةَ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ بِهَا عَقِبَ ذِكْرِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُمُ الْآيَةَ بَعْدَ رَدِّهِمْ لِدَعْوَتِهِ، وَتَصْرِيحِهِمْ بِالشَّكِّ فِي صِدْقِهِ، وَزَادَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ طَلَبَهُمُ الْآيَةَ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَمُرَادٌ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ الْمُعْتَادُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ وَهَذَا الْإِجْمَالِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ (الْأَعْرَافَ) نَزَلَتْ بَعْدَ تَيْنِكَ السُّورَتَيْنِ فَتَفْصِيلُهُمَا لِإِجْمَالِهَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَأْلُوفِ فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُلْتَزَمٍ فِي الْقُرْآنِ؛ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يُرَاعَ فِيهَا تَرْتِيبُ نُزُولِهَا وَالْمَعْنَى: قَدْ جَاءَتْكُمْ آيَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَتَنْكِيرُ الْآيَةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ - وَقَوْلُهُ: (مِنْ رَبِّكُمْ) لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا مِمَّا يَنَالُهَا كَسْبُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ تَعَالَى بِهِ الرُّسُلَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَلْيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْخَوَارِقَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي كَسْبِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْكَوْنِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ خَوَارِقَ، وَلَا آيَاتٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى دَالَّةً عَلَى تَصْدِيقِ الرُّسُلِ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَعَلَى كَمَالِ اتِّبَاعِ مَنْ دُونَهُمْ لَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ؛ إِذْ كَسْبُ الْعِبَادِ مَا زَالَ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا بِتَفَاوُتِ قُوَى عَضَلِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَقُوَى عُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ، وَتَفَاوُتِ عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ
446
وَلِذَلِكَ اشْتَبَهَتِ الْآيَاتُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنَ التَّأْثِيرِ لِعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ.
(هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْبَيِّنَةِ، أَيْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ تَعَالَى - أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ الْكَرِيمِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِبِلِ وَصِفَاتِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكٌ. وَالْمَعْنَى: أُشِيرُ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا آيَةً لَكُمْ خَاصَّةً لَكُمْ. وَبَيَّنَ مَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً بِقَوْلِهِ:
(فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَمِثْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ فَهُوَ أَلِيمٌ وَعَظِيمٌ - وَفِي (هُودٍ) إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ بِالْقَرِيبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَسِّهِمْ
إِيَّاهَا بِسُوءٍ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (٥٤: ٢٨) وَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٢٦: ١٥٥) وَهُوَ قَبْلَ الْوَعِيدِ عَلَى مَسِّهَا بِسُوءٍ. وَالشِّرْبُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مَا يُشْرَبُ. وَفِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) (٩١: ١١ - ١٤) إِلَخْ. فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ آيَةَ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاقَةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ بِسُوءٍ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي أَكْلِهَا وَلَا فِي شُرْبِهَا، وَأَنَّ مَاءَ ثَمُودَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاقَةِ إِذَا كَانَ مَاءً قَلِيلًا، فَكَانُوا يَشْرَبُونَهُ يَوْمًا وَتَشْرَبُهُ هِيَ يَوْمًا وَوَرَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيضُونَ عَنْهُ فِي يَوْمِهَا بِلَبَنِهَا، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهِيَ تَصْدُقُ بِمَاءٍ مَعِينٍ مَعْرُوفٍ كَانَ لِشُرْبِهِمْ خَاصَّةً؛ إِذْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ مُعَرَّفًا وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَرْفُوعًا.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ الثَّانِي فَفِيهَا أَنَّ الْمَاءَ كَانَ لَهُمْ وَلِمَاشِيَتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ مَنْقُوضٌ بِمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ تَعَدُّدِ عُيُونِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ صَالِحٍ لَهُمْ: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) (٢٦: ١٤٦ - ١٤٨) وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ آبَارٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ حِينَ مَرُّوا بِدِيَارِ قَوْمِ صَالِحٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهَا وَيَهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الْآبَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَقَدْ عَلِمَهَا بِالْوَحْيِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ فِي خَلْقِ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ أَوْ مِنْ هَضْبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ.
وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُبَاحَةُ لِلْأَنْعَامِ أَنْ تَرْعَى مَا يَنْبُتُ فِيهَا مِنَ الْكَلَإِ وَغَيْرِهِ دُونَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَيَحْمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَفِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ
447
بَيْنَ نَاقَةِ اللهِ وَأَرْضِ اللهِ، أَيْ: فَذَرُوا وَاتْرُكُوا نَاقَتَهُ تَأْكُلْ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَبَاحَهَا لِخَلْقِهِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّوءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ أَنَّ الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَيِّ أَنَوْاعِ الْإِيذَاءِ لَهَا فِي نَفْسِهَا أَوْ أَكْلِهَا أَوْ شُرْبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ وَقَدْ عَقَرُوهَا!.
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) أَيْ وَتَذَكَّرُوا إِذْ جَعَلَكُمُ اللهُ تَعَالَى خُلَفَاءَ لِعَادٍ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ أَنْزَلَكُمْ فِيهَا وَجَعَلَهَا مَبَاءَةً وَمَنَازِلَ لَكُمْ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا زَاهِيَةً، وَدُورًا عَالِيَةً، بِمَا حَذَقْتُمْ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ كَضَرْبِ الْآجُرِّ وَاللَّبِنِ وَالْجَصِّ وَهَنْدَسَةِ الْبِنَاءِ وَدِقَّةِ النِّجَارَةِ. وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ أَيْ بَعْضَهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (مِنَ الْجِبَالِ) (٢٦: ١٤٩) بُيُوتًا بِمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ فَنِّ النَّحْتِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالصَّبْرِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ فِي الشِّتَاءِ لِمَا فِي الْبُيُوتِ الْمَنْحُوتَةِ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَمْطَارُ وَالْعَوَاصِفُ، وَيَسْكُنُونَ السُّهُولَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ لِأَجْلِ الزِّرَاعَةِ وَالْعَمَلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْقُصُورُ فِيهَا مَتِينَةً وَلَا الطُّرُقُ مَرْصُوفَةً، بِحَيْثُ يَرْتَاحُ سُكَّانُهَا فِي أَيَّامِ الْأَمْطَارِ الشَّدِيدَةِ.
(فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أَيْ فَتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ بِتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ، وَلَا تَسْتَبْدِلُوا الْكُفْرَ بِالشُّكْرِ فَتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يُقَالُ: عَثَى يَعْثَى وَعَثِيَ يَعْثِي، " مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَعَلِمَ " عَثْيًا وَعَثَيَانًا وَعَثَا يَعْثُو عَثَوًا بِمَعْنَى أَفْسَدَ وَكَفَرَ وَتَكَبَّرَ وَمِثْلُهُ مَقْلُوبَةٌ: عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعَيَثَانًا. وَفِيهِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مَعَ الْإِفْسَادِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَيْثُ وَالْعَثْيُ يَتَقَارَبَانِ نَحْوَ جَذَبَ وَجَبَذَ إِلَّا أَنَّ الْعَيْثَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْفَسَادِ الَّذِي يُدْرَكُ حِسًّا، وَالْعَثْيُ فِيمَا يُدْرَكُ حُكْمًا اهـ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَصَرَّفُوا فِي هَذِهِ النِّعَمِ تَصَرُّفَ عَثَيَانٍ وَكُفْرٍ بِمُخَالَفَةِ مَا يُرْضِي اللهَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِفْسَادِ ثَابِتِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا عَلِمْتَ.
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَسْبِقَ الْفُقَرَاءُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ النَّاسِ إِلَى إِجَابَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَإِلَى كُلِّ دَعْوَةِ إِصْلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ
لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِغَيْرِهِمْ وَأَنْ يَكْفُرَ بِهِمْ أَكَابِرُ الْقَوْمِ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَالْأَغْنِيَاءُ الْمُتْرَفُونَ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَرْءُوسِينَ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي تُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْإِسْرَافَ الضَّارَّ. وَتُوقِفُ شَهَوَاتِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَالِ. وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَرَى الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ
وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا إِذْ سَأَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ لِارْتِيَابِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ عِلْمٍ بُرْهَانِيٍّ، وَتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اسْتِحْسَانٍ مَا وَتَفْضِيلٍ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتِيَارٍ لِرِيَاسَتِهِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ.
(قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أَيْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَمُذْعِنُونَ لَهُ بِالْفِعْلِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ. وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ. وَتَخْضَعُ لَهُ الْإِرَادَةُ، وَتَعْمَلُ بِهَدْيِهِ الْجَوَارِحُ، وَكَانَ مُقْتَضَى مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ أَنْ يَقُولُوا نَعَمْ، أَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، أَوْ إِنَّا بِرِسَالَتِهِ عَالِمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَابُوا بِمَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِذَلِكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا إِذْعَانِيًّا لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، إِذْ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا صَادِقًا كَامِلًا صَارَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمُ الرَّاسِخَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ بِالْبُرْهَانِ وَهُوَ يَنْفُرُ مِنْهُ بِالْوُجْدَانِ. فَيَجْحَدُهُ وَيُحَارِبُهُ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ. اسْتِكْبَارًا عَنْهُ أَوْ حَسَدًا لِأَهْلِهِ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤).
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ لَهُ، وَلَوْ قَالُوهُ لَكَانَ شَهَادَةً مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ لِمَحْضِ الِاسْتِكْبَارِ.
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أَصْلُ الْعَقْرِ الْجَرْحُ، وَعَقْرُ الْإِبِلِ قَطْعُ قَوَائِمِهَا، وَكَانُوا يَعْقِرُونَ الْبَعِيرَ قَبْلَ نَحْرِهِ لِيَمُوتَ فِي مَكَانِهِ وَلَا يَنَدَّ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّحْرِ، وَهُوَ طَعْنُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَلْقِهِ بِالْمَنْحَرِ. أُسْنِدَ الْعَقْرُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَبِيلَةِ - وَالْمُتَعَاطِي لَهُ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ - لِأَنَّهُ بِتَوَاطُئِهِمْ وَرِضَاهُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْقَمَرِ: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) (٥٤: ٢٩) وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا " فَانْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ وَمَنْعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ " وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا فِي جُمْلَتِهَا، كَمَا أَنَّهَا تُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَتِهَا، وَلَوْ بَقِيَ الصَّالِحُونَ فِيهَا لَأَصَابَهُمُ الْعَذَابُ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٨: ٢٥) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَاقِرَ النَّاقَةِ قَالَ: لَا أَقْتُلُهَا حَتَّى تَرْضَوْا أَجْمَعِينَ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي خِدْرِهَا فَيَقُولُونَ: أَتَرْضِينَ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ، وَعَلَى الصَّبِيِّ... حَتَّى رَضُوا أَجْمَعِينَ فَعَقَرُوهَا.
(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أَيْ تَمَرَّدُوا مُسْتَكْبِرِينَ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، ضَمِنَ الْعُتُوُّ مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ، وَالْعُتُوُّ فِي اللُّغَةِ: التَّمَرُّدُ وَالِامْتِنَاعُ، وَيَكُونُ عَنْ ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَمِنْهُ عَتَا الشَّيْخُ وَبَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: إِذَا أَسَنَّ فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُوَاتَاةِ عَلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ - وَعَنْ قُوَّةٍ وَعُتُوٍّ كَوَصْفِ الرِّيحِ
الشَّدِيدَةِ بِالْعَاتِيَةِ، وَمِنْهُ عُتُوُّ الْجَبَّارِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ، وَتُوصَفُ النَّخْلَةُ الْعَالِيَةُ بِالْعَاتِيَةِ لِامْتِنَاعِهَا عَلَى مَنْ يُرِيدُ جَنَاهَا إِلَّا بِمَشَقَّةِ التَّسَلُّقِ وَالصُّعُودِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللهِ - وَهُوَ أَبُو رُغَالٍ - فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ.
(وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) نَادَوْهُ بِاسْمِهِ تَهْوِينًا لِشَأْنِهِ وَتَعْرِيضًا بِمَا يَظُنُّونَ مِنْ عَجْزِهِ، وَقَالُوا! ائْتِنَا بِمَا أَوْعَدْتَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا تَزَالُ مُصِرًّا عَلَيْهِ وَمُعَلِّقًا لَهُ عَلَى مَسِّ النَّاقَةِ بِسُوءٍ - إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَتَدَّعِي أَنَّ وَعِيدَكَ تَبْلِيغٌ عَنْهُ - وَاسْتَعْمَلَ الْوَعْدَ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُ عَامٌّ.
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الرَّجْفَةُ الْمَرَّةُ مِنَ الرَّجْفِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ يُقَالُ رَجَفَ الْبَحْرُ إِذَا اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ، وَرَجَفَتِ الْأَرْضُ زُلْزِلَتْ وَاهْتَزَّتْ وَرَجَفَ الْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ مِنَ الْخَوْفِ، وَفِي حَدِيثِ الْوَحْيِ: فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ يَرْجُفُ بِهَا فُؤَادُهُ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (١١: ٦٧) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظَيْنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَقِيلَ:
الصَّيْحَةُ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ رَجَفَتْ مِنْهَا قُلُوبُهُمْ، وَقِيلَ: بَلِ الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ أَخَذَتْهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَالصَّيْحَةُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الصَّيْحَةَ سَبَبًا، لِلزَّلْزَلَةِ وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ مِثْلَ السَّيِّدِ الْآلُوسِيِّ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ يَنْقُلُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ بِمَا ذَكَرَ، وَيُصَحِّحُ بِحَقِّ التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّيْحَةِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ بِالطَّاغِيَةِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ، وَيَنْسَى كَالَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّهَا الصَّاعِقَةُ وَهِيَ الْأَصْلُ كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ: " حم السَّجْدَةِ - فُصِّلَتْ " وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) (٤١: ١٧) وَالثَّانِي: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٥١: ٤٤) وَلِنُزُولِ الصَّاعِقَةِ صَيْحَةٌ شَدِيدَةُ الْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، تَرْجُفُ مِنْ وَقْعِهَا الْأَفْئِدَةُ وَتَضْطَرِبُ أَعْصَابُ الْأَبْدَانِ، وَرُبَّمَا اضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ وَتَصَدَّعَ مَا فِيهَا مِنْ بُنْيَانٍ وَسَبَبُهَا اشْتِعَالٌ يُحْدِثُهُ اللهُ تَعَالَى بِاتِّصَالِ كَهْرَبَائِيَّةِ الْأَرْضِ بِكَهْرَبَائِيَّةِ الْجَوِّ الَّتِي يَحْمِلُهَا السَّحَابُ، فَيَكُونُ لَهُ صَوْتٌ كَالصَّوْتِ الَّذِي يُحْدِثُهُ بِاشْتِعَالِ قَذَائِفِ الْمَدَافِعِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالرَّعْدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا الصَّاعِقَةُ فَهِيَ الشَّرَارَةُ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ فَتُحْدِثُ فِيهَا تَأْثِيرَاتٍ عَظِيمَةً بِقَدْرِهَا، كَصَعْقِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَمَوْتِهِمْ، وَهَدْمِ الْمَبَانِي أَوْ تَصْدِيعِهَا، وَإِحْرَاقِ الشَّجَرِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمِنَ الدَّلَائِلِ
عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ هَدَاهُمْ إِلَى اتِّقَاءِ ضَرَرِ الصَّوَاعِقِ فِي الْمَبَانِي الْعَظِيمَةِ بِوَضْعِ مَا يُسَمُّونَهُ قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ عَلَيْهَا، فَيَمْتَنِعُ بِسُنَّةِ اللهِ نُزُولُهَا بِهَا. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْقَادِرُ الْمُقَدِّرُ قَدْ جَعَلَ هَلَاكَهُمْ فِي وَقْتٍ سَاقَ فِيهِ السَّحَابَ الْمُتَشَبَّعَ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى أَرْضِهِمْ بِأَسْبَابِهِ الْمُعْتَادَةِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ تِلْكَ الصَّاعِقَةَ لِأَجْلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْوَاقِعُ فَالْآيَةُ قَدْ وَقَعَتْ وَصَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ فِي إِنْذَارِ قَوْمِهِ.
(فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) دَارُ الرَّجُلِ مَا يَسْكُنُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ " مُؤَنَّثَةٌ " وَتَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى عِدَّةِ بُيُوتٍ، وَالْبَلَدُ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَدَارُ الْإِسْلَامِ الْوَطَنُ الَّذِي تُنَفَّذُ فِيهِ شَرَائِعُهُ وَهِيَ دَارُ الْعَدْلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ الْحَقُّ، وَيُقَابِلُهَا دَارُ الْكُفْرِ وَدَارُ الْحَرْبِ. وَالْجُثُومُ لِلْإِنْسَانِ والطَّيْرِ كَالْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ، فَالْأَوَّلُ وُقُوعُ النَّاسِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَخَرُورُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالثَّانِي وُقُوعُ الطَّيْرِ لَاطِئَةً بِالْأَرْضِ فِي حَالِ
سُكُونِهَا بِاللَّيْلِ، أَوْ قَتْلِهَا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا وَقَدْ وَقَعَتِ الصَّاعِقَةُ بِهِمْ أَنْ سَقَطُوا مَصْعُوقِينَ، وَجَثَمُوا هَامِدِينَ خَامِدِينَ. " وَأَصْبَحُوا " إِمَّا بِمَعْنَى صَارُوا وَإِمَّا بِمَعْنَى دَخَلُوا فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ جَاثِمِينَ.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) فِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْهَلَ قَوْمَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ أَنْجَاهُ اللهُ تَعَالَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَأَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْبَاقِينَ الظَّالِمِينَ بَعْدَ إِنْجَائِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ صَيْحَةِ الصَّاعِقَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَجَاوِزَةِ لِلْحَدِّ الْمُعْتَادِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْهُمْ عَقِبَ هَلَاكِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الذِّكْرِ، كَتَقَدُّمِ مَدْلُولِهَا بِالْفِعْلِ، وَلَكِنْ عُهِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَعَانِي لِنُكَتٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامٌ يُعْرَفُ فِيهِ التَّرْتِيبُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي الظُّهُورِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْآيَتَيْنِ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ إِعْذَارِ صَالِحٍ إِلَى قَوْمِهِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ وَمَحْضِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَمِنْ تَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ أَفْنَ الرَّأْيِ وَفَسَادَ الْأَخْلَاقِ بِكُرْهِ النَّاصِحِينَ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ - إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ التَّوَلِّي وَالِانْصِرَافِ عَنْهُمْ أَوْ عِنْدَهُ وَلَكِنْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ.
وَفِيهِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ الَّذِي سَبَقَ مِثْلُهُ فِي قِصَّتَيْ نُوحٍ وَهُودٍ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَهُ طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ، وَأُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ، وَآخَرُ مَرْوِيٌّ مَأْثُورٌ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يَقُولُهُ الْمُتَحَسِّرُ عَلَى مَنْ مَاتَ جَانِيًا عَلَى حَيَاتِهِ بِالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ، الْمُعَزِّي لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ، وَالْمُتَحَزِّنُ لِعَدَمِ قَبُولِهِ مَا بَذَلَ مِنَ النُّصْحِ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ؟ أَلَمْ أُحَذِّرْكَ عَاقِبَةَ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ فَمَاذَا أَفْعَلُ إِذَا كُنْتَ
تُفَضِّلُ لَذَّةَ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ، عَلَى هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ الْمُعْتَدِلَةِ فِي عَشَرَاتِ الْأَعْوَامِ؟ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُقَالُ فِي أَحْوَالِ الْحُزْنِ الْمُخْتَلِفَةِ خِطَابًا لِلْمَوْتَى بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، بَلْ عُهِدَ مِنْهُمْ مُخَاطَبَةُ الدِّيَارِ، وَالطُّلُولِ وَالْآثَارِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نِدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي الْقَلِيبِ " يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ! وَفُلَانُ ابْنَ
فُلَانٍ! أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ " قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ - أَوْ فِيهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً حَسْرَةً وَنَدَمًا اهـ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَعَذِّرِينَ لِعُبَّادِ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ أَصْحَابِهَا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ يَقِيسُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا وَرَدَ مِنْ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْبَرْزَخِ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا مِنَ الصَّالِحِينَ يَسْمَعُ مِنْهُ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أُمُورَ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِيهَا.
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونِ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).
452
قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
خَيْرُ مَا يُعْرَفُ بِهِ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ (صَلَّى الله عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ) كَمَا فِي كُتُبِ الْأَنْسَابِ وَسِفْرِ التَّكْوِينِ، وَفِيهِ أَنَّ اسْمَ وَالِدِهِ (حَارَانُ) وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي (أُوَرِ الْكَلْدَانِيِّينَ) وَهِيَ فِي طَرْفِ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ جَنُوبِ الْعِرَاقِ الْغَرْبِيِّ مِنْ وِلَايَةِ الْبَصْرَةِ - وَكَانَتْ تِلْكَ
الْبُقْعَةُ تُسَمَّى أَرْضَ بَابِلَ. وَأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ سَافَرَ مَعَ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ إِلَى مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى جَزِيرَةَ قُورَا، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى الْآنَ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَكَانٌ تُحِيطُ بِهِ دِجْلَةُ فَقَطْ (وَهُنَالِكَ كَانَتْ مَمْلَكَةُ أَشُورَ) فَإِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ مِنْ سُورِيَّةَ. ثُمَّ أَسْكَنَهُ إِبْرَاهِيمُ فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِ بِاخْتِيَارِهِ لَهَا لِجَوْدَةِ مَرَاعِيهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ - الْمُسَمَّى بِعُمْقِ السَّدِيمِ بِقُرْبِ الْبَحْرِ الْمَيِّتِ الَّذِي سُمِّيَ بِبَحْرِ لُوطٍ أَيْضًا - الْقُرَى أَوِ الْمُدُنُ الْخَمْسُ: سَدُومُ وَعَمُورَةُ وَأَدْمَةُ وَصَبُوبِيمُ وَبَالِعُ الَّتِي سُمِّيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ صُوغَرَ لِصِغَرِهَا، فَسَكنَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَاصِمَتِهَا سَدُومَ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْآنَ أَيْنَ كَانَتْ تِلْكَ الْقُرَى مِنْ جِوَارِ بَحْرِ لُوطٍ إِذْ لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، فَمِنَ الْمُؤَرِّخِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْبَحْرَ غَمَرَ مَوْضِعَهَا وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَتْ عَمُورَةُ تَلِي سَدُومَ فِي الْكِبَرِ وَفِي الْفَسَادِ، وَهُمَا اللَّتَانِ يَحْفَظُ اسْمَهُمَا النَّاسُ إِلَى الْآنِ.
وَاسْمُ لُوطٍ مَصْرُوفٌ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا لِكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ كَنُوحٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ مَادَّةِ لَاطَ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ لَوْطًا أَيْ لَصَقَ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى كَلِمَةِ لُوطٍ بِالْعِبْرَانِيَّةِ " سَتْرٌ " فَهِيَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعْنَى مَادَّتِهَا الْعَرَبِيَّةِ عَنْ مَادَّتِهَا الْعِبْرِيَّةِ وَالسِّرْيَانِيَّةِ أُخْتَيِ الْعَرَبِيَّةِ الصُّغْرَيَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْهُ فَإِنَّ اللُّصُوقَ ضَرْبٌ مِنَ السَّتْرِ. وَيُرَاجَعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (٧٤ س ٦) [ص ٤٤٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ] قَالَ تَعَالَى:
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) النَّسَقُ الَّذِي قَبْلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا - وَلَكِنْ حُذِفَ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْإِرْسَالِ وَرُكْنُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ لُوطًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَاذْكُرْ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ مُوَبِّخًا لَهُمْ: أَتَفْعَلُونَ الْفِعْلَةَ الْبَالِغَةَ مُنْتَهَى الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ؟ (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) بَلْ هِيَ مِنْ مُبْتَدَعَاتِكُمْ فِي الْفَسَادِ، فَأَنْتُمْ فِيهَا قُدْوَةُ سُوءٍ، فَعَلَيْكُمْ وِزْرُهَا وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ يَتْبَعَكُمْ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ نَحْوِيٌّ أَوْ بَيَانِيٌّ يُؤَكِّدُ التَّوْبِيخَ بِبَيَانِ أَنَّهُ فَسَادٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَلِهِدَايَةِ الدِّينِ مَعًا، وَ " الْبَاءُ " فِي قَوْلِهِ: (بِهَا) لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ - أَقْوَالٌ. وَقَوْلُهُ: (مِنْ أَحَدٍ)
يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَعُمُومَهُ الْمُسْتَغْرِقَ
453
لِكُلِّ الْبَشَرِ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَصْدُقُ بِعَالِمِي زَمَانِهِمْ، وَلِكَوْنِهِمْ هُمُ الْمُبْتَدِعِينَ لَهَا اشْتَقَّ الْعَرَبُ لَهَا اسْمًا مِنْ لُوطٍ فَقَالُوا لَاطَ بِهِ لِوَاطَةً.
(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُفَسِّرٌ لِلْإِتْيَانِ الْمُجْمَلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي عُهِدَ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَدْعُو إِلَيْهِ الشَّهْوَةُ وَيَقْصِدُ بِهِ النَّسْلَ، وَتَعْلِيلُهُ هُنَا بِالشَّهْوَةِ وَتَجَنُّبِ النِّسَاءِ بَيَانٌ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْغَرِيزَةُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْإِنْسَانُ الْعَاقِلُ وَالْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ. فَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِابْتِغَاءِ الشَّهْوَةِ وَحْدَهَا أَنَّهُمْ أَخَسُّ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ وَأَضَلُّ سَبِيلًا، فَإِنَّ ذُكُورَهَا تَطْلُبُ إِنَاثَهَا بِسَائِقِ الشَّهْوَةِ لِأَجْلِ النَّسْلِ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ نَوْعُ كَلٍّ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّيْرَ وَالْحَشَرَاتِ تَبْدَأُ حَيَاتَهَا الزَّوْجِيَّةَ بِبِنَاءِ الْمَسَاكِنِ الصَّالِحَةِ لِنَسْلِهَا فِي رَاحَتِهِ وَحِفْظِهِ مِمَّا يَعْدُو عَلَيْهِ - مِنْ عُشٍّ فِي أَعْلَى شَجَرَةٍ أَوْ وُكْنَةٍ فِي قُلَّةِ جَبَلٍ أَوْ جُحْرٍ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ أَوْ غِيلٍ فِي دَاخِلِ أَجَمَةٍ أَوْ حَرَجَةٍ؟ - وَهَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ لَا غَرَضَ لَهُمْ إِلَّا إِرْضَاءُ حِسِّ الشَّهْوَةِ وَقَضَاءُ وَطَرِ اللَّذَّةِ. وَمَنْ قَصَدَ الشَّهَوَاتِ لِذَاتِهَا، تَمَتُّعًا بِلَذَّاتِهَا، دُونَ الْفَائِدَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهَا، جَنَى عَلَى نَفْسِهِ غَائِلَةَ الْإِسْرَافِ فِيهَا، فَانْقَلَبَ نَفْعُهَا ضُرًّا، وَصَارَ خَيْرُهَا شَرًّا، يَجْعَلُ الْوَسِيلَةَ مَقْصِدًا، وَصَيْرُورَةَ الْإِسْرَافِ فِيهِ خُلُقًا؛ إِذِ الْفِعْلُ يَكُونُ حِينَئِذٍ عَنْ دَاعِيَةٍ ثَابِتَةٍ لَا عَنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ، فَلَا يَزَالُ صَاحِبُهُ يُعَاوِدُهُ حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً لَهُ، فَتَكْرَارُ الْعَمَلِ يُكَوِّنُ الْمَلَكَةَ، وَالْمَلَكَةُ تَدْعُو إِلَى تَكْرَارِ الْعَمَلِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَهَذَا وَجْهُ إِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ إِسْنَادِ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ إِلَيْهِمْ بِفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّكْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ إِلَى إِسْنَادِ صِفَةِ الْإِسْرَافِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أَيْ لَسْتُمْ تَأْتُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بَعْدَ نَدَمٍ وَتَوْبَةٍ عَقِبَ كُلِّ مَرَّةٍ، بَلْ أَنْتُمْ مُسْرِفُونَ فِيهَا وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِكُمْ
لَا تَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مَكَانُ هَذِهِ الْآيَةِ - وَمَا قَبْلَهَا عَيْنُ مَا قَبْلَهَا - (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونِ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (٢٩: ٢٩) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَكَانُ هَذَا الْإِضْرَابِ هُنَا: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (٢٦: ١٦٦) أَيْ مُتَجَاوِزُونَ لِحُدُودِ الْفِطْرَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِسْرَافِ، وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٥٥: ٢٧) وَهُوَ يَشْمَلُ الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَالْجَهْلَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السَّفَهِ وَالطَّيْشِ. وَمَجْمُوعُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُرْزَئِينَ بِفَسَادِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْعُدْوَانِ
وَالْجَهْلِ، فَلَا هُمْ يَعْقِلُونَ ضَرَرَ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّسْلِ وَعَلَى الصِّحَّةِ وَعَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْآدَابِ الْعَامَّةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ - فَيَجْتَنِبُوهَا أَوْ يَجْتَنِبُوا الْإِسْرَافَ فِيهَا - وَلَا هُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ يَصْرِفُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَا كَانَ الْعِلْمُ بِالضَّرَرِ وَحْدَهُ لِيَصْرِفَ عَنِ السُّوءِ وَالْفَسَادِ، إِذَا حُرِمَ صَاحِبُهُ الْفَضَائِلَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، بَلِ الْفَضَائِلُ الْمَوْهُوبَةُ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، عُرْضَةٌ لِلْفَسَادِ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، إِلَّا إِذَا رَسَخَتْ بِالْفَضَائِلِ الْمَكْسُوبَةِ بِتَرْبِيَةِ الدِّينِ، فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فَاشِيَةٌ بَيْنَ أَعْرَفِ النَّاسِ بِمَفَاسِدِهَا وَمَضَارِّهَا فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَنْفُسِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ، حَتَّى الْبَاحِثِينَ فِي الْفَلْسَفَةِ مِنْهُمْ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لِأَخْدَانِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْفِعْلَةَ لَا تُحْدِثُ نَقْصًا فِي النَّفْسِ النَّاطِقَةِ! ! وَنَقُولُ: يَا لَهَا مِنْ فَلْسَفَةٍ فَاسِقَةٍ أَلَيْسُوا يَسْتَخِفُّونَ بِهَا مِنَ النَّاسِ حَتَّى أَشَدِّهِمُ اسْتِبَاحَةً لِلشَّهَوَاتِ كَالْإِفْرِنْجِ لِكَيْ لَا يَنْتَقِصُوهُمْ وَيَمْتَهِنُوهُمْ؟ أَوَ لَيْسُوا بِذَلِكَ يَشْعُرُونَ بِنَقْصِ أَنْفُسِهِمُ النَّاطِقَةِ وَدَنَسِهَا، فَإِنْ لَمْ يَشْعُرِ الْفَاعِلُ، أَفَلَا يَشْعُرُ الْقَابِلُ؟ بَلَى وَلَكِنْ قَدْ يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ يَخْدَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ أَنَّهُمْ يُصَابُونَ بِدَاءِ الْأُبْنَةِ، حَتَّى إِذَا كَبُرَ أَحَدُهُمْ وَصَارَ لَا يَجِدُ مِنَ الْفُسَّاقِ مَنْ يَرْغَبُ فِي إِتْيَانِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِ يَبْحَثُ هُوَ فِي الْخَفَاءِ عَمَّنْ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ مِنْ تُحُوتِ الْفُقَرَاءِ وَأَرَاذِلِ الْخَدَمِ، فَيَجْعَلُ لَهُ جَعْلًا أَوْ رَاتِبًا عَلَى إِتْيَانِهِ، وَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَعَافَ هَذَا الْمُنْكَرَ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ إِرْضَاءِ صَاحِبِهِ (الْمَهِينِ عِنْدَهُ الْمُحْتَرَمِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُ) فَيَنْشُدُ الْمَأْبُونَ غَيْرَهُ، وَلَا يَزَالُ يُذَلُّ وَيَخْزَى فِي مُسَاوَمَةِ أَفْرَادِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَفْتَضِحَ أَمْرُهُ فِي الْبَلَدِ، وَيَشْتَهِرَ بَلْ يُشْهَرُ بَيْنَ سَائِرِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التُّحُوتِ الَّذِينَ يَعْلُونَهُ
لَا يَخْجَلُونَ مِنْ إِفْشَاءِ سِرِّهِمْ مَعَهُ؛ وَلِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَيُرَاوِدُهُمْ بِالتَّصْرِيحِ، إِذَا لَمْ يُعْرِضُوا عَنْهُ عِنْدَمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ، أَفَنَسِيَ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ فَلَاسِفَةِ الْفِسْقِ هَذَا الْخِزْيَ؟ أَمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُدَنِّسُ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ بِنَقْصٍ؟ فَقُبْحُ اللُّوَاطَةِ وَفُحْشُهَا لَيْسَ بِكَوْنِهَا لَذَّةً بَهِيمِيَّةً كَمَا قِيلَ، إِذِ اللَّذَّةُ الْبَهِيمِيَّةُ لَا قُبْحَ فِيهَا لِذَاتِهَا لِأَنَّهَا مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَمَبْدَأُ حِكْمَةِ بَقَاءِ النَّسْلِ، بَلْ فُحْشُهَا بِاسْتِعْمَالِهَا بِمَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَحِكْمَتَهَا، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَضَارِّ الْبَدَنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ الْكَثِيرَةِ.
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أَيْ وَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ عَنْ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالنَّصِيحَةِ شَيْئًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْحُجَّةِ وَلَا الِاعْتِذَارِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اعْتِيدَ فِي الْجِدَالِ، مَا كَانَ إِلَّا الْأَمْرَ بِإِخْرَاجِهِ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَرْيَتِهِمْ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي رِجْسِهِمْ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى
455
مُعَاشَرَتِهِمْ وَلَا مَسَاكِنِهِمْ مَعَ هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ، فَإِنَّ النَّاقِصَ يَسْتَثْقِلُ مُعَاشَرَةَ الْكَامِلِ الَّذِي يَحْتَقِرُهُ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُمْ أَنْذَرُوهُ هَذَا الْإِخْرَاجَ، إِذَا هُوَ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الْإِنْكَارِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِمَنْ آمَنَ مَعَهُ فَيَعُودُ إِلَيْهِمْ ضَمِيرُ (أَخْرِجُوهُمْ).
(قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالْقَرِينَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةِ النَّمْلِ فَفِيهَا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) (٢٧: ٥٦) بَدَلُ أَخْرِجُوهُمْ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، إِلَّا الْعَطْفَ فِي أَوَّلِهَا بِالْفَاءِ، كَآيَةِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْجَوَابُ، وَهِيَ: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩: ٢٩) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَتَى كَانَ الْكَلَامُ مَفْهُومًا كَانَ صَحِيحًا فَصِيحًا وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى جَامِدِي النُّحَاةِ وَإِعْرَابُهُ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ فِي حِكَايَةِ الْجَوَابَيْنِ تَعَارُضًا فِي الْمَعْنَى مَحْكِيًّا بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِمَا، فَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَمَا الَّذِي يَدْفَعُ هَذَا التَّعَارُضَ؟ (قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا تَعَارُضَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ؛ لِحَمْلِهِمَا عَلَى الْوُقُوعِ فِي وَقْتَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَاهُمْ كَثِيرًا، فَكَانَ يَسْمَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَلَامًا مِمَّنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ قِصَصَ الْقُرْآنِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا سَرْدُ حَوَادِثِ التَّارِيخِ بَلِ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، فَيُذْكَرُ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْمَوَاعِظِ مَا لَا يُذْكَرُ فِي الْأُخْرَى، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ كُلُّ مَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعِظَ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. فَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ الضَّالِّينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ - يُكَرِّرُونَ لَهُمُ الْوَعْظَ بِمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ،
وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَجْوِبَةً مُتَشَابِهَةً، وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَقُولُ غَيْرُهُ فَيُعْجِبُهُمْ وَيُقِرُّونَهُ عَلَيْهِ فَيُسْنَدُ إِلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. كَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِمْ فِعْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِذَا رَضُوهُ وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ فِعْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي إِسْنَادِ عَقْرِ النَّاقَةِ إِلَى قَوْمِ صَالِحٍ وَإِنَّمَا عَقَرَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مَا لَمْ يَحْكِهُ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالنَّمْلِ، فَزَادَ عَلَى إِتْيَانِهِمُ الرِّجَالَ قَطْعَ السَّبِيلِ، وَإِتْيَانَهُمُ الْمُنْكَرَ فِي النَّادِي الْحَافِلِ، وَالْمَجْلِسِ الْحَاشِدِ. فَكَأَنَّهُمْ ضَاقُوا بِهِ حِينَئِذٍ ذَرْعًا وَاسْتَعْجَلُوهُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى عِصْيَانِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِإِخْرَاجِهِ. وَأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْإِخْرَاجِ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
(فَإِنْ قِيلَ) : هَذَا مَقْبُولٌ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ مَا وَجْهُ بَدْءِ جُمْلَةِ
456
الْجَوَابِ بِالْوَاوِ تَارَةً وَبِالْفَاءِ أُخْرَى، وَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَوْضِعِهِ؟
(قُلْنَا) : إِنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِكُلٍّ مِنَ " الْوَاوِ " وَ " الْفَاءِ " جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ فِي " الْفَاءِ " زِيَادَةَ مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ رَبْطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا بِمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ تُلُوِّهِ لَهُ، فَهُوَ جِمَاعُ مَعَانِيهَا الْعَامَّةِ مِنَ التَّعْقِيبِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَجَزَاءِ الشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ الْعَامُّ فِي هَذَا الِارْتِبَاطِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ أَثَرًا لِفِعْلٍ وَقَعَ قَبْلَهُ، وَكُلٌّ مِنْ آيَتَيِ النَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ جَاءَ بَعْدَ إِسْنَادِ فِعْلٍ إِلَى الْقَوْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُولَى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٢٧: ٥٥) وَفِي الثَّانِيَةِ: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (٢٩: ٢٩) فَلِذَلِكَ عُطِفَ الْجَوَابُ عَلَى مَا بَعْدَهُمَا بِالْفَاءِ. وَأَمَّا آيَةُ الْأَعْرَافِ فَقَدْ جَاءَتْ بَعْدَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وَإِسْنَادُ صِفَةِ الْإِسْرَافِ إِلَيْهِمْ فِيهَا مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الَّذِي كَانَ بِتَكْرَارِهِ عِلَّةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَانَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ مَعْلُولًا لَهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ لِعَطْفِ هَذِهِ بِالْوَاوِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اسْتَظْهَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
مِنْ بَعْضِهِمْ قَدْ كَانَ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ بِهِ مِنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ، فَكَانَ بِهَذَا فِي مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ - فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا كَانَ جَوَابُ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، وَأَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ. وَرَدَّدَهُ آخَرُونَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ. وَهَذِهِ الدِّقَّةُ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُتَّحِدَةِ أَوِ الْمُتَشَابِهَةِ لِأَمْثَالِ هَذِهِ النُّكَتِ لَا تَجِدُهَا مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. لَا تَجِدُهَا مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (رُوحَ الْمَعَانِي) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْوَاوِ فِي (وَمَا كَانَ) إِلَخْ. دُونَ الْفَاءِ كَمَا فِي النَّمْلِ وَالْعَنْكَبُوتِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ قَبْلَ الْفِعْلِ هُنَا وَالْفِعْلِ هُنَاكَ، وَالتَّعْقِيبُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ الْفِعْلِ حَسَنٌ دُونَ التَّعْقِيبِ بِهِ بَعْدَ الِاسْمِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ اهـ وَلَعَمْرِي إِنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّأَمُّلِ لِلَفْظِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ بِهِ أَوَّلًا وَلِمَعْنَاهُ بَعْدَ فَهْمِهِ ثَانِيًا، فَإِنْ ظَهَرَ لِلْمُتَأَمِّلِ أَنَّ وَجْهَ الْحُسْنِ فِي التَّعْقِيبِ مَا بَسَطْنَاهُ انْتَهَى تَعَبُ التَّأَمُّلِ بِالْقَبُولِ إِنْ شَاءَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ عَبَثًا، وَإِلَّا كَانَ حَظُّهُ مِنْهُ كَدَّ الذِّهْنِ وَإِضَاعَةَ الْوَقْتِ مَعًا، وَمَا كَتَبْتُ هَذِهِ النُّكْتَةَ، إِلَّا لِأَقُولَ فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَأَنَّى بِذَكَاءِ أَصْحَابِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ مِنَ الْمُتَعَجِّبِينَ، وَإِنْ قَلَّ مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِمْ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَسَيَقِلُّ عَدَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَلَّ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَرِفَتْ قِيمَةَ الْعُمْرِ، فَضَنَّتْ بِهِ أَنْ يَضِيعَ جُلُّهُ فِي حَلِّ رُمُوزِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَهْلِ الرَّذَائِلِ أَنْ يُنْكِرُوهَا أَوْ يُسَمُّوهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَيَأْلَمُونَ مِمَّنْ يُعَيِّرُهُمْ بِهَا لِمَا جَبَلَ اللهُ عَلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ حُبِّ الْكَمَالِ وَكُرْهِ النَّقْصِ، فَكَيْفَ عَلَّلَ قَوْمُ لُوطٍ
457
إِخْرَاجَهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِأَنَّهُمْ يَتَطَهَّرُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ مِنْ أَدْرَانِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالْكَمَالِ وَشَهَادَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالنَّقْصِ؟.
(فَالْجَوَابُ) : مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ: سُخْرِيَةٌ بِهِمْ وَبِتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَافْتِخَارِهِمْ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقَذَارَةِ، كَمَا يَقُولُ الشُّطَّارُ مِنَ الْفَسَقَةِ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ إِذَا وَعَظَهُمْ: ابْعِدُوا عَنَّا هَذَا الْمُتَقَشِّفَ، وَأَرِيحُونَا مِنْ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ اهـ. وَمِثْلُهُ مَعْهُودٌ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ، وَلِلنَّقْصِ وَالرَّذَائِلِ دَرَكَاتٌ، كَمَا أَنَّ لِلْكَمَالِ وَالْفَضَائِلِ دَرَجَاتٌ، فَأُولَاهَا أَنْ يُلِمَّ بِالرَّذِيلَةِ وَهُوَ يَشْعُرُ بِقُبْحِهَا، وَيَلُومُ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ مِنْهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مُسْتَتِرًا مُسْتَخْفِيًا، وَيَلِيهَا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا، حَتَّى يَزُولَ شُعُورُهُ بِقُبْحِهَا، وَيَلِيهَا
أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، وَيَكُونُ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِلْمُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يُفَاخِرَ بِهَا أَهْلَهَا، وَيَحْتَقِرَ مَنْ يَتَنَزَّهُونَ عَنْهَا، وَهَذِهِ أَسْفَلُ الدَّرَكَاتِ، وَهِيَ دَرَجَةُ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَا يَهْبِطُ إِلَيْهَا وَلَا بِسَفِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، بَلْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ يَعْمَلُونَهَا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) أَيْ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ خَانَتْهُ بِوِلَايَةِ قَوْمِهِ الْكَافِرِينَ الْفَاسِقِينَ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مِنْ جَمَاعَةِ الْغَابِرِينَ أَيِ الْهَالِكِينَ، أَوِ الْبَاقِينَ الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَيَلِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ. يُقَالُ: غَبَرَ بِمَعْنَى بَقَى وَبِمَعْنَى مَضَى وَذَهَبَ وَهَلَكَ. وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنْ أَهْلَهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ أَمْ لَا، فَقَدْ غَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٥١: ٣٥، ٣٦). (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) أَيْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا عَجِيبًا أَمْرُهُ، وَهُوَ الْحِجَارَةُ الَّتِي رُجِمُوا بِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَطِرَ وَأَمْطَرَ أَنَّ مَعْنَى مَطِرَتْهُمُ السَّمَاءُ أَصَابَتْهُمْ بِالْمَطَرِ، كَقَوْلِهِمْ غَاثَتْهُمْ وَوَبِلَتْهُمْ وَجَادَتْهُمْ وَرَهِمَتْهُمْ. وَيُقَالُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ كَذَا - بِمَعْنَى أَرْسَلَتْهُ عَلَيْهِمْ إِرْسَالَ الْمَطَرِ اهـ. وَعَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَطَرَ وَأَمْطَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ " مَطَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الرَّحْمَةِ وَ " أَمْطَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْعَذَابِ. نُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَتَبِعَهُ الرَّاغِبُ وَالْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي الْقَامُوسِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يُقَالُ: مَطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْهُمْ، وَسَمَاءٌ مَاطِرَةٌ وَمُمْطِرَةٌ - قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ أَمْطَرَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ اهـ. فَالْأَمْطَارُ حَقِيقَةٌ فِي
458
الْمَطَرِ مَجَازٌ فِيمَا يُشْبِهُهُ فِي الْكَثْرَةِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حِسِّيَّيْنِ أَوْ مَعْنَوِيَّيْنِ مِمَّا يَجِيءُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ. وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِالشَّرِّ، إِلَّا مِنْ تَكَرُّرِ الْآيَاتِ فِي إِرْسَالِ الْحِجَارَةِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى
حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٨: ٣٢) وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (٤٦: ٢٤).
نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا وَرَدَتْ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا نَقُولُ فِي حَقِيقَتِهَا وَصِفَتِهَا قَوْلًا جَازِمًا، وَلَكِنْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ إِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِرْسَالَ إِعْصَارٍ مِنَ الرِّيحِ حَمَلَتْهَا وَأَلْقَتْهَا عَلَيْهِمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَهْلِ سَاحِلِ الْبَحْرِ أَنَّ السَّمَاءَ أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً طِينًا وَمَرَّةً سَمَكًا - أَيْ مَعَ الْمَطَرِ - وَسَأَلُوا: مِنْ أَيْنَ جَاءَ ذَلِكَ؟ فَقُلْنَا: أَمَّا التُّرَابُ فَأَثَارَتْهُ السَّافِيَاءُ مِنَ الرِّيحِ فَحَمَلَتْهُ إِلَى السَّحَابِ فَنَزَلَ مَعَ الْمَطَرِ طِينًا، وَأَمَّا السَّمَكُ فَهَذَا الْإِعْصَارُ الَّذِي يُرَى مُتَدَلِّيًا مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْبَحْرِ أَوْ مُرْتَفِعًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّحَابِ كَعَمُودٍ مِنَ الدُّخَّانِ وَتُسَمُّونَهُ التِّنِّينَ، هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْمَاءَ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّحَابِ، فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ فِيمَا رَفَعَهُ سَمَكٌ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْكُمْ لِقُرْبِكُمْ مِنَ الْبَحْرِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحِجَارَةُ مِنْ بَعْضِ النُّجُومِ الْمُحَطَّمَةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفَلَكِيُّونَ الْحِجَارَةَ النَّيْزَكِيَّةَ، وَهِيَ بَقَايَا كَوْكَبٍ مُحَطَّمٍ تَجْذِبُهُ الْأَرْضُ إِلَيْهَا إِذَا صَارَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَهِيَ تَحْتَرِقُ غَالِبًا مِنْ سُرْعَةِ الْجَذْبِ وَشِدَّتِهِ وَهِيَ الشُّهُبُ الَّتِي تُرَى فِي اللَّيْلِ، فَإِذَا سَلِمَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الِاحْتِرَاقِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَرْضِ سَاخَ فِيهَا، وَكَانَ لِسُقُوطِهِ صَوْتٌ شَدِيدٌ، وَقَدِ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ وَوَضَعُوهَا فِي الْمَتَاحِفِ، وَلَمْ يُعْهَدْ أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً، وَالْآيَاتُ تُخَالِفُ الْمَعْهُودَ وَتَخْتَرِقُ الْمُعْتَادَ وَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِسُنَنٍ خَفِيَّةٍ فِي الْكَوْنِ بِفِعْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي سُورَتَيْ هُودٍ وَالْحِجْرِ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ مُسَوَّمَةً. وَاخْتَلَفَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ السِّجِّيلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوَّلُهَا حِجَارَةٌ وَآخِرُهَا طِينٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (مُسَوَّمَةً) (١١: ٨٣) قَالَ: مُعَلَّمَةً. وَمِثْلِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حِجَارَةٌ فِيهَا طِينٌ، وَقَالَ: السَّوْمُ بَيَاضٌ فِي حُمْرَةٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالسِّجِّيلُ حَجَرٌ وَطِينٌ مُخْتَلِطٌ وَأَصْلُهُ فِيمَا قِيلَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ اهـ. وَهَذَا يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْحِجَارَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَقَلَعَتْهَا الْأَعَاصِيرُ مِنْ أَرْضٍ رَطْبَةٍ مِنَ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَحِجَارَةُ النَّيَازِكِ لَا تَكُونُ إِلَّا جَافَّةً، بَلْ تَسْقُطُ حَامِيَةً مِنْ شِدَّةِ الْجَذْبِ ثُمَّ تَبْرُدُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ: السِّجِّيلُ طِينٌ مُتَحَجِّرٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ فَارِسِيُّ الْأَصْلِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللهُ
تَعَالَى، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ عَالِيَ تِلْكَ الْقُرَى سَافِلَهَا، وَنُبَيِّنُ أَنَّ وُقُوعَ هَذَا وَذَاكَ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا آيَةً.
459
(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ أَوْ يَقْرَؤُهَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عَاقِبَةَ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَا تَكُونُ إِلَّا وَبَالًا وَعِقَابًا، فَإِنَّ الْأُمَمَ تُعَاقَبُ عَلَى ذُنُوبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ بِاطِّرَادٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ عِقَابَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلذَّنْبِ كَالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ فِي الْفِسْقِ يُفْسِدُ أَخْلَاقَ الْأُمَّةِ وَيَذْهَبُ بِبَأْسِهَا، أَوْ يَجْعَلُهُ بَيْنَهَا شَدِيدًا بِتَفَرُّقِ كَلِمَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَحْزَابِهَا وَتَعَادِيهِمْ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ تَسَلُّطُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا بِسَلْبِ اسْتِقْلَالِهَا، وَتَسْخِيرِهَا فِي مَنَافِعِهَا، حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِذَهَابِ مُقَوِّمَاتِهَا وَمُشَخِّصَاتِهَا، أَوِ انْدِغَامِهَا فِي الْأُمَّةِ الْغَالِبَةِ أَوِ انْقِرَاضِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا يَحْدُثُ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجَوَائِحِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَإِمْطَارِ النَّارِ وَالْمَوَادِّ الْمُصْطَهِرَةِ الَّتِي تَقْذِفُهَا الْبَرَاكِينُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَوْبِئَةِ - أَوِ الِانْقِلَابَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْحُرُوبِ وَالثَّوَرَاتِ وَالْفِتَنِ. وَهُنَالِكَ نَوْعٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدِ انْقَضَى زَمَانُهُ بِخَتْمِهِمْ بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (٦: ٦٥) [ص٤٠٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ].
حَظْرُ اللُّوَاطَةِ وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا وَمَفَاسِدُهَا
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللُّوَاطَةَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمَّاهَا فَاحِشَةً وَخَبِيثَةً، وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي لَعْنِ فَاعِلِهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَ بَعْضَهَا الْحَاكِمُ، وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي أَمْرٍ قَطْعِيٍّ بِالنَّصِّ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ " صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " إِذَا ظُلِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَانَتِ الدَّوْلَةُ دَوْلَةَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا كَثُرَ الزِّنَا كَثُرَ السِّبَاءُ، وَإِذَا كَثُرَ اللُّوطِيَّةُ رَفَعَ اللهُ يَدَهُ عَنِ الْخَلْقِ فَلَا يُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكُوا "
وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُ النَّسَائِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ " قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ وَاسْتَنْكَرَهُ النَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ أَضْعَفُ مِنَ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ. ثُمَّ قَالَ عَنِ ابْنِ الطَّلَّاعِ فِي أَحْكَامِهِ تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ وَرَدِّهِ بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَصِحُّ، وَأَنَّ ابْنَ مَاجَهْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ بِلَفْظِ " فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ " وَقَالَ عَاصِمٌ مَتْرُوكٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَكِنَّ الشَّوْكَانِيُّ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الْحَافِظَ قَالَ: رِجَالُهُ مَوْثُوقُونَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَأَنَّ الشَّيْخَيْنِ احْتَجَّا بِعَمْرِو بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ الَّذِي ضَعُفَ بِهِ
460
ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ ابْنِ الطَّلَّاعِ وَتَعَقُّبَ الْحَافِظِ لَهَا وَأَوْرَدَ بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ فِي أَحْكَامِهَا مَا نَصُّهُ:
" وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عُقُوبَةِ الْفَاعِلِ لِلُّوَاطِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَعْنِ فَاعِلِهِ (أَيْ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا) فَذَهَبَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ (يَعْنِي الَّذِينَ اسْتَشَارَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ) وَعَلِيٍّ (وَهُوَ مِنْهُمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ) إِلَى أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ وَلَوْ كَانَ بِكْرًا سَوَاءً كَانَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالنَّاصِرُ وَالْقَاسِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (يَعْنِي صَاحِبَ الْمُنْتَقَى) مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجْمِهِ اللُّوطِيَّةَ، وَذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ بِمَجْمُوعِهِ يُنْتَهَضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِ اللُّوطِيِّ فَرُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ثُمَّ يُحْرَقُ لِعِظَمِ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ (أَيْ عَمَلًا بِرَأْيِ عَلَيٍّ فِي الشُّورَى) وَذَهَبَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ إِلَى أَنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَذَهَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ يُلْقَى مِنْ أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْبَلَدِ (أَقُولُ: وَالرِّوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ وَأَهْوَنُهُمَا الثَّانِيَةُ لِأَنَّ أَبْنِيَتَهُمْ كَانَتْ وَاطِئَةً جِدًّا) وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَتْلِ، وَقَدْ حَكَى الْبَغَوِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يُرْجَمُ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ اللُّوَاطَةَ كَالزِّنَا فَحَدَّهُمَا وَاحِدٌ، وَبَحَثَ فِي تَخْصِيصِ اللُّوطِيِّ بِعِقَابٍ. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
وَمَا أَحِقُّ مُرْتَكِبَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، وَمُقَارِفَ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ الذَّمِيمَةِ، بِأَنْ
يُعَاقَبَ عُقُوبَةً يَصِيرُ بِهَا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَيُعَذَّبَ تَعْذِيبًا يَكْسِرُ شَهْوَةَ الْفَسَقَةِ الْمُتَمَرِّدِينَ، فَحَقِيقٌ بِمَنْ أَتَى بِفَاحِشَةِ قَوْمٍ مَا سَبَقَهُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَنْ يَصْلَى مِنَ الْعُقُوبَةِ بِمَا يَكُونُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالشَّنَاعَةِ مُشَابِهًا لِعُقُوبَتِهِمْ، وَقَدْ خَسَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ وَاسْتَأْصَلَ بِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكْرَهُمْ وَثَيِّبَهُمْ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ وَالْمُرْتَضَى وَالْمُؤَيَّدُ بِاللهِ إِلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ اللُّوطِيُّ فَقَطْ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي خُصُوصِ اللُّوطِيِّ، وَالْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الزَّانِي عَلَى الْعُمُومِ اهـ.
أَقُولُ: وَمِمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا التَّعْزِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ بِالْجَلْدِ وَالْحَبْسِ فِي أَنْتَنِ بُقْعَةٍ، وَبِالسِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) (٤: ١٥) الْآيَتَيْنِ " ١٥، ١٦ " أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيَّ فَسَّرَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنَ النِّسَاءِ بِالْمُسَاحِقَاتِ - وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنَ الرِّجَالِ بِاللَّائِطِ وَالْمَلُوطِ بِهِ، وَأَنَّ الْجَلَالَ قَالَ: إِنَّهَا فِي الزِّنَا وَاللُّوَاطِ جَمِيعًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ رَجَّحَ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ فِي الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ عِقَابَ اللُّوَاطَةِ التَّعْزِيرُ، وَلَكِنْ بِمَا فِيهِ إِيذَاءٌ لَا مُطْلَقًا، فَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَبِمَا فِيهِ تَعْذِيبٌ وَمَا لَا تَعْذِيبَ فِيهِ، [رَاجِعْ ص ٣٥٥ - ٣٦٠ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ].
461
ابْتِلَاءُ مُتْرَفِي الْحَضَارَةِ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ
لَيْسَ لَدَيْنَا أَثَارَةٌ مِنَ التَّارِيخِ فِي سَبَبِ ابْتِلَاءِ قَوْمِ لُوطٍ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ رُوَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْلِيسَ تَزَيَّا لَهُمْ فِي صُورَةِ أَجْمَلِ صَبِيٍّ رَآهُ النَّاسُ فَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ ثُمَّ جَرَوْا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا أَثَرٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارٌ بَعْضُهَا عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، وَأَنَّهُ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَقِلَّةُ ثِمَارٍ فَتَوَاطَئُوا عَلَى مَنْعِ ثِمَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ بِأَنْ يُعَاقِبُوا كُلَّ غَرِيبٍ يَأْخُذُونَهُ فِي دِيَارِهِمْ بِإِتْيَانِهِ وَتَغْرِيمِهِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، قَالُوا: فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَظْهَرُونَ بِبِلَادِكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ. فَفَعَلُوهُ فَأَلِفُوهُ. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُنَزِّهُ أَنْفُسَهَا عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِالْأَوْلَى، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ تَشَاوُرِ الصَّحَابَةِ فِي الْعِقَابِ عَلَيْهَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ ضَوَاحِي بِلَادِ الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ. فَجَمَعَ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثَلٌ، فَأَشَارَ عَلِيُّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِأَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ - أَيْ بَعْدَ قَتْلِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ فَأَمْضَاهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ضَوَاحِي بِلَادِ الْعَرَبِ مَا يَلِي بِلَادَ فَارِسٍ مِنْهَا إِذْ كَانَ هُنَالِكَ، وَلَمْ نَعْلَمْ جِنْسَ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعَاجِمِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَوَّلُ مَنِ اتُّهِمَ بِالْأَمْرِ الْقَبِيحِ - تَعْنَى عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ - رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَأَمَرَ عُمَرُ بَعْضَ شَبَابِ قُرَيْشٍ أَلَّا يُجَالِسُوهُ. أَيْ لِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ.
هَذِهِ الْفَاحِشَةُ مِنْ سَيِّئَاتِ تَرَفِ الْحَضَارَةِ وَهِيَ تَكْثُرُ فِي الْمُسْرِفِينَ فِي التَّرَفِ، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَتَعَسَّرُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالنِّسَاءِ، كَثُكْنَاتِ الْجُنْدِ، وَالْمَدَارِسِ الَّتِي لَا تَشْتَدُّ الْمُرَاقَبَةُ الدِّينِيَّةُ الْأَدَبِيَّةُ فِيهَا عَلَى التَّلَامِيذِ، وَمِنْ أَسْبَابِ ابْتِلَاءِ بَعْضِ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِي عُنْفُوَانِ حَضَارَتِهِمُ احْتِجَابُ النِّسَاءِ وَعِفَّتُهُنَّ مَعَ ضَعْفِ التُّرْبَةِ الدِّينِيَّةِ، وَكَثْرَةِ الْمَمَالِيكِ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَعَاجِمِ الْحِسَانِ الصُّوَرِ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ. قَالَ الْفَقِيهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ مِنْ كِتَابِهِ الزَّوَاجِرِ مَا نَصُّهُ:
" وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ بِمَمْلُوكِهِ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ اللُّوطِيَّةِ الْمُجْرِمِينَ الْفَاسِقِينَ الْمَلْعُونِينَ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُتْرَفِينَ، فَاتَّخَذُوا حِسَانَ الْمَمَالِيكِ سُودًا وَبِيضًا لِذَلِكَ، فَعَلَيْهِمْ أَشَدُّ اللَّعْنَةِ الدَّائِمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَأَعْظَمُ الْخِزْيِ
462
وَالْبَوَارِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَا دَامُوا عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِحِ الشَّنِيعَةِ الْفَظِيعَةِ، الْمُوجِبَةِ لِلْفَقْرِ وَهَلَاكِ الْأَمْوَالِ وَانْمِحَاقِ الْبَرَكَاتِ، وَالْخِيَانَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَمَانَاتِ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ قَدِ افْتَقَرَ مِنْ سُوءِ مَا جَنَاهُ، وَقَبِيحِ مُعَامَلَتِهِ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَارِئِهِ وَخَالِقِهِ، وَمُوجِدِهِ وَرَازِقِهِ، بَلْ بَارَزَهُ بِهَذِهِ الْمُبَارَزَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى خَلْعِ جِلْبَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ وَالتَّخَلِّي عَنْ سَائِرِ صِفَاتِ أَهْلِ الشَّهَامَةِ وَالْفُتُوَّةِ، وَالتَّحَلِّي بِصِفَاتِ الْبَهَائِمِ بَلْ بِأَقْبَحِ وَأَفْظَعِ صِفَةٍ وَخَلَّةٍ، إِذْ لَا نَجِدُ حَيَوَانًا ذَكَرًا يَنْكِحُ مِثْلَهُ، فَنَاهِيكَ بِرَذِيلَةٍ تَعَفُّ عَنْهَا الْحَمِيرُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ فِعْلُهَا بِمَنْ هُوَ فِي صُورَةِ رَئِيسٍ أَوْ كَبِيرٍ؟ كَلَّا بَلْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْ قَدْرِهِ،
وَأَشْأَمُ مِنْ خَبَرِهِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيَفِ، وَأَحَقُّ بِالشُّرُورِ وَالسَّرَفِ، وَأَخُو الْخِزْيِ وَالْمَهَانَةِ، وَخَائِنُ عَهْدِ اللهِ وَمَالَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ، فَبُعْدًا لَهُ وَسُحْقًا، وَهَلَاكًا فِي جَهَنَّمَ وَحَرْقًا اهـ.
وَقَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي: وَبَعْضُ الْفَسَقَةِ الْيَوْمَ - دَمَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى - يُهَوِّنُونَ أَمْرَهَا وَيُتَيَّمُونَ بِهَا، وَيَفْتَخِرُونَ بِالْإِكْثَارِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهَا أَخْذًا لِلثَّأْرِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمَدُ اللهَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَالُوا الصَّدَارَةَ بِأَعْجَازِهِمْ نَسْأَلُ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِتَنَ بِالْمُرْدِ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ، أَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ وَخَصَّهُ آخَرُونَ بِنَظَرِ الشَّهْوَةِ الَّذِي هُوَ ذَرِيعَةُ الْفَاحِشَةِ. رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَحُدَّ الرَّجُلُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ - وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الْعَذَارَى - وَعَنِ النَّجِيبِ بْنِ السُّدِّيِّ قَالَ كَانَ يُقَالُ: لَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ مَعَ الْمُرْدِ - وَعَنِ ابْنِ سَهْلٍ قَالَ: سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ اللُّوطِيُّونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ يَنْظُرُونَ، وَصِنْفٌ يُصَافِحُونَ، وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ - وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ (يَعْنِي عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ) اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ فِي السَّمَاءِ وَكُلِّ قَطْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ نَجِسًا.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: دَخَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْحَمَّامَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ غُلَامٌ صَبِيحٌ فَقَالَ: أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي أَرَى مَعَ كُلِّ امْرَأَةٍ شَيْطَانًا وَمَعَ كُلِّ غُلَامٍ بِضْعَةَ عَشَرَ شَيْطَانًا. يَعْنِي أَنَّ الْوَسْوَسَةَ وَالْإِغْرَاءَ بِالْغُلَامِ الْجَمِيلِ يَزِيدُ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِالْمَرْأَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ ضِعْفًا لِسُهُولَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَكَثْرَةِ وَسَائِلِهِ، وَهَلْ كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَدْخُلَ الْمَرْأَةُ الْحَمَّامَ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا دَخَلَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وَكَمَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي غَيْرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِنَّهُنَّ يَتَوَلَّيْنَ تَنْظِيفَ الرِّجَالِ فِي الْحَمَّامَاتِ. وَمِنْ وَسَائِلِ الِافْتِتَانِ بِالْمُرْدِ التَّعْلِيمُ وَالِانْتِسَابُ إِلَى طَرِيقَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، فَيُجْعَلُ الْخَيْرُ وَسِيلَةً إِلَى الشَّرِّ، وَكَمْ فُتِنَ أُسْتَاذٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ بِمُرِيدِهِ وَتِلْمِيذِهِ وَأَخْفَى هَوَاهُ حَتَّى فَسَدَتْ
463
حَالُهُ، وَسَاءَ مَآلُهُ، وَكَمْ تَهَتَّكَ مُتَهَتِّكٌ فَفُضِحَ سِرُّهُ، وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ، كَالشَّيْخِ مُدْرِكٍ الَّذِي عَشِقَ عَمْرًا النَّصْرَانِيَّ أَحَدَ التَّلَامِيذِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ عَنْهُ عِلْمَ الْأَدَبِ، فَكَتَمَ هَوَاهُ زَمَنًا حَتَّى غَلَبَهُ فَبَاحَ بِهِ فَانْقَطَعَ الْغُلَامُ عَنْ مَجْلِسِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ قَصِيدَتَهُ الْمُزْدَوِجَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا:
إِنْ كَانَ ذَنْبِي عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَعَتْ فِي نَقْضِهِ الْآثَامُ
وَاخْتَلَّتِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَجَازَ فِي الدِّينِ لَهُ الْحَرَامُ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْفَاحِشَةِ أَنَّهَا:
(١) جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ.
(٢) مَفْسَدَةٌ لِلشُّبَّانِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا تُنَالُ بِسُهُولَةٍ.
(٣) مَذَلَّةٌ لِلرِّجَالِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِيهِمْ مِنْ دَاءِ الْأُبْنَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى مَا فِيهِ مِنْ خِزْيٍ وَمَهَانَةٍ.
(٤) مَفْسَدَةٌ لِلنِّسَاءِ اللَّوَاتِي تُصْرَفُ أَزْوَاجُهُنَّ عَنْهُنَّ، حَتَّى يُقَصِّرُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِحْصَانِهِنَّ، حَدَّثَنِي تَاجِرٌ أَنَّهُ دَخَلَتْ دُكَّانَهُ مَرَّةً امْرَأَةٌ بَارِعَةُ الْجَمَالِ فَأَسْفَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا فَقَامَ لِخِدْمَتِهَا دُونَ أَعْوَانِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ دُهِشَ بِرَوْعَةِ حُسْنِهَا قَالَتْ لَهُ: انْظُرْ أَتَجِدُ فِيَّ عَيْبًا؟ قَالَ: إِنَّى لَمْ أَرَ مِثْلَكِ قَطُّ؟ قَالَتْ: وَلَكِنَّ زَوْجِي فُلَانًا يَتْرُكُنِي عَامَّةَ لَيَالِيهِ كَالشَّيْءِ اللُّقَا (هُوَ الَّذِي يُلْقَى وَيُرْمَى لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ) فِي غُرَفِ الدَّارِ وَيَلْهُو عَنِّي فِي الدَّوْرِ السُّفْلِيِّ بِغِلْمَانِ الشَّوَارِعِ حَتَّى مَسَّاحِي الْأَحْذِيَةِ، وَهُوَ لَا يَشْكُو مِنِّي شَيْئًا مِنْ خُلُقٍ وَلَا خَلْقٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِي عَمَلٍ وَلَا خِيَانَةٍ فِي مَالٍ وَلَا عِرْضٍ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي أَعْلَمُ هَذَا وَلَا يُبَالِي بِهِ وَلَا يَحْسِبُ حِسَابًا لِعَوَاقِبِهِ.
وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ يُقِلُّ فِي النِّسَاءِ مَنْ تَصْبِرُ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ طَوِيلًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ (الْمِصْرِيَّةِ) الَّتِي تَرُوجُ فِي مُدُنِهَا أَسْوَاقُ الْفِسْقِ بِمَا لَهُ فِيهَا مِنَ الْمَوَاخِيرِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُدُنُ الَّتِي يَعْسُرُ فِيهَا السِّفَاحُ وَاتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ فَكَثِيرًا مَا يَسْتَغْنِي فِيهَا النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ كَمَا يَسْتَغْنِي الرِّجَالُ بِالْغِلْمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ نِسَاءِ قَوْمِ لُوطٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِنَّمَا حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ حِينَ اسْتَغْنَى النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: عَذَّبَ اللهُ نِسَاءَ قَوْمِ لُوطٍ بِعَمَلِ رِجَالِهِمْ؟ قَالَ اللهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ: اسْتَغْنَى النِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالُ بِالرِّجَالِ. أَبُو جَعْفَرٍ هُوَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ.
(٥) قِلَّةُ النَّسْلِ بِفُشُوِّهَا، فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِهَا الرَّغْبَةَ عَنِ الزَّوَاجِ فِي إِتْيَانِ
الْأَزْوَاجِ
464
فِي غَيْرِ مَأْتَى الْحَرْثِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي حَظْرِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ سَبِيلِ النَّسْلِ وَلُعِنَ فَاعِلُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَمَّاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اللُّوطِيَّةَ الصُّغْرَى.
(٦) أَنَّهَا ذَرِيعَةٌ لِلِاسْتِمْنَاءِ وَلِإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ وَهُمَا مَعْصِيَتَانِ قَبِيحَتَانِ شَدِيدَتَا الضَّرَرِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْآدَابِ، وَمُحَرَّمَتَانِ كَاللُّوَاطَةِ وَالزِّنَا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونِ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) فَقَصَدَ الشَّهْوَةَ لِذَاتِهَا يُفْضِي إِلَى وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا مَوْضِعُهَا الزَّوْجَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَّخَذَةُ لِلنَّسْلِ، وَفِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ بِقَصْرِ لَذَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَيْهِ وَجَعْلِهِ وَسِيلَةً لِلْحَيَاةِ الْوَالِدِيَّةِ الَّتِي تُنَمَّى بِهَا الْأُمَّةُ وَيُحْفَظُ النَّوْعُ الْبَشَرِيُّ مِنَ الزَّوَالِ. وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِ الشَّهْوَةِ مَقْصِدًا يَكْثُرُ مِنْ وَسَائِلِهَا مَا كَانَ أَقْرَبَ مَنَالًا وَأَقَلَّ كُلْفَةً، فَإِذَا اعْتِيدَ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَفَاسِدُ ذَلِكَ فَوْقَ مَا وَصَفْنَا.
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
465
قِصَّةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
هُوَ مِنْ أَنْبِيَاءِ الْعَرَبِ الْمُرْسَلِينَ وَاسْمُهُ مُرْتَجَلٌ وَقِيلَ: مُصَغَّرُ شَعْبٍ بِفَتْحِ
الْمُعْجَمَةِ أَوْ كَسْرِهَا، وَمَا قِيلَ مِنْ حَظْرِ تَصْغِيرِ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَصْغِيرُ الِاسْمِ الْمَعْرُوفِ بِمَا يُوهِمُ الِاحْتِقَارَ، كَأَنْ تَقُولَ فِي شُعَيْبٍ " شُعَيْعِيبٌ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصَغَّرٍ فِي الْأَصْلِ، وَقَصْدُ الِاحْتِقَارِ لَا يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنٍ بِأَنَّهُ مِنْ رُسُلِ اللهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبِيدُ اللهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ بَعْضِ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ شُعَيْبًا اسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ مِيكَائِيلُ وَاسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ خَبْرِيُّ بْنُ يَشْخُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِهِ عَنِ الشَّرْقِيِّ بْنِ الْقَطَامِيِّ وَكَانَ نَسَّابَةً عَالِمًا بِالْأَنْسَابِ قَالَ: هُوَ يتروب بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَشُعَيْبٌ بِالْعَرَبِيَّةِ ابْنُ عَيْفَا بْنِ يَوْبَبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْبَبُ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ أَوَّلُهُ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ وَبَعْدَ الْوَاوِ مُوَحَّدَتَانِ انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَلَعَلَّ يَشْخُرَ فِيهِ مُصْحَّفُ يَشْجُرَ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَغُشُّونَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَرْوُونَ لَهُمْ مِنْ كُتُبِهُمْ، وَالَّذِي فِي تَوْرَاتِهِمْ أَنَّ حِمَى مُوسَى كَانَ يُدْعَى رَعْوَئِيلُ كَمَا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ (٢: ١٨) وَسِفْرِ الْعَدَدِ (١٠: ٢٩) وَقَالُوا: إِنَّ " رَعْوَ " مَعْنَاهُ صَدِيقٌ فَمَعْنَى رَعْوَئِيلَ (صَدِيقُ اللهِ) أَيِ الصَّادِقُ فِي عِبَادَتِهِ، وَفِي (٣: ١ خُرُوجٍ) أَنَّ اسْمَهُ يَثْرُونُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالنُّونِ، إِذْ قَالَ: وَكَانَ مُوسَى يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيِّهِ كَاهِنِ مَدْيَنَ وَمِثْلُهُ فِي (٤: ١٨ مِنْهُ) وَضُبِطَ فِي تَرْجَمَةِ الأميركان بِكَسْرِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَفِي تَرْجَمَةِ الْجزويت " يَثْرُو " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِدُونِ نُونٍ، وَفِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلدُّكْتُورِ بُوسْتْ الْأَمِيرِكَانِيِّ: يَثْرُونُ (فَضْلُهُ) كَاهِنٌ أَوْ أَمِيرٌ مِدْيَانٌ وَهُوَ حَمُو مُوسَى (خر ٣: ١) وَيُدْعَى أَيْضًا رَعْوَئِيلُ (خر ٢: ١٨ وعد ١: ٢٩) وَيُثْرُ (حَاشِيَةُ خر ٤: ١٨) وَيُرَجَّحُ أَنَّ يَثْرُونَ كَانَ لَقَبًا لِوَظِيفَتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ وَقَطُورَةَ (تَكُ ٢٥: ٢) اهـ. وَذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ يُثْرَ وَفَسَّرَهُ بِفَضْلٍ كَمَا فَسَّرَ يَثْرَوُنَ بِفَضْلِهِ - أَيْ فَضْلُ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَلَعَلَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَضَمِيرِ عَبْدِهِ عَلَمًا فِي زَمَانِنَا وَيَخْتَصِرُونَ بِهِ عَبْدَ اللهِ.
466
وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ زَوْجَةَ إِبْرَاهِيمَ قَطُورَةَ وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةَ أَوْلَادٍ مِنْهُمْ مُدَانُ وَمَدْيَنُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَكْسِرُونَ مِيمَ مَدْيَنَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَدْيَانُ، وَالْمَدْيَنِيُّونَ عَرَبٌ، وَالْعَرَبُ تَفْتَحُ مِيمَ الْكَلِمَةِ، وَفِي قَامُوسِ بُوسْتْ أَنَّ مَعْنَاهَا خِصَامٌ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ أَرْضَهُمْ كَانَتْ تَمْتَدُّ مِنْ خَلِيجِ
الْعَقَبَةِ إِلَى مُوَآبَ وَطُورِ سَيْنَاءَ. وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَمْتَدُّ مِنْ شِبْهِ جَزِيرَةِ سَيْنَاءَ إِلَى الْفُرَاتِ. وَقَالَ: إِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ كَانُوا مِنْ سُكَّانِ مَدْيَنَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ حُسِبُوا مَعَ الْعَرَبِ وَالْمُوآبِيِّينَ.
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ حَمَلَةِ اللُّغَةِ وَالْبُخَارِىُّ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ: إِنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ، وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ) فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَأَمَّا شُعَيْبٌ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: هُوَ ابْنُ مِيكِيلَ بْنِ يَشْجُرَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّ جَدَّهُ يَشْجُرَ بْنَ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ مِيكْيَلَ بْنِ يَشْجُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ. كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَا يَثْبُتُ، وَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ صُفُّورَ بْنِ عُنُقَا بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَدْيَنُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُحْرِقَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ " أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ " فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَنِي عَنَزَةَ بْنِ أَسَدٍ فَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدِ الْعَنَزِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ فَانْتَسَبَ إِلَى عَنَزَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَ الْحَيُّ عَنَزَةَ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِمْ مَنْصُورُونَ رَهْطُ شُعَيْبٍ وَأَخْتَانُ مُوسَى " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ مَجَاهِيلُ اهـ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: وَمَدِينُ - وَسُمِعَ مَدْيَانُ فِي الْأَصْلِ - عَلَمٌ لِابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُنِعَ صَرْفُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ اسْمٌ لِمَاءٍ كَانُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ اسْمُ بَلَدٍ وَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ فَلَابُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ حِينَئِذٍ اهـ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوَّلُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْهُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَذَكَرَ هُنَالِكَ آيَةً، وَقَدْ عَيَّنَ الْآيَةَ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِمَجِيئِهَا وَهِيَ النَّاقَةُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا وَلَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى آيَةً كَوْنِيَّةً مُعَيَّنَةً لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
467
مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ
أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُؤْمِنَ الْبَشَرُ بِدَلَالَةِ مِثْلِهِ. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ إِنْذَارَ قَوْمِهِ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِقَاقِهِ وَعِنَادِهِ - هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِدْقِهِ، وَقَدْ صَدَقَ إِنْذَارُهُ هَذَا وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ. وَلَكِنْ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ آيَةٌ أُخْرَى دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ ظُهُورَ صِدْقِ هَذَا الْإِنْذَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، فَهِيَ تَشْمَلُ الْمُعْجِزَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُذْعِنُ إِلَّا لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُلْزِمَةً لِلْحُجَّةِ قَاطِعَةً لِأَلْسِنَةِ الْعُذْرِ وَمُكَابَرَةِ الْحَقِّ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ:
(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) فَإِنَّ عَطْفَ هَذَا الْأَمْرِ بِالْفَاءِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَهُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: (اعْبُدُوا اللهَ) لَعُطِفَ بِالْوَاوِ.
بَدَأَ الدَّعْوَةَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ أَسَاسُ الْعَقِيدَةِ وَرُكْنُ الدِّينِ الْأَعْظَمِ، وَقَفَّي عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ إِذَا بَاعُوا، وَالنَّهْيِ عَنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ إِذَا اشْتَرَوْا؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فَاشِيًا فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَكَانَ شَأْنُهُ مَعَهُمْ كَشَأْنِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ بَدَأَ بِنَهْيِ قَوْمِهِ عَنِ الْفَاحِشَةِ السُّوأَى الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِيهِمْ.
كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ أَوْ وَزَنُوا عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَرُونَ مِنَ الْمُكَيَّلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ يَسْتَوْفُونَ حَقَّهُمْ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ مَا يَبِيعُونَ لَهُمْ يُخْسِرُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ أَيْ يُنْقِصُونَهُ، فَيَبْخَسُونَهُمْ أَشْيَاءَهُمْ وَيُنْقِصُونَهُمْ حُقُوقَهُمْ وَالْبَخْسُ أَعَمُّ مِنْ نَقْصِ الْمُكَيَّلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَهُمَا مِنَ الْمَبِيعَاتِ كَالْمَوَاشِي وَالْمَعْدُودَاتِ
468
وَيَشْمَلُ الْبَخْسَ فِي الْمُسَاوَمَةِ وَالْغِشَّ وَالْحِيَلَ الَّتِي تُنْتَقَصُ بِهَا الْحُقُوقُ، وَكَذَا بَخْسُ الْحُقُوقِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَخْسَيْنِ فَاشٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَأَكْثَرُ التُّجَّارِ بَاخِسُونَ مُطَفِّفُونَ مُخْسِرُونَ، فِيمَا يَبِيعُونَ وَفِيمَا يَشْتَرُونَ وَأَكْثَرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَكُتَّابُ السِّيَاسَةِ بَخَّاسُونَ لِحُقُوقِ صِنْفِهِمْ، وَنَفَّاجُونَ فِيمَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَتَشَبَّعُونَ بِمَا لَمْ يُعْطَوْا كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ،
وَيُنْكِرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا أَعْطَاهُ اللهُ بِبَاعِثِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالْغُرُورِ.
وَجُمْلَةُ (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) تُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى هَضْمِ الْغَرِيبِ وَبَخْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَشْمَلُ بَخْسَ الْأَفْرَادِ بَعْضَهُمْ أَشْيَاءَ بَعْضٍ، وَهَضَمَ الشَّعْبُ فِي جُمْلَتِهِ أَشْيَاءَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُعَامِلُونَهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ الْغَرِيبُ يَأْخُذُونَ دَرَاهِمَهُ وَيَقُولُونَ هَذِهِ زُيُوفٌ، فَيَقْطَعُونَهَا ثُمَّ يَشْتَرُونَهَا مِنْهُ بِالْبَخْسِ يَعْنِي النُّقْصَانَ، وَهَذِهِ النَّقِيصَةُ فَاشِيَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَذُمُّ بَعْضًا وَيُنْكِرُ فَضْلَهُ كَالْأَفْرَادِ وَتَرَى التُّجَّارَ فِي عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ يُغَالُونَ مِنَ الْأَسْعَارِ لِلْغُرَبَاءِ مَا يُرَخِّصُونَ لِأَهْلِ الْبِلَادِ وَتَرَى بَعْضَ الْغُرَبَاءِ يَسْتَحِلُّونَ مِنْ نَهْبِ أَمْوَالِ الْمِصْرِيِّينَ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَسْتَحِلُّونَ مِثْلَهُ فِي مُعَامَلَةِ أَبْنَاءِ جِلْدَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الشَّرْقِيِّينَ فَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ الْإِفْرِنْجِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا
يُجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
وَيَا لَيْتَهُمْ يُعَامِلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَمَنْ تَجْمَعُهُمْ مَعَهُمْ أَقْوَى الْمُقَوِّمَاتِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِمْ مَنْ يَبْخَسُونَ أَبْنَاءَ قَوْمِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَشْيَاءَهُمْ وَيَهْضِمُونَ حُقُوقَهُمْ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَجْنَبِيَّ وَيُعْطُونَهُ فَوْقَ حَقِّهِ. وَإِنَّمَا اسْتَذَلَّهُمْ لِلْأَجَانِبِ حُكَّامُهُمْ، فَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ مَبْخُوسُونَ لَا بَاخِسُونَ، وَمَظْلُومُونَ لَا ظَالِمُونَ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَذْمُومُونَ لَا مَحْمُودُونَ، وَمَكْفُورُونَ لَا مَشْكُورُونَ.
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آيَةِ (٥٦) خِطَابًا لِأُمَّتِنَا فَفَسَّرْنَاهَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. وَنَقُولُ فِيمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ هُنَا: إِنَّ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ يَشْمَلُ إِفْسَادَ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ بِالظُّلْمِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى
469
الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ، وَإِفْسَادِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ بِالْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ النِّظَامِ. وَإِصْلَاحُهَا هُوَ مَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهَا وَحَالُ أَهْلِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ الْمُنَافِيَةِ لِخُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَمَهَانَتِهِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ مِنْ أَدْرَانِ الرَّذَائِلِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَنِّيَّةِ الْمُرَقِّيَّةِ لِلْعُمْرَانِ وَحُسْنِ الْمَعِيشَةِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (١٠) فَقَدْ أَصْلَحَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الْبَشَرِ بِنِظَامِ الْفِطْرَةِ وَكَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَرْضِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَوَارِحِ، وَبِمَا أَوْدَعَ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ،
وَبِمَا بَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْفِطْرَةِ، فَالْإِفْسَادُ إِزَالَةُ صَلَاحٍ أَوْ إِصْلَاحٍ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَالْإِصْلَاحُ مَا يَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَهُوَ إِمَّا الْخَالِقُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ، وَإِمَّا مَنْ سَخَّرَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، وَالْحُكَّامِ الْعَادِلِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْقِسْطَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ يَنْفَعُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَالزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالتُّجَّارِ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى عُلُومٍ وَفُنُونٍ كَثِيرَةٍ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ وِفْقًا لِقَاعِدَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
(ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الْإِشَارَةُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، أَيْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ لَا تَكْلِيفَ إِعْنَاتٍ، فَرَبُّكُمْ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِمَا هُوَ نَافِعٌ لَكُمْ، وَلَا يَنْهَاكُمْ إِلَّا عَمَّا هُوَ ضَارٌّ بِكُمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَأَعَنْتَكُمْ وَلَكِنَّهُ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ لَكُمْ خَيْرِيَّةُ مَا ذَكَرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَسَيَأْتِي تَعْلِيلُ ذَلِكَ بَعْدَ بَيَانِ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْإِيمَانِ.
فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِيمَانَ هُنَا بِالتَّصْدِيقِ اللُّغَوِيِّ، أَيِ اعْتِقَادِ صِحَّةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بِهِ عِنْدَهُمْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالنُّصْحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الدُّنْيَوِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ رَسُولِهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ تَعَالَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ: إِنَّ
470
ذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا لِلْخَيْرِيَّةِ نَفْسِهَا بَلْ لِفِعْلِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأْتُوا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِي. فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا تَوَقُّفَ لِلْخَيْرِيَّةِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِهِ. وَقَدْ أَطَالُوا الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْآيَةِ حَتَّى زَعَمَ الْخَيَالِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَهُوَ مِنْ خَيَالَاتِهِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا التَّذْيِيلَ كَأَمْثَالِهِ فِي الْقُرْآنِ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ إِشْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فِي عِبَادَتِهِ لِمَا تَرَوْنَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ تَرْجُونَهُ أَوْ ضُرٍّ تَخَافُونَهُ - وَمِنْ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ. وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ - ذَلِكُمْ كُلُّهُ خَيْرٌ لَكُمْ فِي مَعَاشِكُمْ وَمَعَادِكُمْ. وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ خَيْرِيَّتُهُ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ وَالِامْتِثَالَ وَالْعَمَلَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ خَالَفَ الْهَوَى أَوْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَادِيَ الرَّأْيِ، بَلْ يَقْتَضِيهِ حَتَّى فِيمَا يَظُنُّ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَصْلَحَتِهِ، فَتَحْصُلُ لَهُ فَوَائِدُهُ وَمَنَافِعُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عِلَّةٌ أَوْ سَبَبٌ لَهَا بِحَسَبِ حِكْمَةِ اللهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ. فَكَيْفَ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ - كَكَوْنِ التَّوْحِيدِ وَاجْتِنَابِ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ تَرْفَعُ قَدْرَ الْإِنْسَانِ، وَتُطَهِّرُ عَقْلَهُ وَنَفْسَهُ فِي الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ وَتَعْتِقُ إِرَادَتَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مُسَخَّرًا لِإِرَادَةِ الْخَالِقِ وَسُنَنِهِ، وَإِنْ فَاقَهُ فِي عَظَمَةِ الْخَلْقِ أَوْ عِظَمِ الْمَنْفَعَةِ كَالشَّمْسِ، أَوْ بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوِ الْخَصَائِصِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ فِي الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ عَبَدُوا الْمُلُوكَ الْجَبَّارِينَ فَاتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزَالُ يُذَلُّ لَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ وَلَوْ فِي الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ خَوْفًا مِنْهُمْ، أَوْ رَجَاءً فِي رِفْدِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْمُوَحِّدِينَ، قَالَ تَعَالَى: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣: ١٧٥) فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لَا يَخْضَعُ لِأَحَدٍ لِذَاتِهِ إِلَّا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، وَإِنَّمَا يُطِيعُ رَسُولَهُ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) (٤: ٨٠) وَقَالَ خَاتَمُ رُسُلِهِ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ
471
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
وَفِي رِوَايَةٍ " فَلَا يَأْخُذْهُ " بَدَلَ تَخْيِيرِ التَّهْدِيدِ. وَفِي بَعْضِهَا " مِنْ حَقِّ أَخِيهِ " بَدَلًا مِنْ " بِحَقِّ مُسْلِمٍ " وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ. وَأَنَّ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهِدَ كَذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذِّمِّيَّ هُوَ الْخَاضِعُ لِأَحْكَامِنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعَاهِدَ مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَوْ بَيْنَ قَوْمِهِ مُعَاهَدَةٌ عَلَى السِّلْمِ وَالْمُرَادُ: أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرْبِيًّا فَهُوَ مُسَاوٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي احْتِرَامِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ وَعِرْضِهِ وَفِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَصْدُرُ بِذَلِكَ. وَالشَّاهِدُ الْمُرَادُ لَنَا مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ وَلَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ رُسُلِ اللهِ إِنَّمَا يُنَفَّذُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دِيَانَةً وَالْحَدِيثُ لَيْسَ نَصًّا فِي وُقُوعِ الْخَطَإِ أَوْ جَوَازِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، حَتَّى لَا يَسْتَعِينَ أَحَدٌ بِخِلَابَةِ اللِّسَانِ لَدَى الْحُكَّامِ عَلَى الْقَضَاءِ لَهُ بِالْبَاطِلِ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ خَطَإِ الْأَنْبِيَاءِ فِي اجْتِهَادِهِمْ قَالُوا إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ هُنَا بِالْبَيِّنَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ، وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا.
هَذَا مِثَالٌ لِكَوْنِ التَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ وَتَكْرِيمِهِمْ وَإِعْلَاءِ شَأْنِهِمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، حَتَّى مَا يُسَمُّونَهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ - قَدْ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَتَرَى غَيْرَ الْمُؤْمِنِ الْمُتَدَيِّنَ لَا يَلْتَزِمُ اجْتِنَابَ كُلِّ مَفْسَدَةٍ بَلْ يَسْتَبِيحُ مَا يَرَاهُ نَافِعًا لَهُ وَإِنْ كَانَ ضَارًّا بِغَيْرِهِ فَرْدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أُمَّةً بِأَسْرِهَا، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْأَمَانَةِ خَيْرًا مِنَ الْخِيَانَةِ، وَكَوْنِ الْقِسْطِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ خَيْرًا مِنَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَبَخْسِ الْحُقُوقِ - لَا يَكْفِي لِحَمْلِ الْجُمْهُورِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ يُعْرَضُ لَهُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ ضُرُوبٌ مِنَ الْأَشْكَالِ
472
فِي تَحْدِيدِ الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقِسْطِ وَالْبَخْسِ، وَضُرُوبٌ مِنَ الْهَوَى فِي تَطْبِيقِ حُدُودِهَا أَوْ رُسُومِهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، وَضُرُوبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالشُّبَهَاتِ فِي الْمُسَاوَاةِ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْغَرِيبِ وَالصَّدِيقِ وَالْعَدُوِّ وَالضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ. وَأَمَّا الدِّينُ فَيُوجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِقَامَةَ الْعَدْلِ لِذَاتِهِ بِالْمُسَاوَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ) (٥: ٨) وَيَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
لَمْ يَصِلِ الْبَشَرُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِ التَّارِيخِ إِلَى عُشْرِ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي مُعَامَلَاتِهِ وَآدَابِهِ حَتَّى زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ وَالْمُفَكِّرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْعِلْمِ عَنِ الدِّينِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَحْدَاثِ بِإِقْنَاعِهِمْ بِمَنَافِعِ الْفَضَائِلِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ، وَمَضَارِّ الرَّذَائِلِ كَأَضْدَادِهَا، وَأَنَّ هَذَا أَهْدَى وَأَقْوَى إِقْنَاعًا مِنَ التَّبْشِيرِ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْإِنْذَارِ بِعَذَابِهَا. وَلَكِنَّا نَرَى رُؤَسَاءَ أَوْ وُزَرَاءَ أَرْقَى الْأُمَمِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ يَقْتَرِفُونَ أَفْحَشَ الرَّذَائِلِ بِالتَّأْوِيلِ لَهَا، وَتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا، وَبِالْخَفَاءِ وَالْحِيَلِ، وَمَا زَالُوا يُرَاءُونَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فَضَحَتْهُمْ وَفَضَحَتْ شُعُوبَهُمُ الْحَرْبُ الْأَخِيرَةُ، فَثَبَتَ بِهَا أَنَّهُمْ شَرُّ الْبَشَرِ وَأَعْرَقُهُمْ فِي الرَّذَائِلِ الْعَامَّةِ كَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالطَّمَعِ. وَالْمُبَارَاةِ فِي وَسَائِلِ إِفْسَادِ الشُّعُوبِ صِحَّةً وَأَخْلَاقًا وَاسْتِذْلَالًا، لِأَجْلِ الِاسْتِلْذَاذِ بِاسْتِبْعَادِهَا، وَالِاسْتِئْثَارِ بِثَمَرَاتِ أَعْمَالِهَا. عَلَى أَنَّهُمْ يَمُنُّونَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْذِبُونَهَا بِهِ إِلَى حَضَارَتِهِمُ الْمَلْعُونَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَاسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَجَعْلِ ذَلِكَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يُبَالِغُونَ فِي مَدْحِهَا، وَعُدَّ هَذَا الْإِطْلَاقُ سَبَبًا لِلْكَمَالِ فِيهَا.
هَذَا وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْجَمْعَ بَيْنَ عُلُومِ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَبَيْنَ دِينِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَالْعِفَّةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْإِيثَارِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْمَسِيحِيَّةُ الَّتِي يَفْتَخِرُونَ بِوَصْفِ أُمَمِهِمْ بِهَا، وَهُمْ أَبْعَدُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ عَنْهَا - فَالتَّحْقِيقُ الَّذِي ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَالتَّجَارِبِ الدَّقِيقَةِ أَنَّ مَلَكَاتِ الْفَضَائِلِ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْأَنْفُسِ إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ
473
فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ وَلِذَلِكَ تَقِلُّ السَّرِقَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى أَهْلِهَا التَّدَيُّنُ الصَّحِيحُ كَبِلَادِ نَجْدٍ وَأَكْثَرِ بِلَادِ الْيَمَنِ عَلَى قِلَّةِ وَسَائِلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ فِيهِمَا، وَتَكْثُرُ فِي غَيْرِهَا عَلَى كَثْرَةِ تِلْكَ الْوَسَائِلِ.
وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ حُكُومَتِنَا الْمِصْرِيَّةِ أَنَّهَا تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي نِظَامِ التَّعْلِيمِ وَفِي إِطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَتَغْفُلُ عَمَّا يَجِبُ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ. حَتَّى إِنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي مَدَارِسِهَا اخْتِيَارِيٌّ لَا يُطَالَبُ بِهِ التَّلَامِيذُ وَالطُّلَّابُ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ. وَقَدْ فَشَتْ فِي الْبِلَادِ الْجَرَائِمُ مِنْ قَتْلٍ وَسَلْبٍ وَإِفْسَادِ زَرْعٍ وَفِسْقٍ وَفُجُورٍ، وَقَدِ اتُّخِذَتْ عِدَّةُ وَسَائِلَ لِتَقْلِيلِ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ عِدَّةُ لِجَانٍ لِدَرْسِهَا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَأْتِ أَدْنَى عَمَلٍ لِمُقَاوَمَتِهَا بِالتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ لِلنَّابِتَةِ، وَبَثِّ الْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ فِي الْعَامَّةِ. وَهُوَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ أَقْوَى وَأَعَمُّ مِنَ الْوَازِعِ الْخَارِجِيِّ. وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:
(وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا) قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَدَأَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ رُكْنُ الدِّينِ الْأَعْظَمُ الَّذِي هَدَمَتْهُ الْوَثَنِيَّةُ، وَثَنَّى بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَالِهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا هَذَا النَّهْيُ عَنْ قَطْعِهِمُ الطُّرُقَ عَلَى مَنْ يَغْشَى مَجْلِسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَسْمَعُ دَعْوَتَهُ وَيُؤْمِنُ بِهِ فَلَمْ يُؤَخِّرْهُ لِأَنَّ اقْتِرَافَهُ دُونَ اقْتِرَافِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَبَخْسِ الْحُقُوقِ؛ بَلْ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا فِي الزَّمَنِ، فَالدَّعْوَةُ قَدْ وُجِّهَتْ أَوَّلًا إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ثُمَّ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ يَزُورُ أَرْضَهُمْ، وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَبُونَ دَارًا هُمُ الْأَبْعَدِينَ اسْتِجَابَةً لَهُ فِي الْأَكْثَرِ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي الْخَلْقِ. فَلَمَّا رَأَوْا غَيْرَهُمْ يَقْبَلُ دَعْوَتَهُ وَيَعْقِلُهَا وَيَهْتَدِي بِهَا شَرَعُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ، فَلَا يَدَعُونَ طَرِيقًا تُوَصِّلُ إِلَيْهِ إِلَّا قَعَدَ بِهَا مَنْ يَتَوَعَّدُ سَالِكِيهَا إِلَيْهِ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، يَطْلُبُونَ بِالتَّمْوِيهِ وَالتَّضْلِيلِ أَنْ يَجْعَلُوا اسْتِقَامَتَهَا عِوَجًا وَهُدَاهَا ضَلَالًا، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ (فِي الْآيَةِ) ٤٥ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ص ٤٢٧ فَلْيُرَاجَعْ).
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ) قَالَ: كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الطَّرِيقِ فَيَقُولُونَ لِمَنْ أَتَى عَلَيْهِمْ: إِنَّ شُعَيْبًا كَذَّابٌ فَلَا يَفْتِنَنَّكُمْ عَنْ دِينِكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، بِكُلِّ صِرَاطٍ: طَرِيقٍ - تُوعِدُونَ، قَالَ: تُخَوِّفُونَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا شُعَيْبًا.
وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلصِّرَاطِ بِالطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُهُ بِالسَّبِيلِ الْمَجَازِيِّ
474
قَالَ: (بِكُلِّ صِرَاطٍ) بِكُلِّ سَبِيلِ حَقٍّ إِلَخْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِذَا آمَنُوا بِهِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ نَهَاهُمْ هُنَا عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: (أَوَّلُهَا) قُعُودُهُمْ عَلَى الطُّرُقَاتِ الَّتِي تُوصِّلُ إِلَيْهِ يُخَوِّفُونَ مَنْ يَجِيئُهُ لِيَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَيَسْمَعَ دَعْوَتَهُ. (ثَانِيهَا) صَدُّهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَآمَنَ بِهِ بِصَرْفِهِ عَنِ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. (ثَالِثُهَا) ابْتِغَاؤُهُمْ جَعْلَ سَبِيلِ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةِ ذَاتَ عِوَجٍ بِالطَّعْنِ وَإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ الْمُشَكِّكَةِ فِيهَا أَوِ الْمُشَوِّهَةِ لَهَا، كَقَوْلِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصْلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) (١١: ٨٧).
فَهَاهُنَا ضَلَالَتَانِ - ضَلَالَةُ التَّقْلِيدِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَلَا تَزَالُ
تَكْأَةَ أَكْثَرِ الضَّالِّينَ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَفِي فَهْمِهِ وَفِي الِاهْتِدَاءِ بِهِ - وَضَلَالَةُ الْغُلُوِّ فِي الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهَا فِي زَمَنٍ مَا أَشَدَّ وَأَعَمَّ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ بِمَا بَثَّ الْإِفْرِنْجُ الْفَاتِنُونَ الْمُفْتِونُونَ لِدَعْوَتِهَا فِي كُلِّ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ حُكُومَةً كَالْحُكُومَةِ الْمِصْرِيَّةِ تُبِيحُ الزِّنَا لِشَعْبٍ يَدِينُ أَكْثَرُ أَهْلِهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَقَلُّهُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَكُلُّهُمْ يُحَرِّمُونَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَتْهُ بِإِغْوَاءِ أَسَاتِذَتِهَا وَسَادَتِهَا مِنَ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ خَنَعَ الشَّعْبُ الْمُسْتَذَلُّ الْمُسْتَضْعَفُ لَهَا، وَسَكَتَ عُلَمَاؤُهُ وَمُرْشِدُوهُ الدِّينِيُّونَ فَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهَا أَفْرَادًا وَلَا جَمَاعَاتٍ، وَلَا يَتَظَاهَرُونَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى عَمَلِهَا بِالْخُطَبِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَا بِالنَّشْرِ فِي الصُّحُفِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ أَدَّى السُّكُوتُ عَنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ إِلَى أَنْ صَارَ الْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا يَكْثُرُ أَنْصَارُهُ وَالْمُسْتَحْسِنُونَ لَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اسْتِحْلَالَ الزِّنَا وَإِبَاحَتَهُ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ. وَعُلَمَاءُ الدِّينِ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكُفْرِ وَاضِعِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْقَوَانِينِ وَالْمُسْتَبِيحِينَ لَهَا مِنْ سِوَاهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَلَّمَا يَتَجَاوَزُونَ التَّنَاجِي فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، إِمَّا لِضَعْفِهِمْ أَوْ لِأَنَّ أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَمَنْصِبَ الْقَضَاءِ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْحُكَّامِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَمِنْ مَفَاسِدِ هَذَا السُّكُوتِ عَنْ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى شَرْعِيَّةِ كُلِّ مَا يَسْكُتُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الدِّينِ.
475
(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أَيْ وَتَذَكَّرُوا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ قَلِيلِي الْعَدَدِ فَكَثَّرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِمَا بَارَكَ فِي نَسْلِكُمْ فَاشْكُرُوا لَهُ ذَلِكَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّبَاعِ وَصَايَاهُ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَتَرْكِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
(وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) مِنَ الشُّعُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لَكُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِفَسَادِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عِبْرَةٌ فِي ذَلِكَ.
(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ إِنْ كَانَ بَعْضُكُمْ قَدْ آمَنَ بِمَا أَرْسَلَنِي
اللهُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ لِلْإِصْلَاحِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِفْسَادِ، وَبَعْضُكُمْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ بَلْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَسَتَكُونُ عَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ كُفَّارُكُمْ بِعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَسَيَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ، فَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
حُكْمُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ نَوْعَانِ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُوحِيهِ إِلَى رُسُلِهِ، وَحُكْمٌ فِعْلِيٌّ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِمُقْتَضَى عَدْلِهِ وَسُنَنِهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (٥: ١) فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَإِحْلَالِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ. وَمِنَ الثَّانِي مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا عَنْ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ يُونُسَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (١٠: ١٠٩) وَفِي مَعْنَاهُ مَا خُتِمَتْ بِهِ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ فِي مَوْضُوعِ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (٢١: ١٠٨ - ١١٢) وَإِنَّمَا حُكْمُهُ تَعَالَى بَيْنَ الْأُمَمِ بِنَصْرِ أَقْرَبِهَا إِلَى الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْحَقُّ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ، وَلْيَعْرِضُوا حَالَهُمْ وَحَالَ دُوَلِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ
476
وَعَلَى أَحْكَامِ اللهِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَثُوبُونَ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَيَتُوبُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، فَيُعِيدَ إِلَيْهِمْ مَا سُلِبَ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ مَقْتَهُ وَغَضَبَهُ عَنْهُمْ. اللهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا، وَعَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا، وَاحْكُمْ لَنَا لَا عَلَيْنَا.
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
477
الْجُزْءُ التَّاسِعُ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا تَتِمَّةُ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَبْدُوءَةٌ بِجَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْبِرِّ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْآثَامِ، وَأَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَرَدَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَأَمْثِلَةٍ مِنْ مُرَاجَعَةِ الْكَلَامِ، وَتَوَلَّاهُ الْمَلَأُ مِنْهُمْ؛ أَيْ: كُبَرَاءُ رِجَالِهِمْ كَدَأْبِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، وَهُوَ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا أَيْ: قَالَ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَأَكَابِرُهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَعَتَوْا عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَقَدِ اسْتَضْعَفُوهُ: نُقْسِمُ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ أَنْتَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا الْجَامِعَةِ أَوْ مِنْ بِلَادِنَا كُلِّهَا، فَلَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْبَلَدِ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى الْقُطْرِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ، أَوْ لَتَعُودُنَّ وَتَرْجِعُنَّ إِلَى مِلَّتِنَا، وَمَا نَدِينُ بِهِ مِنْ تَقَالِيدِنَا الْمَوْرُوثَةِ
عَنْ آبَائِنَا فَتَكُونَ مِلَّةً لَكُمْ، وَمُحِيطَةً بِكُمْ مَعَنَا. ضُمِّنَ الْعَوْدُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى
3
بِـ " اللَّامِ " وَ " إِلَى " وَ " فِي "، وَمِنْهُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى (١٧: ٦٩) يَعْنِي الْبَحْرَ، إِذِ الْخِطَابُ قَبْلَهُ لِمَنْ مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ (٢٠: ٥٥) يَعْنِي الْأَرْضَ، وَالْمَعْنَى: نُقْسِمُ لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إِخْرَاجِكُمْ أَوْ عَوْدَتِكُمْ فِي الْمِلَّةِ، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، قِيلَ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعَوْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْمَجْمُوعِ، فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكُفْرِ حَتَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ، عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عَلَى مِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ مِلَّةِ قَوْمِهِ فَيَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي شَأْنِهِ بِالْعَوْدَةِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَلَا فِي بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ أَمْرٌ سِلْبِيٌّ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ، وَلَا يَعُدُّونَهُ بِهِ خَارِجًا عَنْهُمْ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إِمَّا انْصِرَافًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَوْلِ وَالْعَزِيمَةِ اهـ، وَمِنْهُ ذَمُّهُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى سَبْقَ الْكَوْنِ فِيهِ وَلَا عَدَمَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِذَنْ إِلَى تَصْحِيحِ التَّعْبِيرِ بِمَا قِيلَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعَوْدِ بِالْمَصِيرِ، وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِالتَّغْلِيبِ، وَلَا سِيَّمَا فِي جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ؟ يَعْنِي: أَنَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ حَتَّى حَالِ الْكَرَاهَةِ لَهَا النَّاشِئَةِ عَنِ اعْتِقَادِ بُطْلَانِهَا وَقُبْحِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَ (لَوْ) لِلْغَايَةِ، أَوْ: أَتَأْمُرُونَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا، وَتُهَدِّدُونَنَا بِالنَّفْيِ مِنْ وَطَنِنَا، وَالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِنَا إِنْ لَمْ نَفْعَلْ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ؟ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا يُحْذَفُ مُتَعَلِّقُهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَاسْتِنْكَارِ طَلَبِهِمْ، وَرَفْضِهِ بِدُونِ مُبَالَاةٍ، وَوَجْهُ كُلٍّ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ جَهْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَأِ بِكُنْهِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَكَوْنِهِ عَقِيدَةً يُدَانُ اللهُ بِهَا، وَأَعْمَالًا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِأَدَائِهَا، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهَا، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا لِتَكْمُلَ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ بِالْتِزَامِهَا، وَجَهْلُهُمْ بِكَوْنِ حُبِّ الْوَطَنِ وَإِلْفِ السَّكَنِ لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَلِجَهْلِهِمْ هَذَا ظَنُّوا أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ يُؤْثِرُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ التَّمَتُّعَ بِالْإِقَامَةِ فِي وَطَنِهِ، وَمُجَارَاةِ أَهْلِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَرَذَائِلِهِمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ الْمُطَهِّرُ لِلنَّفْسِ مِنْ أَدْرَانِ الْخُرَافَاتِ، وَبِالْفَضَائِلِ الْمُرَقِّيَةِ لِلنَّفْسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمِلَّةَ عِنْدَ أُولَئِكَ الْخَاسِرِينَ رَابِطَةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ وَعَصَبِيَّةٌ قَوْمِيَّةٌ، يَجْرِي أَصْحَابُهَا فِيهَا عَلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وَمِلَّةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ دِينٌ مَالِكٌ لِلنَّفْسِ، حَاكِمٌ عَلَى الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، يُقْصَدُ بِهِ الْكَمَالُ الْبَشَرِي الْأَعْلَى بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنْ إِقَامَتِهِ فِي وَطَنِهِ، وَإِصْلَاحِ أَهْلِهِ بِهِ
4
فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ بَدْءًا وَدَوَامًا، وَإِنْ مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّتَهُ فَفُتِنَ فِي دِينِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شُعَيْبٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ إِخْرَاجًا وَهُمْ كَارِهُونَ، كَمَا أُخْرِجَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٩: ٢٦) وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الْهِجْرَةَ عَلَى مَنْ يُسْتَضْعَفُ فِي أَرْضِ وَطَنِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِيهَا، وَيُوجِبُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْأَوْطَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْهِجْرَةَ مِنْهَا إِذَا مُنِعُوا حُرِّيَّتَهُمُ الشَّخْصِيَّةَ فِيمَا هُوَ دُونَ الدِّينِ وَالْوِجْدَانِ، بَلْ يَعِزُّ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنْ يُقِيمَ فِي وَطَنِهِ إِذَا مُنِعَ فِيهِ حُرِّيَّةَ الْفِسْقِ وَالْآثَامِ، وَرُبَّ أُنَاسٍ عَزَّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ وَطَنِهِمْ، فَآثَرُوا الْبَقَاءَ فِيهِ مَفْتُونِينَ فِي دِينِهِمْ، فَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ لِيَأْمَنُوا عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَظَلُّوا يُسِرُّونَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَلْقِينِهِ لِأَوْلَادِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَيْهِ فَارْتَدَّتْ ذُرِّيَّتُهُمْ عَنْهُ فِي زَمَنِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْدِهِمْ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ مُسْلِمِي الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ ثَلِّ الْأَسْبَانِيِّينَ لِعِرْضِ دَوْلَتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِكْرَاهِهِمْ عَلَى التَّنَصُّرِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ بَعْضٌ وَبَقِيَ آخَرُونَ تَحْتَ وَعِيدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٤: ٩٧ - ٩٩).
وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَمُتَعَلِّقَ الْكَرَاهَةِ هَكَذَا: قَالَ أَتُخْرِجُونَنَا مِنْ وَطَنِنَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِمُفَارَقَتِهِ حَرِيصِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ؟ وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَاللَّفْظُ يَقْتَضِي تَقْدِيرَ كَرَاهَةِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لِحَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْكَرَاهَةِ، وَالْمَقَامُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُنَاسِبُ لِبَقِيَّةِ جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا
هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ الْأَمْرَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا بِالرَّفْضِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ إِنْشَاءٌ فِي لَفْظِ الْخَيْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا قَسَمِيًّا لِرَفْضِ دَعْوَةِ الْمَلَأِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بَرِئْتُ مِنَ الذِّمَّةِ، أَوْ مِنْ دِينِي، أَوْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَيَكُونُ مُقَابَلَةً لِقَسَمِهِمْ بِقَسَمٍ أَعْرَقَ مِنْهُ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعَجُّبًا خَرَجَ لَا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَأَكَّدَ بِقَدْ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى: مَا أَعْظَمَ افْتِرَاءَنَا عَلَى اللهِ تَعَالَى إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا، وَهَدَانَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَّبِعُ مِلَّتَكُمْ يُعَدُّ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، لَا بِهِدَايَةٍ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا بُرْهَانٍ مِنَ الْعَقْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ
5
افْتَرَى عَلَيْهِ وَضَلَّ عَنْ صِرَاطِهِ عَلَى عِلْمٍ؟ وَإِنَّ كُفْرَ الْجُحُودِ ـ وَهُوَ إِنْكَارُ الْحَقِّ وَغَمْطُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ـ هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيهِ أَفْظَعُ ضُرُوبِ الِافْتِرَاءِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَدْنَى عُذْرٍ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ النَّتِيجَةَ أَدَلُّ مِنَ الْعَوْدِ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ حَقِيقَةً، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُونَهُ تَغْلِيبًا لِاسْتِثْنَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَقُولُ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ عَدَّهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُونَ، وَيَفْعَلُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْمَلَهُ إِنْجَاءُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْهَا، بِمَعْنَى إِنْجَائِهِ مِنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى مِلَّةٍ مَا كَانَ يُؤْمِنُ بِعَقِيدَتِهَا، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِهَا، وَلَا كَانَ يَهْتَدِي بِعَقْلِهِ وَرَأْيِهِ إِلَى مِلَّةٍ خَيْرٍ مِنْهَا، فَكَانَ مَوْقِفُهُ مَوْقِفَ الْحَيْرَةِ فِي شَأْنِهَا، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٩٣: ٧) وَتَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (٤٢: ٥٢) الْآيَةَ.
وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا هَذَا رَفْضٌ آخَرُ لِلْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُؤَكَّدٌ أَبْلَغَ التَّأْكِيدِ مَعْطُوفٌ عَلَى مُنَاسِبِهِ، وَالتَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا جَارٍ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ اللهِ رَبِّنَا الْمُتَصَرِّفِ فِي جَمِيعِ شُئُونِنَا، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا أَنْتُمْ وَلَا نَحْنُ أَيْضًا؛ لِأَنَّنَا مُوقِنُونَ بِأَنَّ مِلَّتَكُمْ
بَاطِلَةٌ ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ، وَمِلَّتَنَا هِيَ الْحَقُّ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ وَعُمْرَانُ الْأَرْضِ، وَالْمُوقِنُ لَا يَسْتَطِيعُ إِزَالَةَ يَقِينِهِ وَلَا تَغْيِيرَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِيَدِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ سُبْحَانَهُ، وَرَهْنِ مَشِيئَتِهِ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا فَعِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَمَشِيئَتُهُ تَجْرِي بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ يُقِيمُ حُجَّتَهُ بِأَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا دَامُوا نَاصِرِينَ لَهُ، وَقَائِمِينَ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَطْمَعُوا إِذًا أَنْ يَشَاءَ رَبُّنَا الْحَفِيُّ بِنَا عَوْدَتَنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا بِفَضْلِهِ مِنْهَا، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ بِنَا، وَمَا كَانَ تَعَالَى لِيُدْحِضَ حُجَّتَهُ وَيُبْطِلَ سُنَّتَهُ.
فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُوئِسٌ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ عَوْدَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى وُقُوعَ الْعَوْدِ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ
6
وَلَا مِمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِهِمْ فِي حَالٍ مَا مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِمْ كَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالرَّجَاءِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمَضَارِّ، وَمِنْهَا الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَاسْتَثْنَى حَالًا وَاحِدَةً وَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِتَوْكِيدِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِمُتَعَلِّقِ الْمَشِيئَةِ هَلْ هُوَ مُمْكِنٌ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَمْ لَا؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (٨٧: ٦، ٧) أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى النَّفْيِ بِكَرَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ لَا بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْلَى، وَلَا يَخِلُّ بِتَوْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ جَوَازُ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالنَّفْيِ فِي كَلَامِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ عَوْدَتَهُ مَعَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي مِلَّةِ قَوْمِهِمْ، فَهُوَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَطَلَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ عَبَثٌ، يُؤَكِّدُهُ ذِكْرُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ، فَأَفَادَ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَوِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ لَهُمْ إِلَّا مَا عَوَّدَهُمْ بِحُسْنِ تَرْبِيَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ؛ إِذْ أَنْجَاهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمِلَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ عِصْمَةِ رَسُولِهِمْ وَحِفْظِ جَمَاعَتِهِمْ مِنَ الْعَوْدِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا بِمَعْنَى قَوْلِ عَبْدٍ أَمِينٍ أَرَادَ أَنْ يُغْوِيَهُ بَعْضُ الْمُغْوِينَ، وَيُغْرِيَهُ بِخِيَانَةِ سَيِّدِهِ الْحَفِيِّ بِهِ، وَصَرَفَ بَعْضَ مَالِهِ فِيمَا يَضُرُّهُ هُوَ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِي، وَلَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي تَصَرُّفِي إِلَّا أَنْ يَشَاءَ سَيِّدِي الصَّالِحُ الْمُصْلِحُ الْمُعْتَنِي بِشَأْنِي، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي بِأَمْرِي. فَالتَّعْبِيرُ لَيْسَ مَسُوقًا
لِتَقْرِيرِ حُجَّةِ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى جَوَازِ مَشِيئَةِ اللهِ لِكُفْرِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَلَا حُجَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لَهُمْ، وَلِغَيْرِهِمْ بِالْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِنَايَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَمُضِيِّ سُنَّتِهِ وَوَعْدِهِ بِتَأْيِيدِهِمُ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٤٠: ٥١) وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (٣٧: ١٧١ - ١٧٣) فَهُوَ لَنْ يَشَاءَ كُفْرَهُمْ بِالْفِعْلِ، بَلْ يَخْتَارُ لَهُمُ الْأَصْلَحَ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ لَا بِإِيجَابِ الْعَقْلِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ: السُّدِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي شِرْكِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا، وَاللهُ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا فَإِنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا اهـ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ وَفَضْلِهِ الْعَظِيمِ عَلَى رُسُلِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَسُنَنُهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٦: ٨٠)
7
وَقَدِ اخْتَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ، وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: لَكِنْ إِنْ شَاءَ رَبِّي أَنْ يُصِيبَنِي فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ مِنْ قِبَلِ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ كَوُقُوعِ صَنَمٍ عَلَيَّ يَشُجُّنِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِقُدْرَتِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ، لَا بِقُدْرَةِ شُرَكَائِكُمْ وَلَا بِمَشِيئَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا مَشِيئَةَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَلَّلَهُ بِهِ بَعْدَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ فَقَالَ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَيْ: وَمَعْبُودَاتُكُمْ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا إِلَخْ، وَاخْتَرْنَا هُنَا جَعْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ لَا الْأَوْقَاتِ، وَإِنْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا شَأْنَ لَهُ هُنَا، عَلَى أَنَّ عُمُومَ الْأَحْوَالِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَوْقَاتِ.
ثُمَّ أَكَّدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَكَّلْنَا أَمَرْنَا مَعَ قِيَامِنَا بِكُلِّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَنَا، فَهُوَ يَكْفِينَا أَمْرَ تَهْدِيدِكُمْ، وَكُلَّ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي اسْتِطَاعَتِنَا مِنْ جِهَادِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي يَعْرِفُهَا جَمِيعُ رُسُلِهِ أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ (٦٥: ٣) وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْكِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْأَمْرِ الْقِيَامَ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمُرَاعَاةَ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَمَنْ يَتْرُكِ الْعَمَلَ بِالْأَسْبَابِ فَهُوَ جَاهِلٌ مَغْرُورٌ، لَا مُتَوَكِّلٌ مَنْصُورٌ وَلَا مَأْجُورٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَنْ سَأَلَهُ أَيَتْرُكُ نَاقَتَهُ سَائِبَةً، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟ : اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (٣: ١٥٩) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَزْمُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَمِنْهَا مُظَاهَرَتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَئِذٍ بِلِبْسِ دِرْعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَدَأَ جَوَابَهُ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٌ عَلَى إِجْبَارِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُرِيدُهُ، وَثَنَى بِبَيَانِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ مَا أَهَمَّهُ، وَهُوَ فَوْقَ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَتَجْتَمِعُ لَهُ الْعِنَايَةُ الْكَسْبِيَّةُ وَالْوَهْبِيَّةُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالدُّعَاءِ الَّذِي لَا يَكُونُ شَرْعِيًّا مَرْجُوَّ الْإِجَابَةِ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِمَا فِي الطَّاقَةِ مِنَ الْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَالتَّوَكُّلِ الْقَلْبِيِّ، فَقَالَ:
8
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ الْمَعْنَى لِمَادَّةِ (الْفَتْحِ) كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ: إِزَالَةُ الْإِغْلَاقِ وَالْإِشْكَالِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ كَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقُفْلِ وَالْغَلْقِ وَالْمَتَاعِ مِنْ صُنْدُوقٍ وَغِرَارَةٍ وَخُرْجٍ وَعُلْبَةٍ، وَالثَّانِي: هُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ كَفَتْحِ أَبْوَابِ الرِّزْقِ، وَالْمُغْلَقِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَالْمُبْهَمِ مِنْ قَضَايَا الْحُكْمِ، وَالنَّصْرِ فِي وَقَائِعِ الْحَرْبِ، وَفِي آيَاتِ الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالَاتٌ مِنَ الضَّرْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَلَكَ أَنْ تُقَسِّمَهُ إِلَى حِسِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: الْفَتْحُ الَّذِي يَكُونُ بِالْكَلَامِ كَحُكْمِ الْقَاضِي، وَفَتْحِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَةَ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا أَوْ وَقَفَ عَنِ الْقِرَاءَةِ نَاسِيًا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا، وَإِلَى حَقِيقِيٍّ وَمَجَازِيٍّ، وَمِنْ مَجَازِ الْأَسَاسِ: فَتْحٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا جَدَّ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ: نَصَرَهُ، وَفَتَحَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ فُتَاحَتَهُ؛ أَيْ: حُكْمَهُ، قَالَ:
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي وَهْبٍ رَسُولَا بِأَنِّي عَنْ فُتُحَاتِهِمْ غَنِيُّ
وَبَيْنَهُمْ فُتَاحَاتٌ؛ أَيْ: خُصُومَاتٌ، وَفُلَانٌ وَلِيَ الْفِتَاحَةَ - بِالْكَسْرِ - وَهِيَ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَفَاتَحَهُ: حَاكَمَهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنٍ، تَقُولُ لِزَوْجِهَا: تَعَالَى أُفَاتِحُكَ، وَقَالَتْ أَعْرَابِيَّةٌ لِزَوْجِهَا: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْفَتَّاحُ اهـ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ قُدَمَاءُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَفَسَّرَ الْمُفَاتَحَةَ فِيهِ بِالْمُقَاضَاةِ، وَهُوَ يَدُلُّ لُغَةً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرَشِيَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ أَنَّهَا يَمَانِيَّةٌ، وَخَصَّهَا بَعْضُهُمْ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، وَذُو يَزَنٍ مِنْ أَسْمَائِهِمْ، وَالْمُنَاسِبُ أَنَّ كُلَّ فَتْحٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَمِنْهُ النَّصْرُ، وَمِنَ الْآيَاتِ فِيهِ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٣٤: ٢٦) وَمِنْهَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٦: ١١٨) وَهَذَا عَيْنُ مُرَادِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ الْمُلَاقِي لِإِنْذَارِهِ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ (٧: ٨٧) إِلَخْ.
وَالْمَعْنَى: رَبَّنَا احْكُمْ وَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّتُكَ فِي التَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمُبْطِلِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِكَ بِمَا يَقَعُ فِي التَّخَاصُمِ، وَتَنَزُّهِكَ عَنِ الظُّلْمِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ.
9
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ لَمَّا يَئِسَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ عَوْدَتِهِ فِي مِلَّتِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مُقَارَعَتِهِمْ، خَافُوا أَنْ يَكْثُرَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَحَذَّرُوهُمْ ذَلِكَ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ. هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَلَيْسَ جَوَابًا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَصَلَ وَلَمْ يَعْطِفْ، بَلْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ لَهُ، وَالْمُنَاسِبُ فِيهِ وَصْفُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ، فَهُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى تَهْدِيدِهِ، وَإِنْذَارِهِ الْإِخْرَاجَ مِنْ قَرْيَتِهِمُ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ فِيهِ، وَهَذَا مَا قَالُوهُ لِقَوْمِهِمْ إِغْوَاءً لَهُمْ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالْمُنَاسِبُ فِيهِ وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ، فَهُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ الِاسْتِكْبَارَ عَنِ اتِّبَاعِهِ أَوْ غَيْرِهِ، بَلْ لَوْ عَلِمَ أُولُو الرَّأْيِ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنَّ سَبَبَ صَدِّهِمْ عَنْهُ هُوَ الِاسْتِكْبَارُ وَالْعُتُوُّ لَمَا أَطَاعُوهُمْ؛ وَلِذَلِكَ عَلَّلُوا لَهُمْ صَدَّهُمْ عَنْهُ بِمَا يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُمْ، إِذْ قَالُوا لَهُمْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَخَاسِرُونَ، وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْخَسَارِ لِيُعَمِّمَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: خَاسِرُونَ لِشَرَفِكُمْ وَمَجْدِكُمْ بِإِيثَارِ مِلَّتِهِ عَلَى مِلَّةِ آبَائِكُمْ وَأَجْدَادِكُمْ، وَمَنَاطِ عِزِّكُمْ وَفَخْرِكُمْ، وَاعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ضَالِّينَ وَأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَخَاسِرُونَ لِثَرْوَتِكُمْ وَرِبْحِكُمْ مِنَ النَّاسِ بِمَا حَذَقْتُمُوهُ مِنْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَبَخْسِ الْغُرَبَاءِ أَشْيَاءَهُمْ لِابْتِزَازِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَيُّ خَسَارَةٍ أَكْبَرُ مِنْ خَسَارَةِ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ؟ فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِمْ: (لَئِنْ) مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ أَقْوَى مُؤَكِّدٌ لِلْكَلَامِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ وَتَصْدِيرُهَا بِـ " إِنَّ " وَقَرْنُ خَبَرِهَا بِـ " اللَّامِ " وَتَوْسِيطُ (إِذًا) الَّتِي هِيَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ لِمَضْمُونِهَا الْخَادِعَةِ لِسَامِعِيهَا، وَإِنَّ مِثْلَهَا مِمَّا يَرُوجُ بَيْنَ أَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَلَا سِيَّمَا زَمَنُ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَقْوَامِ
10
وَالْأَوْطَانِ، فَإِنَّنَا ابْتُلِينَا فِي دَعْوَتِنَا إِلَى الْإِصْلَاحِ بِمَنْ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنَّا، وَعَنْ نَصِيحَتِنَا لِأَهْلِ مِلَّتِنَا بِأَنَّنَا لَمْ نُوَلَدْ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَا نَنْتَمِي إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَجْدَادِهِمْ، عَلَى أَنَّنَا نَنْتَمِي بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى إِلَى آلِ بَيْتِ نَبِيِّهِمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْقِبْطِ وَلَا الْعَرَبِ، وَإِنَّنَا نَرَى أَشَدَّ الشُّعُوبِ عَصَبِيَّةً لِلْوَطَنِ لَا يَجْعَلُونَهَا سَبَبًا لِلصَّدِّ عَنِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَلَا الدِّينِ وَمَذَاهِبِهِ، وَإِنَّمَا التَّنَافُسُ بَيْنَهُمْ فِي جَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَطَنَهُ أَعَزَّ وَأَقْوَى وَأَغْنَى وَأَقْنَى وَلَوْ بِاقْتِبَاسِ الْعِلْمِ مِنَ الْآخَرِ، نَرَى رِجَالَ الدِّينِ الْكَاثُولِيكِيِّ مِنَ الْأَلْمَانِ وَالْفَرَنْسِيسِ أَعْوَانًا عَلَى نَصْرِ الْكَثْلَكَةِ، وَنَشْرِهَا فِي بِلَادِهِمْ وَغَيْرِهَا، كَمَا نَرَى مِثْلَ هَذَا بَيْنَ رِجَالِ الْبُرُوتَسْتَانْتِيَّةِ مِنَ الْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ، كَدَأْبِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَعُلَمَاءُ كُلِّ شَعْبٍ
يَتَسَابَقُونَ إِلَى اقْتِبَاسِ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْآخَرِ مِنَ اخْتِرَاعٍ أَوْ كَشْفٍ عَنْ حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ، أَوِ اهْتِدَاءٍ لِسُنَّةٍ كَوْنِيَّةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ لِلْخَلْقِ، وَيَعْزُونَ كُلَّ أَمْرٍ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا وَطَنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّغَايُرُ وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَ الْبَشَرِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي إِبَّانِ ضَعْفِهِمْ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ، وَفُشُوِّ التَّحَاسُدِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ فِيهِمْ، وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي إِبَّانِ ارْتِقَائِهَا الْعِلْمِيِّ حَتَّى الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَالسَّادِسِ، إِذْ كَانَ مِثْلَ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ يَجِيءُ بَغْدَادَ عَاصِمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ الْكُبْرَى فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ رَئِيسًا لِأَعْظَمِ مَدْرَسَةٍ فِيهَا بَلْ فِي الْعَالَمِ (وَهِيَ النِّظَامِيَّةُ) وَلَا يَحُولُ دُونَ ذَلِكَ كَوْنُهُ مِنْ قَرْيَةِ طُوسَ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ إِذْ تَغَيَّرَتِ الْحَالُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنَّ تِلْكَ النَّزْعَةَ الشَّيْطَانِيَّةَ تَكَادُ تَزُولُ مِنْ مِصْرَ بِارْتِقَاءِ الْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، عَلَى كَوْنِ النَّزْعَةِ الْوَطَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ تَزْدَادُ قُوَّةً وَانْتِشَارًا.
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِنَصِّهَا فِي بَيَانِ عَذَابِ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْآيَةِ: ٧٨) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي مَكَانِهَا مِنَ الْجُزْءِ الثَّامِنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ عَذَابِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ بَدَلَ الرَّجْفَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَالرَّجْفَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الرَّجْفِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَيَصْدُقُ بِرَجَفَانِ الْأَرْضِ وَهُوَ الزَّلْزَلَةُ، وَمِنْهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ (٧٣: ١٤) وَبِرَجَفَانِ الْقُلُوبِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْخَوْفِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ: " فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ " وَالرَّاجِحُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى: فَأَخَذَتْهُمُ الزَّلْزَلَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ بَارِكِينَ عَلَى رُكْبِهِمْ أَوْ مُنْكَبِّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَيِّتِينَ، فَهَذَا عَذَابُ أَهْلِ مَدَيْنَ عَبَّرَ عَنْهُ هُنَا بِالرَّجْفَةِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ، كَعَذَابِ ثَمُودَ فِي السُّورَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ شُعَيْبًا إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَهُمْ غَيْرُ مَدْيَنَ، فَإِنَّهُ وَصَفَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُ أَخُو مَدْيَنَ أَيْ فِي النَّسَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَصِفْهُ فِي سُورَةِ
11
الشُّعَرَاءِ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَهُ: نُوحًا، وَهُودًا، وَصَالِحًا، وَلُوطًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (٢٦: ١٧٦) قَالُوا: كَانُوا أَصْحَابَ غَيْضَةٍ بَيْنَ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى مَدْيَنَ إِلَخْ، فَأَفَادَ هَذَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلَ مَدْيَنَ، وَإِلَى مَنِ
اتَّصَلَ بِهِمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَأَنَّ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَانَتْ وَاحِدَةً، وَكَانَ يُنْذِرُهُمْ مُتَنَقِّلًا بَيْنَهُمْ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَبْعُدُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ قَدْ أَخَذَ الْفَرِيقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَكَانَ عَذَابُ مَدْيَنَ بِالرَّجْفَةِ وَالصَّيْحَةِ الْمُصَاحِبَةِ لَهَا، وَعَذَابُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِالسَّمُومِ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ الَّذِي انْتَهَى بِظُلَّةٍ مِنَ السَّحَابِ، فَزِعُوا إِلَيْهَا يَبْتَرِدُونَ بِظِلِّهَا، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا بِهَا أَجْمَعُونَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ عِقَابَ الْفَرِيقَيْنِ وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ يُقَالُ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ يَغْنَى بِوَزْنِ " رَضِيَ يَرْضَى " إِذَا نَزَلَ بِهِ وَأَقَامَ فِيهِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِقَيْدٍ أَوْ قَيْدَيْنِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَغَنِيَ فِي مَكَانِ كَذَا إِذَا طَالَ مُقَامُهُ فِيهِ مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِقَيْدِ طُولِ الْإِقَامَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي رَغَدِ عَيْشٍ.
وَالْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاقِضٌ لِقَوْلِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِمْ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ وَقَوْلِهِمْ قَبْلَهُ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا كَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ: كَيْفَ انْتَهَى الْأَمْرُ فِيهَا؟ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أَهْلِهَا؟ فَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا وَهَدَّدُوهُ وَأَنْذَرُوهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ قَرْيَتِهِمْ قَدْ هَلَكُوا، وَهَلَكَتْ قَرْيَتُهُمْ فَحُرِمُوهَا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا، وَلَمْ يَعِيشُوا فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ فِي ذَلِكَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ، وَالْأَمَدِ الْمَدِيدِ فَمَتَى انْقَضَى الشَّيْءُ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ يَتْبَعُهُ يَكُونُ خَاسِرًا، وَأَكَّدُوا زَعْمَهُمْ بِأَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ، كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ لِمَا يَعْتَزُّونَ بِهِ مِنْ تَقَالِيدِ مِلَّتِهِمْ، وَمِنْ مَالِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَلِمَا كَانُوا مَوْعُودِينَ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَوْ آمَنُوا، دُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْفَائِزِينَ الْمُفْلِحِينَ، فَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ حَصْرَ الْخَسَارِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لَهُ بِالنَّصِّ، وَتَقْتَضِي نَفْيَهُ عَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِالْأَوْلَى، وَمُنَاسَبَةُ الْجَزَاءِ لِلذَّنْبِ يَجْعَلُ الْحِرْصَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِالْوَطَنِ وَالِاسْتِبْدَادِ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ الْأَبَدِيِّ مِنْهُ، وَجَعَلَ الْحِرْصَ عَلَى الرِّبْحِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ سَبَبًا لِلْخُسْرَانِ بِالْحِرْمَانِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ.
وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ فِي نُكْتَةِ الْفَصْلِ وَالتَّكْرَارِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ
مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْوَعْظِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، نَحْوَ: أَنْتَ
الَّذِي جَنَيْتَ عَلَيْنَا، أَنْتَ الَّذِي سَلَّطْتَ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا، أَنْتَ الَّذِي فَرَّقْتَ كَلِمَتَنَا، أَنْتَ الَّذِي أَوْقَعْتَ الشِّقَاقَ بَيْنَنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ وَتَكْرِيرِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ مُبَالَغَةً فِي رَدِّ مَقَالَةِ الْمَلَأِ لِأَشْيَاعِهِمْ، وَتَسْفِيهًا لِرَأْيِهِمْ، وَاسْتِهْزَاءً بِنُصْحِهِمْ لِقَوْمِهِمْ، وَاسْتِعْظَامًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ اهـ، وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ دَلَالَةُ الْعِبَارَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا لِعَدَمِ تَأَمُّلِهَا، فَأَمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي الرَّدِّ فَظَاهِرَةٌ لِمَا يُدْرِكُهُ كُلٌّ مِنَ الْفَرْقِ فِي نَفْسِهِ بَيْنَ مَا مَثَّلْنَا بِهِ آنِفًا لِأُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ، وَبَيْنَ ذِكْرِ تِلْكَ الْمُسْتَنَدَاتِ بِالْعَطْفِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ تَكْرَارَ ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمُؤْذَنِ بِعِلَّةِ الْجَزَاءِ يُعِيدُ صُورَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الذِّهْنِ، وَيَكُونُ حُكْمًا جَدِيدًا بَعْدَ حُكْمٍ، وَلِلْحُكْمَيْنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ مَا لَيْسَ لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا تَسْفِيهُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِذَلِكَ النُّصْحِ، فَهُوَ تَابِعٌ لِهَذَا التَّأْثِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَا ذُكِرَ مِنَ التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَفِيهِ بَحْثٌ دَقِيقٌ فِي ذِكْرِ التَّوَلِّي عَنِ الْقَوْمِ، وَمُخَاطَبَتِهِمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَقَدِ اتَّحَدَ إِعْذَارُ الرَّسُولَيْنِ لِاتِّحَادِ حَالِ الْقَوْمَيْنِ وَعَذَابِهِمَا، وَلَكِنْ تَتِمَّةُ الْآيَةِ هُنَاكَ: وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ هُنَا: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ؟ وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَا قَدْ قَالَا هَذَا وَذَاكَ، فَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِأُسْلُوبِ الِاحْتِبَاكِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّنِي يَا قَوْمِ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي - أَيْ: مَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ - فَجَمَعَ الرِّسَالَةَ هُنَا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا، وَأَفْرَدَهَا فِي قِصَّةِ صَالِحٍ بِحَسَبِ مَعْنَاهَا الْمَصْدَرِيِّ - وَنَصَحْتُ لَكُمْ بِمَا بَيَّنْتُهُ مِنْ مَعَانِيهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَإِنْذَارِ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ بِهَا فَكَيْفَ آسَى؟ أَيْ: أَحْزَنُ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ أَعْذَرْتُ إِلَيْهِمْ، وَبَذَلْتُ جُهْدِي فِي سَبِيلِ هِدَايَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ، فَاخْتَارُوا مَا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَإِنَّمَا يَأْسَى مَنْ قَصَّرَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النُّصْحِ وَالْإِنْذَارِ.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ
مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
سُنَنُ اللهِ وَحِكَمُهُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ وَأَمْثَالِهَا وَالِاعْتِبَارُ بِهَا "
مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْعَقَائِدَ بِدَلَائِلِهَا، وَالْأَحْكَامُ مُؤَيَّدَةٌ بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا، وَالْقَصَصُ مَقْرُونَةٌ بِوُجُوهِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِهَا وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ التِّسْعَةِ الَّتِي قَفَى بِهَا عَلَى قَصَصِ الْقَوْمِ الْمُهْلِكِينَ.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذَنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ الْوَاوُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السِّيَاقِ الَّذِي وَضَعْنَا لَهُ الْعُنْوَانَ عَلَى مَجْمُوعِ مَا قَبَلَهُنَّ مِنَ الْقَصَصِ، لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي كَوْنِهِ حِكَمًا لَهُ وَعِبَرًا مُسْتَفَادَةً مِنْهُ، فَعَطْفُ الْجُمَلِ يَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْهَا، كَالسِّيَاقِ بِرُمَّتِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَصْلِ هُنَا، وَالْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ الْجَامِعَةُ لِزُعَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرُؤَسَائِهَا الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْعَاصِمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُبْعَثُونَ فِي الْقُرَى الْجَامِعَةِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْبِلَادِ تَتْبَعُ أَهْلَهَا إِذَا آمَنُوا، وَالْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ كَالْحَرْبِ وَالْجَدْبِ وَشِدَّةِ الْفَقْرِ، وَالضَّرَّاءُ: مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ مَعِيشَتِهِ وَالْأَخْذِ بِهَا: جَعَلَهَا عِقَابًا، وَقَدْ تَكُونُ تَجْرِبَةً وَتَرْبِيَةً نَافِعَةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٦: ٤٢) فَيُرَاجَعُ (فِي ص ٣٤٥ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مَا هُنَا، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ مُخْتَلِفٌ، فَلَمَّا كَانَ مَا هُنَا قَدْ وَرَدَ عَقِبَ قَصَصِ طَائِفَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، جُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى قَاعِدَةً كُلِّيَّةً وَسُنَّةً مُطَّرِدَةً فِي الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِيَعْتَبِرَ بِهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ قَرَأَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَا هُنَالِكَ قَدْ وَرَدَ فِي سِيَاقِ تَبْلِيغِ خَاتَمِ الرُّسُلِ لِلدَّعْوَةِ وَمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، جَعَلَ خِطَابًا خَبَرِيًّا لَهُ، لِتَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ قَلْبِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِتَخْوِيفِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَإِنْذَارِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مُلَاحَظٌ هُنَا أَيْضًا، وَلَكِنْ بِالتَّبَعِ لِلِاعْتِبَارِ بِالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ.
وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ شَأْنُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْهَالِكِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا فِي
قَوْمِهِ إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَنَا بِهِمُ الشَّدَائِدَ وَالْمَصَائِبَ بَعْدَ إِرْسَالِهِ أَوْ قُبَيْلَهُ، لِنَعُدَّهُمْ وَنُؤَهِّلَهُمْ بِهَا لِلتَّضَرُّعِ، وَهُوَ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ؛ أَيِ الضَّعْفِ وَالْخُضُوعِ لَنَا وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِنَا بِكَشْفِهَا، فَـ " لَعَلَّ " تُفِيدُ الْإِعْدَادَ لِلشَّيْءِ، وَجَعْلَهُ مَرْجُوًّا، وَمِمَّا ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ وَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ أَنَّ الشَّدَائِدَ وَمَلَاحِجَ الْأُمُورِ مِمَّا يُرَبِّي النَّاسَ، وَيُصْلِحُ مِنْ فَسَادِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ قَدْ يَشْغَلُهُ
14
الرَّخَاءُ وَهَنَاءُ الْعَيْشِ فَيُنْسِيهِ ضَعْفَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَالشَّدَائِدُ تُذَكِّرُهُ بِهِ، وَالْكَافِرُ بِالنِّعَمِ قَدْ يَعْرِفُ قِيمَتَهَا بِفَقْدِهَا، فَيَنْقَلِبُ شَاكِرًا بَعْدَ عَوْدِهَا، بَلِ الْكَافِرُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَنَبَّهَ الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ مَرْكَزَ الشُّعُورِ بِوُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِ الْخَلْقِ فِي دِمَاغِهِ، وَتَذَكُّرِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنْ وُجُودِ مَصْدَرٍ لِنِظَامِ الْكَوْنِ وَأَقْدَارِهِ، كَمَا وَقَعَ كَثِيرًا، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَقَدْ رُوِيَ لَنَا أَنَّ الْحَرْبَ الْعُظْمَى قَدْ كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ حَتَّى فِي أَقَلِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَهُمْ أَهْلُ مَدِينَةِ بَارِيسَ، فَكَانَتِ الْمَعَابِدُ تُرَى مُكْتَظَّةً بِالْمُصَلِّينَ فِي أَثْنَاءِ شَدَائِدِ الْحَرْبِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ نُكْتَةَ خُلُوِّ جُمْلَةِ أَخَذْنَا أَهْلَهَا الْحَالِيَّةِ مِنَ الْوَاوِ، " وَقَدْ " هِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُقْتَرِنَةِ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا كَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا فَعَلَ زَيْدٌ كَذَا إِلَّا، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، كَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَعَدَّهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي فِعْلِهِ لِأَجْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٢٨: ٥٩) أَيْ: مُتَلَبِّسُونَ بِالظُّلْمِ مِنْ قَبْلُ لَا حَالَ الْإِهْلَاكِ فَقَطْ، وَإِذَا قِيلَ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ شَمِلَ إِعْدَادَهَا قَبْلَهُ لِأَجْلِهِ وَهِيَ الْحَالُ السَّابِقَةُ، وَإِعْدَادَهَا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَهِيَ الْحَالُ الْمُقَارَنَةُ، بَلْ هَذِهِ الْمُتَبَادَرَةُ إِلَى الذِّهْنِ هُنَا، كَقَوْلِكَ: مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا أَجَابَنِي؛ أَيْ: عِنْدَ السُّؤَالِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: إِلَّا وَقَدْ أَجَابَنِي، وَيَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا وَقَدْ أَذِنَ لِي؛ أَيْ: قَبْلَ السُّؤَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ مُقَارَنَةً فِي الْآيَةِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَفَادَتْهُ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالسَّيِّئَةِ ثُمَّ بِالْحَسَنَةِ ثُمَّ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَاقِعًا كُلَّهُ بَعْدَ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي عَهْدِهِمْ، وَهُوَ قَدْ يَصْدُقُ فِي قَوْمِ نُوحٍ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهَا تَشْمَلُ الْحَالُ السَّابِقَةُ وَالْمُقَارَنَةُ، فَلْيَتَأَمَّلْ فَإِنَّنَا لَمْ نَرَ لِأَحَدٍ بَحْثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ حَقَّقَ أَنَّ الْحَالَ الْمُفْرَدَةَ تُفِيدُ الْمُقَارَنَةَ، وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ
تُفِيدُ سَبْقَ مَضْمُونِهَا، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قَوْلِكَ: عَلَى أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا، وَقَوْلِكَ: عَلَى أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّفْسِيرِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا (٤: ٤٣) الْآيَةَ: (فَرَاجِعْهُ فِي ص ٩٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٥ ط الْهَيْئَةِ).
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أَيْ: ثُمَّ بَلَوْنَاهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَجَعَلْنَا الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ فِي مَكَانِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ كَالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ، وَالْغِنَى فِي مَكَانِ الْفَقْرِ، وَالنَّصْرِ عَقِبَ الْكَسْرِ، حَتَّى عَفَوْا أَيْ: كَثَرُوا وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ: وَهُوَ مِنْ: عَفَا النَّبَاتُ وَالشَّحْمُ وَالشَّعْرُ وَنَحْوُهُ إِذْ كَثُرَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ عَنِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيُسْرَ وَالرَّخَاءَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ النَّسْلِ وَبِهِ تَتِمُّ نِعَمُ الدُّنْيَا عَلَى الْمُوسِرِينَ،
15
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا الِابْتِلَاءِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَفَى عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْعِبَرِ قَوْلُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَقَوْلُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعَثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
وَقَوْلُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَلَكِنْ لَمْ تَزِدِ الْآلَاءُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ إِلَّا بُغْيًا وَبَطَرًا وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ: وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أَيْ: وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ فِطْرَتِهِمْ، وَانْطِمَاسِ بَصِيرَتِهِمْ وَفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ بِأَحْدَاثِ الزَّمَانِ، وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَتَقَلُّبِ شُئُونِ الْعُمْرَانِ، قَالُوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا مَا يَسُوءُ وَمَا يَسُرُّ وَتَنَاوَبَهُمْ مَا يَنْفَعُ وَمَا يَضُرُّ، وَنَحْنُ مِثْلُهُمْ يُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ فَتِلْكَ عَادَةُ الزَّمَانِ فِي أَبْنَائِهِ، فَلَا الضَّرَّاءُ عِقَابٌ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ عَلَى مَعَاصٍ تُقْتَرَفُ وَرَذَائِلَ تُرْتَكَبُ، وَلَا السَّرَّاءُ جَزَاءٌ مِنْهُ عَلَى صَالِحَاتٍ تُعْمَلُ وَفَضَائِلَ تُلْتَزَمُ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ جَهِلُوا سُنَنَهُ تَعَالَى فِي أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِي الْبَشَرِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ، الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (١٣: ١١) فَلَمَّا ذَكَّرَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِهَا لَمْ يَتَذَكَّرُوا وَلَمْ يَعْتَبِرُوا، بَلْ نَسُوا وَأَعْرَضُوا وَأَنْكَرُوا.
فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ: فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ أَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ فَجْأَةً، وَهُمْ فَاقِدُونَ لِلشُّعُورِ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فَلَا عَرَفُوهَا بِعُقُولِهِمْ، وَلَا هُمْ صَدَّقُوا الرُّسُلَ فِي نَذْرِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٦: ٤٤) وَذَلِكَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ وَالْجَاهِلِينَ، إِذَا مَسَّهُمُ الشَّرُّ يَئِسُوا وَابْتَأَسُوا، وَإِذَا مَسَّهُمُ الْخَيْرُ أَشَرُّوا وَبَطَرُوا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْخَيْرُ قُوَّةً وَسُلْطَةً بَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.
أَصَابَ أَهْلَ بَيْتٍ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ السُّورِيَّةِ نَفْحَةٌ مِنْ جَاهِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ أَبِي الْهُدَى الصَّيَّادِيِّ أَحَدِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي عَصْرِهِ، فَنَهَبُوا بِجَاهِهِ الْأَمْوَالَ، وَانْتَهَكُوا الْأَعْرَاضَ، وَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ مَرَّةً فِي أَمْرِهِمْ فَقُلْنَا: أَلَمْ يَكُنْ خَيْرًا لِهَؤُلَاءِ لَوِ اغْتَنَمُوا هَذِهِ الْفُرْصَةَ بِاصْطِنَاعِ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ وَعَمَلِ الْبِرِّ النَّافِعِ لِلْوَطَنِ، فَإِنَّ جَاهَ أَبِي الْهُدَى لَيْسَ لَهُ دَوَامٌ، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ السَّيِّدُ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ لَا يَفْهَمُونَ هَذِهِ الْحِكَمَ وَلَا يَعْقِلُونَهَا، وَلَقَدْ أَصَابَ وَالِدُهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ رِيَاسَةً
16
إِدَارِيَّةً صَغِيرَةً كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَبَغَى وَبَطِرَ وَتَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَآذَى النَّاسَ، فَنَصَحْتُ لَهُ إِذْ كَانَ يُوادُّنِي وَيَحْتَرِمُنِي وَذَكَّرَتْهُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، فَقَالَ لِي: يَا سَيِّدُ، إِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ يَوْمًا يَرْقُصُ لَهُ فِيهِ الزَّمَانُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ فِيهِ، وَلَا يُضَيِّعَ الْفُرْصَةَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (١٧: ٨٣، ٨٤) وَقَالَ: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٢: ٤٨) الْمُرَادُ بِالْفَرَحِ مَا كَانَ عَنْ بَطَرٍ وَغُرُورٍ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (١٠: ٢٢، ٢٣) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ حَقًّا فَهُمُ الَّذِينَ تَكُونُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ
تَرْبِيَةً لَهُمْ وَتَمْحِيصًا، كَمَا تَكُونُ لِلْكَافِرِينَ عِقَابًا وَإِبْلَاسًا، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، أَظْهَرَهَا بَيَانُهُ إِيَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِذْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ يُقَصِّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ فَيَظْهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ، فَيُنْزِلُ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةَ الْمُبَيِّنَةَ لِلْحَقَائِقِ، وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْحُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ الَّتِي أَوَّلُهَا: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (٣: ١٣٧ - ١٤١) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (٣: ١٤٠) وَلَكِنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الْمُدَاوَلَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَحِكَمِهَا، وَيَتَحَرَّى الِاتِّعَاظَ، وَتَرْبِيَةَ نَفْسِهِ بِهَا، لَا كَمَا يَرَاهَا الْكَافِرُونَ وَالْجَاهِلُونَ بِظَوَاهِرِهَا وَصُوَرِهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْهَا تَتِمَّةٌ وَإِيضَاحٌ لَهَا، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَفِي مَعْنَاهَا أَحَادِيثُ كَقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّنَا نَرَى غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا لَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا عِبَرًا وَتَقْوًى لِلْمُضَارِّ، يَظْهَرُ أَثَرُهَا بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْمَصَائِبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، حَتَّى لَا تَأْخُذَهُمْ بَغْتَةً، وَحَتَّى يَتَلَافَوْا شُرُورَهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَنَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ وَغَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ فُتِنَ بَعْضُهُمْ بِهَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي اسْتِمْتَاعِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِدَفْعِ الشَّدَائِدِ،
17
وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ، إِلَّا إِذَا تَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَنَبَذُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ! ! كَمَا فُتِنُوا هُمْ بِالْمُسْلِمِينَ بِاحْتِقَارِهِمْ لِدِينِهِمْ تَبَعًا لِاحْتِقَارِهِمْ لَهُمْ، وَطَعْنًا فِيهِ بِمَا يَظُنُّونَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي إِذْلَالِهِمْ وَإِضْعَافِهِمْ، فَمَا قَوْلُكَ فِي ظُلْمِ الْفَرِيقَيْنِ لَهُ، وَفِي انْتِهَاءِ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ الْأَخِيرَةِ بِاسْتِيلَاءِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَقْطَارٍ عَظِيمَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَكَوْنِ أَشَدِّ أَهْلِ هَذِهِ الْأَقْطَارِ اسْتِسْلَامًا لِلذُّلِّ وَخُضُوعًا لِلْقَهْرِ، هُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصَحُّ إِيمَانًا، وَأَحْسَنُ إِسْلَامًا؟ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِبَعْضِ زُعَمَاءِ شَعْبٍ سَلِمَ مِنَ الْهَلَاكِ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُحَاطُ بِهِ، فَظَنُّوا أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالْإِسْلَامِ سَبَبُ الْهَلَكَةِ وَالْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّ فِي الِانْسِلَالِ مِنْهُ الْمَنْجَاةَ وَارْتِقَاءَ الْمَمْلَكَةِ؟ !
قُلْنَا: إِنَّنَا كَشَفْنَا أَمْثَالَ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ فِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ مِنَ الْمَنَارِ، وَبَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَرَكُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ فِي حُكُومَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ، وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمُ الَّذِينَ يَنْدُرُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِتَفْسِيرِهِ أَوْ عِلْمِ السُّنَّةِ، حَتَّى مَنْ سَلَّمُوا لَهُمْ بِمَنْصِبِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ، كَمَا تَرَكُوا هِدَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ، فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُ مِنْ دِينِهِ إِلَّا مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالسُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ، وَأَقَلُّهُمْ يَتَلَقَّى عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ بَعْضَ كُتُبِ الْكَلَامِ الْجَدَلِيَّةِ الَّتِي أَلِفَتِ الرَّدَّ عَلَى فَلْسَفَةٍ نُسِخَتْ وَبِدَعٍ بَادَ أَهْلُهَا، وَكُتُبِ الْفِقْهِ التَّقْلِيدِيَّةِ الْخَالِيَةِ مِنْ جُلِّ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي مِثْلِ مَوْضُوعِ الْآيَاتِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ آيَاتِ الشَّوَاهِدِ، حَتَّى بَلَغَ الْجَهْلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمِّ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ بِحَيَاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ دَوْلَتِهِمْ، وَبَقَاءُ مُلْكِهِمْ أَوْ زَوَالُهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، أَنْ يَكْتُبَ الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ فِيهَا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَئِمَّتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِهِمْ عَلَى تَهَافُتٍ ظَاهِرٍ، وَاخْتِلَافٍ فَاضِحٍ، عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ قَصَّرُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ الْعِلْمُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمْ، وَمَلِكَةً مِنْ مَلَكَاتِهِمْ لَا وَرَقَةَ شَهَادَةٍ يَحْمِلُونَهَا مِمَّنْ سَبَقَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا يُعَدُّ عَالِمًا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، حَتَّى يُعْتَدَّ بِشَهَادَتِهِ لِغَيْرِهِ، بَلْهَ مَا عُرِفَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَقَوْلِ الْكَذِبِ وَأَكْلِ السُّحْتِ، وَقَدِ اسْتَسْفَرَ بَعْضُ مُجَاوِرِي الْأَزْهَرِ الْمُقَدَّمِينَ لِامْتِحَانِ شَهَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِعَرْضِ الرِّشْوَةِ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ لِيُسَاعِدَهُمْ فِي الِامْتِحَانِ فَضَرَبَهُ الْأُسْتَاذُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بِيَدَيْهِ، وَرَفَسَهُ بِرِجْلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَدُوَّ اللهِ أَتُرِيدُ أَنْ أَغُشَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ وَبِأَمْثَالِكَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بَعْدَ هَذِهِ الشَّيْبَةِ وَانْتِظَارِ لِقَاءِ اللهِ؛ فَأَكُونَ مِمَّنْ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ وَلَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يُطَيِّبُهُمُ الْمَالُ وَيَحْفَلُونَ بِجَمْعِهِ وَلَوْ مِنَ الْحَلَالِ، لَكُنْتُ مِنْ أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ؟
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي هَدَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، وَأَعْطَاهُمُ الْحِكْمَةَ وَالْحُكْمَ
18
كَانَ تَرْكُهُمْ لِهِدَايَتِهِ هُوَ الَّذِي سَلَبَهُ ذَلِكَ حَتَّى انْقَلَبَ الْأَمْرُ، وَانْعَكَسَ الْوَضْعُ، وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ، فَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْجَاهِلُ اتَّبَعَ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي طَوْرِ جَهْلِهِمْ مِنَ الْخُرَافَاتِ، وَابْتِدَاعِ الِاحْتِفَالَاتِ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ وَالْأَنْدَادِ، كَإِعْطَاءِ
حَقِّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، وَطَلَبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ دَجَّالِي الْأَحْيَاءِ، وَقُبُورِ الْأَمْوَاتِ، فَغَشِيَهُمْ مَا غَشِيَ أُولَئِكَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَجَعَلَ الدِّينَ عَدُوًّا لِلْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّابِتَةُ الْعَصْرِيَّةُ الْمُتَفَرْنِجَةُ اتَّبَعَتْ سُنَنَ الْمُرْتَدِّينَ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ فِي شَرِّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ طَوْرِ فَسَادِ حَضَارَتِهِمْ، وَقَلَّدُوهُمْ حَتَّى فِيمَا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، كَذَلِكَ ضَلَّ الْفَرِيقَانِ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَرَكَا فِي إِضَاعَةِ مَا بَقِيَ مِنْ مُلْكِ الْإِسْلَامِ.
لَا عَالِمَ الشَّرْقِ بِدِينِهِ وَلَا مُقْتَبِسَ الْعِلْمِ مِنَ الْغَرْبِ هُدَى
وَأَمَّا الْإِفْرِنْجُ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ وَاسِعٍ بِسُنَنِ اللهِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ وَسَائِرِ أُمُورِ الْكَوْنِ، قَدْ نَالُوا بِهِ مُلْكًا عَظِيمًا فِي الْأَرْضِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَجْهَلُ مَصْدَرَ هَذِهِ السُّنَنِ وَحِكَمَ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ حَقَّ الِاعْتِبَارِ بِمَا تَعَقَبَّ الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَهُمْ كَأَقْوَامِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ الَّذِينَ لَمْ تُفِدْهُمُ النِّعِمُ شُكْرَ الرَّبِّ الْمُنْعِمِ، وَلَمْ تُفِدْهُمُ النِّقَمُ تَقْوَى الرَّبِّ الْمُنْتَقِمِ، فَقَدِ اسْتَعْمَلُوا نِعَمَهُ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَتَسْخِيِرِ قُوَى الْعَالَمِ لِاسْتِعْبَادِ الضُّعَفَاءِ، وَالسَّرَفِ فِي فُجُورِ الْأَغْنِيَاءِ، وَالتَّقَاتُلِ عَلَى السُّلْطَانِ وَالثَّرَاءِ؛ وَلِذَلِكَ سَلَّطَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦: ٦٥) كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا (ص ٤٠٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ).
فَعُلِمَ بِمَا ذُكِرَ وَبِغَيْرِهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَا يُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ الَّتِي تُوقِفُ أَهْوَاءَ الْبَشَرِ وَمَطَامِعَهُمْ أَنْ تَجْمَحَ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ أُمَمِ أُورُبَّةَ بَقِيَّةً قَلِيلَةً مِنْهَا تَتَفَاوَتُ فِي أَفْرَادِهِمْ قُوَّةً وَضَعْفًا لَحَشَرَتْهُمُ الْمَطَامِعُ وَالْأَحْقَادُ صَفًّا صَفًّا، فَدَكُّوا مَعَالِمَ أَرْضِهِمُ الَّتِي بَلَغَتْ مُنْتَهَى الْعُمْرَانِ دَكًّا دَكًّا، فَجَعَلُوهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، بَلْ لَجَعَلُوهَا بَعْدَ دَكِّ صُرُوحِهَا وِهَادًا عَمِيقَةً، وَمَهَاوِيَ سَحِيقَةً، بِقَذَائِفِ الْمَدَافِعِ الضَّخْمَةِ الَّتِي تَشُقُّ الْأَرْضَ شَقًّا، وَتَسْحَقُ مَا فِيهَا سَحْقًا، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ شَرَعُوا، فَإِمَّا أَنْ يُجَهِّزُوا وَإِمَّا أَنْ يَنْزَعُوا.
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١: ١١٦، ١١٧)
19
الْقُرُونُ: هِيَ الْأَجْيَالُ وَالشُّعُوبُ، وَأُولُو بَقِيَّةٍ: أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ دِينٍ وَتَقْوًى وَعَقْلٍ وَحِكْمَةٍ، رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ - وَأَحْلَامٍ - يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ " وَالْأَحْلَامُ: الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحْضِيضِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى النَّفْيُ؛ أَيْ: أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرُونِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِالْإِصْلَاحِ الْعَامِّ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ دِينِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ حُكَمَاءِ الْعُقَلَاءِ، الَّذِينَ فَسَّرَ بِهِمُ الْآمِرُونَ بِالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ (٣: ٢١) وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ، وَاتَّبَعَ الْأَكْثَرُونَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَكَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ؛ أَيْ: أَزَالَ اللهُ مُلْكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَبَطَرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لِلْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَتْبَاعِ هَذَا الْإِتْرَافِ فِي مُلْكِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْمُصْلِحُ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْعَوَاصِمَ وَالْمَدَائِنَ بِظُلْمٍ مِنْهُ أَوْ بِشِرْكٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ فَقَالَ: " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ جَرِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَوْقُوفًا أَيْضًا.
وَهَؤُلَاءِ الْبَقِيَّةُ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ أُمَّةٌ فَهُمْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَمَتَى قَلُّوا فِي أُمَّةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ، وَقَرُبَ انْتِقَامُ اللهِ مِنْهَا، وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِوُجُودِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ كَانُوا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ يَقِلُّونَ فِي أُورُبَّةَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْلَامِ مِنْهُمُ الْفَيْلَسُوفُ هِرْبِرْت سِبِنْسَر الْإِنْجِلِيزِيُّ الَّذِي نَهَى الْيَابَانِيِّينَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِقَوْمِهِ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى إِصْلَاحِ بِلَادِهِمْ فِيهَا، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوهَا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حِينَ تَلَاقَيَا بِمَدِينَةِ بِرِيتِنْ (فِي صَيْفِ سَنَةِ ١٣٢١ - ١٠ أُغُسْطُسَ سَنَةَ ١٩٠٣) مَا تَرْجَمَتُهُ: مُحِيَ الْحَقُّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِ أُورُبَّةَ، وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهَا الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ
فَذَهَبَتِ الْفَضِيلَةُ، وَهَذِهِ الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ ظَهَرَتْ فِي اللَّاتِينَ أَوَّلًا فَأَفْسَدَتِ الْأَخْلَاقَ، وَأَضْعَفَتِ الْفَضِيلَةَ، ثُمَّ سَرَتْ عَدْوَاهَا مِنْهُمْ إِلَى الْإِنْكِلِيزِ، فَهُمُ الْآنَ يَرْجِعُونَ الْقَهْقَرِيَّ بِذَلِكَ، وَسَتَرَى هَذِهِ الْأُمَمَ يَخْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَنْتَهِي إِلَى حَرْبٍ طَامَّةٍ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهَا الْأَقْوَى، فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ.
20
قَالَ لَهُ الْإِمَامُ: إِنِّي آمِلٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ ذَلِكَ هِمَمُ الْحُكَمَاءِ (مِثْلِكُمْ) وَاجْتِهَادِهِمْ فِي تَقْرِيرِ مَبَادِئِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَنَصْرِ الْفَضِيلَةِ.
قَالَ الْفَيْلَسُوفُ: وَأَمَّا أَنَا فَلَيْسَ عِنْدِي مِثْلُ هَذَا الْأَمَلِ، فَإِنَّ هَذَا التَّيَّارَ الْمَادِّيَّ لَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَ مَدُّهُ غَايَةَ حَدِّهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّنِي ذَاكَرْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى سِيَاسِيًّا أُورُبِيًّا فِي جِنِيفَ مِنْ بِلَادِ سُوِيسْرَةَ، فَرَأَيْتُهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَ سِبِنْسَرَ، بَلْ أَخْبَرَنِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ عُقَلَاءِ أُورُبَّةَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ بِالتَّرَفِ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ الْكُبْرَى كَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى أُورُبَّةَ، وَسَتَهْلَكُ بِالْحَرْبِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْحَرْبَ الْأَخِيرَةَ، وَمَا هِيَ بِبَعِيدَةٍ، وَنَصَحَ لَنَا بِأَلَّا نُقَلِّدَ أُورُبَّةَ فِي مَدَنِيَّتِهَا الْمَادِّيَّةِ، وَأَنْ نُحَافِظَ عَلَى آدَابِ دِينِنَا وَفَضَائِلِهِ، وَأَنْ نَجْمَعَ كَلِمَتَنَا، وَنَجْعَلَ الزَّعَامَةَ فِينَا لِأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفَضِيلَةِ مِنَّا، وَنَتَرَبَّصُ الدَّوَائِرَ بِالْأُورُبِّيِّينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْنَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوَانٌ إِنْسِيٌّ وَحْشِيٌّ بِجَسَدِهِ، وَمَلِكٌ رُوحَانِيٌّ بِعَقْلِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ، وَيَعْتَدِلُ بِالتَّوَازُنِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا نَصَحْنَا لِزُعَمَاءِ التُّرْكِ الْمَفْتُونِينَ بِمَدِينَةِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيَّةِ لِجَهْلِهِمْ بِمَا يَفْتِكُ بِهَا مِنْ دُودِ الْفَسَادِ بِأَنْ يُقِيمُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ وَإِصْلَاحَهُ الَّذِي يَكْفُلُ لَهُمُ الْقُوَّةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْعُمْرَانَ، وَيَقِيهِمْ غَوَائِلَ هَذَا الْفَسَادِ كَالْبَلْشَفِيَّةِ الَّتِي ثَلَّتْ عَرْشَ قَيْصَرِيَّةِ الرُّوسِيَّةِ، فَقُلْنَا فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّذِي صَنَّفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ - أَوِ - الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى مَا نَصُّهُ: " أَيُّهَا الشَّعْبُ التُّرْكِيُّ الْحَيُّ! إِنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ قُوَّةً مَعْنَوِيَّةً فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُحْيِيَ مَدِينَةَ الشَّرْقِ، وَيُنِقُذَ مَدِينَةَ الْغَرْبِ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَا
تَبْقَى إِلَّا بِالْفَضِيلَةِ، وَالْفَضِيلَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالدِّينِ، وَلَا يُوجَدُ دِينٌ يَتَّفِقُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَإِنَّمَا عَاشَتِ الْمَدَنِيَّةُ الْغَرْبِيَّةُ هَذِهِ الْقُرُونَ بِمَا كَانَ فِيهَا مِنَ التَّوَازُنِ بَيْنَ بَقَايَا الْفَضَائِلِ الْمَسِيحِيَّةِ مَعَ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ وَالتَّعَالِيمِ الْكَنَسِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُمُمَ لَا تَنْسَلُّ مِنْ فَضَائِلِ دِينِهَا، بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الشَّكِّ فِي عَقَائِدِهِ عَلَى أَذْهَانِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ فِي عِدَّةِ أَجْيَالٍ، وَقَدِ انْتَهَى التَّنَازُعُ، بِفَقْدِ ذَلِكَ التَّوَازُنِ، وَأَصْبَحَ الدِّينُ وَالْحَضَارَةُ عَلَى خَطَرِ الزَّوَالِ، وَاشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ إِلَى إِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ مَدَنِيٍّ ثَابِتِ الْأَرْكَانِ، يَزُولُ بِهِ اسْتِعْبَادُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ، وَاسْتِذْلَالُ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفَقْرِ، وَخَطَرُ الْبَلْشَفِيَّةِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَيُبْطِلُ بِهِ امْتِيَازَ الْأَجْنَاسِ،
21
لِتَحَقُّقِ الْأُخُوَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِحُكُومَةِ الْإِسْلَامِ، الَّتِي بَيَّنَّاهَا بِالْإِجْمَالِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَنَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ لِلْمُسَاعَدَةِ عَلَى تَفْصِيلِهَا، إِذَا وَفَّقَ اللهُ لِلْعَمَلِ بِهَا ".
" أَيُّهَا الشَّعْبُ التُّرْكِيُّ الْبَاسِلُ، إِنَّكَ الْيَوْمَ أَقْدَرُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَنْ تُحَقِّقَ لِلْبَشَرِ هَذِهِ الْأُمْنِيَةَ، فَاغْتَنِمْ هَذِهِ الْفُرْصَةَ؛ لِتَأْسِيسِ مَجْدٍ إِنْسَانِيٍّ خَالِدٍ، لَا يُذْكَرُ مَعَهُ مَجْدُكَ الْحَرْبِيُّ التَّالِدُ، وَلَا يَجْرِّمَنَّكَ الْمُتَفَرْنِجُونَ عَلَى تَقْلِيدِ الْإِفْرِنْجِ فِي سِيرَتِهِمْ، وَأَنْتَ أَهْلٌ لِأَنْ تَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ بِمَدَنِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ مَدَنِيَّتِهِمْ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا الْمَدَنِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الثَّابِتَةُ قَوَاعِدُهَا الْمَعْقُولَةُ عَلَى أَسَاسِ الْعَقِيدَةِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا تُزَلْزِلُهَا النَّظَرِيَّاتُ الَّتِي تَعْبَثُ بِالْعُمْرَانِ، وَتُفْسِدُ نُظُمَ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى النَّاسِ ".
نَصَحْنَا لِلشَّعْبِ التُّرْكِيِّ بِهَذَا، وَلَكِنَّ زُعَمَاءَهُ الْكَمَالِيِّينَ الْيَوْمَ كَزُعَمَائِهِ الِاتِّحَادِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَدْ فُتِنُوا بِهَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَجَهِلُوا كُنْهَ الْإِسْلَامِ وَالْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ بَيَانَهَا، وَأَنْذَرْنَاهُمْ عَذَابَ اللهِ بِإِهْمَالِهَا، فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَطَفِقُوا يَطْمِسُونَ مَا بَقِيَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي حُكُومَتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَسَنَرَى مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَقَدْ ظَهَرَ مَا كَانَ مَسْتُورًا مِنْ فَسَادِ سَرِيرَتِهِمْ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى لَنَا وَلَهُمْ صَلَاحَ الْحَالِ، وَحُسْنَ الْمَآلِ.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَخْذَهُ لِأَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ
وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ؛ بَيَّنَ لِأَهْلِ أُمِّ الْقُرَى - مَكَّةَ - وَلِسَائِرِ النَّاسِ مَا كَانَ يَكُونُ مِنْ إِغْدَاقِ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ، وَاعْتَبَرُوا بِالسُّنَنِ، فَقَالَ:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا أَيْ: آمَنُوا بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُهُمْ مِنْ عِبَادَةٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاتَّقَوْا مَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي كَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَحْنَا بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْفَتْحِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّفْتِيحِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَالْمَعْنَى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَعْهَدُوهَا مُجْتَمِعَةً وَلَا مُتَفَرِّقَةً، فَإِذَا أُرِيدَ بِبَرَكَاتِ السَّمَاءِ مَعَارِفُ الْوَحْيِ الْعَقْلِيَّةُ، وَأَنْوَارُ الْإِيمَانِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَنَفَحَاتُ الْإِلْهَامَاتِ الرَّبَّانِيَّةُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ فَائِدَةَ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَكُونُ تَكْمِيلَ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ رُوحًا وَجَسَدًا، وَغَايَتُهُ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ -
22
وَإِذَا أُرِيدَ بِبَرَكَاتِ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَبِبَرَكَاتِ الْأَرْضِ النَّبَاتُ، كَمَا قِيلَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَبْوَابُ نِعَمٍ لَا تَكُونُ بَرَكَاتٍ لَهُمْ غَيْرَ الَّتِي عَهِدُوهَا فِي صِفَاتِهَا وَنَمَائِهَا وَثَبَاتِهَا وَحَالَتِهِمْ فِيهَا وَأَثَرِهَا فِيهِمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ بَرَكَاتٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْبَرَكَةِ تَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ وَالزَّكَاءِ مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ، وَعَلَى الثَّابِتِ وَالِاسْتِقْرَارِ مِنْ بَرَكَ الْبَعِيرُ، أَلَمْ تَقْرَأْ أَوْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ هُودٍ: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١: ٨٤) فَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَرَكَاتِ، وَجَعَلَ نِعْمَةَ الدُّنْيَا مَتَاعًا مُؤَقَّتًا لِلْكَافِرِينَ يَتْلُوهُ الْعَذَابُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْهُمْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ فِي تِلْكَ الْبَرَكَاتِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَفِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يُولَدْ، أَوْجَبَ لَهُمُ الْبَرَكَاتِ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يَعْنِي مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ.
فَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ وَدِينَ الْحَقِّ سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَنِعْمَتِهَا بِالْحَقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمَادِّيِّ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ (٦: ٤٤) فَذَلِكَ الْفَتْحُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ لِحَالِهِمْ، كَانَ أَثَرُهُ فِيهِمْ فَرَحَ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ بَدَلًا مِنَ الشُّكْرِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ فَكَانَ نِقْمَةً لَا نِعْمَةً، وَفِتْنَةً لَا بَرَكَةً.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ: فَإِنَّ مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ يَكُونُ بَرَكَةً وَنِعْمَةً، وَيَكُونُ أَثَرُهُ فِيهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَالرِّضَا مِنْهُ، وَالِاغْتِبَاطَ بِفَضْلِهِ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ، وَفِي الْإِصْلَاحِ دُونَ الْإِفْسَادِ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى زِيَادَةَ النِّعَمِ وَنُمُوَّهَا فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنَ الثَّوَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، فَالْفَارِقُ بَيْنَ الْفَتْحَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْ جَعْلِ هَذَا مِنَ الْبَرَكَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَمِنْ تَنْكِيرِهِ الدَّالِّ عَلَى أَنْوَاعٍ لَمْ يَعْهَدْهَا الْكُفَّارُ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ هِدَايَةِ الْإِيمَانِ الْجَمْعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِلْبَشَرِ مُوَجَّهًا لِأَبَوَيْهِمْ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ فِي سُورَةِ طَهَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (٢٠: ١٢٣، ١٢٤) وَقَوْلُهُ فِي خِطَابِ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِخَوَاصِّ هَذَا النَّوْعِ، وَحِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِدِينِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ لِهِدَايَتِهِ: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣١، ٣٢)
23
فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
فَهَذَا بَيَانٌ لَكُوِنِ أَصْلِ الدِّينِ يَقْتَضِي سَعَادَةَ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي عَهْدِ آدَمَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى عَلَى نُوحٍ، وَهُوَ الْأَبُ الثَّانِي لِلْبَشَرِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ فِي سُورَتِهِ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ (١١: ٥٢) وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا حُجَجٌ عَلَى أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، وَمِنْ غَيْرِهِمُ الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ - وَكَذَا كُلُّ دِينٍ إِلَهِيٍّ - سَبَبٌ لِلضَّعْفِ وَالْفَقْرِ!
وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ الْخُرَافِيَّةِ، وَالْمَعَاصِي الْمُفْسِدَةِ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَكَانَ أَخْذُهُمْ بِالْعِقَابِ أَثَرًا لَازِمًا لِكَسْبِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ الْكَوْنِ، وَعِبْرَةً لِأَمْثَالِهِمْ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ إِنْذَارٌ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَرَبِهَا وَعَجَمِهَا مِنْ عَصْرِ النُّورِ الْأَعْظَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِتَعْتَبِرَ بِمَا نَزَلَ بِغَيْرِهَا كَمَا تَرْشُدُ إِلَيْهِ الرَّابِعَةُ مِنْهَا، وَأَهْلُ الْقُرَى فِيهَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ؛ أَيِ: الْأُمَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَضْعَ الْمُظْهَرِ فِيهِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ خَاصًّا بِأَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَذْكُرُ ضَمِيرَهُمْ، بَلْ هُوَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَيُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُظْهَرِ الْعُنْوَانُ الْعَامُّ لَهَا، لَا آحَادَ مَا ذُكِرَ مِنْهَا، وَلَوْ ذَكَرَهَا بِضَمِيرِهَا أَوِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي يُعَيِّنُهَا؛ لَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِقَابَ كَانَ خَاصًّا بِهَا لَا دَاخِلًا فِي أَفْرَادِ سُنَّةٍ عَامَّةٍ، وَهَذَا عَيْنُ مَا كَانَ يَصْرِفُ الْأَقْوَامَ الْجَاهِلَةَ الْكَافِرَةَ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِعِقَابِ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى عَاصِمَةِ قَوْمِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَعَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ، وَسَائِرِ قُرَى الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْثَتَهُ عَامَّةٌ
24
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَاقِلِ، وَالْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَغَرَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا؟ إِلَخْ. وَعَلَى الثَّانِي أَجَهِلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى الَّتِي بَلَغَتْهَا الدَّعْوَةُ - وَمِثْلَهَا مَنْ سَتُبْلُغُهَا - مَا نَزَلْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَغَرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَأَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُنَا وَقْتَ بَيَاتِهِمْ - أَوْ إِتْيَانَ بَيَاتٍ - وَهُوَ الْهُجُومُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَهُوَ بَائِتٌ، فَقَوْلُهُ: وَهُمْ نَائِمُونَ حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لِغَايَةِ الْغَفْلَةِ وَكَوْنِ الْأَخْذِ عَلَى غِرَّةٍ، كَمَا قَالَ فِيمَنْ عُذِّبُوا: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، أَوْ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى بِحَسَبِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَأَمِنُوا ذَلِكَ الْإِتْيَانَ أَوْ هَذَا؟ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْنَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ
الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أُعِيدَ الِاسْتِفْهَامُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِنُكْتَةِ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا، وَالضُّحَى انْبِسَاطُ الشَّمْسِ، وَامْتِدَادُ النَّهَارِ، وَيُسَمَّى بِهِ الْوَقْتُ، أَوْ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِي شَبَابِ النَّهَارِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالْلَّعِبُ - بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ - مَا لَا يَقْصِدُ فَاعِلُهُ بِسَبَبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ بَلْ يَفْعَلُهُ لِأُنْسٍ لَهُ بِهِ أَوْ لَذَّةٍ لَهُ فِيهِ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ، وَمَا يَقْصِدُ بِهِ الْعُقَلَاءُ رِيَاضَةَ الْجِسْمِ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّعِبِ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مَجَازِيًّا بِحَسَبِ صُورَتِهِ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ صُورَتُهُ لَعِبٌ أَوْ هَزْلٌ، وَحَقِيقَتُهُ حِكْمَةٌ وَجَدٌّ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ كَالْعَمَلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَافِعٌ وَهُوَ ضَارٌّ، وَمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَهُوَ عَبَثٌ وَخَرْقٌ، وَقَدْ يَكُونُ إِطْلَاقُ اللَّعِبِ عَلَى أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ أَيْ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُنَا فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَهُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ لَعِبِ الْأَطْفَالِ لِعَدَمِ فَائِدَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ؟ !
فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى مِنَ الْغَابِرِينَ فَالظَّاهِرُ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا آمِنِينَ إِتْيَانَ هَذَا الْعَذَابِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكَانَ إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ فَجْأَةً فِي وَقْتٍ لَا يَتَّسِعُ لِتَلَاقِيهِ وَتَدَارُكِهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ لَا يَظْهَرُ فِي شَأْنِهِمْ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِهِ فِي أَهْلِ الْقُرَى الْحَاضِرِينَ، وَمَنْ سَيَكُونُ فِي حُكْمِهِمْ مِنَ الْآتِينَ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَأْمَنُوا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ وُجُودَ النِّعَمِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى دَوَامِهَا، فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ زَالَتْ بِكُفْرِ أَهْلِهَا، وَهَذَا مَا كَانَ يَجْهَلُهُ الَّذِينَ قَالُوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ، فَرَأَوْا صُورَةَ الْوَاقِعِ وَجَهِلُوا أَسْبَابَهُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَلَا يُعْذَرُونَ بِالْجَهْلِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْقُرْآنُ كُنْهَ الْأَمْرِ، وَسُنَنَ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَلَكِنَّ أَدْعِيَاءَ
الْقُرْآنِ، قَدْ صَارُوا أَجْهَلَ الْبَشَرِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَدَّعِي بَعْضُهُمْ أَنَّ سَبَبَ جَهْلِهِمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ الْقُرْآنِ؟ ! !
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَكْرُ: صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا تَقْصِدُهُ بِحِيلَةٍ، وَقَسَّمَهُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، وَأَصَحُّ مِنْهُ وَأَدَقُّ قَوْلُنَا فِي تَفْسِيرِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣: ٥٤) وَالْمَكْرُ فِي
الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يُحْتَسَبُ، وَقْفَيْنَا عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِبَيَانِ السَّيِّءِ وَالْحَسَنِ مِنَ الْمَكْرِ، وَكَوْنِ الْأَكْثَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا كَالشَّأْنِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَرَّى إِخْفَاؤُهَا، وَفِيهِ أَنَّ مَكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ اهـ، وَالْمُرَادُ بِالْجَهْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ اغْتِرَارًا بِالظَّوَاهِرِ، كَأَنْ يَغْتَرَّ الْقَوِيُّ بِقُوَّتِهِ، وَالْغَنِيُّ بِثَرْوَتِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَالْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، فَيُخْطِئُ تَقْدِيرُهُ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى فَيَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ يَبْقَى، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ فِي ظَنِّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، كَمَا أَخْطَأَ الْأَلْمَانُ فِي تَقْدِيرِ قُوَّتِهِمْ وَقُوَّةِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ الدُّوَلِ، فَلَمْ يَحْسَبُوا أَنْ تَكُونَ دَوْلَةُ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَكَانَ سَبَبَ أَمْنِهِمْ إِتْيَانَ بَأْسِنَا بَيَاتًا أَوْ ضُحًى وَهُمْ غَافِلُونَ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مَكْرَ اللهِ بِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَلَمْ يُقَدِّرُوا؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ؟ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِذَا كَانَ أَمْنُ الْعَالِمِ الْمُدَبِّرِ وَالصَّالِحِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالَى جَهْلًا يُورِثُ الْخُسْرَ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَهُوَ مُسْتَرْسِلٌ فِي مَعَاصِيهِ اتِّكَالًا عَلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ قَالَ تَعَالَى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤١: ٢٣) فَأَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَعْبَدُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ هُمْ أَبْعَدُ خَلْقِهِ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِهِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْمَنَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (٢٠: ١١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الرُّسُلِ الْكِرَامِ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ مَشِيئَتَهُ حَتَّى فِيمَا عَصَمَهُمْ مِنْهُ؟ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ قُبَيْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا وَقَدْ كَانَ أَصْلَحُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَدْعُونَهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
(٣: ٨) وَقَالَ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (٣٥: ٢٨) وَيُقَابِلُ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ضِدَّهُ، وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ تَتْبَعُهَا مَفَاسِدَ كَثِيرَةً.
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يُقَالُ: هَدَاهُ السَّبِيلَ أَوِ الشَّيْءَ، وَهَدَاهُ لَهُ وَهَدَاهُ إِلَيْهِ، إِذَا دَلَّهُ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لَهُ، وَأَهْلُ الْغَوْرِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ: هَدَى لَهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بَيَّنَهُ لَهُ، نَقَلَهُ فِي (لِسَانِ الْعَرَبِ) وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ بِهِ مَا فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَهَذَا التَّعْبِيرُ وَرَدَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طَهَ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٢٠: ١٢٨) وَفِي سُورَةِ (الم - السَّجْدَةِ) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (٣٢: ٢٦) وَالسِّيَاقُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ آيَةُ الْأَعْرَافِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِثْلَ السِّيَاقِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ آيَتَا طَهَ وَالسَّجْدَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ، وَلِلتَّقْدِيرِ وُجُوهٌ كُلُّهَا تُفِيدُ الْعِبْرَةَ، فَهُوَ مِمَّا تَذْهَبُ النَّفْسُ فِيهِ مَذَاهِبَ مِنْ أَقْرَبِهَا أَنْ يُقَالَ: أَكَانَ مَجْهُولًا مَا ذُكِرَ آنِفًا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى وَسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا فِي أَثَرِ جِيلٍ، أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ بِهِ، أَنَّ شَأْنَنَا فِيهِمْ كَشَأْنِنَا فِيمَنْ سَبَقَهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَاضِعُونَ لِمَشِيئَتِنَا فَلَوْ نَشَاءُ أَنْ نُصِيبَهُمْ وَنُعَذِّبَهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ أَصَبْنَاهُمْ كَمَا أَصَبْنَا أَمْثَالَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بِمِثْلِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى (أَصَبْنَاهُمْ) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: نُصِيبُهُمْ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي الَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ فِي الْعَصْرِ الْحَالِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْفِعْلِ، كَمَا ظَنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَنَعُوا هَذَا الْعَطْفَ، وَقَالُوا: الْمَعْنَى، وَنَحْنُ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَسْتَخْلِفُهُمُ اللهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَرِثُونَ مَا كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ، وَلَا يَكُونُوا مِنَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَا مِنَ الْمُتْرَفِينَ الْفَاسِقِينَ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْمُحَتَّمِ عِقَابَ الْأُمَمِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ، فَلَمْ يَكُنْ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُصَادَفَاتِ، بَلْ هُوَ مِنَ السُّنَنِ الْمُطْرَدَةِ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَلَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا ظُلْمَ وَلَا مُحَابَاةَ، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يُصَابُ بِذَنْبِهِ فَيَتَّعِظُ وَيَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ، وَفَرِيقٌ يُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ،
وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَبْعِ السِّكَّةِ وَنَقْشِهَا بِصُورَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا، أَوْ مِنَ الطَّبْعِ الَّذِي بِمَعْنَى الْخَتْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (٢: ٧) وَالطَّابَعُ وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّبَعِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الصَّدَأُ الشَّدِيدُ يَعْرِضُ لِلسَّيْفِ وَنَحْوِهِ فَيُفْسِدُهُ يُقَالُ: طَبَعَ الطَّبَّاعُ السَّيْفَ وَالدِّرْهَمَ؛ أَيْ: ضَرَبَهُ، وَطَبَعَ الْكِتَابَ وَعَلَى الْكِتَابِ وَخَتَمَهُ إِذَا ضَرَبَ عَلَيْهِ الطَّابَعَ وَالْخَاتَمَ بَعْدَ إِتْمَامِهِ وَوَضْعِهِ فِي ظَرْفِهِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَمِنْهُ الطَّبْعُ وَالطَّبِيعَةُ وَهِيَ الصِّفَةُ الثَّابِتَةُ لِلشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ، فَالسَّجِيَّةُ نَقْشُ النَّفْسِ بِصُورَةٍ ثَابِتَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَغَيَّرُ
27
لَا يُسَمَّى طَبِيعَةً، وَمِنْهُ طَبْعُ الْكُتُبِ فِي الْآلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَطْبَعَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالتَّغْيِيرَ كَالْخَطِّ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا أَحْبَارًا لَا تُمْحَى أَيْضًا.
وَلَا يُسْتَعْمَلُ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا وَصَلَتْ مِنَ الْفَسَادِ إِلَى حَالَةٍ لَا تَقْبَلُ مَعَهَا خَيْرًا كَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ فِقْهُ الْأُمُورِ وَلُبَابُهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي اسْتِحْلَالًا وَاسْتِحْسَانًا لَهَا حَتَّى لَا يَعُودَ فِي النَّفْسِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ١٥٥) أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٩: ٨٧) وَمِثْلُهُ فِي سُورَتِهِمْ، وَقَالَ هُنَا: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ: فَهُمْ بِهَذَا الطَّبْعِ لَا يَسْمَعُونَ الْحُكْمَ وَالنَّصَائِحَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ وَاتِّعَاظٍ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠: ١٠١) مَا يُرَادُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ مُلِئَتْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا مِنْ آرَاءٍ وَأَفْكَارٍ وَشَهَوَاتٍ مَلَكَتْ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى صَرَفَتْهُمْ عَنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْهُمْ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٨: ١٠٤).
قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِانْتِقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ وَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ؛ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا تُغْفَرُ كَذُنُوبِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ؛ وَسُنَّتَهُ فِيهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا
أَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، ثُمَّ فِي وَعْظِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَتَرْكِ الِاتِّعَاظِ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَنْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ تَفْسِيرِهَا فَإِنَّمَا يُعْنَى بِإِعْرَابِهَا، وَالْبَحْثِ فِي أَلْفَاظِهَا، أَوْ جَدَلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَعَانِيَهَا خَاصَّةً بِالْكَافِرِينَ، وَيُفَسِّرُونَ الْكَافِرِينَ بِمَنْ لَا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَطَالَمَا أَنْكَرَ عَلَيْنَا بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّنَا جَعَلْنَا الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ شَامِلَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَأْفُوكِينَ عَنْ تَدَبُّرِهَا الْمُرَادِ مِنْهَا جَاهِلِينَ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَظَنُّوا كَمَا ظَنُّوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي الْأَقْوَامَ لِأَجْلِ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِجَاهِهِمْ لَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ تِجَارَةً لِلشُّيُوخِ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ وَالدَّجَّالِينَ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٢: ١٦) بَلْ كَانُوا فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ آنِفًا: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٤٧: ٢٤) ؟
28
أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِقَوْلِ رَسُولِهِمْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا " أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٢٣: ٦٨، ٦٩).
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ وَجَّهَ الْخِطَابَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ تَسْلِيَتِهِ وَتَثْبِيتِ فُؤَادِهِ بِمَا فِي قَصَصِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنَ الْعِبَرِ وَالسُّنَنِ الَّتِي
بَيَّنَ فِقْهَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ فِي الْآيَاتِ السَّبْعِ الَّتِي قَبْلَهُمَا. قَالَ تَعَالَى:
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ قَفَى بِهِ عَلَى جُمْلَةِ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَيَانِ حِكَمِهَا وَفِقْهِهَا فَكَانَتْ كَالْفَذْلَكَةِ لَهَا، فَالْقُرَى هُنَا هِيَ الْمَعْهُودَةُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِمَّا جَاوَرَهَا، وَكَانَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاقَلُونَ بَعْضَ أَخْبَارِهِمْ مُبْهَمَةً مُجْمَلَةً، وَكَانَتْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى غِرَارٍ وَاحِدٍ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَارِي فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ النُّذُرِ، إِلَى أَنْ حَلَّ بِهِمُ النَّكَالُ، وَأُخِذُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا كُلِّهَا وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْمُ مُوسَى فَإِنَّهُمْ آمَنُوا، وَإِنَّمَا كَذَّبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ فَعُذِّبُوا، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ قِصَّتَهُ.
وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي بَعُدَ عَهْدُهَا، وَطَالَ الْأَمَدُ عَلَى تَارِيخِهَا، وَجَهَلَ قَوْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ حَقِيقَةَ حَالِهَا، نَقُصُّ عَلَيْكَ الْآنَ بَعْضَ أَنْبَائِهَا، وَهُوَ مَا فِيهِ الْعِبَرُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: نَقُصُّ لَا قَصَصْنَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَعَ تِلْكَ الْقَصَصِ لَا بَعْدَهَا. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى رُسُلُهُمْ
29
بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَتِهِمْ، وَبِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَيْهِمْ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ، بِأَنْ جَاءَ كُلُّ رَسُولٍ قَوْمَهُ بِمَا أَعْذَرَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ بِمَا كَانُوا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا عِنْدَ بَدْءِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ بَعْثَتِهِ؛ بِسَبَبِ تَعَوُّدِهِمْ تَكْذِيبَ الْحَقِّ قَبْلَهَا، وَهُوَ تَأْوِيلٌ وَاهٍ جِدًّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمَا كَانُوا نَفْيٌ لِلشَّأْنِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى خَطَئِهِ فِيهِ، وَلَكِنْ شَأْنُ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَنْ يُصِرُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ، فَهُمْ إِمَّا جَاحِدٌ مُعَانِدٌ ضَلَّ عَلَى عِلْمٍ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ يَأْبَى النَّظَرَ وَالْعِلْمَ، عَلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ يُخَالِفُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، فَالْعَجَبُ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ وَلَمْ يَفْهَمْ غَيْرَهُ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَ ذِكْرِخُلَاصَةِ قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ (١٠: ٧٤) فَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَ نُوحٍ مَنْ ذُكِرُوا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا وَهُنَالِكَ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: إِنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى فِي جُمْلَتِهِمْ وَمَجْمُوعِهِمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ قَوْمُ هُودٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمِ صَالِحٍ إِلَخْ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ وَيَلِيهِ هَذَا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَلْبَتَّةَ.
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ أَيْ: مِثْلَ هَذَا الَّذِي وُصِفَ مِنْ عِنَادِ هَؤُلَاءِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ فِي عُقُولِهِمْ، يَكُونُ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ صَارَ الْكُفْرُ صِفَةً لَازِمَةً لَهُمْ، بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْنَسُوا بِالْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ؛ حَتَّى تَسْتَحْوِذَ أَوْهَامُهُ عَلَى أَفْكَارِهِمْ، وَيَمْلَأَ حُبُّ شَهَوَاتِهِ جَوَانِبَ قُلُوبِهِمْ، وَيَصِيرَ وِجْدَانًا تَقْلِيدِيًّا لَهُمْ، لَا يَقْبَلُونَ فِيهِ بَحْثًا، وَلَا يَسْمَعُونَ فِيهِ نَقْدًا، فَيَكُونُ كَالسِّكَّةِ الَّتِي طُبِعَتْ فِي أَثْنَاءِ لِينِ مَعْدَنِهَا بِصَهْرِهِ وَإِذَابَتِهِ ثُمَّ جَمَدَتْ فَلَا تَقْبَلُ نَقْشًا وَلَا شَكْلًا آخَرَ.
وَمِنْ وُجُوهِ تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْآيَةِ إِعْلَامُهُ أَنَّ مَنْ وَصَلُوا بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ أَوِ التَّقَالِيدِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَإِهْمَالِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ وَضَحَتْ، وَلَا بِالْآيَاتِ وَإِنِ اقْتَرَحَتْ، فَقَدْ كَانَ كَفَّارُ مَكَّةَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ، وَكَانَ يَتَمَنَّى أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ وَمَا اقْتَرَحُوا مِنْهَا حِرْصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، حَتَّى بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَتَقَدَّمَ هَذَا الْبَيَانُ فِي آيَاتٍ مِنْ أَوَائِلِ سُورَةِ
30
الْأَنْعَامِ وَأَثْنَائِهَا، وَمِمَّا يُنَاسِبُ مَا هُنَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٦: ١٠٩، ١١٠) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ.
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ بِمَعْنَى إِنْشَائِهَا، وَبِمَعْنَى مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الْمُوصِي، وَعَهِدْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَصَّيْتُهُ بِفِعْلِهِ أَوْ حِفْظِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهُوَ الْمُعَاهَدَةُ كَمَا يَكُونُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْكَ
بِشَيْءٍ، وَمَنْ تَلْتَزِمُ لَهُ شَيْئًا، وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْكِيدِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (٢: ٤٠) أَيْ: أَوْفُوا بِمَا عَهَدْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَهْدَ اللهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: عَهْدُ اللهِ تَارَةً يَكُونُ بِمَا رَكَّزَهُ فِي عُقُولِنَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَبِأَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَتَارَةً بِمَا نَلْتَزِمُهُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ كَالنُّذُورِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ الْعَهْدُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَهْدٌ مِنْهُ يُطَالِبُ النَّاسَ بِهِ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْحَنِيفِيَّةُ، وَأَصْلُهَا الْمَيْلُ عَنْ جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَقَدْ فَطَرَ اللهُ أَنْفُسَ الْبَشَرِ عَلَى الشُّعُورِ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ فَوْقَ جَمِيعِ قُوَى الْعَالَمِ، وَعَلَى إِيثَارِ مَا تَرَاهُ حَسَنًا وَاجْتِنَابِ غَيْرِهِ، وَعَلَى حُبِّ الْكَمَالِ وَكَرَاهَةِ النَّقْصِ، وَلَكِنَّهُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَهْدُ اللهِ الْمُفَصَّلُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ لِمُسَاعَدَةِ الْفِطْرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِزَالَةِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ، وَمِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِعَهْدِ اللهِ الْعَامِّ، عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ بَيَانِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ وَالنَّشْأَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ وَالتَّعَادِي، أَعْنِي تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الَّتِي نَادَى بِهَا بَنِي آدَمَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ (٢٦ إِلَى ٣٥) وَمِنْهَا التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (٣٦: ٦٠) وَمِنْهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ الْكُبْرَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ ١٥١ - ١٥٣ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا (٦: ١٥٢).
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ الْعَهْدَ بِالْمِيثَاقِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ الَّذِي يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ
31
هَذِهِ السُّورَةِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى إِلَخْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُمَا وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا ابْتَلَاهُمْ بِالشَّدَّةِ وَالْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ ثُمَّ أَتَاهُمْ بِالرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ ذَمَّ اللهُ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ وَيَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَكَوْنِ هَؤُلَاءِ لَمْ تُؤَدِّبْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَهَذَا فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ اللهَ تَعَالَى عِنْدَ الضِّيقِ بِأَنْ يَشْكُرُوا لَهُ وَيُوَحِّدُوهُ إِذَا أَنْجَاهُمْ كَمَا حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَفْسِيرُ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (١٩: ٨٧) وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ؛ أَيْ: لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ عَهْدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ هُوَ الَّذِي جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْلَابِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ، وَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، وَفِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " يَقُولُ اللهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " الْحَدِيثَ اهـ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْعَهْدَ يَعُمُّ هُنَا كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ عَهْدٍ فِطْرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي تَعَاهُدِهِمْ وَتَعَاقُدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِـ " مِنْ " كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ عَهْدًا مَا يَفُونُ بِهِ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي وَجَدْنَا عَلَيْهِمْ أَكْثَرَهُمْ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفُسُوقِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ كُلِّ عَهْدٍ فِطْرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ بِالنَّكْثِ وَالْغَدْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ آمَنَ وَالْتَزَمَ كُلَّ عَهْدٍ عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، أَوْ عَاهَدَهُ اللهُ عَلَيْهِ، أَوْ تَعَاهَدَ عَلَيْهِ مَعَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَفِي بِبَعْضِ ذَلِكَ حَتَّى فِي حَالِ الْكُفْرِ؛ إِذْ لَا تَتَّفِقُ أَفْرَادُ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ عَلَى الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ شُبَهَاتُ الْمُبَالَغَةِ بِمَا يَسْلُبُ أَحَدًا حَقَّهُ، أَوْ يُعْطِي أَحَدًا غَيْرَ حَقِّهِ، وَقَدْ نَوَّهْنَا
بِهَذِهِ الدِّقَّةِ مِنْ قَبْلُ، وَغَفَلَ عَنْهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَزَعَمُوا هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْكُلُّ فِي الْكُلِّ
وَالْفِسْقُ فِي الْأَصْلِ أَعَمُّ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، وَيَتَسَاوَى مَفْهُومُهُمَا بِمَا فَسَّرْنَا بِهِ عُمُومَ الْعَهْدِ هُنَا، فَفِي التَّعْبِيرِ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، إِذِ الْأَوَّلُ يُقَرِّرُ بِمَنْطُوقِهِ الثَّانِي الَّذِي يُقَرِّرُ بِمَفْهُومِهِ مَنْطُوقَ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ الْجِنَاسُ التَّامُّ بَيْنَ (وَجَدْنَا) الْأُولَى وَهِيَ بِمَعْنَى أَلْفَيْنَا، وَالثَّانِيَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى عَلِمْنَا، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سَلْبِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتِ الثَّانِي.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ.
(قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ)
هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَضْبُطُونَ اسْمَ وَالِدِهِ بِالْمِيمِ فِي آخِرِهِ (عَمْرَامُ) وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَجَمِيعُ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ تَتَصَرَّفُ
فِي نَقْلِ الْأَسْمَاءِ مِنْ لُغَاتِ غَيْرِهَا إِلَى لُغَتِهَا، وَمَعْنَى كَلِمَةِ (مُوسَى) الْمِنْتَاشُ مِنَ الْمَاءِ؛ أَيْ: الَّذِي أُنْقِذَ مِنْهُ، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ " مُوسَى؛ لِأَنَّهُ أُلْقِيَ بَيْنَ مَاءٍ وَشَجَرٍ،
33
فَالْمَاءُ بِالْقِبْطِيَّةِ " مُو " وَالشَّجَرُ " سَى " وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ وَضَعَتْهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فِي تَابُوتٍ (صُنْدُوقٍ) أَقْفَلَتْهُ إِقْفَالًا مُحْكَمًا، وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ (بَحْرِ النِّيلِ) خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَحُكُومَتِهِ أَنْ يَعْلَمُوا بِهِ فَيَقْتُلُوهُ؛ إِذْ كَانُوا يَذْبَحُونَ ذُكُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وِلَادَتِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ إِنَاثَهُمْ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ؛ أَيْ: تَتَبَّعِيهِ؛ لِتَعْلَمَ أَيْنَ يَنْتَهِي؟ وَمَنْ يَلْتَقِطُهُ؟ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهَا أَمْرُهُ، فَمَا زَالَتْ أُخْتُهُ تُرَاقِبُ التَّابُوتَ عَلَى ضِفَافِ الْيَمِّ حَتَّى رَأَتْ آلَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ يَلْتَقِطُونَهُ إِلَى آخِرِ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَبَرِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ قِصَّتُهُ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ بَيْنَ مُطَوَّلَةٍ وَمُخْتَصَرَةٍ أَوَّلُهَا هَذِهِ السُّورَةُ (الْأَعْرَافُ) فَهِيَ أَوَّلُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّتُهُ، وَمِثْلُهَا فِي اسْتِقْصَاءِ قِصَّتِهِ طَهَ وَيَلِيهَا سَائِرُ الطَّوَاسِينِ الثَّلَاثَةِ (الشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ) وَقَدْ ذُكِرَ بَعْضُ الْعِبَرِ مِنْ قِصَّتِهِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى كَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذُكِرَ اسْمُهُ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا بِالِاخْتِصَارِ وَلَا سِيَّمَا الْمَكِّيَّةِ، وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَذُكِرَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الطُّولِ وَالْمِئِينَ وَالْمُفَصَّلِ حَتَّى زَادَ ذِكْرُ اسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ١٣٠ مَرَّةً فَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَا مَلِكٌ كَمَا ذُكِرَ اسْمُهُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قِصَّتَهُ أَشْبَهُ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقِصَّةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أُوتِيَ شَرِيعَةً دِينِيَّةً دُنْيَوِيَّةً، وَكَوَّنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً ذَاتَ مِلْكٍ وَمَدَنِيَّةٍ، وَسَنُبَيِّنُ مَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ حُكْمِ التَّكْرَارِ، وَاخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْقَصَصِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا الْقِصَّةَ، فَهِيَ نَوْعٌ وَهُنَّ نَوْعٌ آخَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ أَنَّ تِلْكَ الْقَصَصَ مُتَشَابِهَةٌ فِي تَكْذِيبِ الْأَقْوَامِ فِيهَا لِرُسُلِهِمْ وَمُعَانَدَتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ، وَفِي عَاقِبَةِ ذَلِكَ بِإِهْلَاكِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى الْأُولَى بِدُونِ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ
لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا وَلُوطًا وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا وَقَدْ أَعَادَ فِي قِصَّةِ مُوسَى ذِكْرَ الْإِرْسَالِ لِلتَّفْرِقَةِ، وَلَكِنْ بِلَفْظِ الْبَعْثِ، وَهُوَ أَخَصُّ وَأَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْإِثَارَةِ وَالْإِزْعَاجِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُهِمِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي بَعْثِ الْمَوْتَى، وَفِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ؛ أَيْ: بَعْثُ عِدَّةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي بَعْثَةِ نَبِيِّنَا وَمُوسَى خَاصَّةً، وَكَذَا فِي بَعْثِ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعْثِ مَنِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ وَعَذَّبَهُمْ وَسَبَاهُمْ حِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْبَعْثِ هُنَا يُؤَكِّدُ مَا أَفَادَتْهُ إِعَادَةُ الْعَامِلِ مِنَ التَّفْرِقَةِ
34
بَيْنَ نَوْعَيِ الْإِرْسَالِ، أَعْنِي أَنَّ لَفْظَهُ الْخَاصَّ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، كَمَا يُؤَكِّدُهَا عَطْفُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أُولَئِكَ بِـ " ثُمَّ " الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ وَالتَّرَاخِي إِمَّا فِي الزَّمَانِ، وَإِمَّا فِي النَّوْعِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَالْأَخِيرُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الْإِرْسَالَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَأَعْقَبَهُ فِي قَوْمِ مُوسَى مُخَالِفٌ لِجُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ مُخَالَفَةَ تَضَادٍّ، فَقَدْ أُنْقِذَتْ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ تَعْبِيدُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لَهَا وَسَوْمُهُمْ إِيَّاهَا أَنْوَاعَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاهْتَدَتْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ، فَأَعْطَاهَا فِي الدُّنْيَا مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَعَدَّ بِذَلِكَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ فَأَيْنَ هَذَا الْإِرْسَالُ مِنْ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ، الَّذِي أَعْقَبَ أَقْوَامَ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ؟ وَقَدْ يَظْهَرُ لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَجْهٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْعَطْفِ عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ؛ فَإِنَّ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَصَصِ مَنْ بَعْدَهُ قَدْ جُعِلَ تَابِعًا وَمُتَمِّمًا لَهَا بِعَدَمِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ " أَرْسَلْنَا " كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِلَّا فَإِنَّ شُعَيْبًا، وَهُوَ آخِرُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَهُوَ حَمُوهُ، وَقَدْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَهُوَ لَدَيْهِ مَعَ زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي سَيْنَاءَ، وَأَرْسَلَهُ مِنْهَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ حُكْمِهِ وَظُلْمِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ إِرْسَالَ نُوحٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَفَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ (١٠: ٧٤) إِلَخْ، وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: ثُمَّ بَعَثْنَا مَنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (١٠: ٧٥) وَمِنَ الْمَعْلُومِ عَقْلًا وَاسْتِنْبَاطًا أَنَّ التَّرَاخِيَ بَيْنَ بَعْثَةِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ زَمَانِيٌّ؛ إِذْ كَانَ بَعْدَ تَنَاسُلِ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَتَكَاثُرِهِمْ وَصَيْرُورَتِهِمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الرُّسُلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا أَوْ هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْأُمَمَ قَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ نُوحٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا (١٦: ٣٦) وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ:
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (٤٠: ٧٨) وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ تَخْصِيصِ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُمْ بِالذِّكْرِ، وَكَذَا مَنْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمَعْنَى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مُوسَى بِآيَاتِنَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنَّا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَمَّا " فِرْعَوْنُ " فَهُوَ لَقَبُ مُلُوكِ مِصْرَ الْقُدَمَاءِ، كَلَقَبِ " قَيْصَرَ " لِمُلُوكِ الرُّومِ، وَ " كِسْرَى " لِمُلُوكِ الْفُرْسِ الْأَوَّلِينَ، وَ " الشَّاهْ " لِمُلُوكِ الْإِيرَانِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ لَقَبَ الْمَلِكِ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِ كَلِمَةِ فِرْعَوْنَ وَمَعْنَاهُ، وَفِي اسْمِ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَزَمَنِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ هَذَا، وَأَمَّا مَلَؤُهُ فَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَرِجَالُ دَوْلَتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ وَرِجَالَ الدَّوْلَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَعْبِدِينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِيَدِهِمْ أَمْرُهُمْ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا
35
مُسْتَعْبَدِينَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الظُّلْمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْغُرَبَاءِ كَانَ أَشَدَّ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى؛ لِإِنْقَاذِ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي بِلَادِ أَجْدَادِهِمْ، وَلَوْ آمَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ لَآمَنَ سَائِرُ قَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ بَلْ كَانَ هَذَا شَأْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ مَعَ مُلُوكِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَائِرِينَ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِمُوسَى، وَأَنَّ قَوْمَهُ تَبَعٌ لَهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ مُقَلِّدُونَ، وَلِذَلِكَ قَتَلَ السَّحَرَةَ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى، وَإِنَّمَا آمَنُوا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ، مُسْتَقِلِّي الْعَقْلِ، أَصْحَابَ فَهْمٍ وَرَأْيٍ، وَكَانَ السِّحْرُ مِنْ عُلُومِهِمْ وَفُنُونِهِمُ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، وَلَيْسَ كَالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى فَإِنَّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
وَقَدْ أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْحُجَّةَ بِآيَاتِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا أَيْ: فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ بِالْكُفْرِ بِهَا كِبْرًا وَجُحُودًا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ إِثْمُ ذَلِكَ، وَإِثْمُ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ حُرِمُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِاتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ، كَمَا كَانَ يَكُونُ لَهُمْ مِثْلُ أُجُورِهِمْ لَوْ آمَنُوا بِالتَّبَعِ لَهُمْ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُرْسَلًا إِلَى قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذَّاتِ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِالتَّبَعِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْإِرْسَالَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَقْصِدٌ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَسِيلَةٌ، وَقَدْ عُدِّيَ الظُّلْمُ فِي الْجُمْلَةِ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْكُفْرِ فَصَارَ جَامِعًا لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِأَحَدِهِمَا إِذْ لَوْ أُرِيدَ أَحَدُهُمَا لَعَبَّرَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّضْمِينِ فَائِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَظَلَمُوا بِهَا لِلسَّبَبِيَّةِ؛ أَيْ: فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ؛ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآيَاتِ ظُلْمًا جَدِيدًا،
وَهُوَ مَا تَرَتَّبَ عَلَى الْجُحُودِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ ثُمَّ بِالْغَرَقِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي مَحَلِّهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْلَغُ، عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَالتَّالِي بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَاسْتِعْبَادِ الْبَشَرِ حِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللهِ، وَظَلَمُوا بِهَا عَمَلًا بِمُقْتَضَى فَسَادِهِمْ، وَهَذَا تَشْوِيقٌ لِتَوْجِيهِ النَّظَرِ لِمَا سَيَقُصُّهُ تَعَالَى مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ إِذْ نَصَرَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِمْ، وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ شَعْبٍ مُسْتَضْعَفٍ مُسْتَعْبَدٍ لَهُمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ دَوْلَةً وَصَوْلَةً وَقُوَّةً، نَصَرَهُ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِإِبْطَالِ سِحْرِهِمْ، وَإِقْنَاعِ عُلَمَائِهِمْ وَسَحَرَتِهِمْ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِ آيَاتِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ نَصَرَهُ بِإِرْسَالِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَى الْبِلَادِ ثُمَّ بِإِنْقَاذِ قَوْمِهِ وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ مَلَئِهِ وَجُنُودِهِ، وَهَذِهِ عِبْرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَحُجَّةٌ قَائِمَةٌ مُدَّةَ الدَّهْرِ، عَلَى الْقَائِلِينَ إِنَّمَا الْغَلَبُ لِلْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا سِيَّمَا الْمَغْرُورِينَ بِعَظَمَةِ دُوَلِ أُورُبَّةَ الظَّالِمَةِ لِمَنِ اسْتَضْعَفَتْهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ، وَعَلَى أُولَئِكَ الْبَاغِينَ بِالْأَوْلَى، فَأَوْلَى لَهُمْ أَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَهُمْ أَوْلَى.
بَعْدَ هَذَا التَّشْوِيقِ وَالتَّنْبِيهِ قَصَّ تَعَالَى عَلَيْنَا مَا كَانَ مِنْ مَبْدَأِ أَمْرِ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ الَّذِي انْتَهَى
36
إِلَى تِلْكَ الْعَاقِبَةِ، فَقَالَ: وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبْدَأُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ؛ لِتَفْهَمَ عِبَارَتَهَا كَمَا يَجِبُ، وَيَكُونُ سِيَاقُ الْقِصَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَفِيهَا بَحْثَانِ دَقِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بِدْءُ الْقِصَّةِ بِالْعَطْفِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ.
لَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى وَجْهِ بِدْءِ الْآيَةِ بِالْعَطْفِ، وَبَيَانِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِثْلِهَا مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ، إِذْ قَالَ بَعْدَ أَمْرِ مُوسَى بِالذَّهَابِ مَعَ أَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ مُبَيِّنًا كَيْفَ كَانَ امْتِثَالُهَا لِلْأَمْرِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٢٠: ٤٨) فَجَاءَ بِهِ مَفْصُولًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِالْوَاوِ وَلَا بَأَوْ وَلَا بِالْفَاءِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَلَمْ يَقُلْ:
" فَقَالَ " أَوْ " قَالَ " لَكِنَّهُ عَطَفَ تَبْلِيغَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهَا بِالْفَاءِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَصْلِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَدَيْنَا هُنَا عَطْفًا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَعَطْفًا بِالْوَاوِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَفَصْلًا بَيَانِيًّا فِي الْقَصَصِ الَّتِي بَيْنَهُمَا يُشْبِهُ الْفَصْلَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَعَطْفُ التَّبْلِيغِ فِيهِ عَلَى الْإِرْسَالِ بِالْفَاءِ؛ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ وَعَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْقَصَصِ بَعْدَهُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ هَذَا مَعْلُومًا وَكَانَ مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ قَوْمِ نُوحٍ عِبْرَةً لِقَوْمِ هُودٍ، وَكَانَا مَعًا عِبْرَةً لِقَوْمِ صَالِحٍ وَهَلُمَّ جَرًّا، حَسُنَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ مَعَ قَوْمِهِ؟ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَوَجْهُ الْعَطْفِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ بِالْوَاوِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ قَفَى فِي قِصَّةِ مُوسَى هُنَا عَلَى ذِكْرِ إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِذِكْرِ نَتِيجَةِ هَذَا الْإِرْسَالِ وَعَاقِبَتِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَلَمُوا بِهَا إِلَخْ، وَبُدِئَتِ الْقِصَّةُ بَعْدَهُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ وَمُقْدِّمَاتِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ، فَكَانَ الْمُنَاسَبُ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا لَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةِ، أَوْ بَيْنَ التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمُقْدِّمَاتُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ النَّتِيجَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهَذِهِ دِقَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى مِثْلِهَا إِلَّا غَوَّاصُو بَحْرِ الْبَيَانِ، وَلَا يَكَادُونَ
يَجِدُونَ فَوَائِدَهَا إِلَّا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، وَأَعْجَبُ لِلْإِمَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَيْفَ غَفَلَ عَنْهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا.
وَحِكْمَةُ بِدْءِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نَتِيجَتِهَا، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا وَهِيَ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا، مِنْ حَيْثُ إِهْلَاكُ مُعَانِدِي الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بَعْدَ جُمْلَةِ تِلْكَ الْقَصَصِ لِتَشَابُهِهَا مَبْدَأً وَغَايَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةُ مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ طَوِيلَةٌ فَهِيَ تُسَاوِيهَا فِي هَذَا مِنْ حَيْثُ رِسَالَتُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَطْ، وَفِيهَا عِبَرٌ أُخْرَى فِيمَا تَشَابَهَ بِهِ أَمْرُ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ حَيْثُ إِرْسَالُهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِرْسَالُ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ إِلَى الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَتَوْفِيقُ اللهِ قَوْمَهُمَا لِلْإِيمَانِ وَنَشْرِ شَرِيعَتِهِمَا فِيمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِمْ، إِلَى آخِرِ
مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي نُكْتَةِ عَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِـ " ثُمَّ "، وَنُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِـ " بَعَثْنَا " وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَوَاخِرَهَا تَبْشِيرَ مُوسَى وَكَذَا عِيسَى بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ عَنِ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِذْ يَقُولُونَ: أَنْتَ حَقِيقُ كَذَا، وَأَنْتَ حَقِيقٌ بِأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، كَمَا يَقُولُونَ: أَنْتَ جَدِيرٌ بِهِ وَخَلِيقٌ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ اسْتِعْمَالُهُ بِـ " عَلَى " وَلَكِنْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِعْمَالُ " عَلَى " بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِمْ: ارْكَبْ عَلَى اسْمِ اللهِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْنَى السَّابِعِ مِنْ مَعَانِي " عَلَى " الْجَارَّةِ، وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَمِثْلُهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَقِيقٌ أَنْ لَا أَقُولَ... ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ الْجَارَّ الْمَحْذُوفَ مِنْ أَنَّ هُوَ الْيَاءُ، وَحَذْفُ الْجَارِ مِنْ " أَنْ " الْخَفِيفَةِ وَ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةِ قِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ: مَعْنَاهُ حَقِيقٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ؛ أَيْ: جَدِيرٌ بِذَلِكَ وَحَرِيٌّ بِهِ، قَالُوا: وَ " الْبَاءُ " وَ " عَلَى " يَتَعَاقَبَانِ، يُقَالُ: رُمِيتُ بِالْقَوْسِ، وَعَلَى الْقَوْسِ، وَجَاءَ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ حَرِيصٌ عَلَى أَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حَقِيقًا قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحِرْصِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ التَّضْمِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِي لِلْكَلِمَةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْهُ التَّعْدِيَةُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْعِبَارَةِ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ بِأَلَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَحَرِيصٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ أُخِلَّ بِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاقِ فِي وَصْفِ مُوسَى نَفْسَهُ بِالصِّدْقِ حَتَّى جُعِلَ قَوْلُ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَسْعَى لِيَكُونَ
38
هُوَ قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ، وَلَا يَرْضَى أَنْ يَنْطِقَ بِهِ غَيْرُهُ، فَلَا يُخَوَّلُ مِنْ تَكَلُّفٍ، وَإِنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَخِيرِ: إِنَّهُ هُوَ الْأَوْجَهُ الْأَدْخَلُ فِي نُكَتِ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيْ: وَاجِبٌ وَحَقٌّ عَلَى أَلَّا أُخْبِرَ عَنْهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ عِزِّ جَلَالِهِ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ:
بَلَّغَ مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ - أَيْ: سَيِّدُهُمْ
وَمَالِكُهُمْ وَمُدَبِّرُ جَمِيعِ أُمُورِهِمْ - وَأَنَّهُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَقُولُ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا يَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالصِّدْقِ، وَالْتِزَامِ الْحَقِّ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيهِ، وَشَدِيدُ الْحِرْصِ عَلَيْهِ بِمَالِهِ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ، فَاشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى عَقِيدَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ لِلْعَالِمِينَ كُلِّهِمْ رَبًّا وَاحِدًا، وَعَقِيدَةَ الرِّسَالَةِ الْمُؤَيَّدَةَ مِنْهُ تَعَالَى بِالْعِصْمَةِ فِي التَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ، وَقَدْ نَاقَشَهُ فِرْعَوْنُ الْبَحْثَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فَوَصَفَهُ مُوسَى بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي أَجْوِبَةِ عِدَّةِ أَسْئِلَةٍ أَوْرَدَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ هُوَ وَهَارُونَ عَنْ رَبِّهِمَا فِي سِيَاقِ سُورَةِ طَهَ، وَجَاءَ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِيهَا ذِكْرَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَانَ قُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِالرَّبِّ الْإِلَهِ الْغَيْبِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ شَابُوا الْعَقِيدَتَيْنِ بِنَزَغَاتِ الشِّرْكِ وَبَعْضِ الْخُرَافَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُوسَى قَدْ بَلَّغَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أُصُولَ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ: التَّوْحِيدَ، وَالرِّسَالَةَ، وَالْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَفِي كُلِّ سِيَاقٍ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى الْمُكَرَّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فَوَائِدُ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى، وَأَبْسَطُهَا وَأَوْسَعُهَا بَيَانًا هَذِهِ السُّورَةُ (الْأَعْرَافُ) وَطَهَ وَالشُّعَرَاءُ وَالْقَصَصُ، وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ لِجُمْلَةِ الْقِصَّةِ لَا التَّفْصِيلُ لَهَا كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ بِبَيِّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ وَتَبْلِيغِهِ عَنْهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ، ظَاهِرَةِ الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْحَقِّ، فَتَنْكِيرُ الْبَيِّنَةِ لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْمُعْجِزَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ لَيْسَ رَبًّا وَلَا إِلَهًا، وَعَلَى أَنَّهَا - أَيِ: الْبَيِّنَةُ - لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ مُوسَى، وَلَا مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَنَى عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ: بِأَنْ تُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِكَ، وَتُعْتِقَهُمْ مِنْ رِقِّ قَهْرِكَ، لِيَذْهَبُوا مَعِي إِلَى دَارٍ غَيْرِ دِيَارِكَ، وَيَعْبُدُوا فِيهَا رَبَّهُمْ وَرَبَّكَ، وَبِمَ أَجَابَ فِرْعَوْنُ؟
39
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ
كُنْتَ جِئْتَ مَصْحُوبًا وَمُؤَيَّدًا بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَرْسَلَكَ كَمَا تَدَّعِي - الشَّرْطُ بِـ " إِنْ " يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ أَوِ الْجَزْمِ بِنَفْيِهَا - فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِنِي بِهَا بِأَنْ تُظْهِرَهَا لَدَيَّ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ الْمُلْتَزِمِينَ لِقَوْلِ الْحَقِّ، وَهَذَا شَكٌّ آخَرُ فِي صِدْقِهِ، بَعْدَ الشَّكِّ فِي مَجِيئِهِ بِالْآيَةِ.
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ: فَلَمْ يَلْبَثْ مُوسَى أَنْ أَلْقَى عَصَاهُ الَّتِي كَانَتْ بِيَمِينِهِ أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ - وَهُوَ الذَّكَرُ الْعَظِيمُ مِنَ الْحَيَّاتِ - مُبِينٌ؛ أَيْ: ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا يَسْعَى وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، تَرَاهُ الْأَعْيُنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْحَرَهَا سَاحِرٌ فَيُخَيَّلَ إِلَيْهَا أَنَّهَا تَسْعَى - كَمَا سَيَأْتِي مِنْ أَعْمَالِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ - وَنَزَعَ يَدَهُ؛ أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ وَضَعَهَا فِيهِ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْعَصَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ نَاصِعَةُ الْبَيَاضِ تَتَلَأْلَأُ لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَنْظُرُهُ، وَالنَّظَّارَةُ هُمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عَادَةً لِرُؤْيَةِ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بَيْضَهَا فِي طَهَ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ بِأَنَّهُ: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ: مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ كَالْبَرَصِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ فِي صِفَةِ الثُّعْبَانِ الَّذِينَ تَحَوَّلَتْ إِلَيْهِ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي تَأْثِيرِهِ لَدَى فِرْعَوْنَ مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَصِحُّ لَهَا سَنَدٌ، وَلَا يُوثَقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَمِنْهَا قَوْلُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: إِنَّ الْعَصَا لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا حَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِيهِ غَرَابَةٌ فِي سِيَاقِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَدِ اقْتَصَرْتُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَقُولَ: إِنَّنِي أُرَجِّحُ تَضْعِيفَ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ لِوَهْبٍ عَلَى تَوْثِيقِ الْجُمْهُورِ لَهُ، بَلْ أَنَا أَسْوَأُ فِيهِ ظَنًّا عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضِلْعٌ مَعَ قَوْمِهِ الْفُرْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَلِلْعَرَبِ، وَيَدُسُّونَ لَهُمْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ التَّشَيُّعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ وَالِدَهُ مُنَبِّهًا فَارِسِيٌّ أَخْرَجَهُ كِسْرَى إِلَى الْيَمَنِ فَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَأَنَّ ابْنَهُ وَهْبًا كَانَ يَخْتَلِفُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ بَعْدَ فَتْحِهَا، وَهُنَا مَوْضِعٌ لِشُبْهَةٍ فِي الْغَرَائِبِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ - وَمِثْلُهُ عِنْدِي (كَعْبُ الْأَحْبَارِ) الْإِسْرَائِيلِيُّ - كِلَاهُمَا كَانَ تَابِعِيًّا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ لِلْغَرَائِبِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ مَنْقُولٌ وَلَا مَعْقُولٌ، وَقَوْمُهُمَا كَانَا يَكِيدُونَ
لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي فَتَحَتْ بِلَادَهُ الْفُرْسَ، وَأَجْلَتِ الْيَهُودَ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَاتِلُ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي فَارِسِيٌّ مُرْسَلٌ مِنْ جَمْعِيَّةٍ سِرِّيَّةٍ لِقَوْمِهِ، وَقَتَلَةُ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ كَانُوا مَفْتُونِينَ بِدَسَائِسِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ، وَإِلَى جَمْعِيَّةِ
السَّبَئِيِّينَ وَجَمْعِيَّاتِ الْفُرْسِ تَرْجِعُ جَمِيعُ الْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ، وَأَكَاذِيبِ الرِّوَايَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ
كَانَ السِّحْرُ فَنًّا مِنْ فُنُونِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ يَتَعَلَّمُونَهُ فِي مَدَارِسِهِمُ الْعَالِيَةِ مَعَ سَائِرِ عُلُومِ الْكَوْنِ، وَكَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَقْرَانِهِمْ مِنَ الْبَابِلِيِّينَ وَكَذَا الْهُنُودُ وَغَيْرُهُمْ، وَلَا يَزَالُ يُؤْثَرُ عَنِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْهُمْ أَعْمَالٌ سِحْرِيَّةٌ غَرِيبَةٌ اهْتَدَى عُلَمَاءُ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى تَعْلِيلِ بَعْضِهَا أَوْ كَشْفِ حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَزَالُونَ يَجْهَلُونَ تَعْلِيلَ بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلسِّحْرِ أَنَّهُ أَعْمَالٌ غَرِيبَةٌ مِنَ التَّلْبِيسِ وَالْحِيَلِ تَخْفَى حَقِيقَتُهَا عَلَى جَمَاهِيرِ النَّاسِ؛ لِجَهْلِهِمْ بِأَسْبَابِهَا، فَمَتَى عُرِفَ سَبَبُ شَيْءٍ مِنْهَا بَطَلَ إِطْلَاقُ اسْمِ السِّحْرِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَقْوَامُ الْجَاهِلُونَ يَعُدُّونَ آيَاتِ الرُّسُلِ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي يُؤَيِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ، يَجْعَلُونَ هَذَا مَانِعًا مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ صَنْعَةٌ تَتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ، فَيُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا إِذَا أُتِيحَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَرُوجُ إِلَّا بَيْنَ الْجَاهِلِينَ، وَلَهُ الْمَكَانَةُ الْمَهِيبَةُ الْمُخِيفَةُ بَيْنَ أَعْرَاقِ الْقَبَائِلِ فِي الْهَمَجِيَّةِ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْعِرْفَانُ، بَلْ يُسَمَّى أَهْلُهُ بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى كَالْمُشَعْوِذِينَ وَالْمُحْتَالِينَ وَالدَّجَّالِينَ.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ حَقِيقَةِ السِّحْرِ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَفِي بَعْضِ مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) : مَا يَعْمَلُ بِالْأَسْبَابِ الطَّبِيعَةِ مِنْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْعَامِلِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَ مَنْ يَسْحَرُهُمْ بِهَا، وَمِنْهَا الزِّئْبَقُ الَّذِي قِيلَ: إِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ وَضَعُوهُ فِي حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ كَمَا سَيَأْتِي،
وَلَوْ شَاءَ عُلَمَاءُ الطَّبِيعَةِ وَالْكِيمْيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يُجْلُوا أَنْفُسَهُمْ سَحَرَةً فِي بِلَادِ أَوَاسِطِ إِفْرِيقِيَّةَ الْهَمَجِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَاهِلَةِ الَّتِي يَرُوجُ فِيهَا السِّحْرُ الْعَتِيقُ لَأَرَوْهُمْ مِنْ عَجَائِبِ الْكَهْرَبَاءِ، وَغَيْرِهَا مَا يُخْضِعُونَهُمْ بِهِ لِعِبَادَتِهِمْ لَوِ ادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ، دَعْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ أَوِ الْوِلَايَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ السَّحَرَةُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْبِلَادِ عَلَى بَعْضِ السُّيَّاحِ الْغَرْبِيِّينَ لِيُرْهِبُوهُمْ بِسِحْرِهِمْ، وَكَانُوا فِي مَكَانٍ بَارِدٍ، وَالْفَصْلُ شِتَاءٌ فَأَخَذَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ السُّيَّاحِ قِطْعَةً مِنَ الْجَلِيدِ وَجَعْلِهَا بِشَكْلٍ عَدَسِيٍّ بِقَدْرِ مَا يُرَى مِنْ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّنِي أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّنِي أَقْدِرُ بِهِ أَنْ أَجْعَلَ فِي يَدِي شَمْسًا كَشَمْسِ السَّمَاءِ ثُمَّ وَجَّهَ عَدَسَتَيْهِ إِلَى الشَّمْسِ
41
عِنْدَ بُزُوغِهَا، وَاكْتِمَالِ ضَوْئِهَا فَصَارَتْ بِانْعِكَاسِ النُّورِ بِهَا كَالشَّمْسِ لَمْ يَسْتَطِعِ السَّحَرَةُ أَنْ يُثَبِّتُوا نَظَرَهُمْ إِلَيْهَا فَخَضَعُوا لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، وَكَفُّوا شَرَّهُمْ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنْهُمْ.
(النَّوْعُ الثَّانِي) : الشَّعْوَذَةُ الَّتِي مَدَارُ الْبَرَاعَةِ فِيهَا عَلَى خِفَّةِ الْيَدَيْنِ فِي إِخْفَاءِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَإِظْهَارِ بَعْضٍ، وَإِرَاءَةِ بَعْضِهَا بِغَيْرِ صُوَرِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْحَضَارَةِ بِكَثْرَةِ الْمُكْتَسِبِينَ بِهَا مِنَ الْوَطَنِيِّينَ وَالْغُرَبَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يُسَمِّيهَا سِحْرًا.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ) : مَا مَدَارُهُ عَلَى تَأْثِيرِ الْأَنْفُسِ ذَوَاتِ الْإِرَادَةِ الْقَوِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ الضَّعِيفَةِ ذَاتِ الْأَمْزِجَةِ الْعَصِيبَةِ الْقَابِلَةِ لِلْأَوْهَامِ وَالِانْفِعَالَاتِ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهِسْتِيرِيَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَهُ يَسْتَعِينُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْأَوْفَاقَ وَالطَّلْسَمَاتِ لِلْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ لِلْحُرُوفِ خَوَاصًّا وَتَأْثِيرَاتٍ ذَاتِيَّةً يَخْرُجُ عَمَلُ الْأَوْفَاقِ وَالنَّشَرَاتِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ السِّحْرِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا اسْتُحْدِثَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ التَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ، وَأَخْبَارُهُ مَشْهُورَةٌ.
وَمِمَّا سَبَقَ لَنَا بَيَانُهُ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْطِئَةُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ السِّحْرَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ الْجِنْسُ الْجَامِعُ لِمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ صِنَاعَةٌ تُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَبِالِاخْتِبَارِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
وَلِعُلَمَائِنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي السِّحْرِ بَعْضُهُ أَوْهَامٌ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا كَلَامَ بَعْضِ كِبَارِ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، وَمِنْ أَخْصَرِهِ وَأَفَيْدِهِ قَوْلُ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ إِخْرَاجُ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيَّ فِي مُفْرَدَاتِهِ لِغَرِيبِ الْقُرْآنِ مَا نَصُّهُ: تَعْرِيفُ السِّحْرِ وَمَأْخَذُهُ مِنَ اللُّغَةِ:
السَّحْرُ: طَرَفُ الْحُلْقُومِ وَالرِّئَةِ، وَقِيلَ: انْتَفَخَ سَحْرُهُ، وَبَعِيرٌ سَحْرٌ: عَظِيمُ السَّحْرِ، وَالسُّحَارَةُ (بِالضَّمِّ) : مَا يُنْزَعُ مِنَ السَّحْرِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَيَرْمِي بِهِ، وَجَعَلَ بِنَاءَهُ بِنَاءَ النِّفَايَةِ وَالسِّقَاطَةِ، وَقِيلَ: مِنْهُ اشْتُقَّ السِّحْرُ، وَهُوَ إِصَابَةُ السِّحْرِ، وَالسِّحْرُ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ.
(الْأَوَّلُ) : خِدَاعٌ وَتَخْيِيلَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا نَحْوَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْبِذُ بِصَرْفِ الْأَبْصَارِ عَمَّا يَفْعَلُهُ لِخِفَّةِ يَدِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ النَّمَّامُ بِقَوْلٍ مُزَخْرَفٍ عَائِقٍ لِلْأَسْمَاعِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ (٧: ١١٦) وَقَالَ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ (٢٠: ٦٦)
42
وَبِهَذَا النَّظَرِ سَمُّوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاحِرًا فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ (٤٣: ٤٩).
(وَالثَّانِي) : اسْتِجْلَابُ مُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٦: ٢٢١، ٢٢٢) وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (٢: ١٠٢).
(وَالثَّالِثُ) مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْأَغْتَامُ، وَهُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ قُوَّتِهِ يُغَيِّرُ الصُّوَرَ وَالطَّبَائِعَ، فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا، وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ، وَقَدْ تُصُوِّرَ مِنَ السِّحْرِ تَارَةً حُسْنُهُ فَقِيلَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا " وَتَارَةً دِقَّةُ فِعْلِهِ حَتَّى قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: الطَّبِيعَةُ سَاحِرَةٌ وَسَمُّوا الْغِذَاءَ سِحْرًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَدُقُّ وَيَلْطُفُ تَأْثِيرُهُ اهـ.
وَقَدْ عَقَدَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ عَلَى الرَّازِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْجَصَّاصِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَابًا خَاصًّا مِنْ تَفْسِيرِهِ الْجَلِيلِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) لِبَيَانِ مَعْنَى السِّحْرِ، وَحُكْمِ السَّاحِرِ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعْلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (٢: ١٠٢) قَالَ فِي أَوَّلِهِ: " الْوَاجِبُ أَنَّ نُقَدِّمَ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ لِخَفَائِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ نُعْقِبَهُ بِالْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ فَنَقُولُ:
إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ فِي اللُّغَةِ لِمَا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَالسَّحْرُ عِنْدَهُمْ بِالْفَتْحِ هُوَ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيَدٌ:
أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
" قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كَالْمَسْحُورِ الْمَخْدُوعِ - وَالْآخَرُ: نُغَذَّى، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ، وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
" وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ بِالسَّحْرِ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ، وَالسَّحْرُ: الرِّئَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُلْقُومِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (٢٦: ١٨٥) يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُطْعَمُ وَيُسْقَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا (٢٦: ١٨٦) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (٢٥: ٧٥) وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ السِّحْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِضَعْفِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِطَاقَتِهَا وَرِقَّتِهَا، وَبِهَا مَعَ ذَلِكَ قِوَامُ الْإِنْسَانِ - فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ
43
ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ - وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ نُقِلَ هَذَا الِاسْمُ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ، وَتُخُيِّلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ، وَقَدْ أُجْرِيَ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْتَدَحُ وَيُحْمَدُ، كَمَا رُوِيَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ".
وَهَاهُنَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ رِوَايَتَهُ لِهَذَا الْحَدَثِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي زُهَاءِ وَرَقَةٍ كَبِيرَةٍ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهِ سِحْرَ سَحَرَةِ مُوسَى لِأَعْيُنِ النَّاسِ، وَتَخَيُّلَهُمْ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى، وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى، وَذَكَرَ مَا قِيلَ مِنْ حِيلَتِهِمْ فِي ذَلِكَ بِوَضْعِ الزِّئْبَقِ فِيهَا وَتَحْرِيكِ النَّارِ الْخَفِيَّةِ لِلزِّئْبَقِ فَكَانَ سَبَبَ حَرَكَتِهَا، وَسَيَأْتِي نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُ قَرِيبًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً تَارِيخِيَّةً فِي أَصْلِ السِّحْرِ بِبَابِلَ، وَقَفَى عَلَيْهَا بِبَيَانِ أَنْوَاعِهِ فَقَالَ: كَلَامُ الْجَصَّاصِ فِي السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ.
" وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ، وَحُكْمَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَلْنَقُلْ فِي مَعْنَاهُ فِي التَّعَارُفِ وَالضُّرُوبِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ، وَمَا يَقْصِدُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ
مِنْ مُنْتَحِلِيهِ، وَالْغَرَضُ الَّذِي يَجْرِي إِلَيْهِ مُدَّعُوهُ، فَنَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقِ: إِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ
(فَمِنْهَا سِحْرُ أَهْلِ بَابِلَ) الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ (٢: ١٠٢) وَكَانُوا قَوْمًا صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا، وَهُمْ مُعَطِّلَةٌ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالصَّانِعِ الْوَاحِدِ الْمُبْدِعِ لِلْكَوَاكِبِ وَجَمِيعِ أَجْرَامِ الْعَالَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحَاجَّهُمْ بِالْحِجَاجِ الَّذِي بَهَرَهُمْ بِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعَهُ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللهُ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَهْلُ بَابِلَ وَإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى أَيَّامِ بِيُورَاسِبَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّحَّاكَ، وَأَنَّ أَفْرِيدُونَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ دَنْيَاوَنْدَ اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِلَادَهُ، وَكَاتَبَ سَائِرَ مَنْ يُطِيعُهُ، وَلَهُ قَصَصٌ طَوِيلَةٌ حَتَّى أَزَالَ مُلْكَهُ وَأَسَرَهُ، وَجُهَّالُ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَفْرِيدُونَ حَبَسَ بِيُورَاسِبَ فِي جَبَلِ دَنْيَاوَنْدَ الْعَالِي عَلَى الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ حَيٌّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ يَأْتُونَهُ هُنَاكَ فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ السِّحْرَ، وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَذَّرَنَاهُ، وَأَحْسَبُهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنِ الْمَجُوسِ، وَصَارَتْ مَمْلَكَةُ إِقْلِيمِ بَابِلَ لِلْفُرْسِ، فَانْتَقَلَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَاسْتَوْطَنُوهَا، وَلَمْ يَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، بَلْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُقِرِّينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُعَظِّمُونَ الْعَنَاصِرَ الْأَرْبَعَةَ: الْمَاءَ، وَالنَّارَ، وَالْأَرْضَ، وَالْهَوَاءَ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ بِهَا قِوَامَ الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْمَجُوسِيَّةُ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ كَشْتَاسِبَ حِينَ دَعَاهُ زَرَادُشْتُ فَاسْتَجَابَ لَهُ عَلَى شَرَائِطَ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِبَانَةُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ سَحَرَةُ بَابِلَ، وَلَمَّا ظَهَرَ الْفُرْسُ عَلَى هَذِهِ الْإِقْلِيمِ كَانَتْ
44
تَتَدَيَّنُ بِقَتْلِ السَّحَرَةِ وَإِبَادَتِهَا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ دِينِهِمْ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَجُوسِيَّةِ فِيهِمْ وَقَبْلَهُ إِلَى أَنْ زَالَ عَنْهُمُ الْمُلْكُ.
" وَكَانَتْ عُلُومُ أَهْلِ بَابِلَ قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمُ الْحِيَلَ وَالنِّيرَنْجَبَاتِ وَأَحْكَامَ النُّجُومِ،
وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَوْثَانًا قَدْ عَلِمُوهَا عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَجَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هَيْكَلًا فِيهِ صَنَمُهُ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادَاتِهِمْ مِنْ مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ بِزَعْمِهِمْ فِعْلَ الْخَيْرِ أَوْ شَرٍّ، فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ بِزَعْمِهِ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ الْمُشْتَرَى مِنَ الدَّخَنِ وَالرُّقَى وَالْعُقَدِ وَالنَّفْثِ عَلَيْهَا، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ وَالْحَرْبِ وَالْمَوْتِ وَالْبَوَارِ لِغَيْرِهِ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إِلَى زُحَلَ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَرَادَ الْبَرْقَ وَالْحَرْقَ وَالطَّاعُونَ تَقَرَّبَ بِزَعْمِهِ إِلَى الْمِرِّيخِ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ذَبْحِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، وَجَمِيعُ تِلْكَ الرُّقَى بِالنَّبَطِيَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْظِيمِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضٍ فَيُعْطِيهِمْ مَا شَاءُوا مِنْ ذَلِكَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا فِي غَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُلَامَسَةٍ سِوَى مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْقُرُبَاتِ لِلْكَوْكَبِ الَّذِي طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَمِنَ الْعَامَّةِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَعَادَهُ، وَيَرْكَبُ الْبَيْضَةَ وَالْمِكْنَسَةَ وَالْخَابِيَةَ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ يَمْضِي مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الْهِنْدِ وَإِلَى مَا شَاءَ مِنَ الْبُلْدَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ.
" وَكَانَتْ عَوَامُّهُمْ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَكُلُّ مَا دَعَا إِلَى تَعْظِيمِهَا اعْتَقَدُوهُ، وَكَانَتِ السَّحَرَةُ تَحْتَالُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِحِيَلٍ تُمَوِّهُ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ، بِأَنْ يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَبْلُغُ مَا يُرِيدُ إِلَّا مَنِ اعْتَقَدَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وَتَصْدِيقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ.
" وَلَمْ تَكُنْ مُلُوكُهُمْ تَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَتِ السَّحَرَةُ عِنْدَهَا بِالْمَحَلِّ الْأَجَلِّ لِمَا كَانَ لَهَا فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ مِنْ مَحَلِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ؛ وَلِأَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ مَا تَدَّعِيهِ السَّحَرَةُ لِلْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ كَانُوا يَتَبَارُونَ بِالْعِلْمِ وَالسِّحْرِ وَالْحِيَلِ وَالْمَخَارِقِ؛ وَلِذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَصَا وَالْآيَاتِ الَّتِي عَلِمَتِ السَّحَرَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللهِ تَعَالَى، فَلَمَّا زَالَتْ تِلْكَ الْمَمَالِكُ، وَكَانَ مَنْ مَلَكَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يَطْلُبُونَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللهِ
تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ، كَانُوا يَدْعُونَ عَوَامَّ النَّاسِ وَجُهَّالَهُمْ سِرًّا كَمَا يَفْعَلُهُ السَّاعَةَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْأَحْدَاثِ الْأَغْمَارِ وَالْجُهَّالِ الْحَشْوِ.
وَكَانُوا يَدْعُونَ مَنْ يَعْمَلُونَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى تَصْدِيقِ قَوْلِهِمْ وَالِاعْتِرَافِ بِصِحَّتِهِ، وَالْمُصَدِّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ يَكْفُرُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهُمَا) : التَّصْدِيقُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً.
(وَالثَّانِي) : اعْتِرَافُهُ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ تَقْدِرُ عَلَى ضَرِّهِ وَنَفْعِهِ.
(وَالثَّالِثُ) : أَنَّ السَّحَرَةَ تَقْدِرُ عَلَى
45
مِثْلِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ يُبَيِّنَانِ لِلنَّاسِ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعُونَ، وَبُطْلَانَ مَا يَذْكُرُونَ، وَيَكْشِفَانِ لَهُمْ مَا بِهِ يُمَوِّهُونَ، وَيُخْبِرَانِهِمْ بِمَعَانِي تِلْكَ الرُّقَى، وَأَنَّهَا شِرْكٌ وَكُفْرٌ، بِحِيَلِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى التَّمْوِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَيُظْهِرَانِ لَهُمْ حَقَائِقَهَا، وَيَنْهَيَانِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، بِقَوْلِهِمَا لَهُمْ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ (٢: ١٠٢) فَهَذَا أَصْلُ سِحْرِ بَابِلَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، وَيُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ، وَيَعْزُونَهُا إِلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ؛ لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنْهَا وَيُسَلِّمَهَا لَهُمْ.
" فَمِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ كَثِيرٌ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي مَظْهَرُهَا عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا، فَمِنْهَا مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهَا وَظُهُورِهَا، وَمِنْهَا مَا يَخْفَى وَيَلْطُفُ وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَى بَاطِنِهِ إِلَّا مَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَظَاهِرٍ وَغَامِضٍ، فَالْجَلِيُّ مِنْهُ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ وَسَمِعَهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَالْغَامِضُ الْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُهُ، وَمَنْ تَعَاطَى مَعْرِفَتَهُ وَتَكَلَّفَ فِعْلَهُ وَالْبَحْثَ عَنْهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا يَتَخَيَّلُ رَاكِبُ السَّفِينَةِ إِذَا سَارَتْ فِي النَّهْرِ فَيَرَى أَنَّ الشَّطَّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّخْلِ وَالْبُنْيَانِ سَائِرٌ مَعَهُ، وَكَمَا يَرَى الْقَمَرَ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ يَسِيرُ لِلْغَيْمِ فِي مَهَبِّ الْجَنُوبِ، وَكَدَوَرَانِ الدَّوَّامَةِ فِيهَا الشَّامَةُ فَيَرَاهَا كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ فِي أَرْجَائِهَا، وَكَذَلِكَ يَرَى هَذَا فِي الرَّحَى إِذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ الدَّوَرَانِ، وَكَالْعُودِ فِي طَرَفِهِ الْجَمْرَةُ إِذَا أَدَارَهُ مُدِيرُهُ رَأَى تِلْكَ النَّارَ الَّتِي فِي طَرَفِهِ كَالطَّوْقِ الْمُسْتَدِيرِ، وَكَالْعِنَبَةِ الَّتِي يَرَاهَا فِي قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ كَالْخَوْخَةِ وَالْإِجَّاصَةِ عَظْمًا، وَكَالشَّخْصِ الصَّغِيرِ يَرَاهُ فِي الضَّبَابِ عَظِيمًا جَسِيمًا، وَكَبُخَارِ الْأَرْضِ الَّذِي يُرِيكَ قُرْصَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَظِيمًا فَإِذَا فَارَقَتْهُ وَارْتَفَعَتْ صَغُرَتْ، وَكَمَا يُرَى الْمَرْئِيُّ فِي الْمَاءِ مُنْكَسِرًا أَوْ مُعْوَجًّا، وَكَمَا يُرَى
الْخَاتَمُ إِذَا قَرَّبْتَهُ مِنْ عَيْنِكَ فِي سَعَةِ حَلْقَةِ السُّوَارِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا فَيَعْرِفُهَا عَامَّةُ النَّاسِ.
" وَمِنْهَا مَا يَلْطُفُ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ تَعَاطَاهُ وَتَأَمَّلَهُ كَخَيْطِ السُّحَارَةِ الَّذِي يَخْرُجُ مَرَّةً أَحْمَرَ وَمَرَّةً أَصْفَرَ وَمَرَّةً أَسْوَدَ، وَمِنْ لَطِيفِ ذَلِكَ وَدَقِيقِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُونَ مِنْ جِهَةِ الْحَرَكَاتِ وَإِظْهَارِ التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ حَقَائِقِهَا حَتَّى يُرِيَانِ عَصْفُورًا مَعَهُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَهُ ثُمَّ يُرِيكَهُ، وَقَدْ طَارَ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَإِبَانَةِ رَأْسِهِ وَذَلِكَ لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ، وَالْمَذْبُوحُ غَيْرُ الَّذِي طَارَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ قَدْ خَبَّأَ أَحَدَهُمَا وَأَظْهَرَ الْآخَرَ، وَيُخَبَّأُ لِخِفَّةِ الْحَرَكَةِ الْمَذْبُوحُ، وَيُظْهَرُ الَّذِي نَظِيرُهُ، وَيُظْهَرُ أَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ إِنْسَانًا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَعَ سَيْفًا مَعَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي جَوْفِهِ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةٌ.
" وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحَرَكَاتِ لِلصُّوَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ
46
فَيَرَى فَارِسَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَنْصَرِفُ بِحِيَلٍ قَدْ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، وَكَفَارِسٍ مِنْ صُفْرٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ وَلَا يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ.
" وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجُنْدِ خَرَجَ بِبَعْضِ نَوَاحِي الشَّامِ مُتَصَيِّدًا، وَمَعَهُ كَلْبٌ لَهُ وَغُلَامٌ فَرَأَى ثَعْلَبًا فَأَغْرَى بِهِ الْكَلْبَ، فَدَخَلَ الثَّعْلَبُ ثُقْبًا فِي تَلٍّ هُنَاكَ، وَدَخَلَ الْكَلْبُ خَلْفَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَأَمَرَ الْغُلَامَ أَنْ يَدْخُلَ فَدَخَلَ، وَانْتَظَرَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَوَقَفَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِ الثَّعْلَبِ وَالْكَلْبِ وَالْغُلَامِ، وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَخْرُجْ، وَأَنَّهُ مُتَأَهِّبٌ لِلدُّخُولِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ إِلَى هُنَاكَ فَمَضَيَا إِلَى سِرْبٍ طَوِيلٍ حَتَّى أَفْضَى بِهِمَا إِلَى بَيْتٍ قَدْ فُتِحَ لَهُ ضَوْءٌ مِنْ مَوْضِعٍ يَنْزِلُ إِلَيْهِ بِمِرْقَاتَيْنِ فَوَقَفَ بِهِ عَلَى الْمِرْقَاةِ الْأُولَى حَتَّى أَضَاءَ الْبَيْتَ حِينًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: انْظُرْ، فَنَظَرَ فَإِذَا الْكَلْبُ وَالْغُلَامُ وَالثَّعْلَبُ قَتْلَى، وَإِذَا فِي صَدْرِ الْبَيْتِ رَجُلٌ وَاقِفٌ مُقْنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَرَى هَذَا؟ لَوْ دَخَلَ إِلَيْهِ
هَذَا الْمَدْخَلَ أَلْفُ رَجُلٍ لَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ رُتِّبَ وَهُنْدِمَ عَلَى هَيْئَةٍ، مَتَى وَضَعَ الْإِنْسَانُ رِجْلَهُ عَلَى الْمِرْقَاةِ الثَّانِيَةِ لِلنُّزُولِ تَقَدَّمَ الرَّجُلُ الْمَعْمُولُ فِي الصَّدْرِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَنْزِلَ إِلَيْهِ، فَإِنْ وَصَلْتَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَمْ يَتَحَرَّكْ، فَاسْتَأْجَرَ الْجُنْدِيُّ أُجَرَاءَ وَصُنَّاعًا حَتَّى حَفَرُوا سِرْدَابًا مَنْ خَلْفِ التَّلِّ فَأَفْضُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَإِذَا رَجُلٌ مَعْمُولٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ أُلْبِسَ السِّلَاحَ وَأُعْطِيَ السَّيْفَ، فَقَلَعَهُ، وَرَأَى بَابًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ قَبْرٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ مَيِّتٍ عَلَى سَرِيرٍ هُنَاكَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
" وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا مُصَوِّرُو الرُّومِ وَالْهِنْدِ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهَا، وَمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهَا صُورَةٌ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهَا إِنْسَانٌ، وَحَتَّى تُصَوِّرَهَا ضَاحِكَةً أَوْ بَاكِيَةً، وَحَتَّى يُفَرِّقَ فِيهَا بَيْنَ الضَّحِكِ مِنَ الْخَجَلِ وَالسُّرُورِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ.
" فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ التَّخَايِيلِ وَخَفْيِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ جَلِيِّهَا، وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حِيَلِهِمْ فِي الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ بَابِلَ فِي الْقَدِيمِ وَسِحْرِهِمْ، وَوُجُوهُ حِيَلِهِمْ بَعْضُهُ سَمِعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، وَبَعْضُهُ وَجَدْنَاهُ فِي كُتُبٍ قَدْ نُقِلَتْ حَدِيثًا مِنَ النَّبَطِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، مِنْهَا كِتَابٌ فِي ذِكْرِ سِحْرِهِمْ وَأَصْنَافِهِ وَوُجُوهِهِ، وَكُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُرْبَانَاتِ الْكَوَاكِبِ وَتَعْظِيمِهَا، وَخُرَافَاتٍ مَعَهَا لَا تُسَاوِي ذِكْرَهَا، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا.
47
(وَضَرْبٌ آخَرَ) مِنَ السِّحْرِ، وَهُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ حَدِيثِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَطَاعَتِهِمْ لَهُمْ بِالرُّقَى وَالْعَزَائِمِ، وَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ بِتَقْدِمَةِ أُمُورٍ، وَمُوَاطَأَةِ قَوْمٍ قَدْ أَعَدُّوهُمْ لِذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ يَجْرِي أَمْرُ الْكُهَّانِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ أَكْثَرُ مَخَارِيقِ الْحَلَّاجِ مِنْ بَابِ الْمُوَاطَآتِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَا يَحْتَمِلُ
اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ لَذَكَرْتُ مِنْهَا مَا يُوقَفُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخَارِيقِ أَمْثَالِهِ وَضَرَرِ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ، وَفِتْنَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ غَيْرُ يَسِيرٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ بَابِ أَنَّ الْجِنَّ إِنَّمَا تُطِيعُهُمْ بِالرُّقَى الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءُوا، وَيُخْرِجُونَ الْجِنَّ لِمَنْ شَاءُوا، فَتُصَدِّقُهُمُ الْعَامَّةُ عَلَى اغْتِرَارٍ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ انْقِيَادِ الْجِنِّ لَهُمْ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَتْ تُطِيعُ بِهَا سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَهُمْ بِالْخَبَايَا، وَبِالسَّرَقِ.
" وَقَدْ كَانَ الْمُعْتَضِدُ بِاللهِ مَعَ جَلَالَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ اغْتَرَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي دَارِهِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِنِسَائِهِ وَأَهْلِهِ شَخْصٌ فِي يَدِهِ سَيْفٌ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُهُ وَقْتَ الظُّهْرِ، فَإِذَا طُلِبَ لَمْ يُوجَدْ، وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ مَعَ كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ، وَقَدْ رَآهُ هُوَ بِعَيْنِهِ
مِرَارًا، فَأَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، وَدَعَا بِالْمُعَزَّمِينَ فَحَضَرَا وَأَحْضَرُوا مَعَهُمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهِمْ مَجَانِينَ وَأَصِحَّاءَ، فَأَمَرَ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ فَعَزَمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا فَجُنَّ وَتَخَبَّطَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْحِذْقِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ إِذْ أَطَاعَتْهُ الْجِنُّ فِي تَخْبِيطِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْمُعَزِّمُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْهُ لِذَلِكَ الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى عَزَمَ عَلَيْهِ جَنَّنَ نَفْسَهُ وَخَبَطَ، فَجَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَقَامَتْ نَفْسُهُ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، إِلَّا أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الشَّخْصِ الَّذِي يَظْهَرُ
48
فِي دَارِهِ فَمَخْرَقُوا عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ عَلَّقُوا قَلْبَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ؛ فَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ، وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَضَرَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ تَحَرَّزَ الْمُعْتَضِدُ بِغَايَةِ مَا أَمْكَنَهُ، وَأَمَرَ بِالِاسْتِيثَاقِ مِنْ سُورِ الدَّارِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ مِنْ تَسَلُّقٍ وَنَحْوِهِ، وَبُطِحَتْ فِي أَعْلَى السُّورِ خَرَابٌ لِئَلَّا يُحْتَالَ بِإِلْقَاءِ الْمَعَالِيقِ الَّتِي يَحْتَالُ بِهَا اللُّصُوصُ.
" ثُمَّ لَمْ يُوقَفْ لِذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى خَبَرٍ إِلَّا ظُهُورَهُ لَهُ الْوَقْتَ بَعْدَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ، وَهَذِهِ الْخَوَابِي الْمَبْطُوحَةُ عَلَى السُّورِ، وَقَدْ رَأَيْتُهَا عَلَى سُورِ الثُّرَيَّا الَّتِي بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فَسَأَلْتُ صَدِيقًا لِي كَانَ قَدْ حَجَبَ لِلْمُقْتَدِرِ بِاللهِ عَنْ أَمْرِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، وَهَلْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُ؟ فَذَكَرَ لِي أَنَّهُ لَمْ يُوقَفْ عَلَى حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ خَادِمًا أَبْيَضَ يُسَمَّى (يَقَقَ) وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى بَعْضِ الْجَوَارِي اللَّاتِي فِي دَاخِلِ دُورِ الْحَرِيمِ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ لِحًى عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَانَ إِذَا لَبِسَ بَعْضَ تِلْكَ اللِّحَى لَا يَشُكُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهَا لِحْيَتُهُ، وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِحْيَةً مِنْهَا، وَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِ يَدِهِ سَيْفٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ السِّلَاحِ حَيْثُ يَقَعُ نَظَرُ الْمُعْتَضِدُ، فَإِذَا طُلِبَ دَخَلَ بَيْنَ الشَّجَرِ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ أَوْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَمَرَّاتِ أَوِ الْعَطَفَاتِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ أَبْصَارِ طَالِبِيهِ نَزَعَ اللِّحْيَةَ جَعَلَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ حُزَّتِهِ، وَيَبْقَى السِّلَاحُ مَعَهُ كَأَنَّهُ بَعْضُ الْخَدَمِ الطَّالِبِينَ لِلشَّخْصِ، وَلَا يَرْتَابُونَ بِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ: هَلْ رَأَيْتَ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ أَحَدًا، فَإِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهُ صَارَ إِلَيْهَا؟ فَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَكَانَ إِذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْفَزَعِ فِي الدَّارِ خَرَجَتِ الْجَوَارِي مِنْ دَاخِلِ الدُّورِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَرَى هُوَ تِلْكَ
الْجَارِيَةَ وَيُخَاطِبُهَا بِمَا يُرِيدُ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ مُشَاهَدَةَ الْجَارِيَةِ وَكَلَامَهَا، لَمْ يَزَلْ هَذَا دَأْبَهُ إِلَى أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَصَارَ إِلَى طَرْطُوسَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ وَتَحَدَّثَتِ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ، وَوُقِفَ عَلَى احْتِيَالِهِ، فَهَذَا خَادِمٌ قَدِ احْتَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ لَهَا أَحَدٌ مِنْ شِدَّةِ عِنَايَةِ الْمُعْتَضِدِ بِهَا، وَأَعْيَاهُ مَعْرِفَتُهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَكُنْ صِنَاعَتُهُ الْحِيَلَ وَالْمَخَارِيقَ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ قَدْ جَعَلَ هَذَا صِنَاعَةً وَمَعَاشًا؟
(وَضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ) وَهُوَ السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَةِ بِهَا وَالْبَلَاغَاتِ وَالْإِفْسَادِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، وَذَلِكَ عَامٌّ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَرَادَتْ إِفْسَادَ مَا بَيْنَ زَوْجَيْنِ، فَسَارَتْ إِلَى الزَّوْجَةِ فَقَالَتْ لَهَا: إِنَّ زَوْجَكِ مُعْرِضٌ عَنْكِ وَقَدْ سُحِرَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنْكِ، وَسَأَسْحَرُهُ لَكِ حَتَّى لَا يُرِيدَ غَيْرَكِ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَى سِوَاكِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَأْخُذِي مِنْ شَعْرِ حَلْقِهِ بِالْمُوسَى ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ إِذَا نَامَ وَتُعْطِينِيهَا فَإِنَّ بِهَا يَتِمُّ
49
الْأَمْرُ، فَاغْتَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهَا وَصَدَّقَتْهَا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الرَّجُلِ وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتَكَ قَدْ عَلَّقَتْ رَجُلًا، وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى قَتْلِكَ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا فَأَشْفَقْتُ عَلَيْكَ، وَلَزِمَنِي نُصْحُكَ فَتَيَقَّظْ وَلَا تَغْتَرَّ، فَإِنَّهَا عَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ بِالْمُوسَى، وَسَتَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهَا فَمَا فِي أَمْرِهَا شَكٌّ، فَتَنَاوَمَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا ظَنَّتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ عَمَدَتْ إِلَى مُوسَى حَادٍّ، وَأَهْوَتْ بِهِ لِتَحْلِقَ مِنْ حَلْقِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَهُ فَرَآهَا، وَقَدْ أَهَوَتْ بِالْمُوسَى إِلَى حَلْقِهِ فَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهَا أَرَادَتْ قَتْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا وَقُتِلَ، وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى.
(وَضَرْبٌ آخَرُ مِنَ السِّحْرِ) وَهُوَ الِاحْتِيَالُ فِي إِطْعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلَّدَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالدُّخْنِ الْمُسْدِرَةِ السَّكْرَةِ، نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا طَعِمَهُ إِنْسَانٌ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ، وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ مَعَ أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ، وَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي طَعَامٍ حَتَّى يَأْكُلَهُ فَتَذْهَبَ فِطْنَتُهُ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مِمَّا لَوْ كَانَ تَامَّ الْفِطْنَةِ لَأَنْكَرَهَا، فَيَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ مَسْحُورٌ.
" وَحِكْمَةٌ كَافِيَةٌ تُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ " مَخَارِيقُ وَحِيَلٌ لِمَا يَدَّعُونَ لَهَا أَنَّ السَّاحِرَ وَالْمُعَزِّمَ لَوْ قَدَرَا عَلَى مَا يَدَّعِيَانِهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَدَّعُونَ، وَأَمْكَنَهُمَا الطَّيَرَانُ وَالْعِلْمُ بِالْغُيُوبِ وَأَخْبَارِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْخَبِيئَاتِ وَالسَّرَقِ، وَالْإِضْرَارُ بِالنَّاسِ مِنْ غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَقَدَرُوا عَلَى إِزَالَةِ الْمَمَالِكِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ، وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْبُلْدَانِ بِقَتْلِ الْمُلُوكِ بِحَيْثُ لَا يَبْدَؤُهُمْ مَكْرُوهٌ، وَلَمَا مَسَّهُمُ السُّوءُ، وَلَامْتَنَعُوا مِمَّنْ قَصَدَهُمْ بِمَكْرُوهٍ، وَلَاسَتَغْنَوْا عَنِ الطَّلَبِ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمُدَّعُونَ لِذَلِكَ أَسْوَأَ النَّاسِ حَالًا، وَأَكْثَرَهُمْ طَمَعًا وَاخْتِيَالًا وَتَوَاصُلًا لِأَخْذِ دَرَاهِمِ النَّاسِ، وَأَظْهَرَهُمْ فَقْرًا وَإِمْلَاقًا. عَلِمْتَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
" وَرُؤَسَاءُ الْحَشْوِ وَالْجُهَّالُ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَسْرَعِ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ لِدَعْوَةِ السَّحَرَةِ وَالْمُعَزِّمِينَ، وَأَشَدِّهِمْ نَكِيرًا عَلَى مَنْ جَحَدَهَا، وَيَرَوْنَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا مُفْتَعَلَةً مُتَخَرِّصَةً يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا، كَالْحَدِيثِ الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنِّي سَاحِرَةٌ فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ فَقَالَتْ: وَمَا سِحْرُكِ؟ قَالَتْ: سِرْتُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِبَابِلَ لِطَلَبِ السِّحْرِ، فَقَالَا لِي: يَا أَمَةَ اللهِ لَا تَخْتَارِي عَذَابَ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَأَبَيْتُ، فَقَالَا لِي: اذْهَبِي فَبُولِي عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ، فَذَهَبْتُ لِأَبُولَ عَلَيْهِ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَقُلْتُ: لَا فَعَلْتُ، وَجِئْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: مَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَا: مَا فَعَلْتِ، اذْهَبِي فَبُولِي عَلَيْهِ، فَذَهَبْتُ وَفَعَلْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا قَدْ خَرَجَ مِنْ فَرَجِي مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ حَتَّى صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُمَا فَقَالَا: ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ عَنْكِ
50
وَقَدْ أَحْسَنْتُ السِّحْرَ، فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَا: لَا تُرِيدِينَ شَيْئًا فَتُصَوِّرِينَهُ فِي وَهْمِكِ إِلَّا كَانَ، فَصَوَّرْتُ فِي نَفْسِي حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَإِذَا أَنَا بِالْحَبِّ، فَقُلْتُ لَهُ: انْزَرِعْ، فَانْزَرَعَ وَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ سُنْبُلًا، فَقُلْتُ لَهُ: انْطَحِنْ وَانْخَبِزْ إِلَى آخِرِ الْأَمْرِ حَتَّى صَارَ خُبْزًا، وَإِلَى كُنْتُ لَا أُصَوِّرُ فِي نَفْسِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: لَيْسَتْ لَكِ تَوْبَةٌ.
" فَيَرْوِي الْقُصَّاصُ وَالْمُحَدِّثُونَ الْجُهَّالُ مِثْلَ هَذَا لِلْعَامَّةِ فَتُصَدِّقُهُ وَتَسْتَعِيدُهُ وَتَسْأَلُ بَعْضَهُمْ أَنْ يُحَدِّثَهَا بِحَدِيثِ سَاحِرَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَيَقُولُ لَهَا: إِنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ أَخَذَ سَاحِرَةً فَأَقَرَّتْ لَهُ بِالسِّحْرِ فَدَعَا الْفُقَهَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حُكْمِهَا فَقَالُوا: الْقَتْلُ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: لَسْتُ
أَقْتُلُهَا إِلَّا تَغْرِيقًا، قَالَ: فَأَخَذَ رَحَى الْبِزْرِ فَشَدَّهَا فِي رِجْلِهَا، وَقَذَفَهَا فِي الْفُرَاتِ فَقَامَتْ فَوْقَ الْمَاءِ مَعَ الْحَجَرِ تَنْحَدِرُ مَعَ الْمَاءِ فَخَافَا أَنْ تَفُوتَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: مَنْ يُمْسِكُهَا وَلَهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَرَغِبَ رَجُلٌ مِنَ السَّحَرَةِ كَانَ حَاضِرًا فِيمَا بَذَلَهُ، فَقَالَ: أَعْطُونِي قَدَحَ زُجَاجٍ فِيهِ مَاءٌ، فَجَاءُوهُ بِهِ فَقَعَدَ عَلَى الْقَدَحِ، وَمَضَى إِلَى الْحَجَرِ فَشَقَّ الْحَجَرَ بِالْقَدَحِ فَتَقَطَّعَ الْحَجَرُ قِطْعَةً قِطْعَةً فَغَرَقَتِ السَّاحِرَةُ - فَيُصَدِّقُونَهُ، وَمَنْ صَدَّقَ هَذَا فَلَيْسَ يَعْرِفُ النُّبُوَّةَ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا سَحَرَةً، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٢٠: ٦٩).
وَقَدْ أَجَازُوا مِنْ فِعْلِ السَّاحِرِ مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ هَذَا وَأَفْظَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُحِرَ، وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِيهِ: " إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ، وَلَمْ أَقُلْهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ " وَأَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً سَحَرَتْهُ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ وَمِشْطٍ وَمُشَاقَةٍ حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا سَحَرَتْهُ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ، وَهُوَ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ فَاسْتُخْرِجَ، وَزَالَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ الْعَارِضُ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى مُكَذِّبًا لِلْكُفَّارِ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتْبَعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٢٥: ٨) وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ وَضْعِ الْمُلْحِدِينَ تَلَعُّبًا بِالْحَشْوِ وَالطَّغَامِ، وَاسْتِجْرَارًا لَهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِإِبْطَالِ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْقَدْحِ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِعْلِ السَّحَرَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَجْمَعُ بَيْنَ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِثْبَاتِ مُعْجِزَاتِهِمْ، وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٢٠: ٦٩) فَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ مَنْ كَذَّبَهُ اللهُ وَأَخْبَرَ
51
بِبُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَانْتِحَالِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْيَهُودِيَّةُ بِجَهْلِهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ ظَنًّا
مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي الْأَجْسَادِ، وَقَصَدَتْ بِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ عَلَى مَوْضِعِ سِرِّهَا، وَأَظْهَرَ جَهْلَهَا فِيمَا ارْتَكَبَتْ وَظَنَّتْ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ نُبُوَّتِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ ضَرَّهُ، وَخَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الرُّوَاةِ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظُ زِيدَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ.
" وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ التَّخْيِيلَاتِ، أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هِيَ عَلَى حَقَائِقِهَا وَبَوَاطِنِهَا كَظَهَائِرِهَا، وَكُلَّمَا تَأَمَّلْتَهَا ازْدَدْتَ بَصِيرَةً فِي صِحَّتِهَا، وَلَوْ جَهِدَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى مُضَاهَاتِهَا وَمُقَابَلَتِهَا بِأَمْثَالِهَا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ، وَمَخَارِيقُ السَّحَرَةِ وَتَخْيِيلَاتُهُمْ إِنَّمَا هِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْحِيلَةِ وَالتَّلَطُّفِ؛ لِإِظْهَارِ أُمُورٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمَا يَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغَ غَيْرِهِ، وَيَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ سَوَاءً " اهـ.
هَذَا جُلُّ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ فِي مَعْنَى السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ، وَعَقَدَ بَعْدَهُ بَابًا فِي ذِكْرِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ حُكْمِهِ، وَمَا يَجْرِي عَلَى مُدَّعِي ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ. وَمِنْهَا الْقَتْلُ كُفْرًا فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلشِّرْكِ وَالْمُسْتَلْزِمَةِ لِلرَّيْبِ
فِي مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ يُثْبِتُونَ مَا أَنْكَرَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْجِنِّ، وَاسْتِخْدَامِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَنْ يَتَوَسَّلُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْجِنِّ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ السِّحْرِيَّةِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ قَطْعًا، كَرَابِطِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى السَّوْأَتَيْنِ كَمَا عَلِمْتُ مِنْ بَعْضِ الْمُخْتَبِرِينَ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ بِكِتَابَةِ الْعَزَائِمِ وَالْحُجُبِ لِلْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَبَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَفَاسِدُ فِي ذَلِكَ كَبِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي تَفْسِيرِ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٧: ٢٧).
52
عَوْدٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ
لَمَّا أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آيَةَ اللهِ تَعَالَى فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَيْ: أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَأَرْكَانُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ أَيْ: رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ - كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ عَلِيمٍ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أَيْ: قَدْ وَجَّهَ إِرَادَتَهُ لِسَلْبِ مُلْكِكُمْ مِنْكُمْ، وَإِخْرَاجِكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ بِأَنْ يَسْتَمِيلَ بِهِ الشَّعْبَ الْمِصْرِيَّ، فَيَتْبَعَهُ فَيَنْتَزِعَ مِنْكُمُ الْمُلْكَ، وَيَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَكُمْ، وَيَلِي ذَلِكَ إِخْرَاجُ الْمَلِكِ وَعُظَمَاءِ رِجَالِهِ مِنَ الْبِلَادِ لِئَلَّا يُنَاوِئُوهُ لِاسْتِعَادَةِ الْمُلْكِ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ مُتَغَلِّبَةُ التُّرْكِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوا جَمِيعَ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنَ الْبِلَادِ التُّرْكِيَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُمْ.
وَفِي مَعْنَى الْقَوْلِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ مَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ مُرَاجَعَتِهِمْ لِمُوسَى وَأَخِيهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (١٠: ٧٨).
وَمَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا تَبَعًا لِقَوْلِهِ هُوَ، الَّذِي حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٢٦: ٣٤، ٣٥) أَيْ: رَدَّدُوا قَوْلَهُ، وَصَارَ يُلْقِيهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَدَأْبِ النَّاسِ فِي نَقْلِ كَلَامِ مُلُوكِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ وَتَرْدِيدِهِ إِظْهَارًا لِلْمُوَافَقَةِ عَلَيْهِ وَتَعْمِيمًا لِتَبْلِيغِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِكَلِمَةِ " بِسِحْرِهِ " كَمَا صَرَّحَ هُوَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا دُونَهُ خَوْفًا وَانْزِعَاجًا، وَأَقَلَّ مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الطَّعْنِ فِي دَعْوَةِ مُوسَى،
وَلَكِنْ ذَكَرَهَا السَّحَرَةُ فِي تَنَاجِيهِمْ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ أَجْدَرُ بِذِكْرِهَا فَحَكَاهَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ طَهَ: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٢٠: ٦٢ - ٦٤).
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ لَيْسَ هُوَ الْمُقَابِلَ لِلنَّهْيِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْإِدْلَاءِ بِالرَّأْيِ فِي الشُّورَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ: وَتَآمَرَ الْقَوْمُ وَائْتَمَرُوا، مِثْلَ تَشَاوَرُوا وَاشْتَوَرُوا. وَمُرْنِي بِمَعْنَى أَشِرْ عَلَيَّ. قَالَ بَعْضُ فُتَّاكِهِمْ:
أَلَمْ تَرَ أَنِّي لَا أَقُولُ لِصَاحِبٍ إِذَا قَالَ مُرْنِي - أَنْتَ مَا شِئْتَ فَافْعَلِ وَلَكَنَّنِي أَفْرِي لَهُ فَأُرِيحُهُ
بِبَزْلَاءَ تُنْجِيهِ مِنَ الشَّكِّ فَيْصَلِ
وَقَالَ فِي مَادَّةِ (ب ز ل) وَمِنَ الْمَجَازِ: بَزَلَ الْأَمْرَ وَالرَّأْيَ: اسْتَحْكَمَ، وَأَمْرٌ بَازِلٌ، وَتَقُولُ: خَطْبٌ بَازِلٌ، لَا يَكْفِيهِ إِلَّا رَأْيٌ قَارِحٌ، وَإِنَّهُ لَذُو بَزْلَاءَ؛ أَيْ: ذُو صُرَيْمَةٍ مُحْكَمَةٍ، وَهُوَ نَهَّاضٌ بِبَزْلَاءَ؛ أَيْ: بِخُطَّةٍ عَظِيمَةٍ قَالَ:
53
(أَقُولُ) : وَمَعْنَى بَيْتَيِ الْفَاتِكُ أَنَّ صَاحِبَهُ إِذَا اسْتَشَارَهُ فَقَالَ لَهُ: مُرْنِي - أَيْ أَشِرْ عَلَيَّ - لَا يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ مَا تَشَاءُ إِعْرَاضًا عَنْ نُصْحِهِ أَوْ عَجْزًا مِنْهُ، بَلْ يَفْرِي؛ أَيْ: يَقْطَعُ لَهُ الرَّأْيَ الْمُحْكَمَ بِخُطَّةٍ بَزْلَاءَ؛ أَيْ: قَوِيمَةٍ مُحْكَمَةٍ، تُخْرِجُهُ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَتَكُونُ فَيْصَلًا؛ أَيْ: فَاصِلَةً بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَالْبَزْلَاءُ وَبُزُولُ الْأَمْرِ وَالرَّأْيِ مَأْخُوذٌ مِنْ بُزُولِ نَابِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَنْشَقَّ وَيَخْرُجَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ فَهُوَ بَازِلٌ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا لَقَبَ الْبَازِلِ عَلَى الرَّجُلِ الْقَوِيِّ الْمُحْكَمِ التَّجْرِبَةِ.
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ أَيْ: قَالَ الْمَلَأُ لِفِرْعَوْنَ
حِينَ اسْتَشَارَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟ أَرْجِهْ؛ أَيْ: أَرْجِئْ وَأَخِّرْ أَمْرَهُ وَأَمْرَ أَخِيهِ، وَلَا تَفْصِلْ فِيهِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَرْسِلْ فِي مَدَائِنِ مُلْكِكَ رِجَالًا أَوْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الشُّرْطَةِ وَالْجُنْدِ حَاشِرِينَ؛ أَيْ: جَامِعِينَ سَائِقِينَ لِلسَّحَرَةِ مِنْهَا - فَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ وَالسَّوْقُ - وَإِنَّمَا يُوجَدُ السَّحَرَةُ فِي الْمَدَائِنِ الْجَامِعَةِ الْآهِلَةِ بِدُورِ الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، فَإِنْ تُرْسِلْهُمْ: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ بِفُنُونِ السِّحْرِ مَاهِرٍ فِيهَا، وَهُمْ يَكْشِفُونَ لَكَ كُنْهَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فَلَا يَفْتَتِنُ بِهِ أَحَدٌ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ (سَاحِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ هُنَا، وَفِي يُونُسَ (سَحَّارٍ) بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لَهُ، وَجَاءَ ذَلِكَ بِالْإِمَالَةِ وَعَدِمَهَا، وَبِهَا قَرَأَ الْجَمِيعُ فِي الشُّعَرَاءِ، وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ هَكَذَا (سحر) لِيَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَوَجْهُهُمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ كُلَّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فِي مَدَائِنِ الْبِلَادِ خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمَهَرَةَ الْمُتَمَرِّنِينَ فِي السِّحْرِ الْمُكْثِرِينَ مِنْهُ - أَوْ أَنَّ بَعْضَ
مَلَئِهِ طَلَبَ هَؤُلَاءِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِإِتْيَانِ مُوسَى بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ (٢٠: ٥٧، ٥٨) وَطَلَبَ آخَرُونَ حَشْرَ جَمِيعِ السَّحَرَةِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَعَلَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُقْتَصِدِينَ أَوِ الْمُقِلِّينَ مِنَ السِّحْرِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْمُكْثِرِينَ مِنْهُ - فَبَيَّنَتِ الْقِرَاءَتَانِ كُلَّ مَا قِيلَ مَعَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ.
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ أَيْ: وَجَاءَ فِرْعَوْنَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ حَشَرَهُمْ لَهُ أَعْوَانُهُ وَشُرْطَتُهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ وَلَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ عَدَدَهُمْ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا رُوِيَ فِيهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ عَشَرَاتُ الْأُلُوفِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا عِنْدَنَا، وَلَا فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لِفِرْعَوْنَ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا عَظِيمًا يُكَافِئُ مَا يُطْلَبُ مِنَّا مِنَ الْعَمَلِ الْعَظِيمِ إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ لِمُوسَى، ذُكِرَ قَوْلُهُمْ هُنَا بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَأَنَّهُ جَوَابُ سَائِلٍ مَاذَا قَالُوا؟ وَجَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ (٢٦: ٤١) وَهُوَ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْإِخْبَارِ الدَّالِّ عَلَى إِيجَابِ الْأَجْرِ، وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ وَالْمُخْتَارُ لِيُوَافِقَ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ بِإِثْبَاتِهَا هُنَا وَهُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: قَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا: نَعَمْ؛ إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا
عَظِيمًا وَإِنَّكُمْ مَعَ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْمَالِيِّ وَالْمَادِّيِّ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ جَانِبِنَا السَّامِي، فَيَجْتَمِعُ لَكُمُ الْمَالُ وَالْجَاهُ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى الدُّنْيَا وَمَجْدِهَا، أَكَّدَ لَهُمْ نَيْلَ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَمَا زَادَهُمْ عَلَيْهِ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ؛ لِاهْتِمَامِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَخَوْفِهِمْ مِنْ عَاقِبَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: نَعَمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا؛ لَأَفَادَ إِجَابَةَ طَلَبِهِمْ، وَلَوْ قَالَ فِي مِنْحَةِ الْقُرْبَى: وَتَكُونُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، لَكَفَى، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِـ (إِنَّ) وَبِتَحْلِيَةِ الْخَبَرِ بِاللَّامِ، وَبِعَطْفِ التَّلْقِينِ؛ أَيْ عَطْفِ: " وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " عَلَى
الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَرْفُ الْإِيجَابِ " نَعَمْ " وَهِيَ " إِنَّ لَكُمْ لَأَجْرًا " الْحَالَةُ وَهِيَ كَوْنُكُمْ أَنْتُمُ الْغَالِبِينَ دُونَ مُوسَى لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٢٦: ٤٢) وَحَذْفُهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهَا مَرَّةً دُونَ أُخْرَى فَأَفَادَ أَنَّهُ كَرَّرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ وَالْوَعْدَ وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ آخَرُ.
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَنَظَائِرِهِ؛ أَيْ: قَالَ الْسَّحَرَةُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ وَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ مَا وَعَدَهُمْ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا عِنْدَكَ أَوَّلًا، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لِمَا عِنْدَنَا مِنْ دُونِكَ، أَمَّا تَخْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ فَلِثِقَتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِدَادِهِمْ بِسِحْرِهِمْ، وَإِرْهَابًا لَهُ، وَإِظْهَارًا لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَكُونُ أَبْصَرَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ بَعْدَ وُقُوفِهِ عَلَى مُنْتَهَى شَوْطِ خَصْمِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ التَّخْيِيرِ مُرَاعَاةُ الْأَدَبِ لَا وَجْهَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ مَقَامُهُمْ بِحَضْرَةِ مَلِكِهِمُ الَّذِي يَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ فِيهِمْ، وَمَا طَلَبُوهُ مِنْهُ، وَمَا وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ - كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَحْتَقِرُوا خَصْمَهُ لَا أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ إِذَا تَلَاقَوْا لِلْمُبَارَاةِ، وَهُوَ مَا وَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهِ التَّعْلِيلَ، وَمَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ عِلَّتَهُ إِظْهَارُ التَّجَلُّدِ فَضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَرَوْا مِنْ مُوسَى شَيْئًا بِأَعْيُنِهِمْ يَقْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا أَنَّهُ أَلْقَى عَصَاهُ بِحَضْرَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا فَاسْتَعَدُّوا لِمُقَابَلَتِهِ بِعِصِيٍّ وَحِبَالٍ كَثِيرَةٍ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ وَإِلَى كُلِّ نَاظِرٍ أَنَّهَا ثَعَابِينُ تَسْعَى فَيُبْطِلُونَ سِحْرَهُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ كَمَا قَالَ مَلِكُهُمْ: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ (٢٠: ٥٨).
وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ عَنْ إِلْقَائِهِمْ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي الْبَدْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ تَغْيِيرُهُمْ لِلنَّظْمِ بِتَعْرِيفِ الْخَبَرِ وَتَوْسِيطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ " نَحْنُ " وَتَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ بِهِ، وَفِي سُورَةِ طَهَ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٢٠: ٦٥) وَفِيهِ مِنَ التَّوْكِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي صَرَّحُوا بِذِكْرِهَا هُنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِجَعْلِ الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ " ثَالِثُهَا " وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّهُ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فِيمَا لَا يَخِلُّ بِأَدَاءِ الْمَعْنَى، وَلَا يُنَافِي الْبَلَاغَةَ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَزِيدَ تَفَنُّنٍ قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيَةَ دَقَائِقِ الْمَعْنَى مُكَرَّرَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مُنْتَهَى الْعُسْرِ، وَكَثِيرًا
مَا يَكُونُ مُتَعَذِّرًا، فَلَوْ لَمْ يُؤَكَّدِ
الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ هَاهُنَا بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ " نَحْنُ " لَمَا أَفَادَ مَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي أَوَّلِيَّةِ الْإِلْقَاءِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي سُورَةِ طَهَ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي وَحَّدَ بَيْنَهُمَا بِجَعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَى رَغْبَةِ السَّحَرَةِ فِي التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَأَيُّ خَطِيبٍ أَوْ كَاتِبٍ يَقْدِرُ عَلَى إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى بِأُسْلُوبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ، وَأَيُّ مُتَرْجِمٍ تُرْكِيٍّ أَوْ إِفْرِنْجِيٍّ يَفْقَهُ هَذَا وَيُؤَدِّيهِ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ؟
قَالَ أَلْقُوا وَفِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا (٢٠: ٦٦) وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى رَغْبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَبْقِهِمْ لِلْإِلْقَاءِ، وَلَعَلَّهُ نَطَقَ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ الْإِضْرَابُ فَقَالَ: بَلْ أَلْقُوا أَنْتُمْ مِنْ دُونِي ثُمَّ أَعَادَ كَلِمَةً (أَلْقُوا) وَحْدَهَا؛ لِتَأْكِيدِ رَغْبَتِهِ، وَالْإِيذَانِ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ، وَفِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَظْهَرَ اسْمَ مُوسَى الَّذِي أَضْمَرَهُ هُنَا، وَفِي سُورَةِ طَهَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِخِطَابِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِهِ بِالتَّخْيِيرِ، فَالْمَقَامُ فِيهَا مَقَامُ الْإِضْمَارِ حَتْمًا، وَأَمَّا إِظْهَارُهُ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرٌ لِنِدَاءِ السَّحَرَةِ إِيَّاهُ وَتَخْيِيرِهِمْ لَهُ، فَأَوَّلُ آيَةِ يُونُسَ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا (١٠: ٨٠) وَقَبْلَهَا طَلَبُ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ، وَمَجِيئُهُمْ وَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ الْأَجْرَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وَإِجَابَتُهُ إِيَّاهُمْ، فَهِيَ أَوْلَى مِنْ آيَةِ يُونُسَ بِمَا ذَكَرَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَإِنَّهَا فَائِدَةٌ نَافِلَةٌ ذَاتُ شَأْنٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِمَا يُلْقُونَ مَهْمَا عَظُمَ أَمْرُهُ وَكَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي عَدَمَ ذِكْرِهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِلْقَاءِ مَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ مِنَ السِّحْرِ الْمُنْكَرِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِفِعْلِ السِّحْرِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِأَنْ يَتَقَدَّمُوهُ فِيمَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَأَرَادَ التَّوَسُّلَ بِهِ إِلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ السِّحْرِ لَا إِثْبَاتِهِ، وَإِلَى بِنَاءِ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَسِيلَةٌ لِإِبْطَالِهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (١٠: ٨١، ٨٢) وَمِثْلُهُ تَوَسُّلُ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا إِلَى إِظْهَارِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ لِعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَى كُلًّا مِنَ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي (٦: ٧٧) ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ
عَلَى كَوْنِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَبًّا، وَإِسْمَاعُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ إِبْطَالِ رُبُوبِيَّتِهَا، كُلُّهَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦: ٧٩).
57
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أَيْ: فَلَمَّا أَلْقَوْا مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ كَمَا فِي سُورَتَيِ الشُّعَرَاءِ وَطَهَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ، وَمِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفِي سُورَةِ طَهَ: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٢٠: ٦٦) وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أَيْ: أَوْقَعُوا فِي قُلُوبِهِمُ الرَّهْبَ وَالْخَوْفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٢٠: ٦٧، ٦٨) وَأَصْلُ الِاسْتِرْهَابِ مُحَاوَلَةُ الْإِرْهَابِ وَطَلَبُ وُقُوعِهِ بِأَسْبَابِهِ، وَقَدْ قَصَدُوا ذَلِكَ فَحَصَلَ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أَيْ: مَظْهَرُهُ كَبِيرٌ، وَتَأْثِيرُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ؛ خَيَّلُوا إِلَى الْأَبْصَارِ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ صَنْعَةٍ وَخَيَالٍ. ثُمَّ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخَشَبًا طِوَالًا " قَالَ " فَأَقْبَلَتْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، ثُمَّ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، وَأَنَّ الْحَيَّاتِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا بِخَيَالِ سِحْرِهِمْ كَانَتْ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ ٧٠ أَلْفًا، وَذَكَرَ غَيْرُهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّهْوِيلِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَوْرَاتِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَنَّ فِرْعَوْنَ دَعَا الْحُكَمَاءَ وَالسَّحَرَةَ " فَفَعَلَ عَرَّافُو مِصْرَ أَيْضًا بِسِحْرِهِمْ كَذَلِكَ: طَرَحُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ فَصَارَتِ الْعِصِيُّ ثَعَابِينَ، وَلَكِنْ عَصَا هَارُونَ ابْتَلَعَتْ عِصِيَّهُمْ ".
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سِرَّ صِنَاعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمَا أَرَاهُ اسْتِنْبَاطًا عِلْمِيًّا لَا نَقْلًا تَارِيخِيًّا، قَالَ الْإِمَامُ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى. وَقَالَ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَيُّلًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً قَدْ مُلِئَتْ زِئْبَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أُدْمٍ؛ أَيْ: جِلْدٍ، مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا، وَقَدْ حَفَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَ الْمَوَاضِعِ أَسْرَابًا، وَجَعَلُوا أَزْوَاجًا مَلَئُوهَا نَارًا فَلَمَّا طُرِحَتْ عَلَيْهِ، وَحَمِيَ الزِّئْبَقُ حَرَّكَهَا؛
لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الزِّئْبَقِ إِذَا أَصَابَتْهُ النَّارُ أَنْ يَطِيرَ، فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِضَرْبٍ مِنَ الْحُلِيِّ: مَسْحُورٌ؛ أَيْ: مُمَوَّهٌ عَلَى مَنْ رَآهُ مَسْحُورًا بِهِ اهـ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سِحْرُهُمْ لِأَعْيُنِ النَّاسِ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ الصِّنَاعِيَّةِ إِذَا صَحَّ خَبَرُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحِيلَةٍ أُخْرَى كَإِطْلَاقِ أَبْخِرَةٍ أَثَّرَتْ فِي الْأَعْيُنِ فَجَعَلَتْهَا تُبْصِرُ ذَلِكَ أَوْ يَجْعَلُ الْعِصِيَّ وَالْحِبَالَ عَلَى صُورَةِ الْحَيَّاتِ، وَتَحْرِيكَهَا بِمُحَرِّكَاتٍ خَفِيَّةٍ سَرِيعَةٍ لَا تُدْرِكُهَا أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ وَتُسَمَّى السِّيمِيَاءَ.
58
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَقَدْ جَاءَ وَقْتُهَا، فَأَلْقَاهَا كَمَا أُمِرَ، فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْإِفْكِ، ذَكَرَ هُنَا وَفِي سُورَةِ طَهَ أَمْرَهُ لِمُوسَى بِالْإِلْقَاءِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ فَعَلَ الْإِلْقَاءَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَمْرَ فَحَذَفَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ فِي السُّوَرِ وَالْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي لِلْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، قَرَأَ حَفْصٌ " تَلْقَفُ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الثُّلَاثِي، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ " تَتَلَقَّفُ "، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى لَقْفِ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ.
مَا مَعْنَى لَقِفَ الْعَصَا لِلْإِفْكِ؟ الْإِفْكُ - بِالْكَسْرِ -: اسْمٌ لِمَا يُؤْفَكُ؛ أَيْ: يُصْرَفُ وَيُحَوَّلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّلْبِيسِ وَالشَّرِّ وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَبِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ أَفَكَ بِالْفَتْحِ " كَجَلَسَ وَضَرَبَ " وَيُقَالُ: أَفِكَ بِالْكَسْرِ " كَتَعِبَ " قَالَ فِي الْأَسَاسِ: أَفِكَهُ عَنْ رَأْيِهِ: صَرَفَهُ، وَفُلَانٌ مَأْفُوكٌ عَنِ الْخَيْرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِفْكُ كُلُّ مَصْرُوفٍ عَنْ وَجْهِهِ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرِّيَاحِ الْعَادِلَةِ عَنِ الْمَهَابِّ: مُؤْتَفِكَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٦٩: ٩) وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣: ٥٣) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٩: ٣٠) أَيْ: يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الصِّدْقِ فِي
الْمَقَالِ إِلَى الْكَذِبِ، وَعَنِ الْجَمِيلِ فِي الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٥١: ٩)، أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَقَوْلُهُ: أَجِئْتَنَا لَتَأَفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا (٤٦: ٢٢) فَاسْتَعْمَلُوا الْإِفْكَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ صَرْفٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ - فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ لَمَّا قُلْنَا اهـ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ اسْتِعْمَالِ الْمَادَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ
59
الْإِفْكَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ الْكَذِبُ، وَمَا يُؤَدِّي الْمُرَادُ مِنَ الْكَذِبِ كَالْإِبْهَامِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّجَوُّزَاتِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْمَعَارِيضِ الَّتِي تُوهِمُ السَّامِعَ أَوِ الْقَارِئَ لَهَا مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَعَمَلِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ.
وَأَمَّا لَقْفُ الشَّيْءِ وَتَلَقُّفُهُ - بِالتَّشْدِيدِ - فَهُوَ تَنَاوُلُهُ بِحِذْقٍ وَسُرْعَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي إِذَا شَغَلَتْ قَوْمًا فُرُوجُهُمْ رَحْبُ الْمَسَالِكِ نِهَاضٌ بَبَزْلَاءَ
كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةَ فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ
قَالَ الرَّاغِبُ: لَقِفْتُ الشَّيْءَ أَلْقَفُهُ " أَيْ مِنْ بَابِ عَلِمَ " وَتَلَقَّفْتُهُ تَنَاوَلْتُهُ بِالْحِذْقِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ بِالْفَمِ أَوِ الْيَدِ قَالَ: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ اهـ. وَمِنْ مَجَازِهِ تَلَقُّفُ الْعِلْمِ أَيْ: تَلَقِّيهِ بِسُرْعَةٍ وَحِذْقٍ، وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَأْفِكُونَ إِمَّا مَوْصُولَةٌ وَإِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَخَرَّجُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ مِنْ كَوْنِ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْتَقَمَتْ حِبَالَ السَّحَرَةِ وَعِصِيَّهُمْ وَاسْتَرَطَتْهَا؛ أَيِ: ابْتَلَعَتْهَا فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْيَهُودِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ نَصِّ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيهِ، وَيُنَافِيهِ كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ عَمَلَهُمْ هَذَا، فَأَتَتْ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ بُطْلَانِهِ وَحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ بِسُرْعَةٍ، فَإِنْ كَانَ إِفْكُهُمْ عِبَارَةً عَنْ تَأْثِيرٍ أَحْدَثُوهُ فِي الْعَيْنِ، فَلَقْفُهَا إِيَّاهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَتِهِ وَإِبْطَالِهِ وَرُؤْيَةِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ عَلَى حَقِيقَتِهَا - وَإِنْ كَانَ تَحْرِيكًا لَهَا بِمُحَرِّكَاتٍ خَفِيَّةٍ سَرِيعَةٍ، فَكَذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ بِجَعْلِهَا مُجَوَّفَةً مَحْشُوَّةً بِالزِّئْبَقِ وَتَحْرِيكِهِ إِيَّاهَا بِفِعْلِ الْحَرَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَارًا أُعِدَّتْ لَهَا أَوِ الشَّمْسَ حِينَ أَصَابَتْهَا، فَلَقْفُهَا لِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِعَمَلٍ مِنَ الْحَيَّةِ أَخَرَجَتْ بِهِ الزِّئْبَقَ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَانْكَشَفَتْ بِهِ الْحِيلَةُ، قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِ الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ مَا مَعْنَاهُ أَوْ مُحَصِّلُهُ عَلَى مَا نَتَذَكَّرُ أَنَّ إِبْطَالَهَا لِسِحْرِ السَّحَرَةِ أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى إِلْقَائِهَا أَنْ رَأَى النَّاسُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ عَلَى أَصْلِهَا، وَلَوِ ابْتَلَعَتْهَا لَبَقِيَ الْأَمْرُ مُلْتَبِسًا عَلَى النَّاسِ؛ إِذْ قُصَارَاهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ السَّحَرَةِ وَمُوسَى قَدْ أَظْهَرَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَلَكِنَّ أَحَدَ الْغَرِيبَيْنِ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ فَأَخْفَاهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ وَلَا مَفْهُومٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ زَوَالُ غِشَاوَةِ السِّحْرِ وَتَخْيِيلِهِ حَتَّى رَأَى النَّاسُ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ الَّتِي أَلْقَاهَا
السَّحَرَةُ لَيْسَتْ إِلَّا حِبَالًا وَعِصِيًّا لَا تَسْعَى وَلَا تَتَحَرَّكُ، وَأَنَّ عَصَا مُوسَى لَمْ تَزَلْ حَيَّةً تَسْعَى - هُوَ الَّذِي مَازَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعُرِفَتْ بِهِ الْآيَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحِيلَةُ الصِّنَاعِيَّةُ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّ عَصَا مُوسَى أَزَالَتْ هَذَا التَّخَيُّلَ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّقْفِ، وَلَكِنْ لَا نَعْلَمُ بِمَاذَا كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ إِلَهِيَّةٌ حَقِيقَةٌ لَا أَمْرٌ صِنَاعِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَ صِفَتَهُ وَحَقِيقَتَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهُ فِي ابْتِلَاعِ الْعَصَا لِلْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ إِذَا فُسِّرَتْ أَلْفَاظُهُ بِمَعَانِيهَا الْحَقِيقَةِ، فَالَّذِي بَطَلَ كَانَ عَمَلًا عَمِلُوهُ، وَكَيْدًا
60
كَادُوهُ، وَلَيْسَ شَيْئًا مَادِّيًّا أَوْجَدُوهُ، كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ طَهَ وَسُورَةِ يُونُسَ؛ أَيْ: فَثَبَتَ الْحَقُّ وَفَسَدَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّخْيِيلِ وَذَهَبَ تَأْثِيرُهُ.
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ أَيْ: فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ فِي عِيدٍ لَهُمْ وَيَوْمِ زِينَةٍ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ، ضَرَبَهُ مُوسَى مُوعِدًا لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ كَمَا بَيَّنَ فِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٢٠: ٥٩) لِتَكُونَ الْفَضِيحَةُ ظَاهِرَةً مُبَيَّنَةً لِجَمَاهِيرِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ فَغَلَبَهُمْ مُوسَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِ وَصُنْعِهِ. وَانْقَلَبُوا؛ أَيْ: عَادُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمَعِ صَاغِرِينَ أَذِلَّةً بِمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْخَيْبَةِ، أَوْ صَارُوا صَاغِرِينَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا بِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّحَرَةِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلِفِرْعَوْنَ بِالتَّبَعِ أَوْ لِلْجَمِيعِ عَلَى سَوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ السَّحَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ فَسَّرَهُ الْكَشَّافُ بِقَوْلِهِ: وَخَرُّوا سُجَّدًا كَأَنَّمَا أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ؛ لِشِدَّةِ خَرُورِهِمْ، وَقِيلَ: لَمْ يَتَمَالَكُوا مِمَّا رَأَوْا فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا اهـ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ظُهُورَ بُطْلَانِ سِحْرِهِمْ، وَإِدْرَاكَهُمْ فَجْأَةً لِحَقِيقَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِلْمَهُمْ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ قَدْ مَلَأَتْ عُقُولَهُمْ يَقِينًا وَقُلُوبَهُمْ إِيمَانًا فَكَانَ هَذَا الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ الْبُرْهَانِيِّ الْكَامِلِ، وَالْوِجْدَانِيِّ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ هُوَ الَّذِي أَلْقَاهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَدْنَى مَكَانٍ لِفِرْعَوْنَ وَعَظَمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ صَغَارُهُ أَمَامَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي آيَةِ سُورَةِ طَهَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٢٠: ٧٠) فَالْفَاءُ
تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : وَلِمَ قَالَ هُنَا " وَأُلْقِيَ " وَلَمْ يَقَلْ " فَأُلْقِيَ " لِيَدُلَّ عَلَى التَّعْقِيبِ أَيْضًا؟ (فَالْجَوَابُ) أَنَّ " أُلْقِيَ " هُنَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَغُلِبُوا فَهُوَ يُشَارِكُهُ بِمَا تُفِيدُهُ فَاؤُهُ مِنْ مَعْنَى التَّعْقِيبِ، وَكَوْنِهِ مِثْلَهُ أَثَرًا لِبُطْلَانِ سِحْرِ السَّحَرَةِ، وَوُقُوعِ الْحَقِّ بِثُبُوتِ آيَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ لَدَلَّ عَلَى كَوْنِ السُّجُودِ أَثَرًا لِلْغَلَبِ وَالصَّغَارِ لَا لِظُهُورِ الْحَقِّ، وَبُطْلَانِ كَيَدِ السِّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنَافِيًا لِمَا فِي سُورَتَيْ طَهَ وَالشُّعَرَاءِ.
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ الْجُمْلَةُ إِمَّا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ السَّحَرَةِ؛ أَيْ: حَالُ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ فِي سُجُودِهِمْ آمَنَّا، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : وَلِمَ لَمْ يَذْكَرْ فِي سُورَةِ طَهَ إِيمَانَهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ وَلِمَ أَخَّرَ فِيهَا اسْمَ مُوسَى، وَقَدَّمَ اسْمَ هَارُونَ؟ (فَالْجَوَابُ) عَنْهُمَا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ فَوَاصِلِ السُّوَرِ بِمَا لَا يُعَارِضُ غَيْرَهُ مِمَّا وَرَدَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَهَا، فَالْإِيمَانُ بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى هُوَ الْإِيمَانُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢٦: ١٦) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْقُرْآنَ
لَيْسَ كِتَابَ تَارِيخٍ تُدَوَّنُ فِيهِ الْقَصَصُ بِحِكَايَتِهَا كُلِّهَا كَمَا وَقَعَتْ، وَيَذْكُرُ كُلَّ مَا قِيلَ فِيهَا بِنَصِّهِ أَوْ بِتَرْجَمَتِهِ الْحَرْفِيَّةِ - وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، فَهُوَ يَذْكُرُ مِنَ الْقَصَصِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِيمَانُ، وَيَتَزَكَّى الْوِجْدَانُ، وَتَحْصُلُ الْعِبْرَةُ، وَتُؤَثِّرُ الْمَوْعِظَةُ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَعَانِي مَعَ التَّفَنُّنِ فِي الْأُسْلُوبِ وَالتَّنْوِيعِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَفَوَاصِلِ الْآيِ، وَتَوْزِيعِ الْفَوَائِدِ وَتَفْرِيقِهَا، بِحَيْثُ يُوجَدُ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا.
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ إِيمَانِ السَّحَرَةِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ السُّؤَالُ، مَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَمَا قَالَ؟ وَهَاكَ الْبَيَانُ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ قَرَأَ حَفْصٌ: آمَنْتُمْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَيُحْتَمَلُ فِيهِ تَقْدِيرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قِيَاسِيٌّ يَعْتَمِدُ فِي فَهْمِهِ عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ، وَجَرْسِ الصَّوْتِ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يُوَافِقُ سَائِرَ الْقُرَّاءِ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ عِنْدَهُمُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، أَثْبَتَ هَمْزَتَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ، عَنْ يَعْقُوبَ، وَرُوِيَ فِي إِثْبَاتِهَا تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ بِالنُّطْقِ بِهِمَا، وَتَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقُرِئَ بِذَلِكَ فِي أَمْثَالِهَا، وَالْمَعْنَى أَآمَنْتُمْ بِمُوسَى أَوْ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَآمُرَكُمْ بِذَلِكَ؟ وَفِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ (٢٠: ٧١) وَالضَّمِيرُ فِيهِ لِمُوسَى قَطْعًا؛ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّامِ تَضْمِينٌ يُفِيدُ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ وَالْخُضُوعِ الْمَعْنِيِّ، وَآمَنْتُمْ بِهِ مُتَّبِعِينَ لَهُ إِذْعَانًا لِرِسَالَتِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّضْمِينِ فِي الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنُؤْمِنُ لَبِشَرَيْنِ مِثْلَنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٢٣: ٤٧) وَقَدِ اقْتَبَسَ الْمَعَرِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فِي قَوْلِهِ:
62
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (٢٦: ١١١) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (١٧: ٩٠) وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا (١٢: ١٧) بَلْ هَذِهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ؛ أَيْ: وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَ فِرْعَوْنُ عِلَّةَ إِيمَانِهِمْ بِمَا ظَنَّهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَقِدَهُ قَوْمُهُ فِيهِمْ، فَقَالَ مُوَاصِلًا تَهْدِيدَهُ:
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا أَيْ: إِنَّ هَذَا الصَّنِيعَ الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَمُوسَى وَهَارُونُ بِالتَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ لَيْسَ إِلَّا مَكْرًا مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ بِمَا أَظْهَرْتُمْ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْغَلَبِ عَلَيْهِ مَعَ إِسْرَارِ اتِّبَاعِهِ بَعْدَ ادِّعَاءِ ظُهُورِ حُجَّتِهِ زَادَ فِي سُورَةِ طَهَ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ (٢٠: ٧١) فَأَجْمَعْتُمْ كَيْدَكُمْ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا الْمِصْرِيِّينَ بِسِحْرِكُمْ - وَهُوَ مَا كَانَ اتَّهَمَ بِهِ مُوسَى وَحْدَهُ - وَيَكُونُ لَكُمْ فِيهَا مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا هُوَ لَنَا الْآنَ مِنَ الْمُلْكِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ جَزَاءً عَلَى هَذَا الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: أُقْسِمُ لَأُقَطِّعَنَّ كَذَا وَكَذَا فِي عِقَابِكُمْ وَالتَّنْكِيلِ بِكُمْ، وَهُوَ قَطْعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، كَأَنْ يَقْطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى أَوِ الْعَكْسُ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُشَوَّهَةِ لِتَكُونُوا عِبْرَةً لِمَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْكَيْدِ لَنَا، أَوْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُلْطَانِنَا وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْخُضُوعِ لِعَظَمَتِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْعِقَابِ الَّذِي هَدَّدَ بِهِ الْبُغَاةَ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ كَوْنِ اتِّهَامِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ لَهُ وَلِلْمِصْرِيِّينَ، وَبِتَوَاطُئِهِمْ مَعَ مُوسَى لِلْإِدَالَةِ مِنْهُمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - إِنَّمَا كَانَ تَمْوِيهًا عَلَى قَوْمِهِ الْمِصْرِيِّينَ لِئَلَّا يَتَّبِعُوا السَّحَرَةَ فِي الْإِيمَانِ، وَيَقَعَ مَا خَافَهُ وَقَدَّرَهُ، وَاتَّهَمَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ عَلَى عُتُوِّهِ عَلَى الْخَلْقِ وَعُلُوِّهِ فِي الْأَرْضِ، قَدْ خَافَ عَاقِبَةَ إِيمَانِ الشَّعْبِ، وَافْتَقَرَ عَلَى ادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ إِلَى إِيهَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ مِنَ السَّحَرَةِ إِلَّا حُبًّا فِيهِمْ، وَدِفَاعًا عَنْهُمْ، وَاسْتِبْقَاءً لِاسْتِقْلَالِهِمْ فِي وَطَنِهِمْ، وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ كُلُّ مَلِكٍ، وَكُلُّ رَئِيسٍ مُسْتَبِدٍّ فِي شَعْبٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَقِضَ عَلَيْهِ بِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِ عَلَى زَعِيمٍ آخَرَ بِدَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ سِيَاسِيَّةٍ، وَمَا مِنْ شَعْبٍ عَرَفَ نَفْسَهُ وَحُقُوقَهُ وَتَعَارَفَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى صَوْنِ هَذِهِ الْحُقُوقِ إِلَّا وَتَعَذَّرَ اسْتِبْدَادُ الْأَفْرَادِ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا جَبَّارِينَ.
63
مَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ بَيَانِيَّةٌ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ التَّعْبِيرُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى فِي السُّورَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّطَيُّرِ بَيْنَ سِيَاقِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْقِصَّةِ، وَسِيَاقِ غَيْرِهَا أَنَّهُ زَادَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ اللَّامَ فِي حَرْفِ التَّسْوِيفِ فَقَالَ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٢٦: ٤٩) وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّسْوِيفَ فِي سُورَةِ طَهَ، قَالَ الْإِسْكَافِيُّ فِي هَذِهِ اللَّامِ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْرِيبِ مَا خَوَّفَهُمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَوْجُودٌ، وَقَالَ: " وَاللَّامُ لِلْحَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَوْفَ الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ الْفِعْلِ وَإِدْنَاؤُهُ
مِنَ الْوُقُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (١٦: ١٢٤) فَجَمَعَ بَيْنَ اللَّامِ وَبَيْنَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَالَهُ تَعَالَى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (١٦: ٧٧) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَكْثَرَ اقْتِصَاصًا لِأَحْوَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْثِهِ وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَانْتِهَاءِ حَالِهِ مَعَ عَدُوِّهِ، فَجُمِعَتْ لَفْظُ الْوَعِيدِ الْمُبْهَمُ مَعَ اللَّفْظِ الْمُقَرَّبِ لَهُ الْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ إِلَى اللَّفْظِ الْمُفْصِحِ لِمَعْنَاهُ، ثُمَّ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي السُّورَةِ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مِنَ اقْتِصَاصِ الْحَالِ مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ عَلَى نَقْصِ مَا فِي مَوْضِعِ الْبَسْطِ وَالشَّرْحِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ مَعَ الْإِفْصَاحِ بِهِ.
(قَالَ) :" فَأَمَّا فِي سُورَةِ طَهَ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّصْرِيحِ بِمَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ وَتَرَكَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَقَالَ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ... (٢٠: ٧١) إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بَدَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يُعَادِلُهَا، وَيُقَارِبُ مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الَّتِي هِيَ مِثْلُهَا فِي اقْتِصَاصِ أَحْوَالِهِ مِنَ ابْتِدَائِهَا إِلَى حِينِ انْتِهَائِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٢٠: ٧١) فَاللَّامُ وَالنُّونُ فِي " لَتَعْلَمُنَّ " لِإِدْنَاءِ الْفِعْلِ وَتَوْكِيدِهِ، كَمَا أَتَى بِاللَّامِ فِي الشُّعَرَاءِ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٢٦: ٤٩) لِإِدْنَاءِ الْفِعْلِ وَتَقْرِيبِهِ، فَقَدْ تَجَاوَزَ مَا فِي السُّورَتَيْنِ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إِلَى اقْتِصَاصِ الْحَالَيْنِ مِنْ إِعْلَاءِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ " اهـ.
أَقُولُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ فَائِدَتَهَا الْأُولَى الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا تَوْكِيدُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَكَتَ الْإِسْكَافِيُّ عَنِ التَّعْلِيلِ بِهَا عَلَى ظُهُورِهَا، وَعَدَمِ خَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَوَاهِدِهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى تَوْجِيهِ مَا ذَكَرُوا لِهَذِهِ اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ؛ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْفَائِدَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا تَخْلِيصُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ، نَقَلَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي، وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ اعْتَرَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (١٦: ١٢٤) وَبِقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ (١٢: ١٣) فَإِنَّ الذَّهَابَ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَلَوْ كَانَ الْحُزْنُ حَالًا لَزِمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ عَلَى فَاعِلِهِ مَعَ أَنَّهُ أَثَرُهُ (قَالَ) : وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ - وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الثَّانِي؛ قَصَدَ أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، وَالْقَصْدُ: حَالٌ، اهـ.
64
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَعْبِيرَ الْإِسْكَافِيِّ فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَوْسَعُ مِنَ التَّعْبِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِشْكَالِ، فَقَدْ قَالَ هُوَ: إِنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ وَإِدْنَائِهِ مِنَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِجَعْلِ الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ حَقِيقَةً أَوْ بِجَعْلِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ قَرِيبًا جِدًّا حَتَّى كَأَنَّهُ حَالٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا
يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ: تَخْلِيصُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَتَيْنِ يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِمْ كَمَا يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِ هُوَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا.
ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِدْقِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) مِنْ كَوْنِ فِرْعَوْنَ ذَكَرَ فِي وَعِيدِهِمُ الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ، سَوَاءٌ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيضَاحِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْارَكِ، وَرُبَّ جُمْلَةٍ أَوْ جُمَلٍ طَوِيلَةٍ تُؤَدَّى فِي الْقُرْآنِ بِجُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ أَوْ حَرْفٍ فِي كَلِمَةٍ كَاللَّامِ هُنَا، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْلَفْظِيَّةِ فِي غَيْرِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ، وَكُلُّهَا دُونَ إِعْجَازِهِ فِي بَيَانِ حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ بِالتَّرْجَمَةِ؟ وَمِثْلُهُ فِي هَذَا مَا سَبَقَ، وَمَا يَأْتِي مِنْ تَتِمَّةِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ.
(وَمِنْهَا) - أَيْ: مَبَاحِثُ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ بَيْنَ السُّوَرِ - أَنَّهُ قَالَ هُنَا: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَقَالَ فِي (طَهَ: ٧١) وَ (الشُّعَرَاءِ: ٤٩) وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْعَاطِفَيْنِ فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ بِالتَّعْقِيبِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " الْفَاءُ " بِالتَّرَاخِي الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " ثُمَّ " وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَحَدِهِمَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَفَادَ بِـ " ثُمَّ " مَعْنًى خَاصًّا، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفَادَ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) (٢٦: ٤٩) وَقَوْلِهِ: (فَلَأُقَطِّعَنَّ) (٢٠: ٧١) أَنَّ الْوَعِيدَ سَيُنَفَّذُ حَالًا فِي الْمَجْلِسِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ - أَفَادَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ (٧: ١٢٤) أَنَّ التَّصْلِيبَ نَوْعٌ آخَرُ، وَمَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، أَوْ سَيَتَأَخَّرُ عَنِ التَّقْطِيعِ فِي الزَّمَنِ بِأَنْ يَظَلُّوا بَعْدَهُ مَطْرُوحِينَ عَلَى الْأَرْضِ إِهَانَةً لَهُمْ، ثُمَّ يُعَلَّقُونَ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَوْنُ التَّصْلِيبِ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَائِدَةٌ أُخْرَى زَادَهَا فِي سُورَةِ طَهَ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَا مُنَاسِبٌ لِنَظْمِهَا، وَلَعَلَّكَ تُدْرِكُ ذَلِكَ بِالذَّوْقِ كَمَا تُدْرِكُ بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ بُحُورِ الشِّعْرِ.
وَأَوْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ الْفَنِّيَّ وَأَمْثَالَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى اجْتِنَابِنَا لِلِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ فِي الْغَالِبِ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: (١) أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، وَلَمْ نَرَ لَهَا بَيَانًا فِي التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ حَتَّى الَّتِي تَمْتَازُ بِالْعِنَايَةِ بِمِثْلِهَا.
(٢) بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الدِّقَّةِ فِي تَحْدِيدِ الْمَعَانِي، وَغَرَائِبِ الْإِيجَازِ وَالِاتِّفَاقِ فِي مَظِنَّةِ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ طَوِيلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٤: ٨٢) إِذْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ بَشَرٍ أَنْ يَحْكِيَ قِصَّةً كَقِصَّةِ مُوسَى
بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمِثْلِ هَذَا التَّحْدِيدِ لِلْمَعَانِي مَعَ
سَلَامَتِهَا كُلِّهَا مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَتَبَ ذَلِكَ كِتَابَةً، وَقَابَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مُنَقِّحًا لَهُ وَمُصَحِّحًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَرْتَجِلُ الْكَلَامَ ارْتِجَالًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَالْمُرْتَجِلِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَلَقَّاهُ فَيُؤَدِّيهِ كَمَا تَلَقَّاهُ، فَيَعْجَلُ بِهِ خَائِفًا أَنْ يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى لُقِّنَ فِيهِ نَبَأَ عِصْمَتِهِ مِنْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى كَفَلَ حِفْظَهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٨٧: ٦) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (٧٥: ١٦، ١٧) وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (٢٠: ١١٤) وَتِلْكَ ضُرُوبٌ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ، وَلِضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ أَكْبَرُ.
(٣) إِثْبَاتُ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَةٍ أُخْرَى تُؤَدِّي مَعَانِيهِ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُتَعَذَّرِ أَدَاؤُهَا بِمِثْلِهَا مِنْ لُغَتِهَا، فَتَرْجَمَتُهَا بِلُغَةٍ أُخْرَى أَوْلَى.
وَقَدْ تَصَدَّى بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِتَرْجَمَتِهِ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ الْفَقِيرَةِ الْمُلَفَّقَةِ مِنْ عِدَّةِ لُغَاتٍ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ زُعَمَاءِ التُّرْكِ عَلَى مَا يَبْتَغُونَ مِنْ سَلِّ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مِنَ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَنْ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (٢٦: ١٩٥) كَمَا ثَبَتَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ.
فَإِنِ انْخَدَعَ هَذَا الشَّعْبُ الْمُسْلِمُ بِهَذَا، سَهُلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَإِنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَمَا كَتَبَهُ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّفْسِيرِ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَبَعْدَ هَذَا يَتَحَكَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِمَا شَاءُوا، وَيُورِدُونَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ الْمُشَوَّهِ الْمَأَخُوذِ مِنْ تَرْجَمَتِهِمُ الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ - وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ لَهُمْ مَا يُرِيدُونَ مِنْ جَعْلِ التُّرْكِ أُمَّةً لَا دِينِيَّةَ، وَلَكِنْ لَنْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَالشَّعْبُ التُّرْكِيُّ رَاسِخٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَتَى عَرَفَ كَيْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُضِلِّينَ فَإِنَّهُ يَنْبِذُهُمْ نَبْذَ النَّوَاةِ.
تَتِمَّةُ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ
وَهَاهُنَا يَرِدُ سُؤَالٌ: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ السَّحَرَةِ عِنْدَمَا سَمِعُوا هَذَا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَبِمَ أَجَابُوا ذَلِكَ الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ؟ وَجَوَابُهُ هُنَا: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ هَذَا أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا، وَأَرَادُوا أَنَّهُمْ
لَا يُبَالُونَ مَا يَكُونُ مِنْ قَضَائِهِ فِيهِمْ وَقَتْلِهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، رَاجُونَ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ سَبَبًا لِقُرْبِ لِقَائِهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِحُسْنِ جَزَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَنَوْا أَنْفُسَهُمْ وَفِرْعَوْنَ جَمِيعًا، وَأَرَادُوا: إِنَّنَا وَإِيَّاكَ سَنَنْقَلِبُ إِلَى رَبِّنَا، فَلَئِنْ قَتَلْتَنَا فَمَا أَنْتَ بِخَالِدٍ بَعْدَنَا، وَسَيَحْكُمُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَدْلِهِ بَيْنَكَ وَبَيْنَنَا
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِ فِي دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَصْرِيحُ وَإِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٦: ٥٠، ٥١) وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَلَا يُنَافِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلَ.
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَقِمْتُ الشَّيْءَ وَنَقَمْتُهُ أَيْ - مِنْ بَابَيْ فَرِحَ وَضَرَبَ - إِذَا أَنْكَرْتُهُ إِمَّا بِاللِّسَانِ وَإِمَّا بِالْعُقُوبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ (٩: ٧٤)، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ (٨٥: ٨) هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا (٥: ٥٩) الْآيَةَ. وَالنِّقْمَةُ: الْعُقُوبَةُ، قَالَ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (٧: ١٣٦) إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهُ هَذَا لِـ " نَقَمَ " أَدَقُّ وَأَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ: وَنَقِمْتُ مِنْهُ كَذَا: أَنْكَرْتُهُ وَعِبْتُهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلِيَّ مِنْهُ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا (٨٥: ٨) وَهُوَ فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَكَانَ النَّقْمُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَغْفُلُ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّحَرَةُ مِنْ نَقْمِ فِرْعَوْنَ مِنْهُمْ كَانَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِنْكَارُ التَّوْبِيخِيُّ لِإِيمَانِهِمْ، وَالتُّهْمَةُ فِيهِ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَفَّذَ الْوَعِيدَ بِالِانْتِقَامِ بِالْفِعْلِ، وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا لَغَالِبُونَ (٢٨: ٣٥) أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَنْفِيذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَنِهَايَتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِنَتِيجَتِهَا، وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِيهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ فِي قِصَّتِهِ الَّتِي مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَوْلِهِ قَبْلَهُ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ عَامَّةً بَعْدَ ذِكْرِ تَكْذِيبِ قَوْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (١٠: ٣٩) وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَهَارُونَ قَوْمُهُمَا خَاصَّةً، وَهُمُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ مُوسَى بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ بَعْدَ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ عَقِبَ خَبَرِ السَّحَرَةِ، وَهُوَ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ قَدْ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: فَأَخَذْنَاهُ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٢٨: ٤٠)، وَقَدْ خَتَمَ تَعَالَى مَا قَصَّهُ هُنَا مِنْ كَلَامِ السَّحَرَةِ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَنَذْكُرُهُ تَالِينَ دَاعِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ أَيْ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا صَبْرًا وَاسِعًا تُفِيضُهُ وَتُفْرِغُهُ عَلَيْنَا إِفْرَاغًا بِتَثْبِيتِكَ إِيَّانَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَأْيِيدِنَا بِرُوحِكَ فِيهِ كَمَا يُفْرَغُ الْمَاءُ مِنَ الْقِرَبِ، حَتَّى لَا يَبْقَى
67
فِي قُلُوبِنَا شَيْءٌ مِنْ خَوْفِ غَيْرِكَ، وَلَا مِنَ الرَّجَاءِ فِيمَا سِوَى فَضْلِكَ وَنَوَالِكَ. وَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ حَالَ كَوْنِنَا مُسْلِمِينَ لَكَ مُذْعِنِينَ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، مُسْتَسْلِمِينَ لِقَضَائِكَ، غَيْرَ مَفْتُونِينَ بِتَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِ مُطِيعِينَ لَهُ فِي قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ. جَمَعُوا بِدُعَائِهِمْ هَذَا بَيْنَ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
يَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ كَمَالِ الصَّبْرِ - تَنْكِيرُهُ وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَائِهِ بِالْإِفْرَاغِ، وَهُوَ صَبُّ الْمَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ الدَّلْوِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا تَصْوِيرُنَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ فَمَأْخَذُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّجَارِبِ: أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ فِيهَا عَلَى احْتِمَالِ الْآلَامِ وَالْمَكَارِمِ بِغَيْرِ تَبَرُّمٍ وَلَا حَرَجٍ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اجْتِرَاحِ الْبَاطِلِ، وَلَا شَيْءَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ يُقَوِّي هَذِهِ الصِّفَةَ فِي النَّفْسِ، وَمَأْخَذُهُ مِنَ النَّقْلِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَوَجَبَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢٩: ٥٩) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (١٠٣: ٣) وَمِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ قَوْلُهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣: ١٧٥).
وَلَدَيْنَا مِنْ نُقُولِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الَّذِينَ كَتَبُوا أَخْبَارَ الْحُرُوبِ الْأَخِيرَةِ بِعِلَلِهَا وَفَلْسَفَتِهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ شَجَاعَةً، وَأَشَدُّ صَبْرًا عَلَى مَشَاقِّ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ يَحْرِصُ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِسُنَنِ الْخَلْقِ، وَأَشَدُّهُمْ عِنَايَةً بِفُنُونِ الْحَرْبِ - كَالشَّعْبِ الْأَلْمَانِيِّ - عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ فِي جَيْشِهِمْ، وَلِلْبِرِنْسِ بِسْمَارْكَ مُؤَسِّسِ وَحْدَتِهِمْ،
وَوَزِيرِهِمِ الْأَعْظَمِ بَلْ أَكْبَرُ سَاسَةِ أُورُبَّةَ - كَلِمَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَثْبَتْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنَارِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِ (وَقَائِعِ بِسْمَارْكَ وَمُذَكِّرَاتِهِ) الَّتِي نَشَرَهَا كَاتِمُ سِرِّهِ مِسْيُو بُوش بَعْدَ مَوْتِهِ نَكْتَفِي مِنْهَا هُنَا بِقَوْلِهِ:
" جَلَسَ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْكُ عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ فَرَأَى بُقْعَةً مِنَ الدُّهْنِ عَلَى غِطَاءِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَمَا تَنْتَشِرُ هَذِهِ الْبُقْعَةُ فِي النَّسِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَذَلِكَ يَنْفُذُ الشُّعُورُ بِاسْتِحْسَانِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ فِي أَعْمَاقِ قُلُوبِ الشَّعْبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَمَلٌ فِي الْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ (أَيْ فِي الدُّنْيَا) ذَلِكَ لَمَا اسْتَكَنَّ فِي الضَّمَائِرِ مِنْ بَقَايَا الْإِيمَانِ - ذَلِكَ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّ وَاحِدًا مُهَيْمِنًا يَرَاهُ وَهُوَ يُجَالِدُ وَيَمُوتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِدُهُ يَرَاهُ.
فَقَالَ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: أَتَظُنُّ سَعَادَتُكُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ يُلَاحِظُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةَ؟
فَأَجَابَهُ الْبِرِنْسُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُلَاحَظَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ شُعُورٌ وَوِجْدَانٌ، هُوَ بَوَادِرُ تَسْبِقُ الْفِكْرَ، هُوَ مَيْلٌ فِي النَّفْسِ وَهَوًى فِيهَا، كَأَنَّهُ غَرِيزَةٌ لَهَا؛ وَلَوْ لَاحَظُوا لَفَقَدُوا ذَلِكَ الْمَيْلَ، وَأَضَلُّوا ذَلِكَ الْوِجْدَانَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي لَا أَفْهَمُ كَيْفَ يَعِيشُ قَوْمٌ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِتَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ؟ أَوْ كَيْفَ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
68
إِيمَانٌ بِدِينٍ جَاءَ بِهِ وَحْيٌ سَمَاوِيٌّ، وَاعْتِقَادٌ بِإِلَهٍ يُحِبُّ الْخَيْرَ، وَحَاكِمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْفَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ ".
ثُمَّ أَطَالَ فِي ذَلِكَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْلَا عَقِيدَتُهُ الدِّينِيَّةُ لَمَا خَدَمَ سُلْطَانَهُ وَعَاهِلَهُ (الْإِمْبِرَاطُورَ) سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خَافَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ عَاقِبَةَ تَرْكِهِ لِمُوسَى حُرًّا مُطْلَقًا فِي مِصْرَ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَا قَالُوهُ لَهُ، وَمَا أَجَابَهُمْ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ جَوَابِهِ فِي مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنْ نُصْحِهِ لَهُمْ، وَمَا دَارَ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ أَيْ: قَالُوا لَهُ: أَتَتْرُكُ مُوسَى وَقَوْمَهُ أَحْرَارًا آمِنِينَ لِتَكُونَ عَاقِبَتَهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا قَوْمَكَ عَلَيْكَ فِي أَرْضِ مِصْرَ بِإِدْخَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ، أَوْ جَعْلِهِمْ تَحْتَ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمْ، وَيَتْرُكَكَ مَعَ آلِهَتِكَ كَالشَّيْءِ اللَّقَا، فَيَظْهَرُ لِلْمِصْرِيِّينَ عَجْزُكَ وَعَجْزُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ إِيمَانِ السَّحَرَةِ - إِذِ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ قِصَّةِ السَّحَرَةِ - وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِهِ وَآلِهَتِهِ: عَدَمُ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَتِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَإِلَاهَتَكَ) أَيْ: عِبَادَتَكَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْعَادِيَاتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ أَنَّهُ كَانَ
69
لِلْمِصْرِيِّينَ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الشَّمْسُ، وَاسْمُهَا فِي لُغَتِهِمْ (رَعْ) وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ فِي لَقَبِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ سَلِيلُ الشَّمْسِ وَابْنُهَا، وَسَنَنْقُلُ بَعْدَ جَوَابِهِ لَهُمْ أَثَرًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الْآلِهَةِ.
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أَيْ: قَالَ مُجِيبًا لِلْمَلَأِ: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَ قَوْمِهِ تَقْتِيلًا مَا تَنَاسَلُوا - فَتَعْبِيرُهُ بِالتَّقْتِيلِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّدْرِيجِ - وَنَسْتَبْقِي نِسَاءَهُمْ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ مِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهِ حَتَّى يَنْقَرِضُوا وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وَإِنَّا مُسْتَعْلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْغَلَبَةِ وَالسُّلْطَانِ، قَاهِرُونَ لَهُمْ كَمَا كُنَّا مِنْ قَبْلُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِفْسَادًا فِي أَرْضِنَا، وَلَا خُرُوجًا مِنْ حَظِيرَةِ تَعْبِيدِنَا، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٤٠: ٢٦) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَدَيْهِ مَنْ يُدَافِعُ عَنْ مُوسَى مِمَّنْ آمَنَ بِهِ سِرًّا، وَمِمَّنْ كَانَ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي (٢٠: ٣٩) وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا كَانَ لَهُ فِي أَنْفُسِ
الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالِاحْتِرَامِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى لَنَا دِفَاعَ وَاحِدٍ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ فَقَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٤٠: ٢٨).
وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْعَادِيَاتِ الْمِصْرِيَّةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى هُوَ الْمَلِكُ (مِنْفِتَاحُ) وَكَانَ يُلَقَّبُ بِسَلِيلِ الْإِلَهِ (رَعْ) وَقَدْ جَاءَ فِي آخِرِ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْوَحِيدِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِرَقْمِ ٣٤٠٢٥ الْمَحْفُوظُ فِي مَتْحَفِ مِصْرَ) أَنَّ مِصْرَ هِيَ السَّلِيلَةُ الْوَحِيدَةُ لِلْمَعْبُودِ (رَعْ) مُنْذُ وُجُودِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ " مِنْفِتَاحَ " سَلِيلَةٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْجَالِسُ عَلَى سُدَّةِ الْمَعْبُودِ " شُو " وَأَنَّ الْإِلَهَ " رَعْ " الْتَفَتَ إِلَى مِصْرَ فَوَلَدَ " مِنْفِتَاحَ " مَلِكَ مِصْرَ، وَشَيْءٌ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُنَاضِلًا عَنْهَا فَتَخَنَّعَ لَهُ الْوُلَاةُ، وَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنَ الْبَدْوِ رَأْسَهُ، فَخَضَعَ لَهُ الْقَيْرَوَانِيُّونَ وَالْحَيْثِيُّونَ وَالْكَنْعَانِيُّونَ وَعَسْقَلَانُ وَجِزَالُ وَيَنْعِمَامُ.
وَفِيهِ: وَانْفَكَّ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فَلَا بَزْرَ لَهُمْ، وَأَصْبَحَتْ فَلَسْطِينُ خَلِيَّةً لِمِصْرَ وَالْأَرَاضِي كُلُّهَا مَضْمُومَةٌ فِي حِفْظِهِ، وَكُلُّ اسْمٍ وَعَفَهُ " أَضْعَفَهُ وَأَذَلَّهُ " الصَّيْدَنُ لَقَبُ (مِنْفِتَاحَ) سَلِيلِ الشَّمْسِ مُعْطَى الْمَعِيشَةِ كُلَّ نَهَارٍ مِثْلَ الشَّمْسِ اهـ، وَمَا ذُكِرَ لَا يُنَافِي ادِّعَاءَهُ الِانْفِرَادَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ الْعُلْيَا بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: فَلَا بَزْرَ لَهُمْ، هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِنَا: انْقَطَعَ دَابِرُهُمْ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْمَجَازِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَآلِ.
70
وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنْ يَخَافَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَأَنْ يُطَمْئِنَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: اطْلُبُوا مَعُونَةَ اللهِ تَعَالَى، وَتَأْيِيدَهُ لَكُمْ عَلَى مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الْوَعِيدِ وَاصْبِرُوا، وَلَا تَجْزَعُوا، فَإِنْ سَأَلْتُمْ لِمَاذَا وَإِلَى مَتَى؟ أَقُلْ لَكُمْ: إِنَّ الْأَرْضَ - جِنْسَهَا، أَوِ الْأَرْضَ الَّتِي وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ إِيَّاهَا، وَهِيَ فَلَسْطِينُ - لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لَا لِفِرْعَوْنَ، فَهِيَ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى دُوَلٌ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي يَنْتَهِي
إِلَيْهَا التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأُمَمِ لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ بِمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ إِرْثِ الْأَرْضِ كَالِاتِّحَادِ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْحَقِّ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ وَحَيُّهُ، وَأَيَّدَتْهُ التَّجَارِبُ، وَمُرَادُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ سَتَكُونُ لَكُمْ بِإِرْثِ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ لَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ شَرْعِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَتَوَهَّمُونَ وَيَتَوَهَّمُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَقَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَالضَّعِيفِ عَلَى ضَعْفِهِ، أَوْ أَنَّ الْآلِهَةَ الْبَاطِلَةَ ضَمِنَتْ لِفِرْعَوْنَ بَقَاءَ مُلْكِهِ، عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَظُلْمِهِ.
مَاذَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ وَصِيَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ؟ وَهَلْ فَهِمُوهَا وَقَدَّرُوهَا قَدْرَهَا؟ وَبِمَ أَجَابُوهُ؟ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ إِرْسَالِهِ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ شَيْئًا، فَهُوَ يُؤْذِيهِمْ وَيَظْلِمُهُمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِ كَمَا كَانَ يُؤْذِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ أَوْ أَشَدُّ، وَهَذَا الْإِيذَاءُ مُبَيَّنٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَفِيهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا طَلَبَا مِنْ فِرْعَوْنَ إِطْلَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَيْ يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ لَهُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْبَحُوا لَهُ، قَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا تُعَطِّلَانِ الشَّعْبَ عَنْ أَعْمَالِهِ؟ وَأَمَرَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسَخِّرِي الشَّعْبَ وَمُدَبِّرِيهِ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ إِعْطَائِهِ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ لِيَعْمَلَ بِهِ اللَّبَنَ (الطُّوبَ النَّيَّ) الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنْ يُكَلِّفُوهُ جَمْعَ التِّبْنِ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَا يَنْقُصُوا مِنْ عَدَدِ اللَّبَنِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَتَفَرَّقَ الشَّعْبُ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ؛ لِيَجْمَعُوا جُذَامَهُ عِوَضَ التِّبْنِ، فَعَجَزُوا عَنْ تَمَامِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّبَنِ، وَالْمُسَخَّرُونَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ: أَكْمِلُوا فَرِيضَةَ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا كُنْتُمْ تُعْطُونَ التِّبْنَ، فَجَاءَ مُدَبِّرُو بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عَلَيْهِمُ الْمُسَخَّرُونَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ، وَاسْتَغَاثُوا فِرْعَوْنَ نَفْسَهُ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَصْنَعُ (١٥) بِعَبِيدِكَ هَكَذَا؟ (١٦) إِنَّهُ لَا يُعْطَى لِعَبِيدِكَ تِبْنٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ لَنَا: اعْمَلُوا لَبَنًا، وَهَا أَنَّ عَبِيدَكَ يُضْرَبُونَ وَشَعْبَكَ يُعَامَلُونَ كَمُذْنِبِينَ (١٧) قَالَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَرَفِّهُونَ، وَلِذَلِكَ تَقُولُونَ نَمْضِي وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ (١٨) وَالْآنَ فَامْضُوا اعْمَلُوا، وَتِبْنٌ لَا يُعْطَى لَكُمْ، وَمِقْدَارُ اللَّبَنِ تُقَدِّمُونَهُ (١٩) فَرَأَى مُدَبِّرُو بَنِي إِسْرَائِيلَ نُفُوسَهُمْ فِي شَقَاءٍ.
إِذْ قِيلَ: لَا تَنْقُصُوا
مِنْ لَبِنِكُمْ شَيْئًا بَلْ فَرِيضَةُ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهَا (٢٠) وَصَادَفُوا مُوسَى وَهَارُونَ وَهُمَا وَاقِفَانِ لِلِقَائِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ عِنْدِ فِرْعَوْنَ (٢١) فَقَالُوا لَهُمَا: يَنْظُرُ الرَّبُّ وَيَحْكُمُ عَلَيْكُمَا كَمَا أَفْسَدْتُمَا أَمْرَنَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَعِنْدَ عَبِيدِهِ، وَجَعَلْتُمَا فِي أَيْدِيهِمْ سَيْفًا لِيَقْتُلُونَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَيْ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ الْمَرْجُوَّ مِنْ فَضْلِ رَبِّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمُ الَّذِي سَخَّرَكُمْ وَآذَاكُمْ بِظُلْمِهِ، وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَكُمْ إِيَّاهَا، وَيَمْنَعَكُمْ فِرْعَوْنُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، فَيَنْظُرَ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ بَعْدَ اسْتِخْلَافِهِ إِيَّاكُمْ فِيهَا؛ هَلْ تَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ أَمْ تَكْفُرُونَ؟ وَهَلْ تُصْلِحُونَ فِي الْأَرْضِ أَمْ تُفْسِدُونَ؟ لِيُجَازِيَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا تَعْمَلُونَ.
وَقَدْ عَبَّرَ بِـ " عَسَى " وَلَمْ يَقْطَعْ بِالْوَعْدِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا وَيَتْرُكُوا مَا يَجِبُ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ لِئَلَّا يُكَذِّبُوهُ لِضَعْفِ أَنْفُسِهِمْ بِمَا طَالَ عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَالِاسْتِخْذَاءِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِمُلْكِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي التَّوْرَاةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ.
جَاءَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ بَعْدَ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مَا نَصُّهُ: (٢٢) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ، وَقَالَ يَا رَبِّ: لِمَاذَا ابْتَلَيْتَ هَؤُلَاءِ الشَّعْبَ لِمَاذَا بَعَثْتَنِي؟ (٢٣) فَإِنِّي مُنْذُ دَخَلْتُ عَلَى فِرْعَوْنَ؛ لِأَتَكَلَّمَ بِاسْمِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ الشَّعْبِ وَأَنْتَ لَمْ تُنْقِذْ شَعْبَكَ ".
وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْهُ فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: " الْآنَ تَرَى مَا أَصْنَعُ بِفِرْعَوْنَ، إِنَّهُ بِيَدٍ قَدِيرَةٍ سَيُطْلِقُهُمْ، وَبِيَدٍ قَدِيرَةٍ سَيَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ " - وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ عَهْدًا بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ أَرْضَ كَنْعَانَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ أَنِينَ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ اسْتَعْبَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ فَذَكَرَ عَهْدَهُ - ثُمَّ قَالَ: (٦) لِذَلِكَ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا الرَّبُّ لِأُخْرِجَكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ، وَأُخَلِّصَكُمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ، وَأَفْدِيَكُمْ بِذِرَاعٍ مَبْسُوطَةٍ، وَأَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ، (٧) وَأَتَّخِذَكُمْ لِي شَعْبًا، وَأَكُونَ لَكُمْ إِلَهًا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمُ الْمُخْرِجُ لَكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ (٨) وَسَأُدْخِلُكُمُ الْأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي مُقْسِمًا أَنْ أُعْطِيَهَا لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَأُعْطِيهَا لَكُمْ مِيرَاثًا، أَنَا الرَّبُّ (٩) فَكَلَّمَ مُوسَى بِذَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى لِضِيقِ أَرْوَاحِهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِمُ الشَّاقَّةِ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَهُوَ مِنْ تَرْجَمَةِ الْيَسُوعِيِّينَ
كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَيَلِيهِ عَوْدَةُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ، وَمُطَالَبَتُهُ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَامْتِنَاعِهِ، وَإِظْهَارِ الرَّبِّ الْآيَاتِ لَهُ وَاحِدَةٌ بَعْدَ أُخْرَى كَمَا يَأْتِي مُجْمَلًا فِي الْآيَاتِ التَّالِيَةِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ هُنَا يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْدَ قِصَّةِ السَّحَرَةِ، وَسِيَاقُ التَّوْرَاةِ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِهَا قَبْلَهَا، وَبَعْدَ تَبْلِيغِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ - فَهَلْ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ - أَعْنِي قَوْلَهُ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
72
إِلَخْ؛ لِيُوَافِقَ التَّوْرَاةَ، وَتَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ؟ كَمَا قَالَ لَهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (١١: ٤٩) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ؟
(قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُجَجٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَمِنْ غَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْقَارِئِينَ الْكَاتِبِينَ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ كَمَا قَالَ مُصَدِّقًا لِكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى - أَيْ: فِي الْأَصْلِ، قَدْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهَا، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا بَعْضَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَأَنَّهُ هُوَ - أَيِ: الْقُرْآنُ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، فَمَا أَقَرَّهُ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَمَا صَحَّحَهُ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَهُمْ فَهُوَ الصَّحِيحُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا فِيهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَكَوْنِ مُوسَى هُوَ الَّذِي أَلْقَى الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ، وَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ لَا هَارُونَ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ دَلَّتْ قَوَاعِدُهُ أَوْ نُصُوصُهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ أَنَّ الرَّبَّ جَعَلَ مُوسَى إِلَهًا لِفِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ أَخُوهُ هَارُونَ نَبِيَّهُ! ! فَأُصُولُ الْقُرْآنِ وَكَذَا التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فُقِدَتْ، وَأَنَّ عَزْرَا الْكَاتِبَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ الْأَسْفَارَ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَبْدَلَ الْحُرُوفَ الْكِلْدَانِيَّةِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَا كَتَبَهُ عَزْرَا قَدْ فُقِدَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ جَمِيعَ نُسَخِ التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ مُسْتَمَدَّةٌ مِمَّا كَتَبَهُ، وَفِيهَا تَحْرِيفٌ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
مِنَ الْأَصْلِ، وَيُسَمُّونَهُ مُشْكِلَاتٍ يَتَكَلَّفُونَ الْأَجْوِبَةَ عَنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا نَمُوذَجًا مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الْأَخِيرُ مِنَ التَّوْرَاةِ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ يَشُوعَ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ يَشُوعَ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ وَيُؤَكِّدُهَا خَطَأُ الْمُفَسِّرِينَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِ، وَتَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهَا، وَمِنْ سَائِرِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَالْعَادِيَاتِ الْمُتَسْخَرَجَةِ مِنْ آثَارِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانَ جُلُّ مَا يَعْرِفُونَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا سَمِعُوهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِحَفِيظٍ عَلِيمٍ، وَلَا بِصَادِقٍ أَمِينٍ. ثُمَّ مَا أَخَذُوهُ عَنْ كُتُبٍ تَارِيخِيَّةٍ غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِهَا، فَكَانَ أَكْثَرُ مَا كَتَبُوهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهَا مُشَوَّهًا لَهُ، وَحُجَّةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ عُلَمَائِنَا فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ يُقْرَأُ، وَلَا أَحَدَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ، قِيلَ: إِلَّا سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا
73
مِمَّنْ يُقَالُ فِيهِمُ الْيَوْمَ " يَفُكُّونَ الْخَطَّ " فَأَنَّى لِمَنْ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ الْمُفَصَّلَةَ السَّالِمَةَ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا الْعَقْلُ، أَوْ لَا تَتَّفِقُ مَعَ تَوْحِيدِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَائِلِهِمْ لَوْلَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ؟ !
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمُقَدِّمَاتِ الْهَلَاكِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنْجَازُ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ.
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِالْقَسَمِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لَامُهُ؛ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ، وَكَيْفَ لَا؟
وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى تَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِدَالَةِ لِلْمَظْلُومِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الظَّالِمِينَ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ مَادَّةِ " الْأَخْذِ " فِي الْعَذَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذْ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١١: ١٠٢) فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٥٤: ٤٢) فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (٧٣: ١٦) يَعْنِي فِرْعَوْنَ مُوسَى فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (٦٩: ١٠) وَآلُ فِرْعَوْنَ: قَوْمُهُ، كَمَا أَطْلَقَهُ الْمُفَسِّرُونَ، أَوْ خَاصَّتُهُ وَأَعْوَانُهُ فِي أُمُورِ الدَّوْلَةِ، وَهُمُ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَثُرَ ذِكْرُهُمْ فِي قِصَّتِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُذْنِبُونَ الْمُعَانِدُونَ لِمُوسَى، وَإِنَّمَا وُقُوعُ الْعَذَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُوَافِقِينَ وَمُقِرِّينَ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (٨: ٢٥) وَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنٍ الِاجْتِمَاعِ الْعَامَّةِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَأَصْلُ اللُّغَةِ أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ يُضَافُونَ إِلَى اسْمِهِ، وَهُوَ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى أَعْلَامِ شُرَفَاءِ قَوْمِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ أَوْ وَجَمِيعِ أَتْبَاعِهِمْ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ آلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَتْبَاعِهِ، وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ عَلَى آلِ النَّبِيِّ فِي التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْآلُ
74
قِيلَ: مَقْلُوبٌ عَنِ الْأَهْلِ، وَيُصَغَّرُ عَلَى أُهَيْلٍ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَعْلَامِ النَّاطِقِينَ دُونَ النَّكِرَاتِ، وَدُونَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ. يُقَالُ: آلُ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: آلُ رَجُلٍ، وَلَا آلُ زَمَانِ كَذَا أَوْ مَوْضِعِ كَذَا، وَلَا يُقَالُ: آلُ الْخَيَّاطِ، بَلْ يُضَافُ إِلَى الْأَشْرَفِ الْأَفْضَلِ، يُقَالُ: آلُ اللهِ وَآلُ السُّلْطَانِ، وَالْأَهْلُ يُضَافُ إِلَى الْكُلِّ، يُقَالُ: أَهْلُ اللهِ وَأَهْلُ الْخَيَّاطِ، كَمَا يُقَالُ: أَهْلُ زَمَنِ كَذَا وَبَلَدِ كَذَا. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ الشَّخْصِ، وَيُصَغَّرُ أُوَيْلًا، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ اخْتِصَاصًا ذَاتِيًّا إِمَّا بِقِرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بِمُوَالَاةٍ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ (٣: ٣٣) وَقَالَ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ٤٠: ٤٦) قِيلَ: وَآلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَارِبُهُ، وَقِيلَ: الْمُخْتَصُّونَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الدِّينِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ مُتَخَصِّصٌ بِالْعِلْمِ الْمُتْقَنِ وَالْعَمَلِ الْمُحْكَمِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: آلُ النَّبِيِّ وَأُمَّتُهُ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّونَ بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا يُقَالُ لَهُمْ: آلُهُ، فَكُلُّ آلٍ لِلنَّبِيِّ أُمَّةٌ لَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ أُمَّةٍ لَهُ آلَهُ. وَقِيلَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ ـ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ ـ: النَّاسُ يَقُولُونَ: الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ آلُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: كَذَبُوا وَصَدَقُوا، فَقِيلَ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كَذَبُوا فِي أَنَّ الْأُمَّةَ كَافَّتَهُمْ آلُهُ، وَصَدَقُوا فِي أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا بِشَرَائِطِ شَرِيعَتِهِ آلُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (٤٠: ٢٨) أَيْ: مِنَ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ وَجَعَلَهُ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ النَّسَبُ أَوِ الْمَسْكَنُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُ الْقَوْمِ أَنَّهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ اهـ.
بَعْدَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُمْ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُحْتَمِلٍ لِغَيْرِهِمْ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا (٢٨: ٨) وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (٤٠: ٢٨) وَأُطْلِقَ كَثِيرًا بِمَعْنَى مَلَئِهِ، وَخَاصَّةً أَتْبَاعُهُ أَوْ جُمْلَتُهُمْ كَقَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (٢: ٥٠) أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٠: ٤٦) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (٢: ٤٩) وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٠: ٤٥) وَلَقَدْ جَاءَ آلُ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٥٤: ٤١) كَذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُ مَلَأِ فِرْعَوْنَ فِي إِرْسَالِ مُوسَى إِلَيْهِمْ، وَمَا دَارَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْمَلَأِ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَرِجَالُ دَوْلَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْلَا أَنْ وَرَدَ ذِكْرُ قَوْمِهِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ لَحَمَلْنَا الْآلَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَفِي أَمْثَالِهَا عَلَيْهِمْ دُونَ سَائِرِ قَوْمِهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (٢٦: ١٠، ١١) وَقَالَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (٤٤: ١٧) إِلَخْ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ عَامَّةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَنَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْأَخْذِ بِالسِّنِينَ وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يَنَالُ
75
فِرْعَوْنَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَخَاصَّةً مَلَئِهِ، فَالْمُرَادُ بِآلِهِ قَوْمُهُ، وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ فِي عَهْدِهِ، وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِظُلْمِهِ وَطُغْيَانِهِ؛ لِأَنَّ قُوَّتَهُ الْمَالِيَّةَ وَالْجُنْدِيَّةَ مِنْهُمْ، وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللهُ أَحْرَارًا وَكَرَّمَهُمْ بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي تَكْرَهُ الظُّلْمَ وَالطُّغْيَانَ بِالْغَرِيزَةِ، فَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَلَّا يَقْبَلُوا اسْتِعْبَادَهُ لَهُمْ، وَجَعْلَهُمْ آلَةً لِطُغْيَانِهِ وَإِرْضَاءِ كِبْرِيَائِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ بِعْثَةِ مُوسَى وَوُصُولِ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِمْ وَرُؤْيَتِهِمْ، لَمَّا أَيَّدَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا السُّنُونَ فَهِيَ جَمْعُ سَنَةٍ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْحَوْلِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْحَوْلِ الَّذِي فِيهِ الْجَدْبُ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ؛ أَيْ: إِلَّا إِذَا ذُكِرَتْ فِي مَقَامِ الْعَدَدِ وَالْإِحْصَاءِ، وَالْأَخْذُ بِالسِّنِينَ صَرِيحٌ فِي إِرَادَةِ الْعِقَابِ بِالْجَدْبِ وَالضِّيقِ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْصُ الثَّمَرَاتِ، وَهَلْ يَدْخُلُ نَقْصُ الثَّمَرَاتِ فِي عُمُومِ الْمُرَادِ مِنَ السِّنِينَ، أَمْ هِيَ خَاصَّةٌ بِنَقْصِ الْغِلَالِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَقْوَاتِ دُونَ الْفَاكِهَةِ الَّتِي لَا
تَكْفِي الْقُوتَ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ؟ وَجْهَانِ: وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ نَصٌّ عَلَى شِدَّةِ الضِّيقِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا إِجْمَالٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ (٧: ١٣٣) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
وَجُمْلَةُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ بِالْجَدْبِ وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ؛ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ضَعْفَهُمْ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ وَعَجْزِ مَلِكِهِمُ الْجَبَّارِ الْمُتَغَطْرِسِ وَعَجْزِ آلِهَتِهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا اعْتَبَرُوا وَاتَّعَظُوا فَرَجَعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجَابُوا دَعْوَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ الشَّدَائِدَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُرَقِّقَ الْقُلُوبَ، وَتُهَذِّبَ الطِّبَاعَ، وَتُوَجِّهَ الْأَنْفُسَ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالتَّضَرُّعِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي اتُّخِذَتْ فِي الْأَصْلِ وَسَائِلَ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، ثُمَّ صَارَ يُنْسَى فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ لَا يُرَى، وَتُذْكُرُ هِيَ؛ لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مُجَانِسَةٌ لِعَابِدِيهَا، بَلْ هِيَ أَوْ أَكْثَرُهَا دُونَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ، فَإِذَا بَلَغَ الشِّرْكُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْسُوا اللهَ تَعَالَى حَتَّى فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ فَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.
كَذَلِكَ كَانَ دَأْبُ آلِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ إِنْذَارِ مُوسَى إِيَّاهُمْ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ مِنْ خِصْبٍ وَرَخَاءٍ وَهُوَ الْغَالِبُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ دُونَ غَيْرِنَا، وَنَحْنُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِمَا لَنَا مِنَ التَّفَوُّقِ عَلَى النَّاسِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَيْ: وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ - أَيْ: حَالَةٌ تَسُوؤُهُمْ كَجَدْبٍ أَوْ جَائِحَةٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أُخْرَى فِي الْأَبْدَانِ أَوِ الْأَرْزَاقِ - تَشَاءَمُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَخِيهِ هَارُونَ أَوْ جَمِيعِ قَوْمِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أُصِيبُوا بِشُؤْمِهِ وَشُؤْمِهِمْ، وَيَغْفُلُونَ عَنْ سَيِّئَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لِقَوْمِ مُوسَى؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْإِفْرِنْجِ فِي ظُلْمِهِمْ لِمَنْ يَسْتَضْعِفُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ.
أَصْلُ " يَطَّيَّرُوا " يَتَطَيَّرُوا فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَسَبَبُ اسْتِعْمَالِ التَّطَيُّرِ بِمَعْنَى التَّشَاؤُمِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِمَّا تَرَاهُ مِنْ حَرَكَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى إِنَّهَا تَزْجُرُهَا إِذَا
76
لَمْ تَمُرَّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا، فَإِذَا طَارَتْ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ تَيَمَّنَتْ؛ أَيْ: رَجَتْ وُقُوعَ الْيَمِينِ وَالْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ، وَإِذَا طَارَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ تَشَاءَمَتْ، وَتَوَقَّعَتِ الشَّرَّ وَالْمُصِيبَةَ، وَيُسَمَّى الطَّائِرُ الْأَوَّلُ السَّانِحَ، وَالْآخَرُ الْبَارِحَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَمُّوا الشُّؤْمَ طَيْرًا وَطَائِرًا، وَالتَّشَاؤُمَ تَطَيُّرًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ خُرَافَتِهِمْ:
أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ابْتَدَأَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ
بِأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ (أَلَا) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهَا تَوْجِيهُ ذِهْنِ الْقَارِئِ لِمَا يُلْقَى بَعْدَهَا حَتَّى لَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهُ، أَيْ: أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الشُّؤْمَ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَى مُوسَى، وَعَدُّوهُ مِنْ آثَارِ وُجُودِهِ فِيهِمْ هُوَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا عِنْدَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ لِنِظَامِ الْكَوْنِ سُنَنًا تَكُونُ فِيهَا الْمُسَبِّبَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا حِكَمٌ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ يَنْزِلُ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ امْتِحَانٌ وَاخْتِبَارٌ لَهُمْ بِمَا يَسُوؤُهُمْ لِيَثُوبُوا وَيَرْجِعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَطُغْيَانِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حِكَمَ التَّصَرُّفِ الرَّبَّانِيِّ فِي الْخَلْقِ، وَلَا أَسْبَابَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الصُّورِيَّةَ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةَ، وَكَوْنَ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مَجِيءِ الْحَسَنَةِ بِـ " إِذَا " الدَّالَّةِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَعَرَّفَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّهَا الْأَصْلُ الثَّابِتُ بِغَلَبَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ، وَعَبَّرَ بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ بِـ " إِنَّ " الَّتِي هِيَ أَدَاةُ الشَّكِّ - أَيْ: إِنَّ شَرْطَهَا إِمَّا مَشْكُوكٌ فِي وُقُوعِهِ، وَإِمَّا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لِنُدْرَتِهِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ - وَذَكَرَ السَّيِّئَةَ؛ لِإِفَادَةِ أَنَّ وُقُوعَهَا قَلِيلٌ وَخِلَافُ الْأَصْلِ الْغَالِبِ، وَأَفَادَ بِالتَّعْبِيرَيْنِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَرَبُّوا بِالْحَسَنَاتِ وَلَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ الْحَسَنَةَ عَلَى عَظَمَتِهَا وَكَثْرَتِهَا مَا زَادَتْهُمْ إِلَّا غُرُورًا بِحَالِهِمْ، وَتَمَادِيًا فِي ظُلْمِهِمْ، وَإِصْرَارًا عَلَى بَغْيِهِمْ، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ لَمْ تُفِدْهُمْ عِظَةً وَلَا عِبْرَةً، وَلَمْ تُحْدِثْ لَهُمْ تَوْبَةً، وَهَاكَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ:
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَرَبُّوا بِالْحَسَنَاتِ وَلَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِمَا أَيَّدَ اللهُ بِهِ تَعَالَى مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ، بَلْ أَصَرُّوا بَعْدَ إِيمَانِ كِبَارِ السَّحَرَةِ عَلَى عَدِّ آيَتَيْ مُوسَى مِنَ السِّحْرِ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
77
(مَهْمَا) اسْمُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ تَجِئْنَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى أَحَقِّيَّةِ دَعْوَتِكَ؛ لِأَجْلِ أَنْ تَسْحَرَنَا بِهَا؛ أَيْ: تَصْرِفَنَا بِهَا - بِدِقَّةٍ وَلُطْفٍ فِي التَّأْثِيرِ - عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ دِينِنَا، وَمِنْ تَسْخِيرِنَا لِقَوْمِكَ فِي خِدْمَتِنَا، وَضَرْبِ اللَّبَنِ لِمَبَانِينَا - فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُصَدِّقِينَ، وَلَا لِرِسَالَتِكَ بِمُتَّبِعِينَ.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ أَيْ: فَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَصَائِبَ وَالنَّكَبَاتِ، حَالَ كَوْنِهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ عَبْدِنَا مُوسَى بِأَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَفْصِيلًا لَا إِجْمَالًا؛ لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا عَلَى صِدْقِهِ وَاضِحَةً لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِأَسْبَابٍ لَهَا لَا دَخْلَ لِرِسَالَتِهِ فِيهَا - فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ اسْتِكْبَارًا، مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّةِ رِسَالَتِهِ، وَصِدْقِ دَعْوَتِهِ بَاطِنًا، وَكَانُوا قَوْمًا رَاسِخِينَ فِي الْإِجْرَامِ وَالذُّنُوبِ مُصِرِّينَ عَلَيْهَا فَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ تَرْكُهَا.
جَاءَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ - أَوْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَقَدْ عَدَّ هُنَا مِنْهَا خَمْسًا، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَعَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِيهِ.
فَأَمَّا الطُّوفَانُ فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: مَا طَافَ بِالشَّيْءِ وَغَشِيَهُ، وَغَلَبَ فِي طُوفَانِ الْمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ أَوِ الْأَرْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِكَثْرَةٍ تَغْشَى الْأَرْضَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ: الْأَمْطَارُ الْمُغْرِقَةُ الْمُتْلِفَةُ لِلزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: هُوَ كَثْرَةُ الْمَوْتِ، وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّوفَانُ: الْمَاءُ وَالطَّاعُونُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ هَيْمَانَ: حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَا، عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الطُّوفَانُ الْمَوْتُ " وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ هَيْمَانَ بِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللهِ طَافَ بِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (٦٨: ١٩) اهـ.
أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَرْفُوعُ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ قَوْلُ مُخَالِفٍ لِلْمُتَبَادَرِ مِنَ اللُّغَةِ - فَيَحْيَى بْنُ هَيْمَانَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ هُوَ الْكُوفِيُّ الْعِجْلِيُّ كَانَ
مِنَ الْعُبَّادِ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: حَدَّثَ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِعَجَائِبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ صَدُوقًا لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَقَدْ أُصِيبَ بِالْفَالِجِ فَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ خَلِيفَةَ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ؛ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنِ الْمَشَاهِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَهَذَا طَعْنٌ مُبِينٌ.
78
السَّبَبُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْثِيقِ الْبَزَّارِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ الْكُوفِيُّ الْقَاضِي مُدَلِّسٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَوْلَى الْآثَارِ بِالْقَبُولِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلُ الْمُوَافِقُ الْمُتَبَادَرَ مِنَ اللُّغَةِ؛ أَيْ: طُوفَانِ الْمَطَرِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَأَوْلَاهَا بِالْقَبُولِ مَا لَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ نَفْسِهَا، وَهُوَ مَا نَنْقُلُهُ عَنْهَا: جَاءَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: (١٣) ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: بَكِّرْ فِي الْغَدَاةِ، وَقِفْ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، وَقُلْ لَهُ: " كَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي (١٤) فَإِنِّي فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ مُنْزِلٌ جَمِيعَ ضَرَبَاتِي عَلَى قَلْبِكَ، وَعَلَى عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ؛ لِكَيْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلِي فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَأَنَا (١٥) الْآنَ أَمُدُّ يَدِيَ وَأَضْرِبُكَ أَنْتَ وَشَعْبَكَ بِالْوَبَاءِ فَتَضْمَحِلُّ مِنَ الْأَرْضِ (١٦) غَيْرَ أَنِّي لِهَذَا أُبْقِيكَ؛ لِكَيْ أُرِيَكَ قُوَّتِي؛ وَلِكَيْ يُخْبَرَ بِاسْمِي فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، (١٧) وَأَنْتَ لَمْ تَزَلْ مُقَاوِمًا لِشَعْبِي (١٨) هَا أَنَا (؟) مُمْطِرٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَدٍ بَرْدًا عَظِيمًا جِدًّا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي مِصْرَ مُنْذُ يَوْمِ أُسِّسَتْ إِلَى الْآنِ " ثُمَّ ذَكَرَ وُقُوعَ الْبَرْدِ مَعَ نَارٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَصَفَ عَظَمَتَهُ وَشُمُولَهُ لِجَمِيعِ بِلَادِ مِصْرَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مُوسَى وَهَارُونَ، وَاعْتَرَفَ لَهُمَا بِخَطَئِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يَشْفَعَا إِلَى الرَّبِّ لِيَكُفَّ هَذِهِ النَّكْبَةَ عَنْ مِصْرَ، وَوَعَدَهُمَا بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ فِي خِتَامِ ذَلِكَ:
(٣٣) فَخَرَجَ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ إِلَى الرَّبِّ فَكَفَّتِ الرُّعُودُ وَالْبَرْدُ، وَلَمْ يَعُدِ الْمَطَرُ يَهْطِلُ عَلَى الْأَرْضِ " اهـ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَطَرَ عِنْدَ الْوَعِيدِ، بَلْ ذَكَرَ هُنَا عِنْدَ كَفِّ النَّكْبَةِ.
وَأَمَّا الْجَرَادُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، فَفِيهَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَسَا قَلْبُهُ فَلَمْ يُطْلِقْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ الرَّبُّ مُوسَى - كَمَا فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ - " بِأَنَّهُ قَسَا قَلْبُهُ وَقُلُوبُ عَبِيدِهِ لِيُرِيَهُمْ آيَاتِهِ، وَلِكَيْ يَقُصَّ مُوسَى عَلَى ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ (كَذَا) مَا فَعَلَ بِالْمِصْرِيِّينَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْذِرَهُ بِإِرْسَالِ الْجَرَادِ عَلَيْهِمْ فَيَأْكُلَ مَا سَلَمَ مِنَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُحْسِهِ الْبَرْدُ، وَيَمْلَأَ بُيُوتَهُ وَبُيُوتَ عَبِيدِهِ، وَسَائِرَ بُيُوتِ الْمِصْرِيِّينَ فَفَعَلَ - فَرَضِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبَ الرِّجَالُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمَوَاشِي، فَمَدَّ مُوسَى عَصَاهُ بِأَمْرِ الرَّبِّ
79
عَلَى أَرْضِ مِصْرَ (١٥) فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَرْقِيَّةً سَاقَتِ الْجَرَادَ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ فَغَطَّى جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى أَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، وَأَكَلَ جَمِيعَ عُشْبِهَا، وَجَمِيعَ مَا تَرَكَهُ الْبَرْدُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الْخُضْرَةِ فِي الشَّجَرِ، وَلَا فِي عُشْبِ الصَّحْرَاءِ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ " وَفِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ اسْتَدْعَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَاعْتَرَفَ لَهُمَا بِخَطَئِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا الصَّفْحَ وَالشَّفَاعَةَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمَا أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ هَذِهِ التَّهْلُكَةَ فَفَعَلَا، فَأَرْسَلَ اللهُ رِيحًا غَرِيبَةً فَحَمَلَتِ الْجَرَادَ كُلَّهُ فَأَلْقَتْهُ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ، وَأَمَّا الْقُمَّلُ - بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ - فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ الدَّبَى، وَهُوَ الْجَرَادُ الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ دَوَابٌّ سُودٌ صِغَارٌ، وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهَا دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تَأْكُلُ الْإِبِلَ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْقُمَّلَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَمْنَانُ وَاحِدَتُهَا حَمْنَانَةٌ، وَهِيَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ - ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَجَزَمَ الرَّاغِبُ بِأَنَّ الْقُمَّلَ صِغَارُ الذُّبَابِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَفِيهَا أَنَّ الْبَعُوضَ وَالذِّبَّانَ كَانَ مِنَ الضَّرَبَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي ضَرَبَ الرَّبُّ بِهَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؛ لِيُرْسِلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى، فَفِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّ مُوسَى أَنْذَرَ فِرْعَوْنَ أَنِ الذِّبَّانَ سَيَدْخُلُ بُيُوتَهُ وَبُيُوتَ عَبِيدِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُفْسِدُهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُقِيمِينَ فِي أَرْضِ جَاسَّانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَأْثِيرِ الذِّبَّانِ.
وَأَمَّا الضَّفَادِعُ فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ " (١) وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى ادْخُلْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقُلْ لَهُ: كَذَا قَالَ الرَّبُّ أَطْلِقْ شَعْبِي؛ لِيَعْبُدُونِي (٢) وَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تُطَلِقَهُمْ فَهَا أَنَا (ذَا) ضَارِبٌ جَمِيعَ تُخُومِكَ بِالضَّفَادِعِ (٣) فَيَفِيضُ النَّهْرُ ضَفَادِعَ فَتَصْعَدُ وَتَنْتَشِرُ فِي بَيْتِكَ، وَفِي مَخْدَعِ فِرَاشِكَ، وَعَلَى سَرِيرِكَ، وَفِي بُيُوتِ عَبِيدِكَ وَشَعْبِكَ، وَفِي تَنَانِيرِكَ وَمَعَاجِنِكَ " إِلَخْ. وَكَذَلِكَ كَانَ، وَلَكِنْ فِيهَا أَنَّ السَّحَرَةَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَصْعَدُوا الضَّفَادِعَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ بِرَفْعِ الضَّفَادِعِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ: (١٣) فَفَعَلَ الرَّبُّ كَمَا قَالَ مُوسَى، وَمَاتَتِ الضَّفَادِعُ مِنَ الْبُيُوتِ (؟) وَالْأَقْبِيَةِ وَالْحُقُولِ (١٤) فَجَمَعُوهَا أَكْوَامًا، وَأَنْتَنَتِ الْأَرْضُ مِنْهَا ".
وَأَمَّا الدَّمُ، فَفَسَّرَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِالرُّعَافِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّهُ دَمٌ كَانَ فِي مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ فِيهَا أَوَّلُ الضَّرَبَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بَعْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا. فَفِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ " أَنَّ الرَّبَّ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُنْذِرَ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ فَفَعَلَ (١٩) ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى قُلْ لِهَارُونَ: خُذْ عَصَاكَ، وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنْهَارِهِمْ وَخُلُجِهِمْ وَمَنَاقِعِهِمْ وَسَائِرِ مَجَامِعِ مِيَاهِهِمْ، فَتَصِيرَ دَمًا، وَيَكُونُ دَمًا فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَفِي الْخَشَبِ وَفِي الْحِجَارَةِ " وَفِيهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ فَعَلَا ذَلِكَ، وَأَنَّ سَمَكَ
80
النَّهْرِ مَاتَ، وَأَنْتَنَ النَّهْرُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمِصْرِيُّونَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ سَحَرَةَ مِصْرَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ (؟ ؟) وَأَنَّ الدَّمَ دَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
هَذِهِ الْخَمْسُ جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْآيَاتِ التِّسْعِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ فَلَا هُوَ يَنْفِيهَا وَلَا يُؤَيِّدُهَا، وَمُقْتَضَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْوَقْفُ فِيهَا إِلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهَا أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ أَوِ الضَّرَبَاتِ (الْبَعُوضَ) وَذَلِكَ أَنَّ هَارُونَ ضَرَبَ بِأَمْرِ الرَّبِّ تُرَابَ الْأَرْضِ " فَكَانَ الْبَعُوضُ عَلَى النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ، وَكُلُّ تُرَابِ الْأَرْضِ (؟) صَارَ بَعُوضًا فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ " كَذَا فِي (٨: ١٧ خر) وَفِيهَا أَنَّ السَّحَرَةَ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ! (وَمِنْهَا الْوَبَاءُ) وَقَعَ عَلَى دَوَابِّ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنْعَامِهِمْ فَمَاتَتْ كُلُّهَا مِنْ دُونِ مَوَاشِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا شَيْءٌ (وَمِنْهَا الْبُثُورُ وَالْقُرُوحُ الْمُنْتَفِخَةُ) أَصَابَتِ النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ - وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتِ الْبَهَائِمُ بَعْدَ
أَنْ مَاتَتْ بِأَسْرِهَا؟ - (وَمِنْهَا الظَّلَامُ) غَشَى جَمِيعَ الْمِصْرِيِّينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فِيهَا يَتَمَتَّعُونَ بِالنُّورِ وَحْدَهُمْ، (وَمِنْهَا إِمَاتَةُ جَمِيعِ أَبْكَارِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ) وَهِيَ الضَّرْبَةُ الْعَاشِرَةُ فَفِيهَا " وَقَالَ مُوسَى: كَذَا قَالَ الرَّبُّ إِنِّي نَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْتَازُ فِي وَسَطِ مِصْرَ فَيَمُوتُ كُلُّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى عَرْشِهِ إِلَى بِكْرِ الْأَمَةِ الَّتِي وَرَاءَ الرَّحَى، وَجَمِيعِ أَبْكَارِ الْبَهَائِمِ (مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ مُنْذُ أَيَّامٍ؟) وَيَكُونُ صُرَاخٌ عَظِيمٌ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ (١١: ٤ - ٦ خر).
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْآيَاتِ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا مَعْطُوفًا عَلَيْهَا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: ارْتَجَزَ الرَّعْدُ إِذَا تَدَاوَكَ صَوْتُهُ كَارْتِجَازِ الرَّجَزِ.. وَالْبَحْرُ يَرْتَجِزُ بِآذِيهِ، أَيْ مَوْجِهِ.. فَمَادَّةُ الرِّجْزِ تَدُلُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى الِاضْطِرَابِ
81
كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (٨: ١١) أَيْ: وَسْوَسَتَهُ لَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَطَشُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الرَّجَزُ فِي الشِّعْرِ سُمِّيَ بِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اضْطِرَابِ الصَّوْتِ فِي إِنْشَادِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ عَذَابُ قَوْمِ لُوطٍ رِجْزًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٢٩: ٣٤) وَفِي سُورَتَيْ سَبَأٍ وَالْجَاثِيَةِ إِنْذَارٌ لِلْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ، وَفُسِّرَ الرِّجْزُ هُنَا بِالْعَذَابِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الطَّاعُونُ، وَكَأَنَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا " الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ - فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَلْفَاظٍ أُخْرَى بِمَعْنَاهُ، مِنْهَا: " الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ " إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ " إِلَخْ، وَأَوَّلُهُ فِي بَعْضِهَا: " إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ " إِلَخْ، وَوَجْهُهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنَ الْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَضْطَرِبُ لَهَا الْقُلُوبُ لِشِدَّةِ فَتْكِهَا، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٢: ٥٨، ٥٩) وَهُوَ
يَصْدُقُ بِطَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَزَلَ الطَّاعُونُ بِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِرَارًا، وَلَا يُوجَدُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالرِّجْزِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَضَرْبَةُ الْقُرُوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّاعُونَ، وَمَوْتُ الْأَبْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالطَّاعُونِ أَيْضًا.
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرِّجْزِ جِنْسُهُ، وَهُوَ كُلُّ عَذَابٍ تَضْطَرِبُ لَهُ الْقُلُوبُ أَوْ يَضْطَرِبُ لَهُ النَّاسُ فِي شُئُونِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ نِقْمَةٍ وَجَائِحَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَالْخَمْسِ الْمُبَيَّنَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى عِنْدَ نُزُولِ كُلٍّ مِنْهَا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنَّا هَذِهِ، وَيَعِدُهُ بِأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ، وَيَذْبَحُوا لَهُ ثُمَّ يَنْكُثُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالرِّجْزِ أَفْرَادَهُ وَافَقَ التَّوْرَاةَ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ مُوسَى عِنْدَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ بِكَشْفِهَا عَنْهُمْ، وَلَفْظُ " لَمَّا " لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ جُمْلَتَهُ، وَمَجْمُوعُ أَفْرَادِهِ أَوْ فَرْدٍ آخَرَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ كَشْفِهِ قَدْ وَقَعَ مَرَّةً
82
وَاحِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيُرَجِّحُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَكْثِهِمْ بِصِيغَةِ
الْمُضَارِعِ (يَنْكُثُونَ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ.
وَمَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الْبِئْرِ الْبَعِيدَةِ الْقَعْرِ، وَحَاصُوا حَيْصَةَ الْحُمُرِ فَوَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ - وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِالرِّجْزِ - قَالُوا عِنْدَ نُزُولِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ بِهِمْ: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاسْأَلْهُ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مِنْ أَمْرِ إِرْسَالِكَ إِلَيْنَا؛ لِإِنْقَاذِ قَوْمِكَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ عَهْدٌ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ (٢: ١٢٤) أَوِ ادْعُهُ بِالَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوهُ بِهِ فَيُعْطِيكَ الْآيَاتِ وَيَسْتَجِيبُ لَكَ الدُّعَاءُ - أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ، وَنَحْنُ نُقْسِمُ لَكَ لَئِنْ كَشَفْتَهُ عَنَّا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ تَعَالَى:
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ أَيْ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ، وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا - وَهُوَ عَوْدُ الْحَالِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ - أَوْ فِي مَجْمُوعِهَا، وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي هَلَكُوا فِيهِ، إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ عَهْدَهُمْ، وَيَحْنَثُونَ فِي قَسَمِهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ أَيْ: فَاجَئُوا بِالنَّكْثِ، وَبَادَرُوا إِلَى الْحِنْثِ، بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا رَيْثٍ، وَأَصْلُ النَّكْثِ فِي اللُّغَةِ نَقْضُ مَا غُزِلَ أَوْ مَا فُتِلَ مِنَ الْحِبَالِ؛ لِيَعُودَ أَنْكَاثًا وَطَاقَاتٍ مِنَ الْخُيُوطِ كَمَا كَانَ، وَالْأَنْكَاثُ مَا نُقِضَ مِنَ الْغَزْلِ لِيُغْزَلَ ثَانِيَةً: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (١٦: ٩٢).
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ أَيْ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهُمْ بِأَنْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ - وَهُوَ الْبَحْرُ فِي اللُّغَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَرَبِيَّةِ فِي الْأُلُوفِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا " وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى النِّيلِ وَغَيْرِهِ - وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى انْتَقَمْنَا تَفْسِيرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ (١١: ٤٥) وَعَلَّلَ هَذَا الِانْتِقَامَ كَمَا عَلَّلَ أَمْثَالَهُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْتَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ
تَكْذِيبَ الْوَاحِدَةِ كَتَكْذِيبِ الْكَثِيرِ، وَيَقْتَضِيهِ بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ أَحَدِ الرُّسُلِ كَتَكْذِيبِ الْجَمِيعِ إِذَا كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَتِهِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَوْنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا جَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا فَلِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَمَّا عَطْفُ الِانْتِقَامِ بِالْفَاءِ فَلَيْسَ
83
تَعْلِيلًا آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْقِيبٌ عَلَى كَوْنِهِ وَقَعَ بَعْدَ التَّكْذِيبِ بِتِلْكِ الْآيَاتِ كُلِّهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ ثُمَّ يُكَذِّبُونَ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا كُلِّهَا، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا تَقْتَضِيهِ وَتَسْتَلْزِمُهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِذْ كَانَتْ فِي نَظَرِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالصِّنَاعَةِ، وَكَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِيهِمَا الْغَايَةَ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي كُلِّ آيَةٍ، وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَأْتِيَ سَحَرَتُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمِثْلِهَا، وَيَحْمِلُونَ عَجْزَهُمْ عَلَى تَفَوُّقِ مُوسَى عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَيُعُدُّونَ إِسْنَادَهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِهِمُ الْأُمُورَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِحَسَبِ التَّقَالِيدِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ حُكَمَاؤُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ خُضُوعِ عَامَّةِ الشَّعْبِ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ دَلَالَةُ آيَاتِ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ جَهْرًا كَكِبَارِ السَّحَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَكَتَمَ إِيمَانَهُ كَالَّذِي عَارَضَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فِي قَتْلِ مُوسَى بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ - كَمَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَمِنْهُمْ مَنْ جَحَدَ بِهَا لِمَحْضِ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَفِرْعَوْنَ وَأَكَابِرِ الْوُزَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي مُجَارَاةِ الْحُكُومَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لِلْعَوَامِّ عَلَى خُرَافَاتِهِمْ أَنَّ حُكُومَاتِ هَذَا الْعَصْرِ تُوَافِقُ الْعَامَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ. كَمَا تَفْعَلُ الْحُكُومَةُ الْمِصْرِيَّةُ فِي بَعْضِ الِاحْتِفَالَاتِ الْمَوْسِمِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ كَالْمَوَالِدِ بِالتَّبَعِ لِجُمْهُورِ الشَّعْبِ مِنْ كِبَارِ عُلَمَائِهِ إِلَى أَجْهَلِ عَوَامِّهِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي يُعَدُّ مُسْتَحِلُّهَا مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَالْجُمْهُورُ غَافِلُونَ عَنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ بِالِاحْتِفَالِ بِهَا، وَشَدِّ الرَّحَالِ إِلَيْهَا، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ فِي سَبِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ كُبْرَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَإِبْطَالِ دُرُوسِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا لِأَجْلِهَا، كَالْمَسْجِدِ الْأَحْمَدِيِّ فِي طَنْطَا، وَالْمَسْجِدِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ فِي دُسُوقَ، وَأَنَّ أَكْبَرَ ضَرَرِهَا تَشْوِيهُ الْإِسْلَامِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أُولِي الْعُلُومِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ حَتَّى كَثُرَ فِيهِمُ الْمُرْتَدُّونَ عَنْهُ، وَصَدُّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ
الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا عُرْفُ الْأُمَمِ أَنَّ دِينَ كُلِّ قَوْمٍ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالشَّعَائِرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنَّا إِقْنَاعُ بَعْضِ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْمُقَرَّرِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَالسُّنَّةِ السُّنِّيَّةِ، وَتَنَزُّهِهِ عَنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَاقْتَنَعُوا بِأَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ لَهُمْ حَقٌّ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِأَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ نَقَلْتُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِنْجِلِيزِ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِي: إِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَا ذَكَرْتَ فَأَنَا مُسْلِمٌ، وَكَانَ نَعُوم بِك شَقِير الْمُؤَرِّخُ السُّورِيُّ يَقُولُ لِي: اكْتُبْ عَقِيدَتَكَ، وَأَنَا أَمْضِي عَلَيْهَا بِخَطِّي أَنَّهَا عَقِيدَتِي.
84
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَاقِبَةَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَتَأْوِيلَهَا فِي الْمِصْرِيِّينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ عَاقِبَتِهَا وَتَأْوِيلَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْبَلِيغَةِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْبِيَرُ عَنِ اسْتِخْلَافِ اللهِ قَوْمًا فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِالْإِيرَاثِ، أَيْ وَأَعْطَيْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ فِي مِصْرَ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْخِصْبِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، مَشَارِقُهَا مِنْ حُدُودِ الشَّامِ وَمَغَارِبُهَا مِنْ حُدُودِ مِصْرَ تَحْقِيقًا لِوَعْدِنَا وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٢٨: ٥، ٦)
رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِيرِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هِيَ قُرَى الشَّامِ، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَوْذَبٍ: فَلَسْطِينُ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ اللهَ بَارَكَ فِي الشَّامِ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْعَرِيشِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (٢١: ٧١) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (٢١: ٨١) وَقَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بَعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (١٧: ١).
وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي كَانَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ وَفَلَسْطِينَ جَمِيعًا، وَرُبَّمَا يَتَرَاءَى أَنَّ إِرَادَةَ أَرْضِ مِصْرَ هِيَ الْظَاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٦: ٥٧، ٥٩) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٤٤: ٢٥ - ٢٨) لِأَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَأِ وَالْجُنْدِ مِنْ مِصْرَ وَتَرَكُوا
85
مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، إِلَى الْغَرَقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَحِيمِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَظْهَرُ فِي بِلَادِ الشَّامِ ذَاتِ الْجَنَّاتِ الْكَثِيرَةِ، وَالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ، وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا إِزَالَةُ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَنْهَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ التَّفَكُّهِ بِنَعِيمِهَا، فَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ فَلَسْطِينَ إِلَى الشَّامِ تَابِعَةً لِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُسْتَعْمِرَةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا حُكَّامًا وَجُنُودًا لِئَلَّا تَنْتَقِضَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسْكُنَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِخَيْرَاتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ جُمْلَةً مِنَ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْقَدِيمِ الْوَحِيدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ ذِكْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْطِقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ كَانَتْ تَابِعَةً لِمِصْرَ.
عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا مِنْ أَنَّ مُوسَى اسْتَوْلَى عَلَى مِصْرَ، وَتَمَتَّعَ هُوَ وَقَوْمُهُ بِالسِّيَادَةِ فِيهَا طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ، نَذْكُرُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صِدْقُ الْآيَاتِ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَى صِحَّةِ مَضْمُونِهِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةٍ لِأَحَدِ مَبَاحِثِ الدُّكْتُورِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَعَقَائِدِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهَذَا نَصُّهُ (كَمَا فِي ص٤٤٦، ٤٤٧ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ) :
" جَاءَ فِي كِتَابِ (الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ) صَفْحَةِ ٨٨ لِمُؤَلِّفِهِ لِيَنْجَ أَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الشَّهِيرَ نَقَلَ عَنْ (مَانِيثُونَ) هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمِصْرِيَّةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي مُلَخَّصُهَا " أَنَّ مُوسَى بَعْدَ أَنْ هَزَمَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ - الَّذِي فَرَّ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ - حَكَمَ مِصْرَ ١٣ سَنَةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى فِرْعَوْنَ هُوَ وَابْنُهُ، وَمَعَهُمَا جَيْشٌ عَظِيمٌ فَقَهَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ " وَجَاءَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ
لِبُوسْتَ مُجَلَّدِ ١ص٤١٠ أَنَّ هِيرُودُوتَسَ الْمُؤَرِّخَ الْيُونَانِيَّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ قَالَ: " إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ ضُرِبَ بِالْعَمَى مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ رَمَى رُمْحَهُ فِي النَّهْرِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَمْوَاجُهُ وَقْتَ فَيْضِهِ؛ بِسَبَبِ نَوْءٍ شَدِيدٍ إِلَى عُلُوٍّ غَيْرِ اعْتِيَادِيٍّ " اهـ، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ هَذَا (وَهُوَ مِنْفِتَاحُ الثَّانِي) هُوَ فِرْعَوْنُ الْخُرُوجِ، وَيَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ إِشَارَةً إِلَى غَرَقِهِ فِي زَمَنِ مُوسَى، لَكِنْ يَرَى الْقَارِئُ مِنْهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْغَرَقِ لَكَانَ الْغَرَقُ فِي النِّيلِ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُعْلَمُ أَنَّ مُوسَى حَكَمَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ ١٣ سَنَةً فِي مِصْرَ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا مِنْ أَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتَا الْوَحِيدَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ الْمِصْرِيِّينَ اسْتَغَاثُوا بِمَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى بِالْخُرُوجِ حِينَئِذٍ مِنْ مِصْرَ، وَتَرْكِهَا لِأَهْلِهَا، وَعَلَيْهِ يَجُوزُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَتَمُوا خَبَرَ غَرَقِ مَلِكِهِمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ دَعْوَى تَقَهْقُرِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ
86
وَأَخْرَجَ مُوسَى بِالْقُوَّةِ؛ سِتْرًا لِخِزْيِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، وَإِرْضَاءً لِمُلُوكِهِمْ وَأَسَرَ (جَمْعَ أُسُرِهِ بِالضَّمِّ) هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ، وَرُبَّمَا أَنَّهُ لَوْلَا عِظَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَشُهْرَتُهَا بَيْنَهُمْ لَأَنْكَرُوهَا بِالْمَرَّةِ.
" وَمِنْ ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ غَرَقِ الْمِصْرِيِّينَ مُبَاشَرَةً كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الَّتِي غَرَقَ فِيهَا فِرْعَوْنُ وَجَيْشُهُ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ سِنِينَ ".
وَيَرَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ أَنَّ هَاتَيْنِ الرُّوَايَتَيْنِ صَادِقَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي النِّيلِ، وَمَسْأَلَةِ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ ١٣ سَنَةً، وَأَمَّا الْغَرَقُ فِي النَّيْلِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقُرْآنِ مَثَلًا فِي سُورَةِ طَهَ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ (٢٠: ٣٨، ٣٩) ثُمَّ قَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ غَرَقَ فِي نَفْسِ الْيَمِّ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ مُوسَى وَهُوَ النِّيلُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (٢٨: ٧) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهَا بَعْدُ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودُهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
(٢٨: ٤٠).
" وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا هُوَ وَقَوْمُهُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ الْغَرَقِ فَهُوَ أَيْضًا الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَادَ أَيْ: فِرْعَوْنُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ (١٧: ١٠٣، ١٠٤) وَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٦: ٥٧ - ٥٩) وَيَجُوزُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُعْطِيَتْ لِمُوسَى فِي الطُّورِ قَبْلَ تَرْكِهِ حُكْمَ مِصْرَ.
" وَفِي زَمَنِ مُوسَى أَعْطَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ - بَدَلًا عَنْ مِصْرَ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا - الْمَمَالِكَ الَّتِي فِي شَرْقِ الْأُرْدُن كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي زَمَنِ يَشُوعَ أَعْطَاهُمْ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَّا بَعْضَ أَجْزَاءٍ مِنْهَا (يش ١٣: ١) وَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُمْ هِيَ مِنْ أَخْصَبِ أَرَاضِي الْعَالَمِ وَأَحْسَنِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا مِنْ قَبْلُ.
" فَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِلْمُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ؟ وَمُغَايِرٌ لِلتَّوْرَاةِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا - حَتَّى الْآنَ - إِلَّا وَاسِعُو الِاطِّلَاعِ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ؟
" وَأَمَّا مَانِيثُو Manetho الْمَذْكُورُ هُنَا الَّذِي وَافَقَتْ رِوَايَتُهُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ كَاهِنًا لِمَعْبَدٍ مِنْ أَقْدَمِ الْمَعَابِدِ وَأَشْهَرِهَا، وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخَ مِصْرَ بِأَمْرِ بَطْلَيْمُوسَ فِيلَادَلْفُوسَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَدَقِّ مُؤَرِّخِي الْقُدَمَاءِ وَأَصْدَقِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ بِأَوْثَقِ الْمَصَادِرِ
87
وَأَصَحِّهَا فِي كِتَابَةِ تَارِيخِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّارِيخَ فُقِدَ مَعَ مَا فُقِدَ فِي حَرِيقِ مَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى مُقْتَطَفَاتٍ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَقَدْ أَيَّدَ أَكْثَرُ هَذِهِ الْمُقْتَطَفَاتِ مَا اكْتُشِفَ حَدِيثًا مِنَ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْمَكْتُوبَاتِ الْعَتِيقَةِ مَعَ أَنَّ آبَاءَ النَّصْرَانِيَّةِ كِيُوسِيبْيُوسَ حَرَّفُوا كَعَادَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا نَقَلُوهُ مِنْهَا لِتُطَابِقَ نُصُوصَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ لِيَنْجُ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ " ص١١ مِنْهُ اهـ.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا تَمَامُ الشَّيْءِ: وُصُولُهُ إِلَى آخِرِ حَدِّهِ، وَكَلِمَةُ اللهِ: وَعْدُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ. فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرٍ: مَضَى عَلَيْهِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرِكَ، وَتَمَّ
إِلَى مَقْصِدِكَ، وَالْمَعْنَى: نَفَذَتْ كَلِمَةُ اللهِ، وَمَضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَامَّةً كَامِلَةً؛ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ الَّتِي كَابَدُوهَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ مَقْرُونًا بِأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّقْوَى لَهُ كَمَا أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْلِيغًا عَنْهُ تَعَالَى. رَاجِعْ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا الْآيَةَ، مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَإِذْ كَانَ قَدْ تَمَّ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ سَلَبَهُمُ اللهُ تِلْكَ الْأَرْضَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مُقْتَضَى الْوَعْدِ أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ، وَنَفَذَ صِدْقًا وَعَدْلًا.
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ التَّدْمِيرُ: إِدْخَالُ الْهَلَاكِ عَلَى السَّالِمِ وَالْخَرَابِ عَلَى الْعَامِرِ، الْعَرْشُ: رَفْعُ الْمَبَانِي وَالسَّقَائِفِ لِلنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ الْمُتَسَلِّقِ كَعَرَائِشِ الْعِنَبِ، وَمِنْهُ عَرْشُ الْمَلِكِ، وَالْمُرَادُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَيْدِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْأَوَّلُ كَالْمَبَانِي الَّتِي كَانُوا يَبْنُونَهَا لِلْمِصْرِيِّينَ أَوْ يَصْنَعُونَ اللَّبَنَ لَهَا، وَمِنْهَا الصَّرْحُ الَّذِي أُمِرَ هَامَانُ بِبِنَائِهِ؛ لِيَرْقَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، وَالثَّانِي: كَالْمَكَايِدِ السِّحْرِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا السَّحَرَةُ؛ لِإِبْطَالِ آيَاتِهِ أَوِ التَّشْكِيكِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ (٢٠: ٦٩) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمِلَهُ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٤٠: ٣٦، ٣٧) وَالتَّبَابُ بِمَعْنَى الدَّمَارِ.
وَأَمَّا أَسْبَابُ هَذَا التَّدْمِيرِ لِذَلِكَ الصُّنْعِ وَالْعُرُوشِ فَأَوَّلُهَا: الْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَغَيْرِهَا -، وَتُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ الضَّرَبَاتِ، وَفِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي ضَرَرِهَا وَتَخْرِيبِهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ - وَيَلِيهَا: إِنْجَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحِرْمَانُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ اسْتِعْبَادِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَثَالِثُهَا: هَلَاكُ مَنْ غَرَقَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَحِرْمَانُ الْبِلَادِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ مِنْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعُمْرَانِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْهَا، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى
88
بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَدْ أَنْذَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ ذَلِكَ لِيَتَّقُوا سُوءَ عَاقَبَتِهِ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْإِعْنَاتِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَفَكَّرَ تَالِي الْقُرْآنِ فِي
تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْوَحْيِ فِي مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ إِذْ تَصَدَّيَا لِأَعْظَمِ مَلِكٍ فِي أَعْظَمِ دَوْلَةٍ فِي الْأَرْضِ، قَاهِرَةٍ لِقَوْمِهِمَا، وَمُعَبِّدَةٍ لَهُمْ فِي خِدْمَتِهَا مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، فَدَعَوَاهُ إِلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، وَتَعْبِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْذَرَاهُ وَهَدَّدَاهُ، وَمَا زَالَا يُكَافِحَانِهِ بِالْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى أَظْفَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْقَذَا قَوْمَهُمَا مِنْ ظُلْمِهِ وَظُلْمِ قَوْمِهِ.
فَجَدِيرٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا إِلَى التَّفَكُّرِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، كَمَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ إِذَا هُمْ قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَأَلَّا يَسْتَعْظِمُوا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ قُوَّةَ الدَّوْلَةِ الظَّالِمَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْحَقِّ الَّتِي نَصَرَهَا اللهُ تَعَالَى بِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَعْظَمِ الدُّوَلِ لَا تُغْلَبُ إِذَا نَصَرْنَاهَا، وَنَحْنُ مِئَاتُ الْمَلَايِينِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (٤٧: ٧) وَيَقُولُ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧)
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَجَدَّدَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْيَهُودِ انْتِزَاعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِهَا الْعَرَبِ، وَتَنَازَعُ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ وَعْدِ اللهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَا أَنْجَزَهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُعْتَبِرُ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ وَعْدِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا لِلْعَرَبِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَآلِهِمُ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَلَعْنَتُهُ وَخِزْيُهُ عَلَى الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ الْمُضِرِّينَ. فَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ لِلْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا كَانُوا مُتَّقِينَ، وَأَخْطَأَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ رَسُولِهِمْ فَأَدَّبَهُمِ اللهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ.
أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ مُوسَى مِنْ مِصْرَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَرْضُ، بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنْهُمْ وَلَا سَعْيٍ، فَامْتَنَعُوا مِنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجَبَّارِينَ، قَالُوا لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٥: ٢٤) فَحَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا عَرَضَ الْغُرُورُ لِبَعْضِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ بِمَا كَانَ مِنْ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالزَّادِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ كَمَا وُعِدُوا، وَإِنْ قَصَّرُوا فِيمَا أُمِرُوا، فَلَمَّا أُصِيبُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ تَعَجَّبُوا وَاسْتَفْهَمُوا، فَأَجَابَهُمْ
89
اللهُ تَعَالَى بِمَا عَلِمُوا بِهِ أَنَّ وَعْدَهُ الْمُطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: كَتَبَ اللهِ لِأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (٥٨: ٢١) وَقَوْلُهُ:
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) مُقَيَّدٌ بِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (٤٧: ٧) وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (٨: ٤٦) أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (٣: ١٦٥) إِلَى آخِرِ مَا فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَعَ سِيَاقِهَا مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.
نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ الْأَوَّلَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ لِذُرِّيَّتِهِ، فَجَعَلَهَا أَوَّلًا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْحَاقَ، ثُمَّ نَزَعَهَا مِنْهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ أَعْطَاهَا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ انْتَزَعَ السُّلْطَانَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَيْضًا بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَجَدَّدَ التَّنَازُعُ فِي رَقَبَتِهَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ - بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَنِي إِسْمَاعِيلَ - بِإِغْرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَأَوْقَعُوا الشِّقَاقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيهَا، وَهُمْ أَحَذَقُ الْخَلْقِ فِي ضَرْبِ الشُّعُوبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَسَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ قَوْمُنَا بِالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَّكِلنَّ عَلَى الْمُتَّجِرِينَ بِالْأَقْوَامِ، وَلَا يَنْخَدِعَنَّ بَعْدُ بِشَقَاشِقِ الْكَلَامِ، وَلَا يَنُوطُنَّ الزَّعَامَةَ بِأَصْحَابِ الْأَنْسَابِ الْفَاقِدِينَ لِلْعِلْمِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ ثَبَتَتْ مُوَالَاتُهُمْ لِأَعْدَاءِ الْبِلَادِ، وَسَالِبِي اسْتِقْلَالِهَا، وَوَاضِعِي الْخُطَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِانْتِزَاعِ رَقَبَتِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالِانْقِرَاضِ مِنْهَا بِتَعَذُّرِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، لَا بِالْإِبْعَادِ الْقَسْرِيِّ عَنْهَا، بِأَنْ يَكُونَ شَأْنُهُمْ فِي هَذَا كَسُكَّانِ أَمْرِيكَا قَبْلَ اسْتِعْمَارِ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ لَهَا.
وَلَا مُنْجَاةَ لِعَرَبِ فَلَسْطِينَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ شَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا أَشَدُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَثَرْوَةً وَدَهَاءً وَكَيْدًا، وَعِلْمًا وَصَبْرًا وَجَلَدًا، إِلَّا بِاتِّحَادِهِمْ مَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِاسْتِبْسَالِ، وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الدِّفَاعِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ أُمَّتِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَمَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ الْمَعْنَوِيِّ عَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمَا، وَلَا أَمْنَ عَلَيْهِمَا، مَعَ إِحَاطَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِهِمَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطُوا خَطْوَةً وَاحِدَةً فِي طَرِيقِ الْوَحْدَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ خَطَوْا خَطْوَتَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ فِي سَبِيلِ الشِّقَاقِ، وَالتَّفَرُّقِ بَيْنَ الْإِمَارَاتِ الْمُسَلَّحَةِ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، نَفَّرُوا بِهِمَا أَكْبَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهُمْ.
(الْأُولَى) : مُوَالَاةُ صَاحِبِ الْحِجَازِ الَّذِي أَعَانَ الْإِنْكِلِيزَ عَلَى فَتْحِ بِلَادِهِمْ ثُمَّ
كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مُثَبِّتًا لِأَقْدَامِهِمْ فِيمَا جَاوَرَهَا، وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِهَا، بِأَنْ أَقَرُّوهُ عَلَى انْتِحَالِهِ لِنَفْسِهِ مَلِكَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى سَعْيِهِ لِإِخْضَاعِ تِلْكَ الْإِمَارَاتِ لِحُكْمِهِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى قُوَّةِ الْغَاصِبِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَوْلَا وُجُودُ أَحَدِ أَوْلَادِهِ (عَبْدِ اللهِ) فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ
90
الْإِنْكِلِيزِيَّةِ الْغَاصِبَةِ لِفَلَسْطِينَ، وَالْمُنْتَزِعَةِ لِلسِّيَادَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا؛ لَأَمْكَنَ أَنْ يَتَّحِدَ عَرَبُهَا مَعَ عَرَبِ نَجْدٍ الْأَقْوِيَاءِ عَلَى إِنْقَاذِهَا، وَكَذَا مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ سَمَّى الْإِنْكِلِيزُ وَلَدَهُ (فَيْصَلًا) مَلِكًا عَلَيْهِمْ، بَلْ لَوْلَا افْتِتَانُهُ هُوَ بِمَا فَتَنُوهُ بِهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَلِكًا لِلْعَرَبِ، وَخَلِيفَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَا ثَبَتَتْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَدَمٌ لِلْمُسْتَعْمِرِينَ.
(وَالثَّانِيَةُ) : مُبَايَعَةُ جُمْهُورٍ كَبِيرٍ مِنْهُمْ لَهُ بِالْخِلَافَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا - لَوْ صَحَّتْ كَمَا يَدَّعِي وَيَدَّعُونَ لَهُ - أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى تِلْكَ الْإِمَارَاتِ شَرْعًا أَنْ تَخْضَعَ لِحُكْمِهِ وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهَا، وَإِخْضَاعُهَا بِالْقُوَّةِ، وَهَلْ كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ سَعْيٌ إِلَى شِقَاقٍ، وَتَفَرُّقٍ شَرٍّ مِنْ هَذَا؟ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّحِدِينَ فَانْقَسَمُوا، وَصَارُوا أَحْزَابًا مُتَنَازِعَةً، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَغْيِيرَ الْحَالِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا شُرُوعٌ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِصَّتِهِ مَعَ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِ الْعِبْرَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ لَغْوِ الْقَصَصِ وَالتَّارِيخِ. قَالَ عَزّ وَجَلَّ:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ جَازَ الشَّيْءَ، وَجَاوَزَهُ وَتَجَاوَزَهُ: عَدَّاهُ وَانْتَقَلَ عَنْهُ، وَالْعُكُوفُ عَلَى
91
الشَّيْءِ: الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ الْعُكُوفُ وَالِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُلَازَمَتُهُ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَعْكِفُونَ) بِكَسْرِ الْكَافِ مِنْ بَابِ جَلَسَ يَجْلِسُ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مِنْ بَابِ قَعَدَ يَقْعُدُ، وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ أَوِ الْمَعْدِنِ مِثَالًا لِشَيْءٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ خَيَالِيٍّ أَوْ مُذَكِّرًا بِهِ لِيُعَظَّمَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، وَاتَّخَذَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَنَمًا مِنْ عَجْوَةِ التَّمْرِ فَعَبَدُوهُ ثُمَّ جَاعُوا فَأَكَلُوهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّمْثَالِ: أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِثَالًا لِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْعِبَادَةِ، وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى صَنَمًا، وَقَدْ يَكُونُ لِلزِّينَةِ كَالَّذِي نَرَاهُ عَلَى جُدْرَانِ بَعْضِ الْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ أَوْ أَبْوَابِهَا أَوْ فِي حَدَائِقِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ غَيْرِ الدِّينِيِّ كَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي تُنْصَبُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ، وَكِبَارِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا أَوِ الْقُوَّادِ وَالزُّعَمَاءِ؛ لِلتَّذْكِيرِ بِتَارِيخِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَيَكْثُرُ هَذَا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ، وَقَلَّدَهُمْ بَعْضُ بِلَادِ الشَّرْقِ كَمِصْرَ، فَنَصَبَتْ حُكُومَتُهَا تَمَاثِيلَ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ بَيْتِ الْمَلِكِ الْحَاضِرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّعْظِيمِ السِّيَاسِيِّ أَوِ الْعِلْمِيِّ، وَبَيْنَ تَعْظِيمِ الْعِبَادَةِ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْأَوَّلِ إِمَّا رِفْعَةُ شَأْنِ الدَّوْلَةِ، وَتَمْكِينُ سُلْطَانِهَا عَلَى أَنْفُسِ الْأُمَّةِ بِمُشَاهِدَةِ صُوَرِ مُلُوكِهَا، وَكُبَرَاءِ رِجَالِهَا وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَهُوَ قَصْدٌ سِيَاسِيٌّ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِهِ - وَإِمَّا بَعْثُ شُعُورِ حُبِّ الْعِلْمِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ نَفَعُوا أُمَّتَهُمْ، عَسَى أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُمْ أَوْ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَصْدٌ اجْتِمَاعِيٌّ صَحِيحٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّرْبِيَةِ، وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْعِبَادَةِ فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّقَرُّبُ مِنَ الْمَعْبُودِ، وَطَلَبُ ثَوَابِهِ بِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبِ لَا الْكَسْبِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، فَتَعْظِيمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّ لَهُ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً أَوْ تَعْظِيمُ مَا يُذَكَرُ بِهِ مِنْ صُورَةٍ أَوْ تِمْثَالٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ؛ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُنَالُ بِالْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ -، وَهِيَ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِجَاهِهِ - كُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُعَظِّمُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ، أَوْ لِمَا يَذْكَرُ بِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ نَفْسِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ التَّعْظِيمِ بِالْقَوْلِ كَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَالطَّوَافِ بِتِمْثَالِهِ أَوْ قَبْرِهِ، وَتَقْبِيلِهِ وَالتَّمَرُّغِ بِأَرْضِهِ - كَانَتِ الْعِبَادَةُ خَالِصَةً
لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِنْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيَحْمِلَهُ بِجَاهِهِ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا يُرِيدُ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَهُ، وَلِلَّهِ تَعَالَى بِالِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا مِنْ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ الَّتِي لَا يُخْرِجُهَا تَغْيِيرُ التَّسْمِيَةِ عَنْ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ شِرْكًا.
اسْتِطْرَادٌ فِقْهِيٌّ
حَظَرَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيُّ نَصْبَ التَّمَاثِيلِ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا شِرْكٌ أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، أَوْ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِهِ، وَهِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّدَلِّي، فَأَغْلَظُهَا أَوَّلُهَا، وَأَخَفُّهَا ثَالِثُهَا. وَلِلتَّشَبُّهِ دَرَجَاتٌ فِي الْحَظْرِ أَشَدُّهَا مَا كَانَ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا، وَأَهْوَنُهَا مَا كَانَ فِي الْعَادَاتِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا
92
فَنَجْتَنِبُ مِنْهُ مَا لَنَا غِنًى عَنْهُ، وَمَا كَانَ نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ بِنَفْسِهِ لَا نَأْخُذُهُ بِقَصْدِ التَّشَبُّهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ تَعْظِيمِ الْمُتَشَبِّهِ لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَوْ يَسْتَلْزِمُ احْتِقَارَهَا أَوِ احْتِقَارَهُمْ وَالشُّعُورَ بِأَنَّهُمْ دُونَهُمْ، وَأَمَّا اقْتِبَاسُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ النَّافِعَةِ؛ لِأَجْلِ مَنْفَعَتِهَا بِقَدْرِهَا فَلَيْسَ مِنَ التَّشَبُّهِ، وَلَا مِنْ تَفْضِيلِ الْمُقْتَبِسِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَلَا اقْتُبِسَتْ لِأَجْلِ التَّعْظِيمِ بَلْ لِفَائِدَتِهَا، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ مِمَّا تَعْتَزُّ بِهِ مِلَّةُ الْمُقْتَبِسِ الْمُسْتَفِيدِ وَأَهْلِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَلَ الْخَنْدَقِ عَنِ الْفُرْسِ؛ إِذْ أَخْبَرَهُ سَلْمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ وَاجِبًا شَرْعًا، وَمِنْهُ أَخْذُنَا لِفُنُونِ الْحَرْبِ وَصِنَاعَتِهَا وَآلَاتِهَا عَنِ الْإِفْرِنْجِ؛ إِذْ أَتْقَنُوهَا قَبْلَنَا، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِلَا نِزَاعٍ، فَالْأُمَّةُ الْحَيَّةُ تَقْتَبِسُ كُلَّ شَيْءٍ نَافِعٍ يُغَذِّي حَيَاتَهَا، وَيَزِيدُهَا قُوَّةً وَعِزَّةً، وَتَتَّقِي فِي ذَلِكَ كُلَّ مَا فِيهِ ضَعْفٌ لَهَا فِي مُقَوِّمَاتِهَا أَوْ مُشَخِّصَاتِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لِخُصُومِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهَا، وَقَدْ فَطِنَ الْيَابَانُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَحَافَظُوا عَلَى شُئُونِهِمُ الْمِلِّيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِمْ لِعُلُومِ الْفِرِنْجَةِ وَفُنُونِهَا، فَصَارُوا مِثْلَهُمْ فِي ثُلُثِ قَرْنٍ، وَغَفَلَ عَنْهُ التُّرْكُ وَالْمِصْرِيُّونَ فَأَضَاعُوا مِنْ مُلْكِهِمْ.
وَلَيْسَ فِي نَصْبِ التَّمَاثِيلِ فَائِدَةٌ وَمَنْفَعَةٌ ذَاتُ بَالٍ لَا تَحْصُلُ بِغَيْرِهَا تُبِيحُ لِلْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدَ الْوَثَنِيِّينَ وَالنَّصَارَى فِيهَا، وَلَوْ فِي جَعْلِهَا لِغَيْرِ رِجَالِ الدِّينِ بُعْدًا عَنْ شُبْهَةِ عِبَادَتِهَا، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَأْمَنُ هَذَا وَقَدْ عُبِدَتْ قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، كَمَا عَبَدَ غُلَاةُ الشِّيعَةِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ أَشْخَاصًا مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَنَرَى الشِّيعَةَ الْمُعْتَدِلِينَ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا نَصْبَ التَّمَاثِيلِ غَيْرِ الدِّينِيَّةِ قَدِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تِمْثَالًا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي بِلَادِ إِيرَانَ كَمَا نَقَلَتْ صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الصُّوَرُ فَلَهَا فَوَائِدُ فِي الْحَرْبِ، وَحِفْظِ الْأَمْنِ، وَتَحْقِيقِ مَعَانِي اللُّغَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا سِيَّمَا
الطِّبُّ وَالتَّشْرِيحُ... فَلَا يَحْظُرُ مِنْهَا مَا لَيْسَ عِبَادَةً، وَلَا تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهَتْكِ الْقِرَامِ (السِّتَارِ) الَّذِي نَصَبَتْهُ (عَائِشَةُ) فِي حُجْرَتِهَا؛ إِذْ كَانَ عَلَى هَيْئَةِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ، فَلَمَّا جَعَلَتْ مِنْهُ وِسَادَةً كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَعْمِلُهَا وَفِيهَا الصُّوَرُ؛ إِذْ كَانَ الِاتِّكَاءُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهَا امْتِهَانًا لَا تَعْظِيمًا، وَلَا يُشْبِهُ التَّعْظِيمَ الْوَثَنِيَّ. وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ بِبَيَانِ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي فَتَاوَى الْمَنَارِ مِرَارًا.
عَوْدٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
مَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَنَّهُمْ تَجَاوَزُوهُ بِعِنَايَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُمْ بِفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَيْسِيرِ الْأَمْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ بِذَاتِهِ فَجَاوَزَهُ مُصَاحِبًا لَهُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّنَا أَيَّدْنَاهُمْ بِبَعْضِ مَلَائِكَتِنَا، فَجَاوَزَ بِهِمُ الْبَحْرُ بِأَمْرِنَا، فَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ
93
أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمُلُوكِ، وَرُؤَسَاءِ الْقُوَّادِ مَا يُنَفِّذُهُ بَعْضُ أَتْبَاعِهِمْ بِأَمْرِهِمْ، وَمَا يَقَعُ بِجَاهِهِمْ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ. فَفَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ كَانَ بِعِنَايَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ. وَفِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ ذَكَرَ خَبَرَ ارْتِحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: " (٢٠) وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودٍ مِنْ غَمَامٍ؛ لِيَهْدِيَهُمُ الطَّرِيقَ، وَلَيْلًا فِي عَمُودٍ مِنْ نَارٍ؛ لِيُضِيءَ لَهُمْ لِيَسِيرُوا نَهَارًا وَلَيْلًا (٢١) لَمْ يَبْرَحْ عَمُودَ الْغَمَامِ نَهَارًا أَوْ عَمُودَ النَّارِ لَيْلًا مِنْ أَمَامِ الشَّعْبِ " ثُمَّ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ بَعْدَ ذِكْرِ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩) فَانْتَقَلَ مَلَاكُ اللهِ السَّائِرُ أَمَامَ عَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَصَارَ وَرَاءَهُمْ وَانْتَقَلَ عَمُودُ الْغَمَامِ مِنْ أَمَامِهِمْ فَوَقَفَ (٢٠) وَرَاءَهُمْ وَدَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ؛ فَكَانَ مِنْ هُنَا غَمَامًا مُظْلِمًا، وَكَانَ مِنْ هُنَاكَ يُنِيرُ اللَّيْلَ فَلَمْ يَقْتَرِبْ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طُولَ اللَّيْلِ ".
هَذَا بَعْضُ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ بِالْبَاءِ هُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِكَ: سَافَرْتُ بِهِ وَجِئْتُ بِهِ، وَإِسْنَادُ الْمَسِيرِ فِي عَمُودِ الْغَمَامِ إِلَى الرَّبِّ مَجَازِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (٢: ٢١٠) (فَأَتَوْا) عَقِبَ تَجَاوُزِهِمْ إِيَّاهُ، وَدُخُولِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَرِّ الْأَسْيَوِي عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ يَعْبُدُونَهَا، فَمَاذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ إِذْ رَأَوْهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى كَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ أَنْقَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَأَرَاهُمْ آيَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ فِيهِمْ؟ هَلِ اسْتَهْجَنُوا شِرْكَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ كَمَا هُوَ
الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ؟ وَالْمَعْقُولُ مِمَّنْ رَأَى مَا رَأَوْا مِنْ سُوءِ مَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ، وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُوَحِّدِينَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا بِقُلُوبِهِمْ، بَلْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً حَنِينًا مِنْهُمْ إِلَى مَا أَلِفُوا فِي مِصْرَ مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ وَتَمَاثِيلِهَا وَأَنْصَابِهَا وَقُبُورِهَا، فَعَلِمَ بِهَذَا الطَّلَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فَهِمُوا التَّوْحِيدَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى كَمَا فَهِمَهُ مَنْ آمَنَ مِنْ سَحَرَةِ الْمِصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَأَمْكَنَهُمُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَبَيْنَ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِنَاعَاتِ الْبَشَرِ وَعُلُومِهِمْ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فَكَانُوا مِنَ الْعَامَّةِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَلَّدَ الذُّلُّ أَفْهَامَهُمْ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا مُوسَى لِإِنْقَاذِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ ظُلِمَ فِرْعَوْنَ وَتَعْبِيدِهِ لَهُمْ، لَا لِفَهْمِهِمْ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهُمْ بَعْضُ الْقَوْمِ لَا جَمِيعُهُمْ، فَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ الْخَالِصُ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ هُوَ غَايَةُ مَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ عِرْفَانُ الْبَشَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥١: ٥٦) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ " اللَّامَ " لِلْغَايَةِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ عَقَلَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُنْهَ التَّوْحِيدِ لِمَا وَقَعَ مِنْ تَبَرُّمِهِمْ بِالتَّكَالِيفِ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ، وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي لَدَيْهِمْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالتَّفْصِيلِ لَهُ مَا هُوَ مِنْ
94
مُوَاطِنِ الْعَجَبِ، وَقَدِ ابْتَلَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَرَبَّاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَحَرَّمَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى انْقَرَضَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي حِجْرِ الْوَثَنِيَّةِ، وَشَبَّ أَوِ اكْتَهَلَ أَوْ شَاخَ، فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ، وَقَدْ رَأَيْنَا نَمُوذَجًا لِذَلِكَ فِي طَوَائِفَ مِنْ أُمَّتِنَا وُلِدُوا فِي مَهْدِ الظُّلْمِ، وَشَبُّوا فِي حِجْرِ النِّفَاقِ وَالْفِسْقِ، فَسَنَحَتْ لِأَعْلَمِهِمْ بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ فُرَصٌ مُتَعَدِدَةٌ، كَانَ يُرْجَى أَنْ يُحَرِّرُوا فِيهَا أَنْفُسَهُمْ مِنْ رِقِّهَا السِّيَاسِيِّ وَيَسْتَقِلُّوا بِأَمْرِهِمْ فَأَضَاعُوهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَانَ هَذَا مِنْ عِبَرِ التَّارِيخِ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ فَلَاحَ الْأُمَمِ بِأَخْلَاقِهَا وَعَقَائِدِهَا، وَأَنَّ الْعِلْمَ النَّاقِصَ شَرٌّ مِنَ الْجَهْلِ الْمُطْلَقِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ فِي الرَّجُلِ أَوِ الشَّعْبِ الْفَاسِدِ الْأَخْلَاقِ كَالسَّيْفِ فِي يَدِ الْمَجْنُونِ رُبَّمَا جَنَى بِهِ عَلَى صَدِيقِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا نَصَرَ بِهِ عَدُوَّهُ.
وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَتَى عَلَيْهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَقِبَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُقِيمُونَ بِقُرْبِ حُدُودِ مِصْرَ، رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ مِنْ عَرَبِ لَخْمٍ، وَعَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ: لَخْمٌ وَجُذَامٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ كَانَتْ
تَمَاثِيلَ بَقَرٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَلَمَّا كَانَ عِجْلُ السَّامِرِيِّ شُبِّهَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْبَقَرِ فَذَاكَ كَانَ أَوَّلَ شَأْنِ الْعِجْلِ؛ لِتَكُونَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ فَيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ (أَقُولُ) : وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَعْلَمُ أَنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عِجْلًا اسْمُهُ (أَبِيسُ)، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْبُدُونَهُ مَعَهُمْ كَغَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَيَرَوْنَ تَمَاثِيلَهُ مَنْصُوبَةً فِي مَعَابِدِهِمْ، وَأَنَّ السَّامِرِيَّ لَمْ يَصْنَعْ لَهُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَا كَانَ مِنْ إِلْفِهِمْ لِعِبَادَتِهِ، وَتَأَثُّرِ أَعْصَابِهِمْ بِمَا وَرِثُوا مِنْ مَظَاهِرِ رَوْعَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ (٢: ٩٣) وَالْمُرَادُ عِجْلُ السَّامِرِيِّ، وَقَدْ عَلَّلَ إِشْرَابَهُمْ إِيَّاهُ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ؛ أَيْ: بِالْوِرَاثَةِ الْمُتَغَلْغِلَةِ فِي النَّفْسِ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَتَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَطُولُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَعْقَابِ وَالْأَنْسَالِ. أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا اسْتَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَلَّدَهُمْ فِيهِ بَعْضُ الْمُلُوكِ مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى السُّنَّةِ: مِنْ تَشْيِيدِ الْقُبُورِ، وَتَزْيِينِهَا بِالْعَمَائِمِ وَالسُّتُورِ، وَبِنَاءِ الْقِبَابِ فَوْقَهَا، وَاتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ يُصَلَّى إِلَيْهَا أَوْ لَدَيْهَا، وَإِيقَادِ السُّرُجِ وَالشُّمُوعِ عَلَيْهَا، أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا مَكَانَةً دِينِيَّةً كَبِيرَةً فِي قُلُوبِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى صَارَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَعُدُّونَ مَنْ رَوَى لَهُمُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي لَعْنِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبْتَدِعًا فِيهِ أَوْ مَارِقًا مِنْهُ، وَيَنْبِزُونَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِلَقَبِ " وَهَّابِيٍّ " إِذْ كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ سُمِّيَتِ الْوَهَّابِيَّةَ قَدْ عَمَدُوا إِلَى إِزَالَةِ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ بِأَيْدِيهِمْ، لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِزَالَتِهَا إِنْكَارُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ الْمُصْلِحِينَ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ
95
بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ يَعْنِي الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ، وَلَوْ مَعَ الْعَجْزِ عَمَّا فَوْقَهُ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، إِذَا عَلِمْنَا هَذَا الشَّأْنَ مِنْ شُئُونِ الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ فَلَا نَعْجَبُ أَنْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ حَدِيثِي الْعَهْدِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْإِسْلَامِ، مِثْلُ مَا طَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ مَظَاهِرِ الْوَثَنِيَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ. رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَكْثَرُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قِبَلَ حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ لَتَرْكَبُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ " وَرَوَى نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ،
عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي طَلَبُوا فِيهِ ذَلِكَ بَيْنَ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْآنَ ذَوَاتِ أَنْوَاطٍ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ كَشَجَرَةِ " السِّتِّ الْمُنْدِرَةِ " وَشَجَرَةِ الْحَنَفِيِّ بِمِصْرَ، وَنَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْقُبُورِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَالْآبَارِ يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا، وَيَطُوفُونَ حَوْلَهَا، وَيُقَبِّلُونَهَا وَيَتَمَرَّغُونَ بِأَعْتَابِهَا، وَيَتَمَسَّحُونَ بِهَا خَاضِعِينَ ضَارِعِينَ، خَاشِعِينَ دَاعِينَ رَاجِينَ شِفَاءَ الْأَدْوَاءِ، وَالِانْتِقَامَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَالْغِنَى وَالثَّرَاءَ، وَحَبَلَ الْعَقِيمِ، وَرَدَّ الضَّالَّةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ وَكَشْفِ الضُّرِّ، خِلَافٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تُسَمَّى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ آلِهَةً، وَأَنَّ جُلَّ مَا يَأْتُونَهُ عِنْدَهَا يُسَمَّى عِبَادَةً، وَأَنَّهُ شِرْكٌ جَلِيٌّ لَا يُغْفَرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شِرْكِ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ إِلَّا الِاخْتِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، فَأُولَئِكَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْمَائِهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهَؤُلَاءِ تَحَامَوْا إِطْلَاقَ لَفْظِ الْإِلَهِ وَالْمَعْبُودِ وَالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاسْتَبَاحُوا غَيْرَهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ وَالْوَسِيلَةِ وَالتَّوَسُّلِ، وَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَأَنَّ اللهَ تَعَبَّدَ النَّاسَ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ دُونَ حَقَائِقِ الْمَعَانِي، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَفِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ: يَشْمَلُ كُلَّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يُوَجَّهُ إِلَى مُعَظَّمٍ يُرْجَى نَفْعُهُ أَوْ يُخْشَى ضَرُّهُ وَحْدَهُ - وَهَذَا تَوْحِيدٌ لَهُ - أَوْ يُرْجَى وَيُخَافُ بِالتَّأْثِيرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ - بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجَاءُ فِيهِ أَوِ الْخَوْفُ مِنْهُ لِأَمْرٍ غَيْبِيٍّ خَارِجٍ عَنِ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذَا آنِفًا وَقَبْلَهُ مِرَارًا، وَيَظُنُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مِلَلِ الْوَثَنِيِّينَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّكُونَ بِهَا لِذَاتِهَا، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ بِقُدْرَتِهَا وَإِرَادَتِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ
96
يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى الْخَالِقِ كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ فِي الْهِنْدِ.
مَاذَا كَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِشَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِنَا وَطَرِيقَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالْخَصَّافِ: يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الْعِلْمِ، وَالْجَهْلِ الَّذِي هُوَ سَفَهُ النَّفْسِ وَطَيْشُ الْعَقْلِ، وَأَهَمُّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ جَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ إِفْرَادِ الرَّبِّ
تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَا التَّقَيُّدِ بِمَظْهَرٍ مِنَ الْمَظَاهِرِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَلَا سِيَّمَا مَظْهَرُ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ الْجَاهِلُونَ مِنْ قَبْلُ بِنَفْعِهَا أَوِ الْخَوْفِ مِنْ ضَرَرِهَا، فَالْأَوَّلُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنِّيلِ وَالْعِجْلِ أَبِيسَ، وَالثَّانِي كَالثُّعْبَانِ، ثُمَّ جَهْلِ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْبَشَرَ فَجَعَلَهُمْ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وَدُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ كِفَاحًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَيُقْصَدُ وَحْدَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِمَامَا الْمُوَحِّدِينَ، إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦: ٧٩) وَأَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (٣: ٢٠).
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَهْلِ هُوَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (٢: ١٣٠) وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى الْقَوْمِ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ بِمَا هُوَ كَالْمُتَحَقَّقِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَالِهِمْ، الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِمَقَالِهِمْ، يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِسُوءِ حَالِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ وَسَفَاهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فَسَادَ مَا طَلَبُوهُ فِي نَفْسِهِ عَسَى أَنْ تَسْتَعِدَّ عُقُولُهُمْ لِفَهْمِهِ، وَاسْتِبَانَةِ قُبْحِهِ، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ التَّبَارُ وَالتَّبْرُ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالتَّتْبِيرُ: الْهَلَاكُ. يُقَالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ مِنْ بَابِي تَعِبَ وَنَصَرَ، وَتَبَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: أَهْلَكَهُ وَدَمَّرَهُ؛ أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْكُفُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ مَقْضِيٌّ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ بِالتَّبَارِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ؛ أَيْ: هَالِكٌ وَزَائِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، فَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي تَرْكِ الْحَقِّ لَهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْبِشَارَةَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَوَالِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ طَلَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَكٍّ مِنْهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ
97
اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ إِلَهًا يُعَظِّمُونَهُ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِتَعْظِيمِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالدِّيَانَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَهْلَهُمْ كَمَا آذَنَتْ بِهِ الْآيَاتُ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَقُولَ الْعَاقِلُ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً وَخَالِقًا مُدَبِّرًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِجَعْلِ مُوسَى وَتَدْبِيرِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَمُدَبِّرًا لَهُ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الْعَقْلِ،
وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَتَمَاثِيلَ يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حَيْثُ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (٣٩: ٣) إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرًا؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى كُفْرٌ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا فِي ذَلِكَ كَوْنَهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ أَوِ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّ عِبَادَتَهُ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَا كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَرَفَّعُ عَنْهُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَهْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ، فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَهِيَ بِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَلَّا تَلِيقَ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ (فَإِنْ قَالُوا) إِذَا كَانَ مُرَادُهُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى فَمَا الْوَجْهُ فِي قُبْحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؟ (قُلْنَا) : فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَتَّخِذُوهَا آلِهَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا كَالْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُمْ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ اهـ.
أَقُولُ: مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَقَعَ أَمَامَ النُّظَّارِ فِي عِلْمِ الْعَقَائِدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ أَسْئِلَتُهُ وَأَجْوِبَتُهُ وَالتَّنَاقُضُ فِي كَلَامِهِ، وَمَنْشَأُ هَذَا الْخَطَأِ الْغَفْلَةُ عَنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهَا بِلَوَازِمِ مَعْنَاهَا الْعُرْفِيَّةِ كَلَفْظِ " الْإِلَهِ " فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ مُطْلَقًا لَا الْخَالِقُ وَلَا الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَلَا بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ سَمَّوْا أَصْنَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ آلِهَةً، يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّاتَ أَوِ الْعُزَّى أَوْ هُبَلًا خَلَقَ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ أَوْ يُدَبِّرُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا تَدْبِيرُ أُمُورِ الْعَالَمِ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى لَفْظِ الرَّبِّ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرَ أُمُورِهِمَا هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّ آلِهَتَهُمْ لَيْسَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ شَيْءٌ، وَإِنَّ شِرْكَهُمْ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَابْتِغَاءِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ بِعِبَادَةِ مَا عَبَدُوهُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ،
إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ،
98
تَمْلُكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَلِذَلِكَ يَحْتَجُّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ غَيْرَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا يُعْبَدُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، عَلَى مَا يُنْكِرُونَ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذَا مِرَارًا بِالشَّوَاهِدِ نَكْتَفِي بِهَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا.
ثُمَّ إِنْ عِبَارَةَ طُلَّابِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا بِنَصِّهَا فِي لُغَتِهِمْ، فَنَبْحَثُ فِيهَا أَخْطَأٌ أَمْ صَوَابٌ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا بِلُغَةِ كِتَابِهِ فَمَعْنَاهَا صَحِيحٌ قَطْعًا، فَإِنَّ الْإِلَهَ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ هُوَ الْمَعْبُودُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَإِنْ كَانَ مَصْنُوعًا، وَإِنَّمَا جَهَّلَهُمْ مُوسَى بِطَلَبِ عِبَادَةِ أَحَدٍ مَعَ اللهِ لَا بِتَسْمِيَةِ مَا طَلَبُوا مِنْهُ صَنْعَهُ إِلَهًا، فَإِنَّهُ هُوَ سَمَّى الْمَعْبُودَ الْمَصْنُوعَ إِلَهًا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ لِلسَّامِرِيِّ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ طه وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنَحْرِقَنَّهُ (٢٠: ٩٧) الْآيَةَ. وَإِنَّمَا كَانَ عِجْلُ السَّامِرِيِّ مِنْ صُنْعِهِ، وَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ قَبِلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ مَجْعُولَةً مَصْنُوعَةً مُتَّخَذَةً مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَالْمَعْدِنِ. أَنَسِيَ إِمَامُ النُّظَّارِ وَصَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ تَسْمِيَةِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِأَصْنَامِهِمْ بِالْآلِهَةِ؟ أَمْ نَسِيَ مَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٣٧: ٩٥، ٩٦) وَمِنْ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٢٦: ٦٩ - ٧٤) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَظْهَرِ هَفَوَاتِهِ الْكَثِيرَةِ بُطْلَانًا؛ وَسَبَبُهُ امْتِلَاءُ دِمَاغِهِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - بِنَظَرِيَّاتِ الْكَلَامِ، وَجَدَلِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ، وَغَفْلَتِهِ عَنْ مَعْنَى الْإِلَهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ: قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيْ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَأَطْلُبُ لَكُمْ مَعْبُودًا غَيْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، بِمَا جَدَّدَ فِيكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَسُنَّةِ الْمُرْسَلِينَ، فَمَاذَا تَبْغُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ؟ ! وَالِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ الْمُشَرَّبِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَارُ ابْتِغَاءِ إِلَهٍ غَيْرِ اللهِ الْمُسْتَحِقِّ وَحْدَهُ لِلْعِبَادَةِ، لَا إِنْكَارَ تَسْمِيَةِ الْمَعْبُودِ الْمَصْنُوعِ إِلَهًا، وَ " أَبْغِي " يَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
(٩: ٤٧).
بَدَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَابَهُ لِقَوْمِهِ بِإِثْبَاتِ جَهْلِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ فَسَادِ مَا طَلَبُوهُ، وَكَوْنِهِ عُرْضَةً لِلتَّبَارِ وَالزَّوَالِ، وَبَاطِلًا فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا الطَّالِبُ عَلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ فِيمَا طَلَبَ، وَلَا الْمَطْلُوبُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٢٢: ٧٣) فَهَذَا مُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
99
ثُمَّ انْتَقَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ جَعْلُ الْإِلَهِ لَهُمْ، وَهُوَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَطْلُوبِ لِأَجْلِهِ هَذَا الْجَعْلُ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - وَمُوسَى عَلَى الْحَقِّ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَالَّذِي يُحِقُّ الْحَقَّ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَذَيْنِكَ الْبَاطِلَيْنِ غَايَةُ الْمُبَايَنَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا جَوَابًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِمَا قَبِلَهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ عَطْفًا، وَلَا أَنْ يَعُدَّ مَعَهُ عَدًّا، وَلِهَذَا أَعَادَ فِيهِ كَلِمَةَ (قَالَ) كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَدْ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْأَهَمِّ الْأَفْضَلِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ، فَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ فَغَيْرُ اللهِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ، فَهُوَ يَشْمَلُ أَخَسَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْجَزَهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْأَصْنَامِ، وَيَشْمَلُ أَفْضَلَهَا وَأَكْمَلَهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِيُثْبِتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَخْلُوقٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ عَلَا قَدْرُهُ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَأَنَّ تَجْهِيلَهُمْ بِمَا طَلَبُوا لَا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَالْأَصْنَامِ خَسِيسٌ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّبَارِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ - لَا لِهَذَا فَقَطْ - بَلْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، مَهْمَا يَكُنْ غَيْرُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمُفَضَّلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ عِبَادَةِ الْأَخَسِّ دَلِيلٌ عَلَى مُنْتَهَى الْخِسَّةِ وَالْجَهْلِ، إِذْ لَا شُبْهَةَ تُوهِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِثَابَةِ أَوِ التَّقْرِيبِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَشُبْهَةِ مَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ مَنْ قَصُرَ بِهِ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، مَعَ إِصْرَارِهِ عَلَى خُبْثِهِ وَرِجْسِهِ، جَاهِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْ يَتُوبُوا؛ أَيْ: يَرْجِعُوا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، وَأَنْ يَدْعُوهُ وَحْدَهُ كَدُعَائِهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنْ يَخُصُّوهُ مِثْلَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فِي صَلَاتِنَا بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (١: ٥).
وَبَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ اللهِ إِلَهًا ذَكَرَ مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الْوَاسِطَةَ فِي هَذَا الْجَعْلِ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْجَهْلُ، وَهُوَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَبْغِيكُمْ إِلَهًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْأَمْرِ الْإِمْرِ
وَالشَّيْءِ الْإِدِّ، وَالْمُنْكَرِ الْفَظِيعِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلٌ بِقِيمَتِهِ، وَبِمَعْنَى رِسَالَتِهِ، وَبِمَا رَأَوْهُ مِنْ جِهَادِهِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ لَهُ فِي شَخْصِ أَخِيهِ وَلَا فِي شَخْصِهِ، بَلْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: طَلَبُ إِلَهٍ مَعَ اللهِ، وَكَوْنُهُ بِجَعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ تَبْغُونَ إِلَهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ (١٣: ٨٣).
ثُمَّ أَيَّدَ هَذَا الْإِنْكَارَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَرْقَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَضَارَةِ وَسَعَةِ الْمُلْكِ، وَمِنَ السِّيَادَةِ عَلَى بَعْضِ الشُّعُوبِ، وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْهُمْ، وَتَجْدِيدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِمْ، وَإِيتَائِهِمَا مِنَ الْآيَاتِ
100
مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَثَرُهُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مُطْلَقًا بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوا، فَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْقُرُونِ الْأَوْلَى، وَأَقْوَامِ رُسُلِهِمْ وَعَلَى مَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ، فَقَدْ سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَقَالَ: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي (٢٠: ٥٢) وَالْقُرُونُ الْآخِرَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ لِغَنِيٍّ أَوْ عَالِمٍ إِنَّكَ أَغْنَى أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ، أَوْ لِمَلِكٍ: إِنَّكَ أَقْوَى الْمُلُوكِ، أَوْ فِي شَعْبٍ إِنَّهُ أَرْقَى الشُّعُوبِ - فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا تَفْضِيلَ مَنْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَأَهْلُ الْحَضَارَةِ فِي زَمَانِنَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَجْيَالَ الْآتِيَةَ سَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنْ هَذَا الْجِيلِ، وَكَانَ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَتَرْتَقِي إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ هَذَا الْعِلْمَ بِمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مَظَاهِرِهِ الْحَدِيثَةِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطْعًا وَالْبَاقُونَ (أَنْجَيْنَاكُمْ) وَذَكَرُوا فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مُتَمِّمًا لِكَلَامِ مُوسَى، وَمُبِيِّنًا الْمُرَادَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ، وَلِهَذَا الِالْتِفَاتُ نَظَائِرُ فِي التَّنْزِيلِ وَفِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ سُورَةِ طه: الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٢٠: ٥٣) إِلَخْ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ مُوسَى فِي جَوَابِ فِرْعَوْنَ، وَقَوْلُهُ: (فَأَخْرَجْنَا) الْتِفَاتٌ عَنِ الْحِكَايَةِ، وَانْتِقَالٌ إِلَى كَلَامِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ خَاطَبَ بِهِ مَنْ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْوَحْيَ مِنْ خَلْقِهِ، تَنْبِيهًا لَهُمْ بِتَلْوِينِ الْكَلَامِ، وَبِمَا فِي مُخَاطَبَةِ الرَّبِّ لَهُمْ كِفَاحًا مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ إِلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُسْدِي لِهَذَا الْإِنْعَامِ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ ابْنُ عَامِرٍ أَنَّ مُوسَى قَالَهَا لِقَوْمِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَفَادَتْ قِرَاءَةُ الْآخَرِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَّرَ بِهَا قَوْمَ مُوسَى فِي زَمَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهِيَ مِنْ إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ.
(الثَّانِي) أَنَّ قِرَاءَةَ الِالْتِفَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْنَدَ الْإِنْجَاءَ فِيهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهِ أَوْ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَخِيهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى جَعْلِهِ - تَعَالَى - هَذَا الْإِنْجَاءَ بِسَبَبِ رِسَالَتِهِمَا وَتَأْيِيدِهِ - تَعَالَى - لَهُمَا بِتِلْكَ الْآيَاتِ.
101
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْجَاكُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِفَضْلِهِ، أَوْ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ بِإِرْسَالِهِ - تَعَالَى - إِيَّانَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَبِمَا أَيَّدَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، بِجَعْلِكُمْ عَبِيدًا مُسَخَّرِينَ لِخِدْمَتِهِمْ كَالْبَهَائِمِ فَلَا يَعُدُّونَكُمْ مِنْهُمْ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ شَرَّ أَنْوَاعِهِ بِقَوْلِهِ " يُقَتِّلُونَ " مَا يُوَلَدُ لَكُمْ مِنَ الذُّكُورِ، وَيَسْتَبْقُونَ نِسَاءَكُمْ بِتَرْكِ الْإِنَاثِ لَكُمْ لِتَزْدَادُوا ضَعْفًا بِكَثْرَتِهِنَّ - وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ - وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ عَلَيْكُمْ، وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى أُولَئِكَ الْغَالِينَ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى غَيْرِكُمْ كَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي سَتَرِثُونَهَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ؛ أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمُ الْمُنْفَرِدِ بِتَرْبِيَتِكُمْ، وَتَدْبِيرِ أُمُورِكُمْ لَيْسَ وَرَاءَهُ بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ، فَإِنَّ أَجْدَرَ النَّاسِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّمَانِ مَنْ يُعْطَى النِّعْمَةَ بَعْدَ النِّقْمَةِ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مَنْ يَرَى مِنْ آيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي الْآفَاقِ مَا يُوقِنُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً فِيهِ؛ أَيْ: فَكَيْفَ تَطْلُبُونَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مِمَّنْ رَأَيْتُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى يَدِهِ - وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا أَقَلُّ تَأْثِيرٍ - أَنْ يَجْعَلَ لَكُمْ إِلَهًا مِنْ أَخَسِّ الْمَخْلُوقَاتِ تَجْعَلُونَهُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى عَابِدِيهَا وَمَنْ هُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ؟ !.
وَقَدْ غَفَلَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ عَنْ كَوْنِ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِدَعْوَةِ
التَّوْحِيدِ الْمُؤَيَّدَةِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، فَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ خِطَابِيٌّ، لَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ، وَاعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ احْتِجَاجِ مُوسَى بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَوَامِّ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي دَلَالَتِهَا، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ وَغَفَلَ أَيْضًا عَنْ كَوْنِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَقَطْ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ فِي هَذَا الْآلُوسِيُّ فَقَالَ: وَفِي إِقَامَةِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ عَلَى الْوَثَنِيِّينَ الْقَائِلِينَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (٣٩: ٣) وَالْمُجِيبِينَ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ يَخْلُقُهُنَّ اللهُ خَفَاءً، وَالظَّاهِرُ إِقَامَتُهُ عَلَى الْوَثَنِيِّةِ كَمَا لَا يَخْفَى اهـ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَثَنِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُودِ رَبَّيْنِ إِلَهَيْنِ اشْتَرَكَا فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِهِ، أَحَدُهُمَا رَبُّ النُّورِ وَالْخَيْرِ، وَالثَّانِي رَبُّ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ، وَيُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ خَالِقَانِ مُدَبِّرَانِ أَوْ أَكْثَرُ؛ لَامْتَنَعَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ نِظَامٌ يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُ إِذَا فُرِضَ جَوَازُ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ الشَّيْءِ كَتَعَدُّدِ الْخَالِقِينَ يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّدْبِيرُ وَالْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ، وَتَعَدُّدُهَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ وَالِاخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا تَعَدُّدَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا بِأَنْ يَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِغَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ مِنْ ضِدٍّ وَنَقِيضٍ، وَأَيُّ فَسَادٍ فِي النِّظَامِ، وَمُوجِبٍ لِلِاخْتِلَالِ أَشَدُّ مِنْ هَذَا؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِذَا جَازَ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهَ لَفَسَدَتَا (٢١: ٢٢) قَدْ بُنِيَ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ
102
وَالْأَرْضَ مَوْجُودَتَانِ وَالنِّظَامَ فِيهِمَا مُشَاهَدٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِقَامَةُ النِّظَامِ وَصَلَاحُ التَّدْبِيرِ الصَّادِرِ عَنْ عُلُومٍ وَإِرَادَاتِ قَدَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَعَارِضَةٍ، كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْكَوْنِ نَفْسُهُ عَنْهَا بِالْأَوْلَى.
وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَ الْأَخِيرَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ أُعِيدَ لَفْظُ " قَالَ " فِي أَوَّلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مَعَهُ مِنْ قَبِيلِ سَرْدِ الصِّفَاتِ أَوِ الْأَعْدَادِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْفَصْلُ أَيْ: كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ (٩: ١١٢) إِلَخْ. وَقَوْلُهُمْ: الْأَوَّلُ كَذَا - الثَّانِي كَذَا إِلَخْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِعَادَةُ " قَالَ " لِامْتِنَاعِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ كِلَيْهِمَا بِدُونِهِمَا، وَأَنْ تَكُونَ " قَالَ " مَفْصُولَةٌ لَا مَعْطُوفَةٌ لِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِقْلَالِ فِي الْجَوَابِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَطْفِ الْقَوْلِ وَعَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِدُونِهِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا
حَقَّقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.
وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي أَسَالِيبِ هَذِهِ اللُّغَةِ يَشْعُرُ بِأَنَّ الْبَدْءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ هُنَا بِدُونِ " قَالَ " غَيْرُ مُسْتَعْذَبٍ وَلَا مُسْتَسَاغٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ هَذَا وَنُكْتَتَهُ - بَحَثَ طُلَّابُ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ نُكْتَةِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ فَلَمَحَ بَعْضُهُمْ مَا قَرَّرْنَاهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْهُ وَاضِحًا لِيُبَيِّنَهُ. قَالَ الْآلُوسِيُّ: قِيلَ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ؛ وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ أُعِيدَ لَفْظُ (قَالَ) اهـ. فَنَقَلَ هَذِهِ النُّكْتَةَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ " قِيلَ " إِذْ كَانَتْ أَخْفَى عِنْدَهُ مِنْهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا الَّذِي قَالَ: وَلَعَلَّهُ... فَلَمْ يَجْزِمْ - ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ: هُوَ شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ - تَعَالَى - الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الْعِبَادَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَا طَلَبُوا عِبَادَتَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ أَصْلًا، لِكَوْنِهِ هَالِكًا بَاطِلًا أَصْلًا، وَلِذَلِكَ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا " قَالَ " مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اهـ. ثُمَّ نَقَلَ تَعْلِيلًا آخَرَ لِلشِّهَابِ وَهُوَ: أُعِيدَ لَفْظُ " قَالَ " مَعَ اتِّحَادِ مَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ (؟) لِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالتَّمَانُعِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُمْ عَوَامُّ. انْتَهَى.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْمُعْتَرِضَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى لَمْحِ مَا لَمَحَ صَاحِبُهَا، إِذْ لَوْ سَلَّمَ لِلْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ إِلَخْ. وَلِلثَّانِي أَنَّهَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ لَا بُرْهَانِيٌّ، لَمَّا كَانَ هَذَا وَلَا ذَاكَ مُقْتَضِيًا لِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَوْقِعِهِ، وَامْتِنَاعِ كُلٍّ مِنْ فَصْلِهِ بِدُونِ الْقَوْلِ، وَوَصْلِهِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِمُلْهَمِ الصَّوَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ قَوْلِ الشَّبَابِ آنِفًا، وَضَعْفِ قَوْلِ أَبِي السُّعُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.
103
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ
تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي بَيَانِ بَدْءِ وَحْيِّ الشَّرِيعَةِ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ بَدَأَ الْوَحْيُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ فِي جَانِبِ الطَّوْرِ الْأَيْمَنِ مِنْ سَيْنَاءَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ هُنَا بَدْءُ وَحْيِّ كِتَابِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَى اللهُ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً قَادِرَةً عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يُشَرِّعُهُ اللهُ لَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَالْأُمَّةُ الْمُسْتَعْبَدَةُ لِلْأَجْنَبِيِّ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ شَرِيعَتِنَا الْمُطَهَّرَةِ، وَأَكْثَرَ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ لَمْ تُشْرَعْ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ؟ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَمَّا شُرِعَتْ فِي مَكَّةَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلُهُ وَسَلَّمَ يُصَلِّي هُوَ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ فِي الْبُيُوتِ سِرًّا اتِّقَاءَ أَذَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِسَلَا جَزُورٍ - أَيْ: كَرِشِ بَعِيرٍ بِفَرَثِهِ - فَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ
104
سَاجِدٌ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَفْعَ رَأْسِهِ حَتَّى جَاءَتِ ابْنَتُهُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَأَلْقَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ؟ وَهَمَّ أَبُو جَهْلٍ مَرَّةً أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَكَفَّهُ اللهُ عَنْهُ؟
قَالَ - تَعَالَى -: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً هَذَا السِّيَاقُ مَعْطُوفٌ عَلَى السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ الْآيَاتِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ (وَعَدْنَا) مِنَ الْوَعْدِ وَالْبَاقُونَ (وَاعَدْنَا) مِنَ الْمُوَاعَدَةِ، فَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ضَرَبَ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَوْعِدًا لِمُكَالَمَتِهِ، وَإِعْطَائِهِ الْأَلْوَاحَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَقَبِلَ ذَلِكَ ثُمَّ صَعِدَ جَبَلَ سَيْنَاءَ فِي أَوَّلِ الْمَوْعِدِ، وَهَبَطَ فِي آخِرِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الشَّيْءِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَالتَّلَاقِي فِي مَكَانٍ
مُعَيَّنٍ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَبَيْنَ الْوَعْدِ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ لِآخَرَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْوَفَاءِ، كَقَوْلِكَ لِآخَرَ: سَأَدْعُو اللهَ لَكَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَثَلًا - فَهَذَا وَعْدٌ مَحْضٌ، وَذَاكَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ كَعِبَارَةِ الْآيَةِ، وَالْمِيقَاتُ أَخَصُّ مِنَ الْوَقْتِ، فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ كَمَوَاقِيتِ الْحَجِّ. وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (٥: ٥١) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا فُصِّلَ هُنَا مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَافَ مَكِّيَّةٌ وَالْبَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ فَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا فِي النُّزُولِ، وَالْمُرَادُ بِاللَّيْلَةِ مَا يَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ رَبِّي وَاعَدَنِي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَنْ أَلْقَاهُ وَأَخْلِفَ هَارُونَ فِيكُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ زَادَهُ اللهُ عَشْرًا فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي زَادَهُ اللهُ - وَذَكَرَ قِصَّةَ عِجْلَ السَّامِرِيِّ - وَرَوَى الثَّانِي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ يَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَكَثَ عَلَى الطَّوْرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ فِي الْأَلْوَاحِ، فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ نَجِيًّا وَكَلَّمَهُ، وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحدثْ فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطَّوْرِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا الزَّمَنَ ضُرِبَ لِمُنَاجَاةِ مُوسَى رَبَّهُ فِي الْجَبَلِ مُنْقَطِعًا فِيهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قِصَّةِ السَّامِرِيِّ، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ فِي غَيْبَةِ مُوسَى وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِهَارُونَ: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٢٠: ٩١) وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَفَعَهُ - " لَمَّا أَتَى مُوسَى رَبَّهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ صَامَ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ فَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فَمِهِ - رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ - فَتَنَاوَلَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ قَالَ:
105
أَيْ رَبِّ، كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: أَوْ مَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ فَمَ الصَّائِمِ عِنْدِي أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؟ اذْهَبْ فَصُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ ائْتِنِي، فَفَعَلَ مُوسَى الَّذِي أَمَرَهُ رَبُّهُ " وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَمَتْنُهُ مَعَارِضٌ بِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِ قِصَّةِ السَّامِرِيِّ وَمِنَ الرِّوَايَاتِ بِمَعْنَاهَا.
وَيَسْتَدِلُّ الصُّوفِيَّةُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَيَّامِ خَلْوَتِهِمُ الَّتِي يَصُومُونَ أَيَّامَهَا
الْأَرْبَعِينَ لَا يُفْطِرُونَ إِلَّا عَلَى حَبَّاتِ الزَّبِيبِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَأْنَسَ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِلتَّفَرُّغِ لِذِكْرِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ بِالصَّلَاةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَيُجْعَلُ مَقْصِدًا لَا وَسِيلَةً.
وَهَذَا مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ (٢٤: ١٢ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ فَأُعْطِيكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ (١٣) فَقَامَ مُوسَى وَيَشُوعُ خَادِمُهُ وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى جَبَلِ اللهِ (١٤) وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَقَالَ لَهُمْ: اجْلِسُوا هَاهُنَا، وَهُو ذَا هَارُونُ وَحُورُ مَعَكُمْ، فَمَنْ كَانَ صَاحِبُ دَعْوَى فَلْيَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمَا (١٥) فَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ فَغَطَّى السَّحَابُ الْجَبَلَ وَحَلَّ مَجْدُ الرَّبِّ عَلَى جَبَلِ سَيْنَاءَ وَغَطَّاهُ السَّحَابُ سِتَّةَ أَيَّامٍ وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ دَعَى مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ (١٧) وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ مُوسَى فِي وَسَطِ السَّحَابِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً) اهـ.
وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ مَا نَصُّهُ أَيْضًا (٣٤: ٢٧ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اكْتُبْ لِنَفْسِكَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، قَطَعْتُ عَهْدًا مَعَكَ وَمَعَ إِسْرَائِيلَ (٢٨) وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً، فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ) اهـ.
وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يَعْنِي: أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ الذَّهَابَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ الْكَبِيرَ هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِصْلَاحِ فِيهِمْ؛ إِذْ كَانَتِ الرِّيَاسَةُ فِيهِمْ لِمُوسَى، وَكَانَ هَارُونُ وَزِيرَهُ وَنَصِيرَهُ وَمُسَاعِدَهُ كَمَا سَأَلَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٢٠: ٢٩ - ٣٢) وَأَوْصَاهُ بِالْإِصْلَاحِ فِيهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، وَنَهَاهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِفْسَادُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا جَلِيٌّ وَبَعْضُهَا خَفِيٌّ، وَمِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسِيلَةٌ وَمَقْصِدٌ، فَمِنْهَا الْحَرَامُ الْبَيِّنُ، وَمِنْهَا الذَّرَائِعُ الْمُشْتَبِهَاتُ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ، وَيَأْخُذُ التَّقِيُّ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ يَشْمَلُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَمُسَاعَدَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَمُعَاشَرَتَهُمْ وَالْإِقَامَةَ مَعَهُمْ فِي حَالِ اقْتِرَافِهَا، وَلَوْ بَعْدَ الْعَجْزِ
106
عَنْ إِرْجَاعِهِمْ عَنْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَيَصِحُّ
نَهْيُهُمْ عَنْهُ تَحْذِيرًا مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، كَالَّذِي وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي قِصَّةِ عِجْلِ السَّامِرِيِّ الَّذِي حَكَّاهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي سُورَةِ طه بِقَوْلِهِ: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٢٠: ٩٢ - ٩٤) فَالرِّسَالَةُ كَانَتْ لِمُوسَى بِالْأَصَالَةِ، وَلِهَارُونَ بِالتَّبَعِ؛ لِيَكُونَ وَزِيرًا لَا رَئِيسًا، وَمُوسَى هُوَ الَّذِي أُعْطِيَ الشَّرِيعَةَ (التَّوْرَاةَ) وَكَانَ هَارُونُ مُسَاعِدًا لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا كَانَ مُسَاعِدًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ فِرْعَوْنَ الدَّعْوَةِ، وَإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ " وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخْلُفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: رَضِيتُ رَضِيتُ. وَإِنَّمَا قَالَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ غَيْرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ ضَعِيفٍ وَمَرِيضٍ إِلَّا مَنِ اسْتَأْذَنَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ الرَّوَافِضُ وَالْإِمَامِيَّةُ، وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ فِي أَنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ حَقًّا لَعَلِيٍّ، وَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِهَا، قَالَ: ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَفَّرَتِ الرَّوَافِضُ سَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيمِهِمْ غَيْرَهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَكَفَّرَ عَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِ حَقِّهِ، وَهَؤُلَاءِ أَسْخَفُ مَذْهَبًا، وَأَفْسَدُ عَقْلًا مِنْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ...... إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ لِأُذَكِّرَ الْقَارِئَ بِأَنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يَقُولَا مَا قَالَا عَنِ اعْتِقَادٍ، بَلْ كَانُوا مِنْ جَمْعِيَّاتِ الْمَجُوسِ، وَالسَّبَئِيِّينَ الَّذِينَ يَبْغُونَ الْفِتْنَةَ لِإِبْطَالِ الْإِسْلَامِ، وَإِزَالَةِ مُلْكِ الْعَرَبِ بِالشِّقَاقِ الدِّينِيِّ، وَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كُلَّمَا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْتَارُ أَفْضَلَهُمْ لِذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْمَنْقَبَةِ لَعَلِيٍّ مَا هُوَ فَوْقَ اسْتِخْلَافِهِ، وَهُوَ جَعْلُهُ أَخًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِخْلَافُهُ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ هَارُونَ مَاتَ قَبْلَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - قَطْعًا.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أَيْ: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتْنَاهُ لَهُ لِلْكَلَامِ وَإِعْطَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْمَلَكِ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ الْعَالِيَةُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ فَضِيلَتَيِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ فَقَالَ:
107
رَبِّ أَرِنِي ذَاتَكَ الْمُقَدَّسَةَ بِأَنْ تَجْعَلَ لِي مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى حَمْلِ تَجَلِّيكَ مَا أَقْدَرُ بِهِ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ وَرُؤْيَتِكَ، وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِكَ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ أَيْ: دُونَ مَا هُوَ فَوْقَ إِمْكَانِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحَاطَةِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (٦: ١٠٣) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص٥٤٣ - ٥٤٧ ج٧ تَفْسِيرِ ط. الْهَيْئَةِ).
قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي أَيْ: إِنَّكَ لَا تَرَانِي الْآنَ، وَلَا فِيمَا تَسْتَقْبِلُ مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ النَّفْيِ، وَيُخَفِّفُ عَنْ مُوسَى شِدَّةَ وَطْأَةِ الرَّدِّ، بِإِعْلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ سُنَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى شَيْءٌ فِي هَذَا الْكَوْنِ عَلَى رُؤْيَتِهِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنَّنِي سَأَتَجَلَّى لَهُ فَإِنْ ثَبَتَ لَدَى التَّجَلِّي بَقِيَ مُسْتَقِرًّا فِي مَكَانِهِ فَسَوْفَ تَرَانِي، لِمُشَارَكَتِكَ لَهُ فِي مَادَّةِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي، وَإِذَا كَانَ الْجَبَلُ فِي قُوَّتِهِ وَرُسُوخِهِ لَا يَثْبُتُ، وَلَا يَسْتَقِرُّ لِهَذَا التَّجَلِّي؛ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِ مَادَّتِهِ لِقُوَّةِ تَجَلِّي خَالِقِهِ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَرَانِي أَيْضًا، وَأَنْتَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي كَوْنِكَ مَخْلُوقًا مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَخَاضِعًا لِلسُّنَنِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي قُوَّتِهَا، وَضَعْفِ اسْتِعْدَادِهَا وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٤: ٢٨) وَقَبُولِهَا لِلْفَنَاءِ.
رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ الْكَلَامَ طَمِعَ فِي الرُّؤْيَةِ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حِينَ قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى إِنَّكَ لَنْ تَرَانِي قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ تَرَانِي لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَا مُوسَى إِنَّهُ لَنْ يَرَانِي أَحَدٌ فَيَحْيَا، قَالَ مُوسَى: رَبِّ أَنْ أَرَاكَ ثُمَّ أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَلَّا أَرَاكَ ثُمَّ أَحْيَا فَقَالَ اللهُ: يَا مُوسَى انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ يَقُولُ: فَإِنْ ثَبَتَ مَكَانَهُ لَمْ يَتَضَعْضَعْ، وَلَمْ يَنْهَدْ لِبَعْضِ مَا يَرَى مِنْ عِظَمِي فَسَوْفَ تَرَانِي أَنْتَ لِضَعْفِكَ وَذِلَّتِكَ، وَإِنَّ الْجَبَلَ تَضَعْضَعَ، وَانَهْدَّ بِقُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ وَعِظَمِهِ فَأَنْتَ أَضْعُفُ وَأَذَلُّ اهـ.
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا يُقَالُ: جَلَا الشَّيْءُ
وَالْأَمْرُ وَانْجَلَى وَتَجَلَّى بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَجَلَّاهُ فَتَجَلَّى - إِذَا انْكَشَفَ وَظَهَرَ وَوَضُحَ بَعْدَ خَفَاءٍ فِي نَفْسِهِ ذَاتِيٍّ أَوْ إِضَافِيٍّ أَوْ خَفَاءٍ عَلَى مُجْتَلِيهِ وَطَالَبِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ التَّجَلِّي وَالظُّهُورُ بِالذَّاتِ، وَبِغَيْرِ الذَّاتِ مِنْ صِفَةٍ أَوْ فِعْلٍ يَزُولُ بِهِ اللَّبْسُ وَالْخَفَاءُ، وَفِي صِيغَةِ التَّجَلِّي مَا لَيْسَ فِي صِيغَةِ الْجَلَاءِ، وَالِانْجِلَاءُ مِنْ مَعْنَى التَّدْرِيجِ وَالْكَثْرَةِ النَّوْعِيَّةِ أَوِ الشَّخْصِيَّةِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٩٢: ١، ٢) فَاللَّيْلُ يَغْشَى النَّهَارَ وَيَسْتُرُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى النَّهَارُ وَيَظْهَرُ بِالتَّدْرِيجِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - تَجَلِّيَاتٍ مُخْتَلِفَةً كَمَا سَيَأْتِي.
108
وَالْدَّكُّ: الدَّقُّ أَوْ ضَرْبٌ مِنْهُ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: دَكَكْتُهُ دَقَقْتُهُ، وَدَكَّ الرَّكِيَّةِ كَبَسَهَا، وَجَمَلٌ أَدَكُّ وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ: لَا سَنَامَ لَهُمَا، وَانْدَكَّ السَّنَامُ: افْتَرَشَ عَلَى الظَّهْرِ، وَنَزَلْنَا بِدَكْدَاكٍ: رَمْلٌ مُتَلَبِّدٌ بِالْأَرْضِ اهـ، وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الدَّقِّ وَالدَّكِّ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْعَامِّ الْمَوْرُوثِ عَنِ الْعَرَبِ - أَنَّ الدَّقَّ مَا يُخْبَطُ بِهِ الشَّيْءُ لِيَتَفَتَّتَ، وَيَكُونُ أَجْزَاءً دَقِيقَةً وَمِنْهُ الدَّقِيقُ، وَكَانَ الْقَمْحُ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ الْأُولَى يُدَقُّ بِالْحِجَارَةِ فَيَكُونُ دَقِيقًا، ثُمَّ اهْتَدَوْا إِلَى الْأَرْحِيَةِ الَّتِي تَسْحَقُهُ وَتَطْحَنُهُ، وَأَمَّا الدَّكُّ فَهُوَ الْهَدْمُ وَالْخَبْطُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الشَّيْءُ الْمَدْكُوكُ مُلَبَّدًا وَمُسْتَوِيًا، يُقَالُ: أَرْضٌ مَدْكُوكَةٌ، وَطَرِيقٌ مَدْكُوكَةٌ، وَدَكَّ الْحُفْرَةَ وَالرَّكِيَّةَ (أَيِ الْبِئْرَ غَيْرَ الْمَطْوِيَّةِ) دَفَنَهَا وَطَمَّهَا، وَلَا تَزَالُ سَلَائِلُ الْعَرَبِ تَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْمَادَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُسَمُّونَ مَا يُوضَعُ فِي الْحُفْرَةِ أَوِ الرَّكِيَّةِ مِنَ الْحَصَا وَالْحَصْبَاءِ؛ لِأَجْلِ تَسْوِيَتِهَا " الدَّكَّةَ ". قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ؛ أَيْ: أَرْضًا مُسْتَوِيَةً كَالنَّاقَةِ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، وَالْجُمْهُورُ (جَعَلَهُ دَكًّا) بِالْمَصْدَرِ؛ أَيْ: مَدْكُوكًا دَكًّا، وَمِثْلُهُ فِي السَّدِّ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَالْخُرُورُ وَالْخَرُّ: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ وَالِانْكِبَابُ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٧: ١٠٧) وَالصَّعِقُ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ: صِفَةٌ مِنَ الصَّعَقِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ نُزُولِ نُزُولِ الصَّاعِقَةِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ إِغْمَاءٍ ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ بِإْطْلَاقِهِ عَلَى مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: صَعِقَ صَعَقًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: مَاتَ، وَصَعِقَ: غُشِيَ عَلَيْهِ لِصَوْتٍ سَمِعَهُ، وَالصَّعْقَةُ الْأُولَى: النَّفْخَةُ، وَالصَّاعِقَةُ: النَّازِلَةُ مِنَ الرَّعْدِ، وَالْجَمْعُ صَوَاعِقُ، وَلَا تُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا دَكَّتْهُ وَأَحْرَقَتْهُ اهـ.
وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ لِهَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقًا لِمَتْنِ اللُّغَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
قَالَ: مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ الْخِنْصَرِ جَعْلَهُ دَكًّا قَالَ: تُرَابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا قَالَ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ اهـ. وَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ - أَيِ الْجَبَلُ - كَانَ حَجَرًا أَصَمَّ فَلَمَّا تَجَلَّى لَهُ صَارَ تَلًّا تُرَابًا دَكًّا مِنَ الدَّكَاوَاتِ - أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ - وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ صَيْرُورَتَهُ تُرَابًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الدَّكَّاءِ وَالْمَدْكُوكِ لَا يُنَافِي اسْتِقْرَارَ الْجَبَلِ مَكَانَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ أَيْضًا أَنَّهُ سَاخَ، أَيْ: غَاصَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَيْ: أَنَّهُ رُجَّ بِالتَّجَلِّي رَجًّا بُسَّتْ بِهَا حِجَارَتُهُ بَسًّا، وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ رَبْوَةً دَكَّاءَ كَالرَّمْلِ الْمُتَلَبِّدِ.
وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَقَلَّ التَّجَلِّي وَأَدْنَاهُ انْهَدَّ وَهَبَطَ مِنْ شِدَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ وَصَارَ كَالْأَرْضِ الْمَدْكُوكَةِ أَوِ النَّاقَةِ الدَّكَّاءِ - وَسَقَطَ مُوسَى عَلَى وَجْهِهِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ كَمَنْ أَخَذَتْهُ الصَّاعِقَةُ، وَالتَّجَلِّي وَإِنَّمَا كَانَ الْجَبَلُ دُونَهُ، فَكَيْفَ لَوْ كَانَ لَهُ؟ !
109
وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَاهِيَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ غَرَائِبٌ وَعَجَائِبٌ أَكْثَرُهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَمْثَلُ الْمَرْفُوعِ مِنْهَا مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ: - وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِ خِنْصَرِهِ - فَسَاخَ الْجَبَلُ " وَفِي لَفْظٍ زِيَادَةُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَقَالَ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ لِثَابِتٍ: مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا؟ فَضَرَبَ صَدْرَهُ - أَيْ صَدْرَ حُمَيْدٍ - وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ؟ يُحَدِّثُنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ أَنْتَ: مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا! " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَأَبْنَاءُ جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرُ وَأَبِي حَاتِمٍ وَعَدِيٌّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ - وَصَحَّحَهُ - وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرُّؤْيَةِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ عِنْدَ مُصَحِّحِيهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَهُ طَرِيقَانِ آخَرَانِ عِنْدَ دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبَّرِ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ لَا يَصِحَّانِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ التَّجَلِّي وَأَدْنَاهُ، وَسَيَأْتِي مِنَ الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُ مَعْنَاهُ.
وَمَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَأَوْهَاهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " لَمَّا تَجَلَّى اللهُ لِلْجَبَلِ طَارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أَجْبُلٍ فَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ... " وَذَكَرَ أَسْمَاءَهَا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ. أَقُولُ: وَلَا يَدْخُلُ
مِنْ أَلْفَاظِ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا فِي شَيْءٍ.
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: (فَلَمَّا أَفَاقَ) مُوسَى مِنْ غَشْيِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِفَاقَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورِ لِلصَّعِقِ بِالْغَشْيِ، وَبُطَلَانِ تَفْسِيرِ قَتَادَةَ لَهُ بِالْمَوْتِ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ شُذَّاذِ الصُّوفِيَّةِ وَادَّعُوا أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فَمَاتَ، أَوْ مَاتَ ثُمَّ رَأَى رَبَّهُ، وَلَوْ مَاتَ لَقَالَ - تَعَالَى - " فَلَمَّا بُعِثَ " إِلَخْ. كَمَا قَالَ فِي السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَهَبُوا مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللهُ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَإِنَّهُ قَالَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢: ٥٦) كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي خَبَرُهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ - قَالَ سُبْحَانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ وَتَقْدِيسًا عَمَّا لَا يَنْبَغِي فِي شَأْنِكَ مِمَّا سَأَلْتُكَ أَوْ مِنْ لَوَازِمِهِ - أَوْ كَمَا حَكَى - تَعَالَى - عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ (١١: ٤٧) وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي أَهْلِ السُّنَّةِ يَجْعَلُونَ وَجْهَ التَّنْزِيهِ وَالتَّوْبَةِ أَنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَنَفْيُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّ مَا سَأَلَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي نَفْسِهِ، وَغَيْرُ وَاقِعٍ أَلْبَتَّةَ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرُّجُوعُ عَمَّا طَلَبَ إِلَى الْوُقُوفِ مَعَ الرَّبِّ - تَعَالَى - عِنْدَ مُنْتَهَى حُدُودِ الْأَدَبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ تُبْتُ إِلَيْكَ أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
110
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَقَالَ: وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ كَانَ قَبْلَهُ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لَهُ اتِّجَاهٌ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَاهُنَا أَثَرًا طَوِيلًا فِيهِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ بْنِ يَسَارٍ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
خُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَالَ فَضِيلَةَ تَكْلِيمِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فَسَمِعَ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، طَلَبَ مِنَ الرَّبِّ - تَعَالَى - أَنْ يَمْنَحَهُ شَرَفَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ حَتْمًا أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ الَّتِي مِنْهَا كَلَامُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَكَمَا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ كَلَامٌ بِتَخْصِيصٍ رَبَّانِيٍّ - اسْتَشْرَفَ لِرُؤْيَةِ ذَاتٍ لَيْسَ كَمِثْلِهَا شَيْءٌ مِنَ الذَّوَاتِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ تَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى التَّكْلِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ عَقْلُ مُوسَى - وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ
وَالنَّقْلِ - مَانِعًا لَهُ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَمْ يَكُنْ دِينُهُ وَعِلْمُهُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَهُمَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا أَيْضًا - مَانِعَيْنِ لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ لَهُ: لَنْ تَرَانِي وَلِكَيْ يُخَفِّفَ عَلَيْهِ أَلَمَ الرَّدِّ وَهُوَ كَلِيمُهُ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ: وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي (٢٠: ٤١) أَرَاهُ بِعَيْنَيْهِ وَمَجْمُوعِ إِدْرَاكِهِ مِنْ تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ لَا مِنَ الْجُودِ الرَّبَّانِيِّ، فَنَزَّهَ اللهَ وَسَبَّحَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، فَبَشَّرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ - أَيْ: بِدُونِ رُؤْيَتِهِ -، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهُ، وَيَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي الِاصْطِفَاءُ: اخْتِيَارُ صَفْوَةِ الشَّيْءِ، وَصَفْوُهُ؛ أَيْ: خَالِصُهُ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَمِنْهُ الصَّفِّيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الْإِمَامُ أَوِ الْقَائِدُ الْأَكْبَرُ مِنْهَا وَيَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، كَاخْتِيَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ الْمَعْرُوفَ بِذِي الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَتَعْدِيَةُ الِاصْطِفَاءِ هُنَا بِـ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّفْصِيلِ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكُ مُفَضِّلًا إِيَّاكَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ بِالرِّسَالَةِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ " بِرِسَالَتِي " وَالْبَاقُونَ " بِرِسَالَاتِي " فَإِفْرَادُهَا بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنَ الْإِرْسَالِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، وَقِيلَ بِتَعَدُّدِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ مَا أَوْحَاهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى مُوسَى، وَهُوَ مَوْضُوعُ رِسَالَتِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ بِالتَّوْرَاةِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاصْطَفَيْتُكَ بِكَلَامِي: أَيْ بِتَكْلِيمِي لَكَ بَعْدَ وَحْيِ الْإِلْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ مَلَكٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهُوَ مَا طَلَبَ
111
رَفْعُهُ لِتَحْصِيلِ الرُّؤْيَةِ مَعَ الْكَلَامِ، وَوَحْيُ اللهِ - تَعَالَى - ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤٢: ٥١) فَهَذَا النَّوْعُ الْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْلَى، وَقَدْ أُعْطِيَ لِمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ وَجْهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (٤: ١٦٤).
فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ: فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الشَّرِيعَةِ - التَّوْرَاةِ - وَكُنْ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الشُّكْرِ لِنِعْمَتِي بِهَا عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَذَلِكَ
بِإِقَامَتِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزِيمَةٍ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَكَذَا لِسَائِرِ نِعَمِي، فَإِنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الصِّفَةِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالرُّسُوخِ فِيهِ.
(فَصْلٌ)
(فِي اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي الرُّؤْيَةِ وَكَلَامِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهِمَا)
كَانَ جَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يَفْهَمُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا، وَلَا يَرَوْنَ فِيهَا إِشْكَالًا، وَهُمْ أَعْلَمُ الْعَرَبِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ، وَبِمُرَادِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ آيَاتِهِ فِيهِ، لِتَلَقِّيهِمْ إِيَّاهَا مِنَ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِ الْمَأْمُورِ فِيهَا بِبَيَانِهَا لِلنَّاسِ، ثُمَّ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ فِيهِ مِنَ الْأَعَاجِمِ مَنْ كَانُوا عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَصَارُوا يَتَلَقُّونَ لُغَتَهُ بِالتَّلْقِينِ، وَيَقْتَبِسُونَهَا بِمُعَاشَرَةِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ ثُمَّ بِالتَّعْلِيمِ الْفَنِّيِّ، ثُمَّ صَارَتِ السَّلَائِلُ الْعَرَبِيَّةِ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَتْ فِي الْجَمِيعِ الِاصْطِلَاحَاتُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْفَنِّيَّةُ لَمَّا وَضَعُوا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَأُصُولِ الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَاللُّغَوِيَّةِ: كَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَيَانِ، وَلَمَّا تَرْجَمُوا مِنْ كُتُبِ عُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَمَا زَادُوا فِيهَا مِنَ الرِّيَاضِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْوِجْدَانِيَّاتِ وَسَائِرِ سُنَنِ الْمَوْجُودَاتِ، فَامْتَزَجَتْ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَصَارَتْ آلَاتٍ لِفَهْمِهِمَا، وَسَبَبًا لِلْخَطَأِ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ الْمُرَادِ مِنْهُمَا.
ثُمَّ حَدَثَ مَا هُوَ أَدْعَى إِلَى الْخَطَأِ فِي الْفَهْمِ، وَهُوَ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا جَاءَ فِي التَّفَرُّقِ وَالتَّفْرِيقِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، فَصَارَ كُلُّ مُنْتَمٍ إِلَى شِيعَةٍ وَحِزْبٍ لَا يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِالْمِنْظَارِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِمَذْهَبِ الْحِزْبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَمُدَّعِي الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْبَدَاهَةُ قَاضِيَةٌ بِالتَّضَادِّ بَيْنَ التَّقَيُّدِ بِالْمَذَاهِبِ وَالِاسْتِقْلَالِ الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ.
وَهُنَالِكَ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ حَشْرُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَالرِّوَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْوَاهِيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ، وَتَقَاصُرِ الْأَكْثَرِينَ عَنْ تَمْحِيصِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَاطِلِهَا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ قَدِ اشْتَبَهَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ كَمَا بَيَّنَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
112
فَبِهَذِهِ الْأَسْبَابِ أَبْطَلُوا مَزِيَّةَ كِتَابِ اللهِ وَخَاصِّيَّتَهُ فِي رَفْعِ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ الْمُفْسِدَيْنِ لِأَمْرِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ أَيْضًا، قَالَ - تَعَالَى -: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ (٢: ٢١٣) وَقَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٤: ٥٩).
فَالرَّدُّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ؛ لِإِزَالَةِ التَّنَازُعِ وَحَسْمِ الْخِلَافِ تَفَادِيًا مِنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّفَرُّقِ الْمُنَافِي لِوَحْدَةِ الدِّينِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ فَوْقَ التَّنَازُعِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ، وَإِلَّا كَانَ الدَّوَاءُ عَيْنِ الدَّاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مَوْضُوعُ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْهُ كَانَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ - إِنْ كَانَ قَدْ عُدَّ مِنْ أَهْلِهِ - وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاخْتَلَفُوا فِي رِوَايَةِ بَعْضِهَا، وَفِي فَهْمِ بَعْضٍ، وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الَّتِي يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِ مَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ ضَرُورِيٌّ لَا يَتَنَاوَلُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣: ١٠٥).
وَنُجِيبُ عَنْ هَذَا - أَوَّلًا - بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ الْفِتَنِ وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ كِبَارِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ حُكْمٍ كَلَامُ أَصْحَابِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا آيَةً تُخَالِفُهُ (! !) الْتَمَسُوا لَهَا نَاسِخًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا أَوَّلُوهَا، وَإِنْ وَجَدُوا حَدِيثًا مُخَالِفًا لَهُ (! !) بَحَثُوا فِي إِسْنَادِهِ، فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ مَطْعَنًا نَبَذُوهُ، وَإِلَّا فَعَلُوا فِي التَّفَصِّي مِنْهُ مَا يَفْعَلُونَ فِي التَّفَصِّي مِنَ الْقُرْآنِ (! !) وَقَدْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ كِبَارِ النُّظَّارِ خَالَفُوا الْمَذْهَبَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْأُصُولِيَّةِ بِالدَّلِيلِ، وَبَعْضِ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ رَجَّحُوا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ شِئْتَ فَرَاجِعْ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى رَدِّهِمْ
لَهَا فِي " كِتَابِ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ " لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقِيَمِ. وَ - ثَانِيًا - بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُكَلِّفُهُمْ أَلَّا يَجْعَلُوا مَا لَيْسَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ سَبَبًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي، وَتَأْلِيفُ الْأَحْزَابِ وَالشِّيَعِ الَّتِي يُلَقِّنُ أَتْبَاعُ كُلٍّ مِنْهَا فَهْمَ رَجُلٍ أَوْ رِجَالٍ يُسَمُّونَهُ مَذْهَبَهُمْ، وَيَتَعَلَّمُونَ مَعَهُ الرَّدُّ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَتَفْسِيقِهِمْ أَوْ تَكْفِيرِهِمْ، وَبِهَذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ ضَارًّا وَمُفْسِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أُمُورَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ
113
تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (٦: ١٥٩) الْآيَةَ. وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يَتَنَابَزُونَ بِالْأَلْقَابِ، وَيَتَبَارُونَ بِالسِّبَابِ، وَيَتَهَاجَوْنَ بِالْأَشْعَارِ، كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ بَعْدَ تَفْسِيرِهِ لِآيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا: ثُمَّ تَعْجَبُ مِنَ الْمُتَّسِمِّينَ بِالْإِسْلَامِ، الْمُتَّسِمِّينَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، كَيْفَ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْعَظِيمَةَ مَذْهَبًا؟ وَلَا يَغُرُنَّكَ تَسَتُّرَهُمْ بَالْبَلْكَفَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَنْصُوبَاتِ أَشْيَاخِهِمْ - يَعْنِي بِالْبَلْكَفَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - يُرَى بِلَا كَيْفٍ؛ أَيْ: أَنَّ رُؤْيَتَهُ لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنْ كَوْنِ الْمَرْئِيِّ جِسْمًا كَثِيفًا تُحِيطُ بِهِ أَشِعَّةُ الْبَصَرِ - ثُمَّ قَالَ: وَالْقَوْلُ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَدْلِيَّةِ فِيهِمْ:
أَعُبَّادُ الْمَسِيحِ يَخَافُ صَحْبِي وَنَحْنُ عَبِيدُ مَنْ خَلَقَ الْمَسِيحَا
وَجَمَاعَةٌ سَمُّوا هَوَاهُمْ سُنَّةً لِجَمَاعَةٍ حُمُرٍ لَعَمْرِي مُوَكَّفَةِ
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا شُنْعَ الْوَرَى فَتَسْتُرُوا بِالْبَلْكَفَةِ
يَعْنِي بِالْعَدْلِيَّةِ جَمَاعَتَهُ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. فَانْظُرْ إِلَى جَعْلِهِ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهَا مُنَافِيًا لِلِاتِّسَامِ بِالْإِسْلَامِ، وَالتَّسَمِّي بِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ فِي الرُّؤْيَةِ بِالتَّصْرِيحِ كَمَا يَنْفِيهِ هُوَ، فَلَوْلَا تَعَصُّبُ الْمَذْهَبِ لَمَا أَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ بِدَلَالَةِ اللُّزُومِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي قَالُوا فِيهَا " لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ " قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْتِزَامِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ لَهُ، وَأَمَّا مَا صَرَّحَ بِنَفْيِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَذَمَّهُ بِهِ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
وَلَوْ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ وَشَاعِرَ الْعَدْلِيَّةِ لَمْ يَقُولَا مَا قَالَا مِنَ الطَّعْنِ وَالْهَجْوِ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ، بِأَنِ اكْتَفَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ بِمَا أَوَّلَهَا بِهِ مِنْ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ الْجَلِيَّةِ، لَمَا جُوزِيَا عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ ذَنْبِهِمَا أَوْ أَكْثَرَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ فِي (الِانْتِصَافِ) حَاشِيَتِهِ عَلَى الْكَشَّافِ:
وَجَمَاعَةٌ كَفَرُوا بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ حَقًّا وَوَعْدُ اللهِ مَا لَنْ يَخْلُفَهُ
وَتَلَقَّبُوا عَدْلِيَّةً قُلْنَا أَجَلْ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ، فَحَسْبُهُمْ سَفَهْ
وَتَلَقَّبُوا النَّاجِينَ، كَلَّا إِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي لَظَى فَعَلَى شَفَهْ
وَلِلشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ صَاحِبِ (جَمْعِ الْجَوَامِعِ) وَغَيْرِهِ مِثْلُ هَذَا الشِّعْرِ الْمُحْزِنِ، وَالْبَادِئُ بِالشَّرِّ أَظْلَمُ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَجُوا عَدْلِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةِ بِمِثْلِ مَا هَجَا بِهِ شَاعِرُهُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ كَافَّةً، هُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ، وَيُشَنِّعُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِيِّينَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ التَّفْوِيضِ كَالنُّصُوصِ فِي عُلُوِّ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا إِجْمَاعَ السَّلَفِ أَوْ جُمْهُورِهِمُ الْأَعْظَمِ فِي إِمْرَارِهَا، كَمَا جَاءَتْ مَعَ تَنْزِيهِمِ الرَّبِّ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْحَدِّ وَالْحُلُولِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ
114
عَقِيدَتِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (٤٢: ١١) بَلْ أَوَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَفْسُهُ نُصُوصَ الْمَعِيَّةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ (٥٧: ٤) فَخَصَّهُ بِالْعِلْمِ.
فَالْحَقُّ الْوَاقِعُ أَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَيُعَظِّمُونَهَا، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى قَوْمٍ تَرْجِيحُ جَانِبِ التَّنْزِيهِ حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِهِمْ إِلَى التَّعْطِيلِ، وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْبِيهِ فِعْلًا، كَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ خَلَوْا مِنَ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا عَدَا اسْمَ الْجَلَالَةِ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ قَدْ وُضِعَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِلتَّعْبِيرِ بِهِ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَشُئُونِهَا، فَالْفَرِيقَانِ أَرَادَا تَعْظِيمَ الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَسَدَّ ذَرِيعَةِ الْقَوْلِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِيهِ، هَؤُلَاءِ خَافُوا التَّعْطِيلَ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ أَوْ تَحَكُّمِ الْأَهْوَاءِ فِي تَأْوِيلِهَا - وَأُولَئِكَ خَافُوا الْوُقُوعَ فِي تَشْبِيهِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ، وَسَدِّ ذَرِيعَةٍ مَا يُعَدُّ نَقْصًا فِي حَقِّهِ، فَالنِّيَّةُ كَانَتْ حَسَنَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ حُسَيْنُ الْجِسْرِ الطَّرَابُلُسِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي دَرْسِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ شَرْحَيِ السَّنُوسِيَّةِ وَالْجَوْهَرَةِ.
وَلَكِنِ الَّذِينَ ضَلُّوا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ كَثِيرُونَ حَتَّى خَرَجَتْ بِهِ عِدَّةُ فِرَقٍ مِنَ الْمِلَّةِ بَعْضُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَبَعْضُهُمْ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا، كَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ تَرَكُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَصِيَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ غَيْرَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا فِي التَّأْوِيلِ إِلَى مَا وَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ، فَادَّعُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللهَ - تَعَالَى - عِيَانًا
فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَيَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْلَمُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى رَفْعَ التَّكْلِيفِ عَمَّنْ بَلَغَ مَقَامَاتَهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِي وُحْدَةِ الْوُجُودِ إِلَى ادِّعَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَالْبَقَرِ، وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، وَمَا يَسْتَحِي أَوْ يَتَنَزَّهُ قَلَمُ الْمُتَدَيِّنِ الْأَدِيبِ عَنْ ذِكْرِهِ -، وَإِلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مُوَحِّدٍ وَمُشْرِكٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَعَادِلٍ وَجَائِرٍ، وَطَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَطُهُورٍ وَرِجْسٍ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ أَوْ مَزَاعِمِهِمْ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عَقَائِدَا وَأَنَا اعْتَقَدْتُ جَمِيعَ مَا اعْتَقَدُوهُ
وَلَمْ يَقَعْ مِنْ فِرْقَةٍ تَأْخُذُ بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فِي مِثْلِ هَذَا الضَّلَالِ الْبَعِيدِ، فَهَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ يُسَمُّونَهُمْ غُلَاةُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَقْوَى الْمُسْلِمِينَ إِيمَانًا، وَأَصَحِّهِمْ إِسْلَامًا، وَمَا رَمَوْا بِهِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ الَّذِي نَفَاهُ النَّصُّ وَالْعَقْلُ ظُلْمٌ؛ سَبَبُهُ التَّعَصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ. فَإِذَا كَانُوا يَثْبُتُونَ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - كُلَّ مَا أَثْبَتَهُ
115
لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِهِ، حَتَّى فِيمَا يُفَوِّضُونَ كُنْهَهُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - لِلِاعْتِرَافِ بِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَا تُحِيطُ بِهِ، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (٤٢: ١١) وَهُوَ مِمَّا يَعْقِلُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَ ضِدَّهُ؟ كَلَّا إِنْ تَعَصَّبَ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ مَنْ مُتَأَوِّلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ افْتَاتُوا عَلَيْهِمْ بِمَا أَلْزَمُوهُمْ إِيَّاهُ مِمَّا نَفُوهُ مِنْ لَوَازِمِ مَا صَحَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ عُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَوْنِهِ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَضْحَكُ إِلَخْ. مَعَ اسْتِصْحَابِ نَصِّ التَّنْزِيهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا ذَنْبُهُمْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ فِي التَّحَكُّمِ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يُكَلِّفِ اللهُ - تَعَالَى - أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةَ الْكَلَامِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رُسُلُهُ - صَلَوَاتِ اللهِ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ - وَأَصْلُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ إِلَى خَلْقِهِ هُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَّعَهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَرِّعَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ بِدُونِ إِذْنِهِ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ شَرَّعَ
الدِّينَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْفَلْسَفَةُ الْكَلَامِيَّةُ مِنْ دَقَائِقِ النَّظَرِيَّاتِ الْفِكْرِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالْغَوْصِ عَلَيْهَا أَفْرَادٌ مَعْدُودُونَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْأُمَمِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَاخْتَلَفُوا؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَيِّنَةِ، فَعَصَوُا اللهَ - تَعَالَى - فِي نَهْيِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَكَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُلِّفُوهَا، وَإِذَا كَانَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَكَمْ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا؟ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدًا كَمَا يَقُولُونَ فَكَمْ عَدَدُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْهُمْ؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ لَدَى كُلِّ مَنِ احْتَكَرَ الْحَقَّ فِيهَا لِنَفْسِهِ إِلَى تَلْقِينِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْأُمَّةِ مَا يَرَاهُ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ سِوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ غَيْرَهُ، فَفِهْمُ الدِّينِ مُتَعَذَّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ فَكَانَ سَهْلًا وَيَسِيرًا كَمَا وَصَفَ اللهُ وَرَسُولُهُ هَذَا الدِّينَ وَهَذِهِ الْمِلَّةَ، كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يَصِفُونَ اللهَ - تَعَالَى - بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَهُ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللهُ - تَعَالَى -، وَلَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ جَمِيعُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ عِلْمَ الْكَلَامِ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً سَيِّئَةً، وَمَنْ خَاضَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ؛ فَلِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِبْطَالُ الْبِدَعِ وَإِزَالَةُ الشُّبَهَاتِ الْمُشْكِلَةِ فِي الدِّينِ لَا لِذَاتِهِ، وَأَرَادُوا بِهِ إِزَالَةَ الْخِلَافِ فَزَادَهُمْ خِلَافًا وَافْتِرَاقًا، حَتَّى صَارَ أَكْثَرُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، وَيَحْصُرُهَا كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَذْهَبِهِ، وَلَا سَلَامَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِالرُّجُوعِ فِي الدِّينِ الْمَحْضِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَى مَا أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ
116
وَالتَّجَارِبُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنْ يَنْبِذُوا جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَالْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ مَثَارَ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ، وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَلَا يَجْعَلُوا قَوْلَ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَلَا فَهْمِهِ سَبَبًا لِلتَّعَدِّي وَالتَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ بَلْ يَعُدُّوا كُلَّ مَا لَيْسَ قَطْعِيًّا مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ رَسُولِهِمْ، وَاجْتِمَاعِ سَلَفِهِمْ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ مَنْ قَامَ دَلِيلُهُ عِنْدَهُ وَمَنْ وَثِقَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي مَجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) مِرَارًا. فَبِهَذَا يَزُولُ ضَرَرُ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَيَتَرَاجَعُ الْجَمِيعُ إِلَى وَحْدَةِ الدِّينِ وَأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، فَيَنَالُوا مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا ثُمَّ الْآخِرَةِ مَا شَرَّعَ اللهُ لَهُمُ الدِّينَ لِأَجْلِهِ.
بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ نَقُولُ: إِنْ مَسْأَلَةَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
مِنْ تَأْوِيلٍ وَتَفْوِيضٍ، اجْتِنَابًا مِنْ قَوْمٍ لِلتَّعْطِيلِ، وَمِنْ آخَرِينَ لِلتَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ لِلَّهِ - تَعَالَى - صَرِيحٌ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا، وَأَمَّا رُؤْيَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فَرُبَّمَا قِيلَ بَادِيَ الرَّأْيِ إِنَّ آيَاتِ النَّفْيِ فِيهَا أَصْرَحُ مِنْ آيَاتِ الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَرَانِي وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (٦: ١٠٣) فَهُمَا أَصْرَحُ دَلَالَةً عَلَى النَّفْيِ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٧٥: ٢٢، ٢٣) عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً (٣٦: ٤٩) وَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ (٧: ٥٣) وَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ (٢: ٢١٠) وَثَبَتَ أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا بِـ " إِلَى " وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُهُمْ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ - وَهُوَ تَوْجِيهُ الْبَاصِرَةُ إِلَى مَا تُرَادُ رُؤْيَتُهُ - أَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى الْوُجُوهِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُصَحِّحُ إِسْنَادُ النَّظَرِ إِلَيْهَا إِلَّا الْعُيُونَ الْبَصَّارَةَ، وَهُوَ فِي الدِّقَّةِ كَمَا تَرَى، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِي فَهْمِهَا الْعُلَمَاءُ قَبْلَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرَ (نَاظِرَةٌ) بِقَوْلِهِ: تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنَ حَجَرٍ: سَنَدُهُ إِلَى مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ، وَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ فَهْمَ مُجَاهِدٍ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ وَالشِّيعَةَ يَرَوْنَهُ صَحِيحًا، أَوْ لَيْسَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَمْتَنِعُ جَعْلُ تَأْوِيلِهِ عُذْرًا لِلْمُخَالِفِينَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْذُرُ أَصْحَابَهُ فِي اخْتِلَافِ فَهْمِهِمْ لِلنُّصُوصِ، وَيُقِرُّهُمْ عَلَى مَا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَجْهٌ وَجِيهٌ، كَأَخْذِ الْآخَرِينَ بِفَحْوَاهُ وَهُوَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ، فَصَلَّى هَؤُلَاءِ فِي الطَّرِيقِ، وَأَدْرَكُوا مَعَهُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْمَوْعِدِ، وَلَمْ يُصَلِّ أُولَئِكَ الْعَصْرَ إِلَّا فِيهَا، وَكَمَا فَهِمَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي رَجَّحَتْ إِثْمَهُمَا عَلَى مَنَافِعِهِمَا فَتَرَكُوهُمَا، وَلَمْ يَتْرُكْهُمَا مَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ بِاجْتِنَابِهِمَا.
117
فَإِذَا مَحَّصْنَا أَسْبَابَ الْخِلَافِ مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ وَحْدَهَا وَجَدْنَا لِكُلٍّ مِنَ النُّفَاةِ لِلرُّؤْيَةِ وَالْمُثْبِتِينَ لَهَا مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرًا عِنْدَ الْآخَرِ بِمَنْعِ جَرِيمَةِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، وَجَعْلِ أَهْلِهِ أَحْزَابًا وَشِيَعًا مُتَعَادِيَةً غَيْرَ مُبَالِيَةٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي كَادَ يَجْعَلُهُ كَالْكُفْرِ مَا دَامَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ
بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدِّينِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْخِلَافَ مَحْصُورٌ فِي اخْتِلَافِ الْفَهْمِ.
وَمَا كَفَّرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بَعْضَ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ وَغُلَاةِ التَّأْوِيلِ لِصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَغَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ إِلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ زَنَادِقَةً لَبِسُوا لِبَاسَ الْإِسْلَامِ لِلْإِفْسَادِ، وَبَثِّ دَعْوَةِ الْإِلْحَادِ، وَالتَّجْرِئَةِ عَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي تَلَقَّاهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بِالْقَبُولِ، أَوْ تَحْرِيفِهَا بِالتَّأْوِيلِ عَمَّا فَهِمُوهُ أَوْ عَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالْعَمَلِ " إِذْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ وَبِشْرِ الْمِرِّيسِيِّ وَبَعْضِ الْمَجُوسِ، وَمِنْ سَلَائِلِهِمْ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ قَدْ بَثُّوا فِي الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةَ الْكَفْرِ أَوِ الْبِدَعَ الدَّاعِيَةَ إِلَى النِّفَاقِ، أَوِ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الشِّقَاقِ، فَالْإِمَامُ أَحْمَدُ كَفَّرَ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ لِاعْتِقَادِهِ فِيمَا نَرَى أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ زَنْدَقَةٍ، لَا لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ نَفْسَهُ زَنْدَقَةٌ، بِحَيْثُ يَرْتَدُّ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَعَمَلِهِ إِذَا فَهِمَ أَنَّ آيَاتِ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُحَكَّمُ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي إِثْبَاتِهَا؛ إِذِ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ، دُونَ الْآخَرِ الْمُسْتَلْزِمِ عِنْدَهُ لِلتَّشْبِيهِ الْوَاجِبِ تَأْوِيلُهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ لَا لِرَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْذُرُونَ الْمُتَأَوِّلَ وَكَذَا الْجَاحِدَ لِمَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُكَفِّرُونَهُ بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ، وَلَا يَعُدُّونَ الْبِدْعَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مُسْقِطَةٌ لِلْعَدَالَةِ فِي الرِّوَايَةِ قَالُوا: إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا دَاعِيَةً؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِحْدَاثٌ لِفِتْنَةٍ وَتَفْرِيقٍ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَا أُثِرَ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خِلَافُهُ كَالرُّؤْيَةِ؟ ثُمَّ مَا الْقَوْلُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَمُخَالَفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَدَعَاوَى الْبَاطِنِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ، وَمِثْلِهَا دَعْوَى الْمَسِيحِيَّةِ الْقَادَيَانِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ الَّتِي يُلَقَّبُ أَهْلُهَا بِالْأَحْمَدِيَّةِ، أَنَّ رَئِيسَ نِحْلَتِهِمْ (مِيرْزَا غُلَامُ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيِّ) هُوَ الْمَسِيحُ الْمُبَشَّرُ بِعَوْدَتِهِ إِلَى الدُّنْيَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَنُسِخَتْ فَرْضِيَّةُ الْجِهَادِ عَلَى لِسَانِهِ، فَصَارَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْأَجَانِبِ الْمُسْتَعْبِدِينَ لَهُمْ، السَّالِبِينَ لِاسْتِقْلَالِهِمُ الْمُبْطِلِينَ لِشَرِيعَتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ لِشَعْبٍ إِسْلَامِيٍّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدَافِعَ بِالْقِتَالِ عَنْ مِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْقَادَيَانِيُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِ خِدْمَةً لِلْإِنْكِلِيزِ، وَلَا يَزَالُ الْبَابُ مَفْتُوحًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِ لِمِثْلِ هَذَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّ وَحْيَ النُّبُوَّةِ مُتَّصِلٌ فِي خُلَفَائِهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَالْقَوْلُ بِهَذَا خُرُوجٌ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ
118
لَا تَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا زَكَاةٌ وَلَا
حَجٌّ وَلَا صِيَامٌ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا الضَّلَالِ الْمُبِينِ إِلَّا التَّوَسُّعُ فِي بَابِ التَّأْوِيلِ:
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كُلًّا مِنْ مُثْبِتِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ وَنُفَاتِهَا قَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ النُّصُوصَ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَذْهَبِهِ قَطْعِيَّةٌ، حَتَّى إِنَّ النَّافِيَ جَعَلَ نُصُوصَ الْإِثْبَاتِ دَالَّةً عَلَى النَّفْيِ، وَالْمُثْبِتَ جَعَلَ نُصُوصَ النَّفْيَ دَالَّةً عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِ بَعْضِ النُّفَاةِ إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ أَيْ تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٤٢: ٥٣) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٥٣: ٤٢) أَيْ: لَا إِلَى سِوَاهُ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ نَظَرِهِمْ إِلَى غَيْرِ رَبِّهَا مَمْنُوعٌ عَقْلًا وَنَقْلًا وَجَبَ حَمْلُ النَّظَرِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ وَهُوَ الِانْتِظَارُ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَنْتَظِرُ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ (رَاجِعِ الْكَشَّافَ).
وَيُقَابِلُ هَذَا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (٦: ١٠٣) عَلَى رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِدْرَاكَ مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةُ، وَإِدْرَاكُ الْأَبْصَارِ إِنَّمَا إِحَاطَتُهَا بِالْمَرْئِيِّ، فَنَفْيُ الْإِدْرَاكِ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ الْإِدْرَاكِ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ الَّتِي تَرَاهُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ الَّتِي يَرَاهَا، وَيُحِيطُ بِهَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (٢٠: ١١٠) أَيْ: هُوَ يُحِيطُ بِهِمْ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٨٥: ٢٠) وَهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا؛ لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْمُحَاطِ بِهِ بِالْمُحِيطِ مُحَالٌ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ أَصْلِ الْعِلْمِ بِهِ لَا نَفْيُهُ، كَآيَةِ نَفْيِ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ، وَكُلٌّ مِنْهَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي اللُّغَةِ، وَهِيَ أَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ يُقْصَدُ بِهِ إِلَى الْقَيْدِ، وَأَنَّ نَفْيَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِمَعْنَى عَامٍّ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ ذَلِكَ الْعَامِّ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ لَا يَشْبَعُ - فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلْأَكْلِ وَنَفْيٌ لِلشِّبَعِ.
هَذَا تَوْجِيهٌ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَتَحَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ عَلَيْنَا، وَقَدْ رَأَيْنَا لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ تَوْجِيهًا آخَرَ، مُلَخَّصُهُ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَقَامِ التَّمَدُّحِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِالْأَوْصَافِ الثُّبُوتِيَّةِ لَا بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَمَا تَمْدَّحَ - تَعَالَى - بِأَمْرٍ سَلْبِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا، كَنَفْيِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَنَفْيِ الْمَوْتِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَالظَّهِيرِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَنَفْيِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ تَوْحِيدِهِ وَغِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ، وَنَفْيِ الْمِثْلِ الْمُتَضَمَّنِ لِكَمَالِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ... قَالَ: فَكَذَلِكَ نَفْيُ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُرَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، وَالرَّبُّ - جَلَّ جَلَالُهُ - يَتَعَالَى أَنْ يَتَمَدَّحَ بِمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَالْمَعْنَى إِذَنْ أَنَّهُ يُرَى
وَلَا يُدْرَكُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ - كَنَظَائِرِهِ - فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ عَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ
119
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ لَا يُدْرَكُ بِحَيْثُ يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لُغَةً بِمَا نَسْتَغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ بِمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لِلْإِدْرَاكِ، وَأَلْمَمْنَا بِمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَوَعَدْنَا بِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ.
(وَجَوَابُنَا) عَمَّا ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الدَّقَائِقَ اللُّغَوِيَّةَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَكَذَا أَهْلُ السَّلِيقَةِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَكَيْفَ يُقَالُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: إِنَّهُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ؟
وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا التَّطْوِيلِ بِبَيَانِ حُجَجِ كُلِّ فَرِيقٍ إِقْنَاعُ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ وَالْإِخْلَاصِ فِي جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَتَّى الْمَوْلُودِينَ فِي مُهُودِ الْمَذَاهِبِ، وَالنَّاشِئِينَ فِي حُجُورِ الْأَحْزَابِ وَالشِّيَعِ، أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي التَّوْفِيقِ وَالتَّأْلِيفِ، وَمَنْعِ جَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ، فَضْلًا عَنْ جَعْلِهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّكْفِيرِ أَوِ التَّفْسِيقِ، وَلْيَعْذُرْنَا مَنْ يَرَانَا نُخَالِفُ فَهْمَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ فِي تَرْجِيحِنَا لِلْمَأْثُورِ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهَا، وَفِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ ثُمَّ لْيَعْذُرْنَا إِخْوَانُنَا السَّلَفِيُّونَ فِي تَقْرِيبِ مَذْهَبِ السَّلَفِ إِلَى الْعُقُولِ الَّتِي لَا يُرْجَى أَنْ تَهْتَدِيَ بِهِ وَتَأْخُذَهُ بِالْقَبُولِ إِلَّا بِإِثْبَاتِهِ بِمَا أَلِفَتْ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَإِيضَاحِهِ بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهَا مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْقِيقُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا بِفَتْوَى نُشِرَتْ فِي ص ٢٨٢ - ٢٨٨ مِنَ الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ، فَيَحْسُنُ أَنْ تُضَافَ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ، وَأَنْ يُلَخَّصَ الْمَوْضُوعُ فِي قَضَايَا مَعْدُودَةٍ تَكُونُ أَضْبُطُ لَهُ وَأَجْمَعُ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَكْرَارٌ فَإِنَّ التَّكْرَارَ فِي إِيضَاحِ الْحَقَائِقِ ضَرُورِيٌّ.
وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ قَضَايَا جَامِعَةً فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهَا.
قَضَايَا جَامِعَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ: (١) إِنَّ إِثْبَاتَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الْمُخَالَفَةِ لِهَذِهِ الدَّارِ فِي شُئُونِهَا وَشُئُونِ أَهْلِهَا وَسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِمَا بِالْقُيُودِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِهَا الْمُثْبِتُونَ لَهَا مِنْ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ - لَيْسَ مِنَ الْمُحَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا بِالْبَرَاهِينِ
120
الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ، وَإِلَّا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ حُذَّاقِ النُّظَّارِ عِنْدَ وُصُولِ الْبُرْهَانِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا وَلَا ذَاكَ.
(٢) إِنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فِيهَا لَيْسَتْ نُصُوصًا قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ فِي الْإِثْبَاتِ وَحْدَهُ وَلَا فِي النَّفْيِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ قَلِيلٍ مِنَ السَّلَفِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْخَلَفِ، فَفَهْمُ عَائِشَةَ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ وَمُجَاهِدٍ لِآيَةِ الْقِيَامَةِ مُخَالِفٌ لِرَأْيِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ - فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ؛ فَهِيَ إِذَنْ ظَنِّيَّةٌ، وَالتَّرْجِيحُ فِيهَا بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِثْبَاتُ وَمَا ظَاهِرُهُ النَّفْيُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُثْبِتِينَ وَالنُّفَاةِ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ تَرْجِيحِهِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، أَوِ اتِّبَاعًا وَتَقْلِيدًا. فَالْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرِكَةُ الْإِلْزَامِ، فَلَا وَجْهَ لِطَعْنِ أَحَدٍ مِنْهُمَا فِي دِينِ الْآخَرِ، وَلَا فِي عِلْمِهِ بِهَا.
(٣) إِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ قَطْعِيٍّ، وَفِيهَا مَا قَدْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَيَأْتِي فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَتَّى مِنَ الْمَنْسُوبِينَ مِنْهُمْ إِلَى السُّنَّةِ، كَالْأَشْعَرِيَّةِ بَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهُمْ مِنَ النُّصُوصِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا
(٤) إِنَّ جُمْهُورَ السَّلَفِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُفَوِّضُونَ فِي جُمْلَةِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَشُئُونِهِ وَأَفْعَالِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُمِرُّونَهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَحَكُّمٍ فِي تَأْوِيلٍ يُخْرِجُهَا عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا، وَيُنَزِّهُونَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِيمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالشُّئُونِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِنَّ جُمْهُورَ الْخَلَفِ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ يَتَأَوَّلُونَ مَا عَدَا صِفَاتِ الْمَعَانِي، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ حَتَّى الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تَرَاهُمْ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَفِ فِي الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْكَلَامِ
الْإِلَهِيِّ، وَرُؤْيَةِ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَنَابِلَةِ بِأَشَدِّ مَا يُشَنِّعُونَ بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى كَوْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُسِلُّونَهُ مِمَّنْ يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ سَلًّا، وَيُبَرِّئُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَرْعًا وَأَصْلًا.
(٥) إِنَّ مِنْ أَصَحِّ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْقَضَايَا الْعَامَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: " ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ - قَالَ مَسْرُوقٌ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلِ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٨١: ٢٣) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
121
(٥٣: ١٣) فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا إِلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. فَقَالَتْ أَوْ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (٦: ١٠٣) أَوْ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤٢: ٥١) ؟ قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رِسَالَتَهُ (٥: ٦٧) قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاللهُ يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ (٢٧: ٦٥).
فَعَائِشَةُ وَهِيَ مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ تَسْتَدِلُّ بِنَفْيِ الْإِدْرَاكِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ مَعَ مَا عَلِمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَتَسْتَدِلُّ عَلَى نَفْيِهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَدْ حَمَلُوا هَذَا وَذَاكَ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ إِدْرَاكَ الْأَبْصَارِ لِلرَّبِّ - سُبْحَانَهُ - مُحَالٌ فِي الْآخِرَةِ كَالدُّنْيَا، وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ لِمُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَقْوَى خَلْقُهُ الدُّنْيَوِيُّ الْمُعَدُّ لِلْفَنَاءِ، وَلَا يُطِيقُ رُؤْيَةَ الرَّبِّ - تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُقَوِّيهِ بَعْضُ الشَّوَاهِدِ الْأُخْرَى، وَفِي بَحْثٍ ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَتْوَى.
(٦) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ،
وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةٍ النَّارُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " وَالْمَعْنَى: أَنَّ النُّورَ الْعَظِيمَ هُوَ الْحِجَابُ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُوَ بِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ مُلْتَهِبٌ كَالنَّارِ؛ وَلِذَلِكَ رَأَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ نَارًا فِي شَجَرَةٍ تَوَجَّهَ هَمُّهُ كُلُّهُ إِلَيْهَا فَنُودِيَ بِالْوَحْيِ مِنْ وَرَائِهَا، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْجَبَلَ كَانَ فِي وَقْتِ تَكْلِيمِ الرَّبِّ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِيتَائِهِ الْأَلْوَاحَ مُغَطًّى بِالسَّحَابِ
122
وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ " خُرُوجٌ (٢٤: ١٧).
وَرَأَى النَّبِيُّ الْخَاتَمُ الْأَعْظَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ نُورًا مِنْ غَيْرِ نَارٍ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَعْلَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ حِجَابًا دُونَ الرُّؤْيَةِ أَيْضًا، فَقَدْ سَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " رَأَيْتُ نُورًا " وَمَعْنَاهُمَا مَعًا رَأَيْتُ نُورًا مَنَعَنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ لَا أَنَّهُ - تَعَالَى - نُورٌ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ لَا يُرَى، وَهَذَا يَتَلَاقَى وَيَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ " حِجَابُهُ النُّورُ " وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا أَحَادِيثَ النُّورِ شَاهِدًا وَاحِدًا فِي مَوْضُوعِنَا، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ ذَاتِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَامْتِنَاعِهَا، كَمَا تَمْتَنِعُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ تَكُونُ الشَّمْسُ دُونَهُ حِجَابًا لَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي تَنْفُذُ أَشِعَّةُ نُورِ بَصَرِهِ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَنَارِهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا فَتُبْصِرُهُ؟ وَمَا هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي يَرَاهَا عَلَى بُعْدٍ قَدَّرَهُ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ بِأَكْثَرِ مِنْ تِسْعِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ، وَسَائِرُ الشُّمُوسِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا بِالْمَنَاظِيرِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ، وَالَّتِي لَا يَرَوْنَهَا إِلَّا بَعْضَ مَا أَفَاضَهُ - تَعَالَى - مِنَ النُّورِ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُبُحَاتُ نُورِ وَجْهِهِ أَعْظَمُ وَأَقْوَى وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، فَلَا تُذْكَرُ مَعَهَا أَنْوَارُ الشُّمُوسِ إِلَّا مِنْ بَابِ ضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي وَرَدَ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى (١٦: ٦٠).
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رُؤْيَةُ إِدْرَاكٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ عَلَى جَمِيعِ
الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى لَا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الذَّاتِ وَفَسَّرُوا وَجْهَ اللهِ بِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يُوَاجِهُ بِهِ الشَّخْصُ غَيْرَهُ، وَفِيهِ مَعَارِفُهُ؛ أَيْ: مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ - تَعَالَى - لَوْ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ حِجَابَ النُّورِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عِنْدَ ارْتِقَائِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَجَلَّى - سُبْحَانَهُ - لِلْخَلْقِ كَافَّةً بِدُونِ هَذَا النُّورِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ، لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْهُمْ؛ أَيْ: لَأَحْرَقَتْهُمْ كُلُّهُمْ فَإِنَّ بَصَرَهُ - تَعَالَى - مُحِيطٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ آخَرَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعِلْمُ هُوَ اكْتِشَافُ الْحِجَابِ الْأَخِيرِ الَّذِي هُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأُ التَّكْوِينِ وَمَصْدَرُ التَّطَوُّرِ وَالتَّلْوِينِ.
قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: مَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (٧١: ١٣، ١٤) وَخَلْقُ النَّاسِ وَكَذَا سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْوَارًا، قَدْ فُصِّلَ فِي عُلُومِ سُنَنِ اللهِ فِي التَّكْوِينِ؛ فَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى أَطْوَارًا، وَفِي خَلْقِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ أَطْوَارٌ، وَفِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ لِلْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا أَطْوَارٌ، وَهِيَ بَعْدَ الْمَادَّةِ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا السَّمَاوَاتِ
123
وَالْأَرْضَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَوْلَمَ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (٢١: ٣٠) وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (٤١: ١١) إِلَخْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا أَوِ الْمُشَبَّهَةَ بِالدُّخَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِالْغَمَامِ الْمُشَابِهِ لِلدُّخَانِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (٢: ٢١٠) فَهَذَا كَلَامٌ عَنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى، وَذَاكَ كَلَامٌ فِي بَدْئِهِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ (٢٩: ٢٠) وَقَالَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (٢١: ١٠٤)
إِذَا تَذَكَّرْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْغَلُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمُرَاقَبَتِهِ مِنْ أَطْوَارِ الْخَلْقِ وَشُئُونِهِ فَهُوَ حِجَابٌ لَهُ عَنْهُ، فَالْحُجُبُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ كَثِيرَةٌ، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ حُجُبٌ دُونَهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَهَا بَائِنٌ مِنْهَا لَا تُشْبِهُهُ وَلَا يُشْبِهُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ قَدْ تَكُونُ مِنْ وَسَائِلِ مَعْرِفَتِهِ وَشُكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا تَكُونُ حُجُبًا إِلَّا دُونَ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ حُجُبًا لَهُ دُونَ
الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَاهِدٍ آخَرَ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا " سَأَلْتُ جِبْرِيلَ هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ قَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، وَلَوْ رَأَيْتُ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ " وَرَوَاهُ عَنْهُ سَمَّوَيْهِ بِلَفْظِ: " سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَنَارٍ " وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: " لِلَّهِ دُونَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا لَوْ دَنَوْنَا مِنْ أَحَدِهَا لَأَحْرَقَتْنَا سُبُحَاتُ وَجْهِ رَبِّنَا " وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْإِسْنَادِ لِمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الصِّحَاحِ. وَعُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ يَرَوْنَ بِمَا اكْتَشَفُوهُ بِمَنَاظِيرِهِمِ الْمُكَبِّرَةِ عِيَانًا أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي نَرَاهَا أَوْ مَا عَدَا الدَّرَارِيَّ وَالْأَقْمَارَ مِنْهَا كُلَّهَا شُمُوسٌ، مِنْهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ شَمْسِ عَالَمِنَا هَذَا وَأَبْعَدُ مِنْهَا بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ مِنْ سِنِي سَيْرِ النُّورِ الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ زُهَاءَ مِائَةِ مِلْيُونِ مِيلٍ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشْرِ دَقَائِقَ، وَالنُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُلُّهَا دُونَ الْعَرْشِ.
(٧) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا " جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ " قَالُوا: إِنَّ الرِّدَاءَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِجَابِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا، وَقَدْ جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي التَّعْبِيرِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ رُؤْيَةِ الذَّاتِ بِدُونِ حِجَابٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ نَقْلًا عَنِ الْكِرْمَانِيِّ بَعْدَ عَدِّهِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللهِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ، وَأَجَابَ - أَيْ:
124
الْكِرْمَانِيُّ - بِأَنَّ مَفْهُومَهُ بَيَانُ قُرْبِ النَّظَرِ؛ إِذْ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَعَبَّرَ عَنْ زَوَالِ الْمَانِعِ عَنِ الْأَبْصَارِ بِإِزَالَةِ الرِّدَاءِ - وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ مَانِعٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، فَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: " إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ " فَإِنَّهُ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِهِ... إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ - وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَا يَنْبَغِي لِحُفَّاظِ السُّنَّةِ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مِثْلَهُ، وَمَا هُوَ أَمْثَلُ مِنْهُ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ اعْتَمَدَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ جَعْلَ رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ هَنَا عَيْنَ الْحِجَابِ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى هَذَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَهُ بِهِ - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟
قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: تَلَا لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (١٠: ٢٦) وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُرَى بِدُونِ حِجَابٍ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْمَوْقِفِ وَمُلَاقَاتَهُ كَانَتْ مَعَ الْحِجَابِ، كَهَذِهِ الْمُلَاقَاةِ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ عَمَّا يَطْلُبُونَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: إِنَّنَا إِذَا قَطَعْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحِجَابِ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ الْمَانِعُ مِنَ النَّظَرِ، فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ هُوَ حِجَابُ النُّورِ الْمَانِعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَالنَّظَرُ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنَ النَّظَرِ يُكْشَفُ فَيَقَعُ النَّظَرُ، فَيَرَى النَّاظِرُونَ النُّورَ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمَانِعَ مِنْ رُؤْيَةِ الذَّاتِ. وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْبَحْثِ.
(٨) وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي تَجَلِّيهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الصُّوَرِ، وَأَقْوَاهَا وَأَصَحَّهَا حَدِيثَا أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - الطَّوِيلَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِيهِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " هَلْ يُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ " فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ: يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي صُورَةٍ غَيْرَ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيَلِيهِ ذِكْرُ الصِّرَاطِ وَالْجَوَازِ عَلَيْهِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ إِلَخْ. وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي
125
هُرَيْرَةَ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ " هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ " وَذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَمَرَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ تَشْبِيهُ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَيْضًا؛ أَيْ: فِي كَوْنِهِ لَا مُضَارَّةَ فِيهِ، وَلَا فِي التَّزَاحُمِ عَلَيْهِ - لَا تَشْبِيهُ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ - وَفِيهِ ذِكْرُ مَنْ عَبَدَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَدُخُولِ كُلِّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللهِ النَّارَ، وَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ: " حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ - تَعَالَى - مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ
فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ: فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةً فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى فِي الصُّورَةِ، سَتَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَيُخَالِفُهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ التَّعْبِيرِ، وَرَوَاهُمَا غَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ تُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا وَتُخَالِفُهُ بِتَعْبِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَالْمَعْنَى الْعَامُّ وَاحِدٌ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ رِوَايَةُ " فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ " وَهِيَ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ " فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ " الْمُوَافَقَةُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٦٨: ٤٢) وَلَكِنَّ تَنْكِيرَ السَّاقِ وَإِسْنَادَ كَشْفِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَوْسَعُ مَجَالًا لِلتَّأْوِيلِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَإِسْنَادِ كَشْفِهِ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَالتَّشْمِيرِ عَنِ السَّاعِدِ مَثَلَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْجِدِّ وَالِاهْتِمَامِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ، وَسَبَبُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الْفِرَارُ مِنْ شَيْءٍ مُخَوِّفٍ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْعَدْوُ السَّرِيعُ فَلَا يَتَعَثَّرُ بِثَوْبِهِ، وَسَبَبُ الثَّانِي أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا بِاتْقَانٍ وَسُرْعَةٍ يُشَمِّرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى لَا يَعُوقَهُ كُمَّاهُ، وَفِي مَجَازِ الْأَسَاسِ قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَكَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقِهِ. قَالَ:
عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا
وَمِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أَرْزَاقِهَا
فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا
اهـ.
أَقُولُ: فَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ عِبَارَةَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ امْتِحَانِ اللهِ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ وَالتَّنْزِيلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يَنْتَهِي إِلَى آخِرِ حَدِّهِ بِتَيْسِيرِهِ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ السُّجُودَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَفْظَ السَّاقِ وَرَدَ بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالنَّفْسِ.
126
وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَرْبِ الشُّرَاةِ: " لَا بُدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ وَلَوْ تَلِفَتْ سَاقِي " قَالُوا: أَيْ نَفْسِي. وَعَلَيْهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَشْفُ السَّاقِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ كَشْفِ
الْحِجَابِ، وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ (٦٨: ٤٢) قَالَ: عَنِ الْغِطَاءِ فَيَقَعُ مَنْ كَانَ آمَنَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَيَسْجُدُونَ لَهُ، وَيُدْعَى الْآخَرُونَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا يُبْصِرُونَهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَسَالِيبِ اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَجَدِّهِ، هِيَ أَشَدُّ سَاعَةٍ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَكْشِفَ اللهُ الْأَمْرَ وَتَبْدُوَ الْأَعْمَالُ، وَقَالَ: هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْمُفْظِعُ مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ فِيهِمْ وَالْحَرْبُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ فِيهِمْ قَالُوا لِشِدَّةِ ذَلِكَ: قَدْ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ، فَذَكَرَ اللهُ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَهَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ الْجَلِيِّ، لَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْخَفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَيْ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ إِلَّا إِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْضَاوِيُّ أَصْلًا آخَرَ لِكَشْفِ السَّاقِ تَتَّجِهُ بِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى كَشْفِ الْحِجَابِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَتِهِ فِي الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِحُسْنِ بَيَانِهِ لَهُ وَهُمَا قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: يَوْمَ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَيَعْظُمُ الْخَطْبُ. وَكَشْفُ السَّاقِ مَثَلٌ فِي ذَلِكَ وَأَصْلُهُ تَشْمِيرُ الْمُخَدَّرَاتِ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي الْهَرَبِ قَالَ حَاتِمٌ:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا
أَوْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ وَحَقِيقَتِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ عِيَانًا، مُسْتَعَارٌ مِنْ سَاقِ الشَّجَرِ وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّهْوِيلِ أَوِ التَّعْظِيمِ اهـ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثَيْنِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْكَارِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي بَعْضِهَا، وَمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضٍ فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ النُّجْعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَارَبَ، قَالَ بَعْضُ الْمُؤَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ تَعَالَى رُؤْيَتُهُ - أَقُولُ: وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ كَالرُّؤْيَةِ فِي إِيهَامِ التَّشْبِيهِ، فَلَمْ يَخُصَّ دُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْتِي مَلَكٌ بِأَمْرِهِ لِامْتِحَانِهِمْ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ الْجَمْعُ بَيْنَ إِتْيَانِ الرَّبِّ وَإِتْيَانِ الْمَلَكِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (٦: ١٥٨) وَقَوْلِهِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٨٩: ٢٢) عَلَى وَجْهٍ، فَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ
الْحَدِيثِ لِلْهَرَبِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْيَانِ إِلَى الرَّبِّ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ مَعَ هَذَا - فَالْأَوْلَى قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ: إِنَّهُ إِتْيَانٌ يَلِيقُ بِهِ، لَا كَإِتْيَانِ الْخَلْقِ.
127
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الصُّورَةِ وَأَوَّلُوهَا أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يَقَعُ بِهِ التَّجَلِّي مِنْ حِجَابٍ وَمِنْهُ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الصُّورَةِ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ لِحَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ.
(مِنْهَا) كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ " أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا " (وَمِنْهَا) " فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ " (وَمِنْهَا) " فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ " (وَمِنْهَا) " ثُمَّ يَتَبَدَّى اللهُ لَنَا فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ " وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ " ثُمَّ نَرْفَعُ رُؤُوسَنَا وَقَدْ عَادَ لَنَا فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَنَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ رَبُّنَا " وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ " فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ رَبُّهُمْ ".
ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَظَمَتِهِ مَعَ التَّنْزِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَمِنْهُ أَنْ يَجِيئَهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ صِفَةِ الْحَدَثِ، وَلَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْإِلَهِ لِيَمْتَحِنَهُمْ " فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْمَلَكُ أَوْ هَذِهِ الصُّورَةُ: أَنَا رَبُّكُمْ - رَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَخْلُوقِ مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبُّهُمْ فَيَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْهُ " وَقَالَ فِي شَرْحِ " فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ": الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ هُنَا الصِّفَةُ، وَمَعْنَاهُ: فَيَتَجَلَّى اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَهُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَهَا وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ رُؤْيَةٌ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصُّورَةِ عَنِ الصِّفَةِ لِمُشَابَهَتِهَا إِيَّاهَا وَلِمُجَانَسَةِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصُّورَةِ اهـ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ تَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى عَنِ الْقُرْطُبِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَقْرُبُ مِمَّا اعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ.
وَغَرَضُنَا مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَدْ أَوَّلُوا بَعْضَ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ كَمَا أَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ، فَلَا مُقْتَضَى لِلتَّعَادِي وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَبَعْضُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَعْرَقُ فِي التَّكَلُّفِ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا سَاغَ
فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا يَسُوغُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ التَّأْوِيلِ تَقْرِيبَ الْمَعَانِي إِلَى الْأَذْهَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّشْكِيكِ فِي النُّصُوصِ، فَإِنَّ الْوَاقِفِينَ عَلَى عُلُومِ هَذَا الْعَصْرِ وَفُنُونِهِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ مَا اشْتَدَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي فَتْوَى الْمَنَارِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ فِيهِ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ هُنَا، وَسَنَذْكُرُ الْفَتْوَى بِنَصِّهَا.
128
(٩) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بَيْنَ إِثْبَاتٍ وَنَفِيٍ وَوَقْفٍ، وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ فِي الرُّؤْيَةِ هَلْ هِيَ بِعَيْنِ الْبَصَرِ أَمْ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمِعْرَاجِ نَفْسِهِ هَلْ كَانَ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا، أَمْ مُشَاهَدَةً رُوحِيَّةً بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ؟ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فِيهَا، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَامًّا وَخَاصًّا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ صَحِيحَةٌ فِي النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ كَحَدِيثِ " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ " الْمُتَقَدَّمِ فِي النَّفْيِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَحَدِيثِ " وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
أَمَّا الصَّحَابَةُ؛ فَاشْتَهَرَ الْإِثْبَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وَأَخَذَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَقَبِلَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا يُدَقِّقُونَ فِي تَمْحِيصِ رِوَايَاتِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ. وَاشْتَهَرَ الْمَنْعُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهَا فِيهِ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ، وَتَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا فِيهِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّ مَسْرُوقًا لَمَّا سَأَلَهَا هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ.
وَرُوِيَ النَّفْيُ عَنْ آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ عَنُوا بِالتَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ فِيهَا؛ لِإِثْبَاتِ مَا سَبَقَ إِلَى اعْتِقَادِهِ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ كَالْحَافِظِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ، فَرَجَّحَا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رِوَايَةِ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَقْوَى دَلِيلًا، بِحُجَّةِ أَنَّهَا لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَتَأَوَّلَتْ آيَةَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (٦: ١٠٣) وَآيَةَ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا (٤٢: ٥١) إِلَخْ، وَقَدْ غَفَلَا عَمَّا لَمْ يَجْهَلَا مِنْ حَدِيثِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَوْلُهَا لِمَسْرُوقٍ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ آيَةِ سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ إِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ لَفْظُهَا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ،
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَصْرَحُ فِي الْمُرَادِ، وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: " أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: لَا؛ إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا " إِلَخْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ فِي الرِّوَايَاتِ لِأَجْلِ التَّمْحِيصِ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، فَبَيَّنَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْضُهَا مُطْلَقٌ وَبَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ لَا الْبَصَرِيَّةُ، فَإِذَا حَكَّمْتَ فِيهَا قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ زَالَ التَّعَارُضُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: جَاءَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
129
مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ " أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ؟ " وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ " إِنَّ اللهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ " إِلَخْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ " هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ " (وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (٥٣: ١١ - ١٣) قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ يَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِهِ إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَمِعَ حَدِيثَ قِسْمَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي عَرَفَةَ! !.
فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْإِثْبَاتِ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ مَا قِيلَ خَطَأً فِي نَفْيِ عَائِشَةَ: إِنَّهُ اسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِيهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ مُعَارِضٌ مَرْجُوحٌ بِمَا صَحَّ مِنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِآيَتَيْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا فِي رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ بِصُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ عِكْرِمَةَ عَنْهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مُعَاوِيَةُ: " إِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ " كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الْمَغَازِي لَا فِي الْحَدِيثِ، فَالْإِثْبَاتُ الْمُطْلَقُ عَنْهُ مَرْجُوحٌ رِوَايَةً، كَمَا هُوَ مَرْجُوحٌ دِرَايَةً.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ يَقَظَةً، وَمَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ، وَهَذِهِ نُصُوصُهُ مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ إِنَّمَا يَعْنِي رُؤْيَةَ الْمَنَامِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ رَآهُ، فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ. وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنَيْهِ فِي الدُّنْيَا لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يَقَعِ النِّزَاعُ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ رَآهُ، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ مَوْضُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. اهـ.
130
فَتْوَى الْمَنَارِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (مِنْ ص٢٨٢ م ١٩)
(التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -)
إِنَّ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ قِسْمَانِ: رُوحَانِيٌّ وَجُسْمَانِيٌّ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَبْقَوْنَ بَشَرًا أُولِي أَرْوَاحٍ وَأَجْسَادٍ، وَلَكِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ عِنْدَهُمْ أَعْلَى مِنَ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ، وَمِنَ الثَّابِتِ بِالِاخْتِبَارِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ وَالْحُكَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْفَلَاسِفَةُ الْمَادِّيُّونَ وَالرُّؤَسَاءُ السِّيَاسِيُّونَ - كُلُّهُمْ يُفَضِّلُونَ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحِيَّةَ وَالْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، عَلَى اللَّذَّاتِ الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَزْهَدُ فِي أَطَايِبِ الطَّعَامِ، وَكُئُوسِ الْمُدَامِ،
وَيَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، ذَاهِلًا عَنْ حُقُوقِ حَلِيلَتِهِ، تَلَذُّذًا بِحَلِّ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ وَاكْتِشَافِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ، أَوْ بِالنَّفْثِ فِي عُقَدِ السِّيَاسَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ أَعْبَاءُ الرِّيَاسَةِ.
أَلَا وَإِنَّ أَعْلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الرُّوحِيَّةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَالْعِلْمُ بِمَظَاهِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى سُنَنِهِ وَأَسْرَارِهِ فِيهَا، وَكَشْفُ الْحُجُبِ عَمَّا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَفِي النِّظَامِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي هِيَ مَجْلَى صِفَاتِ بَارِئِهَا، وَهُوَ مُنْتَهَى الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
وَمَا زَالَ أَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَالْآيَاتِ عَلَى كَمَالِ مُبْدِعِهَا وَمُبْدِئِهَا وَمُصَرِّفِهَا، وَتَتَطَلَّعُ عُيُونُ عُقُولِهِمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْحَادِثِ (وَهُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ) عَنِ الْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ الْوَاجِبِ، وَيَهْتَمُّونَ بِارْتِقَاءِ الْأَسْبَابِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَوَّلِ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ مِنْهَا، وَكَيْفَ ابْتَدَأَتْ سِلْسِلَةُ الْأَسْبَابِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحَوُّلِ الْبَسَائِطِ، وَتَوَلُّدِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ طَمَعًا فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْوُجُودِ الْأَعْلَى عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِ أَدْنَى هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ السُّفْلَى، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكَمَاءُ فِي إِمْكَانِ وُصُولِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى حَقِيقَةِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ الْأَزَلِيِّ، وَكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ عَنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ ذَلِكَ، وَتَوَقَّعَ حُصُولَهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْأَنَامِ.
131
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا هَدَانَا إِلَيْهِ دِينُ اللهِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ إِدْرَاكَ أَبْصَارِ الْخَلْقِ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِحَاطَةَ عِلْمِهِمْ بِهِ مِنَ الْمُحَالِ الَّذِي لَا مَطْمَعَ فِيهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (٦: ١٠٣) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (٢٠: ١١٠) وَلَكِنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحَاطَةِ، لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَجْزَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، الَّتِي تَرْتَقِي إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّجَلِّي وَالرُّؤْيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةً، فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ جَلِيلَةٌ وَاضِحَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمِرَاءُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَفَلْسِفِينَ وَبَيْنَ عُلَمَاءِ الْآثَارِ
فِي كَلِمَةِ " الرُّؤْيَةِ " فَأَثْبَتَهَا أَهْلُ الْأَثَرِ لِدَلَالَةِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهَا، وَمَنَعُوا قِيَاسَ رُؤْيَةِ الْبَارِي - تَعَالَى - عَلَى رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِدَعْوَى اسْتِلْزَامِهَا التَّحَيُّزَ وَالْحُدُودَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَقَالُوا: إِنَّنَا لَا نَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا، وَلَكِنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا كَعِلْمِنَا عَنِ انْطِبَاعِ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ فِي النَّفْسِ، وَلَا مُكْتَسِبًا لَهُ بِالْحَوَاسِّ أَوِ الْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ قُدْرَتُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ، فَنَحْنُ نَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالنُّصُوصِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسَائِرِ شُئُونِهِ، وَبَيْنَ تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ الْمَمْنُوعَةِ بِدَلَائِلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٤٢: ١١).
وَنَفَاهَا (بَعْضُ) أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْفَلْسَفَةِ بِنَاءً عَلَى قِيَاسِ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَدَعْوَى مُنَافَاةِ الرُّؤْيَةِ لِلتَّنْزِيهِ، الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعَقِيدَةِ وَرُكْنِهَا الرَّكِينِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الرُّؤْيَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِقَاءُ اللهِ - تَعَالَى - بِتَجَلِّيهِ عَلَيْهِمْ تَجَلِّيًا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ أَعْلَى مَا اسْتَعَدَّتْ لَهُ أَنْفُسُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّ أَعْظَمَ عِقَابٍ لِأَهْلِ النَّارِ حَجْبِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ هَذَا التَّجَلِّي وَالْعِرْفَانِ الْخَاصِّ بِدَارِ الْكَرَامَةِ وَالرَّاضُونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِتَأْوِيلِ مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُتَّقِينَ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ (٣٣: ٤٤) وَقَوْلُهُ فِي الْكَافِرِينَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (٨٣: ١٥) كَمَا يَعْتَنُونَ بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٧٥: ٢٢، ٢٣) بِأَنَّ النَّظَرَ مَعْنَاهُ الِانْتِظَارُ وَالرَّجَاءُ، وَمَا رَدَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْآيَةِ يَطْلُبُ مِنَ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَحَوَاشِيهِمَا وَسَائِرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَمِنْ كُتِبِ الْكَلَامِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ.
وَكَمْ بَيْنَ حُذَّاقِ الْجِدَالِ تَنَازُعٌ وَمَا بَيْنَ عُشَّاقِ الْجَمَالِ تَنَازُعُ
وَمِنْ غَرَائِبِ جَدَلِهِمْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ بِطَلَبِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رُؤْيَةَ رَبِّهِ،
132
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَرَانِي... الْآيَةَ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَسْتَدِلُّونَ
عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بِسُؤَالِ الْكَلِيمِ إِيَّاهَا، وَعَدَمُ إِنْكَارِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُؤَالَهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ - وَبِتَعْلِيقِ الرُّؤْيَةِ عَلَى جَائِزٍ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِعَدَمِ إِجَابَةِ الْكَلِيمِ إِلَيْهَا، وَتَعْلِيقِهَا عَلَى مَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ.
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ لَيْسَتْ نَصًّا قَاطِعًا فِي مَذْهَبِهِ، فَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مَا هُوَ نَصٌّ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فِي الرُّؤْيَةِ، وَتَشْبِيهِهَا بِرُؤْيَةِ الْبَدْرِ وَالشَّمْسِ فِي الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، وَكَوْنِهَا لَا مُضَارَّةَ فِيهَا وَلَا تَضَامَّ وَلَا ازْدِحَامَ، وَفِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا فِي ذَلِكَ، وَجَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَكَانَ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ إِشَارَتِهِ إِلَى ذَلِكَ: وَأَكْثَرُهَا جِيَادٌ، وَزَادَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، وَحَمْلَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَكَانَ بَعْضُ مَا قَالُوهُ تَأْوِيلًا أَبْعَدَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُنْكِرِينَ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَفْسِيرِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ مِنْ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مَا نَصَّهُ، وَاخْتَلَفَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَحْصُلُ لِلرَّائِي الْعِلْمُ بِاللهِ - تَعَالَى - بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهُوَ عَلَى وِفْقِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: " كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ " إِلَّا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا حُصُولُ حَالَةٍ فِي الْإِنْسَانِ نِسْبَتُهَا إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ؛ نِسْبَةُ الْأَبْصَارِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ نَوْعُ كَشْفٍ وَعِلْمٍ إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَوْضَحُ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَعَقَّبَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْوِيضِ وَعَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَأَوْضَحَهُ فِي كِتَابِ " الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ " بِمَا يُعْهَدُ مَنْ قَرَأَ الْإِحْيَاءَ مِنْ بَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ.
هَذَا وَإِنَّ إِحْصَاءَ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَسَرْدَ كَلَامِ الْمُثْبِتِينَ وَالنُّفَاةِ وَبَيَانَ الرَّاجِحِ مِنْهُ وَالْمَرْجُوحِ يَسْتَغْرِقُ عِدَّةَ أَجْزَاءٍ مِنَ الْمَنَارِ، وَلَنْ يَرْضَى ذَلِكَ مِنَّا أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ
133
صَحَابِيًّا، دَعِ الْمَوْقُوفَ وَالْآثَارَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مُعَارَضَتِهَا شَيْءٌ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: " قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - يَا أُمَّتَاهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ، مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذِبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذِبَ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ - ثُمَّ قَرَأَتْ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (٦: ١٠٣) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (٤٢: ٥١) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذِبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا (٣١: ٣٤) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ - أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ فَقَدْ كَذِبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أَنْزِلُ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (٥: ٦٧) الْآيَةَ، وَلَكِنْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ " اهـ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتِ الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَخْ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَبَعًا لِابْنِ خُزَيْمَةَ ذَاهِلًا عَمَّا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي شَرَحَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عِنْدَهُ زِيَادَةً عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ: قَالَ مَسْرُوقٌ " وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ وَقُلْتُ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ " إِلَخْ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَائِشَةَ تَنْفِي دَلَالَةَ سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَتَنْفِي جَوَازَ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا أَوْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ -
تَعَالَى -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَيُعَارِضُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي النَّفْيِ حَتَّى يُرَجَّحَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَقَدْ قَالَ بِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ عَائِشَةَ لَيْسَتْ أَعْلَمُ عِنْدِنَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ لِلنَّبِيِّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ بَحْثٌ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَنْبَطَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا مَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ إِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ يُقَالُ إِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ عَائِشَةَ إِلَّا وَالِدُهَا الصِّدِّيقُ وَعَلِيٌّ الْمُرْتَضَى وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِي طَبَقَتِهَا مِنْهُمُ الْعَبَادِلَةُ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي هَذَا الْبَابِ ضَعِيفٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ مَوْضُوعٌ، حَتَّى إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْهَا نَفْسُهَا فِيهِ أَقْوَى سَنَدًا. وَيَقُولُ النُّفَاةُ: لَوْ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَا خَفِيَ نَبَأُ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْعِلْمِ، وَسُؤَالِهَا إِيَّاهُ عَنْ آيَةِ النَّجْمِ،
134
وَقَدْ يَقُولُ النُّفَاةُ أَيْضًا: لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ عَقِيدَةً يُطَالِبُ الْمُسْمِلُونَ بِالْإِيمَانِ بِهَا لَمَا جَهِلَتْهَا عَائِشَةُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَةِ إِثْبَاتِ الْمُثْبِتِينَ لَهَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ، وَإِنَّمَا قُصَارَاهُ أَنْ يُعَدَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا لِبَعْضِ الْخَوَاصِّ إِذْ لَا يَضُرُّ الْعَامَّةَ جَهْلُهَا، فَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً يُدْعَى إِلَيْهَا مَعَ التَّوْحِيدِ.
وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنِ اسْتِنْبَاطِ عَائِشَةَ وَأَقْوَاهُ عِنْدَ الْمُثْبِتِينَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُرِيدُ بِهِ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَلَا تُقَاسُ شُئُونُ الْبَشَرِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى شُئُونِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ لِذَلِكَ الْعَالَمِ سُنَنًا وَنَوَامِيسَ تُخَالِفُ سُنَنَ هَذَا الْعَالَمِ وَنَوَامِيسِهِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَمَاءُ الْجَنَّةِ غَيْرُ آسِنٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَا يُخَالِطُهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فِي مَقَرِّهِ أَوْ جَوِّهِ، وَخَمْرُهَا لَيْسَ فِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعَقْلَ، وَلَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، وَلَبَنُهَا لَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ، وَلَا تُخَالِطُهُ جِنَّةٌ (مَيْكْرُوبَاتٌ) أَمْرَاضٌ، وَكَذَلِكَ فَاكِهَتُهَا وَثَمَرَاتُهَا هِيَ عَلَى كَوْنِهَا أَعْلَى وَأَشْهَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا لَا تَفْسَدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءَ، وَكَذَلِكَ أَمْزِجَةُ أَهْلِهَا هِيَ أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ أَمْزِجَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ
وَيَشْرَبُونَ فَيَكُونُ هَضْمُهُمْ بِالتَّبَخُّرِ وَرَشْحِ الْعَرَقِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ لَهَا رِيحُ الْمِسْكِ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْعَصْرِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ فِي كَوْكَبِ الْمِرِّيخِ أَحْيَاءً عُقَلَاءَ كَالْبَشَرِ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا أَكْبَرَ مِنَّا أَجْسَامًا وَأَسْرَعَ مِنَ الْخَيْلِ الْعَادِيَّةِ فِي حَرَكَتِهِمُ الْعَادِيَّةِ، هَذَا، وَعَالَمُ الْمِرِّيخِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعَالِيَةِ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَيَاةِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ فِي شَأْنِهِ يُقَرِّبُ تَصَوُّرَ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَذْهَانِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْمَأْلُوفَاتِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ أَخْبَارَ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَمَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِمَا اكْتَشَفَ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَخَوَاصِّ الْكَهْرُبَاءِ وَالرَّادْيُومِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مَشْهُودًا مَقْطُوعًا بِهِ لَمَا صَدَّقُوهُ. قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ حَقَّ الْقِيَامِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٢: ١٧) وَوَضَّحَ ذَلِكَ رَسُولُهُ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " وَرَوَى أَهْلُ الْكِتَابِ مِثْلَ هَذَا عَنْ سَيِّدِنَا عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا ثَبَتَ لَنَا أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ أَعْلَى وَأَسْمَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا حَتَّى الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِ النَّاسِ وَغَرَائِزِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُشَارِكُ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِالِاسْمِ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِضَرُورَةِ تَقْرِيبِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ مِنَ الْفَهْمِ، فَهَلْ يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى أَعْلَى مَا هُنَالِكَ مِنَ الشُئُونِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَنُشَبِّهَهُ بِشُئُونِ الدُّنْيَا؟ فَنَجْعَلَ تَجَلِّيَ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِأُولَئِكَ الْعِبَادِ الْمُكْرَمِينَ
135
الَّذِينَ رَقَّاهُمْ وَكَمَّلَهُمْ وَأَهَّلَهُمْ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ تَحَيُّزًا وَمُشَابَهَةً لِلْخَلْقِ؟ وَنَجْعَلَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّجَلِّي مِنَ الْعِلْمِ الْأَكْمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ الْعُلْيَا الَّتِي تَسْتَغْرِقُ أَرْوَاحَهُمْ وَجَمِيعَ مَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِدْرَاكًا لِكُنْهِ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ بِهِ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - ثُمَّ نَعْذِرُ أَنْفُسَنَا عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ سُمِّيَ رُؤْيَةً وَمُعَايَنَةً، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ هُنَالِكَ كَرُؤْيَتِنَا الَّتِي الَّتِي تَعْهَدُهَا هُنَا؟ !
سُبْحَانَ اللهِ! أَيَكُونُ كُلُّ مَا هُنَالِكَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مُخَالِفًا لِمَا لَهُ اسْمُهُ مِنْهَا هُنَا إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِ الْخَالِقِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ مُشَابِهًا لِشُئُونِ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ؟ أَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَدَّعِي أَصْحَابُهُ اتِّبَاعَ الْمَعْقُولِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ جَمَدُوا عَلَى بَعْضِ أَحَادِيثِ الْآحَادِ مِنَ الْمَنْقُولِ؟ ! وَهُمُ الَّذِينَ قَدْ جَمَدُوا عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِي صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى وُشُئُونِهِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، فَتَرَاهُمْ يَصْرِفُونَهَا عَنْ مَعَانِيهَا، وَيُعَطِّلُونَ مَدْلُولَاتِهَا الْمَقْصُودَةَ؛ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَدْلُولَاتُهَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَدْلُولَاتِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. ثُمَّ تَحَكَّمُوا فَأَثْبَتُوا بَعْضَ صِفَاتِ الْبَارِئِ تَعَالَى بِدُونِ تَأْوِيلٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّشْبِيهَ، وَأَوَّلُوا أَكْثَرَهَا كَالْكَلَامِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَخْ، وَهَذَا عَيْنُ التَّعْطِيلِ - وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ لَهُ تَعَالَى كُلَّ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُنَزِّهُونَهُ فِيهِ كُلِّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، وَلَا يَرَوْنَ فَرْقًا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَلَامِ، فَكُلُّهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ مَعَ التَّنْزِيهِ - فَعِلْمُهُ لَيْسَ كَعِلْمِ الْبَشَرِ مُنْتَزَعًا مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ بِالْحِسِّ أَوِ الْفِكْرِ -، وَكَلَامُهُ لَيْسَ كَيْفِيَّةً عَرْضِيَّةً يَحْصُلُ بِتَمَوُّجِ الْهَوَاءِ بِتَأْثِيرِ الصَّوْتِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِّ - وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِهِ وَشُئُونِهِ تَعَالَى. فَتَجَلِّيهِ لِخَوَاصِّ خَلْقِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَيْسَ كَظُهُورِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ لَا يُشَابِهُ مَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا بِالْمُشَاهَدَةِ فِي عَالَمِ الْحِسِّ أَنَّ إِيقَادَ مِصْبَاحِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ أَوْ زَيْتِ الْبِتْرُولِ لَا يُشْبِهُ إِيقَادَ مِصْبَاحِ الْكَهْرُبَاءِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّانِي مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَوَّلِ - وَنَجْزِمُ بِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْكَهْرُبَاءَ أَلْبَتَّةَ - فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَلَّا نَسْتَغْرِبَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فِي اخْتِلَافِ الْكَيْفِيَّةِ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرُّؤْيَةِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَمْثَالِ، وَحَسْبُ الْمَحْرُومِ مِنْهَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْأَمْثَالِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٢٩: ٤٣).
(انْتَهَتِ الْفَتْوَى)
136
(خُلَاصَةٌ وَتَتِمَّةٌ تَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ وُضُوحًا، وَمَذْهَبَ السَّلَفِ ثُبُوتًا)
(١) الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْقَطْعِيَّةِ:
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ مُتَوَاتِرٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ يَجْعَلُهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُدْعَى إِلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنْ يَجْهَلُهَا أَوْ يُنْكِرُهَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ غَرِيبِ الْعِلْمِ إِلَّا عَلَى الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْقُرْآنِ كِبَارُ الْعَارِفِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً لِمَنْ دُونَهُمْ - وَكَذَلِكَ كَانَ - حَتَّى إِنَّ كِبَارَ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءَ الْبَيَانِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَالْقِيَامَةِ. فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُثْبِتَةً وَبَعْضُهُمْ نَافِيَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِيمَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ لُغَةً، وَأَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ فِي غَيْرِهِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ وَاقِعَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَحْرِيمُ مَا تَغْلِبُ الْمَفْسَدَةُ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَيُرَجَّحُ الضَّرَرُ فِيهِ عَلَى النَّفْعِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَةُ بِهَذَا التَّرْجِيحِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (٢: ٢١٩) وَهُوَ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ خَوَاصِّ الصَّحَابَةِ فَتَرَكُوهُمَا، وَلَمْ يُكَلِّفْ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ تَرْكَهُمَا إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ؛ إِذْ نَطَقَتْ بِأَنَّهُمَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَصَرَّحَتْ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ.
وَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ بِنَصٍّ غَيْرِ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ حُكَمَاءُ الْعُلَمَاءِ حِكْمَةُ ذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِأَنَّ شِدَّةَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ تَرْكَهُمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضِعَافِ الْإِيمَانِ تَرْكُهُمَا، وَيَتَعَسَّرُ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْفِرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ الرَّبِّ وَرَحْمَتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يُحَرِّمَهُمَا بِالتَّدْرِيجِ وَلَا سِيَّمَا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ آيَةً تَقْتَضِي تَرْكَ الْخَمْرِ فِي عَامَّةِ النَّهَارِ وَنَاشِئَةِ اللَّيْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى (٤: ٤٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا الْبَلِيغَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ - وَآيَةً يَفْهَمُ مِنْهَا دَقِيقُ الْعِلْمِ قَوِيُّ الْإِيمَانِ التَّحْرِيمَ فَيَتْرُكُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَهِيَ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ بِالِاجْتِنَابِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ.
لَوْلَا غَفْلَةُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ طَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي عِلْمِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَفِي
دِينِهِ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ وَتِلْكَ الْقَاعِدَةِ، لَعَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمُ الْآخَرَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا عَصَبِيَّةً مَذْهَبِيَّةً، وَلَعَلِمَ الْمُثْبِتُونَ لَهَا مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَوْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً عَامَّةً وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ لَبَيَّنَ
137
ذَلِكَ فِي آيَةٍ صَرِيحَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَرَّفَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ": وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَأَمَرَ بِتَلْقِينِ هَذَا لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَتَوَاتَرَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْجَرْيُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِذًا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَمَا اسْتَنْكَرَتْ عَائِشَةُ سُؤَالَ مَسْرُوقٍ إِيَّاهَا عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبِّهِ حَتَّى قَفَّ شَعْرُهَا مِنِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا اسْتَنْكَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ حُصُولَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا امْتِيَازًا لَهُ؛ لِأَنَّ رُوحَهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ أَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ فَيَطِيقُ مَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُ حَتَّى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَاسَتْ هَذَا الِامْتِيَازَ عَلَى النَّاسِ بِامْتِيَازِهِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ - عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ؛ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ لَا فِي عَالَمِ الْأَرْضِ.
فَالْحِكْمَةُ الظَّاهِرَةُ لِعَدَمِ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا مِمَّا تَتَحَيَّرُ فِيهِ الْعُقُولُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً " وَعُمُومُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكْذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ " وَرُوِيَا مَرْفُوعَيْنِ وَلَكِنْ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ - وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ فِي الثَّانِي مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرُ، وَمَا لَا يَعْقِدُ لَا مَا يُقَابِلُ الْجَهْلَ؛ إِذْ يَكُونُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَقَدْ زَادَ فِيهِ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ " وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ آنِفًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَفَسَّرَ مَا لَا يُنْكِرُونَ بِمَا لَا يَشْتِبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، وَلَا يَسْلَمُ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتِثْنَاءُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ عَنْ أَحَدٍ؛ عَلَى أَنَّهُ كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ آيَاتِ الرُّؤْيَةِ، لَيْسَ فِيهَا مَثَارٌ لِلْفِتْنَةِ، مَعَ عَقِيدَةِ التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ،
وَقَاعِدَةِ التَّفْوِيضِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا السَّلَفُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحُولُ دُونَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا لِمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، كَمَا نَصَّ فِي آيَةِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَنَا إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ لَمْ يُكَفِّرْ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ هُوَ الزَّيْغُ وَالزَّنْدَقَةُ.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيثَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ أَحْمَدُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَمَالِكٌ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي الْغَرَائِبِ، وَمِنْ قَبْلِهِمْ
138
أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ (أَيْ: بِالثَّانِي) مَا يَقَعُ مِنَ الْفِتَنِ وَنَحْوُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيثَ أَنَسٍ لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةٍ الْعُرَنِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهَا وَسِيلَةً إِلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ بِتَأْوِيلِهِ الْوَاهِي، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُقَوِّي الْبِدْعَةَ، وَظَاهِرُهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَادٍ. فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوبٌ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
(أَقُولُ) : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ تَدْخُلُ فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ مِنَ الْأُصُولِ، أَعْنِي التَّعَارُضَ بَيْنَ مَا أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ بَيَانِ الْعِلْمِ، وَإِظْهَارِ الشَّرْعِ وَمَا حَرَّمَ مِنَ الْكِتْمَانِ فِي قَوْلِهِ: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (٣: ١٨٧) وَبَيَّنَ مَا حَرَّمَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفِتْنَةِ، وَمَا وَجَبَ مِنْ سَدِّ ذَرَائِعِهَا مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَحْقِيقًا لِهَذَا الْبَحْثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ.
139
(٢) الرُّؤْيَةُ فِي الْعَمَلِ النَّوْمِيِّ:
قَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُكَرَّرَةِ وَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْعَلُونَ فِي حَالِ النَّوْمِ الْمُعَطِّلِ لِجَمِيعِ الْحَوَاسِّ أَعْمَالًا دَقِيقَةً كَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَتَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ بِسُرْعَةٍ وَمَهَارَةٍ يَعْجَزُونَ عَنْ مِثْلِهَا فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ كَانَ يَخْرُجُ أَحَدُهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ وَهُوَ مُغْمَضُ الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ يَفْتَحُهُمَا وَلَا يَرَى بِهِمَا إِلَّا مَا تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُ إِلَيْهِ، كَبَعْضِ الصَّيَادِلَةِ الَّذِي رَاقَبَهُ طَبِيبٌ عَرَفَ حَالَهُ فَرَآهُ يَقْرَأُ وَصْفَاتَ الْأَطِبَّاءِ وَيُرَكِّبُ مَا جَاءَ فِيهَا، فَأَلْقَى إِلَيْهِ فِيهَا وَصْفَةَ دَوَاءٍ سَامٍّ يَقْتُلُ شَارِبَهُ فِي الْحَالِ، فَقَرَأَهَا وَأَعَادَ التَّأَمُّلَ فِيهَا، وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا
غَلَطٌ أَوْ سَبَقُ قَلَمٍ مِنَ الطَّبِيبِ فَأَنَا لَا أُرَكِّبُهُ وَأَلْقَاهَا، وَرَاقَبَ بَعْضُهُمْ رَجُلًا آخَرَ كَانَ يُخْبَرُ أَنَّ نُقُودَهُ تُسْرَقُ مِنْ صُنْدُوقِهِ الْحَدِيدِيِّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَبَاتَ عِنْدَهُ فَرَآهُ قَدْ قَامَ مِنْ فِرَاشِهِ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي النَّوْمِ، وَفَتَحَ صُنْدُوقَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ النُّقُودِ وَخَرَجَ بِهَا، فَتَبِعَهُ حَتَّى جَاءَ مَكَانًا خَرِبًا فَتَسَلَّقَ جِدَارًا مِنْ جُدُرِهِ الْمُتَدَاعِيَةِ، وَمَشَى عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ ثُمَّ نَزَلَ فِي دَاخِلِهِ وَحَفَرَ فِي الْأَرْضِ حُفْرَةً، وَوَضَعَ فِيهَا مَا حَمَلَهُ مِنَ النُّقُودِ، وَعَادَ فَتَسَلَّقَ الْجِدَارَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مُسْرِعًا وَالْمُرَاقِبُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَهُ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ فِي النَّهَارِ عَدَّ الدَّرَاهِمَ، وَأَخْبَرَ الرَّجُلَ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُ لِيَكْشِفَ لَهُ حَالَ مَنْ يَسْرِقُ صُنْدُوقَهُ بِمَا نَقَصَ مِنْهَا، فَحَدَّثَهُ هَذَا بِمَا رَآهُ فَعَجِبَ وَأَنْكَرَهُ فَذَهَبَا إِلَى الْمَكَانِ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الرَّجُلُ أَنْ يَتَسَلَّقَ الْجِدَارَ وَيَمْشِيَ عَلَيْهِ مُسْرِعًا كَمَا فَعَلَ وَهُوَ نَائِمٌ، وَلَكِنَّهُمَا تَكَلَّفَا ذَلِكَ وَتَرَيَّثَا فِيهِ حَتَّى وَصَلَا إِلَى مَكَانِ طَمْرِ النُّقُودِ، وَبَحَثَا عَنْهَا فَوَجَدَاهَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَرُئِيَ بَعْضُ غِلْمَانِ أُسْرَتِنَا مِرَارًا يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ، وَيَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ يَعُودُ وَهُوَ نَائِمٌ، وَدَخَلَ الْمَطْبَخَ مَرَّةً فَنَظَّفَ بَعْضَ الْآنِيَةِ فِيهِ، وَعَادَ إِلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ نَائِمٌ.
وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مُؤَيِّدَةٌ لِمَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إِنْ لِلْإِنْسَانِ نَفْسَيْنِ أَوْ رُوحَيْنِ تُفَارِقُهُ إِحْدَاهُمَا فِي حَالِ النَّوْمِ فَقَطْ وَتُفَارِقُهُ الثِّنْتَانِ مَعًا بِالْمَوْتِ، وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (٣٩: ٤٢).
(٣) الرُّؤْيَا وَالْأَحْلَامُ:
الرُّؤْيَا النَّوْمِيَّةُ وَالْأَحْلَامُ مِنْهَا خَوَاطِرُ تَتَمَثَّلُ وَاقِعَةً فِي حَالِ النَّوْمِ، وَسَبَبُهَا اشْتِغَالُ الْفِكْرِ بِهَا أَوْ أَسْبَابٌ تَعْرِضُ لِلنَّائِمِ فَيَتَخَيَّلُهَا بِنَفْسِهَا أَوْ مَا يُشْبِهُهَا وَاقِعًا، وَهِيَ أَضْغَاثُ الْأَحْلَامِ، وَمِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي أَوَّلَهَا لَهُ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ وَقَعَ مَعَنَا وَمَعَ غَيْرِنَا، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ ثُبُوتًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ بِالرَّغْمِ مِنْ أُنُوفِ الْمُكَابِرِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ بِالتَّجَارِبِ الْقَطْعِيَّةِ، وَأَعْلَاهُ وَأَكْمَلَهُ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَبَادِئِ الْوَحْيِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْمَنَامِ كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَظَنَّ
140
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْيَقَظَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا.
(٤) الرُّؤْيَةُ فِي النَّوْمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ:
النَّوْمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ قَدِ اشْتَهَرَ وَكَثُرَ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِتَنْوِيمٍ صِنَاعِيٍّ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ
بِقُوَّةِ إِرَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَتَأْثِيرِهِمْ فِي أَنْفُسِ مَنْ يُنَوِّمُونَهُ أَوْ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا مَحَلَّ لِبَسْطِهَا هُنَا، وَالنَّائِمُ بِهِ يَغِيبُ إِدْرَاكُهُ وَشُعُورُهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا مُنَوِّمِهِ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَكُونُ رَهْنَ تَصَرُّفِهِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِشَيْءٍ خَضَعَ لِإِرَادَتِهِ بِقَدْرِ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ الْمُنَوِّمَ يَسْأَلُ النَّائِمَ عَنْ أَشْيَاءَ غَائِبَةٍ أَوْ مَسْتُورَةٍ: مَا هِيَ وَأَيْنَ هِيَ؟ فَعِنْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَنْهَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَيْهَا فَيَرَاهَا وَيُخْبِرُهُ عَنْهَا فَيَصْدُقُ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ لِلشَّيْءِ لَا عَمَلَ لِلْأَعْيُنِ فِيهَا: إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ خَصَّتْ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ بِاسْمِ الرُّؤْيَا - بِالْأَلِفِ - وَمَا يَقَعُ فِي الْيَقَظَةِ بِاسْمِ الرُّؤْيَةِ، وَلَمْ تُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ، وَلَعَلَّهَا لَوْ عَرَفَتِ النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ مِمَّا ذَكَرْنَا هُنَا لَسَمَّتْهُ رُؤْيَا أَيْضًا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (١٧: ٦٠) قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٌ أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ نَقُولُ: وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهَا (رُؤْيَا) لَا " رُؤْيَةً " وَالتَّحْقِيقُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي حَالَةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَ فِيهَا سُلْطَانُ الرَّوْحِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي الْجَسَدِ فَصَارَ خَفِيفًا لَطِيفًا كَالْأَجْسَامِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَتَمَثَّلَ فِيهَا الرُّوحُ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَا بِالرُّوحِ فَقَطْ كَمَا قِيلَ، وَلَا فِي الْمَنَامِ كَمَا فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ مَنْ قَالُوا إِنَّهُمَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ؛ إِذْ إِطْلَاقُهُمْ لَا يُنَافِي هَذَا الْقَيْدَ - وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْجَسَدَ الَّذِي حَلَّتْهُ رُوحُهُ الشَّرِيفَةُ لَيَلْتَئِذُ غَيْرَ جَسَدِهِ الْمُعْتَادِ؛ لِيُنَاسِبَ الْعَالَمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ - فَكَيْفَ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ أَثَّرَتْ فِيهِ الرُّوحُ فَلَطَّفَتْهُ وَجَعَلَتْهُ كَالْأَثِيرِ فِي لُطْفِهِ وَقُوَّتِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَبَقِيَ السُّلْطَانُ لِلرُّوحِ، فَجِبْرِيلُ الَّذِي تَمَثَّلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَةِ دِحْيَةَ، وَلِمَرْيَمَ بِصُورَةِ شَابٍّ جَمِيلِ الصُّورَةِ هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَتِهِ سَادًّا الْأُفُقَ الْأَعْلَى، وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهِمَا: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (٥٣: ١٠) يُوَضِّحُ هَذَا مَا يَأْتِي:
141
(٥) تَشَكُّلُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَرُؤْيَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ:
قَدْ ثَبَتَ عَنْ أَفْضَلِ الْبَشَرِ وَأَصْدَقِهِمْ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَبَعْضِ أَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ فِي صُوَرٍ لَطِيفَةٍ أَوْ كَثِيفَةٍ، وَثَبَتَ تَمَثُّلُهُمْ لَهُمْ بِنَصِّ
الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْوَحْيِ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ مَلَكَ الْوَحْيِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْقَطْعِ أَنَّهُ رَآهُ فِي الصُّوَرِ الَّتِي كَانَ يَتَشَكَّلُ فِيهَا مِرَارًا تُعَدُّ بِالْمَئِينَ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي عَدَدِ نُزُولِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَسُوَرِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ صُورَةُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمِنْهَا صُورَةُ الرَّجُلِ الْغَرِيبِ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إِلَخْ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّوَرِ الْكَثِيفَةِ رَآهُ فِيهِ مَنْ حَضَرَ مَجِيئَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَمِنْهَا صُوَرٌ لَطِيفَةٌ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فِيهَا غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْوَحْيِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: " وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ " يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُثِّلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ فَرَآهُمَا وَلَمْ يَرَهُمَا غَيْرُهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَاهُ مِثَالًا لَهُمَا، وَهَذَا غَيْرُ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهُ بِإِرَادَتِهِ وَعَمَلِهِ.
وَقَدْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ جِبْرِيلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَأَى بَعْضَ الشَّيَاطِينِ أَيْضًا مُتَمَثِّلَةً فِي صُوَرٍ، وَكَانَ يُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ لِلشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي رُؤْيَةَ حَقِيقَتِهِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ جِنْسٌ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْوَاعٍ تَحْتَهَا أَصْنَافٌ وَشُخُوصٌ لَهَا أَمْثَالٌ.
فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يَرَى مَخْلُوقًا مِثْلَهُ رُؤْيَةً لَا يُدْرِكُ بِهَا كُنْهَهُ، وَلَا يُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنَانِ مِثْلَهُ، وَهَذَا مِمَّا يُؤْمِنُ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالشِّيعَةُ وَالْأَبَاضِيَّةُ كَغَيْرِهِمْ فَهَلْ يَسْتَنْكِرُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الرَّبِّ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بِلَا كَيْفٍ وَلَا مِثَالٍ، وَعَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ كَمَا اسْتَنْكَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ شَاعِرُهُمْ:
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا شُنْعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَةِ
أُمْ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُصِرَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْيِيدِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ وَأَعْيُنِ الرُّؤُوسِ، وَاسْتِنْكَارُ تَسْمِيَتِهَا رُؤْيَةً رُوحِيَّةً مَعَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ لِلنَّفْسِ لَا لِلْجَسَدِ، كَمَا تَرَى تَوْضِيحَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ.
142
(٦) الْكَشْفُ وَكَوْنُ الْإِدْرَاكِ لِلنَّفْسِ:
إِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِدْرَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلرُّوحِ، وَإِنَّ الْحَوَاسَّ وَالدِّمَاغَ آلَاتٌ حِسِّيَّةٌ لِلْعِلْمِ بِبَعْضِ الْحِسِّيَّاتِ بِحَسَبِ سُنَنِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّوَاهِدِ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى مِنْ وَرَاءِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ، وَهِيَ رُؤْيَةٌ رُوحِيَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِبَصَرِ الْعَيْنَيْنِ وَلَا بِالْمُقَابَلَةِ، وَثَبَتَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا لِبَعْضِ الْمُكَاشِفِينَ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةِ التَّوَاتُرِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ مَا يَقَعُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِقُوَّةِ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ فُجَائِيًّا بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا وَقَعَ لِمُؤَلِّفِ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي صِغَرِهِ، فَقَدْ رَأَى جَدَّتَهُ لِأُمِّهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مُسَجًّى فِي بُسْتَانٍ لَهَا تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ جَائِيَةً إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا مَا رَآهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَى مَدْخَلِ الْبُسْتَانِ مِنَ الطَّرِيقِ الْعَامِّ نَادَاهَا فَأَجَابَتْهُ، وَيَبْعُدُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا تَخَيُّلًا صَادَفَ الْوَاقِعَ، وَلَهُ أَمْثَالٌ وَنَظَائِرُ لَوْلَاهَا لَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ - وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْهُ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ مَا كُنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى الْمُصَادَفَةِ لِئَلَّا يَقِيسُوا عَلَيْهِ دَجَلَ الْمُحْتَالِينَ، وَلِئَلَّا نَقَعَ فِي الْغُرُورِ، وَلَكِنَّ مَجْمُوعَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ مِنْهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا تَخَيُّلٍ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَى، وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَدْ يَقَعُ فِي أَحْوَالٍ مَرَضِيَّةٍ كَالْمَرِيضِ الَّذِي كَانَ يُعَالِجُهُ الطَّبِيبُ شِبْلِي شُمَيِّل بِمِصْرَ، وَكَانَ يُخْبِرُ بِأَشْيَاءَ غَائِبَةٍ وَبِأُمُورٍ قَبْلَ وُقُوعِهَا فَيَصْدُقُ بِالضَّبْطِ الدَّقِيقِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّ قَرِيبًا لَهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُرِيدُ السَّفَرَ إِلَى مِصْرَ؛ لِزِيَارَتِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَآهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى مَحَطَّةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدَخَلَ الْقِطَارَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ وَكُسُورٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنَ الْقِطَارِ فِي مَحَطَّةِ الْقَاهِرَةِ وَخَرَجَ مِنْهَا وَرَكَبَ مَرْكَبَةً لِتَحْمِلَهُ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الدَّارِ - وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ فِيهَا، وَكَانَ الطَّبِيبُ شِبْلِي يُنْكِرُ مِثْلَ هَذَا، وَيُنْكِرُ وُجُودَ أَرْوَاحٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِالْوُجُودِ تُلَابِسُ الْأَجْسَادَ وَتُفَارِقُهَا مُدْرِكَةً بِالذَّاتِ - أَيْ: غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ فِي إِدْرَاكِهَا بِوُجُودِهَا فِي الْجَسَدِ وَاكْتِسَابِهَا الْعِلْمُ مِنْ حَوَاسِّهِ وَعَصَبِ دِمَاغِهِ - وَقَدْ صَارَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَتَبَهَا بِقَلَمِهِ، وَسَمِعْنَاهَا مِنْ فَمِهِ، يُشَبِّهُ دِمَاغَ الْإِنْسَانِ بِالْآلَةِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ لِلتِّلِغْرَافِ اللَّاسِلْكِيِّ الَّتِي تَتَلَقَّفُ مِنْ كَهْرُبَاءِ الْجَوِّ مَا يُرْسِلُهُ هَذَا التِّلِغْرَافُ مِنْ أَخْبَارِ السُّفُنِ أَوِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ مَرِيضِهِ بِهِ أَنْ سَيَرْعَفُ أَنْفُهُ فِي سَاعَةِ كَذَا مِنْ نَهَارِ غَدٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ دَمِهِ مَا يَبْلُغُ وَزْنُهُ كَذَا. فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا يَتَنَاوَلُهُ التَّشْبِيهُ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ الَّذِي خَلَقَ اللهُ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَوْلَا مَا يَشْغَلُهَا عَنْهُ مِنْ مَدَارِكَ الْحَوَاسِّ وَالْعُقُولِ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ - لَا مِنَ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِعِلْمِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا
الْقَوْلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
143
أَنْوَاعُ الْمُدْرِكَاتِ وَعَنَاصِرِ الْكَوْنِ وَأَحْوَالِهَا:
إِنَّ مُدْرِكَاتِ الْبَشَرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ لَا تَتَعَلَّقُ فِي حَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ، بَلْ هُنَاكَ حُجَجٌ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ - أَمَّا الْوَحْيُ فَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قِسْمَانِ، أَوْ أَنَّ الْكَوْنَ قِسْمَانِ: عَالَمُ الْغَيْبِ، وَعَالَمُ الشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَمِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِ، وَأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا نُدْرِكُهَا، وَلَا تَشْعُرُ بِهَا حَوَاسُّنَا وَمَشَاعِرُنَا، إِمَّا لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهَا لِإِدْرَاكِهَا أَلْبَتَّةَ - كَمَا أَنَّ بَعْضَهَا لَا يُدْرِكُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْآخَرُ مِنَ الْهَيْئَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ مَثَلًا - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْحَاسَّةِ فِينَا عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقِهَا لِفَقْدِ بَعْضِ شُرُوطِ إِدْرَاكِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ الْمُمْكِنَ الَّذِي نَعْرِفُهُ فِي الْجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَمْ يَدْرِكْ كُنْهَهُ عُقُولُنَا، بَلْ دَلَّ عَلَى وُجُودٍ آخَرَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ بِالْأَثِيرِ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ - عِلْمُ التَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثُ الْعَمَلِيِّ فِي الْوُجُودِ - فَقَدْ أَثْبَتَ وُجُودَ أَحْيَاءً كَثِيرَةَ الْأَنْوَاعِ ذَاتِ تَأْثِيرٍ عَظِيمٍ فِي حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ مِنْ نَفْعٍ وَضَرٍّ تُرَى بِالْمَرَايَا الْمُكَبِّرَةِ دُونَ الْبَصَرِ الْمُجَرَّدِ، وَأَنَّ فِيهِ مَوَادَّ أُخْرَى لَطِيفَةً هِيَ مِنْ أُصُولِ عَنَاصِرِهِ الَّتِي لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهُ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ لَا تُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَلَا بِالْعَقْلِ بَادِئَ بَدْءٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِأَعْمَالِ التَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ وَآلَاتِهَا، وَاسْتُخْدِمَتْ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَهِيَ كَالْعَنَاصِرِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْمَاءُ وَالْهَوَاءُ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ الْعِلْمِيَّةِ مَا صَارَ الْعِلْمُ بِهِ قَطْعِيًّا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْحِسِّيَّاتِ مِنْ أَنَّ الْجِسْمَ الْجَامِدَ يَتَحَوَّلُ بِالْحَرَارَةِ إِلَى مَائِعٍ كَمَا يَكُونُ الْجَلِيدُ وَالثَّلْجُ مَاءً، وَأَنَّ الْمَائِعَ يَتَحَوَّلُ بِهَا إِلَى بُخَارٍ، وَهُوَ مَا نُشَاهِدُهُ كَالدُّخَانِ اللَّطِيفِ يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ تَسْخِينِهِ، وَمِنْ كُلِّ مَائِعٍ فِيهِ مَاءٌ، وَأَنَّ هَذَا الْبُخَارَ الْمَائِيَّ وَغَيْرَهُ يَتَحَوَّلُ بِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ إِلَى مَادَّةٍ لَا تُرَى كَالْهَوَاءِ وَيُسَمُّونَهَا غَازًا، وَأَنَّ الْأَجْسَامَ الْجَامِدَةَ كَالذَّهَبِ وَالْقَصْدِيرِ، وَالْمَائِعَةَ كَالْمَاءِ، وَالْغَازِيَّةَ كَالْهَوَاءِ مِنْهَا الْبَسِيطُ وَمِنْهَا الْمُرَكَّبُ، وَأَنَّ
الْبَسَائِطَ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْمُرَكَّبَاتُ مَحْدُودَةٌ تُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَصَارَ فِي قُدْرَةِ الشَّرِّ أَنْ يُحَلِّلُوا الْمُرَكَّبَ، وَيُفَرِّقُوا بَسَائِطَهُ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ بِصِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ وَآلَآتِهَا، وَأَنْ يُحَوِّلُوا الْجَوَامِدَ مِنْ صِفَتِهَا فَيَجْعَلُوهَا غَازَاتٍ، وَأَنْ يَجْعَلُوا مِنَ الْغَازَاتِ وَمِنَ السَّائِلَاتِ جَوَامِدٌ، وَهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْهَا أَغْذِيَةً وَأَدْوِيَةً وَسَمُّومًا قَاتِلَةً، بَلِ اسْتَخْرَجُوا مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ ذَهَبًا إِبْرِيزًا.
هَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي صَارَتْ مِنْ صَنَائِعِ الْبَشَرِ تُقَرِّبُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مَا صَحَّ عَنِ الرُّسُلِ الْمَعْصُومِينَ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْجِنِّ يَتَشَكَّلُونَ فِي صُوَرٍ كَثِيفَةٍ تُرَى بِالْأَبْصَارِ وَبِصُوَرٍ لَا تُرَى بِالْأَبْصَارِ؛ أَيْ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْطَى أَرْوَاحَهُمْ قُوَّةً يَتَصَرَّفُونَ بِهَا فِي مَادَّةِ الْكَوْنِ وَفِي
144
أَنْفُسِهِمْ بِأَعْظَمَ مِنْ تَصَرُّفِ عَالِمِ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَدْ أَعْطَى اللهُ - تَعَالَى - الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قُدْرَةً عَلَى تَأْلِيفِ جِسْمٍ لِرُوحِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ إِذَا شَاءَ، وَحَلِّهِ وَتَفْرِيقِهِ مَتَى شَاءَ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا التَّقْرِيبَ مِنْ قَبْلُ، وَغَرَضُنَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِهِ هُنَا إِيضَاحُ مَسْأَلَةِ تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الصُّوَرِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَكَوْنِ رُؤْيَتِهِ لَا تَقْتَضِي تَشْبِيهَهُ بِخَلْقِهِ كَمَا زَعَمَ مَنْ لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكِ وَالْمُدْرِكَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مَا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (١٧: ٨٥).
(٨) مَذَاهِبُ الصُّوفِيَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ:
الصُّوفِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنْ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، وَهُمْ لَا يُقَلِّدُونَ إِمَامًا وَاحِدًا فِي الْفُرُوعِ، بَلْ مِنْهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ وَمِنْهُمُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ، وَيَكْثُرُ فِيهِمُ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ غَفَلَ مَنْ لَمْ يَعُدَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ يُسَمَّوْنَ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ الرُّوحِيِّينَ الْإِشْرَاقِيِّينَ، وَإِلَى قُدَمَاءِ الشِّيعَةِ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ، وَجُمْهُورُهُمْ يُجِلُّونَ الصَّحَابَةَ وَلَا سِيَّمَا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءَ السَّلَفِ، وَلَا سِيَّمَا الْعُبَّادَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَدِلُونَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبُ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) وَمِنْهُمُ الْغُلَاةُ الَّذِينَ مَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَزَغَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ وَزَيْغِهِمْ، وَهُمْ غُلَاةُ الرَّافِضَةِ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ إِلَى الْبَهَائِيَّةِ وَزُعَمَاؤُهُمْ مِنَ الْفُرْسِ، وَمِنْهُمُ الْبَكْتَاشِيَّةِ وَقَدْ رَاجَتْ دَعْوَتُهُمْ فِي بِلَادِ التُّرْكِ وَالْأَلْبَانِ، وَيُقَابِلُهُمْ صُوفِيَّةُ الْأَخْلَاقِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مِنْهُمْ يَقُولُونَ فِي الرُّؤْيَةِ مَا يَقُولُ سَائِرُ
أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَذَا الْمُعْتَدِلُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ، فَتَرَى أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَدْ فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ بِمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَشَأْنُ سَائِرِ مُقَلَّدَتِهِمْ كَشَأْنِ سَائِرِ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.
وَأَمَّا صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ الْمُسْتَقِلُّونَ فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ مِنْهُمْ يُدْخِلُونَهَا فِي مَسَائِلِ الْوَحْدَةِ، فَغُلَاةُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرٌ وَمَجَالِي، فَهُمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِلَّا فَالرَّائِيُّ وَالْمَرْئِيُّ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ، يَعْنُونَ أَنَّ الرَّبَّ عَيْنُ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدَ عَيْنُ الرَّبِّ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَرَى نَفْسَهُ بِمَا يَتَجَلَّى فِيهِ مِنْ صُوَرِ عَبِيدِهِ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، هَذَا تَنَاقُضٌ وَهَذَيَانٌ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، وَحَسْبُنَا مَا نَنْشُرُهُ فِي الْمَنَارِ مِنْ إِبْطَالِهِ وَتَنَاقُضِهِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا أَصْحَابُ وَحْدَةِ الشُّهُودِ مِنْهُمْ فَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَتَجَلَّى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا تَجَلِّيًا غَيْرَ كَامِلٍ، وَفِي الْآخِرَةِ تَجَلِّيًا كَامِلًا فَيَفْنَى الْعَبْدُ بِهَذَا التَّجَلِّي عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ كُلِّ مَا سِوَى رَبِّهِ فَلَا يَرَى غَيْرَهُ، وَهُوَ يَرَاهُ بِكُلِّ رُوحِهِ الْمُدْرِكَةِ لَا بِعَيْنَيْهِ فَقَطْ، وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفَارِضِ فِيهِ إِذَا مَا بَدَتْ لَيْلَى فَكُلِّي أَعْيُنٌ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ بِآلَةِ الْبَاصِرَةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَرْوَاحِ الْمَحْبُوسَةِ فِي هَيَاكِلِ
145
الْأَجْسَادِ الْمُقَيَّدَةِ بِسُنَنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَهِيَ كَالْمَحْبُوسِ فِي سِجْنٍ لَهُ نَوَافِذُ وَكُوًى قَلِيلَةٌ يَرَى مِنْهَا بَعْضَ مَا يُحَاذِيهَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا وَرَاءَ السِّجْنِ، وَهُمْ يُثْبِتُونَ تَجَلِّيهِ تَعَالَى فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُحَالًا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ؛ بَلْ يُبْقُونَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهَا كَجُمْهُورِ السَّلَفِ.
وَلِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَقْوَالٌ وَشَوَاهِدُ مُشْتَرِكَةٌ مَعَهَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْسُرُ التَّزْيِيلُ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَانْتُقِدَ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ فِي سَنَدِهِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ كُنْتُ مُتَعَلِّقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ؛ أَيْ: فَلَا تُوَجِّهُ إِرَادَتُهُ هَذِهِ الْجَوَارِحَ إِلَّا إِلَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ، وَلَا يَنْسَى مُرَاقَبَتَهُ فِي أَعْمَالِهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَوَحْدَةِ الشُّهُودِ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِمْ فِي ذَلِكَ:
أَعَارَتْهُ طَرْفًا رَآهَا بِهْ فَكَانَ الْبَصِيرُ بِهَا طَرْفَهَا
وَلِلشَّيْخِ مُحْيِ الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ كَلَامٌ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي الْوَحْدَةِ فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعَمِائَةِ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَهُوَ:
كَلِمَةٌ لِابْنِ عَرَبِيٍّ فِي الرُّؤْيَةِ:
" قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (٦: ١٠٣) وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَنْ تَرَانِي وَكُلُّ مَرْئِيٍّ لَا يَرَى الرَّائِيَ - إِذَا رَآهُ - مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَنْزِلَتِهِ وَرُتْبَتِهِ فَمَا رَآهُ وَمَا رَأَى إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تَفَاضَلَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الرَّائِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَرْئِيُّ مَا اخْتَلَفُوا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هُوَ مَجْلَى رُؤْيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ؛ لِذَلِكَ وَصَفُوهُ أَنَّهُ يَتَجَلَّى وَأَنَّهُ يُرَى، وَلَكِنْ شُغِلَ الرَّائِي بِرُؤْيَتِهِ نَفْسَهُ فِي مَجْلَى الْحَقِّ حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ تَبْدُ لِلرَّائِي صُورَتُهُ أَوْ صُورَةُ كَوْنٍ مِنَ الْأَكْوَانِ رُبَّمَا كَانَ يَرَاهُ، فَمَا حَجَبَنَا عَنْهُ إِلَّا أَنْفُسُنَا، فَلَوْ زِلْنَا عَنَّا مَا رَأَيْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَبْقَى ثَمَّ بِزَوَالِنَا مَنْ يَرَاهُ؟ وَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَزَلْ فَمَا نَرَى إِلَّا أَنْفُسَنَا فِيهِ وَصُوَرَنَا وَقَدَرَنَا وَمَنْزِلَتَنَا، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ مَا رَأَيْنَاهُ، وَقَدْ نَتَوَسَّعُ فَنَقُولُ: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَنُصَدِّقُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قُلْنَا، رَأَيْنَا الْإِنْسَانَ صَدَقْنَا فِي أَنْ نَقُولَ رَأْيَنَا مَنْ مَضَى مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ بَقِيَ وَمَنْ فِي زَمَانِنَا مِنْ كَوْنِهِمْ إِنْسَانًا لَا مِنْ حَيْثُ شَخْصِيَّةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَمَّا كَانَ الْعَالَمُ أَجْمَعُهُ وَآحَادُهُ عَلَى صُورَةِ حَقٍّ، وَرَأَيْنَا الْحَقَّ فَقَدْ رَأَيْنَا وَصَدَقْنَا، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ التَّمْيِيزِ فِي عَيْنِ عَيْنٍ لَمْ نَصْدُقْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
146
فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ إِلَهٌ، فَعَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَحَدَنَا لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْغِطَاءَ لَا يَنْكَشِفُ عَنِ الْبَصَرِ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَالْبَصَرُ مِنَ الْعَبْدِ هَوَيَّةُ الْحَقِّ فَعَيْنُكَ غِطَاءٌ عَلَى بَصَرِ الْحَقِّ، فَبَصَرُ الْحَقِّ أَدْرَكَ الْحَقَّ وَرَآهُ لَا أَنْتَ، فَإِنَّ اللهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (٦: ١٠٣) وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَوِيَّةٍ تَكُونُ عَيْنُ بَصَرِ الْعَبْدِ، وَبَصَرُ الْعَبْدِ لَا يُدْرِكُ اللهَ، وَلَيْسَ فِي الْقُوَّةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْبَصَرَيْنِ، وَالْخَبِيرُ عَلِمَ الذَّوْقَ فَهُوَ الْعَلِيمُ خِبْرَةً أَنَّهُ بَصَرُ الْعَبْدِ فِي بَصَرِ الْعَبْدِ، وَكَذَا هُوَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَقَدِ اسْتَوَى الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ فِي كَوْنِهِ - الْحَقَّ تَعَالَى - بَصَرُهُمَا وَمَا عِنْدَهُمَا شَيْءٌ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٤٢: ١١) اهـ. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَنِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَعَلَى جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَكَلَامُهُ مُتَعَارِضٌ بَعْضُهُ بِتَأَوُّلٍ بِتَكَلُّفٍ أَوْ بِدُونِ تَكَلُّفٍ.
كَلِمَةٌ فِي النُّورِ وَالْحُجُبِ وَالتَّجَلِّي فِي الصُّوَرِ:
قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ، شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) لِلْهَرَوِيِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَنْزِلَةِ (اللَّحْظِ) مَا نَصَّهُ: " وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ، وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ، فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ، وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ، وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِ هَذَا فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ " تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا "، وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ، فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّيَ حَقِيقَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ، وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ، وَيَنْظُرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ، وَلَمْ تَعْدَمِ الْكَوَاكِبُ، وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا، وَهَكَذَا نَرَى الْمِعْرَفَةَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ وَقَوَى سُلْطَانُهَا وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبُ عَنِ الْقَلْبِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئِ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ فَيَغْلَطُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَيَظُنُّهُ نُورُ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ ثُمَّ هَيْهَاتَ نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي.
147
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَيَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ، وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ
أَقْوَى مِنْهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللهِ امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ، لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فَإِنَّ صِفَاتَهُ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتَهُ لَا تَحِلُّ فِيهِ، فَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَا اتِّحَادَ وَلَا حُلُولَ وَلَا مُمَازَجَةَ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا " اهـ.
أَقُولُ: هَذَا التَّصَوُّفُ الْمُرَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تَصَوُّفُ ابْنُ عَرَبِيٍّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفْيِ كُلٍّ مِنْهَا لِلْحُلُولِ، أَنَّ هَذَا يَقُولُ: إِنَّ الْخَلْقَ وَالْخَالِقَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالشَّيْءُ لَا يَحِلُّ فِي نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ: إِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا الْمُبَايَنَةُ التَّامَّةُ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي فَوَائِدِ الذَّكْرِ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَهُوَ: " إِنَّ الذِّكْرَ نُورٌ لِلذَّاكِرِ فِي الدُّنْيَا، وَنُورٌ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنُورٌ لَهُ فِي مَعَادِهِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ فِي اسْتِنَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْقُبُورِ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللهِ - تَعَالَى - قَالَ - تَعَالَى -: أَوَ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا (٦: ١٢٢) فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي اسْتَنَارَ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ، وَالْآخَرُ هُوَ الْغَافِلُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - الْمُعْرِضُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ وَالْفَلَّاحُ كُلُّ الْفَلَاحِ فِي النُّورِ، وَالشَّقَاءُ كُلُّ الشَّقَاءِ فِي فَوَاتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَالِغُ فِي سُؤَالِ رَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حِينَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي لَحْمِهِ وَعِظَامِهِ وَعَصَبِهِ وَشَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَخَلْفِهِ وَأَمَامِهِ حَتَّى يَقُولَ: " وَاجْعَلْنِي نُورًا " فَسَأَلَ رَبَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَ النُّورَ فِي ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُحِيطًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَاتَهُ وَجُمْلَتَهُ نُورًا، فَدِينُ اللهِ - تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، وَرَسُولُهُ نُورٌ، وَدَارُهُ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَوْلِيَائِهِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَهُوَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَأَشْرَقَتِ الظُّلُمَاتُ لِنُورِ وَجْهِهِ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الطَّائِفِ: " أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ
وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ
148
وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ وَجْهِهِ " وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْأَثَرِ: نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، ذَكَرَهُ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا (٣٩: ٦٩) فَإِذَا جَاءَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَشْرَقَتْ بِنُورِهِ الْأَرْضُ، وَلَيْسَ إِشْرَاقُهَا لِشَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ فَإِنَّ الشَّمْسَ تُكَوَّرُ، وَالْقَمَرَ يُخْسَفُ وَيَذْهَبُ نُورُهُمَا، وَحِجَابُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - النُّورُ. قَالَ أَبُو مُوسَى " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَيَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " ثُمَّ قَرَأَ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا (٢٧: ٨) فَاسْتِنَارَةُ ذَلِكَ الْحِجَابِ بِنُورِ وَجْهِهِ، وَلَوْلَاهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ وَنُورِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ، وَلِهَذَا لَمَّا تَجَلَّى - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِلْجَبَلِ، وَكَشَفَ مِنَ الْحِجَابِ شَيْئًا يَسِيرًا سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ وَتَدَكْدَكَ، وَلَمْ يَقُمْ لِرَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ قَالَ: ذَلِكَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَهْمِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَدَقِيقِ فِطْنَتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْلِّمَهُ اللهُ التَّأْوِيلَ، فَالرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا، وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ إِدْرَاكُ الْأَبْصَارِ لَهُ، وَإِنْ رَأَتْهُ فَالْإِدْرَاكُ أَمْرٌ وَرَاءَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذِهِ الشَّمْسُ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - نَرَاهَا وَنُدْرِكُهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَلَا قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فَقَالَ أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَتُدْرِكُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاللهُ - تَعَالَى - أَعْظَمُ وَأَجَلُّ " اهـ.
قَدْ أَشَارَ هَذَا الْعَالِمُ الْمُحَقِّقُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَجِيزَةِ مِنْ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ فِي مَوْضُوعِهَا إِلَى جُمْلَةِ
149
مَا وَرَدَ فِي " النُّورِ " مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَدْ سَمَّى اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ نُورًا، وَوَرَدَ النُّورُ فِي أَسْمَاءِهِ الْحُسْنَى الْمَأْثُورَةِ، وَأَسْنَدَ النُّورَ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ فِي قَوْلِهِ: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٢٤: ٣٥) وَأَسْنَدَهُ رَسُولُهُ إِلَى وَجْهِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: " أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ " وَمِثْلُهُ فِي آثَارٍ أُخْرَى وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ الْوَجْهَ بِالذَّاتِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ النُّورِ غَيْرَ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا (٣٩: ٦٩) وَقَوْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (٦١: ٨) عَلَى أَنَّ نُورَهُ فِي الْأَخِيرَةِ كِتَابُهُ وَوَحْيُهُ وَكَلَامُهُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَظْهَرِ مَا فِيهِ آيَاتُ الْهِدَايَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلَنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (٥: ٤٤) وَمِثْلَهُ إِطْلَاقُ اسْمِ النُّورِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (٥: ١٦) عَلَى وَجْهٍ، وَوَرَدَ مِثْلُ هَذَا فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ عِنْدَ النَّصَارَى مَرْوِيًّا عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَقَوْلِ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى " (١: ٥) وَهَذِهِ هِيَ الْبُشْرَى الَّتِي سَمِعْنَاهَا مِنْهُ وَنُبَشِّرُكُمْ بِهَا: أَنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ أَلْبَتَّةَ " وَأُطْلِقَ النُّورُ عَلَى الْمَسِيحِ نَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ إِنْجِيلَيْ لُوقَا وَيُوحَنَّا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النُّورَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، فَالْأَوَّلُ يُرَى بِالْبَصَرِ وَيَرَى بِهِ الْبَصَرُ سَائِرَ الْمُبْصِرَاتِ، وَالثَّانِي يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ وَتَدْرِكُ بِهِ الْبَصِيرَةُ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ
وَالصَّلَاحَ، كَذَلِكَ نُورُ الْآخِرَةِ قِسْمَانِ: حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَأَمَّا نُورُ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ قَدْ أُضِيفَ إِلَى وَجْهِهِ وَأُسْنِدَ إِلَى ذَاتِهِ فَهُوَ فَوْقَ هَذَا وَذَاكَ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَهُوَ غَيْرُ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ ذَاتِهِ وَإِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَلَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِكِ هَذَا الْعَجْزُ عَنْ إِدْرَاكِ نُورِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَإِنَّ هَذَا النُّورَ الْحِسِّيَّ الَّذِي تَرَاهُ بِعَيْنِكَ لَا تَدْرِكُ حَقِيقَتَهُ، وَلَمْ يُدْرِكْهَا أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكَ إِلَى الْآنِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنَّ يَضَعَ لَهُ تَعْرِيفًا يُحَدِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَقَدِّمُونَ يَعْرِفُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ مِنْ نَارِ الْأَرْضِ وَنَيِّرَاتِ السَّمَاءِ، ثُمَّ عَرَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ هَذِهِ الْكَهْرُبَاءَ وَالرَّادْيُو، فَدَخَلَ بِذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فَوْقَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا الْبَشَرُ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُبَالَغَةً، وَقَدْ كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ تَقُولُ: إِنَّ وَرَاءَ مُدْرَكِ عُقُولِ الْبَشَرِ عُلُومًا صَحِيحَةً مُنْطَبِقَةً عَلَى حَقَائِقَ خَارِجِيَّةٍ لَا مَحْضَ نَظَرِيَّاتٍ فِكْرِيَّةٍ فَيَقُولُ مُدَّعُو الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ: إِنَّ هَذِهِ خُرَافَاتٌ خَيَالِيَّةٌ، قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ:
فَثَمَّ وَرَاءَ الْعَقْلِ عِلْمٌ يَدُقُّ عَنْ مَدَارِكِ غَايَاتِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ
فَأَيُّ عَقْلٍ كَانَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يُوقِدَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَابِيحِ فِي دَارٍ أَوْ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَنْ يُطْفِئَهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصَابِيحَ تُوقَدُ بِلَا زَيْتٍ وَلَا نَارٍ، وَإِنَّمَا تُشْعَلُ بِتَحْرِيكِ هَنَةٍ صَغِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا وَلَكِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ.. بِهَا بِسِلْكٍ دَقِيقٍ.
150
وَأَيُّ عَقْلٍ كَانَ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الْبَشَرَ يَتَخَاطَبُونَ وَيَسْمَعُ بَعْضُهُمْ كَلَامَ بَعْضٍ عَلَى بُعْدِ أُلُوفٍ مِنَ الْأَمْيَالِ؟ وَهَذَا بَعْضُ خَوَاصِّ هَذِهِ الْكَهْرُبَاءِ.
نَعَمْ إِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ قَرَّرُوا أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَا الْمُسْتَحِيلَاتِ، فَوَرَدَ نَظَائِرُهَا فِي أَخْبَارِ الْآخِرَةِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الدِّينِ شَيْئًا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِالْبُرْهَانِ، وَلَكِنَّ جَمَاهِيرَ الْكُفَّارِ بِالرُّسُلِ لَمْ تَسْتَطِعْ عُقُولُهُمْ تَصَوُّرَهَا، وَلَا التَّصْدِيقَ بِهَا - بَلْ نَرَى ضُعَفَاءَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ يَظُنُّونَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كِتَابِ الْوَابِلِ الصَّيِّبِ أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَهُمَا إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ - لِأَجْلِ هَذَا عَلَّقْنَا عَلَيْهِ الْحَاشِيَةَ الْوَجِيزَةَ الْمُثَبَّتَةَ مَعَهُ هُنَا عِنْدَ طَبْعِ الْكِتَابِ فِي (مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ) لِيَعْلَمُوا أَنَّ مُنْتَهَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا، وَيُبْطِلُ قَاعِدَةَ الْمُتَأَوِّلَةِ فِي جَعْلِ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِ عُقُولِهِمْ وَقَضَايَا مَعْلُومَاتِهِمُ
الْكَلَامِيَّةِ الْقَلِيلَةِ أَصْلًا تَرْجِعُ إِلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى هَذِهِ الْحَاشِيَةِ فِي مَجْمُوعِ الْحَدِيثِ لَمْ يَفْهَمُوهَا فَاضْطَرَبُوا فِيهَا وَلَهُمُ الْعُذْرُ، فَإِنَّهَا عَلَى غَرَابَةِ مَوْضُوعِهَا وَجِيزَةٌ لَمْ تُوَضِّحِ الْمَقَامَ لِأَمْثَالِهِمْ كَمَا كَانَ يَجِبُ، وَلَكِنْ لَهَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْمَبَاحِثِ فِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - نَظَائِرُ تُغْنِي مَنِ اسْتَحْضَرَهَا عَنِ الْإِيضَاحِ، وَلَا بَأْسَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهِ، وَإِنَّهُ لَمْ تَخْلُ مِنْ تَكْرَارٍ لِبَعْضِ الْقَضَايَا.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِ شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِنْهَا ظَوَاهِرَهَا وَبَعْضَ خَوَاصِّهَا، وَسُنَنَ الْخَالِقِ فِيهَا فَهُمْ أَوْلَى بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ سُبْحَانَهُ وَعَرَفُوا صِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي خَلْقِهِ وَآيَاتِهِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُنْزِلَةِ عَلَى رُسَلِهِ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، فَهُوَ تَعَالَى ظَاهِرٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَاطِنٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَجْبِ عَبْدِهِ بِهِ عَنْهُ.
إِنَّ اشْتِغَالَ الْعَبْدِ بِشُئُونِ الْخَلْقِ يَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَعَنْ مُرَاقَبَتِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ وَعَنْ شُكْرِهِ إِذَا هُوَ اشْتَغَلَ بِهَا لِذَاتِهَا، وَمَا لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَاجِلَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِمَعْرِفَتِهِ وَوَسَائِلُ لِمُرَاقَبَتِهِ وَبَوَاعِثُ لِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ إِذَا هُوَ نَظَرَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنَّ تَجَلِّيَهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ بِقَدْرِ هَذَا، كَمَا أَنَّ حَجْبَ الْفُجَّارِ عَنْهُ يَكُونُ بِقَدْرِ مُقَابَلَةِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ جَزَاءًا وِفَاقًا فَسِعَةُ الْعِلْمِ بِالْكَوْنِ وَسُنَنِهِ وَنِظَامِهِ وَمَنَافِعِهِ قَدْ تَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ سِعَةِ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْكَمَالِ الَّذِي يُقَرِّبُ مِنْهُ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَسَبَابِ الْجَهْلِ بِاللهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ عَرَفُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَسْرَارِ هَذَا الْعَالَمِ
151
قَدْ نَظَرُوا فِيهِ بِنُورِ اللهِ وَاهْتَدَوْا فِي مَبَاحِثِهِمْ بِهِدَايَةِ وَحْيِهِ لَوَصَلُوا إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْكَمَالِ عَلَى أَنَّ ارْتِقَاءَهُمْ فِي الْأَسْبَابِ وَنَجَاحَهُمُ الْمُتَّصِلَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَا بِهِمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ لِلْبَشَرِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ لَهُمْ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوْلَمَ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٤١: ٥٣، ٥٤).
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ سَيَجِدُونَ فِي حَقَائِقِ الْعُلُومِ الَّتِي يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا بِاتِّصَالِ أَبْحَاثِهِمْ
وَتَتَابُعِهَا مِصْدَاقًا لِهَذَا الْكِتَابِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى -، وَكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ الْمُقَيَّدُونَ بِنَظَرِيَّاتِ عُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ وَعُلُومِهِمُ النَّاقِصَةِ، كَالْأَرْوَاحِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَتَمَثُّلِهِمْ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَجِلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ، وَارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ الَّتِي كَانَتْ تَحْجُبُهُمْ عَنْهُ، وَأَنَّ فِيمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الْيَوْمَ مَا يَقْرِّبُ ذَلِكَ مِنَ الْمَدَارِكِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَشْغَلُ هَؤُلَاءِ الْبَاحِثِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ مَسْأَلَةُ بَدْءِ الْخَلْقِ كَيْفَ كَانَ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّابِحَةَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً سَدِيمِيَّةً تُشْبِهُ الدُّخَانَ فَانْفَتَقَتْ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَكَانَتْ أَجْرَامًا مُتَعَدِّدَةً - وَقَدْ جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ بِقُرُونٍ وَأَجْيَالٍ كَثِيرَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ اهْتَدَوْا فِي هَذَا الْجَبَلِ إِلَى أَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْمَادَّةِ الَّتِي انْفَتَقَ رَتْقُهَا بِمَا ذَكَرَ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ عَشَرَاتِ الْعَنَاصِرِ - قَدْ كَانَ مَصْدَرُهَا هَذِهِ الْكَهْرُبَاءَ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا عُلُومُ الْبَشَرِ وَأَعْمَالُهُمْ فِي طَوْرٍ غَرِيبٍ عَجِيبٍ، وَلَا تَزَالُ عَجَائِبُهَا كُلُّ يَوْمٍ فِي ازْدِيَادٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْحَاشِيَةِ الَّتِي عَلَّقْنَاهَا عَلَى عِبَارَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي النُّورِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ أَخِيرًا مِنْ أَنَّ لِلْكَهْرُبَائِيَّةِ دَقَائِقَ - أَوْ ذَوَاتٍ أَوْ ذُرَيْرَاتٍ أَوْ جَوَاهِرَ فَرْدَةً - مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا سُمَّوْهَا (الْإِلِكْتِرُونَاتِ) وَرَجَّحُوا أَنَّهَا هِيَ قَوَامُ كُلِّ جَوَاهِرِ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا بِنَاءُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ اهْتِزَازَ هَذِهِ الذَّرَّاتِ أَوِ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ هُوَ سَبَبُ طَيْفِ النُّورِ، وَأَنَّ لَهُ اهْتِزَازَاتٍ مُخْتَلِفَةً، وَأَنَّهَا هِيَ مَنْشَأُ تَغَيُّرِ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكِيمْائِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ قَرَّرُوا الْقَوْلَ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّ حَرَكَةَ الْمَادَّةِ هِيَ سَبَبُ جَمِيعِ التَّغَيُّرَاتِ وَالتَّطَوُّرَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، إِذْ هِيَ مَنْشَأُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا تُحَوِّلُ الْجَوَامِدَ إِلَى مَائِعَاتٍ وَالْمَائِعَاتِ إِلَى غَازَاتٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ لِكُلِّ الْكَائِنَاتِ الَّتِي تُقَدَّرُ مِسَاحَتُهَا بِحَسَبِ بَعْضِ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِلْيُونَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي النُّورِ، وَهُوَ يَقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ ١٨٦٣٣٠ مِيلًا فِي أَقْرَبِ تَقْدِيرٍ وَأَحْدَثِهِ، وَفِي الدَّقِيقَةِ ٧١٧٩٨٠٠ وَفِي السَّاعَةِ
152
أَيْ: أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ مِيلٍ فَكَمْ يَقْطَعُ فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ كَمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (١٧، ٥٨).
إِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ أَسْرَارِ الْقُوَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ إِلَى الْآنِ يَقْرُبُ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتُهُ كَمَا قَالُوا: مَنْشَأُ التَّكْوِينِ وَالتَّطَوُّرِ فِي عَالَمِ الْإِمْكَانِ بِسُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَكَوْنِهَا مَصْدَرُ النُّورِ، فَارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ بِهَا، وَانْتِظَامُهُ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهَا مَعْقُولٌ، وَأَمَّا تَوَلُّدُ الْعَنَاصِرِ مِنْهَا وَتَجَمُّعُهَا وَصَيْرُورَتُهَا سَدِيمًا كَالدُّخَانِ أَوِ الْغَمَامِ أَوْ بُخَارِ الْمَاءِ فَهُوَ طَوْرٌ ثَانٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَوَلُّدِ بَعْضِ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ مِنْ بَعْضٍ وَارْتِقَاءِ ذَلِكَ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى جَوَاهِرِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ الْفَرْدَةِ فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَادَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ آخِرَ حِجَابٍ مَادِيٍّ مِمَّا حَالَ بَيْنَ الْمَادِّيِّينَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا انْكَشَفَ هَذَا الْحِجَابُ، وَانْتَهَى بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْمَعْرِفَةِ.
وَلَكِنَّ الْحُجُبَ كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ الْكَهْرُبَاءِ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَادَّةِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الْآنَ، فَهِيَ بِاعْتِرَافِهِمْ مُرَكَّبَةٌ، وَمُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُوجَبَةٍ وَسَالِبَةٍ، وَآثَارُهَا مِنْ إِثَارَةِ الْحَرَكَةِ وَتَوْلِيدِ النُّورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجَبِ وَالسَّالِبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - ابْتِدَاءً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَادِّيٍّ آخَرَ، أَوْ بِسَبَبٍ رُوحِيٍّ سَابِقٍ عَلَيْهَا فِي الْخَلْقِ وَرُؤْيَتِهِ كِفَاحًا بِدُونِ حِجَابٍ أَلْبَتَّةَ - فَهَذَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَاشِيَةِ مِنَ التَّقْرِيبِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ فِي الْحُجُبِ، وَمِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنَ السَّهْوِ جَعَلْنَا إِيَّاهَا عَلَى إِجْمَالِهَا وَإِبْهَامِهَا فِي مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ قُرَّائِهَا لَا إِلْمَامَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ فِيهِ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَتَكَرَّرَ التَّنْبِيهُ فِيهِمَا عَلَى أَنَّنَا إِنَّمَا نَذْكُرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَنَارِ وَفِي تَفْسِيرِهِ لِتَقْرِيبِ مَعَانِي النُّصُوصِ مِنْ عُقُولِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَفْتُونِينَ بِهَا، فَإِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبْعَدَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ مَأْلُوفِ الْبَشَرِ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ يَتَّفِقُ مَعَ أَحْدَثِ مَا قَرَّرَهُ الْعِلْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْبَحْثِ الْعَمَلِيِّ، فَالْمَرْجُوُّ
أَنْ يَكُونَ أَجْذَبَ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا يَكْثُرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمِنْهُ مَا صَارَ حَقَائِقَ وَاقِعَةً، وَمِنْهُ مَا قَرُبَ مِنْهَا حَتَّى وَرَدَتِ الْأَنْبَاءُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْعِلَاجِ بِالْكَهْرُبَائِيَّةِ يُعِيدُ إِلَى الشُّيُوخِ قُوَّةَ الشَّبَابِ وَنَضَارَتِهِ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ شَبَابٌ لَا يَهْرَمُونَ، وَسَنُقَرِّبُ مَسْأَلَةَ الرُّؤْيَةِ بِأَوْضَحِ مِثَالٍ فِي بَحْثِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقَدْ صَرَّحْنَا مِرَارًا بِأَنَّ كُلَّ مَا نُورِدُهُ مِنْ تَقْرِيبٍ وَتَأْلِيفٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمِنْ تَفْسِيرٍ أَوْ تَأْوِيلٍ لِرَدِّ شُبَهَاتِ الزَّائِغِينَ، فَإِنَّنَا لَا نَخْرُجُ بِهِ عَنْ قَاعِدَتِنَا فِي الْمُعْتَقَدِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْفَضَائِلِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ.
153
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَحْثٌ مِثْلُ بَحْثِنَا هَذَا عَلَى قَاعِدَتِنَا هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (٢: ٢١٠) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي، بَعْضُهُ لَنَا وَبَعْضُهُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَيُرَاجَعْ فِي - ص ٢٠٩ - ٢١٣ ج٢ ط الْهَيْئَةِ -
(تَنْبِيهٌ) إِنَّ إِدْخَالَ مَبَاحِثِ عُلُومِ الْكَوْنِ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ مِنْ أَهَمَّ أَرْكَانِهِ، وَالْعَمَلُ بِهُدَى الْقُرْآنِ فِيهِ، فَهُوَ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَكَانَ سَلَفُنَا مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ يَذْكُرُونَ مَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَكَذَا مَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى الَّذِينَ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَلَا رِوَايَتِهِمْ، وَهُوَ مَا يَنْتَقِدُ عَلَيْهِمْ.
" الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الْخَاتِمَةُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ ":
خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ أَنَّ رُؤْيَةَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَى وَأَكْمَلُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الَّذِي يَرْتَقِي إِلَيْهِ الْبَشَرُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَأَنَّهَا أَحَقُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (٣٢: ١٧) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " وَأَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُهُمْ وَهِيَ " أَنَّهَا رُؤْيَةٌ بِلَا كَيْفٍ " وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اضْطِرَابُ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ فِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا، سَوَاءً مِنْهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَسَاطِينُ الْبَيَانِ، وَنُظَّارُ الْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَرُوَاةُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ،
وَمُرْتَاضُو الصُّوفِيَّةِ وَأُولُو الْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ، فَلَمْ تَتَّفِقْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ فَصْلٍ قَطْعِيٍّ تُقْنِعُ بِهِ بَقِيَّةَ الطَّوَائِفِ بِدَلِيلِهَا اللُّغَوِيِّ أَوِ الْأُصُولِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ أَوْ فَهْمُ النَّصِّ النَّقْلِيِّ أَوْ تَسْلِيمِ إِلْهَامِهَا الْكَشْفِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ نَظْرَ اسْتِقْلَالٍ وَإِنْصَافٍ يَجْزِمُ بِأَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ إِثْبَاتِ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ بِهِ النَّقْلُ، وَتَفْوِيضِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ وَيُؤَيِّدُهُ الْعِلْمُ وَالْعَقْلُ، فَهُوَ الْأَسْلَمُ وَالْأَحْكَمُ وَالْأَعْلَمُ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
(خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ).
اضْطَرَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ كَمَا اضْطَرَبُوا فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ وَشُئُونِهِ فَذَهَبَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ عَقَائِدِهِمْ عَلَى اقْتِضَاءِ التَّنْزِيهِ لِلتَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ (الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ) وَلِهَذَا قَالُوا إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَالْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنَّ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَهُوَ مِثْلُهُ لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ بِدَلِيلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ كَمَا
154
تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَلَا نُعِيدُهُ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا نَكْتُبُ شَيْئًا نُقَرِّبُ بِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْأَفْهَامِ، بَعْدَ تَفْنِيدِ تَقَالِيدِ عِلْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدْ عَقَّدُوهَا تَعْقِيدًا شَدِيدًا بِمَا حَاوَلُوا بِهِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ نُصُوصِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَنَظَرِيَّاتِ الْعَقْلِ بِقَوْلِهِمْ: إِنِ الْكَلَامَ نَفْسِيٌّ وَلَفْظِيٌّ، فَالْأَوَّلُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ تُؤَدَّى بِاللَّفْظِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ الَّتِي تُكْتَبُ بِالْقَلَمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي تُكَيِّفُهَا الْأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا مَنَعَ السَّلَفُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُسَمَّى كَلَامَ اللهِ بِمَعْنَى دَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةِ اللهِ الْقَدِيمَةِ، فَلِهَذَا الِاشْتِرَاكِ يُخْشَى أَنْ يُفْضِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْمَلْفُوظَةِ وَالْمَكْتُوبَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةِ مَخْلُوقٌ.
وَهَذِهِ فَلْسَفَةٌ مَرْدُودَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ كَأَمْثَالِهَا مِنْ تَأْوِيلِ سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا مَدْلُولَ لَهُ إِلَّا مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهَا الْقَدِيمُ وَهِيَ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتُهُ، وَسَائِرُهَا حَادِثَةٌ،
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ " كَلَامِ اللهِ " فِي مَوَاضِعَ لَا مَدْلُولَ لَهَا إِلَّا مَا يُسَمُّونَهُ هُمُ الْكَلَامَ اللَّفْظِيَّ - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (٩: ٦) فَالْمُرَادُ بِكَلَامِ اللهِ الْقُرْآنُ قَطْعًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ صِفَةَ اللهِ - تَعَالَى -؛ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ (٢: ٧٥) يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ (٤٨: ١٥) يَعْنِي وَعْدَهُ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا سَبَقَ فِي السُّورَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُبَدِّلُونَ، وَأُولَئِكَ يُحَرِّفُونَ صِفَةَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَقَدِ اغْتَرَّ بِهَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْكَلَامِيَّةِ الْجَمَاهِيرُ الْكَثِيرُونَ لِصُدُورِهَا عَنْ بَعْضِ كِبَارِ النُّظَّارِ، الَّذِينَ مَلَأَتْ شُهْرَتُهُمُ الْأَقْطَارَ، فَأَعْجَبَ الْبَاحِثُونَ مِنْهُمْ بِهَا، وَقَلَّدَهُمُ الْأَكْثَرُونَ فِيهَا، وَرَجَعَ عَنْهَا أَسَاطِينُ الْمَذْهَبِ بَعْدَ تَمْحِيصِهَا وَمُقَابَلَتِهَا بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالنُّصُوصِ، فَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ الْمُخْلِصِينَ رَجَعُوا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي أَوَاخِرَ أَعْمَارِهِمْ، وَلَكِنْ بَقِيَ عَامَّةُ الْأَشْعَرِيَّةِ مُتَّبِعِينَ لِمَا قَرَّرُوهُ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، كَدَأْبِ الْجَمَاعَاتِ فِي كُلِّ مَا يَتَّخِذُونَهُ مَذْهَبًا لَهُمْ، عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ كَانَ فِي الْأَغْلَبِ التَّدْرِيجُ وَالْمَزْجُ بَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِلَّا الْأَفْرَادَ مِنْ أَهْلِ الدَّلِيلِ.
وَقَدْ أَعْجَبَنِي مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارِ الْمُنِيبِينَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ الْجُوَيْنِيِّ وَالِدِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي رِسَالَةٍ لَهُ فِي نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَخَوَاتِهَا الَّتِي يَتَأَوَّلَهَا أَصْحَابُهُ الْأَشَاعِرَةُ لِتَصْرِيحِهِ وَرَدِّهِ عَلَى شُيُوخِهِ قَالَ:
155
إِنِّي كُنْتُ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ مُتَحَيِّرًا فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ: مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ، وَمَسْأَلَةُ الْفَوْقِيَّةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكُنْتُ مُتَحَيِّرًا فِي الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ وَتَحْرِيفِهَا، أَوْ إِمْرَارِهَا وَالْوُقُوفِ فِيهَا، أَوْ إِثْبَاتِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فَأَجِدُ النُّصُوصَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاطِقَةٌ مُنْبِئَةٌ بِحَقَائِقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَكَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، ثُمَّ
أَجِدُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤَوِّلُ الِاسْتِوَاءَ بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَيُؤَوِّلُ النُّزُولَ بِنُزُولِ الْأَمْرِ، وَيُؤَوِّلُ الْيَدَيْنِ بِالْقُدْرَتَيْنِ أَوِ النِّعْمَتَيْنِ، وَيُؤَوِّلُ الْقَدَمَ بِقَدَمِ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجِدُهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى - مَعْنًى قَائِمًا بِالذَّاتِ بِلَا حَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ.
" وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْ بَعْضِهَا قَوْمٌ لَهُمْ فِي صَدْرِي مَنْزِلَةٌ مِثْلَ طَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ الشَّافِعِيِّينَ؛ لِأَنِّي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ عَرَفْتُ فَرَائِضَ دِينِي وَأَحْكَامِهِ فَأَجِدُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ الْأَجِلَّةِ يَذْهَبُونَ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَهُمْ شُيُوخِي، وَلِي فِيهِمُ الِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِفَضْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ، ثُمَّ إِنَّنِي مَعَ ذَلِكَ أَجِدُ فِي قَلْبِي مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ حَزَازَاتٍ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبِي إِلَيْهَا، وَأَجِدُ الْكَدَرَ وَالظُّلْمَةَ مِنْهَا، وَأَجِدُ ضِيقَ الصَّدْرِ وَعَدَمَ انْشِرَاحِهِ مَقْرُونًا بِهَا، فَكُنْتُ كَالْمُتَحَيِّرِ الْمُضْطَرِبِ فِي تَحَيُّرِهِ، الْمُتَمَلْمِلِ مِنْ قَلْبِهِ فِي تَقَلُّبِهِ وَتَغَيُّرِهِ.
" وَكُنْتُ أَخَافُ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ مُخَالَفَةَ الْحَصْرِ وَالتَّشْبِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا طَالَعْتُ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجِدُهَا نُصُوصًا تُشِيرُ إِلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَأَجِدُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَرَّحَ بِهَا مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ وَاصِفًا لَهُ بِهَا، وَأَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِهِ الشَّرِيفِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالذَّكِيُّ وَالْبَلِيدُ وَالْأَعْرَابِيُّ الْجَافِي، ثُمَّ لَا أَجِدُ شَيْئًا يَعْقُبُ تِلْكَ النُّصُوصِ الَّتِي كَانَ يَصِفُ رَبَّهُ بِهَا لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا مِمَّا يَصْرِفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا وَيُؤَوِّلُهَا كَمَا تَأَوَّلَهَا هَؤُلَاءِ مِنْ مَشَايِخِي الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِثْلَ تَأْوِيلِهِمُ الِاسْتِيلَاءَ بِالِاسْتِوَاءِ، وَنُزُولِ الْأَمْرِ لِلنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي صِفَتِهِ لِرَبِّهِ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ وَالْيَدَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ مَقَالَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَانِيَ أُخَرَ بَاطِنَةً غَيْرَ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَدْلُولِهَا.
بَعْدَ هَذَا شَرَعَ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ فِي إِيرَادِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ عُلُوِّ الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَلِبَعْضِ حُفَّاظِ السُّنَّةِ فِيهَا مُصَنَّفَاتٌ خَاصَّةٌ كَابْنِ قُدَامَةَ وَالذَّهَبِيِّ، وَكِتَابَاهُمَا مَطْبُوعَانِ عِنْدَنَا، ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجْهَةِ النَّظَرِ الْعِلْمِيَّةِ:
156
وَمَنْ عَرَفَ هَيْئَةَ الْعَالَمِ وَمَرْكَزِهِ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا جِهَتَا الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ ثُمَّ اعْتَقَدَ بَيْنُونَةَ خَالِقِهِ عَنِ الْعَالَمِ فَمِنْ لَوَازِمِ الْبَيِّنَةِ
أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ جِهَاتِ الْعَالَمِ فَوْقٌ، وَلَيْسَ السُّفْلُ إِلَّا الْمَرْكَزُ وَهُوَ الْوَسَطُ ".
ثُمَّ إِنَّهُ وَضَّحَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ بَيَانِ مَسْأَلَةِ صِفَةِ الْعُلُوِّ:
(فَصْلٌ) إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَاعْتَقَدْنَاهُ تَخَلَّصْنَا مِنْ شُبَهِ التَّأْوِيلِ وَعَمَاوَةِ التَّعْطِيلِ، وَحَمَاقَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَأَثْبَتْنَا عُلُوَّ رَبِّنَا سُبْحَانَهُ وَفَوْقِيَّتَهُ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَالْحَقُّ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَالصُّدُورُ تَنْشَرِحُ لَهُ، فَإِنَّهُ التَّحْرِيفُ تَأْبَاهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ مِثْلَ تَحْرِيفِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَالْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَعِيٌّ مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَصَفَ لَنَا نَفْسَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لِنَعْرِفَهُ بِهَا، فَوُقُوفُنَا عَنْ إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا عُدُولٌ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِنَا إِيَّاهَا، فَمَا وَصَفَ لَنَا نَفْسُهُ بِهَا إِلَّا لِنُثْبِتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَنَا، وَلَا نَقِفُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ، فَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْإِثْبَاتِ بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا وُقُوفٍ فَقَدْ وَقَعَ عَلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
(فَصْلٌ) وَالَّذِي شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لَهُ فِي حَالِ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَوَّلُوا الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنُّزُولَ بِنُزُولِ الْأَمْرِ، وَالْيَدَيْنِ بِالنِّعْمَتَيْنِ وَالْقُدْرَتَيْنِ، هُوَ عِلْمِي بِأَنَّهُمْ مَا فَهِمُوا فِي صِفَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى - إِلَّا مَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِينَ، فَمَا فَهِمُوا عَنِ اللهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِهِ، وَلَا نُزُولًا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا يَدَيْنِ تَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَلِذَلِكَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَطَّلُوا مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِهِ، وَنَذْكُرُ بَيَانَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
" لَا رَيْبَ أَنَّا نَحْنُ وَإِيَّاهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ لِلَّهِ، وَنَحْنُ قَطْعًا لَا نَعْقِلُ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَّا هَذَا الْعَرَضَ الَّذِي يَقُومُ بِأَجْسَامِنَا، وَكَذَلِكَ لَا نَعْقِلُ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِلَّا أَعْرَاضًا تَقُومُ بِجَوَارِحِنَا، فَكَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: حَيَاتُهُ لَيْسَتْ بِعَرَضٍ وَعِلْمُهُ كَذَلِكَ وَبَصَرُهُ،
كَذَلِكَ هِيَ صِفَاتٌ كَمَا تَلِيقُ بِهِ لَا كَمَا تَلِيقُ بِنَا، فَكَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ: حَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ وَلَيْسَتْ مُكَيَّفَةً، وَعِلْمُهُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ مُكَيَّفًا، وَكَذَلِكَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مَعْلُومَانِ، وَلَيْسَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَعْرَاضًا بَلْ هُوَ كَمَا يَلِيقُ بِهِ.
" وَمِثْلُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَوْقِيَّتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَنُزُولُهُ، فَفَوْقِيَّتُهُ مَعْلُومَةٌ أَعْنِي ثَابِتَةً كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ السَّمْعِ وَحَقِيقَةِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُمَا مَعْلُومَانِ وَلَا يُكَيَّفَانِ، كَذَلِكَ فَوَقَيَّتُهُ مَعْلُومَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُكَيَّفٍ بِحَرَكَةٍ أَوِ انْتِقَالٍ يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ
157
كَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ - صِفَاتُهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَالثُّبُوتُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّكْيِيفُ وَالتَّحْدِيدُ، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِهَا مُبْصِرًا مِنْ وَجْهٍ أَعْمَى مِنْ وَجْهٍ، مُبْصِرًا مِنْ حَيْثُ الْإِثْبَاتُ وَالْوُجُودُ، أَعْمَى مِنْ حَيْثُ التَّكْيِيفُ وَالتَّحْدِيدُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ لِمَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِهِ وَبَيْنَ نَفْيِ التَّحْرِيفِ وَالتَّشْبِيهِ وَالْوُقُوفِ، وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُ الرَّبِّ - تَعَالَى - مِنَّا فِي إِبْرَازِ صِفَاتِهِ لَنَا لِنَعْرِفَهُ بِهَا، وَنُؤْمِنَ بِحَقَائِقِهَا، وَنَنْفِيَ عَنْهَا التَّشْبِيهَ، وَلَا نُعَطِّلَهَا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالسَّمْعِ، وَلَا بَيْنَ النُّزُولِ وَالْبَصَرِ، الْكُلُّ وَرَدَ فِي النَّصِّ.
" فَإِنْ قَالُوا لَنَا فِي الِاسْتِوَاءِ شَبَّهْتُمْ، نَقُولُ لَهُمْ فِي السَّمْعِ شَبَّهْتُمْ، وَوَصَفْتُمْ رَبَّكُمْ بِالْعَرَضِ فَإِنْ قَالُوا لَا عَرَضَ بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، قُلْنَا فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ لَا حَصْرَ بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، فَجَمِيعُ مَا يُلْزِمُونَنَا بِهِ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْقَدَمِ وَالضَّحِكِ وَالتَّعَجُّبِ مِنَ التَّشْبِيهِ نُلْزِمُهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ، فَكَمَا لَا يَجْعَلُونَهَا هُمْ أَعْرَاضًا كَذَلِكَ نَحْنُ لَا نَجْعَلُهَا جَوَارِحَ وَلَا مَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْصَافِ أَنْ يَفْهَمُوا فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَحْتَاجُوا إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ.
" فَإِنْ فَهِمُوا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَفْهَمُوا فِي الصِّفَاتِ السَّبْعِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْأَعْرَاضِ، فَمَا يَلْزَمُنَا بِهِ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالْجِسْمِيَّةِ فَنُلْزِمُهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْعَرَضِيَّةِ، وَمَا يُنَزِّهُونَ رَبَّهُمْ بِهِ فِي الصِّفَاتِ السَّبْعِ يَنْفُونَ عَنْهُ
عَوَارِضَ الْجِسْمِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ نَحْنُ نَعْمَلُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْسِبُونَنَا فِيهَا إِلَى التَّشْبِيهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَمَنْ أَنْصَفَ عَرَفَ مَا قُلْنَا وَاعْتَقَدَهُ، وَقَبِلَ نَصِيحَتَنَا وَدَانَ لِلَّهِ بِإِثْبَاتِ جَمِيعِ صِفَاتِهِ هَذِهِ وَتِلْكَ، وَنَفَى عَنْ جَمِيعِهَا التَّشْبِيهَ وَالتَّعْطِيلَ وَالتَّأْوِيلَ وَالْوُقُوفَ، وَهَذَا مُرَادُ اللهِ - تَعَالَى - لَنَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتِلْكَ جَاءَتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا تِلْكَ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَحَرَّفْنَا هَذِهِ وَأَوَّلْنَاهَا كُنَّا كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ وَكِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
(فَصْلٌ) وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا وَبَانَ انْجَلَتِ الثَّلَاثُ الْمَسَائِلُ بِأَسْرِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ مِنَ النُّزُولِ وَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَأَمْثَالِهَا، وَمَسْأَلَةُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعُلُوِّ فَقَدْ قِيلَ فِيهَا مَا فَتَحَهُ اللهُ - تَعَالَى -، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ فَتُسَاقُ مَسَاقَ مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ، وَلَا نَفْهَمُ مِنْهَا مَا نَفْهَمُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ بِوَصْفِ الرَّبِّ - تَعَالَى - بِهَا كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ: فَيَنْزِلُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَبِعَظْمَتِهِ، وَيَدَاهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَوَجْهُهُ الْكَرِيمُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَكَيْفَ نُنْكِرُ الْوَجْهَ الْكَرِيمَ وَنُحَرِّفُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ:
158
أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ " وَإِذَا ثَبَتَتْ صِفَةُ الْوَجْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالنُّصُوصِ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْيَدَيْنِ وَالضَّحِكِ وَالْعَجَبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَلِيقُ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبِعَظَمَتِهِ لَا مَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، تَعَالَى الله عَنْ تِلْكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
(ثُمَّ قَالَ) : وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَتُسَاقُ هَذَا الْمَسَاقَ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَبِجَمِيعِ حُرُوفِهِ فَقَالَ - تَعَالَى -: الم وَقَالَ: المص وَقَالَ: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " فَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قُرْبٍ " وَفِي الْحَدِيثِ " لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، لَامٌ حَرْفٌ، مِيمٌ حَرْفٌ " فَهَؤُلَاءِ مَا فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا مَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، فَقَالُوا: إِنْ قُلْنَا بِالْحُرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَارِحِ وَالْلَهَوَاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا
قُلْنَا بِالصَّوْتِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَلْقِ وَالْحَنْجَرَةِ، عَمِلُوا فِي هَذَا مِنَ التَّخَبُّطِ كَمَا عَمِلُوا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ.
" وَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَارِحَ، وَلَا إِلَى لَهَوَاتٍ، وَكَذَلِكَ لَهُ صَوْتٌ كَمَا يَلِيقُ بِهِ يَسْمَعُ وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمُقَدَّسُ إِلَى الْحَلْقِ وَالْحَنْجَرَةِ: كَلَامُ اللهِ - تَعَالَى - يَلِيقُ بِهِ وَصَوْتُهُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا نَنْفِي الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ عَنْ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ لِافْتِقَارِهِمَا مِنَّا إِلَى الْجَوَارِحِ وَالْلَهَوَاتِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى لَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ لَهُ وَيَسْتَرِيحُ الْإِنْسَانُ بِهِ مِنَ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ بِقَوْلِهِ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
" فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ هُوَ عَيْنُ قِرَاءَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَيْنُ تَكَلُّمِهِ هُوَ؟ قُلْنَا لَا؛ بَلِ الْقَارِئُ يُؤَدِّي كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُؤَدِّيًا مُبَلِّغًا، وَلَفْظُ الْقَارِئِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَفِي الْقُرْآنِ لَا يَتَمَيَّزُ اللَّفْظُ الْمُؤَدِّي عَنِ الْكَلَامِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، وَلِهَذَا مَنَعَ السَّلَفُ عَنْ قَوْلِ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ " لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ، كَمَا مَنَعُوا عَنْ قَوْلِ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " فَإِنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ مَخْلُوقٌ، وَفِي التِّلَاوَةِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَيْلَا يُؤَدِّيَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَمَا أَمَرَ السَّلَفُ بِالسُّكُوتِ عَنْهُ؛ يَجِبُ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ.
(يَقُولُ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : إِنَّ لَدَيْنَا فِي تَقْرِيبِ صِفَةِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَفْهَامِ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَشُئُونِهِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ مُسْتَعَارٌ مِمَّا وَضَعَهُ النَّاسُ فِي اللُّغَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَنَفْهَمُ بِهَذِهِ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَنَعْرِفُ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا الْمُبَايَنَةُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ ذَلِكَ تَعْبِيرًا بَلِيغًا فِي قَوْلِهِ مِنْ كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ:
159
إِنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا، وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ طَرْفُ فَهْمِهِمْ إِلَى مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا،
فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ، لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطَرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تَفْهَمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ، فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ، فَقُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ هِيَ الْقُدْرَةُ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ " ثُمَّ ذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ وَالرِّضَا وَالْغَضَبَ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَمُّونَهُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَمَا يُسَمُّونَهُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَأَوَّلُهَا أَصْحَابُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ تَحَكُّمًا مِنْهُمْ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ لَنَا كَلَامًا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِنَا، وَشَأْنٌ مِنْ شِئُونِنَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُنَا، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنِ انْكِشَافِ الْمَعْلُومَاتِ لِلنَّفْسِ، وَتَعَلُّقَ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَنْ كَشْفِهَا وَتَصْوِيرِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي النَّفْسِ أَوْ لِمَنْ نُرِيدُ كَشْفَهَا لَهُ، تَقُولُ: حَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِكَذَا، وَقُلْتُ فِي نَفْسَيْ كَذَا، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، " وَكُنْتُ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً " يَعْنِي: هَيَّأْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا لِأَقُولَهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
عِنْدِي حَدِيثٌ أُرِيدُ الْيَوْمَ أَذْكُرُهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ دُونَ النَّاسِ فَحْوَاهُ
وَأَمَّا أَدَاءُ الْكَلَامِ لِمَنْ نُرِيدُ إِعْلَامَهُ بِبَعْضِ مَا نَعْلَمُ فَلَهُ طُرُقٌ أَعَمُّهَا تَعْبِيرُ اللِّسَانِ، وَيَلِيهِ تَعْبِيرُ الْقَلَمِ، وَالْأَوَّلُ غَرِيزَةٌ فِي النُّطْقِ خَاصٌّ بِالْبَشَرِ بِمُقْتَضَاهَا تَوَاضَعُوا عَلَى الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِي الْمَعْلُومَاتِ، فَاتَّسَعَتْ بِقَدْرِ اتِّسَاعِ دَائِرَةِ عُلُومِهِمْ، وَالثَّانِي صِنَاعَةٌ هَدَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ بِشُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى إِيصَالِ مَعْلُومَاتِهِمْ إِلَى الْبَعِيدِ عَنْهُمُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُمُ اللِّسَانِيِّ، وَإِلَى حِفْظِهَا لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، وَقَدِ اسْتَحْدَثُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ آلَةَ الْخِطَابِ الْبَعِيدِ بِاللِّسَانِ سُمَّوْهَا (التِّلِيفُونَ) وَسَمَّيْنَاهَا (الْمِسَرَّةَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - تُوَّصِلُ الْكَلَامَ مَنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَمِنْ بَلَدٍ أَوْ قُطْرٍ إِلَى آخَرَ بِأَسْلَاكٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ آلَاتِ الْمُتَخَاطِبِينَ، وَقَدِ اسْتَغْنَوْا أَخِيرًا عَنْ هَذِهِ الْأَسْلَاكِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَاسْتَحْدَثُوا آلَةً لِحِفْظِ الْأَصْوَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَإِعَادَتِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا سُمَّوْهَا (الْفُونُغْرَافَ) وَكَانُوا اسْتَحْدَثُوا قَبْلَ ذَلِكَ آلَةً لِنَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْبِلَادِ
وَالْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَسْلَاكٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ
160
مُوَصِّلَةٍ بَيْنَ الْآلَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْكَلَامِ وَالْقَابِلَةِ لَهُ بِمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَطِّ لَا الصَّوْتِ، وَهِيَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالتِّلِغْرَافِ.
فَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَدَاءٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يَقُومُ فِي نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَيُرِيدُ إِيصَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُسَمَّى كَلَامُهُ حَقِيقَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَالْمُخَضْرَمِينَ وَالْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُمَا وَمِنْ بَعْدِهِمْ، وَلِلْأَخْطَلِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ تَدَاوَلَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَاسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَهُ هُوَ حَقِيقَةُ مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَهُوَ:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
وَلَيْسَ هَذَا بِحُجَّةٍ لُغَوِيَّةٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَقُصَارَى الِاحْتِجَاجِ بِشِعْرِ الشَّاعِرِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَتَرْكِيبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَأْيَهُ فِيهِ صَحِيحًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ كُلَّ مَا يَقُولُهُ حَقًّا فِي الْوَاقِعِ، وَلَا فِي اعْتِقَادِهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شِعْرًا، فَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ لِمَادَّةِ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْمَعَانِي كَلَامٌ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ: سَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ بِكَذَا، وَكَلَّمْتُهُ وَكَالَمْتُهُ، وَكَانَا مُتَصَارِمَيْنِ فَصَارَا يَتَكَالَمَانِ، وَمُوسَى كَلِيمُ اللهِ، وَنَطَقَ بِكَلِمَةٍ فَصِيحَةٍ وَبِكَلِمَاتٍ فِصَاحٍ وَبِكَلْمٍ اهـ.
فَلِكَلَامِ الْإِنْسَانِ صِفَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ فِي نَفْسِهِ يُنَاجِيهَا بِهَا، وَيُصَوِّرُ فِيهَا مَا يُنَظِّمُهُ أَوْ يُقَدِّرُهُ وَيُزَوِّرُهُ؛ لِيُخَاطِبَ بِهِ غَيْرَهُ، وَصِفَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ فِي لِسَانِهِ، وَصِفَةٌ أَوْ صُورَةٌ فِيمَا يَرْسُمُهُ بِقَلَمِهِ عَلَى الْوَرَقِ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِيمَا يُحَرِّكُ بِهِ آلَةَ التِّلِغْرَافِ السِّلْكِيِّ أَوْ غَيْرِ السِّلْكِيِّ مُخَاطِبًا لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ تَحْدُثُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ زَمَنًا قَصِيرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ أَطْوَلُ مِمَّا يُظَنُّ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِيمَا يَنْقُشُهُ الْمَكْرَفُونُ فِي لَوْحِ آلَةِ الْفُونُغْرَافِ تَكُونُ مَحْفُوظَةً فِيهِ إِلَى أَنْ تُعِيدَهُ الْآلَةُ كَمَا أُلْقِيَ فِيهَا صَوْتًا مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي.
وَكَلَامُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يُنْشِئُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقَةٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَيُنْقَلُ عَنْ قَلِيلٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنَّهُمْ قَدْ يُؤَدُّونَ بَعْضَ كَلَامِهِمُ الَّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى بَعْضِ الْمُسْتَعِدِّينَ بِقُوَّةِ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَطَّلِعُونَ عَلَى بَعْضِ
مَا يَجُولُ فِي أَنْفُسِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَصْدُقْ هَذَا عَنْهُمْ فَلْيُعِدِ الِاعْتِبَارَ بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَمَهْمَا تَكُنِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي وَصَلَ بِهَا عَلْمُ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ يَصِيرُ مِثْلَهُ فِي تَصَوُّرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي تَصْوِيرِهِ لِغَيْرِهِ بِالْوَسَائِلِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيَدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
161
تَأْلَّفَ نَظْمُ هَذَا الْبَيْتِ فِي نَفْسِ لَبِيَدٍ بِمُقْتَضَى الصَّنْعَةِ وَالْغَرِيزَةِ الَّتِي بِهَا يُصَوِّرُ الْإِنْسَانُ مَا فِي عِلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَسَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ فَنَقَلُوهُ عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ بِأَقْلَامِهِمْ، وَلَا يَزَالُ بَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَتَنَاقَلُوهُ بِالتِّلِيفُونِ وَالتِّلِغْرَافِ، وَلَكِنَّهُ فِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ وَبِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ، نَقَلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ لَبِيَدٍ قَالَهُ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وَلَيْسَ كَلَامُ أَحَدٍ مِمَّنْ يَنْشُدُهُ الْيَوْمَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُرَقِّمُهُ بِقَلَمِهِ أَوْ يُؤَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالتِّلِغْرَافِ أَوْ غَيْرِهِ.
إِذَا تَذَكَّرْتَ هَذَا كُلَّهُ فِي كَلَامِ الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ عَلَى ضَعْفِهِ وَنَقْصِهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللهُ - تَعَالَى - لِنَفْسِهِ - وَتَذَكَّرْتَ مَعَ هَذَا كَمَالَ الْخَالِقِ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ - وَأَنَّهُ كَلَّفَكَ الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَبِاتِّصَافِهِ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ - فَأَيُّ عَثْرَةٍ يَعْثُرُ بِهَا عَقْلُكَ إِذَا آمَنْتَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا؛ لِأَنَّهَا مِرْآةُ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ الْأَبَدِيِّ، وَأَنَّهُ بَلَّغَ بَعْضَ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا شَاءَ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِيُوحُوهُ إِلَى رُسُلِهِ مِنَ الْبِرِّ؛ لِيُبَلِّغُوهُ لِأُمَمِهِمْ. كَمَا خَاطَبَ مُوسَى بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَاحِدٌ عَلَى اخْتِلَافِ تَبْلِيغِهِ وَحِفْظِهِ، فَقِيَامُهُ بِذَاتِ اللهِ - تَعَالَى - غَيْرُ تَمَثُّلِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ، وَفِي نَفْسِ مُوسَى حِينَ سَمِعَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَدَاءُ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ وَنُزُولُهُ بِهِ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ أَدَاءِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَقِيَامُهُ فِي نَفْسِ الْمَلَكِ غَيْرُ قِيَامِهِ فِي الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ قِيَامَهُ فِي الْهَوَاءِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ غَيْرُ قِيَامِهِ فِي لَوْحِ الْفُونُغْرَافِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ قِيَامِهِ فِي الصُّحُفِ، وَكَوْنُهُ عَلَى اخْتِلَافِ صُوَرِهِ، وَطُرُقِ أَدَائِهِ وَاحِدًا فِي كَوْنِهِ كَلَامُ اللهِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، كَمَا قُلْنَا فِي بَيْتِ لَبِيَدٍ مِنْ كَوْنِ إِنْشَادِنَا لَهُ، وَكِتَابَتِنَا إِيَّاهُ الْيَوْمَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ كَلَامَ لَبِيَدٍ الْقَدِيمَ
النِّسْبِيَّ غَيْرَ الْأَزَلِيِّ - وَكَلَامُ اللهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ حَقِيقَةٌ أُولَى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو الْعَقْلَ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ الْمُحْدَثِينَ يَتَنَاقَلُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، وَسَائِرِ آلَاتِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَلَا إِلَى التَّقَصِّي مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ذُو حُرُوفٍ مُرَتَّبَةٍ، وَلَا بِأَنَّ تَلَقِّيَهُ يُسَمَّى سَمَاعًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (٩: ٦).
إِذَا جَعَلْتَ هَذَا الْبَيَانَ وَسِيلَةً لِفَهْمِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى مَعَ اجْتِنَابِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ جَمِيعًا وِفَاقًا لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمَعَ التَّقْرِيبِ بِالْمِثَالِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ هَذَا الْعَصْرِ فِي عُلُومِهِ وَفُنُونِهِ فَلَكَ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَجْعَلَهُ مِثَالًا يُقَرِّبُ مِنْ عَقْلِكَ مَعْنَى تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْحُجُبِ عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ وَالْحُجُبِ.
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ لِلْكَلَامِ حَقِيقَةً، وَلَكَ - مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ - أَنْ تَقُولَ صُورَةً، هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ، وَمَبْدَأُ إِظْهَارِ مَا شَاءَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَظْهَرَهُ مِنْ عِلْمِهِ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ لَهُ صُوَرًا
162
أُخْرَى فِي أَنْفُسِ مَنْ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ مِلْكِيَّةٍ وَبَشَرِيَّةٍ وَصُوَرًا أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ، وَفِي الْخَطِّ عَلَى الْكَاغِدِ، وَفِي النَّقْشِ عَلَى أَلْوَاحِ الْفُونُغْرَافِ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ عَلَى مَا بَيْنَهَا مِنَ التَّبَايُنِ التَّامِّ مَظَاهِرُ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَا أَرَادَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ إِظْهَارَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِكَلَامِهِ كَبَيْتِ لَبِيَدٍ الشَّاعِرِ، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (١١٢: ١ - ٤).
فَمِنْ تَلَقَّى هَذِهِ الصُّورَةَ مِنْ لِسَانِ الْقَارِئِ، أَوْ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا السُّورَةُ بِحُرُوفٍ مِنَ الْخَطِّ الْكُوفِيِّ أَوِ النَّسْخِيِّ أَوِ الْفَارِسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، عُلِمَ بِهَا مِنْ كَلَامِ اللهِ عَيْنُ مَا عَلِمَهُ جِبْرِيلُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الرُّسُلِ فِي التَّلَقِّي عَنِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةٍ، أَوِ التَّلَقِّي عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنْ هُوَ الْمُظْهِرُ لِمَعَانِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا عَمَلَ
وَلَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُبَلِّغِينَ لَهَا فِي تَأْلِيفِ عِبَارَتِهَا لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَلَا الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَّغُوهَا لِلتَّابِعِينَ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَلَا تَعْطِيلَهُ وَلَا حُدُوثَهُ، وَلَا تَشْبِيهَهُ بِكَلَامِ خَلْقِهِ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُ عِلْمَ خَلْقِهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ نَكُونَ قَدْ أَدْرَكْنَا كُنْهَ هَذِهِ الصِّفَةِ بِفَهْمِنَا لِمَا بَلَّغَنَا تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ عِلْمِهِ بِهِ، كَمَا أَنَّ إِطْلَاعَهُ إِيَّانَا عَلَى مَا عَلِمَهُ فِي الْأَزَلِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدًا صَمَدًا لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ - لَا يَقْتَضِي إِدْرَاكَ كُنْهِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، بَلْ نَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ كُنْهَ كَلَامِنَا فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا فِي الْهَوَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَعَرُّفِهِ لِمَنْ شَاءَ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَلَا مُشَابَهَتَهُ لِلصُّوَرِ وَلَا لِحِجَابِ النُّورِ، وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا إِدْرَاكِ كُنْهِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمَعْرِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَمَعْرِفَةِ بَعْضِهِمْ لِكَلَامِهِ بِتَبْلِيغِ اللِّسَانِ دُونَ الْكِتَابَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ دُونَ اللِّسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَمَالٌ لَهُ، وَإِنَّمَا النَّقْصُ مَا تَخَيَّلَهُ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ مِنْ جَعْلِ الْخَالِقِ تَعَالَى مَعْنًى سِلْبِيًّا.
(تَتِمَّةُ السِّيَاقِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ)
أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُ مَنَعَ مُوسَى رُؤْيَتَهُ - يَعْنِي فِي الدُّنْيَا - وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا فِيهَا بِمَا آتَاهُ يَوْمَئِذٍ بِالْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ: أَنَّنَا أَعْطَيْنَاهُ أَلْوَاحًا كَتَبْنَا لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ مَوْعِظَةً مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُؤَثِّرَ فِي الْقُلُوبِ تَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَهِيَ أُصُولُ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ، وَأَحْكَامُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَفْصِيلُهَا، ذَكَرَهَا مَعْدُودَةً مَفْصُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى إِمَّا عَلَى
163
مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَصُنْعِهِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بِأَمْرِهِ وَوَحْيِهِ، سَوَاءً كَانَ الْكَاتِبُ لَهَا مُوسَى أَوِ الْمَلَكُ (- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْأَلْوَاحَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْرَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ كَانَتْ قَبْلَ التَّوْرَاةِ،
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ وَحْيِ التَّشْرِيعِ فَكَانَتْ أَصْلَ التَّوْرَاةِ الْإِجْمَالِيَّ، وَكَانَتْ سَائِرُ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ تَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَيُخَاطِبُهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَالْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَلْوَاحِ فَقِيلَ كَانَتْ عَشْرَةً، وَقِيلَ: سَبْعَةً، وَقِيلَ: اثْنَيْنِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي اللُّغَةِ لِلَّوْحَيْنِ أَلْوَاحٌ، وَهَذَا كُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ خِلَافِهِمْ فِيهَا، وَأَمَّا تِلْكَ الرِّوَايَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي جَوْهَرِهَا مِقْدَارُهَا وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا وَكِتَابَتُهَا وَمَا كُتِبَ فِيهَا؛ كُلُّهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي بَثَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَاغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ، وَقَدْ لَخَّصَ السُّيُوطِيُّ مِنْهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ ثَلَاثَ وَرَقَاتٍ - أَيْ: سِتَّ صَفَحَاتٍ - وَاسِعَاتٍ مِنَ الْقِطَعِ الْكَبِيرِ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى دُرَّةً، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا أَنَّ الْأَلْوَاحَ مِنَ الْيَاقُوتِ أَوْ مِنَ الزُّمُرُّدِ أَوْ مِنَ الزَّبَرْجَدِ، كَمَا أَنَّ مِنْهَا أَنَّهَا مِنَ الْحَجَرِ وَمِنَ الْخَشَبِ، وَقَدْ تَبِعَ فِي هَذَا عُمْدَتَهُ فِي التَّفْسِيرِ ابْنَ جَرِيرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -، وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضَهَا الْأَلُوسِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: اصْطَحَبَ قَيْسُ بْنُ خَرَشَةَ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ حَتَّى إِذَا بَلَغَا صِفِّينَ وَقَفَ كَعْبٌ ثُمَّ نَظَرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَيُهْرَاقَنَّ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ لَا يُهْرَاقُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، فَقَالَ قَيْسٌ مَا يُدْرِيكَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، فَقَالَ كَعْبٌ: مَا مِنَ الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، مَا يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَلُوسِيُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَوْسَعِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْعُمُومِ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَوْضُوعٌ عَلَى كَعْبٍ، وَإِنْ كُنْتُ أُخَالِفُ الْجُمْهُورَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْدِيلِهِ، وَتَأَوَّلَ الْأَلُوسِيُّ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ الظَّاهِرَ بُطْلَانُهُ بِالْبَدَاهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرَّمْزِ كَمَا نَدَّعِيهِ فِي الْقُرْآنِ اهـ.
وَمَا ذَكَرْتُ هَذَا إِلَّا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ فِتْنَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ إِلَى أَيِّ حَدٍ وَأَيِّ زَمَنٍ وَصَلَ تَأْثِيرُهَا السَّيْءِ، حَتَّى إِنَّ هَذَا النَّقَّادَةَ قَدِ اغْتَرَّ بِمِثْلِ هَذَا مِنْهَا، وَتَأْوِيلُهُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ مِثْلُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَدُّ بِعِلْمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَوْ فِي الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ فِيهِ (أَيِ: الْقُرْآنِ) مَا يَقَعُ فِيهِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْمُجَازِفِينَ
وَالْخَيَالِيِّينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَشْفِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (٩: ٣٨) فِي ٣٢٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ.
هَذَا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ فِي شَأْنِ الْأَلْوَاحِ فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ
164
(٢٣: ١٢ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ فَأُعْطِيَكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتُعَلِّمَهُمُ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ) وَجَاءَ فِي وَصْفِ اللَّوْحَيْنِ مِنْهُ (٣٢: ١٥ ثُمَّ انْثَنَى مُوسَى وَنَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ وَلَوْحَا الشَّهَادَةِ فِي يَدِهِ: لَوْحَانِ مَكْتُوبَانِ عَلَى جَانِبَيْهِمَا، مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ كَانَا مَكْتُوبَيْنِ وَاللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ اللهِ، وَالْكِتَابَةُ هِيَ كِتَابَةُ اللهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى اللَّوْحَيْنِ) وَفِيهِ أَنَّ مُوسَى رَمَى بِاللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ عِنْدَمَا رَأَى الْعِجْلَ الَّذِي عَبَدَهُ قَوْمُهُ فِي أَيَّامِ مُنَاجَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ (٣٤: ١ ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَنْحِتُ لَكَ لَوْحَيْ حَجَرٍ كَالْأَوَّلَيْنِ فَاكْتُبُ عَلَيْهَا الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْحَجَرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا - فَنَحَتَ لَوْحَيْ حَجَرٍ كَالْأَوَّلَيْنِ، وَبَكَّرَ مُوسَى فِي الْغَدَاةِ، وَصَعِدَ إِلَى جَبَلِ سَيْنَاءَ كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ، وَأَخَذَ فِي يَدِهِ لَوْحَيِ الْحَجَرِ) وَيَلِيهِ أَنَّ الرَّبَّ هَبَطَ فِي الْغَمَامِ، وَوَقَفَ عِنْدَهُ هُنَاكَ وَمَرَّ قُدَّامَهُ وَوَعَدَهُ وَوَصَّاهُ وَأَمَرَهُ بِأَوَامِرَ وَنَهَاهُ عَنْ أُمُورٍ وَيَلِي ذَلِكَ (وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَكْتُبُ لَكَ هَذَا الْكَلَامَ لِأَنِّي بِحَسَبِهِ عَقَدْتُ عَهْدًا مَعَكَ وَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَقَامَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا، وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلَامَ الْعَهْدِ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ) - وَهَاهُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ - " فَكَتَبَ " إِلَى الرَّبِّ - تَعَالَى -، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى مُوسَى، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ مَا تَقَدَّمَ عَنْ (٣٢: ١٦) لَكَانَ هَذَا مُتَعَيَّنًا بِقَرِينَةِ قَوْلِ الرَّبِّ لَهُ قَبْلَهُ: أَكْتُبُ لَكَ هَذَا الْكَلَامَ، وَلَهُ نَظَائِرُ، وَأَمَّا الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَدْ نَقَلْنَا نَصَّهَا فِي تَفْسِيرِ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (٦: ١٥٤) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَقِبَ وَصَايَا الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا.
وَمِنْ هَذَا الَّذِي نَقَلْنَاهُ هُنَا يُعْلَمُ مَا فِي تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلتَّوْرَاةِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ وَغَلَطٍ قَدْ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ إِلَّا التَّحْرِيفَ الْمَعْنَوِيِّ - فَمَا فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ مِنْ تَعْيِينِ جَوْهَرِ الْأَلْوَاحِ وَمِسَاحَتِهَا وَكِتَابَتِهَا، وَمَا كُتِبَ فِيهَا مِنْ وَصْفِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذِهِ التَّوْرَاةَ
فَهُوَ بَاطِلٌ، أَرَادَ بِهِ وَاضِعُوهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْلِمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ مَا يَصُدُّ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، بِأَنَّ دَعْوَتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَلَمْ يَدْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ كُلَّ مَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ الْيَهُودِيِّ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنَّهُ لَمْ يَرُجْ مِنْهُ عَلَى جَهَابِذَةِ نَقْدِ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَلِيلَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ فَهُوَ مَقُولُ قَوْلِهِ مُقَدَّرٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لِمُوسَى، وَالْخِطَابُ قَبْلَهُ لِلنَّبِيِّ الْخَاتَمِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمَعْنَى: كَتَبَنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مَا ذُكِرَ وَقُلْنَا لَهُ: خُذْهَا بِقُوَّةٍ - أَوْ وَقُلْنَا لَهُ: هَذِهِ رِسَالَتُنَا أَوْ وَصَايَانَا وَأُصُولُ شَرِيعَتِنَا وَكُلِّيَّاتُهَا فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ؛ أَيْ: حَالُ
165
كَوْنِكَ مُلْتَبِسًا بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَحَزْمٍ، أَوْ أَخْذًا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَكْوِينُ شَعْبٍ جَدِيدٍ بِتَرْبِيَةٍ جَدِيدَةٍ شَدِيدَةٍ مُخَالِفَةٍ كُلَّ الْمُخَالَفَةِ لِمَا نَشَأَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَالْإِنْسِ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَمَفَاسِدِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَوَلِّي تَرْبِيَةَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَالْمُرْشِدُ لَهُمْ صَاحِبَ عَزِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَبَأْسٍ شَدِيدٍ وَعَزْمٍ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ سِيَاسَتِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَيَفْشَلُ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ فِيهِمْ.
وَأَمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا قِيلَ إِنَّ (أَحْسَنِ) هُنَا بِمَعْنَى ذِي الْحُسْنِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَفْضِيلِ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: اسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ - أَيْ: وَأَمُرْ قَوْمَكَ بِالِاسْتِمْسَاكِ وَالِاعْتِصَامِ بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِي الْأَلْوَاحِ الَّتِي هِيَ كَامِلَةُ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ الْحَقِيقِيُّ وَالِاعْتِبَارِيُّ وَالْإِضَافِيُّ، فَأُصُولُ الْعَقَائِدِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَتَوْحِيدُهُ وَتَنْزِيهُهُ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا، قِيلَ: إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْأَخْذِ الشُّرُوعُ وَالِابْتِدَاءُ - وَالْأَوَامِرُ أَفْضَلُ مِنَ النَّوَاهِي، وَيَصِحُّ أَنْ تُرَادَ فِي مِثْلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْأَلْوَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَتَحَلَّى بِهِ الْعَقْلُ، وَتَتَزَكَّى بِهِ النَّفْسُ، وَتَرْكُ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ مَحْضٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَثَرًا لِلْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا - وَالْفَرْضُ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ نَوَافِلُ، وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِمْ:
وَالْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (٣٩: ٥٥) وَالْمَجَالُ فِيهِ أَوْسَعُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى خَلْقِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِإِكْمَالِهِ تَعَالَى الدِّينَ بِهِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَزَايَاهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ؛ أَيْ: لِلنَّاسِ كَافَّةً، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ (٣٩: ٥٤) ثُمَّ إِنَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ فِيهِ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ، وَفِيهِ مِنَ النَّدْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ مُقَابِلِهِ كَالصَّدَقَةِ بِالدِّينِ بَدَلَ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَالْعَفْوِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِصَاصِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِهِ لِقَوْمِ مُوسَى بِالتَّبَعِ لَهُ، وَإِذَا وَجَّهَ الْأَمْرَ فِيمَا قَبْلَهُ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِصَّتِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنْ أَمْرِ اللهِ، وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَأْخُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَتَتَّبِعُوا أَحْسَنَهُ كُنْتُمْ فَاسْقِينَ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ، فَيَحِلُّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِالْفَاسِقِينَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أَنْجَاكُمُ اللهُ مِنْهُمْ وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.
166
وَسَيُرِيكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ بَعْدَكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، أَوِ الْفَاسِقِينَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَالْمُبَارَكَةِ الَّتِي وَعَدَكُمْ إِيَّاهَا، وَسَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكُمْ لَهُ وَأَخْذِكُمْ مِيثَاقَهُ بِقُوَّةٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: أَيْ سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي كَيْفَ يَصِيرُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالتَّبَابِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: سَأُرِيكَ غَدًا مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَنِي - عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، ثُمَّ نَقَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ - أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - وَأُعْطِيكُمْ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: مَنَازِلُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ التِّيهَ، وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ، وَمِنْ مَبَاحِثِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ أَنَّ كَلِمَةَ (سَأُرِيكُمْ) زِيدَ فِيهَا وَاوٌ قَبْلَ الرَّاءِ لِئَلَّا تُشْتَبَهُ بِـ " سَأَرَاكُمْ " إِذْ كَانُوا يَرْسُمُونَهَا بِالْيَاءِ غَيْرَ مَنْقُوطَةٍ، فَالْمُرَادُ بِهَا ضَبْطُ الْكَلِمَةِ كَالضَّمَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَالْعِبْرَةُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا وَيَتَدَبَّرَهَا كُلُّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ يَجِبُ أَخْذُهُ بِقُوَّةٍ وَإِرَادَةٍ وَجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ؛ لِتَنْفِيذِ مَا هَدَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَتَكْوِينِ الْأُمَّةِ تَكْوِينًا جَدِيدًا صَالِحًا، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ
الْمُبَلِّغِ لَهُ، وَالدَّاعِي إِلَيْهِ وَالْمُنَفِّذِ لَهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، لِيَكُونَ لِقَوْمِهِ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي سَائِرِ الِانْقِلَابَاتِ وَالتَّجْدِيدَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَالدِّينُ أَحْوَجُ إِلَى الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَخْذِ الْكِتَابِ أَوْ مِيثَاقِ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ، أَمْرًا مَقْرُونًا بِتَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ وُقُوعِ جَبَلِ الطُّورِ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٦٣ و٩٣) وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَقَدْ أَخَذَ سَلَفُنَا الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَ لَهَا مِنَ الْقُوَى الْعَدَدِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالنِّظَامِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا سَادُوا بِالْعَمَلِ بِهِدَايَتِهِ كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - لَا بِالتَّغَنِّي بِقِرَاءَتِهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَلَا بِالتَّبَرُّكِ الْمَحْضِ بِالْمُصْحَفِ، كَمَا يَفْعَلُ مُقَلِّدَةُ الْخَلَفِ الصَّالِحِ، إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ فَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَا يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فَيَشْقَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَهَجْرِ هِدَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢: ٢٦و٢٧).
(ثَانِيهَا) أَنَّ سَبَبَ تَخْوِيفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الْمِيثَاقَ الْإِلَهِيَّ بِوِقٌوعِ الْجَبَلِ بِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ بِأَخْذِهَا بِقُوَّةٍ شَاقَّةٍ حَرِجَةٍ، وَحِكْمَةُ مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذِلِّينَ بِاسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ مُنْذُ أَجْيَالٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْقَوْمُ أَوِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ وُعِدُوا بِأَنْ يَغْلِبُوهُمْ
167
عَلَى بِلَادِهِمْ جَبَّارِينَ أُولِي قُوَّةٍ وَأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْبَشَرِ أَنْ تَتَرَبَّى أَفْرَادُهُمْ وَشُعُوبُهُمْ بِالشِّدَّةِ وَالِارْتِيَاضِ بِالصَّبْرِ، وَالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي طَرِيقِ التِّيهِ وَهُوَ الْجَنُوبِيُّ مِنْ بَرِّيَّةِ سَيْنَاءَ دُونَ الطَّرِيقِ الشَّمَالِيِّ الْقَرِيبِ مِنْ مُدُنِ فِلَسْطِينَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةً بِقِتَالِ جَبَّارِي الْكَنْعَانِيِّينَ وَقْتَئِذٍ، فَكَتَبَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمُ التِّيهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَلَكَ فِي أَثْنَائِهَا الَّذِينَ اسْتَذَلَّهُمُ الْمِصْرِيُّونَ، وَنَشَأَ مِنْ صِغَارِهِمْ وَمَوَالِيدِهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ تَرَبَّى فِي حَجْرِ الشَّرْعِ الْجَدِيدِ، وَالتِّيهِ الشَّدِيدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ
الْمَائِدَةِ (ص ٢٧٤ - ٢٧٩ ج٦ تَفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ).
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ قَدْ عَظُمَ مُلْكُهُمْ بِإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِمْ بِقُوَّةٍ، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْغُرُورُ عَلَى الْعَمَلِ، وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ يَنْصُرُهُمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ لِنَسَبِهِمْ وَلَقَبِهِمْ وَهُوَ " شَعْبُ اللهِ " فَسَقُوا وَظَلَمُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ بِهِمُ الْبَلَاءَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْبَابِلِيِّينَ الْأَقْوِيَاءَ، فَثَلُّوا عَرْشَهُمْ وَتَبَّرُوا مُلْكَهُمْ، ثُمَّ ثَابُوا إِلِى رُشْدِهِمْ، فَرَحِمَهُمُ اللهُ، وَأَعَادَ لَهُمْ بَعْضَ مُلْكِهِمْ وَعِزِّهِمْ، ثُمَّ ظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى فَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَظَلُّوا عِدَّةَ قُرُونٍ مُتَّكِلِينَ عَلَى الْمَسِيحِ الْمَوْعُودِ لِيُعِيدَ لَهُمْ مُلْكَهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، ثُمَّ رَبَّتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَنَوَّرَهُمُ الْعِلْمُ الْعَصْرِيُّ فَطَفِقُوا يَسْتَعِدُّونَ لِاسْتِعَادَةِ هَذَا الْمُلْكِ بِكُلِّ مَا فِي الْإِمْكَانِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الْمَالُ وَالنِّظَامُ وَالْكَيْدُ وَالدَّهَاءُ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى انْتَهَى بِهِمُ السَّعْيُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بِمَا فَصَّلْنَاهُ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَوْرَثَنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (٧: ١٣٧).
(رَابِعُهَا) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ وَسُنَنَ النَّصَارَى شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فِي الضُّرِّ دُونَ النَّفْعِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - قَدِ اغْتَرُّوا بِدِينِهِمْ كَمَا اغْتَرُّوا، وَاتَّكَلُوا عَلَى لَقَبِ " الْإِسْلَامِ " وَلَقَبِ " أُمَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا يَثُوبُوا إِلَى رُشْدِهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ سَلَبُوا مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ لَمْ يَسُوسُوهُمْ بِشِدَّةٍ مُرِيبَةٍ كَافِيَةٍ، بِلِ اجْتَهَدُوا فِي إِفْسَادِ عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَإِيقَاعِ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، بَلْ أَفْسَدُوا كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسْتَوْلُوا عَلَى مُلْكِهِمْ مِنْهُمْ، بِتَوَلِّيهِمِ التَّرْبِيَةَ وَالتَّعْلِيمَ لِكَثِيرِينَ مِنْهُمْ، كَانُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَ مِنْ ثَلِّ عُرُوشِهِمْ، وَالسِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالتَّدْرِيجِ كَالْعُثْمَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ - كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى - وَلَا يَزَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجُونَ الْمُخَرِّبُونَ يَجِدُّونَ فِي قَتْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُجَدِّدُونَ، وَيُفْسِدُونَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُصْلِحُونَ أَلَّا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (٢: ١٢).
168
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ انْتَهَى بِالْآيَةِ قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ اسْتِئْنَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا، بَيَّنَ اللهُ فِيهِ بِخَاتَمِ رُسُلِهِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا سُنَنَهُ فِي ضَلَالِ الْبَشَرِ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْغَابِرِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَيَنْطَبِقُ عَلَى رُؤَسَاءِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ الْمُعَانِدِينَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ جَزَاءَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، قَالَ:
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الْبَشَرِ لِدُعَاةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مِنَ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ، وَسَبَبُهُ الْأَوَّلُ الْكِبْرُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْكِبْرِ أَنْ يَصْرِفَ أَهْلَهُ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى لِأَجْلِ اتِّبَاعِهِ، فَهُمْ يَكُونُونَ دَائِمًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ الْغَافِلِينَ عَنْهَا، وَتِلْكَ حَالُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الضَّالِّينَ كَفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَامَّةً مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِإِعْلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الطَّاغِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ مَشْيَخَةِ قَوْمِهِ لَنْ يَنْظُرُوا فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا، وَالدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا أَقَامَتْهُ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينُ الْكَثِيرَةُ، وَلَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا أَيَّدَهُ وَيُؤَيِّدُهُ بِهِ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، لِتَكَبُّرِهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْبَاطِلِ، فَوُجْهَةِ نَظَرِهِمْ تَنْحَصِرُ فِي تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ سَادَةُ قُرَيْشٍ وَكُبَرَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا وَأَقْوِيَاؤُهَا، فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ سِنًّا وَقُوَّةً وَثَرْوَةً وَعَصَبِيَّةً، وَالْمَعْنَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنْ قَوَّمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا صَرَفْتُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ عَنْ آيَاتِي
الَّتِي آتَيْتُهَا رَسُولِي
169
مُوسَى - وَالتَّكَبُّرُ صِيغَةُ تَكَلُّفٍ أَوْ تَكَثُّرٍ مِنَ الْكِبْرِ الَّذِي هُوَ غَمْطُ الْحَقِّ بِعَدَمِ الْخُضُوعِ لَهُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَهُوَ شَأْنُ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَخْضَعَ لِحَقٍّ، أَوْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِشَخْصٍ، وَالْأَصْلُ الْغَالِبُ فِي التَّكَبُّرِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ إِعْلَاءَ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ إِكْثَارَهُ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ كَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْمُبْطِلِينَ، وَإِهَانَةِ الْجَبَّارِينَ، وَاحْتِقَارِ الْمُحَارِبِينَ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِغَيْرِ الْحَقِّ يَكُونُ عَلَى هَذَا صِلَةً لِلتَّكَبُّرِ، وَهُوَ قَيْدٌ لَهُ، وَإِلَّا كَانَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَكَبَّرُونَ حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَلَبِّسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ مُنْغَمِسِينَ فِي الْبَاطِلِ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا قِيمَةَ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَهُمْ، فَهُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْهُ، وَقَدْ تَظْهَرُ لَهُمْ آيَاتُهُ وَيَجْحَدُونَهَا وَهُمْ بِهَا مُوقِنُونَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي آلِ فِرْعَوْنَ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (٢٧: ١٤) وَقَالَ فِي طُغَاةِ قُرَيْشٍ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦: ٣٣).
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا هَذَا إِمَّا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ (سَأَصْرِفُ) أَيْ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي الْمُنَزَّلَةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فَيَنْصَرِفُونَ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا - وَإِمَّا عَطْفٌ عَلَى (يَتَكَبَّرُونَ) فَيَكُونُ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ بَيَانًا لِصِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ وَتُثْبِتُ وُجُودَهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْآيَاتِ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَأَفْرَادِهَا إِنَّمَا تُفِيدُ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ جَاهِلٌ أَوْ شَاكٌّ أَوْ سَيِّءُ الْفَهْمِ، فَإِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ بَعْضِهَا فَقَدْ تَظْهَرُ لَهُ دَلَالَةُ غَيْرِهِ، وَفِي هَذَا إِعْلَامٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ التَّعْجِيزَ، لَا اسْتِبَانَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، فَهُمْ إِنْ أُجِيبُوا إِلَى طَلَبِهِمْ لَا يُؤَمِنُونَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا.
وَإِنْ يَرَوْا سَيَبُلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا الرُّشْدُ: الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَضِدَّهُ الْغَيُّ؛ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ لُغَاتٍ: ضَمُّ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ ثَانِيهِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هُنَا - وَفَتْحُهُمَا؛ وَبِهَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ - وَالرَّشَادُ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ - غَافِرٍ - حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٤٠: ٢٩) وَمِثْلُهَا السُّقْمُ وَالسَّقَمُ وَالسِّقَامُ - الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ صِفَةٍ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَرَنُوا عَلَى الضَّلَالِ
وَاسْتَمْرَءُوا مَرْعَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، أَنْ يَنْفِرُوا مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُهُمْ سَبِيلَهُ وَاضِحَةً جَلِيَّةً لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ، جَعَلَهَا سَبِيلًا لَهُ بِإِيثَارِهَا وَتَفْضِيلِهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْغَيِّ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْلُكُ الْغَيَّ عَلَى جَهْلٍ، فَإِذَا عَلِمَ بِمَا تَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَرَأَى لِنَفْسِهِ مَخْرَجًا مِنْهَا، تَرَكَهَا وَاخْتَارَ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَلَيْهَا.
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَرٌّ مِمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ هَذِهِ إِيجَابِيَّةٌ وَتِلْكَ
170
سِلْبِيَّةٌ، وَبَيْنَهُمَا حَالٌ أُخْرَى وَهِيَ حَالُ مَنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ وَزَكَاءِ النَّفْسِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى سُلُوكِ الرُّشْدِ إِذَا رَآهُ لِضَعْفِ هِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَكْرَهُ الْغَيَّ وَالْفَسَادَ وَإِذَا لَمْ يَصِلْ مِنِ اعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ وَظُلْمَةِ الْبَصِيرَةِ إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى الرُّشْدِ، وَإِيثَارِ سَبِيلِهِ وَاخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهِ إِذَا رَآهَا، بِحَيْثُ لَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْفَسَادِ إِلَّا جَهْلُ سَبِيلِهِ أَوِ الْعَجْزُ عَنْ سُلُوكِهَا.
فَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ أَوِ الصِّفَاتُ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ يَسْلُكُهَا، وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ يَعْنِي أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَخْلُقْهُمْ مَطْبُوعِينَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ طَبْعًا، وَلَمْ يَجْبُرْهُمْ وَيُكْرِهْهُمْ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ لِلتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الرُّشْدِ، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا دُونَ أَهْوَائِهِمْ لَا يُعْطُونَهَا حَقَّهَا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ، لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَهْوَائِهِمْ وَعُصْبَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِآبَائِهِمْ، وَبِذَلِكَ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْهُدَى، فَالْغَفْلَةُ هُنَا: هِيَ الْغَفْلَةُ الْمَطْبُوعَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالْفِطْنَةِ، لَا أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَفْلَةِ، بَلْ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
الضَّالُّونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْغَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمَا تَهْدِي إِلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى الْبَاقِيَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى - فِي وَصْفِهِمْ: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٤: ٣) وَيَقُولُ: قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (٤: ١٦٧) إِذْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَالْغُرُورِ بِهِ، وَاحْتِقَارِهِمْ مَا سِوَاهُ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْ تَوْجِيهِ عُقُولِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ،
وَمِنْهُمْ مُتَفَرْنِجَةُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، يَحْتَقِرُونَ هِدَايَةَ الدِّينِ الرُّوحِيَّةِ، وَلَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْعَظِيمِ فِي تَهْذِيبِ النَّفْسِ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ، وَصَدِّهَا عَنِ الشُّرُورِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ وَأَضَلَّهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَصْرٍ وَصَلَ فِيهِ الْغَرْبِيُّونَ إِلَى غَايَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ عَاشَ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُمْ عَبْدًا لِشَهَوَاتِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَلُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا يَتَّبِعُوا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَقُوَّتِهَا وَصِنَاعَاتِهَا وَفُنُونِهَا مَا كَانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٥٩: ٢).
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟ الْآيَاتِ، فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ بِمَعْنَى الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ مِنْ بَرَاهِينَ عَقْلِيَّةٍ
171
نَظَرِيَّةً كَانَتْ أَوْ عِلْمِيَّةً أَوْ كَوْنِيَّةً، كَآيَاتِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَمِنْهَا مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَظْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا؛ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ دَالٌّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهَا الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَمُنْكِرَاتِ الْأَعْمَالِ، وَاللِّقِاءُ مَصْدَرُ لَقِيَ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ، وَلَاقَاهُ كَالْمُلَاقَاةِ إِذَا صَادَفَهُ أَوْ قَابَلَهُ أَوِ انْتَهَى إِلَيْهِ، يُقَالُ: لَقِيَ زَيَدًا وَلَاقَاهُ وَلَقِيَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا لِقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصْبًا (١٨: ٦٢) وَمَنْ يُلْقِ خَيْرًا يَحْمِدِ النَّاسُ أَمَرَهُ، وَلَقِيَ جَزَاءَهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَمُلَاقَاةُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِبَارَةٌ عَنِ الْقِيَامَةِ وَعَنِ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ (٢: ٢٢٣) قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ (٢: ٢٤٩).
وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ بِالْحَقِّ وَالْهُدَى عَلَى رُسُلِنَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ وَلَا اهْتَدَوْا بِهَا، وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ - عَلَى الْخَيْرِ بِالثَّوَابِ، وَعَلَى الشَّرِّ بِالْعِقَابِ - فَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، لَا يُجْزَوْنَ هُنَالِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مَعًا أَوِ النَّفْسِيَّةِ فَقَطْ (كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ) فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقٍّ وَخَيْرٍ زَكَّاهَا وَأَصْلَحَهَا، أَوْ مِنْ بَاطِلٍ وَشَرٍّ دَسَّاهَا وَأَفْسَدَهَا - إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ فِي الْجَزَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنَّمَا مَضَّتْ سُنَّتُهُ بِجَعْلِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا لِلْعَمَلِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، كَأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا " تُرَاجَعْ كَلِمَةُ جَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ ".
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
172
(قِصَّةُ اتِّخَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْعِجْلِ)
فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَبَلِ الطُّورِ، اتَّخَذَ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِجْلًا مَصُوغًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَبَدُوهُ مَنْ دُونِ اللهِ - تَعَالَى -، لَمَّا كَانَ رُسِخَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ فَخَامَةِ مَظَاهِرِ الْوَثَنِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ فِي مِصْرَ، ذُكِرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ هُنَا مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ خَبَرِ الْمُنَاجَاةِ وَأَلْوَاحِ الشَّرِيعَةِ لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ الْعَلَاقَةِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الزَّمَنِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ الْحُلِيُّ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ جَمْعِ حَلْيٍ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ فَهُوَ كَثُدِيٍّ جَمْعًا لِثَدْيٍ، وَهَذَا الْحُلِيُّ اسْتَعَارَهُ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ نِسَاءِ الْمِصْرِيِّينَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فَمَلَكُوهُ بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْعِرَابِ أَوِ الْجَوَامِيسِ، فَهُوَ كَالْحُوَارِ لِوَلَدِ النَّاقَةِ، وَالْمُهْرِ لِوَلَدِ الْفَرَسِ، وَالْحَمَلِ لِوَلَدِ الشَّاةِ، وَالْجَدْيِ لِوَلَدِ الْعَنْزِ، إِلَخْ، وَالْجَسَدُ الْجُثَّةُ وَبَدَنُ الْإِنْسَانِ حَقِيقَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا، وَالْأَحْمَرُ كَالذَّهَبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالدَّمِ الْجَافِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْجَسَدُ جِسْمُ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمُتَغَذِّيَةِ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ الْإِنْسَانِ جَسَدٌ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَالْجَسَدُ: الْبَدَنُ، نَقُولُ مِنْهُ تَجَسَّدَ كَمَا تَقُولُ مِنَ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ. ابْنُ سِيدَهْ: وَقَدْ يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ جَسَدٌ. غَيْرُهُ: وَكُلُّ خَلْقٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَعْقِلُ فَهُوَ جَسَدٌ. وَكَانَ عِجْلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَسَدًا يَصِيحُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَكَذَا طَبِيعَةُ الْجِنِّ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ (٢٠: ٨٨) " جَسَدًا " بَدَلٌ مِنْ عِجْلٍ؛ لِأَنَّ الْعِجْلَ هُنَا هُوَ الْجَسَدُ، وَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتَهُ عَلَى الْحَذْفِ؛ أَيْ: ذَا جَسَدٍ، وَقَوْلُهُ: لَهُ خُوَارٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ رَاجِعَةً إِلَى الْعِجْلِ، وَأَنْ
تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْجَسَدِ، وَجَمْعُهُ أَجْسَادٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: عِجْلًا جَسَدًا قَالَ: أَحْمَرُ مَنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الْجَسَدُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ إِنَّمَا مَعْنَى الْجَسَدِ مَعْنَى الْجُثَّةِ فَقَطْ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ (٢١: ٨) قَالَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ يَعْنِي عَلَى جَمَاعَةٍ، قَالَ وَمَعْنَاهُ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَجْسَادٍ إِلَّا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ (٢٥: ٧) فَأُعْلِمُوا أَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، الْمُبِرِّدُ وَثَعْلَبٌ: الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ كَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا، (قَالَا) وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا، (قَالَا) وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: مَا سَمِعْتُ مِنْكَ، وَمَا أَقْبَلُ مِنْكَ مَعْنَاهُ إِنَّمَا سَمِعْتُ مِنْكَ لِأَقْبَلُ مِنْكَ (قَالَا) : وَإِنْ كَانَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ الْكَلَامُ مَجْحُودًا جَحْدًا حَقِيقِيًّا (قَالَا) وَهُوَ كَقَوْلِكَ: مَا زِيدٌ بِخَارِجٍ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَ اللَّيْثُ قَوْلَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ كَالْمَلَائِكَةِ، (قَالَ) وَهُوَ غَلَطٌ، وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ، كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ (قَالَ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْأَجْسَادِ
173
يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَلَيْسُوا جَسَدًا فَإِنَّ ذَوِي الْأَجْسَادِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ. انْتَهَى، وَقَوْلُهُمْ: مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ؛ أَيِ: الْإِثْبَاتُ.
وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ، وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ كَأَمْثَالِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ: رُغَاءُ الْإِبِلِ، وَثُغَاءُ الْغَنَمِ، وَيُعَارُ الْمَعْزِ، وَمُوَاءُ الْهِرِّ، وَنُبَاحُ الْكَلْبِ.. إِلَخْ.
وَعُلِمَ مِنَ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَه أَنَّ السَّامِرِيَّ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُمْ مَا حَمَلُوهُ مِنْ أَوْزَارِ زِينَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَأَلْقَاهَا فِي النَّارِ فَصَاغَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا؛ أَيْ: تِمْثَالًا لَهُ صُورَةُ الْعِجْلِ وَبَدَنُهُ وَصَوْتُهُ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ذَلِكَ هُنَا إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ رَأْيُ جُمْهُورِهِمُ الَّذِينَ طَلَبُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ الْعِجْلِ هَلْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوَارٌ أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيُصَوِّتُ كَالْبَقَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
رُوِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ خَارَ خَوْرَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُثَنِّ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَلَّتْ فِيهِ الْحَيَاةُ؛ عَلِّلُوهُ بِأَنَّ السَّامِرِيَّ رَأَى جِبْرِيلَ حِينَ جَاوَزَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَفِي وَرَايَةٍ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَى مُوسَى (- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) رَاكِبًا فَرَسًا مَا وَطِئَ بِهَا أَرْضًا إِلَّا حَلَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ وَاخْضَرَّ النَّبَاتُ، فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِهَا قَبْضَةً فَنَبَذَهَا فِي جَوْفِ
تِمْثَالِ الْعِجْلِ فَصَارَ حَيًّا لَهُ خُوَارٌ، وَفَسَّرُوا بِهَذَا مَا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي سُورَةِ طَه وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ خُوَارَهُ كَانَ بِتَأْثِيرِ دُخُولِ الرِّيحِ فِي جَوْفِهِ وَخُرُوجِهَا مِنْ فِيهِ، كَقَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَيًّا، وَالرِّوَايَاتُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ وَقَفَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فَلَمْ يُرَجِّحْ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَه رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فِيهَا ضَرْبٌ مِنَ الْكَذِبِ وَالضَّلَالَاتِ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ طَه إِنْ شَاءَ اللهُ وَقُدِّرَ لَنَا الْحَيَاةُ.
قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ ضَلَالَتِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى جَهَالَتِهِمْ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟ أَيْ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ فَاقِدٌ لِمَا يُعْرَفُ بِهِ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَخَاصَّةً مَا لَهُ مَنْ حَقِّ الْعِبَادَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا يُكَلِّمُ بِهِ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَيُعَلِّمُهُ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفُوهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَسَبِيلِ عِبَادَتِهِ كَمَا يُكَلِّمُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَسُولَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَهْدِيهِ سَبِيلَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَقُومُ بِهَا مَصَالِحُهُمْ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ الْإِلَهِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا، وَأَنْ يُكَلِّمَ عِبَادَهُ، وَيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ بِاخْتِصَاصِهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَإِعْدَادِهِ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ، وَتَلَقِّي وَحْيِهِ، وَتَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ، وَفِي سُورَةِ طَه: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يُرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٢٠: ٨٩)
فَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ: هِدَايَةُ الْوَحْيِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ الْإِلَهِ هِدَايَةُ الْإِرْشَادِ الَّتِي مَرْجَعُهَا صِفَةُ الْكَلَامِ، وَلَا الضَّرُّ وَالنَّفْعُ اللَّذَيْنِ هُمَا مُتَعَلِّقُ صِفَتَيِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
174
اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ أَيِ: اتَّخَذُوهُ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَلَا يَهْدِيهِمْ لِمَا فِيهِ رَشَادُهُمْ، وَلَا يَمْلِكُ دَفْعَ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَلَا إِسْدَاءَ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ؛ أَيْ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُ عَنْ دَلِيلٍ وَلَا شِبْهِ دَلِيلٍ، بَلْ عَنْ تَقْلِيدٍ لِمَا رَأَوْا عَلَيْهِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ " أَبِيسَ " مِنْ قَبْلُ، وَلِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْعَاكِفِينَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ بَعْدُ، وَكَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِهَذَا الِاتِّخَاذِ الْجَهْلِيِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بِشَيْءٍ.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ يُقَالُ: سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ - بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - وَكَذَا بِفَتْحِ أَوَّلِ الثُّلَاثِيِّ عَلَى قِلَّةٍ فِي اللُّغَةِ،
وَشُذُوذٍ فِي الْقِرَاءَةِ - أَيْ: نَدِمَ، وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ مَسْقُوطٌ فِي يَدِهِ، وَسَاقِطٌ فِي يَدِهِ أَيْ: نَادِمٌ - كَمَا فِي الْأَسَاسِ - وَلَكِنَّهُ فَسَّرَهُ فِي الْكَشَّافِ بِشِدَّةِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَفِي اللِّسَانِ: وَسُقِطَ فِي يَدِ الرَّجُلِ: زَلَّ وَأَخْطَأَ، وَقِيلَ: نَدِمَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ النَّادِمِ عَلَى مَا فَعَلَ الْحَسِرِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ وَأُسْقِطَ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ الْفَارِسِيُّ: ضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمْ عَلَى أَكُفِّهِمْ مِنَ النَّدَمِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ إِذًا مِنَ السُّقُوطِ، وَقَدْ قُرِئَ " سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ " كَأَنَّهُ أَضْمَرَ النَّدَمَ؛ أَيْ: سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يَحْصُلُ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْيَدِ: قَدْ حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ هَذَا مَكْرُوهٌ، فَشَبَّهَ مَا يَصِلُ فِي الْقَلْبِ وَفِي النَّفْسِ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْيَدِ، وَيُرَى بِالْعَيْنِ اهـ. زَادَ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَخُصَّتِ الْيَدُ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأُمُورِ بِهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ (٢٢: ١٠) أَوْ لِأَنَّ النَّدَمَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي الْقَلْبِ فِي الْيَدِ بَعَضِّهَا، وَالضَّرْبِ بِهَا عَلَى أُخْتِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي النَّادِمِ: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ (١٨: ٤٢)، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ (٢٥: ٢٧) وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ، وَفِي الْعُبَابِ: هَذَا نَظْمٌ لَمْ يُسْمَعْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا عَرَفَتْهُ الْعَرَبُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ نُزُولُ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَوُقُوعُهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ لِلْخَطَأِ مِنَ الْكَلَامِ سَقْطٌ؛ لِأَنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِمَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَسْقُطُ، وَذَكَرَ الْيَدَ؛ لِأَنَّ النَّدَمَ يَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْيَدِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَلِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْجَارِحَةُ الْعُظْمَى، فَرُبَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهَا مَا لَمْ تُبَاشِرْهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ اهـ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ نَدَمُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أَيْ: وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوْ تَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالُهُمْ بِهِ، وَتَحَقَّقَ بِمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ مُوسَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ رَأَوْهُ رَأْيَ الْعَيْنِ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا أَيْ: أَقْسَمُوا إِنَّهُ لَا يَسَعُهُمْ بَعْدَ هَذَا الذَّنْبِ إِلَّا رَحْمَةُ رَبِّهِمُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قَائِلِينَ: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا بِقَبُولِ تَوْبَتِنَا وَالتَّجَاوُزِ عَنْ جَرِيمَتِنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا؛ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ، وَلِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ؛ وَهِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ.
175
وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْغَوَّاصِينَ عَلَى نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي تَقْدِيمِ النَّدَمِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَبَيُّنِ الضَّلَالَةِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْدَمَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ مَا مَعْنَاهُ مُوَضِّحًا: إِنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَوِ الْأَمْرَ
حَقٌّ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْجَزْمِ بِضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ لَا يَكُونُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي الْأَغْلَبِ، بَلِ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْجَزْمِ بِصِحَّتِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الشَّكِّ فِيهَا ثُمَّ إِلَى الظَّنِّ بِالضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ، ثُمَّ إِلَى الْجَزْمِ بِهِ، ثُمَّ إِلَى تَبَيُّنِهِ وَالْيَقِينِ فِيهِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ صَوَابٌ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ رُبَّمَا وَقَعَ لَهُمْ حَالَ الشَّكِّ فِيهِ، فَيَكُونُ تَبَيُّنُ الضَّلَالِ مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّدَمِ اهـ.
وَأَقُولُ: جَاءَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ الْمُفَصَّلِ مِنْ سُورَةِ طَه أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَارُونُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَذَكَّرَهُمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلرَّبِّ وَحْدَهُ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٢٠: ٩١) فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَأَنَّبَ هَارُونَ (قَالَ) فِيمَا قَالَهُ لَهُ: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٢٠: ٩٢، ٩٣) لَكَ (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٧: ١٤٢) فَعِنْدَ تَصْرِيحِ مُوسَى بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا، وَرُؤْيَتِهِمْ مَا كَانَ مِنْ غَضَبِهِ وَإِلْقَائِهِ بِالْأَلْوَاحِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ هَارُونَ وَلِحْيَتِهِ وَجَرِّهِ إِلَيْهِ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّدَمُ عَنْ تَقْلِيدٍ وَطَاعَةٍ لِمُوسَى لَا عَنْ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ ضَلَالٌ، فَالرَّاجِحُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَدْ حَصَلَ بَعْدَ تَحْرِيقِ مُوسَى لِلْعِجْلِ، وَنَسْفِهِ فِي الْيَمِّ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَمِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ مَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ بِزَمَانٍ وَلَا رُتْبَةٍ أَنْ يُقَدَّمَ فِي سَرْدِهِ وَفِي نَسَقِهِ الْأَهَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُ النَّدَمِ هُنَا لِسَبْقِهِ فِي الزَّمَنِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِشْعَارِهِمُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ عَلَى نَدَمِهِمْ وَتَوْبَتِهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا مَحْوُ الذَّنْبِ وَتَرْكُ الْعِقَابِ، وَعَلَى كَوْنِهِمْ صَارُوا عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِبُطْلَانِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوُجُوبِ تَخْصِيصِ الرَّبِّ بِالْعِبَادَةِ - قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالضَّلَالِ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ إِلَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ؛ وَهُوَ التَّوْبَةُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْعَمَلِ، فَإِنَّ الَّذِينَ ضَلُّوا عَلَى عِلْمٍ وَلَمْ يَتُوبُوا؛ أَشَدُّ النَّاسِ عِقَابًا - فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ النَّدَمِ أَهَمُّ مِنَ الْعِلْمِ بِالضَّلَالِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ الَّذِي لَمْ نَرَهُ لِأَحَدٍ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهُ وَجْهُ تَقْدِيمِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَنَّهَا سَبَبُهَا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ لَا يَكْفِيَانِ لِلْمَغْفِرَةِ بِدُونِهَا، وَلَا غَرْوَ فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ " قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ " وَأَمْثَلُ الْأَجْوِبَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثْرَةُ الصَّرِيحَةُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ أَنَّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ عَمَلَ أَيُّ عَامِلٍ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ لِذَاتِهِ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْكَامِلِ الدَّائِمِ، بَلْ لَا يَفِي عَمَلُ أَحَدٍ بِبَعْضِ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالرَّحْمَةِ وَاقْتِسَامَهَا بِالْأَعْمَالِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّ مِنْهَا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦: ٣٢).
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
177
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ مَادَّةِ " أس ف " مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْأَسَفَ شِدَّةُ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ، وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَشْتَرِطُونَ شِدَّتَهُمَا، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: أَسِفَ أَسَفًا مِنْ بَابِ تَعِبَ وَحَزِنَ وَتَلَهَّفَ فَهُوَ أَسِفَ مِثْلَ تَعِبَ، وَأَسِفَ مِثْلَ غَضِبَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: آسَفْتُهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَفُ؛ الْحُزْنُ وَالْغَضَبُ مَعًا، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَحَقِيقَتُهُ: ثَوَرَانُ دَمِ الْقَلْبِ بِشَهْوَةِ الِانْتِقَامِ، فَمَتَى كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ دُونَهُ انْتَشَرَ فَصَارَ غَضَبًا، وَمَتَى كَانَ عَلَى مَنْ فَوْقِهِ انْقَبَضَ فَصَارَ حُزْنًا؛ وَلِذَلِكَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ، فَقَالَ: مَخْرَجَهُمَا وَاحِدٌ وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ، فَمَنْ نَازَعَ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ أَظْهَرَ غَيْظًا وَغَضَبًا، وَمَنْ نَازَعَ مَنْ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ أَظْهَرَ حُزْنًا وَجَزَعًا، وَبِهَذَا النَّظَرِ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَحُزْنُ كُلِّ أَخِي حُزْنٍ أَخُو الْغَضَبِ
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَسَفَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا هُوَ الْغَضْبَانُ فَهُوَ إِذًا مُتَرَادِفٌ، وَقَدْ فَاتَهُ هُنَا مَا نَعْهَدُ مِنْ تَحْقِيقِهِ لِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَصِحُّ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْحُزْنِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْحِقْدِ، وَإِنَّمَا الْحُزْنُ أَلَمُ النَّفْسِ بِفَقْدِ مَا تُحِبُّ مِنْ مَالٍ أَوْ أَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَهْوَةِ الِانْتِقَامِ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْأَسَفِ بِمَعْنَى الْحُزْنِ؛ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ (١٢: ٨٤) وَمِنْ شَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى الْغَضَبِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ (٤٣: ٥٥) وَلَا يُوصَفُ رَبُّنَا تَعَالَى بِالْحُزْنِ وَلَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَغَضَبُهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَغَضَبِ الْبَشَرِ أَلَمًا فِي النَّفْسِ، وَلَا أَثَرَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ، تَعَالَى رَبُّنَا عَنْ هَذِهِ الِانْفِعَالَاتِ وَالْآلَامِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ تَلِيقُ بِهِ هِيَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْغَضْبَانِ وَالْأَسِفِ فِي صِفَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَسَفَ بِمَعْنَى الْحُزْنِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى مِنَ الطُّورِ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ إِذْ رَأَى أَنَّهُ ضَعُفَ فِي سِيَاسَتِهِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فِي خِلَافَتِهِ فِيهِمْ، حَزِينًا عَلَى مَا وَقَعَ
مِنْهُمْ مِنْ كُفْرِ الشِّرْكِ، وَإِغْضَابِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: قَالَ بِئْسَمَا خَلَّفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَيْ: بِئْسَ خِلَافَةً خَلَفْتُمُونِيهَا مِنْ بَعْدِ ذَهَابِي عَنْكُمْ إِلَى مُنَاجَاةِ الرَّبِّ - تَعَالَى -، مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِي مَعَكُمْ أَنْ لَقَّنْتُكُمُ التَّوْحِيدَ، وَكَفَفْتُكُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَبَيَّنْتُ لَكُمْ فَسَادَهُ وَبُطْلَانَهُ وَسُوءَ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ؛ حَيْثُ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ تَمَاثِيلِ الْبَقَرِ - فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَخْلُفُونِي بِاقْتِفَاءِ سِيرَتِي، وَلَكِنَّكُمْ خَلَفْتُمُونِي بِضِدِّهَا، إِذْ صَنَعْتُمْ لَكُمْ صَنَمًا كَأَصْنَامِ أُولَئِكَ
178
الْقَوْمِ أَوْ كَأَحَدِ أَصْنَامِ الْمِصْرِيِّينَ فَعَبَدَهُ بَعْضُكُمْ، وَلَمْ يَرْدَعْكُمْ عَنْ ذَلِكَ سَائِرُكُمْ - فَالتَّوْبِيخُ عَامٌّ، وَفِيهِ تَعَرُّضٌ خَاصٌّ بِهَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَعَجِلَهُ سَبَقَهُ، وَأَعْجَلَهُ اسْتَعْجَلَهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أَيِ: اسْتَبَقْتُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ عَجِلْتُ الشَّيْءَ أَيْ: سَبَقْتُهُ وَأَعْجَلْتُهُ اسْتَحْثَثْتُهُ اهـ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: يُقَالُ عَجِلَ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا تَرَكَهُ غَيْرَ تَامٍّ، وَنَقِيضُهُ تَمَّ عَلَيْهِ، وَأَعْجَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَيُضَمَّنُ مَعْنًى سَبَقَ فَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، فَيُقَالُ: عَجِلْتُ الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى أَعَجِلْتُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ؛ وَهُوَ انْتِظَارُ مُوسَى حَافِظِينَ لِعَهْدِهِ، وَمَا وَصَّاكُمْ بِهِ، فَبَنَيْتُمُ الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْمِيعَادَ قَدْ بَلَغَ آخِرَهُ، وَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ فَحَدَّثْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِمَوْتِي فَغَيَّرْتُمْ كَمَا غَيَّرَتِ الْأُمَمُ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمْ حِينَ أَخْرَجَ لَهُمُ الْعِجْلَ وَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى (٢٠: ٨٨) : إِنَّ مُوسَى لَنْ يَرْجِعَ، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ اهـ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَوْلُهُ: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أَيِ: اسْتَعْجَلْتُمْ مَجِيئِي إِلَيْكُمْ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - اهـ، وَقَدْ نَقَلَ الْآلُوسِيُّ كَلَامَ الْكَشَّافِ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ كَعَادَةِ أَكْثَرِ الْمُؤَلِّفِينَ بَعْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ يَعْقُوبُ إِلَى أَنَّ السَّبْقَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ، وَالْأَمْرُ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَعَجِلْتُمْ وَعْدَ رَبِّكُمُ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنَ الْأَرْبَعِينَ؟ فَالْأَمْرُ عَلَيْهِ: وَاحِدُ الْأُمُورِ اهـ، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْبَعِينَ: مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَنَّهَا اللَّيَالِي الَّتِي وَعَدَ مُوسَى رَبَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أَيْ: وَطَرَحَ الْأَلْوَاحَ مِنْ يَدَيْهِ؛ لِيَأْخُذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ مِمَّا كَانَ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَسَفِهِ لِمَا فَعَلَ قَوْمُهُ
مِنَ الشِّرْكِ بِهِ، وَلِمَا ظَنَّ مِنْ تَقْصِيرِ أَخِيهِ، وَأَخَذَ بِشَعْرِ رَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ بِذُؤَابَتِهِ، إِذْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِ مُوسَى أَنْ يَرْدَعَهُمْ وَيَكُفَّهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِنْ قَدَرَ كَمَا فَعَلَ هُوَ بِتَحْرِيقِهِ، وَإِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ - وَأَنْ يَتَّبِعَهُ إِلَى جَبَلِ الطُّورِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي سُورَةِ طه قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٢٠: ٩٢ و٩٣) وَالِاجْتِهَادُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الْغَضَبِ لِلْحَقِّ بِالْحَقِّ كَمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْعُرُ بِمَا لَا يَشْعُرُ بِهِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحِلْمُ وَلِينُ الْعَرِيكَةِ كَهَارُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي إِلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ تَكَسُّرِ بَعْضِهَا هَلْ يَتَضَمَّنُ تَقْصِيرًا فِي تَعْظِيمِ كَلَامِ اللهِ؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ وَلَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ؟ بَلْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ فِي نَفْسِهِ إِهَانَةً لِلْأَلْوَاحِ فَوَجَبَ بَيَانُ الْمَخْرَجِ مِنْهُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْهَامِ: أَنَّ إِلْقَاءَ الْأَلْوَاحِ لَا يَقْتَضِي إِهَانَةً لَهَا، كَمَا أَنَّ إِلْقَاءَ الْعَصَا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى السَّحَرَةِ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَالْإِلْقَاءُ فِي نَفْسِهِ
179
لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لُغَةً وَلَا عَادَةً، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِقَصْدٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ هُنَا قَطْعًا - وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مَظَنَّةً لَهُ. فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا أَطَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَمَاذَا كَانَ جَوَابُ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ هُنَا، وَفِي سُورَةِ طه " ابْنَ أُمِّ " بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ، وَهِيَ تُطْرَحُ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَعَلَّلُوهَا بِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ، وَبِالتَّشْبِيهِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " ابْنَ أُمِّي " بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: قِيلَ: كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَإِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْأُمِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْعَطْفِ وَالرِّقَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً فَاعْتَدَّ بِنَسَبِهَا، وَلِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَاسَتْ فِيهِ الْمَخَاوِفَ وَالشَّدَائِدَ فَذَكَّرَهُ بِحَقِّهَا اهـ، وَهُوَ حَسَنٌ إِلَّا قَوْلَهُ فَاعْتَدَّ بِنَسَبِهَا فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَاسْمُ أُمِّهِمَا (يوكابد) بِنْتُ لَاوِي كَمَا فِي التَّوْرَاةِ عِنْدَهُمْ.
وَالْمَعْنَى: يَا ابْنَ أُمِّي لَا تَعْجَلْ بِمُؤَاخَذَتِي وَتَعْنِيفِي فَإِنَّنِي لَمْ آلُ جَهْدًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْقَوْمِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَضْعَفُونِي فَلَمْ يَرْعَوُوا لِنُصْحِي وَلَمْ يَمْثُلُوا أَمْرِي، بَلْ قَارَبُوا أَنْ يَقْتُلُونِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ: فَلَا تَفْعَلْ بِي مِنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالْإِهَانَةِ مَا يُشْمِتُ بِيَ الْأَعْدَاءَ، وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ تُلِزَّنِي بِهِمْ فِي قَرْنٍ مِنَ الْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فَلَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِالْأَعْدَاءِ وَالظَّالِمِينَ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دُونَ مُوسَى فِي قُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَشِدَّةِ الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَمَاذَا كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاسْتِعْطَافِ فِي قَلْبِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي أَيِ: اغْفِرْ لِي مَا أَغْلَظْتُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاغْفِرْ لَهُ مَا عَسَاهُ قَصَّرَ فِيهِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْقَوْمِ، لِمَا تَوَقَّعَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ حَتَّى الْقَتْلِ: وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بِجَعْلِهَا شَامِلَةً لَنَا، وَاجْعَلْنَا مَغْمُورِينَ فِيهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " وَارْحَمْنَا " وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَهَذَا ثَنَاءٌ؛ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الثِّقَةِ فِي الرَّجَاءِ، وَالدُّعَاءُ فِي جُمْلَتِهِ أَقْوَى فِي اسْتِعْتَابِ هَارُونَ مِنَ الِاعْتِذَارِ لَهُ، وَأَدَلُّ عَلَى تَخْيِيبِ أَمَلِ الْأَعْدَاءِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُثِيرُ حَفِيظَةَ الشَّمَاتَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ: لِيُرْضِيَ أَخَاهُ وَيُظْهِرَ لِأَهْلِ الشَّمَاتَةِ رِضَاهُ عَنْهُ - فَلَا تَتِمُّ لَهُمْ شَمَاتَتُهُمْ - وَاسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ إِلَى أَخِيهِ، وَلِأَخِيهِ أَنْ عَسَى فَرَّطَ فِي حُسْنِ الْخِلَافَةِ، وَطَلَبَ أَلَّا يَتَفَرَّقَا عَنْ رَحْمَتِهِ، وَلَا تَزَالُ مُنْتَظِمَةً لَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اهـ.
180
بَرَّأَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ جَرِيمَةِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَمِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مُتَّخِذِيهِ وَعَابِدِيهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هَيْمَنَ بِهَا عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَصَحَّحَ أَغْلَاطَ مُحَرِّفِيهَا، وَهُوَ يَحْثُو التُّرَابَ فِي أَفْوَاهِ الطَّاعِنِينَ فِيهِ، وَفِيمَنْ جَاءَ بِهِ (بَرَّأَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -) بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ أَخَذَ عَنِ التَّوْرَاةِ مَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُ
صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَعْدَى الْمُعَانِدِينَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٢٩: ٤٨)، وَقَوْلُهُ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (١١: ٤٩) وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ لَكَذَّبَهُ فِي هَذَا أُولَئِكَ الْجَاحِدُونَ وَالْمُعَانِدُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا، وَالْغَرَضُ هُنَا إِقَامَةُ حُجَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلَ عَنِ التَّوْرَاةِ لَوَافَقَهَا فِي كُلِّ مَا نَقَلَهُ، وَهُوَ قَدْ خَالَفَهَا فِي مَوَاضِعَ بِمَا جَعَلَهُ مُنَزِّلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُهَيْمِنًا وَرَقِيبًا عَلَيْهَا، وَمُصَحِّحًا لِأَهَمِّ مَا وَقَعَ مِنَ التَّحْرِيفِ فِيهَا، وَمِنْهُ تَبْرِئَةُ هَارُونَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ الَّتِي عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ فِيهَا، فَجَعَلَتْهُمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً كَجَعْلِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الصَّانِعُ لِلْعِجْلِ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ قَالَ: (١) وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا؛ لِأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لَا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ (٢) فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا (٣) فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي كَانَتْ فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ (٤) فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالْأَزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلًا مَسْبُوكًا فَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكِ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ (٥) فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: غَدًا عِيدٌ لِلْرَّبِّ (٦) فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحَرَّقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلَامَةٍ وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ (٧) فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: اذْهَبِ انْزِلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتُهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ (٨) زَاغُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتَهُمْ بِهِ صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلًا مَسْبُوكًا وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكِ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ ".
وَبَعْدَ هَذَا ذَكَرَ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لِمُوسَى: إِنَّ هَذَا الشَّعْبَ صَلْبُ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّ غَضَبَهُ
181
اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ لِيَفْتِنَهُمْ، وَأَنَّ مُوسَى اسْتَرْحَمَهُ أَلَّا يَفْعَلَ وَلَا يُشْمِتَ بِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَذَكَّرَهُ وَعْدَهُ سُبْحَانَهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِتَكْثِيرِ نَسْلِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ عَوْدَةِ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَمَا فَعَلَ، ثُمَّ قَالَ:
" ١٩ وَكَانَ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ إِلَى الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ أَبْصَرَ الْعِجْلَ وَالرَّقْصَ فَحَمِيَ غَضَبُ مُوسَى وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ ٢٠ ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِمًا وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَسَقَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ٢١ وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ مَاذَا صَنَعَ بِكَ هَذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ خَطِّيَّةً عَظِيمَةً ٢٢ فَقَالَ هَارُونُ لَا يَحْمَ غَضَبُ سَيِّدِي عَلَيَّ، أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّعْبَ إِنَّهُ فِي شَرٍّ ٢٣ فَقَالُوا لِيَ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا " إِلَخْ.
ثُمَّ ذَكَرَ طَلَبَ مُوسَى مِنَ الرَّبِّ أَنْ يَغْفِرَ لِقَوْمِهِ، وَأَمَرَ الرَّبُّ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ - وَأَنَّ بَنِي لَاوِي فَعَلُوا ذَلِكَ فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ مَا اسْتَحَقَّهُ الْقَوْمُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، قَفَّى بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مُوسَى مَعَ هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي أَمْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ ذَاكَ أَوْ قَرَأَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا، فَهُوَ إِذًا مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - يَوْمَئِذٍ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْمُرَادُ بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ فِيهِ: مَا اشْتَرَطَهُ تَعَالَى فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ عَوْدَةِ مُوسَى إِلَى مُنَاجَاتِهِ فِي الْجَبَلِ. وَالذِّلَّةُ؛ مَا يَشْعُرُونَ بِهِ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَظَنِّهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ بِرُؤْيَتِهِمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ فَيَحْتَقِرَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ خَاصَّةٌ بِالسَّامِرِيِّ، وَهِيَ
مَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْقَطِيعَةِ وَاجْتِنَابِ النَّاسِ بِقَوْلِ
182
مُوسَى لَهُ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ (٢٠: ٩٧) أَيْ: لَا أَمَسُّ أَحَدًا وَلَا يَمَسُّنِي أَحَدٌ.
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ إِذَا فُضِحُوا بِظُهُورِ افْتِرَائِهِمْ كَمَا فُضِحَ هَؤُلَاءِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ خَاصًّا بِافْتِرَاءِ الْبِدَعِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَطَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، وَهَكَذَا رَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ " وَكَذَلِكَ تَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " وَقَالَ: هِيَ وَاللهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ. إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ افْتِرَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي أَزْمِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى مَا قَيَّدْنَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَفَلَ لَهُمُ النَّصْرَ، أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَّةُ، وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ أَوْ دَارِ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ فَهِيَ كَظُلَّةٍ مِنَ الدُّخَانِ، أَوْ قَزَعَةٍ مِنَ السَّحَابِ تَحْدُثُ فِي حِنْدِسِ لَيْلَةٍ مُطْبِقَةِ السَّحَابِ، حَالِكَةِ الْإِهَابِ، لَا تَكَادُ تَظْهَرُ، فَيَكُونُ لِأَصْحَابِهَا احْتِقَارٌ يُذْكَرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ فِي الْقِصَّةِ خَاطَبَ اللهُ بِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ؛ لِإِنْذَارِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ مَا سَيَكُونُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ وَعَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ، وَوَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ وَكَوْنِهِمْ خَلَفًا لَهُمْ فِي افْتِرَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى اللهِ فِي عَهْدِ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. كَمَا عَيَّرَهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِقَتْلِ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَرَائِمِ سَلَفِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: الْمُرَادُ سَيَنَالُ أَوْلَادُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُرِيدَ بِالْغَضَبِ وَالذِّلَّةِ مَا أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، أَوْ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ اهـ. وَتَوْجِيهُنَا أَظْهَرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَحْدَهَا، وَيُرَادُ: سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ فِي الْآخِرَةِ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (٢: ٦١) اهـ، وَأَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَعَذَابُ الْآخِرَةِ مُقَدَّرٌ فِي الْكَلَامِ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الدُّنْيَا، عَلَى مَا عُلِمَ مِنِ اطِّرَادِهِ بِنُصُوصٍ أُخْرَى.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حُكْمِ مَنْ تَابَ وَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سَبَقَهَا هُوَ حُكْمُ
مَنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي ثُمَّ تَابُوا وَرَجَعُوا مِنْ بَعْدِهَا إِلَى اللهِ
183
تَعَالَى بِأَنْ رَجَعَ الْكَافِرُ عَنْ كُفْرِهِ وَتَرَكَهُ وَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَرَجَعَ الْعَاصِي عَنْ عِصْيَانِهِ، وَأَخْلَصَ الْإِيمَانَ وَزَكَّاهُ بِالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَغَفُورٌ لَهُمْ؛ أَيْ: لَسَتُورٌ عَلَيْهِمْ، مَحَّاءٌ لِمَا كَانَ مِنْهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ؛ أَيْ: مُنْعِمٌ عَلَيْهِمْ بِالْجَنَّةِ، هَكَذَا صَوَّرَ الْمَعْنَى فِي الْكَشَّافِ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مُتَّخِذُو الْعِجْلِ وَمَنْ عَدَاهُمْ، عَظَّمَ جِنَايَتَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ أَرْدَفَهَا تَعْظِيمَ رَحْمَتِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الذُّنُوبَ وَإِنْ جَلَّتْ وَعَظُمَتْ فَإِنَّ عَفْوَهُ وَكَرَمَهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ حِفْظِ الشَّرِيطَةِ وَهِيَ وُجُوبُ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَمَا وَرَاءَهُ طَمَعٌ فَارِغٌ، وَأَشْعَبِيَّةٌ بَارِدَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا حَازِمٌ اهـ.
وَأَقُولُ إِنَّ طَمَعَ أَكْثَرِ الْفُسَّاقِ بِالْمَغْفِرَةِ قَدْ ذَهَبَ بِحُرْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ قُلُوبِهِمْ حَتَّى اسْتَحَلَّ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَانُوا شَرًّا مِمَّنْ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ (٣: ٢٤) وَمَا طَمَعُهُمْ بِثَمَرَةِ إِيمَانٍ، بَلْ أَمَانِيَّ حُمْقٍ وَجَدَلٍ عَلَى أَطْرَافِ اللِّسَانِ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِيَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ثُمَّ قَصَّ تَعَالَى عَلَيْنَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى بَعْدَ غَضَبِهِ فَقَالَ:
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةً لِلَّذِينِ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ السُّكُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَرْكُ الْكَلَامِ فَهُوَ هُنَا مَجَازُ تَشْبِيهٍ أَوْ تَمْثِيلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْوِيرِ الْغَضَبِ بِشَخْصٍ ذِي قُوَّةٍ وَرِيَاسَةٍ يَأْمُرُ وَيَنْهَى فَيُطَاعُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَثَلٌ كَأَنَّ الْغَضَبَ كَانَ يُغْرِيهُ عَلَى مَا فَعَلَ وَيَقُولُ لَهُ: قُلْ لِقَوْمِكَ كَذَا، وَأَلْقِ الْأَلْوَاحَ، وَجُرَّ بِرَأْسِ أَخِيكَ إِلَيْكَ - فَتَرَكَ النُّطْقَ بِذَلِكَ وَقَطَعَ الْإِغْرَاءَ، (قَالَ) : وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كُلُّ ذِي طَبْعٍ سَلِيمٍ وَذَوْقٍ صَحِيحٍ إِلَّا لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ شُعَبِ الْبَلَاغَةِ، وَإِلَّا فَمَا لِقِرَاءَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ
" وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ " (وَهِيَ مِنَ الشَّوَاذِّ) لَا تَجِدُ النَّفْسُ عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْهِزَّةَ، وَطَرَفًا مِنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ اهـ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا سَكَنَ غَضَبُ مُوسَى بِاعْتِذَارِ أَخِيهِ، وَلَجَأَ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ يَدْعُو رَبَّهُ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمَا عَادَ إِلَى الْأَلْوَاحِ الَّتِي أَلْقَاهَا فَأَخَذَهَا، وَفِي نُسْخَتِهَا - أَيْ: مَا نُسِخَ وَكُتِبَ مِنْهَا فَهِيَ مِنَ النَّسْخِ كَالْخُطْبَةِ مِنَ الْخِطَابِ - هُدًى وَإِرْشَادٌ مِنَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِلَّذِينِ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ وَيَخْشَوْنَ عِقَابَهُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالِاسْتِعْدَادِ، أَوْ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا الِاخْتِيَارُ صِيغَةُ تَكَلُّفٍ مِنْ مَادَّةِ الْخَيْرِ كَالِانْتِقَاءِ مِنَ النِّقْيِّ - بِالْكَسْرِ - وَحَقِيقَتُهُ دُهْنُ الْعِظَامِ، وَمَجَازُهُ لُبَابُ كَلِّ شَيْءٍ، وَالِاصْطِفَاءُ مِنَ الصَّفْوِ - وَالِانْتِخَابُ مِنَ النَّخْبِ، وَأَصْلُهُ انْتِزَاعُ الصَّقْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ قَلْبَ الطَّائِرِ، ثُمَّ صَارَ يُقَالُ
185
لِكُلِّ مَنِ انْتَزَعَ لُبَّ الشَّيْءِ وَخِيَارِهِ: نَخَبَهُ وَانْتَخَبَهُ، وَتُطْلَقُ النُّخْبَةُ (بِالضَّمِّ مَعَ سُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا) عَلَى الْجَيِّدِ الْمُخْتَارِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا أَطْلَقُوا النَّخِبَ وَالنَّخِيبَ وَالْمُنْتَخَبَ عَلَى الْجَبَانِ الَّذِي لَا فُؤَادَ لَهُ، وَالْأَفِينُ الَّذِي لَا رَأْيَ لَهُ، كَأَنَّهُ انْتُزِعَ فُؤَادُهُ وَعَقْلُهُ بِالْفِعْلِ. وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: وَانْتَخَبَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ لِلْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَهُ اللهُ - تَعَالَى - لَهُ، وَدَعَاهُمْ لِلذَّهَابِ مَعَهُ إِلَى حَيْثُ يُنَاجِي رَبَّهُ مِنْ جَبَلِ الطُّورِ، فَالِاخْتِيَارُ يَكُونُ مِنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَشَيْءٍ مُخْتَارٍ مِنْهُ، فَيَتَعَدَّى لِلثَّانِي بِـ " مِنْ "، وَكَأَنَّ نُكْتَةَ حَذْفِ " مِنْ " الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ خِيَارَ قَوْمِهِ كُلَّهُمْ لَا طَائِفَةً مِنْهُمْ.
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَيْ: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ رَجْفَةُ الْجَبَلِ وَصُعِقُوا قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ إِنَّنِي أَتَمَنَّى لَوْ كَانَتْ سَبَقَتْ مَشِيئَتُكَ أَنْ تُهْلِكَهُمْ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِهِمْ مَعِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ فَأَهْلَكْتَهُمْ وَأَهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ، حَتَّى لَا أَقَعُ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُوا: قَدْ ذَهَبَ بِخِيَارِنَا لِإِهْلَاكِهِمْ - أَيْ: وَإِذْ لَمْ تَفْعَلْ مِنْ قَبْلُ فَأَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ أَلَّا تَفْعَلَ الْآنَ - وَهَذَا مَفْهُومُ التَّمَنِّي فَقَدْ أَرَادَهُ مُوسَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَطَقَ بِهِ إِذَا كَانَتْ لُغَتُهُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلُغَتِنَا، وَكَانَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ التَّمَنِّي الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدَ أَنْ أَفَاقَ مُوسَى مِنْ صَعْقَةِ تَجَلِّي رَبِّهِ لِلْجَبَلِ عَقِبَ سُؤَالِهِ الرُّؤْيَةَ؛ إِذْ كَانَ مَنْ مَعَهُ مِنْ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَهُ فِي مَكَانٍ وَضَعَهُمْ فِيهِ غَيْرِ مَكَانِ الْمُنَاجَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ أَوْ كَانَ بَعْدَ عِبَادَةِ الْعِجْلِ ذَهَبُوا لِلِاعْتِذَارِ وَتَأْكِيدِ التَّوْبَةِ وَطَلَبِ الرَّحْمَةِ؟
وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذَا اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ أَخْذِ الرَّجْفَةِ إِيَّاهُمْ، هَلْ كَانَ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - جَهْرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ سَبَبًا آخَرَ؟ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ:
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا، فَاخْتَارَ سَبْعِينَ رَجُلًا فَوَفَدَ بِهِمْ لِيَدْعُوا رَبَّهُمْ، وَكَانَ فِيمَا دَعَوُا اللهَ أَنْ قَالُوا: اللهُمَّ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ قَبْلِنَا وَلَا تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ بَعْدِنَا. فَكَرِهَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ مُوسَى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَوَعَدَهُمْ مَوْعِدًا، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا: لَنْ
186
نُؤْمِنَ لَكَ يَا مُوسَى حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا لَقِيتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ؟ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ، وَاسْأَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ فِيمَا ذُكِرَ لِي - حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَخَرَجُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: يَا مُوسَى اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعُ كَلَامَ رَبِّنَا. فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوَا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَةِ مُوسَى نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (٢: ٥٥) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ فَالْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قَدْ سَفِهُوا أَتُهْلِكُ مِنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اهـ.
أَقُولُ: كُلُّ مَا نُقِلَ عَنْ مُفَسِّرِي الْمَأْثُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا مَأْخُوذٌ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يُرَجِّحُ مَنْ بَعْدَهُمْ
بَعْضَ أَقْوَالِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْآيَاتِ وَأَسَالِيبِهَا وَتَنَاسُبِهَا مَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ ذَكَرَتْ خَبَرَ السَّبْعِينَ مِنْ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ نَقَلْنَا الْمُهِمَّ مِنْهَا فِي ذَلِكَ، وَمَجْمُوعُ عِبَارَاتِهَا مُضْطَرِبَةٌ، فَفِيهَا أَنَّ السَّبْعِينَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ وَنَادَابَ وابيهو " رَأَوْا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهَ صَنِفَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الْأَزْرَقِ الشَّفَّافِ، وَكَذَا السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوُا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا " (خُرُوجُ ٢٤: ١٠، ١١) وَفِيهَا أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لِمُوسَى إِذَا طَلَبَ مِنْهُ رُؤْيَةَ مَجْدِهِ " لَا تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرَانِي وَيَعِيشُ " ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ - أَيِ: الرَّبَّ - يَضَعُهُ فِي نَقْرَةِ صَخْرَةٍ وَيَسْتُرُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَجْتَازَ - أَيِ: الرَّبُّ - قَالَ " ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلَا يُرَى " (خُرُوجٌ ٢٣: ١٨ - ٢٣).
وَفِي سِفْرِ الْعَدَدِ وَقَائِعُ، ذُكِرَ فِيهَا غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَمَرُّدِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَاتِّهَامِ اللَّاوِيِّينَ مِنْهُمْ لِمُوسَى وَهَارُونَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَالتَّرَفُّعِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُقَدَّسُونَ، وَالرَّبَّ فِي وَسَطِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ أَهْلَكَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مُوسَى يَسْتَغِيثُهُ لِيَرْفَعَ
187
الْهَلَاكَ عَنْهُمْ وَيَرْحَمَهُمْ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرَ عَدَدِ السَّبْعِينَ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا ذِكْرُ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُ عَدَدِ ٢٥٠ رَجُلًا، وَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ ١٦ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ وَهَاكَ بَعْضَهُ: (٢٠) وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلًا (٢١) افْتَرِزَا مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ فِي لَحْظَةٍ (٢٢) فَخَرَّا عَلَى وَجْهَيْهِمَا وَقَالَا اللهُمَّ إِلَهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ هَلْ يُخْطِئُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَتَسْخَطَ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ؟ (٢٣) فَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا (٢٤) اطْلَعُوا مِنْ حَوَالِي مَسْكَنِ قَوْرَحَ وَدَاثَانَ وَابِيرَامَ (٢٥) فَقَامَ مُوسَى وَذَهَبَ إِلَى دثانَ وَابِيرَامَ وَذَهَبَ وَرَاءَهُ شُيُوخُ إِسْرَائِيلَ (٢٦) فَكَلَّمَ الْجَمَاعَةَ قَائِلًا اعْتَزِلُوا عَنْ خِيَامِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْبُغَاةِ وَلَا تَمُسُّوا شَيْئًا مِمَّا لَهُمْ لِئَلَّا تُهْلَكُوا بِجَمِيعِ خَطَايَاهُمْ (٢٧) فَطَلَعُوا مِنْ حَوَالِي مَسْكَنِ قَوْرَحَ وَدَاثانَ وَابِيرَامَ وَخَرَجَ دَاثانُ وَابِيرَامُ وَوَقَفَا فِي بَابِ خَيْمَتَيْهِمَا مَعَ نِسَائِهِمَا وَبَنِيهِمَا وَأَطْفَالِهِمَا (٢٨) فَقَالَ مُوسَى بِهَذَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِي لِأَعْمَلَ كُلَّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِي (٢٩) إِنْ مَاتَ هَؤُلَاءِ كَمَوْتِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ فَلَيْسَ الرَّبُّ قَدْ أَرْسَلَنِي (٣٠) وَلَكِنْ إِنِ ابْتَدَعَ الرَّبُّ بِدْعَةً وَفَتَحَتِ
الْأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَكُلَّ مَالِهِمْ فَهَبَطُوا أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدِ ازْدَرَوْا بِالرَّبِّ (٣١) فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّكَلُّمِ بِكُلِّ هَذَا الْكَلَامِ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ الَّتِي تَحْتَهُمْ (٣٢) وَفَتَحَتِ الْأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَكُلَّ مَنْ كَانَ لِقَوْرَحَ مَعَ كُلِّ الْأَمْوَالِ (٣٣) فَنَزَلُوا هُمْ وَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُمْ أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ فَبَادُوا مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ (٣٤) وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ هَرَبُوا مِنْ صَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَعَلَّ الْأَرْضَ تَبْتَلِعُنَا (٣٥) وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكْمَلَتِ الْمِئَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ رَجُلًا الَّذِينَ قَرَّبُوا الْبَخُورَ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَمَبْدَأُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ ١٦ وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ أَخَذَهُمُ الْوَبَاءُ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا.
وَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَذِكْرِ مَسْأَلَةِ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِرُؤْيَةِ اللهِ جَهْرَةً، وَأَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ غَيْرُ الْأُولَى، وَنَقَلْنَا هُنَالِكَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ اخْتِيَارَ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ السَّبْعِينَ، فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مُخْتَصَرٌ بِقَدْرِ الْعِبْرَةِ كَسُنَّتِهِ، وَأَنَّ السَّبْعِينَ هُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا أَوَّلًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَاتِبُ عَدَدَهُمْ ثُمَّ هَلَكَ غَيْرُهُمْ فَكَانَ الْجَمِيعُ.
فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَوْلُ مُوسَى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْرَحَ وَجَمَاعَتِهِ مِنَ اللَّاوِيِّينَ الْمَغْرُورِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ، وَهَلِ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً لِغُرُورِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَمْ غَيْرُهُمْ؟ وَإِنْ كَانَتْ فِي عَابِدِي الْعِجْلِ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُقَلَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَصْحَابِ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا عَبَدَهُ السُّفَهَاءُ؛ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ.
188
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ " إِنْ " نَافِيَةٌ، وَالْفِتْنَةُ: الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ مُطْلَقًا أَوْ بِالْأُمُورِ الشَّاقَّةِ، وَالْبَاءُ فِي " بِهَا " لِلسَّبَبِيَّةِ؛ أَيْ: مَا تَمْلِكُ الْفِعْلَةَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِأَخْذِ الرَّجْفَةِ إِيَّاهُمْ إِلَّا مِحْنَتُكَ وَابْتِلَاؤُكَ الَّذِي جَعَلْتَهُ سَبَبًا لِظُهُورِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ وَمَا طُوِيَتْ عَلَيْهِ سَرَائِرُهُمْ مِنْ ضَلَالٍ وَهِدَايَةٍ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةٍ وَمَثُوبَةٍ، وَسُنَّتُكَ فِي جَرَيَانِ مَشِيئَتِكَ فِي خَلْقِكَ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، وَالنِّظَامِ الْحَكِيمِ فِي الْخَلْقِ، تُضِلُّ بِمُقْتَضَاهَا مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ، وَلَسْتَ بِظَالِمٍ لَهُمْ فِي تَقْدِيرِكَ، وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ وَلَسْتَ بِمُحَابٍ لَهُمْ فِي
تَوْفِيقِكَ، بَلْ أَمْرُ مَشِيئَتِكَ دَائِرٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَلَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أَيْ: أَنْتَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِنَا، وَالْقَائِمُ عَلَيْنَا بِمَا تَكْتَسِبُ نُفُوسُنَا فَاغْفِرْ لَنَا مَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعِقَابُ مِنْ مُخَالَفَةِ سُنَّتِكَ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَعِبَادَتِكَ، بِأَنْ تَسْتُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَتَجْعَلَهُ بِعَفْوِكَ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنَّا، وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْخَاصَّةِ فَوْقَ مَا شَمَلْتَ بِهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ الْعَامَّةِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ حِلْمًا وَكَرَمًا وَجُودًا فَلَا يَتَعَاظَمُكَ ذَنْبٌ، وَلَا يُعَارِضُ غُفْرَانَكَ مَا يُعَارِضُ غُفْرَانَ سِوَاكَ مِنْ عَجْزٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ هَوَى نَفْسٍ - وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَغْفِرَةِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ - أَيْ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ رَحْمَةً وَأَوْسَعُهُمْ فِيهَا فَضْلًا وَإِحْسَانًا، فَإِنَّ رَحْمَةَ جَمِيعِ الرَّاحِمِينَ مِنْ خَلْقِكَ، نَفْحَةٌ مُفَاضَةٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ. حُذِفَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ التَّذْيِيلِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبِ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّنَاءُ بِهِمَا مَعًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُولَى لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ قَطْعًا، فَهُوَ مِنَ الْإِيجَارِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ الِاكْتِفَاءَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَهَمُّ وَلَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَسْتَلْزِمُ الْمَغْفِرَةَ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ سَلْبِيٌّ؛ وَهُوَ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ فَوْقَ ذَلِكَ فَهِيَ إِحْسَانٌ إِلَى الْمُذْنِبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَلَا يَلِيقُ خَلْعُ الْحُلُلِ النَّفْسِيَّةِ، إِلَّا عَلَى الْأَبْدَانِ النَّظِيفَةِ، وَقَدْ قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ (٧: ١٥١) الْآيَةَ، وَقَالَ نُوحٌ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ سُؤَالِهِ النَّجَاةَ لِوَلَدِهِ الْكَافِرِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١١: ٤٧) وَعَلَّمَنَا تَعَالَى مِنْ دُعَائِهِ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا (٢: ٢٨٦) وَقَلَّمَا ذُكِرَ اسْمُ (الْغَفُورِ) فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ إِلَّا مَقْرُونًا بِاسْمِهِ (الرَّحِيمِ) وَمِنْ غَيْرِ الْأَكْثَرِ قَرْنُهُ بِالشَّكُورِ وَبِالْحَلِيمِ وَالْوَدُودِ وَيَقْرُبُ مَعْنَاهُنَّ مِنْ مَعْنَى الرَّحِيمِ، وَوَرَدَ قَرْنُهُ بِالْعَفُوِّ وَبِالْعَزِيزِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ.
وَدُعَاءُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُنَا لِنَفْسِهِ مَعَ قَوْمِهِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ قَدِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْمُنَاجَاةِ
189
وَالْمَعْرِفَةِ الْكَامِلَةِ، وَمَنْ كَانَ أَعْرَفُ بِاللهِ وَأَكْمَلُ اسْتِحْضَارًا لِعَظَمَتِهِ، كَانَ
أَشَدَّ شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ تَقْصِيرًا صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذُنُوبِ الْغَافِلِينَ وَالْجَاهِلِينَ أَوْ مِنْ بَابِ " حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ " فَإِنْ كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ عَقِبَ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، فَوَجْهُ طَلَبِهِ لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِنَفْسِهِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ طَلَبَهُ ذَاكَ كَانَ ذَنْبًا لَهُ، صَرَّحَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ طَلَبِ السَّبْعِينَ رُؤْيَةً لِلَّهِ جَهْرَةً فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ مُشْتَرِكٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَثَرِ حَادِثَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَدْ عَلِمَ مَا كَانَ مِنْ شِدَّتِهِ فِيهَا عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ طَلَبَ لِكُلٍّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَخِيهِ الْمَغْفِرَةَ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالرَّحْمَةِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ تَمَرُّدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي عَاقَبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِإِهْلَاكِ بَعْضِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَإِدْخَالُ نَفْسِهِ مَعَهُمْ مِنْ بَابِ الِاسْتِعْطَافِ، إِذْ لَمْ يُنْقَلُ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
(تَخْطِئَةُ مَنِ اتَّهَمَ الْكَلِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْجُرْأَةِ عَلَى رَبِّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ)
كُنْتُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِطَلَبِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامَ أَسْمَعُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقُلْ لِرَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ إِلَّا وَقَدْ كَانَ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ وَالْإِدْلَالِ الَّذِي يُطْلِقُ اللِّسَانُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَقَالِ، وَأَنَّ هَذَا خَيْرُ جَوَابٍ عَمَّا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ تَابَ مِنْهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَالَ الْآلُوسِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ إِقْدَامَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَنْ يَقُولَ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللهِ غُفْرَانَهَا وَالتَّجَاوُزَ عَنْهَا مِمَّا يَأْبَاهُ السَّوْقُ، عِنْدَ أَرْبَابِ الذَّوْقِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا مِنْهُ، لِيَسْتَغْفِرَهُ عَنْهُ، وَفِي نِدَائِهِ السَّابِقِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ اهـ.
وَأَقُولُ: لَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِالْجُرْأَةِ وَلَا بِالْإِدْلَالِ، وَمَا كَانَ هَذَا بِالَّذِي يَخْطُرُ لِلْعَرَبِيِّ الْقُحِّ بِبَالٍ، وَلَا لِلْعَالِمِ الدَّقِيقِ بِمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَأَسَالِيبِ الْمَقَالِ، وَسَبَبُهُ كَلِمَةُ " الْفِتْنَةِ " فَقَدِ اشْتُهِرَ مِنْ عَهْدٍ بَعِيدٍ فِيمَا أَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا إِغْرَاءُ الشَّرِّ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَرَاهُمْ يَتَنَاقَلُونَ اسْتِعْمَالَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (٢: ١٩١) بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَهُ أَصْلٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْحَرْبِ، وَيُوَصَفُ الشَّيْطَانُ بِالْفَتَّانِ، وَلَكِنْ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْمَعَانِي الْفَرْعِيَّةِ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي تَفَرَّعَا هُمَا وَأَمْثَالُهُمَا وَأَضْدَادُهُمَا مِنْهُ - الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ وَلَا سِيَّمَا الشَّاقَّ، الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ جَيِّدُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ مِنْ رَدِيئِهِ، كَعَرْضِ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ: لِتَصْفِيَةِ الْغِشِّ
مِنَ النُّضَارِ، وَمِثْلُهُ الْفِضَّةُ، بَلْ كُلُّ مَا أُدْخِلَ النَّارَ يُسَمَّى مَفْتُونًا، كَمَا يُقَالُ، دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ مَفْتُونٌ، وَيُسَمَّى حَجَرُ الصَّائِغِ الْفَتَّانَةَ، وَقَدْ وَرَدَ تَسْمِيَةُ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَمْتَحِنَانِ النَّاسَ عَقِبَ الْمَوْتِ بَفَتَّانِيِ الْقَبْرِ، وَفَسَّرُوا فِتْنَةَ الْمَمَاتِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
190
(٨: ٢٨) أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ يَتَبَيَّنُ بِهِمَا قَدْرُ وُقُوفِكُمْ عِنْدَ الْحَقِّ، وَالْتِزَامِكُمُ الْكَسْبَ الْحَلَّالَ، وَقَالَ - تَعَالَى -: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (٢١: ٣٥).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْفَتْنَ وَالْفُتُونَ مَصْدَرَيْ فَتَنَ مَعْنَاهُمَا الِابْتِلَاءُ لِلِاخْتِبَارِ وَظُهُورِ حَقِيقَةِ حَالِ الْمَفْتُونِينَ أَوْ لِتَصْفِيَتِهِمْ وَتَمْحِيصِهِمْ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ - تَعَالَى - لِمُوسَى فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٢٠: ٨٥) فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ رَبِّهِ لَهُ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ فَلَا جُرْأَةَ فِيهَا وَلَا إِدْلَالَ، دَعْ مَا يَرُدُّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ مُنَافَاتِهَا لِمَوْقِفِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ - وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى - لَهُ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طَه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (٢٠: ٤٠) أَيِ: اصْطَفَيْنَاكَ مِنَ الشَّوَائِبِ حَتَّى صِرْتَ أَهْلًا لِاصْطِنَاعِنَا وَرِسَالَتِنَا، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ قَبْلُ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ: وَأَثْبِتْ وَأَوْجِبْ لَنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ حَيَاةً حَسَنَةً فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَافِيَةِ وَبَسْطِ الرِّزْقِ، وَعِزِّ الِاسْتِقْلَالِ وَالْمُلْكِ، وَالتَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ، وَمَثُوبَةً حَسَنَةً فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ جَنَّتِكَ وَنِيلِ رِضْوَانِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيمَا عَلَّمَنَا مِنْ دُعَائِهِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (٢: ٢٠١) فَإِنْ ثَمَرَةَ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: هَادَ يَهُودُ هَوْدًا (أَيْ: مِنْ بَابِ قَالَ) وَتَهَوَّدَ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ هَائِدٌ، وَقَوْمُ هُودٍ - مِثْلَ حَائِكٍ وَحُوكٍ وَبَازِلٍ وَبُزْلٍ - قَالَ أَعْرَابِيٌّ:
إِنِّي أُمُرُؤٌ مِنْ مَدْحِهِ هَائِدُ
وَفِي التَّنْزِيلِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ أَيْ: تُبْنَا إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ " إِلَى "؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى رَجَعَنَا. ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هَادَ إِذَا رَجَعَ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ أَوْ مِنْ شَرٍّ إِلَى خَيْرٍ، وَدَاهَ إِذْ عَقَلَ، وَيَهُودُ اسْمُ الْقَبِيلَةِ قَالَ:
أَلَا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهُ بَاطِلُ وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
أُولَئِكَ أُولِي مِنْ يَهُودَ بِمَدْحِهِ إِذَا أَنْتَ يَوْمًا قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ
وَقِيلَ: إِنَّمَا هَذِهِ الْقَبِيلَةُ يَهُوذُ فَعُرِّبَتْ بِقَلْبِ الذَّالِ دَالًّا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى: إِنَّا تُبْنَا
إِلَيْكَ مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ طَلَبِ الْآلِهَةِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَقْصِيرِ خِيَارِنَا فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ مِنْ طَلَبِ رُؤْيَتِكَ أَوْ مِنْ تَمَرُّدِ الْمَغْرُورِينَ عَلَى شَرِيعَتِكِ، وَكُفْرِ نِعْمَتِكَ - تُبْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْكَ فِي جُمْلَتِنَا مُسْتَغْفِرِينَ مُسْتَرْحَمِينَ كَمَا فَعَلَ أَبُونَا آدَمَ إِذْ تَابَ إِلَيْكَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَتُبْتَ عَلَيْهِ وَهَدَيْتَهُ وَاجْتَبَيْتَهُ، فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّتَكَ فِي وَلَدِهِ - يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَضْلُ قَوْلِهِ: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ التَّائِبِ الْمُنِيبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ لِلْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ كَانَ مِمَّا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ وَحْيِهِ إِلَى مُوسَى فِي سُورَةِ طَه وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) وَبِمَاذَا أَجَابَهُ اللهُ - تَعَالَى -؟
191
قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ سَبْقِ رَحْمَتِي غَضَبِي أَنْ أَجْعَلَ عَذَابِي خَاصًّا أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَهِيَ مِنْ صِفَاتِي الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الْعَالَمِ مُنْذُ خَلَقْتُهُ، وَالْعَذَابُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِي بَلْ مِنْ أَفْعَالِي الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى صِفَةِ الْعَدْلِ؛ وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنِ التَّعْذِيبِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَعَنْ تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْعَامَّةُ الْمَبْذُولَةُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلَوْلَاهَا لَهَلَكَ كُلُّ كَافِرٍ وَعَاصٍ عَقِبَ كُفْرِهِ وَفُجُورِهِ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ (٣٥: ٤٥) وَهُنَالِكَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ يُوجِبُهَا وَيَكْتُبُهَا تَعَالَى لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ، وَيَبْذُلُ مَا شَاءَ مِنْهَا لِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ كِتَابَةٍ مِنْهُ، وَمَا كِتَابَتُهُ إِلَّا فَضْلٌ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، وَأَمَّا الْعَذَابُ فَلَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أَثْبَتَهُ، وَتَوَعَّدَ بِهِ فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَتَيِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَدْ أَفْرَطَ فِي النَّظَرِ إِلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ، وَغَفَلُوا عَنِ النَّظَرِ فِي مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَآخَرُونَ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضُ غُلَاةِ التَّصَوُّفِ؛ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْعَذَابَ صُورِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُذُوبَةِ، وَإِنَّ فِي جَهَنَّمَ مَنْ هُمْ أَحَبُّ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ - جَعَلَهُمُ اللهُ مِنْهُمْ -. وَأَفْرَطَ آخَرُونَ فِي النَّظَرِ إِلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ تَعَالَى تَعْذِيبَ الْعُصَاةِ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ لَا الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَلَوْلَا أَنْ صَارَ هَذَا وَذَاكَ مَذْهَبًا لَسَهُلَ جَمْعُ كَلِمَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْأَخْذِ
بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّحْمَنِ، وَلَمَا قَالَ مِثْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنْ جَهَابِذَةِ الْبَيَانِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ أَيْ: مَنْ وَجَبَ عَلَيَّ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مَسَاغٌ؛ لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى. فَقَدْ فَسَّرَ مَنْ يَشَاءُ تَعَالَى تَعْذِيبَهُ بِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْذِيبُهُ، وَجَمَاعَتُهُ يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا وُجُوبٌ عَقْلِيٌّ لَا يَدْخُلُ الْإِمْكَانُ سِوَاهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَافِي الْمَشِيئَةَ مُنَافَاةً قَطْعِيَّةً فَكَيْفَ تُفَسَّرُ بِهِ؟ ! ‍ يَا لَيْتَ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَنْتَحِلْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي خِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَإِذًا لَكَانَ كَشَّافُهُ حُجَّةً عَلَى أَصْحَابِهَا وَمَرْجِعًا لَهُمْ فِي تَحْرِيرِ مَعَانِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ؛ إِذْ كَانَ مِنْ أَدَقِّ عُلَمَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ فَهْمًا وَأَحْسَنِهِمْ بَيَانًا وَلَمَا فَهِمَ، وَمَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - نَظَرِيَّةٌ فِكْرِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهُ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ، بِمَعْنَى كِتَابَتِهِ وَجَعْلِهِ أَمْرًا مَقْضِيًّا، وَلَيْسَ فِي إِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ مَا فِي إِيجَابِ عُقُولِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى اسْتِعْلَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى - أَوْ مِنْ إِيهَامِ كَوْنِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَحْكُومًا
192
بِمَا يُنَافِي سُلْطَانَهُ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ كُلِّ سُلْطَانٍ، بَلْ لَا سُلْطَانَ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُ غَيْرِهِ بِهِ وَمِنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ إِلَّا مُرَاعَاةَ الْأَدَبِ لَكَفَى.
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ؛ أَيْ: وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَسَأَكْتُبُ رَحْمَتِي كَتْبَةً خَاصَّةً، وَأُثْبِتُهَا بِمَشِيئَتِي إِثْبَاتًا لَا يَحُولُ دُونَهُ شَيْءٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ وَالتَّمَرُّدَ عَلَى رَسُولِهِمْ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَغَيْرَهَا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَخَصَّ الزَّكَاةَ بِالذِّكْرِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهَا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ حُبِّ الْمَالِ تَقْتَضِي بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَالِاخْتِبَارِ بِالْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُونَ لِلزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنَ التَّارِكِينَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ حُبِّ الْيَهُودِ لِلدُّنْيَا وَافْتِتَانِهِمْ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَنْعِ بَذْلِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ: وَسَأَكْتُبُهَا كَتْبَةً خَاصَّةً لِلَّذِينِ يُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِنَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِنَا وَصِدْقِ رُسُلِنَا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ، مَبْنِيٍّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيقَانِ دُونَ التَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ وَعَصَبِيَّاتِ الْأَقْوَامِ.
وَنُكْتَةُ إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ (الَّذِينَ) مَعَ الضَّمِيرِ (هُمْ) إِمَّا جَعْلُ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ عَامًّا لِقَوْمِهِ
الَّذِينَ دَعَا لَهُمْ - مَنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْتِزَامِ التَّقْوَى، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ - وَجَعْلُ الثَّانِي خَاصًّا بِمَنْ يُدْرِكُونَ بِعْثَةَ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَتَّبِعُونَهُ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ - وَإِمَّا لِبَيَانِ الْفَصْلِ بَيْنَ مَفْهُومِ الْإِسْلَامِ وَمَفْهُومِ الْإِيمَانِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً وَالَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَالَّذِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (٢: ٥٥) لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْعَامَّةِ وَلَا الْخَاصَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَهَا، بَلْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمِصْرِيِّينَ - وَبَيَانُ أَنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِسْلَامِ؛ وَهُوَ إِتْبَاعُ الرُّسُلِ بِالْفِعْلِ - وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ بِالْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْيَقِينِ الْمَانِعِ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى الشِّرْكِ بِمِثْلِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَالْمُقْتَضَى لِاتِّبَاعِ مَنْ يَأْتِي مِنَ الرُّسُلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَفِي هَذَا تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لِصِفَةِ مَنْ يَكْتُبُ تَعَالَى لَهُمُ الرَّحْمَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ اسْتِجَابَةَ دُعَائِهِ بِشَرْطِهِ، وَيَلِيهِ بَيَانُ أَحَقِّ الْأُمَمِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ؛ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ إِلَى أُمَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ فَصَلَ الِاسْمَ الْمَوْصُولَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَخِيرِ أَوْ لِلْمَوْصُولَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ مَعًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ، وَلَوْ وَصَلَهُ فَقَالَ: " وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ " إِلَخْ. لَكَانَ مُغَايِرًا لَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ فِي الْمَفْهُومِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَخِيرِ مَنْ يُدْرِكُونَ بِعْثَةَ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَيَتَّبِعُونَهُ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ
193
وَبَعْدَ زَمَنِهِ، وَيُرَادُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَعْنَى صِلَةِ الْمَوْصُولَيْنِ فِي زَمَنِ مُوسَى، وَمَا بَعْدَهُ إِلَى زَمَنِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَمَعْنَى الْفَصْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ اتِّحَادُ الْمَوْصُولَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي الْمَفْهُومِ وَالْمَاصَدَقِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ كَتْبَةً خَاصَّةً هِيَ لِلْمُتَّصِفِينَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِلَاتُ الْمَوْصُولَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ نِسْبَةً إِلَى الْأُمِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُسَمُّونَ الْعَرَبَ بِالْأُمِّيِّينَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ لَقَبًا لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ دُونَ أَهْلِ الْيَمَنِ. لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْخَوَنَةِ مِنَ الْيَهُودِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ (٣: ٧٥) الْعُمُومُ وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (٦٢: ٢) وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَعَثَ نَبِيًّا أُمِّيًّا غَيْرَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ وَصْفٌ خَاصٌّ لَا يُشَارِكُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالْأُمِّيَّةُ آيَةٌ مِنْ أَكْبَرِ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ، فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِأَعْلَى الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَهِيَ مَا يَصْلُحُ مَا فَسَدَ مِنْ عَقَائِدِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَعَمِلَ بِهَا فَكَانَ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَتَعْرِيفُ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ الْمَوْصُوفِ بِالْأُمِّيَّةِ كِلَاهُمَا لِلْعَهْدِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ مِنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّسُولُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَمَا كَلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ؛ وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ الرَّسُولِ عَلَى النَّبِيِّ هُنَا كَوْنُهُ أَهَمُّ وَأَشْرَفُ أَوْ أَنَّهُمَا ذُكِرَا هُنَا بِمَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ كَقَوْلِهِ: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ نُكْتَةِ التَّقْدِيمِ أَظْهَرُ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ وَصْفٌ مُمَيَّزٌ لِلرَّسُولِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اتِّبَاعُهُ مَتَى بُعِثَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (٣: ٨١) إِلَى آخِرِ آيَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَالنَّبِيُّ فِي اللُّغَةِ (فَعِيلٌ) مِنْ مَادَّةِ النَّبَأِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ، أَوْ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ وَعُلُوِّ الشَّأْنِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ لَا تَهْمِزُهُ بَلْ نُقِلَ أَنَّهُ لَمْ يَهْمِزْهُ إِلَّا أَهْلُ مَكَّةَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكَرَ عَلَى رَجُلٍ قَالَ لَهُ: يَا نَبِيءَ اللهِ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَالنَّبِيُّ مَنْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، وَأَنْبَأَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِكَسْبِهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ حُكْمٍ يَعْلَمُ بِهِ عَلِمَا ضَرُورِيًّا أَنَّهُ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالرَّسُولُ نَبِيٌّ أَمَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِتَبْلِيغِ شَرْعٍ وَدَعْوَةِ دِينٍ وَبِإِقَامَتِهِ بِالْعَمَلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَحْيِ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا يُقْرَأُ وَيُنْشَرُ، وَلَا شَرْعًا جَدِيدًا يُعْمَلُ بِهِ وَيُحْكَمُ بَيْنَ النَّاسِ
194
بَلْ قَدْ يَكُونُ تَابِعًا لِشَرْعِ غَيْرِهِ كَالرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ عَمَلًا وَحُكْمًا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلَنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا (٥: ٤٤) الْآيَةَ.
وَقَدْ يَكُونُ نَاسِخًا لِبَعْضِهِ كَمَا نَسَخَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَأَقَرَّ أَكْثَرَهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً لِمَا خَاطَبَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (٣: ٥٠) وَسِيرَتُهُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ الْإِنْجِيلِيِّينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَفِيهَا أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ (أَيِ: التَّوْرَاةَ) وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَ، وَأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ تَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتَ فَخَصَّهُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلْ نَرَى فِرَقَ النَّصَارَى الرَّسْمِيِّينَ بَعْدَ تَكْوِينِ نِظَامِ الْكَنِيسَةِ قَدْ تَرَكُوا مَا عَدَا الْوَصَايَا الْعَشْرِ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَاسْتَبْدَلُوا يَوْمَ الْأَحَدِ بِيَوْمِ السَّبْتِ فِيمَا حَرَّمَتِ الْوَصَايَا مِنَ الْعَمَلِ فِيهِ، وَخَالَفَ الْأَكْثَرُونَ وَصِيَّةَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ عَلَى هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ فِي عُرْفِ شَرْعِنَا مِنَ النَّبِيِّ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ، وَإِذَا أُطْلِقَ الرَّسُولُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّ رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَعَمُّ مِنَ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ. فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَجِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ كَأَكْثَرِ أَنْبِيَاءِ إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ فِي نَصِّ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقِ بِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ جَوَازُ تَسْمِيَتِهِ رَسُولًا فِي عُرْفِ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا الْعُرْفِ عَدُّوهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَجِبُ مَعْرِفَةُ رِسَالَتِهِمْ، وَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ تَأْوِيلَاتٍ تَجِدُهَا هُنَالِكَ.
وَصَفَ اللهُ الرَّسُولَ الَّذِي أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ بِصِفَاتٍ وَنُعُوتٍ: أَوَّلُهَا - (أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْكَامِلُ) ثَانِيهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَجِدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ صِفَتَهُ وَنُعُوتَهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا
195
ذَكَرَ الْإِنْجِيلَ وَالسِّيَاقُ فِي قَوْمِ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ
بِالذَّاتِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ: لَمْ أُبْعَثْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَوْا عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ تَلَامِيذَهُ أَنْ يُكْرِزُوا بِالْإِنْجِيلِ فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا، إِذْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلِيقَةِ مَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ (الْيَهُودِيَّةَ) وَالْعِبَارَةُ الْأَوْلَى نَصٌّ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا بِاسْمِهِ وَنُعُوتِهِ الشَّرِيفَةِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ هُوَ؛ وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَجِدُونَ نَعْتَهُ أَوْ وَصْفَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَالظَّرْفُ (عِنْدَهُمْ) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَأَنَّ شَأْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ لَا يَغِيبُ عَنْهُمْ اهـ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ.
ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا - قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ بِعْثَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ. وَالْمَعْرُوفُ مَا تَعْرِفُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ حُسْنَهُ، وَتَرْتَاحُ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ لَهُ لِنَفْعِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَاقِلُ الْمُنْصِفُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَالْمُنْكَرُ مَا تَنْكِرُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَالْمُنْكَرِ بِمَا نَهَتْ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْمَاءِ بِالْمَاءِ. وَكَوْنُ مَا قُلْنَاهُ يُثْبِتُ مَسْأَلَةَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ وِفَاقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَخِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ مَرْدُودٌ إِطْلَاقُهُ بِأَنَّنَا إِنَّمَا نُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَنُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ اتِّبَاعًا لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَهْمِ السَّلَفِ لَهُمَا فَلَا نُنْكِرُ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِحُسْنِ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَلَا نُقَيِّدُ التَّشْرِيعَ بِعُقُولِنَا، وَلَا نُوجِبُ عَلَى اللهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِشَيْءٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ إِنْ شَاءَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ شَاءَ، وَأَنَّ مِنَ الشَّرْعِ مَا لَمْ تَعْرِفِ الْعُقُولُ حُسْنَهُ قَبْلَ شَرْعِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى يُطَاعُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا نَصُّهُ: هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ
مَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (١٦: ٣٦) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ، وَأَبِي أَسِيدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا
196
سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَتَرَوْنُ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبَشَارُكُمْ وَتَرَوْنُ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ، فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.
خَامِسُهَا وَسَادِسُهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الطَّيِّبُ مَا تَسْتَطِيبُهُ الْأَذْوَاقُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَتَسْتَفِيدُ مِنْهُ التَّغْذِيَةُ النَّافِعَةُ، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا أُخِذَ بِحَقٍّ وَتَرَاضٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْخَبِيثُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا تَمُجُّهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَسْتَقْذِرُهُ ذَوْقًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، أَوْ تَصُدُّ عَنْهُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ لِضَرَرِهِ فِي الْبَدَنِ كَالْخِنْزِيرِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ مِنْ أَكْلِهِ الدُّودَةُ الْوَحِيدَةُ، أَوْ لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَذْبَحُ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ - أَيْ: لَا مَا يَذْبَحُ لِتَكْرِيمِ الضِّيفَانِ؛ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ سُلْطَانٍ - وَالَّذِي يَحْرُمُ ذَبْحُهُ أَوْ أَكْلُهُ لِتَشْرِيعٍ بَاطِلٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ - كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَالْخَبِيثُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالْغُلُوِّ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ وَالسُّحْتِ. وَقَدْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - حَرَّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ كَمَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلْتَ لَهُمْ (٤: ١٦٠) الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَحَرَّمُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتٍ أُخْرَى لَمْ يُحْرِّمْهَا اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، وَأَحَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ أَكْلَ أَمْوَالٍ غَيْرَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ اسْتِحْلَالِ بَعْضِهِمْ أَكَلَ مَا يَأْتَمِنُهُمْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٣: ٧٥) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
سَابِعُهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الْإِصْرُ: الثِّقَلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ؛ أَيْ: يَحْبِسُهُ مِنَ الْحَرَاكِ لِثِقَلِهِ، وَهُوَ مَثَلٌ لِثِقَلِ
تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ نَحْوَ اشْتِرَاطِ قَتْلِ الْأَنْفُسِ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ مَثَلٌ لِمَا كَانَ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَ لِلثَّانِي عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْ شِدَّةِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحِ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمِيرَيْهِ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: " بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا " وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. حَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا فِيمَا أُخِذُوا بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ كَالَّذِي يَحْمِلُ أَثْقَالًا يَئِطُّ مِنْهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُوثَقٌ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ فِي عُنُقِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى حِكْمَةَ أَخْذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشِّدَّةِ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
197
خَفَّفَ عَنْهُمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الرُّوحِيَّةِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ إِفْرَاطِهِمْ فِي الْأُولَى، وَتَفْرِيطِهِمْ فِي الْأُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا وَذَاكَ قَدْ جَعَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - تَرْبِيَةً مَوْقُوتَةً لِبَعْضِ عِبَادِهِ، لِيَكْمُلَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلشَّرِيعَةِ الْوُسْطَى الْعَادِلَةِ السَّمْحَةِ الرَّحِيمَةِ الَّتِي يَبْعَثُ بِهَا خَاتَمَ الرُّسُلِ الَّذِي أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ.
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَطْلُبُ التَّعْزِيرَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الرَّدِّ وَالضَّرْبِ وَالْمَنْعِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْزِيرُ النُّصْرَةُ مَعَ التَّعْظِيمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَزَّرُوهُ: عَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ. لَكِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرُسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٨: ٩) وَالْأَقْرَبُ إِلَى فِقْهِ اللُّغَةِ مَا حَقَّقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ هُنَا قَالَ: (وَعَزَّرُوهُ) وَمَنَعُوهُ حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَيْهِ عَدُوٌّ، وَأَصْلُ الْعَزْرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ لِلضَّرْبِ دُونَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ عَنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ أَلَا تَرَى إِلَى تَسْمِيَتِهِ الْحَدَّ، وَالْحَدُّ هُوَ الْمَنْعُ اهـ. جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ - بَعْدَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبَيلِ الْأَضْدَادَ. وَالْعَزْرُ النَّصْرُ بِالسَّيْفِ. وَعَزَّرُوهُ عَزْرًا، وَعَزَّرَهُ (تَعْزِيرًا) أَعَانَهُ وَقَوَّاهُ وَنَصَرَهُ، قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَقَالَ - تَعَالَى -: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ (٥: ١٢) جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ:
لِتَنْصُرُوهُ بِالسَّيْفِ، وَمَنْ نَصَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ فَقَدْ نَصَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: عَظَّمْتُمُوهُمْ، وَقِيلَ: نَصَرْتُمُوهُمْ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَاللهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ - وَذَلِكَ أَنَّ الْعَزْرَ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُ فُلَانًا؛ أَيْ: أَدَّبْتُهُ، إِنَّمَا تَأْوِيلُهُ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبِيحِ، كَمَا إِذَا نَكَّلْتُ بِهِ؛ تَأْوِيلُهُ: فَعَلْتُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُنَكَّلَ مَعَهُ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ، فَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُمُوهُمْ نَصَرْتُمُوهُمْ بِأَنْ تَرُدُّوا عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ هُوَ التَّوْقِيرُ لَكَانَ الْأَجْوَدُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ، وَالنُّصْرَةُ إِذَا وَجَبَتْ فَالتَّعْظِيمُ دَاخِلٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ أَوِ الذَّبُّ عَنْ دِينِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا - أَيْ: يُؤْمِنُونَ - بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ عِنْدَ مَبْعَثِهِ؛ أَيْ: مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَمِنْ كُلِّ قَوْمٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْهُمْ؛ بَلْ أَطْلَقَ - وَيُعَزِّرُونَهُ بِأَنْ يَمْنَعُوهُ وَيَحْمُوهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ مَعَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لَا كَمَا يَحْمُونَ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ مَعَ الْكُرْهِ وَالِاشْمِئْزَازِ وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَالسِّنَانِ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الْأَعْظَمَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ أَيِ الْفَائِزُونَ بِالرَّحْمَةِ الْعُظْمَى وَالرِّضْوَانِ، دُونَ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَمِنْهُمُ الْفَائِزُونَ بِدُونِ مَا يَفُوزُ بِهِ هَؤُلَاءِ، كَأَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمُ الْخَائِبُونَ الْمَخْذُولُونَ؛ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
198
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ بِشَارَاتِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا) بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَنَا ذِكْرُ بِشَارَاتِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَبَعْضُهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَهَارِسِهِمَا، وَنُرِيدُ هُنَا أَنْ نُفَصِّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا كَافِيًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنَاسِبُ لَهُ أَتَمَّ الْمُنَاسَبَةِ، فَنَقُولُ:
كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَنَاقَلُونَ خَبَرَ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَذْكُرُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ مَنْ كُتُبِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا بَعَثَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَكَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ عُلَمَاءِ
الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ -، وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذِهِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا قِصَّةُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَمَّا الَّذِينَ أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَكْتُمُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَيُؤَوِّلُونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَيَكْتُمُونَهُ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرْبَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا الْإِفْرِنْجَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ؛ لِذَلِكَ وَضَّحَ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) بِأُمُورٍ جَعَلَهَا مُقَدِّمَاتٍ لِبِشَارَاتِ تِلْكَ الْكُتُبِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْنَا أَنْ نَقْتَبِسَهَا بِنَصِّهَا. قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي سِيَاقِ مَسَالِكِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَصُّهُ: (الْمَسْلَكُ السَّادِسُ)
أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ عَنْ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَلَمَّا كَانَ الْقِسِّيسُونَ يُغَلِّطُونَ الْعَوَامَّ فِي هَذَا الْبَابِ تَغْلِيطًا عَظِيمًا، اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أُقَدِّمَ عَلَى نَقْلِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أُمُورًا ثَمَانِيَةً تُفِيدُ النَّاظِرَ بَصِيرَةً.
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ
إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ مِثْلَ: أَشْعِيَا وَأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَحِزْقِيَالَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الْآتِيَةِ، كَحَادِثَةِ بُخْتُ نَصَّرَ، وَقُورَشَ وَالْإِسْكَنْدَرِ وَخُلَفَائِهِ. وَحَوَادِثِ أَرْضِ أَدُومَ وَمِصْرَ وَنِينَوَى وَبَابِلَ، وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَلَّا يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ خُرُوجِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ وَقْتَ ظُهُورِهِ كَأَصْغَرِ الْبُقُولِ، ثُمَّ صَارَ شَجَرَةً عَظِيمَةً تَنْأَوِي طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا، فَكَسَرَ الْجَبَابِرَةَ وَالْأَكَاسِرَةَ، وَبَلَغَ دِينُهُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَغَلَبَ الْأَدْيَانَ وَامْتَدَّ دَهْرًا بِحَيْثُ مَضَى عَلَى ظُهُورِهِ مُدَّةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَيَمْتَدُّ إِنْ
199
شَاءَ اللهُ إِلَى آخِرِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَظَهَرَ فِي أُمَّتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْحُكَمَاءِ الْمُتْقِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالسَّلَاطِينِ الْعِظَامِ. وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ كَانَتْ أَعْظَمُ الْحَوَادِثِ وَمَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ حَادِثَةِ أَرْضِ أَدُومَ وَنِينَوَى وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الضَّعِيفَةِ وَتَرَكُوا الْأَخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ! ؟
الْأَمْرُ الثَّانِي
أَنَّ النَّبِيَّ الْمُقَدَّمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ لَا يَشْتَرِطُ فِي إِخْبَارِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِالتَّفْصِيلِ التَّامِّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْقَبِيلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، وَتَكُونُ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ يَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ مُجْمَلًا عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَاصِّ فَقَدْ يَصِيرُ جَلِيًّا بِوَاسِطَةِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا يَعْرِفُونَ مِصْدَاقَهُ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ أَنَّ النَّبِيَّ الْمُتَقَدَّمَ أَخْبَرَ عَنِّي، وَظُهُورُ مُصَدِّقِ ادِّعَائِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ الِادِّعَاءِ وَظُهُورِ صِدْقِهِ يَصِيرُ جَلِيًّا عِنْدَهُمْ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلِذَلِكَ يُعَاتَبُونَ كَمَا عَاتَبَ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُلَمَاءَ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ: (٥٢ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لِأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ، مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا، وَعَلَى مَذَاقِ الْمَسِيحِيِّينَ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا ١٩ (وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورْشَلِيمَ كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ، لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟ ٢٠ (فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحُ) ٢١ (فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَقَالَ: أَنَا لَسْتُ إِيلِيَا، فَسَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟) فَأَجَابَ: لَا) ٢٢ فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينِ أَرْسَلُونَا مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟) ٢٣ (قَالَ أَنَا صَوْتٌ صَارِخٌ فِي الْبَرِّيَّةِ قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ أَشْعِيَا النَّبِيُّ) ٢٤ (وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفِرِيسِيِّينَ) ٢٥ (فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمَّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلَا إِيلِيَا وَلَا النَّبِيَّ؟
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ ٢١، ٢٥ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ، فَالْكَهَنَةُ وَالْلَاوِيُّونَ كَانُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِهِمْ، وَعَرَفُوا أَيْضًا أَنَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ لَكِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَنَّهُ الْمَسِيحُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ إِيلِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ
200
الْأَنْبِيَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً فِي كُتُبِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ لِلْخَوَاصِّ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ فَلِذَلِكَ سَأَلُوا أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ كَوْنِهِ مَسِيحًا، سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ عَنْ كَوْنِهِ إِيلِيَا أَيْضًا سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؛ أَيِ: (الْمَعْهُودُ) وَلَوْ كَانَتِ الْعَلَامَاتُ مُصَرَّحَةً لَمَا كَانَ لِلشَّكِّ مَحَلٌّ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ أَنَّهُ إِيلِيَا حَتَّى أَنْكَرَ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا، وَقَدْ شَهِدَ عِيسَى أَنَّهُ إِيلِيَا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى قَوْلُ (؟) عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا ١٤ (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ) وَفِي الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا ١٠ (وَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ فَمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا) ١١ (فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ إِيلِيَا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ) ١٢ (وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَذَلِكَ ابْنُ الْإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ) ١٣ (حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلَامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمِدَانِ) وَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ لَمْ يُعَرِّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، وَفَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا، وَأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ أَيْضًا لَمْ يَعْرِفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَأَعْظَمُ رُتْبَةٍ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانُوا اعْتَمَدُوا مِنْ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَأَوْهُ مِرَارًا، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ إِلَهِهِمْ وَمَسِيحِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ ٣٣ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ يَحْيَى هَكَذَا (وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمَّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمَّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ) عَلَى زَعْمِ الْقِسِّيسِينَ أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا لَمْ يَنْزِلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ، لَعَلَّ كَوْنَ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعَذْرَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسِيحِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ
يَصِحُّ هَذَا لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرُ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ يَحْيَى أَشْرَفُ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِشَهَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَإِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَهُهُ وَرَبُّهُ عَلَى زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ كَوْنُهُ إِيلِيَا يَقِينِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ هَذَا النَّبِيُّ الْأَشْرَفُ نَفْسَهُ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَلَمْ يَعْرِفْ إِلَهَهُ وَرَبَّهُ إِلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ مُدَّةَ حَيَاةِ يَحْيَى أَنَّهُ إِيلِيَا، فَمَاذَا رَتَّبَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْعَوَامُّ عِنْدَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ بِخَبَرِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ وَتَرَدُّدُهُمْ فِيهِ؟ وقيافا رَئِيسَ الْكَهَنَةِ كَانَ نَبِيًّا عَلَى شَهَادَةِ يُوحَنَّا، كَمَا هُوَ - مُصَرَّحٌ
201
بِهِ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ، وَهُوَ أَفْتَى بِقَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكُفْرِهِ وَأَهَانَهُ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَلَوْ كَانَتْ عَلَامَاتُ الْمَسِيحِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرَّحَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ (فِيهَا) عَلَى أَحَدٍ، مَا كَانَ مَجَالٌ لِهَذَا النَّبِيِّ الْمُفْتِي بِقَتْلِ إِلَهَهُ، وَبِكُفْرِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَتْلِهِ وَكُفْرِهِ.
وَنَقَلَ مَتَّى وَلُوقَا فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَاجِيلِهِمْ خَبَرَ أَشْعِيَا فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَقَرَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا، وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا هَكَذَا (صَوَّتَّ الْمُنَادِي فِي الْبَرِّيَّةِ سَهِّلُوا طَرِيقَ الرَّبِّ أَصْلِحُوا فِي الْبَوَادِي سَبِيلًا لِإِلَهِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِيَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ وَلَا مَكَانِ خُرُوجِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَمَا ظَهَرَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ وَخَوَاصَّهُمْ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ وَصْفَ النِّدَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ يَعُمُّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَادِي مِثْلَ نِدَاءِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ، وَسَيَظْهَرُ لَكَ فِي (الْأَمْرِ السَّادِسِ) حَالُ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِخْبَارُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِصِفَتِهِ مُفَصَّلًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَجَالُ التَّأْوِيلِ لِلْمُعَانِدِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي ذَيْلِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢: ٤٢) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (بِالْبَاطِلِ) أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ، بِسَبَبِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا، وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّيَالَكُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ: هَذَا فَصْلٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ شَرْحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَتَى بِلَفْظِةٍ مُعْرَضَةٍ، وَإِشَارَةٍ مُدْرَجَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَا انْفَكَّ كُتَّابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ تَضَمُّنِ ذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ بِإِشَارَاتٍ، وَلَوْ كَانَ مُنْجَلِيًّا لِلْعَوَامِّ لَمَّا عُوتِبَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي كِتْمَانِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ ذَلِكَ غُمُوضًا بِنَقْلِهِ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ مِنَ الْعِبْرَانِيِّ إِلَى السُّرْيَانِيِّ، وَمِنَ السُّرْيَانِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مُحَصِّلَةَ أَلْفَاظٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
202
إِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بِتَعْرِيضٍ هُوَ عِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ جَلِيٌّ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ خَفِيٌّ. انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
(الْأَمْرُ الثَّالِثُ)
ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا ادِّعَاءٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا، لِمَا عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلُوا يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ وَلَمَّا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ وَلِمَا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟ أَيِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ مُوسَى، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ مُنْتَظَرًا مِثْلَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا، وَكَانَ مَشْهُورًا بِحَيْثُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ كَانَتْ
كَافِيَةً، وَفِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا ٤٠ (فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ قَالُوا: هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ) ٤١ (وَآخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ) وَظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ الْمَعْهُودَ عِنْدَهُمْ كَانَ غَيْرَ الْمَسِيحِ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِالْمَسِيحِ.
(الْأَمْرُ الرَّابِعُ) ادِّعَاءُ أَنَّ الْمَسِيحَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ بَاطِلٌ، لِمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِلنَّبِيِّ الْمَعْهُودِ الْآخَرِ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِالْبُرْهَانِ مَجِيئُهُ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَهُوَ بَعْدُهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ الْحَوَارِيِّينَ وَبُولَسَ، بَلْ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا ٢٧ (وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ انْحَدَرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ) ٢٨ (وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسَ وَأَشَارَ بِالرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْكُونَةِ الَّذِي صَارَ فِي أَيَّامِ كَلَوِدْيُوسَ قَيْصَرَ) فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ عَلَى تَصْرِيحِ إِنْجِيلِهِمْ. وَأَخْبَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسُ عَنْ وُقُوعِ الْجَدْبِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا ١٠ (وَبَيْنَمَا نَحْنُ مُقِيمُونَ أَيَّامًا كَثِيرَةً انْحَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَغَابُوسُ ١١) فَجَاءَ إِلَيْنَا وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولَسَ وَرَبَطَ يَدَيْ نَفْسَهُ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا يَقُولُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ. هَكَذَا سَيَرْبُطُهُ الْيَهُودُ فِي أُورْشَلِيمَ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي الْأُمَمِ) وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ أَغَابُوسَ نَبِيًّا، وَقَدْ يَتَمَسَّكُونَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الِادِّعَاءِ بِقَوْلِ الْمَسِيحِ الْمَنْقُولِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (احْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثَبَاتِ الْحُمْلَانِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ) وَالتَّمَسُّكُ بِهِ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ لَا الْأَنْبِيَاءِ الصَّدَقَةِ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ
203
قَيَّدَ بِالْكَذَبَةِ. نَعَمْ، لَوْ قَالَ: احْتَرِزُوا مِنْ كُلِّ نَبِيٍّ يَجِيءُ بَعْدِي، لَكَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَجْهٌ لِلتَّمَسُّكِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمْ لِثُبُوتِ نُبُوَّةِ الْأَشْخَاصِ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ الْأَنْبِيَاءُ الْكَذَبَةُ الْكَثِيرُونَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى بَعْدَ صُعُودِهِ، كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الرَّسَائِلِ
الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ فورنيثوس هَكَذَا ١٢ (وَلَكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لِأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِيمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ) ١٣ (لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ) فَمُقَدِّسُهُمْ يُنَادِي بِأَعْلَى نِدَاءٍ أَنَّ الرُّسُلَ الْكَذَبَةَ الْغَدَّارِينَ ظَهَرُوا فِي عَهْدِهِ وَقَدْ تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ.
وَقَالَ آدمُ كلارك الْمُفَسِّرُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ (هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ كَانُوا يَدَّعُونَ كَذِبًا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَمَا كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَانُوا يَعِظُونَ وَيَجْتَهِدُونَ لَكِنْ مَقْصُودَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ) وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا هَكَذَا (أَيُّهَا الْأَحْبَابُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ) فَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ قَدْ ظَهَرُوا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا ٩ (وَكَانَ قُبُلًا فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ قَائِلًا إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ١٠ (وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَّبِعُونَهُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ قُوَّةُ اللهِ الْعَظِيمَةِ) وَفِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا (وَلَمَّا اجْتَازَا الْجَزِيرَةَ إِلَى بَاقُوسَ وَجَدَا رَجُلًا سَاحِرًا نَبِيًّا كَذَّابًا يَهُودِيًّا اسْمُهُ باريشوع) وَكَذَا سَيَظْهَرُ الدَّجَّالُونَ الْكَذَّابُونَ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، كَمَا أَخْبَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَقَالَ: لَا يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى. فَمَقْصُودُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التَّحْذِيرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَالْمُسَحَاءِ الْكَذَبَةِ لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ (مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا) وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ثِمَارُهُ عَلَى مَا عَرَفْتُ فِي الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَطَاعِنِ الْمُنْكِرِينَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَهُودَ يُنْكِرُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَيُكَذِّبُونَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ أَشَرُّ مِنْهُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى
زَمَانِ خُرُوجِهِ، وَكَذَا أُلُوفٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْنَاءِ صِنْفِ الْقِسِّيسِينَ وَكَانُوا مَسِيحِيِّينَ ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ لِاسْتِقْبَاحِهِمْ إِيَّاهَا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَبِمِلَّتِهِ وَأَلَّفُوا رَسَائِلَ كَثِيرَةً لِإِثْبَاتِ آرَائِهِمْ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ فِي أَكْنَافِ الْعَالَمِ وَيَزِيدُ مُتَّبِعُوهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي دِيَارِ أُورُبَّا، فَكَمَا أَنَّ إِنْكَارَ الْيَهُودِ هَؤُلَاءِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ
204
السَّلَامُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، فَكَذَا إِنْكَارُ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا.
(الْأَمْرُ الْخَامِسُ) الْإِخْبَارَاتُ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَسِيحِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ عَلَى تَفَاسِيرِ الْيَهُودِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ هُمْ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَالْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُونَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى تَفَاسِيرِهِمْ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ، وَيُفَسِّرُونَهَا وَيُؤَوِّلُونَهَا بِحَيْثُ تَصْدُقُ فِي زَعْمِهِمْ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَنَقَلَ هُنَا عِبَارَةً عَنْ مِيزَانِ الْحَقِّ بِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ) : كَمَا أَنَّ تَأْوِيلَاتِ الْيَهُودِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَغَيْرُ لَائِقَةٍ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ، كَذَلِكَ تَأْوِيلَاتُ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَنَا، وَسَتَرَى أَنَّ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَنْقُلُهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرُ صِدْقًا مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا بَأْسَ عَلَيْنَا إِنْ لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى تَأْوِيلَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْيَهُودَ ادَّعَوْا فِي حَقِّ بَعْضِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أَوَلَيْسَتْ فِي حَقِّ أَحَدٍ، وَالْمَسِيحِيُّونَ يَدَّعُونَ أَنَّهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يُبَالُونَ بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَكَذَا نَحْنُ لَا نُبَالِي بِمُخَالَفَةِ الْمَسِيحِيِّينَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ قَالُوا إِنَّهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَتَرَى أَيْضًا أَنَّ صِدْقَهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْيَقُ مِنْ صِدْقِهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَادِّعَاؤُنَا أَحَقُّ مِنِ ادِّعَائِهِمْ.
(الْأَمْرُ السَّادِسُ)
مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِاعْتِقَادِ الْمَسِيحِيِّينَ ذَوُو إِلْهَامٍ، وَقَدْ نَقَلُوا الْإِخْبَارَاتِ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَكُونُ هَذَا النَّقْلُ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْإِلْهَامِ، فَأَذْكُرُ نُبَذًا مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأُنْمُوذَجِ؛ لِيَقِيسَ الْمُخَاطَبُ حَالَ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالْإِخْبَارَاتِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ سَلَكَ أَحَدٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ مَسْلَكَ الِاعْتِسَافِ، وَتَصَدَّى لِتَأْوِيلِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ أَوَّلًا الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِيَظْهَرَ لِلْمُنْصِفِ اللَّبِيبِ حَالَ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْجَانِبَانِ، وَيُقَابِلُهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَإِنْ غَمُضَ النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِخْبَارَاتِ الْعِيسَوَيِّةِ الَّتِي نَقَلَهَا الْمُؤَلِّفُونَ الْمَذْكُورُونَ، وَأَوَّلُ الْإِخْبَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى عَجْزِهِ وَتَعَصُّبِهِ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي وَالْخَامِسِ أَنَّ
205
الْمُعَانِدَ لَهُ مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّأْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْتُ عَلَى نُبُذٍ مِمَّا نَقَلَهُ مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْبَعْضَ مِنْهَا غَلَطٌ يَقِينًا، وَالْبَعْضَ مِنْهَا مُحَرَّفٌ، وَالْبَعْضَ مِنْهَا لَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَّا بِالِادِّعَاءِ الْبَحْتِ وَالتَّحَكُّمِ الصَّرْفِ، ظَهَرَ أَنَّ حَالَ الْإِخْبَارَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَسِيحِيُّونَ الَّذِينَ لَيْسُوا ذَوِي إِلْهَامٍ وَوَحْيٍ يَكُونُ أَسْوَأَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَقْلِهَا.
(الْخَبَرُ الْأَوَّلُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟ وَقَدْ عَرَفْتَ فِي بَيَانِ الْغَلَطِ الْخَمْسِينَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ غَلَطٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ
مَرْيَمَ عَذْرَاءَ
206
وَقْتَ الْحَبْلِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالْمُنْكِرِينَ، وَلَا يَتِمُّ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ وِلَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ فِي نِكَاحِ يُوسُفِ النَّجَّارِ عَلَى تَصْرِيحِ الْإِنْجِيلِ، وَالْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ وَلَدُ يُوسُفِ النَّجَّارِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ ٥٥ مِنَ الْبَابِ ١٣ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَالْآيَةُ ٤٥ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَالْآيَةُ ٤٢ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَإِلَى الْآنِ يَقُولُونَ هَكَذَا، بَلْ أَشْنَعَ مِنْهُ. وَالْعَلَامَةُ الْأُخْرَى الْمُخْتَصَّةُ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ.
(الْخَبَرُ الثَّانِي) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ مِيخَا، وَلَا تُطَابِقُ عِبَارَةُ مَتَّى عِبَارَةَ مِيخَا، فَإِحْدَاهُمَا مُحَرَّفَةٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّ مُحَقِّقِيهِمُ اخْتَارُوا تَحْرِيفَ عِبَارَةِ مِيخَا؛ لَكِنِ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِنْجِيلِ فَقَطْ وَ (هُوَ) عِنْدَ الْمُخَالِفِ بَاطِلٌ.
(الْخَبَرُ الثَّالِثُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟
207
(الْخَبَرُ الرَّابِعُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ ١٧، ١٨ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ؟ (١، ٢)
(الْخَبَرُ الْخَامِسُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ؟ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ غَلَطٌ، كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.
208
(الْخَبَرُ السَّادِسُ) الْآيَةُ التَّاسِعَةُ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّهُ غَلَطٌ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ يُوجَدُ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ زَكَرِيَّا، وَلَا مُنَاسِبَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ الَّتِي نَقَلَهَا مَتَّى؛ لِأَنَّ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ مَا ذَكَرَ اسْمَيْ عَصَوَيْنِ وَرَعْيِ قَطِيعٍ (فَإِنَّهُ) يَقُولُ هَكَذَا - تَرْجَمَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَنَةَ ١٨٤٤ - (١٢ وَقُلْتُ لَهُمْ، إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَهَاتُوا أَجْرِي وَإِلَّا فَكُفُّوا، فَوَزَنُوا أَجْرِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ) ١٣ (وَقَالَ لِيَ الرَّبُّ أَلْقِهَا إِلَى صُنَّاعِ التَّمَاثِيلِ ثَمَنًا كَرِيمًا ثَمِّنُونِي بِهِ، فَأَخَذْتُ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ
أَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى صُنَّاعِ التَّمَاثِيلِ) فَظَاهِرُ كَلَامِ زَكَرِيَّا أَنَّهُ بَيَانُ حَالٍ لَا إِخْبَارٌ عَنِ الْحَادِثَةِ الْآتِيَةِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِذُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الصَّالِحِينَ مِثْلَ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا مِنَ الْكَافِرِينَ مِثْلَ يَهُوذَا.
(الْخَبَرُ السَّابِعُ) مَا نَقَلَهُ بُولِسُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ حَالَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّهُ غَلَطٌ لَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(وَالْخَبَرُ الثَّامِنُ) الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالِ فَمِي وَأَنْطِقُ بَمَكْتُوبَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الزَّبُورِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ، لَكِنَّهُ ادِّعَاءٌ مَحْضٌ وَتَحَكُّمٌ بَحْتٌ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ هَذَا الزَّبُورِ هَكَذَا (٢ أَفْتَحُ بِالْأَمْثَالِ فَمِي وَأَنْطِقُ بِالَّذِي كَانَ قَدِيمًا ٣ كُلُّ مَا سَمِعْنَاهُ وَعَرَفْنَاهُ وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا ٤ وَلَمْ يُخْفُوهُ عَنْ أَوْلَادِهِمْ إِلَى الْجِيلِ الْآخَرِ إِذْ يُخْبِرُونَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ وَقُوَّاتِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي صَنَعَ ٥ إِذْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ فِي يَعْقُوبَ وَوَضَعَ النَّامُوسَ
209
فِي إِسْرَائِيلَ كُلَّ الَّذِي أَوْصَى آبَاؤُنَا لِيَعْرِفُوا بِهِ أَبْنَاءَهُمْ ٦ لِكَيْ مَا يَعْلَمُ الْجِيلُ الْآخَرُ بَيْنَهُمُ الْمَوْلُودِينَ ٧ فَيَقُومُونَ أَيْضًا وَيُخْبِرُونَ بِهِ أَبْنَاءَهُمْ ٨ لِكَيْ يَجْعَلُوا اتِّكَالَهُمْ عَلَى اللهِ، وَلَا يَنْسَوْا أَعْمَالَ اللهِ وَيَلْتَمِسُوا وَصَايَاهُ ٩ لِئَلَّا يَكُونُوا مِثْلَ آبَائِهِمُ الْجِيلِ الْأَعْرَجِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِمْ قَلْبُهُ وَلَا آمَنَتْ بِاللهِ رُوحُهُ).
وَهَذِهِ الْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَرْوِي الْحَالَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنَ الْآبَاءِ لِيُبْلِّغَهَا إِلَى الْأَبْنَاءِ عَلَى حَسَبِ عَهْدِ اللهِ، لِتَبْقَى الرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةً، وَبَيَّنَ مَنِ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ حَالَ إِنْعَامَاتِ اللهِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَشَرَارَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا لَحِقَهُمْ بِسَبَبِهَا، ثُمَّ قَالَ (٦٦ وَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَالنَّائِمِ مِثْلَ الْجَبَّارِ الْمُفِيقِ مِنَ الْخَمْرِ ٦٧ فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ فِي الْوَرَاءِ وَجَعَلَهُمْ عَارًا إِلَى الدَّهْرِ ٦٨ وَأَبْعَدَ مَحَلَّهُ يُوسُفَ
وَلَمْ يُخْبِرْ سِبْطَ أَفَرَامَ ٦٩ بَلِ اخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا لِجَبَلِ صَهْيُونَ الَّذِي أَحَبَّ ٧٠ وَبَنَى مِثْلِ وَحِيدِ الْقَرْنِ قَدَّسَهُ وَأَسَّسَهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَبَدِ ٧١ وَاخْتَارَ دَاوُدُ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ مَرَاعِي الْغَنَمِ ٧٢ وَمِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَخَذَهُ لِيَرْعَى يَعْقُوبُ عَبْدَهُ وَإِسْرَائِيلُ مِيرَاثَهُ ٧٣ فَرَعَاهُمْ بِدَعَةً قَبْلَهُ وَيَفْهَمُ يَدَيْهِ أَهْدَاهُمْ).
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّهُ هَذَا الزَّبُورُ فِي حَقِّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(الْخَبَرُ التَّاسِعُ) فِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (١٤ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِأَشْعِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ ١٥ أَرْضَ زَبْلُونَ وَأَرْضَ نِفْتَالِيمَ طَرِيقُ الْبَحْرِ عَبْرَ الْأُرْدُنِّ جَلِيلِ الْأُمَمِ ١٦ الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا وَعِبَارَتِهِ هَكَذَا (١ - فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ اسْتَخَفَّتْ أَرْضُ زَبْلُونَ وَأَرْضَ نِفْتَالِي، وَفِي الْآخَرِ تَثَقَّلْتَ طَرِيقَ الْبَحْرِ عَبْرَ الْأُرْدُنِّ جَلِيلِ الْأُمَمِ ٢ الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ رَأَى نُورًا عَظِيمًا السَّاكِنُونَ فِي بِلَادِ ظِلَالِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ) وَفَرَّقَ مَا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا مُحَرَّفَةٌ، وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا، لَا دَلَالَةَ لِكَلَامِ أَشْعِيَا عَلَى ظُهُورِ شَخْصٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخْبِرُ أَنَّ حَالَ سُكَّانِ أَرْضِ زَبْلُونَ وَنَفْتَالِي كَانَ سَقِيمًا فِي سَالِفِ الزَّمَانِ ثُمَّ صَارَ حَسَنًا، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَغُ الْمَاضِي أَعْنِي: اسْتَخَفَّتْ، وَتَثَقَّلَتْ، وَرَأَى وَأَشْرَقَ، وَإِنْ عَدَلْنَا عَنِ الظَّاهِرِ وَحَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَجَازِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَقُلْنَا: إِنَّ رُؤْيَةَ النُّورِ وَإِشْرَاقَهُ عَلَيْهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُرُورِ الصُّلَحَاءِ بِأَرْضِهِمْ، فَادِّعَاءُ أَنَّ مِصْدَاقَ هَذَا الْخَبَرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَطْ تَحَكُّمٌ صِرْفٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مَرَّ بِتِلْكَ الْأَرْضِ وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلِيَاءَ أُمَّتِهِ أَيْضًا الَّذِينَ زَالَتْ ظُلْمَةُ الْكَفْرِ وَالتَّثْلِيثِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَارِ بِسَبَبِهِمْ، وَظَهَرَ نُورُ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ
210
الْمَسِيحِ كَمَا يَنْبَغِي. وَأَكْتَفِي خَوْفًا مِنَ التَّطْوِيلِ عَلَى (؟) هَذَا الْقَدْرِ. وَنَقَلْتُ الْأَخْبَارَ الْأُخَرَ أَيْضًا فِي (إِزَالَةِ الْأَوْهَامِ) وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلِّفَاتِي وَبَيَّنْتُ وُجُوهَ ضَعْفِهَا.
(الْأَمْرُ السَّابِعُ)
إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُمْ يُتَرْجِمُونَ غَالِبًا الْأَسْمَاءَ فِي تَرَاجِمِهِمْ، وَيُورِدُونَ بَدَلَهَا مَعَانِيهَا، وَهَذَا خَبْطٌ عَظِيمٌ وَمَنْشَأٌ لِلْفَسَادِ، وَأَنَّهُمْ يَزِيدُونَ تَارَةً شَيْئًا بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَلَا يُشِيرُونَ إِلَى الِامْتِيَازِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي تَرَاجِمِهِمُ الْمُتَدَاوَلَةِ بِأَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجَدَ شَوَاهِدَ تِلْكَ الْأُمُورِ كَثِيرَةً، وَأَنَا أُورِدُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأُنْمُوذَجِ بَعْضًا مِنْهَا.
١ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٣١ هَكَذَا (لِذَلِكَ دَعَتِ اسْمُ تِلْكَ الْبِيرِ بِيرِ الْحَيِّ النَّاظِرْنِيِّ) فَتَرْجَمُوا اسْمَ الْبِئْرِ الَّذِي كَانَ فِي الْعِبْرَانِيِّ بِالْعَرَبِيِّ.
٢ - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (هَكَذَا سَمَّى إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَكَانٌ يَرْحَمُ اللهُ زَائِرَهُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ (دَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الرَّبَّ يَرَى) فَتَرْجَمَ الْمُتَرْجِمُ الْأَوَّلُ الِاسْمَ الْعِبْرَانِيِّ بِمَكَانٍ يَرْحَمُ اللهُ زَائِرَهُ) وَالْمُتَرْجِمُ الثَّانِي بِالرَّبِّ يَرَى.
٣ - وَفِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٥٢ وَفِي سَنَةِ ١٨٤٤ هَكَذَا (فَكَتَمَ يَعْقُوبُ أَمْرَهُ عَنْ حَمْيِهِ) وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو (التَّرْجَمَةُ الْأُورْدِيِّةِ) الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٢٥ لَفْظُ لَابَانِ مَوْضِعُ حَمِيهِ، فَوَضَعَ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ لَفْظَ الْحَمْيِ مَوْضِعَ الِاسْمِ.
٤ - وَفِي الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالْمُدَبِّرُ
مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتِظَرُ الْأُمَمُ) فَقَوْلُهُ: (الَّذِي لَهُ الْكُلُّ) تَرْجَمَةُ لَفْظِ " شيلوه " وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُوَافَقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّسْمُ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَإِلَيْهِ يَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ (وَهَذَا الْمُتَرْجِمُ تَرْجَمَ لَفْظَ شيلوه (بِالَّذِي هُوَ لَهُ) وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُوَافِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ السُّرْيَانِيَّةِ، وَتَرْجَمَ هَذَا اللَّفْظَ مُحَقِّقُهُمُ الْمَشْهُورُ ليكرك بِعَاقِبَتِهِ، وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٢٥ وَقَعَ
211
لَفْظُ شيلَا، وَفِي التَّرْجَمَةِ اللَّاتِينِيَّةِ وَلتكيت (الَّذِي سَيُرْسِلُ) فَالْمُتَرْجِمُونَ تَرْجَمُوا لَفْظَ شيلوه بِمَا ظَهَرَ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا اللَّفْظُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ لِلشَّخْصِ الْمُبَشَّرِ بِهِ.
٥ - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أهيه أشراهيه) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (قَالَ لَهُ الْأَزَلِيَّ الَّذِي لَا يَزَالُ) فَلَفْظُ أهيه أشراهيه كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الذَّاتِ، فَتَرْجَمَهُ الْمُتَرْجِمُ الثَّانِي بِالْأَزَلِيِّ الَّذِي لَا يَزَالُ.
٦ - وَفِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (تَبْقَى فِي النَّهْرِ فَقَطْ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (تَبْقَى فِي النِّيلِ فَقَطْ).
٧ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (فَابْتَنَى مُوسَى مَذْبَحًا وَدَعَا اسْمُهُ الرَّبُّ عَظَمَتِي) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (وَبَنَى مَذْبَحًا وَسَمَّاهُ اللهُ عِلْمِي) وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو مُوَافِقَةٌ لِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ فَأَقُولُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الِاخْتِلَافِ إِنَّ الْمُتَرْجِمِينَ تَرْجَمُوا الِاسْمَ الْعِبْرَانِيَّ.
٨ - وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هَكَذَا (مِنْ مَيْعَةٍ فَائِقَةٍ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (مِنَ الْمِسْكِ الْخَالِصِ) وَبَيْنَ الْمَيْعَةِ وَالْمِسْكِ فَرْقُ مَا فَسَّرُوا الِاسْمَ الْعِبْرَانِيَّ
بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ.
٩ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (أَيِ: التَّثْنِيَةِ) فِي التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُنَاكَ (فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى رَسُولُ اللهِ) فَهَؤُلَاءِ الْمُتَرْجِمُونَ لَوْ بَدَّلُوا فِي الْبِشَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَفْظَ رَسُولِ اللهِ بِلَفْظٍ آخَرَ فَلَا اسْتِبْعَادَ مِنْهُمْ.
١٠، ١١ تَرَكْنَا الشَّاهِدَيْنِ لِلِاخْتِصَارِ.
١٢ - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (فَإِنْ أَرَدْتُمْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوهُ فَهَذَا هُوَ الْمُزْمَعُ بِالْإِتْيَانِ)
212
فَالْمُتَرْجِمُ الْأَخِيرُ بَدَّلَ لَفْظَ إِيلِيَا بِهَذَا، فَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ لَوْ بَدَّلُوا أَسْمَاءَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِشَارَةِ فَلَا عَجَبَ.
١٣ - وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (لَمَّا عَلِمَ يَسُوعُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٦٠ (لَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ) فَبَدَّلَ الْمُتَرْجَمَانِ الْأَخِيرَانِ لَفْظَ يَسُوعَ - الَّذِي كَانَ عِلْمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّبِّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّعْظِيمِيَّةِ، فَلَوْ بَدَّلُوا اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَلْفَاظِ التَّحْقِيرِيَّةِ لِأَجْلِ عَادَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَلَا عَجَبَ.
وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ تَدُلُّ عَلَى تَرْجَمَةِ الْأَسْمَاءِ وَإِيرَادِ لَفْظٍ آخَرَ بَدَلَهَا: ١ - فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: ايلِي ايلِي، لِمَاذَا شَبَقْتَنِي؟ أَيْ: إِلَهَيْ إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا الْوي الْوي لِمَاذَا شَبَقْتَنِي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي)
فَلَفْظُ: أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكَتْنِي فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، وَكَذَا لَفْظُ " الَّذِي تَفْسِيرُهُ إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكَتْنِي " فِي إِنْجِيلِ مُرْقُسَ، لَيْسَا مِنْ كَلَامِ الشَّخْصِ الْمَصْلُوبِ يَقِينًا، بَلْ أَلْحَقَا بِكَلَامِهِ.
٢ - فِي الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (لَقُبُهَا بِبِوَانِ رِجْسِ أَيِ: ابْنِي الرَّعْدُ) فَلَفْظُ " أَيِ: ابْنِي الرَّعْدُ " لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ هُوَ إِلْحَاقِيٌّ.
٣ - فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (وَقَالَ لَهَا طليثا قومي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا صَبِّيَةَ لَكِ أَقُولُ قَوْمِي) فَهَذَا التَّفْسِيرُ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
٤ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَأَوَّهَ وَقَالَ: افثا يَعْنِي انْفَتَحَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَنَهَّدَ وَقَالَ: افاثا، الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَنَهَّدَ وَقَالَ لَهُ: انْفَتَحَ الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا (وَرَفْع نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهُ: افثا أَيِ: انْفَتَحَ) وَمِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّةُ اللَّفْظِ الْعِبْرَانِيِّ أَهْوَ افثا أَوِ افاثا أَوِ انْفَتَحَ لِأَجَلِ
213
اخْتِلَافِ التَّرَاجِمِ الَّتِي مَنْشَأُ اخْتِلَافِهَا عَدَمُ صِحَّةِ أَلْفَاظِ أُصُولِهَا، لَكِنَّهُ يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ لَفْظَ أَيِ: انْفَتَحَ أَوِ الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمَسِيحِيَّةُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي نَقَلْتُهَا مِنَ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ إِلَى هَاهُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ الَّذِي كَانَ لِسَانَ قَوْمِهِ، وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْيُونَانِيِّ، وَهُوَ قَرِيبُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِبْرَانِيًّا ابْنَ عِبْرَانِيَّةٍ نَشَأَ فِي قَوْمِهِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَنَقْلُ أَقْوَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ فِي الْيُونَانِيِّ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، وَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِ أَقْوَالِهِ مَرْوِيَّةً بِرِوَايَةِ الْآحَادِ.
٥ - فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنِ انْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (فَقَالَا لَهُ: رَبِّي الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ) فَقَوْلُهُ: الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ - إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمَا.
٦ - فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (قَدْ وَجَدْنَا مسيا الَّذِي تَأْوِيلُهُ الْمَسِيحُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (مَا مَسِيحُ رَاكَّةٌ تَرْجَمَةُ آنَ كرسطوس ميباشمد يا فتيم) وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٤ تُوَافِقُ الْفَارِسِيَّةُ، فَيُعْلَمُ مِنَ التَّرْجَمَتَيْنِ الْعَرَبِيَّتَيْنِ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي قَالَهُ أندراوس هومسيا وَأَنَّ الْمَسِيحَ تَرْجَمَتُهُ، وَمِنَ التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَأُرْدُو (أَيِ: التَّرْجَمَةِ الْأُورْدِيَّةِ) أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ هُوَ الْمَسِيحُ وكرسطوس تَرْجَمَتُهُ، وَيُعْلَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٣٩ أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ خرسته، وَأَنَّ الْمَسِيحَ تَرْجَمَتُهُ، فَلَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَيُّ لَفْظٍ كَانَ الْأَصْلَ؟ أَمسيا أَمِ الْمَسِيحُ أَمْ خرسته؟ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ أندراوس هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَقِينًا، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّفْظُ وَالتَّفْسِيرُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْأَصْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ تَفْسِيرِهِ، لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفْسِيرَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ أَيَّامًا كَانَ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أندراوس.
٧ - فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ بُطْرُسَ الْحَوَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (أَنْتَ تُدْعَى بِبُطْرُسَ الَّذِي تَأْوِيلُهُ الصَّخْرَةُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (سَتُسَمَّى أَنْتَ بِالصَّفَا الْمُفَسِّرِ بِبُطْرُسَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ
الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (ترابكيفاس كه تَرْجَمَةُ: آن سنك است تداخوا هند كرد). أَمْطَرَ اللهُ حِجَارَةً عَلَى تَحْقِيقِهِمْ وَتَصْحِيحِهِمْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُفَسِّرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَنِ الْمُفَسَّرِ، لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفْسِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ هُوَ إِلْحَاقِيٌّ، وَإِذَا كَانَ حَالُ تَرَاجِمِهِمْ وَحَالُ تَحْقِيقِهِمْ فِي لَقَبِ إِلَهِهِمْ وَلَقَبِ خَلِيفَتِهِ كَمَا عَلِمْتَ فَكَيْفَ نَرْجُو مِنْهُمْ صِحَّةَ بَقَاءِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ لَقَبٍ مِنْ أَلْقَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!.
214
(ثُمَّ قَالَ بَعْدَ إِيرَادِ شَوَاهِدَ أُخْرَى مَا نَصُّهُ) : فَإِذَا كَانَتْ خَصْلَةُ أَهْلِ الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ مَا عَرَفْتَ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ أَهْلِ الدِّيَانَةِ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنِ التَّحْرِيفَ الْقَصْدِيَّ بِالتَّبْدِيلِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ خِصَالِهِمْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ، فَبَعْضُ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا الْعُلَمَاءُ الْأَسْلَافُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ الْإِمَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ تَجِدْهَا مُوَافَقَةً فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لِلتَّرَاجِمِ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ فَسَبَبُهُ غَالِبًا هَذَا التَّغْيِيرُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ نَقَلُوا عَنِ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ رَائِجَةً فِي عَهْدِهِمْ، وَبَعْدَ زَمَانِهِمْ وَقَعَ الْإِصْلَاحُ فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ ذَاكَ السَّبَبُ اخْتِلَافُ التَّرَاجِمِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّنَا نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ إِلَى الْآنِ فِي تَرَاجِمِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى مِيزَانِ الْحَقِّ إِلَخْ.
(الْأَمْرُ الثَّامِنُ)
إِنَّ بُولُسَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي رُتْبَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْكَذَّابِينَ وَمُعَلِّمِي الزُّورِ وَالرُّسُلِ الْخَدَّاعِينَ الَّذِينَ ظَهَرُوا بِالْكَثْرَةِ بَعْدَ عُرُوجِ الْمَسِيحِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الَّذِي خَرَّبَ الدِّينَ الْمَسِيحِيَّ، وَأَبَاحَ كُلَّ مُحَرَّمٍ لِمُعْتَقِدِيهِ، وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ مُؤْذِيًا لِلطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ جَهْرًا، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى هَذَا الْإِيذَاءَ الْجَهْرِيَّ لَا يَنْفَعُ نَفْعًا مُعْتَدًّا بِهِ؛ دَخَلَ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَادَّعَى رِسَالَةَ الْمَسِيحِ، وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ الظَّاهِرِيَّ، فَفَعَلَ فِي هَذَا الْحِجَابِ مَا فَعَلَ، وَقَبِلَهُ أَهْلُ التَّثْلِيثِ لِأَجْلِ زُهْدِهِ الظَّاهِرِيِّ، وَلِأَجْلِ إِفْرَاغِ ذِمَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا قَبِلَ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ مِنَ الْمَسِيحَيِّينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي " منتش " الَّذِي كَانَ زَاهِدًا مُرْتَاضًا، وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْفَارْقَلِيطُ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَقَبِلُوهُ لِأَجْلِ زُهْدِهِ وَرِيَاضَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ فِي الْبِشَارَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ سَلَفًا وَخَلَفًا.
قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ فِي حَقِّ بُولُسَ هَذَا مُجِيبًا لِبَعْضِ الْقِسِّيسِينَ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ الصَّوْمِ هَكَذَا: " قُلْنَا ذَلِكَ - أَيْ: بُولُسَ - هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْكُمْ أَدْيَانَكُمْ، وَأَعْمَى بَصَائِرَكُمْ وَأَذْهَانَكُمْ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي غَيَّرَ دِينَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ، الَّذِي لَمْ تَسْمَعُوا لَهُ بِخَبَرٍ، وَلَا وَقَفْتُمْ مِنْهُ عَلَى أَثَرٍ، هُوَ الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَحَلَّلَ لَكُمْ كُلُّ مُحَرَّمٍ كَانَ فِي الْمِلَّةِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ أَحْكَامُهُ عِنْدَكُمْ وَتَدَاوَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ (تَخْجِيلِ مَنْ حَرَّفَ الْإِنْجِيلَ) فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِهِ فِي بَيَانِ فَضَائِحِ النَّصَارَى فِي حَقِّ بُولُسَ هَذَا هَكَذَا " وَقَدْ سَلَّهُمْ بُولُسُ هَذَا مِنَ الدِّينِ بِلَطِيفِ خِدَاعِهِ؛ إِذْ رَأَى عُقُولَهُمْ قَابِلَةٌ لِكُلِّ مَا يُلْقَى إِلَيْهَا، وَقَدْ طَمَسَ هَذَا الْخَبِيثُ رُسُومَ التَّوْرَاةِ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ، وَهَكَذَا أَقْوَالُ عُلَمَائِنَا الْآخَرِينَ. فَكَلَامُهُ عِنْدَمَا مَرْدُودٌ وَرَسَائِلُهُ الْمُنْضَمَّةُ بِالْعَهْدِ الْعَتِيقِ
215
كُلُّهَا وَاجِبَةُ الرَّدِّ، وَلَا نَشْتَرِي
قَوْلَهُ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَلَا أَنْقُلُ عَنْ أَقْوَالِهِ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْنَا.
وَإِذْ قَدْ عَرَفْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّمَانِيَةَ أَقُولُ: إِنَّ الْأَخْبَارَ الْوَاقِعَةَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوجَدُ كَثِيرَةً إِلَى الْآنِ أَيْضًا مَعَ وُقُوعِ التَّحْرِيفَاتِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وَمَنْ عَرَفَ أَوَّلًا طَرِيقَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي ثُمَّ نَظَرَ ثَانِيًا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ إِلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَقَابَلَهَا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَرَفْتَ نُبَذًا مِنْهَا فِي الْأَمْرِ السَّادِسِ - جَزَمَ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُحَمَّدِيَّةَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَأَنْقُلُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ عَنِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ بِشَارَةً.
(الْبِشَارَةُ الْأُولَى)
فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (١٧ فَقَالَ الرَّبُّ لِي نَعَمْ جَمِيعُ مَا قَالُوا ١٨ وَسَوْفَ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ وَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ آمُرُهُ بِهِ ١٩، وَمَنْ لَمْ يُطِعْ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي فَأَنَا أَكُونُ الْمُنْتَقِمَ مِنْ ذَلِكَ ٢٠ فَأَنَا النَّبِيُّ الَّذِي يَجْتَرِي بِالْكِبْرِيَاءِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي اسْمِي مَا لَمْ آمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ أَمْ بِاسْمِ آلِهَةِ غَيْرِي فَلْيَقْتُلْ ٢١ فَإِنْ أَجَبْتَ وَقُلْتَ فِي قَلْبِكَ كَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُمَيِّزَ الْكَلَامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ ٢٢ فَهَذِهِ تَكُونُ لَكَ آيَةً أَنَّ مَا قَالَهُ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي اسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ فَالرَّبُّ لَمْ يَكُنْ تَكَلَّمَ بِهِ بَلْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَوَّرَهُ فِي تَعَظُّمِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَخْشَاهُ.
وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ لَيْسَتْ بِشَارَةً بِيُوشَعَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَزْعُمُ الْآنَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَلَا بِشَارَةً بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا زَعَمَ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ بَلْ هِيَ بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ.
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ مُبَشَّرًا بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ هَذَا الْمُبَشِّرُ بِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ الْمَسِيحِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمُبَشَّرُ بِهِ يُوشَعَ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ مِثْلَكَ، وَيُوشَعُ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ - لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا مِثْلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ مُوسَى كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) وَهِيَ هَكَذَا (١٠ وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَ ذَلِكَ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ) إِلَخْ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ يُوشَعَ وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَاحِبُ كِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ وَيُوشَعُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَتِهِ، وَكَذَا لَا تُوجَدُ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى
216
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إِلَهًا وَرَبًّا - عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى - وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَبْدًا لَهُ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى زَعْمِهِمْ - صَارَ مَلْعُونًا لِشَفَاعَةِ الْخَلْقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بُولُسُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غَلَاطْيَةَ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا صَارَ مَلْعُونًا لِشَفَاعَتِهِمْ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَخَلَ الْجَحِيمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ، وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا دَخَلَ الْجَحِيمَ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صُلِبَ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِأُمَّتِهِ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا صَارَ كَفَّارَةً لِأُمَّتِهِ بِالصَّلْبِ، وَأَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَأَحْكَامِ الْغُسْلِ وَالطِّهَارَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ بِخِلَافِ شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهَا فَارِغَةٌ عَنْهَا عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَا الْإِنْجِيلُ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ نَفَّاذًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ " وَلَا شْكَّ أَنَّ الْأَسْبَاطَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرِينَ عِنْدَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ كَوْنَ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ " مِنْهُمْ " لَقَالَ مِنْهُمْ لَا " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ " لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا اللَّفْظِ أَلَّا يَكُونَ الْمُبَشَّرُ بِهِ لَهُ عَلَاقَةُ الصُّلْبِيَّةِ وَالْبَطْنِيَّةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا جَاءَ لَفْظُ الْإِخْوَةِ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ فِي وَعْدِ اللهِ لِهَاجَرَ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَعِبَارَتُهَا فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (وَقِبْلَةُ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ بِنَصْبِ الْمَضَارِبِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا
(بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ) وَجَاءَ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (مُنْتَهَى إِخْوَتِهِ جَمِيعِهِمْ سَكَنٌ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطُبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (أَقَامَ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ) وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَةِ هَاهُنَا بَنُو عِيسُو وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ هَكَذَا: (ثُمَّ أَرْسَلَ مُوسَى رُسُلًا مِنْ قَادِسَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ قَائِلًا: هَكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ كُلَّ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَنَا) وَفِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (٣ وَقَالَ لِيَ الرَّبُّ ٤ ثُمَّ أَوْصِ الشَّعْبَ إِنَّكُمْ سَتَجُوزُونَ فِي تُخُومِ إِخْوَتِكُمْ بَنِي عِيسو الَّذِينَ فِي سَاعِيرَ وَسَيَخْشَوْنَكُمْ ٥ فَلَمَّا جُزْنَا إِخْوَتَنَا بَنِي عِيسُو الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سَاعِيرَ إِلَخْ) وَالْمُرَادُ بِإِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَنُو عِيسُو، وَلَا شْكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَعْضٍ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّوْرَاةِ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ، وَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ وَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَانِعٌ قَوِيٌّ، وَيُوشَعُ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَلَا تَصْدُقْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ عَلَيْهِمَا.
217
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ " سَوْفَ أُقِيمُ " وَيُوشَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَاخِلًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ!.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ: " أَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ " وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَإِلَى أَنَّهُ يَكُونُ أُمِّيًّا حَافِظًا لِلْكَلَامِ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى يُوشَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِانْتِفَاءِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فِيهِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ: وَمَنْ لَمْ يُطِعْ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ فَأَنَا أَكُونُ الْمُنْتَقِمَ مِنْهُ، فَهَذَا الْأَمْرُ لَمَّا ذُكِرَ لِتَعْظِيمِ هَذَا النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَازَ ذَلِكَ الْمُبَشَّرُ بِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْمُنْكِرِ الْعَذَابُ الْأُخْرَوِيُّ الْكَائِنُ فِي جَهَنَّمَ، أَوِ الْمِحَنُ وَالْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ الْمُنْكِرِينَ مِنَ الْغَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِانْتِقَامَ لَا يَخْتَصُّ بِإِنْكَارِ
نَبِيٍّ دُونَ نَبِيٍّ، بَلْ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، فَحِينَئِذٍ يُرَادُ بِالِانْتِقَامِ الِانْتِقَامُ التَّشْرِيعِيُّ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ يَكُونُ مَأْمُورًا مِنْ جَانِبِ اللهِ بِالِانْتِقَامِ مِنْ مُنْكِرِهِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ خَالِيَةٌ عَنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ وَالْجِهَادِ.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (١٩ فَتُوبُوا وَارْجِعُوا كَيْ تُمْحَى خَطَايَاكُمْ ٢٠ حَتَّى إِذَا تَأَتِي أَزْمِنَةُ الرَّاحَةِ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِ الرَّبِّ وَيُرْسِلُ الْمُنَادَى بِهِ لَكُمْ وَهُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ ٢١ الَّذِي إِيَّاهُ يَنْبَغِي لِلسَّمَاءِ أَنْ تَقْبَلَهُ السَّمَاءُ إِلَى الزَّمَانِ الَّذِي يَسْتَرِدُّ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ٢٢ إِنَّ مُوسَى قَالَ: إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُقِيمُ لَكُمْ نَبِيًّا مِنْ إِخْوَتِكُمْ مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ ٢٣ وَيَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ لَا تَسْمَعُ ذَلِكَ النَّبِيَّ تَهْلَكُ مِنَ الشَّعْبِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ...
(حَذَفْنَا النَّصَّ الْفَارِسِيَّ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يَذْكُرُهُ مِنْ مَضْمُونِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ) :
فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ سِيَّمَا بِحَسَبِ التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ تَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ غَيْرَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّ الْمَسِيحَ لَا بُدَّ أَنْ تَقْبَلَهُ السَّمَاءُ إِلَى زَمَانِ ظُهُورِ هَذَا النَّبِيِّ، وَمَنْ تَرَكَ التَّعَصُّبَ الْبَاطِلَ مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ - وَتَأَمَّلَ فِي عِبَارَةِ بُطْرُسَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ بُطْرُسَ يَكْفِي لِإِبْطَالِ ادِّعَاءِ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ السَّبْعَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَصْدُقُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلَ صِدْقٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيُمَاثِلُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ (١) كَوْنُهُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ. (٢) كَوْنُهُ ذَا وَالِدَيْنِ (٣) كَوْنُهُ ذَا نِكَاحٍ وَأَوْلَادٍ (٤) كَوْنُ شَرِيعَتِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى السِّيَاسَاتِ الْمَدَنِيَّةِ. (٥) كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ (٦) اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْعِبَادَةِ فِي شَرِيعَتِهِ. (٧) وُجُوبُ الْغُسْلِ لِلْجُنُبِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي شَرِيعَتِهِ (٨) اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ مِنْ
218
الْبَوْلِ وَالْبُرَازِ فِيهَا. (٩) حُرْمَةُ غَيْرِ الْمَذْبُوحِ وَقَرَابِينِ الْأَوْثَانِ فِيهَا. (١٠) وَكَوْنُ شَرِيعَتِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. (١١) أَمْرُهُ بِحَدِّ الزِّنَا. (١٢) تَعْيِينُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَالْقِصَاصِ (١٣) كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِهَا. (١٤) تَحْرِيمُ الزِّنَا. (١٥) أَمْرُهُ بِإِنْكَارِ مَنْ
يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ (١٦) أَمْرُهُ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ (١٧) أَمْرُهُ الْأُمَّةَ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، لَا ابْنَ اللهِ أَوِ اللهَ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ (١٨) مَوْتُهُ عَلَى الْفِرَاشِ. (١٩) كَوْنُهُ مَدْفُونًا كَمُوسَى (٢٠) عَدَمُ كَوْنِهِ مَلْعُونًا لِأَجْلِ أُمَّتِهِ.
وَهَكَذَا أُمُورٌ أُخَرُ تَظْهَرُ إِذَا تُؤَمِّلَ فِي شَرِيعَتِهِمَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (٧٣: ١٥) وَكَانَ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ أُمِّيًّا جَعَلَ كَلَامَ اللهِ فِي فَمِهِ، وَكَانَ يَنْطِقُ بِالْوَحْيِ كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤) وَكَانَ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ، وَقَدِ انْتَقَمَ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَالْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَظَهَرَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسِيحِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ لِلسَّمَاءِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى ظُهُورِهِ لِيَرُدَّ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَمْحَقَ الشِّرْكَ وَالتَّثْلِيثَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ مِنْ كَثْرَةِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ قَدْ أَخْبَرَنَا عَلَى أَتَمِّ تَفْصِيلٍ وَأَكْمَلِ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى رَيْبٌ مَا بِكَثْرَتِهِمْ وَقْتَ قُرْبِ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهَذَا الْوَقْتُ قَرِيبٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَسَيَظْهَرُ الْإِمَامُ وَيَظْهَرُ الْحَقُّ عَنْ قَرِيبٍ، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، جَعَلْنَا اللهُ مِنْ أَنْصَارِهِ وَخُدَّامِهِ آمِينَ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّهُ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى اللهِ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ يُقْتَلُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا حَقًّا لَكَانَ قُتِلَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَيْضًا: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٦٩: ٤٤ - ٤٦) وَمَا قُتِلَ، بَلْ قَالَ اللهُ فِي حَقِّهِ: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (٥: ٦٧) وَأَوْفَى وَعْدَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى لَقِيَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ فِي حَقِّهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا كَاذِبًا كَمَا يَزْعُمُهُ الْيَهُودُ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ اللهَ بَيَّنَ عَلَامَةَ النَّبِيِّ الْكَاذِبِ (وَهِيَ) أَنَّ أَخْبَارَهُ عَنِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَخْرُجُ صَادِقَةً، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَنِ الْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَا عَلِمْتَ
فِي الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ، وَظَهَرَ صِدْقَهُ فِيهَا فَيَكُونُ نَبِيًّا صَادِقًا لَا كَاذِبًا.
219
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ سَلَّمُوا كَوْنَهُ مُبَشَّرًا بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْلَمَ، وَبَعْضُهُمْ بَقِيَ فِي الْكُفْرِ - كَمَا أَنَّ قيافا وَكَانَ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ وَنَبِيًّا عَلَى زَعْمِ يُوحَنَّا عَرَفَ أَنَّ عِيسَى هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بَلْ أَفْتَى بِكُفْرِهِ وَقَتْلِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ - كَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُخَيْرِيقٍ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ إِلْفَةُ دِينِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ (غَزْوَةِ) أُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَاللهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ. قَالُوا: فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ؟ قَالَ: لَا سَبْتَ ثُمَّ أَخَذَ سِلَاحَهُ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَعَهِدَ إِلَى مَنْ وَرَائَهُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا أَرَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مُخَيْرِيقٍ خَيْرُ يَهُودَ " وَقَبَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْوَالَهُ، فَعَامَّةُ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " أَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ الْمَدَارِسِ فَقَالَ: أَخْرِجُوا إِلَيَّ أَعْلَمَكُمْ، فَقَالُوا: عَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَاشَدَهُ بِدِينِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَطْعَمَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَظَلَّلَهُمْ مِنَ الْغَمَامِ: أَتَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ، وَأَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَ مَا أَعْرِفُ، وَأَنَّ صِفَتَكَ وَنَعْتَكَ لَمُبَيَّنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنْ حَسَدُوكَ. قَالَ: " فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْتَ "؟ قَالَ: أَكْرَهُ خِلَافَ قَوْمِي، عَسَى أَنْ
يَتَّبِعُوكَ وَيُسْلِمُوا فَأُسْلِمُ - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ قُبَاءَ غَدَا عَلَيْهِ أَبِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ مُغَلِّسَيْنِ فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَأَتَيَا كَالَّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهَوِينَا فَهَشَشْتُ إِلَيْهِمَا فَمَا الْتَفَتَ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمَا مَعَ مَا بِهِمَا مِنَ الْهَمِّ، فَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ يَقُولُ لِأَبِي: أَهْوَ هُوَ؟ (أَيِ: الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ) قَالَ: نَعَمْ وَاللهِ، قَالَ: أَتُثْبِتُهُ وَتَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاللهِ مَا بَقِيتُ أَبَدًا " - فَتِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٍ.
(فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أُخُوَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّ بَنِي عِيسُو وَبَنِي أَبْنَاءِ قَطُورَا زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مِنْ إِخْوَتِهِمْ أَيْضًا (قُلْتُ) : نَعَمْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَعْدُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا بِخِلَافِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُمْ كَانَ وَعْدُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِهَاجَرَ عَلَيْهِمَا
220
السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِصْدَاقُ هَذَا الْخَبَرِ بَنِي عِيسُو عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى دُعَاءِ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ.
وَلِعُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ اعْتِرَاضَانِ نَقَلَهُمَا صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِحَلِّ الْإِشْكَالِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْسَارِ. (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ ١٥ مِنَ الْبَابِ ١٨ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (فَإِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ يُقِيمُ مِنْ بَيْنِكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ) إِلَخْ. فَلَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ " يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. (وَالثَّانِي) أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسَبَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ فِي الْآيَةِ ٤٦ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّي).
(أَقُولُ) : آيَةُ التَّثْنِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ وَتَرَاجِمِ أُرْدُو هَكَذَا (فَإِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ يُقِيمُ مِنْ بَيْنِكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ نَبِيًّا مِثْلِي فَاسْمَعْ مِنْهُ) وَالْقِسِّيسُ أَيْضًا نَقَلَهَا هَكَذَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَا يُنَافِي مَقْصُودَنَا؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبِهَا تَكَامَلَ أَمْرُهُ قَدْ كَانَ حَوْلَهُ بِلَادُ الْيَهُودِ كَخَيْبَرَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ إِخْوَتِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ
" مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " مِنْ بَيْنِكَ " بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَلَى رَأْيِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمُتَّبِعِيهِ الْقَائِلِينَ بِكِفَايَةِ عَلَاقَةِ الْمُلَابَسَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْبَدَلِ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَخُوهُ، وَجَاءَنِي زَيْدٌ غُلَامُهُ، وَبَدْلُ إِضْرَابٍ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَالِكٍ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَعَادَ هَذَا الْوَعْدَ مِنْ كَلَامِ اللهِ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ "، وَنَقَلَ بُطْرُسُ الْحَوَارِيُّ أَيْضًا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ كَمَا عَلِمْتَ فِي الْوَجْهِ السَّابِعِ، وَكَذَا نَقَلَهُ استفانوس أَيْضًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي نَقْلِهِ أَيْضًا هَذَا اللَّفْظُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ وَعِبَارَتِهِ هَكَذَا: (هَذَا هُوَ مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ لَهُ تَسْمَعُونَ) فَسُقُوطُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَاحْتِمَالُ الْبَدَلِ قَوِيٌّ جِدًّا.
وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِفْسَارِ: إِنَّ لَفْظَ مِنْ بَيْنِكَ إِلْحَاقِيٌّ زِيدَ تَحْرِيفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُخَاطِبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَانُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ لَا الْبَعْضَ، فَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِكَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْقَوْمِ، فَصَارَ لَفْظٌ مِنْ إِخْوَتِكَ لَغْوًا مَحْضًا لَا مَعْنَى لَهُ، لَكِنَّ لَفْظَ مِنْ إِخْوَتِكَ جَاءَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ أَيْضًا، فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَلَفْظُ مِنْ بَيْنِكَ إِلْحَاقِيًّا زِيدَ تَحْرِيفًا (الثَّانِي) أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَقَلَ كَلَامَ اللهِ لِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ مُوسَى مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ اللهُ - (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلَّمَا نَقَلُوا هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ ". وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمُحَرِّفَ إِذَا حَرَّفَ فَلَمْ يُحَرِّفِ الْكَلَامَ كُلَّهُ؟ (قُلْتُ) :
221
نَحْنُ نَرَى فِي مَحَاكِمِ الْعَدَالَةِ دَائِمًا أَنَّ الْقَبَالَجَاتِ الْمُحَرَّفَةَ يَثْبُتُ تَحْرِيفُ الْأَلْفَاظِ الْمُحَرَّفَةِ فِيهَا مِنْ مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا غَالِبًا، وَإِنَّ شُهُودَ الزُّورِ يُؤْخَذُ بِبَعْضِ بَيَانَاتِهِمْ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ عَلَى أَنَّ عَادَةَ اللهِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَبِأَنَّهُ يُظْهِرُ خِيَانَةَ خَائِنِ الدِّينِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعَادَةِ يَصْدُرُ عَنِ الْخَائِنِ شَيْءٌ مَا تَظْهَرُ بِهِ خِيَانَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا تُوجَدُ مِلَّةٌ يَكُونُ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ خَائِنِينَ. فَالْخَائِنُونَ الَّذِينَ حَرَّفُوا كُتُبَ الْعَهْدَيْنِ كَانَ لَهُمْ لُحَّاظٌ مَا مِنْ جَانِبِ بَعْضِ الْمُتَدَيِّنِينَ فَلِذَلِكَ مَا بَدَّلُوا الْكُلَّ. انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ. وَأَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي: إِنَّ آيَةَ الْإِنْجِيلِ هَكَذَا (لِأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لِأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي) وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ فِي حَقِّهِ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ بَلِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّهِ (مُطْلَقًا) وَهَذَا يَصْدُقُ إِذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا الْأَمْرَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي ذَيْلِ بَيَانِ الْبِشَارَةِ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّنَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي عَرَفْتَهَا، وَقَدِ ادَّعَى هَذَا الْمُعْتَرِضُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمِيزَانِ أَنَّ الْآيَةَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، نَعَمْ لَوْ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا أَشَارَ فِي أَسْفَارِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا إِلَى لَكَانَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ مَجَالٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
(الْبِشَارَةُ الثَّانِيَةُ)
الْآيَةُ ٢١ مِنَ الْبَابِ ٣٢ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (هُمْ أَغَارُونِي بِغَيْرِ إِلَهٍ وَأَغْضَبُونِي بِمَعْبُودَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأَنَا أَيْضًا أُغَيِّرُهُمْ بِغَيْرِ شَعْبٍ وَبِشَعْبٍ جَاهِلٍ أُغْضِبُهُمْ) وَالْمُرَادُ بِشَعْبٍ جَاهِلٍ الْعَرَبُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ سِوَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَكَانُوا مُحَقَّرَينَ عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ هَاجَرَ الْجَارِيَةِ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَغَارُونِي بِعِبَادَةِ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ فَأُغَيِّرُهُمْ بِاصْطِفَاءِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ مُحَقَّرُونَ وَجَاهِلُونَ، فَأَوْفَى بِمَا وَعَدَ، فَبَعَثَ مِنَ الْعَرَبِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَدَاهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٢: ٢) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ
222
كَمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ بُولُسَ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنَ الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْيُونَانِيِّينَ قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ كَانُوا فَائِقِينَ عَلَى أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَكَانَ مِنْهُمْ جَمِيعُ
الْحُكَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِثْلَ سُقْرَاطَ وَبِقِرَاطَ وَفَيثَاغُورْسَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرَسْطَاطَالِيسَ وَأَرْشَمِيدِسَ وَبِلِينَاسَ وَأَقْلِيدِسَ وَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِمِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ وَفُرُوعِهَا قَبْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ الْيُونَانِيُّونَ فِي عَهْدِهِ عَلَى غَايَةِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي فُنُونِهِمْ، وَكَانُوا وَاقِفِينَ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَصَصِهَا، وَعَلَى سَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ سبتوجنت الَّتِي ظَهَرَتْ بِاللِّسَانِ الْيُونَانِيِّ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْنِ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْمِلَّةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَفَحِّصِينَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْحِكَمِيَّةِ الْجَدِيدَةِ كَمَا قَالَ مُقَدِّسُهُمْ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ قورنيثوس هَكَذَا: (٢٢ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً ٢٣ وَلَكِنَّنَا نَحْنُ نُكَرِّزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ، فَكَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ إِمَّا مُؤَوَّلٌ أَوْ مَرْدُودٌ - وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّامِنِ أَنَّ قَوْلَهُ سَاقِطٌ عَنِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا.
(الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةُ)
فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (٢ وَقَالَ: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ، وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَمَعَهُ أُلُوفُ الْأَطْهَارِ فِي يَمِينِهِ سَنَةً مِنْ نَارٍ، فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ إِعْطَاؤُهُ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِشْرَاقُهُ مِنْ سَاعِيرَ إِعْطَاؤُهُ الْإِنْجِيلَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) وَاسْتِعْلَانُهُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ إِنْزَالُهُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ فَارَانَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَيَانِ حَالِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (٢١: ٢٠ وَكَانَ اللهُ مَعَهُ وَنَمَا وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَصَارَ شَابًّا يَرْمِي بِالسِّهَامِ ٢١ وَسَكَنَ بَرِّيَّةَ فَارَانَ وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ) وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
كَانَتْ سُكْنَاهُ بِمَكَّةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ فَارَانَ أَيْضًا، فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ لَا يُقَالُ جَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَّا إِذَا اتَّبَعَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌّ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
223
أَوْ عُقُوبَةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْوَحْيَ اتَّبَعَ تِلْكَ (النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى) فِي طُورِ سَيْنَاءَ. فَكَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي سَاعِيرَ وَفَارَانَ.
(الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةُ)
فِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَعَدَ اللهُ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ أَسْتَجِيبُ لَكَ، هُوذَا أُبَارِكُهُ وَأُكَبِّرُهُ وَأُكَثِّرُهُ جِدًّا فَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا وَأَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ) قَوْلُهُ: " أَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ " يُشِيرُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - حَاكِيًا دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ أَيْضًا رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢: ١٢٩).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ: وَقَدْ تَفَطَّنَ بَعْضُ النُّبَهَاءِ مِمَّنْ نَشَأَ عَلَى لِسَانِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَ بَعْضَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: يَخْرُجُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ عِبَارَةِ التَّوْرَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ اسْمُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَدَدِ عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: (الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ جِدًّا جِدًّا بِتِلْكَ اللُّغَةِ " بِمَا دماد " وَعَدَدِ هَذِهِ الْحُرُوفِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ اثْنَانِ وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ وَالْمِيمَ الثَّانِيَةَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعُونَ وَالْحَاءُ ثَمَانِيَةٌ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ.
(وَالثَّانِي) قَوْلُهُ " لِشَعْبٍ كَبِيرٍ " بِتِلْكَ اللُّغَةِ " لغوي غدول " فَاللَّامُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُونَ وَالْغَيْنُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَقَامِ الْجِيمِ - إِذْ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ جِيمٌ وَلَا صَادٌ - وَالْوَاوُ
سِتَّةٌ وَالْيَاءُ عَشَرَةٌ وَالْغَيْنُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ وَالْوَاوُ سِتَّةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ فَمَجْمُوعُ هَذِهِ أَيْضًا اثْنَانِ وَتِسْعُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ بِتَلْخِيصٍ مَا.
وَعَبْدُ السَّلَامِ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ السُّلْطَانِ الْمَرْحُومِ بَايَزِيدَ خَانَ، وَصَنَّفَ رِسَالَةً صَغِيرَةً سَمَّاهَا بِالرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ فَقَالَ فِيهَا: " إِنَّ أَكْثَرَ أَدِلَّةِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِحَرْفِ الْجُمَلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ حَرْفُ أَبْجَدٍ، فَإِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ حِينَ بَنَى سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: يَبْقَى هَذَا الْبِنَاءُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا لَفْظَةَ " بزأت " ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي بمادماد لَيْسَتْ
224
نَفْسَ الْكَلِمَةِ بَلْ هِيَ أَدَاةٌ وَحَرْفٌ جِيءَ بِهِ لِلصِّلَةِ فَلَوْ أُخْرِجَ مِنْهُ لَاحْتَاجَ اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلَى بَاءٍ ثَانِيَةٍ وَيُقَالُ: بيماد ماد (قُلْنَا) : مِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ الْبَاءَانِ (إِحْدَاهُمَا أَدَاةٌ) (وَالْأُخْرَى) مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ تُحْذَفُ الْأَدَاةُ، وَتَبْقَى الَّتِي هِيَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَعْدُودَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
أَقُولُ: قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مادماد كَمَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ.
(الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةُ)
جَاءَ فِي تَرْجَمَاتٍ سَنَةِ ١٧٢٢ وَسَنَةِ ١٨٣١ وَسَنَةِ ١٨٤٤ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (٤٩: ١٠ فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا. وَالْمُدَبِّرُ مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتَظِرُ الْأُمَمُ) وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ ١٨١١ (فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّاسِمِ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) وَلَفْظُ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ أَوِ الَّذِي هُوَ لَهُ تَرْجَمَةُ لَفْظِ " شيلوه " وَفِي تَرْجَمَةِ هَذَا اللَّفْظِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ السَّلَامِ فِي الرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ هَكَذَا (لَا يَزُولُ الْحَاكِمُ مِنْ يَهُوذَا وَلَا رَاسِمٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَجِيءِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَمَامِ حُكْمِ مُوسَى وَعِيسَى؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ هُوَ مُوسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ يَعْقُوبَ مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى إِلَّا مُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّاسِمِ هُوَ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُوسَى إِلَى زَمَانِ عِيسَى مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَّا عِيسَى،
وَبَعْدَهُمَا مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ، هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَالرَّاسِمِ مَا جَاءَ إِلَّا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ - أَيِ: الْحُكْمُ - بِدَلَالَةِ مَسَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) فَهِيَ عَلَامَةٌ صَرِيحَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ الشُّعُوبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الزَّبُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَحْكَامَ فِيهِ، وَدَاوُدُ النَّبِيُّ تَابِعٌ لِمُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنْ خَبَرِ يَعْقُوبَ هُوَ صَاحِبُ " الْأَحْكَامِ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
أَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ جَبْرِيَّةٌ انْتِقَامِيَّةٌ وَمِنَ الرَّاسِمِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ لَيْسَتْ بِجَبْرِيَّةٍ وَلَا انْتِقَامِيَّةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنَ الْقَضِيبِ السَّلْطَنَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَمِنَ الْمُدَبِّرِ الْحَاكِمُ الدُّنْيَوِيُّ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ مِنْ فِرْقَةِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَمِنْ بَعْضِ تَرَاجِمِهِمْ - فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بشيلوه مَسِيحُ الْيَهُودِ كَمَا هُوَ مَزْعُومُهُمْ، وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا هُوَ مَزْعُومُ النَّصَارَى. (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ
225
وَالْحَاكِمَ الدُّنْيَوِيَّ زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ مُدَّةٍ هِيَ أَزْيَدُ مَنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَى الْآنِ حَسِيسُ مَسِيحِ الْيَهُودِ (وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا أَيْضًا قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمِقْدَارِ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَهُوَ أَجْلَى بَنِي يَهُوذَا إِلَى بَابِلَ وَكَانُوا فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً لَا سَبْعِينَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ تَغْلِيظًا لِلْعَوَامِ - كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ انتيوكس مَا وَقَعَ فَإِنَّهُ عَزَلَ أَنْيَاسَ حِبْرَ الْيَهُودِ وَبَاعَ مَنْصِبَهُ لِأَخِيهِ يَاسُونَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ يُقَدِّمُهَا لَهُ خَرَاجًا كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَبَاعَ ذَلِكَ لِأَخِيهِ مِينْالَاوِسَ بِسِتِّمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةً، ثُمَّ شَاعَ خَبَرُ مَوْتِهِ فَطَلَبَ يَاسُونَ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِنَفْسِهِ الْكَهَنُوتَ، وَدَخَلَ أُورْشَلِيمَ بِأُلُوفٍ مِنَ الْجُنُودِ فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّهُ عَدُوًّا لَهُ - وَهَذَا الْخَبَرُ كَانَ كَاذِبًا - فَهَجَمَ أنتيوكس عَلَى أُورْشَلِيمَ وَامْتَلَكَهَا ثَانِيَةً فِي سَنَةِ ١٧٠ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَبَاعَ مِثْلَ ذَلِكَ عَبِيدًا وَفِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ فِي بَيَانِ الْجَدْوَلِ التَّارِيخِيِّ فِي الصَّفْحَةِ ٤٨١ مِنَ النُّسْخَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٥٢ مِنَ الْمِيلَادِ
(إِنَّهُ نَهَبَ أُورْشَلِيمَ وَقَتَلَ ثَمَانِينَ أَلْفًا) اهـ، وَسَلَبَ مَا كَانَ فِي الْهَيْكَلِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قِيمَتُهَا ثَمَانِمِائَةِ وَزْنَةِ ذَهَبٍ، وَقَرَّبَ خِنْزِيرَةً وَقُودًا عَلَى الْمَذْبَحِ لِلْإِهَانَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى إِنْطَاكِيَّةَ وَأَقَامَ فَيَلْبِسُ أَحَدُ الْأَرَاذِلِ حَاكِمًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ - وَفِي رِحْلَتِهِ الرَّابِعَةِ إِلَى مِصْرَ أَرْسَلَ أَبُولُوينُوسَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جُنُودِهِ وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا أُورْشَلِيمَ، وَيَقْتُلُوا كُلَّ مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَيَسُبُّوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فَانْطَلَقُوا إِلَى هُنَاكَ، وَبَيْنَمَا كَانَ النَّاسُ فِي الْمَدِينَةِ مُجْتَمِعِينَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ السَّبْتِ هَجَمُوا عَلَيْهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ إِلَّا مَنْ أَفْلَتَ إِلَى الْجِبَالِ أَوِ اخْتَفَى فِي الْمُغَاوِرِ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ الْمَدِينَةِ وَأَحْرَقُوهَا وَهَدَمُوا أَسْوَارَهَا وَخَرَّبُوا مَنَازِلَهَا، ثُمَّ ابْتَنَوْا لَهُمْ مَنْ بَسَائِطِ ذَلِكَ الْهَدْمِ قَلْعَةً حَصِينَةً عَلَى جَبَلِ أَكْرَا، وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ تَشْرُفُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ نَوَاحِي الْهَيْكَلِ، وَمَنْ دَنَا مِنْهُمْ يَقْتُلُونَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ أَنْتِيُوكسُ أَثَانِيُوسَ لِيُعَلِّمَ الْيَهُودَ طُقُوسَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْيُونَانِيَّةِ، وَيَقْتُلَ كُلَّ مَنْ لَا يَتَمَثَّلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، فَجَاءَ أَثَانِيُوسُ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ، وَأَبْطَلَ الذَّبِيحَةَ الْيَوْمِيَّةِ، وَنَسَخَ كُلَّ طَاعَةٍ لِلدِّينِ الْيَهُودِيِّ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَأَحْرَقَ كُلَّ مَا وَجَدَهُ مِنْ نُسْخِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بِالْفَحْصِ التَّامِّ وَكَرَّسَ الْهَيْكَلَ لِلْمُشْتَرِي، وَنَصَبَ صُورَةَ ذَلِكَ عَلَى مَذْبَحِ الْيَهُودِ، وَأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ وَجَدَهُ مُخَالِفًا أَمْرَ أَنْتِيُوكسَ، وَنَجَا مَتَاثَيَاسُ الْكَاهِنُ مَعَ أَبْنَائِهِ الْخَمْسَةِ فِي هَذِهِ الدَّاهِيَةِ، وَفَرُّوا إِلَى وَطَنِهِمْ مُودِينَ فِي سِبْطِ دَانٍ، فَانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ - عَلَى اسْتِطَاعَتِهِ - كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوَارِيخِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟
وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ وَالْحُكُومَةِ امْتِيَازُ الْقَوْمِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمِ الْآنَ
226
(قُلْنَا) : هَذَا الْأَمْرُ كَانَ بَاقِيًا إِلَى ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا فِي أَقْطَارِ الْعَرَبَ ذَوِي حُصُونٍ وَأَمْلَاكٍ غَيْرَ مُطِيعِينَ لِأَحَدٍ، مِثْلَ يَهُودِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّوَارِيخُ، وَبَعْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَصَارُوا فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ مُطِيعِينَ لِلْغَيْرِ - فَالْأَلْيَقُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بشيلوه النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَسِيحَ الْيَهُودِ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
الْبِشَارَةُ السَّادِسَةُ
الزَّبُورُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ هَكَذَا (١ - فَاضَ قَلْبِي كَلِمَةً صَالِحَةً أَنَا أَقُولُ أَعْمَالِي لِلْمَلِكِ ٢ لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ سَرِيعُ الْكِتَابَةِ ٣ بَهِيٌّ فِي الْحُسْنِ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ ٤ انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ لِذَلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الدَّهْرِ ٤ تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخِذِكَ أَيُّهَا الْقَوِيُّ بِحُسْنِكَ وَجَمَالِكَ ٥ اسْتَلَّهُ وَانْجَحْ وَامْلُكْ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالصِّدْقِ وَتَهْدِيكَ بِالْعَجَبِ يَمِينُكَ ٦ نَبْلُكَ مَسْنُونَةٌ أَيُّهَا الْقَوِيُّ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ، الشُّعُوبُ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ ٧ كُرْسِيُّكَ يَا اللهُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ، عَصَا الِاسْتِقَامَةِ عَصَا مُلْكِكَ ٨ أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ لِذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الْفَرَحِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ ٩ الْمُرُّ وَالْمَيْعَةُ وَالسَّلِيخَةُ مِنْ ثِيَابِكَ، مِنْ مَنَازِلِكَ الشَّرِيفَةِ الْعَاجِ الَّتِي أَبْهَجَتْكَ ١٠ بَنَاتُ الْمُلُوكِ فِي كَرَامَتِكَ، قَامَتِ الْمَلِكَةُ مِنْ عَنْ يَمِينِكَ مُشْتَمِلَةً بِثَوْبٍ مُذَهَّبٍ مُوَشَّى ١١ اسْمَعِي يَا بِنْتُ وَانْظُرِي وَأَنْصِتِي بِأُذُنَيْكِ وَانْسَيْ شَعْبَكِ وَبِنْتَ أَبِيكِ ١٢ فَيَشْتَهِي الْمَلِكُ حُسْنَكِ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكِ وَلَهُ تَسْجُدِينَ ١٣ بَنَاتُ صُورٍ يَأْتِينَكَ بِالْهَدَايَا، لِوَجْهِكَ يُصَلِّي كُلُّ أَغْنِيَاءِ الشَّعْبِ ١٤ كُلُّ مَجْدِ ابْنَةِ الْمَلِكِ مِنْ دَاخِلِ مُشْتَمِلَةٍ بِلِبَاسِ الذَّهَبِ الْمُوَشَّى ١٥ يَبْلُغْنَ إِلَى الْمَلِكِ عَذَارَى فِي أَثَرِهَا قَرِيبَاتُهَا إِلَيْكَ يَقْدُمْنَ ١٦ يَبْلُغْنَ بِفَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ يَدْخُلْنَ إِلَى هَيْكَلِ الْمَلِكِ ١٧ وَيَكُونُ بَنُوكَ عِوَضًا مِنْ آبَائِكَ وَتُقِيمُهُمْ رُؤَسَاءَ عَلَى سَائِرِ الْأَرْضِ ١٨ سَأَذْكُرُ اسْمَكَ فِي كُلِّ جِيلٍ وَجِيلٍ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَعْتَرِفُ لَكَ الشُّعُوبُ إِلَى الدَّهْرِ وَإِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ).
مِنَ الْمُسَلَّمِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُبَشِّرُ فِي هَذَا الزَّبُورِ بِنَبِيٍّ يَكُونُ ظُهُورُهُ بَعْدَ زَمَانِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ إِلَى هَذَا الْحِينِ عِنْدَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الزَّبُورِ، وَيَدَّعِي عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَدَّعِي أَهْلُ الْإِسْلَامِ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَأَقُولُ: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذَا الزَّبُورِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ:
١ - كَوْنُهُ حَسَنًا ٢ - كَوْنُهُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ ٣ - كَوْنُ النِّعْمَةِ مُنْسَكِبَةً عَلَى شَفَتَيْهِ ٤ - كَوْنُهُ مُبَارَكًا إِلَى (آخَرِ) الدَّهْرِ ٥ - كَوْنُهُ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ ٦ - كَوْنُهُ قَوِيًّا ٧ - كَوْنُهُ ذَا حَقٍّ وَدَعَةٍ وَصِدْقٍ ٨ - كَوْنُ هِدَايَةِ يَمِينِهِ بِالْعَجَبِ ٩ - كَوْنُ نَبْلِهِ مَسْنُونَةً ١٠ - سُقُوطُ الشَّعْبِ تَحْتَهُ ١١ -
227
كَوْنُهُ مُحِبًّا لِلْبِرِّ وَمُبْغِضًا لِلْإِثْمِ ١٢ - خِدْمَةُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ إِيَّاهُ ١٣ - إِتْيَانُ الْهَدَايَا إِلَيْهِ ١٤ - انْقِيَادُ كُلِّ أَغْنِيَاءِ الشَّعْبِ لَهُ ١٥ - كَوْنُ أَبْنَائِهِ رُؤَسَاءَ الْأَرْضِ بَدَلَ آبَائِهِمْ ١٦ - كَوْنُ اسْمِهِ مَذْكُورًا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ ١٧ - مَدْحُ الشُّعُوبِ إِيَّاهُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا تُوجَدُ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجِدَارِ " وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ بِهِ " أَجْمَلُ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ مِنْ قَرِيبٍ ".
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كَلَامِهِ الْمُحْكَمِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (٢: ٢٥٣) الْآيَةَ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (٢: ٢٥٣) مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ رَفْعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ الْهُمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ أَيْ لَا أَقُولُ ذَلِكَ فَخْرًا لِنَفْسِي بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ رَبِّي.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ حَتَّى أَقَرَّ بِفَصَاحَتِهِ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، وَقَالَ الرُّوَاةُ فِي وَصْفِ كَلَامِهِ: إِنَّهُ كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً، فَكَانَ مِنَ الْفَصَاحَةِ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ وَالْمَوْضِعِ الْأَكْمَلِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَلِأَنَّ اللهَ قَالَ: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٣٣: ٥٦) وَأُلُوفُ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (وَغَيْرِهَا).
وَأَمَّا الْخَامِسُ: فَظَاهِرٌ، وَقَدْ قَالَ هُوَ بِنَفْسِهِ " أَنَا رَسُولُ اللهِ بِالسَّيْفِ ".
وَأَمَّا السَّادِسُ: فَكَانَتْ قُوَّتُهُ الْجُسْمَانِيَّةُ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رُكَانَةَ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَقَالَ: " يَا رُكَانَةُ
أَلَّا تَتَّقِي اللهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ "؟ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ وَاللهِ مَا تَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْتُكَ. فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟ قَالَ! نَعَمْ. فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَضَجْعَهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ عُدْ. فَصَرَعَهُ أَيْضًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ ذَا لِعَجَبٌ! فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أُرِيكَهُ إِنِ اتَّقَيْتَ اللهَ وَتَبِعْتَ أَمْرِي " قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: " أَدْعُو لَك هَذِهِ الشَّجَرَةَ " فَدَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: " ارْجِعِي مَكَانَكِ " فَرَجَعَ رُكَانَةُ إِلَى قَوْمِهِ
228
فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى. وَرُكَانَةُ هَذَا كَانَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْمُصَارِعِينَ الْمَشْهُورِينَ.
وَأَمَّا شَجَاعَتُهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ وَلَا أَنْجَدَ وَلَا أَجْوَدَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " وَإِنَّا كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدْوِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا ".
وَأَمَّا السَّابِعُ: فَلِأَنَّ الْأَمَانَةَ وَالصِّدْقَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِقُرَيْشٍ: " قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ قُلْتُمْ إِنَّهُ سَاحِرٌ، لَا وَاللهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ " وَسَأَلَ هِرَقْلُ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا.
وَأَمَّا الثَّامِنُ: فَلِأَنَّهُ رَمَى يَوْمَ بَدْرِ، وَكَذَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وُجُوهَ الْكَفَّارِ بِقَبْضَةِ
تُرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا شُغِلَ بِعَيْنِهِ، فَانْهَزَمُوا وَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا فَأَمْثَالُ هَذِهِ مِنْ عَجِيبِ هِدَايَةِ يَمِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَمَّا التَّاسِعُ: فَلِأَنَّ كَوْنَ أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ أَصْحَابَ النَّبْلِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ مَرْغُوبًا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ " سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلَا يَعْجَزْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ " وَيَقُولَ: " ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا " وَيَقُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ".
وَأَمَّا الْعَاشِرُ: فَلِأَنَّ النَّاسَ دَخَلُوا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا فِي دِينِ اللهِ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ.
وَأَمَّا الْحَادِيَ عَشَرَ: فَمَشْهُورٌ يَعْتَرِفُ بِهِ الْمُعَانِدُونَ أَيْضًا كَمَا عَرَفْتَ فِي الْمَسْلَكِ الثَّانِي.
وَأَمَّا الثَّانِيَ عَشَرَ: فَقَدْ صَارَتْ بَنَاتُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ خَادِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى، وَمِنْهَا شَهْرَيَارُ بِنْتُ يَزْدِجِرْدَ كِسْرَى فَارِسَ كَانَتْ تَحْتَ الْإِمَامِ الْهُمَامِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
229
وَأَمَّا الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ: فَلِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ وَمُنْذِرَ بْنَ سَاوِي مَلِكَ الْبَحْرِينِ وَمَلِكَ عَمَّانَ انْقَادُوا وَأَسْلَمُوا، وَهِرَقْلَ قَيْصَرَ الرُّومِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ، وَالْمُقَوْقِسَ مِلَكَ الْقِبْطِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثَ جَوَارٍ وَغُلَامًا أَسْوَدَ وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ وَحِمَارًا أَشْهَبَ وَفَرَسًا وَثِيَابًا وَغَيْرَهَا.
وَأَمَّا الْخَامِسَ عَشَرَ: فَقَدْ وَصَلَ مِنْ أَبْنَاءِ الْإِمَامِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى الْخِلَافَةِ وَأُلُوفٌ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَالشَّامِ وَفَارِسَ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهَا وَفَازُوا بِالسَّلْطَنَةِ وَالْإِمَارَةِ الْعَالِيَةِ، وَإِلَى الْآنَ أَيْضًا فِي دِيَارِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَفِي غَيْرِهِمَا تُوجَدُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ مَنْ نَسْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَظْهَرُ إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَهْدِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ نَسْلِهِ وَيَكُونُ خَلِيفَةَ اللهِ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فِي عَهْدِهِ الشَّرِيفِ.
وَأَمَّا السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ: فَلِأَنَّهُ يُنَادِي أُلُوفَ أُلُوفٍ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ الْمَحْصُورِينَ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَالْقُرَّاءُ يَحْفَظُونَ مَنْشُورَهُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يُفَسِّرُونَ مَعَانِيَ فُرْقَانِهِ، وَالْوُعَّاظُ
يُبَلِّغُونَ وَعْظَهُ، وَالْعُلَمَاءُ وَالسَّلَاطِينُ يَصِلُونَ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَيَمْسَحُونَ وُجُوهَهُمْ بِتُرَابِ رَوْضَتِهِ وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَهُ.
وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَدَّعِيهِ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ ادِّعَاءً بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى الْخَبَرِ الْمُنْدَرِجِ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالْخَمْسِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا نَصُّهُ: لَيْسَ لَهُ مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، وَرَأَيْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْظَرٌ وَاشْتَهَيْنَاهُ مُهَانًا، وَآخِرُ الرِّجَالِ رَجُلُ الْأَوْجَاعِ مُخْتَبَرًا بِالْأَمْرَاضِ، وَكَانَ مَكْتُومًا وَجْهُهُ، وَمَزْدُولًا وَلَمْ نَحْسَبْهُ وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ كَأَبْرَصَ، وَمَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَخْضُوعًا، وَالرَّبُّ شَاءَ أَنْ يَسْحَقَهُ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ ضِدُّ الْأَوْصَافِ الَّتِي فِي الزَّبُورِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ حَسَنًا، وَلَا كَوْنُهُ قَوِيًّا، وَكَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ، وَلَا كَوْنُ نَبْلِهِ مَسْنُونَةً، وَلَا انْقِيَادُ الْأَغْنِيَاءِ لَهُ، وَلَا إِرْسَالُهُمْ إِلَيْهِ الْهَدَايَا، بَلْ هُمْ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى أَخَذُوهُ وَأَهَانُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَرَبُوهُ بِالسِّيَاطِ ثُمَّ صَلَبُوهُ، وَمَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا ابْنٌ، فَلَا يَصْدُقُ دُخُولُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا كَوْنُ أَبْنَائِهِ بَدَلَ آبَائِهِ رُؤَسَاءَ الْأَرْضِ.
230
(فَائِدَةٌ) تَرْجَمَةُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ الَّتِي نَقَلْتُهَا مُطَابِقَةً لِلتَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ لِلزَّبُورِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدِي، وَلِتَرَاجِمِ أُرْدُو لِلزَّبُورِ، وَمُوَافِقَةً لِنَقْلِ مُقَدِّسِهِمْ بُولِسَ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ رِسَالَتِهِ الْعِبْرَانِيَّةِ هَكَذَا تَرْجَمَةً عَرَبِيَّةً سَنَةَ ١٨٢١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (أَحْبَبْتَ الْبِرَّ، وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ؛ لِذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الْفَرَحِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ) وَالتَّرَاجِمُ الْفَارِسِيَّةُ الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسَنَةَ ١٨٤١ وَتَرَاجِمُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةُ سَنَةُ ١٨٣٩ وَسَنَةَ ١٨٤٠ وَسَنَةَ ١٨٤١ مُطَابِقَةٌ لِلتَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي تَكُونُ مُخَالِفَةً لِمَا نَقَلْتُ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيَكْفِي لِرَدِّهَا إِلْزَامًا كَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي مُقَدِّمَةِ الْبَابِ الرَّابِعِ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْإِلَهِ وَالرَّبِّ وَأَمْثَالِهِمَا جَاءَ عَلَى الْعَوَامِّ فَضْلًا عَلَى الْخَوَاصِّ، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ مِنَ الزَّبُورِ الثَّانِي وَالثَّمَانِينَ هَكَذَا (أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعُلَى كُلُّكُمْ) فَلَا يَرِدُ
مَا قَالَ صَاحِبُ مِفْتَاحِ الْأَسْرَارِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هَكَذَا (أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الشَّرَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَا اللهُ مَسِيحُ إِلَهِكَ بِدُهْنِ الْبَهْجَةِ أَفْضَلُ مِنْ رُفَقَائِكَ) وَلَا يُقَالُ لِشَخْصٍ غَيْرِ الْمَسِيحِ يَا اللهُ مَسِيحُ إِلَهِكَ إِلَخْ. لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا صِحَّةَ تَرْجَمَتِهِ لِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِكَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ. (وَثَانِيًا) لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَقُولُ: ادِّعَاؤُهُ صَرِيحُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ اللهِ هَاهُنَا بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَهِكَ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ لَا إِلَهَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ يَصْدُقُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(قَدْ حَذَفْنَا هُنَا ٦ بِشَارَاتٍ مِنْ ٧ - ١٢ لِلِاخْتِصَارِ)
(الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (١ وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعَمَّدَانُ يُكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِ ٢ قَائِلًا: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ، وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (١٢ وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أَسْلَمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ... ١٧ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ.. ٢٣ وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيُكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ) إِلَخْ. وَفِي الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ الَّتِي عَلَّمَهَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَلَامِيذَهُ هَكَذَا (١٠ - لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ) وَلَمَّا أَرْسَلَ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ لِلدَّعْوَةِ وَالْوَعْظِ، وَصَّاهُمْ بِوَصَايَا مِنْهَا هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا (وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَوَقَعَ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ
231
مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا هَكَذَا (١ وَدَعَا تَلَامِيذَهُ الْاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ ٢ وَأَرْسَلَهُمْ لِيُكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى) وَفِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا هَكَذَا (١ وَبَعْدَ ذَلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا وَأَرْسَلَهُمْ) إِلَخْ. (فَقَالَ لَهُمْ) إِلَخْ. (٨ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ
لَكُمْ (٩) وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ (١٠) وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا (١١) حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ، وَلَكِنِ اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ) - فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ يَحْيَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيِّينَ وَالتَّلَامِيذِ السَّبْعِينَ بَشَّرَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَبَشَّرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي بَشَّرَ بِهَا يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَلَكُوتَ كَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَكَذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ وَالسَّبْعِينَ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ مُبَشِّرٌ بِهِ، وَمُخْبَرٌ عَنْ فَضْلِهِ وَمُتَرَجٍّ لِمَجِيئِهِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ طَرِيقَةَ النَّجَاةِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِلَّا لَمَّا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَوَارِيُّونَ وَالسَّبْعُونَ: إِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قَدِ اقْتَرَبَ، وَلَمَّا عَلَّمَ التَّلَامِيذَ أَنْ يَقُولُوا فِي الصَّلَاةِ وَلْيَأْتِ مَلَكُوتُكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْجَلِيلَةِ، وَلَفْظُ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكُوتَ يَكُونُ فِي صُورَةِ السَّلْطَنَةِ لَا فِي صُورَةِ الْمَسْكَنَةِ، وَأَنَّ الْمُحَارَبَةَ وَالْجِدَالَ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ يَكُونَانِ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّ مَبْنَى قَوَانِينِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا سَمَاوِيًّا، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَصْدُقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَلَكُوتِ شُيُوعُ الْمِلَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَإِحَاطَتُهَا بِكُلِّ الدُّنْيَا بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَتَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَرُدُّهُ التَّمْثِيلَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى مَثَلًا قَالَ: (٢٤ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ...) ثُمَّ قَالَ: (٣١ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ...) ثُمَّ قَالَ: (٣٣ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ) فَشَبَّهَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ بِإِنْسَانٍ زَارِعٍ لَا بِنُمُوِّ الزِّرَاعَةِ وَحَصَادِهَا، وَكَذَلِكَ شَبَّهَهُ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ لَا بِصَيْرُورَتِهَا شَجَرَةً
عَظِيمَةً وَشَبَّهَهُ بِخَمِيرَةٍ لَا بِاخْتِمَارِ جَمِيعِ الدَّقِيقِ. وَكَذَا يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ بَيَانِ التَّمْثِيلِ الْمَنْقُولِ فِي الْبَيَانِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (٤٣ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ
232
تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ) فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ طَرِيقَةُ النَّجَاةِ نَفْسُهَا لَا شُيُوعُهَا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَإِحَاطَتُهَا بِكُلِّ الْعَالَمِ، وَإِلَّا لَا مَعْنَى لِنَزْعِ الشُّيُوعِ وَالْإِحَاطَةِ مِنْ قَوْمٍ وَإِعْطَائِهَا لِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَلَكُوتِ هِيَ الْمَمْلَكَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا دَانْيَالُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ، فَمِصْدَاقُ هَذَا الْمَلَكُوتِ وَتِلْكَ الْمَمْلَكَةِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللهُ أَعْلَمُ وَعِلْمُهُ أَتَمُّ.
(الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (٣١ قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ (٣٢) وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ، وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَأْوِي فِي أَغْصَانِهَا) فَمَلَكُوتُ السَّمَاءِ طَرِيقَةُ النَّجَاةِ، الَّتِي ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ فِي قَوْمٍ كَانُوا حُقَرَاءَ عِنْدَ الْعَالَمِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي غَالِبًا وَغَيْرَ وَاقِفِينَ عَلَى الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ، مَحْرُومِينَ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالتَّكَلُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ هَاجَرَ فَبَعَثَ اللهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، أَصْغَرُ الشَّرَائِعِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِكَوْنِهَا لِعُمُومِهَا نَمَتْ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، وَصَارَتْ أَكْبَرَهَا، وَأَحَاطَتْ شَرْقًا وَغَرْبًا، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ لَمَّ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِشَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ تَشَبَّثُوا بِذَيْلِ شَرِيعَتِهِ.
(الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (١ فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ ٢ فَاتَّفَقَ مَعَ الْعَمَلَةِ
عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ ٣ ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَامًا فِي السُّوقِ بِطَّالِينَ ٤ فَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ فَمَضَوْا ٥ وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذَلِكَ ٦ ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَامًا بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هَاهُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ ٧ قَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ ٨ فَلِمَا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَاعْطِهِمُ الْأُجْرَةَ مُبْتَدِيًا مِنَ الْآخَرِينَ إِلَى الْأَوَّلِينَ ٩ فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا ١٠ فَلَمَّا جَاءَ الْأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا ١١ وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ ١٢ قَائِلِينَ: هَؤُلَاءِ الْآخَرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ ١٣ فَأَجَابَ
233
وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ أَمَّا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ ١٤ فَخْذِ الَّذِي لَكَ، وَاذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنَّ أُعْطِيَ هَذَا الْأَخِيرَ مِثْلَكَ ١٥ أَوَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ؛ لِأَنِّي أَنَا صَالِحٌ ١٦ هَكَذَا يَكُونُ الْآخَرُونَ أَوَّلِينَ، وَالْأَوَّلُونَ آخَرِينَ؛ لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ) اهـ. فَالْآخِرُونَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُمْ يُقَدَّمُونَ فِي الْأَجْرِ وَهُمُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَقَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي
(الْبِشَارَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (٣٣ اسْمَعُوا مَثَلًا آخَرَ كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجًا وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ ٣٤ وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الْإِثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ وَسَافَرَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ ٣٥ فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا وَرَجَمُوا بَعْضًا ٣٦ ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِينَ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَلِكَ ٣٧ فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلًا: يَهَابُونَ ابْنِي ٣٨ وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوُا الْابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ ٣٩ فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ ٤٠ فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟ ٤١ قَالُوا لَهُ أُولَئِكَ الْأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلَاكًا رَدِيًّا وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الْأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا ٤٢ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ؟ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا ٤٣ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ ٤٤ وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجْرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ ٤٥ وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفِرِيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
أَقُولُ: إِنَّ " رَبُّ بَيْتٍ " كِنَايَةٌ عَنِ اللهِ، وَالْكَرْمَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَإِحَاطَتَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفْرَ الْمَعْصَرَةِ فِيهِ، وَبَنَّاءَ الْبُرْجِ كِنَايَاتٌ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
234
وَإِنَّ الْكَرَّامِينَ الطَّاغِينَ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، كَمَا فَهِمَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفِرِيسِيُّونَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالْعَبِيدَ الْمُرْسَلِينَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالِابْنَ كِنَايَةٌ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَتَلَهُ الْيَهُودُ أَيْضًا فِي زَعْمِهِمْ، وَالْحَجْرَ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ كِنَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأُمَّةُ الَّتِي تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ كِنَايَةٌ عَنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ الَّذِي كُلُّ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ تَرَضَّضَ، وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ سَحَقَهُ.
وَمَا ادَّعَاهُ عُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ: أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ عِبَارَةٌ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي الزَّبُورِ الْمِائَةِ وَالثَّامِنَ عَشَرَ هَكَذَا ٢٢ الْحَجَرُ الَّذِي رَذَلَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ صَارَ لِلزَّاوِيَةِ ٢٣ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَتْ هَذِهِ وَهِيَ عَجِيبَةٌ فِي أَعْيُنِنَا) فَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَجَرُ عِبَارَةً عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ آلِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَأَيُّ عَجَبٍ فِي أَعْيُنِ الْيَهُودِ عُمُومًا لِكَوْنِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأْسَ الزَّاوِيَةِ وَلَاسِيَّمَا فِي عَيْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، خُصُوصًا لِأَنَّ مَزْعُومَ الْمَسِيحِيِّينَ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُعَظِّمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَزَامِيرِهِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا، وَيَعْتَقِدُ الْأُلُوهِيَّةَ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ آلِ إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَوْلَادَ إِسْمَاعِيلَ غَايَةَ التَّحْقِيرِ فَكَانَ كَوْنُ أَحَدٍ مِنْهُمْ رَأْسًا لِلزَّاوِيَةِ عَجِيبًا فِي أَعْيُنِهِمْ.
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ وَقَعَ فِي وَصْفِ هَذَا الْحَجْرِ " كُلُّ مَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ تَرَضَّضَ وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ سَحَقَهُ " وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّهُ قَالَ: (وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كَلَامِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لَا أُدِينُهُ، لِأَنِّي لَمْ آتِ لِأُدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ) كَمَا هُوَ فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَصِدْقُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَنْبِيهِ الْفُجَّارِ الْأَشْرَارِ فَإِنْ سَقَطُوا عَلَيْهِ تَرَضَّضُوا، وَإِنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِمْ سَحَقَهُمْ.
(الثَّالِثُ) قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ وَتُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهَا النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِي الْبُنْيَانُ وَخُتِمَ بِي الرُّسُلُ " وَلَمَّا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى، كَمَا ذَكَرْتُ نُبَذًا مِنْهَا فِي الْمَسَالِكِ السَّابِقَةِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ أَسْتَدِلَّ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِ أَيْضًا.
(وَالرَّابِع) أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ غَيْرُ الِابْنِ
235
(الْبِشَارَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ هَكَذَا (٢٦ وَمِنْ يَغْلِبْ وَيَحْفَظْ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الْأُمَمِ ٢٧ فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ كَمَا أُخِذَتْ أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي ٢٨ وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ ٢٩ مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُ الرُّوحُ بِالْكَنَايِسِ فَهَذَا الْغَالِبُ الَّذِي أُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى الْأُمَمِ وَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَ اللهُ فِي حَقِّهِ: وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٤٨: ٣) وَقَدْ سَمَّاهُ سَطِيحٌ الْكَاهِنُ صَاحِبَ الْهِرَاوَةِ - رُوِيَ أَنَّهُ لَيْلَةَ وِلَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ إِيوَانُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَسَقَطَ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً - وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ بِحَيْثُ صَارَتْ يَابِسَةً: وَرَأَى الْمُوبَذَانُ فِي نَوْمِهِ أَنَّ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا فَقَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَخَافَ كِسْرَى مِنْ حُدُوثِ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَرْسَلَ عَبْدَ الْمَسِيحِ إِلَى سَطِيحٍ الْكَاهِنِ الَّذِي كَانَ فِي الشَّامِ، وَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهُ فَأَجَابَ سَطِيحٌ: إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَتْ بَابِلُ لِلْفُرْسِ مَقَامًا، وَلَا الشَّامُ لِسَطِيحٍ مَنَامًا، يُمَلِّكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ اهـ. ثُمَّ مَاتَ سَطِيحٌ مِنْ سَاعَتِهِ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمَسِيحِ فَأَخْبَرَ أَنُوشِرْوَانَ بِمَا قَالَ سَطِيحٌ، قَالَ كِسْرَى: إِلَى أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا كَانَتْ أُمُورٌ وَأُمُورٌ، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَهَلَكَ آخِرُهُمْ يَزْدِجِرْدُ فِي خِلَافَتِهِ، وَالْهِرَاوَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ الْعَصَا: الضَّخْمَةُ، وَكَوْكَبُ الصُّبْحِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (٤: ١٧٤) وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (٦٤: ٨).
قَالَ صَاحِبُ صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ: قُلْتُ لِلْقِسِّيسِينَ ويت وَوِلْيَم عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَضِيبِ مِنْ حَدِيدٍ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَاضْطَرَبَا بِسَمَاعِ هَذَا الْأَمْرِ وَقَالَا: إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ بِهَذَا لِكَنِيسَةِ ثِيَاتِيرَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ هُنَاكَ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَاحَ هُنَاكَ، قُلْتُ: هَذِهِ الْكَنِيسَةُ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ كَانَتْ؟ فَرَجَعَا إِلَى كُتُبِ اللُّغَةِ وَقَالَا: كَانَتْ فِي أَرْضِ الرُّومِ قَرِيبَةً فِي اسْتَانْبُولَ، قُلْتْ: رَاحَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خِلَافَةِ الْفَارُوقِ الْأَعْظَمِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَفَتَحُوهَا، وَبَعْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا مُتَسَلِّطِينَ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ تَسَلَّطَ عَلَيْهَا سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ أَدَامَ اللهُ سَلْطَنَتَهُمْ مِنْ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، وَهُمْ مُتَسَلِّطُونَ إِلَى هَذَا الْحِينِ. فَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى كَلَامُهُ.
236
قُلْتُ: إِنَّ الْفَاضِلَ عَبَّاسَ عَلِيَّ الْجَاجَمَوِيَّ الْهِنْدِيَّ صَنَّفَ أَوَّلًا كِتَابًا كَبِيرًا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّثْلِيثِ سَمَّاهُ (صَوْلَةُ الضَّيْغَمِ عَلَى أَعْدَاءِ ابْنِ مَرْيَمَ) ثُمَّ نَاظَرَ هُوَ رَحِمَهُ اللهُ ويت ووليم الْقِسِّيسَيْنِ فِي بَلَدٍ كَانْفُورَ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَأَلْزَمَهُمَا، ثُمَّ اخْتَصَرَ كِتَابَهُ وَسَمَّى الْمُخْتَصَرَ (خُلَاصَةَ صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ) وَمُنَاظَرَتُهُ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ أُنَاظِرَ مِيزَانَ الْحَقِّ فِي أَكْبَرَ آبَادْ بِمِقْدَارِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
(الْبِشَارَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ)
هَذِهِ الْبِشَارَةُ وَاقِعَةٌ فِي آخِرِ أَبْوَابِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا وَأَنَا أَنْقُلُهَا عَنِ التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٢١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ فِي بَلْدَةِ لَنْدَنَ فَأَقُولُ: فِي الْبَابِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (١٥ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ ١٦ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ فَارْقَلِيطَ آخَرَ لِيُثْبِتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ ١٧ رُوحَ الْحَقِّ الَّذِي لَنْ يُطِيقَ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ وَهُوَ ثَابِتٌ فِيكُمْ ٢٦ وَالْفَارَقْلِيطُ رُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي يُرْسِلُهُ الْآبُ بِاسْمِي هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ ٣٠ وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُونَ (وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (٢٦ فَأَمَّا إِذَا جَاءَ الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي أُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَبِ رُوحِ الْحَقِّ الَّذِي مِنَ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي ٢٧ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَفِي الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (٧ لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ
أَنْطَلِقَ لِأَنِّي إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ، فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ ٨ فَإِذَا جَاءَ ذَاكَ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى حُكْمٍ (٩ أَمَّا عَلَى الْخَطِيَّةِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِي ١٠ وَأَمَّا عَلَى الْبَرِّ، فَلِأَنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى الْأَبِ، وَلَسْتُمْ تَرَوْنَنِي بَعْدُ ١١ وَأَمَّا عَلَى الْحُكْمِ فَأَنْ أَكُونَ (رَئِيسَ) هَذَا الْعَالَمِ قَدْ دين ١٢ وَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أَقُولُهُ لَكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُطِيقُونَ حَمْلَهُ الْآنَ ١٣ وَإِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَاكَ فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَمِيعَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مَنْ عِنْدِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ وَيُخْبِرُكُمْ بِمَا سَيَأْتِي ١٤ وَهُوَ يُمَجِّدُنِي لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي وَيُخْبِرُكُمْ ١٥ جَمِيعَ مَا هُوَ لِلْأَبِ فَهُوَ لِي فَمِنْ أَجْلِ هَذَا قُلْتُ إِنَّ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ وَيُخْبِرُكُمْ).
وَأَنَا أُقَدِّمُ قَبْلَ بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَمْرَيْنِ: (الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) أَنَّك قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ أَنْ يُتَرْجِمُوا غَالِبًا الْأَسْمَاءَ (أَيِ الْأَعْلَامَ)، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ لَا بِالْيُونَانِيِّ، فَإِذًا لَا يَبْقَى شَكٌّ فِي أَنَّ الْإِنْجِيلَ الرَّابِعَ تَرْجَمَ اسْمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِالْيُونَانِيِّ بِحَسْبِ عَادَتِهِمْ ثُمَّ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ عَرَّبُوا اللَّفْظَ بِفَارَقْلِيطَ، وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيَّ رِسَالَةٌ صَغِيرَةٌ بِلِسَانِ
237
أُرْدُو " مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ فِي سَنَةِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ طُبِعَتْ فِي " كَلَكَتَّهْ " وَكَانَتْ فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ (فَارْقَلِيطَ) وَادَّعَى مُؤَلِّفُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْغَلَطِ مِنْ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، وَكَانَ مُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُعَرَّبٌ مِنَ اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ " فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْيُونَانِيَّ الْأَصْلِ بَارَاكَلِي طُوسَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلَ بِيرَكْلُوطُوَس يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ فَهِمَ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلُ بِيرَكْلُوطُوس وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ فَادَّعَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ بِمُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ بار كلي طوس " انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِهِ.
(يَقُولُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : إِنَّنِي أُوَضِّحُ هُنَا مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ
رَحْمَةُ اللهِ بِكَلِمَةٍ لِلدُّكْتُورِ مُحَمَّدْ تَوْفِيقْ صِدْقِي أَوْرَدَهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي كِتَابِهِ (دِينُ اللهِ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا اللَّفْظُ (الْفَارَقْلِيطُ) يُونَانِيٌّ وَيُكْتَبُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ هَكَذَا (paraclete) بَارَقْلِيطُ أَيِ (الْمُعَزِّي) وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا مَعْنَى (الْمُحَاجِّ) كَمَا قَالَ بوست فِي قَامُوسِهِ، وَهَاكَ لَفْظًا آخَرَ يُكْتَبُ هَكَذَا (periclite) وَمَعْنَاهُ رَفِيعُ الْمَقَامِ. سَامٍ. جَلِيلٌ. مَجِيدٌ. شَهِيرٌ. وَهِيَ كُلُّهَا مَعَانٍ تُقَرِّبُ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَمَحْمُودٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرِيَّةِ فَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي نَطَقَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ مُؤَلِّفِ هَذَا الْإِنْجِيلِ لَهُ بِلَفْظِ (paraclete) صَحِيحَةً أَوْ خَطَأً؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ (paraclete) هُوَ الَّذِي تُرْجِمَ بِهِ مِنْ قَبْلُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَقَعَ فِيهَا التَّحْرِيفُ مِنَ الْكُتَّابِ سَهْوًا أَوْ قَصْدًا، كَمَا اعْتَرَفُوا بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ (رَاجِعِ الْفَصْلَ الثَّالِثَ) فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ (periclite) بِيرقليطَ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَحَرَّفَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا إِلَى (paraclete) بَارَقْلِيطَ حَتَّى يُبْعِدُوهُ عَنْ مَعْنَى اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ تَشَابُهُ أَحْرُفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَسَوَاءٌ كَانَ هُوَ (paraclete) بَارَقْلِيطَ أَوْ (periclite) بِيرِقْلِيطَ، فَمَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُعَزٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الْكَافِرِينَ، وَعَلَى وُجُودِ الشَّرِّ فِي هَذَا الْعَالِمِ بِإِيضَاحِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَمُعَزٍّ أَيْضًا لِلْمُصَابِينَ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَاجُّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ.
238
(إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا الْمُحَاجُّ الْمُجَادِلُ كَمَا قَالَ بوست) وَهُوَ شَهِيرٌ سَامٍ جَلِيلٌ مَجِيدٌ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ (بِيرِقْلِيطُ) وَالْعِبَارَاتُ الْوَارِدَةُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَمُؤَلِّفُ كِتَابِ (فَتْحِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فِي بَشَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ) وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي
صَفْحَةِ ٨٢ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ اهـ. وَنَعُودُ إِلَى سِيَاقِ صَاحِبِ إِظْهَارِ الْحَقِّ الشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يَسِيرٌ جِدًّا، وَإِنَّ الْحُرُوفَ الْيُونَانِيَّةَ كَانَتْ مُتَشَابِهَةً، فَتَبَدُّلُ بيركلوطوس بباراكلي طوس فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْكَاتِبِ قَرِيبُ الْقِيَاسِ، ثُمَّ رَجَّحَ أَهْلُ التَّثْلِيثِ الْمُنْكِرِينَ هَذِهِ النُّسْخَةَ عَلَى النُّسَخِ الْأُخَرِ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَالْأَمْرَ السَّابِعَ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ السَّادِسِ بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ اعْتَقَدَ يَقِينًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ مِنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ.
(وَالْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ الْبَعْضَ ادَّعَوْا قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ مَصَادِيقُ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، مَثَلًا منتنس الْمَسِيحِيُّ الَّذِي كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنَ الْمِيلَادِ، وَكَانَ مُرْتَاضًا شَدِيدَ الِارْتِيَاضِ وَأَتْقَى أَهْلِ عَهْدِهِ: ادَّعَى فِي قُرْبِ سَنَةِ ١٧٧ مِنَ الْمِيلَادِ فِي آسْيَا الصُّغْرَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: إِنِّي الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي وَعَدَ بِمَجِيئِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَتَبِعَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ، وَذَكَرَ وِلْيَمْ مَيُورْ حَالَهُ وَحَالَ مُتَّبِعِيهِ فِي الْقَسَمِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ تَارِيخِهِ بِلِسَانِ أُرْدُو الْمَطْبُوعِ سَنَةَ ١٨٤٨ مِنَ الْمِيلَادِ هَكَذَا: إِنَّ الْبَعْضَ قَالُوا إِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ الْفَارَقْلِيطُ يَعْنِي الْمُعَزِّي رُوحُ الْقُدُسِ، وَهُوَ كَانَ أَتْقَى (؟) وَمُرْتَاضًا شَدِيدًا (؟) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَبِلَهُ النَّاسُ قَبُولًا زَائِدًا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَعُلِمَ أَنَّ انْتِظَارَ الْفَارَقْلِيطِ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى الْمَسِيحِيَّةِ أَيْضًا وَلِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مَصَادِيقُهُ، وَكَانَ الْمَسِيحِيُّونَ يَقْبَلُونَ دَعَاوِيَهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ لُبِّ التَّوَارِيخِ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالْمَسِيحِيِّينَ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِنَبِيٍّ، فَحَصَلَ لِمُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ ذَاكَ الْمُنْتَظَرُ، انْتَهَى مُلَخَّصُ كَلَامِهِ. فَيُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَتَبَ الْجَوَابَ وَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللهِ صَادِقًا وَمُصَدِّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ - أَيْ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اهـ. وَهَذَا النَّجَاشِيُّ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَصْرَانِيًّا.
239
وَكَتَبَ الْمُقَوْقِسُ مِلْكُ الْقِبْطِ فِي جَوَابِ كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا: (إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، اهـ. وَالْمُقَوْقِسُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ لَكِنَّهُ أَقَرَّ فِي كِتَابِهِ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَهَذَانِ الْمَلِكَانِ مَا كَانَا يَخَافَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَجْلِ شَوْكَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَجَاءَ الْجَارُودُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وَنَطَقْتَ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَبَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ، فَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ، وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ، لَا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ، مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ آمَنَ قَوْمُهُ، وَهَذَا الْجَارُودُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ ابْنُ الْبَتُولِ أَيْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَفْقُودٌ، وَاللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْمَوْجُودُ تَرْجَمَةٌ لَكِنِّي أَتْرُكُ الْبَحْثَ عَنِ الْأَصْلِ، وَأَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ بيركلوطوس، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ بِشَارَةُ الْمَسِيحِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظٍ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إِلَى عَادَاتِهِمْ لَكِنِّي أَتْرُكُ هَذَا الِاحْتِمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ إِلْزَامًا، وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ باراكلي طوس كَمَا يَدَّعُونَ فَهَذَا لَا يُنَافِي الِاسْتِدْلَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلُ عَلَى مَا بَيْنَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ أَوِ الشَّافِعِ كَمَا يُوجَدُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَنَا أُبَيِّنُ الْآنَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الرُّوحُ النَّازِلُ عَلَى تَلَامِيذِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الدَّارِ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ، وَأَذْكُرُ ثَانِيًا شُبَهَاتِ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْهَا فَأَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: (١) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ أَوَّلًا (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ) ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ. فَمَقْصُودُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَعْتَقِدَ السَّامِعُونَ بِأَنَّ مَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ بَعْدُ ضَرُورِيٌّ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ، فَلَوْ كَانَ الْفَارَقْلِيطِ عِبَارَةً عَنِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَذِهِ الْفِقْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَظْنُونًا أَنْ يَسْتَبْعِدَ الْحَوَارِيُّونَ نُزُولَ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى
240
لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَفِيضِينَ مِنْهُ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا، بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ، وَحَلَّ فِيهِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ لَا مَحَالَةَ ظُهُورًا بَيِّنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إِنْكَارُ الْمُتَأَثِّرِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ظُهُورُهُ عِنْدَهُمْ فِي صُورَةٍ يَكُونُ فِيهِ مَظِنَّةً يَكُونُ الِاسْتِبْعَادُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ. حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا عَلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَبِنُورِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْ أُمَّتِهِ يُنْكِرُونَ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَكَّدَهُ أَوَّلًا بِهَذِهِ الْفِقْرَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيئِهِ.
(٢) إِنَّ هَذَا الرُّوحَ مُتَّحِدٌ بِالْأَبِ مُطْلَقًا وَبِالِابْنِ نَظَرًا إِلَى هُوَّتِهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّهِ (فَارَقْلِيطُ آخَرُ) بِخِلَافِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ هَذَا الْقَوْلَ فِي حَقِّهِ بِلَا تَكَلُّفٍ.
(٣) إِنَّ الْوَكَالَةَ وَالشَّفَاعَةَ مِنْ خَوَاصِّ النُّبُوَّةِ لَا مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الرُّوحِ الْمُتَّحِدِ بِاللهِ فَلَا يَصْدُقَانِ عَلَى الرُّوحِ، وَيَصْدُقَانِ عَلَى النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ.
(٤) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (هُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ) وَلَمْ يَثْبُتْ فِي رِسَالَةٍ مِنْ رَسَائِلِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا قَدْ نَسُوا مَا قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ ذَكَّرَهُمْ إِيَّاهُ.
(٥) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ (أَنْ يُوجَدَ) حَتَّى إِذَا كَانَ - أَيْ وُجِدَ وَبُعِثَ - تُؤْمِنُونَ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ لَيْسَ الرُّوحَ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ مَا كَانَ عَدَمُ الْإِيمَانِ مَظْنُونًا مِنْهُمْ وَقْتَ نُزُولِهِ بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحَكِيمِ الْعَاقِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ فُضُولٍ، فَضْلًا عَنْ شَأْنِ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ، فَلَوْ أَرَدْنَا بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَحَلِّهِ، وَفِي غَايَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ مَرَّةً ثَانِيَةً.
(٦) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (هُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي). وَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ لِأَجْلِهِ بَيْنَ أَيْدِي أَحَدٍ؛ لِأَنَّ تَلَامِيذَهُ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ قَبْلَ نُزُولِهِ أَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْمُنْكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ لِلشَّهَادَةِ فَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ شَهِدَ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَدَّقَهُ وَبَرَّأَهُ عَنِ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَبَرَّأَ أُمَّهُ عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، وَجَاءَ ذِكْرُ بَرَاءَتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ.
241
(٧) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَالَ وَأَنْتُمْ تُشْهِدُونَ؛ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ هَكَذَا) وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا (وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ (فَيُوجَدُ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ الثَّلَاثِ لَفْظُ أَيْضًا وَكَذَا يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسَنَةَ ١٨٤١ وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٤ تَرْجَمَةُ لَفْظِ أَيْضًا، فَلَفْظُ " أَيْضًا " سَقَطَ مِنَ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا سَهْوًا أَوْ قَصْدًا فَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْحَوَارِيِّينَ غَيْرُ شَهَادَةِ الْفَارَقْلِيطِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحَ النَّازِلَ يَوْمَ الدَّارِ لَمْ تُوجَدْ مُغَايَرَةٌ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَشْهَدْ شَهَادَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ بَلْ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ هِيَ شَهَادَتُهُ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الرُّوحَ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا مُتَّحِدًا بِاللهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا بَرِيًّا مِنَ النُّزُولِ وَالْحُلُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالشَّكْلِ - الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْجِسْمِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ - نَزَلَ مِثْلَ رِيحٍ عَاصِفَةٍ، وَظَهَرَ فِي أَشْكَالِ أَلْسِنَةٍ مُنْقَسِمَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ الدَّارِ فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْجِنِّ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجِنِّ يَكُونُ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَةُ الرُّوحِ هِيَ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ.
(٨) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ (فَعَلَّقَ مَجِيئَهُ بِذَهَابِهِ وَهَذَا الرُّوحُ عِنْدَهُمْ نَزَلَ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ فِي حُضُورِهِ لَمَّا أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ فَنُزُولُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِذَهَابِهِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بالْفَارَقْلِيطِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَخْصٌ لَمْ يَسْتَفِضْ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَبْلَ زَمَانِ صُعُودِهِ، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَسُولَيْنِ ذَوِي شَرِيعَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ غَيْرُ جَائِزٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْآخِرُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرُّسُلِ مُتْبِعًا لِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وُجُودُ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ مَا بَيْنَ زَمَانِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(٩) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (يُوَبِّخُ الْعَالَمَ) فَهَذَا الْقَوْلُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْجَلِيِّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ وَبَخَّ الْعَالَمَ سِيَّمَا الْيَهُودَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوْبِيخًا لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ بَحْتٌ، وَسَيَكُونُ ابْنُهُ الرَّشِيدُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ رَفِيقًا لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي زَمَانِ قَتْلِ الدَّجَّالِ الْأَعْوَرِ وَمُتَابِعِيهِ، بِخِلَافِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ، فَإِنَّ تَوْبِيخَهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أُصُولِ أَحَدٍ، وَمَا كَانَ التَّوْبِيخُ مَنْصِبَ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ نُزُولِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْمِلَّةِ بِالتَّرْغِيبِ
242
وَالْوَعْظِ. وَمَا قَالَ رانكين فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِدَافِعِ الْبُهْتَانِ الَّذِي هُوَ بِلِسَانِ أُرْدُو فِي رَدِّهِ عَلَى خُلَاصَةِ (صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ) : إِنَّ لَفْظَ التَّوْبِيخِ لَا يُوجَدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي تَرْجَمَةٍ مِنْ تَرَاجِمِ الْإِنْجِيلِ، وَهَذَا الْمُسْتَدِلُّ أَوْرَدَ هَذَا اللَّفْظَ لِيَصْدُقَ عَلَى مُحَمَّدٍ صِدْقًا بَيِّنًا؛ لِأَجْلِ أَنْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَخَّ وَهَدَّدَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّغْلِيظِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخَائِفِينَ مِنَ اللهِ - انْتَهَى كَلَامُهُ - فَمَرْدُودٌ، وَهَذَا الْقِسِّيسُ إِمَّا جَاهِلٌ غَالِطٌ أَوْ مُغَالِطٌ لَيْسَ لَهُ إِيمَانٌ وَلَا خَوْفٌ مِنَ اللهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٧١ فِي رُومِيَّةَ الْعُظْمَى، وَعِبَارَةُ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ
الْمَطْبُوعَةِ فِي بَيْرُوتَ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا (وَمَتَّى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ) إِلَخْ. وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٥، وَفِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسنَةَ ١٨٤١ يُوجَدُ لَفْظُ الْإِلْزَامِ. وَلَفْظُ التَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ أَيْضًا قَرِيبَانِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَكِنْ لَا شِكَايَةَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ عَادَاتِ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَنَّ مُتَرْجِمِي الْفَارِسِيَّةَ وَأُرْدُو تَرَكُوا لَفْظَ فَارَقْلِيطَ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُتَرْجِمِ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٣٩ فَاقَ أَسْلَافَهُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا حَيْثُ أَرْجَعَ إِلَى الرُّوحِ ضَمَائِرَ الْمُؤَنَّثِ لِيَحْصُلَ الِاشْتِبَاهُ لِلْعَوَامِّ أَنَّ مِصْدَاقَ هَذَا اللَّفْظِ (أَيْ مَدْلُولَهُ) مُؤَنَّثٌ وَلَيْسَ بِمُذَكِّرٍ.
(١٠) قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (أَمَّا عَلَى الْخَطِيَّةِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِي) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَكُونُ ظَاهِرًا عَلَى مُنْكِرِي عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُوَبِّخًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ مَا كَانَ ظَاهِرًا عَلَى النَّاسِ مُوَبِّخًا لَهُمْ.
(١١) قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أَقُولُهُ لَكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُطِيقُونَ حَمْلَهُ الْآنَ (وَهَذَا يُنَافِي إِرَادَةَ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَحْكَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ كَانَ أَمْرُ الْحَوَارِيِّينَ بِعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَبِدَعْوَةِ أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَأَيُّ أَمْرٍ حَصَلَ لَهُمْ أَزْيَدُ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي قَالَهَا إِلَى زَمَانِ صُعُودِهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ بَعْدَ نُزُولِ هَذَا الرُّوحِ أَسْقَطُوا جَمِيعَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ مَا عَدَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَشْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَحَلَّلُوا جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَجُوزُ فِي شَأْنِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَطَاعُوا حَمْلَ سُقُوطِ حُكْمِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يُنْكِرُونَ كَوْنَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَسِيحًا مَوْعُودًا بِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ مُرَاعَاتِهِ هَذَا الْحُكْمَ، فَقَبُولُ سُقُوطِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَانَ أَهْوَنَ عِنْدَهُمْ، نَعَمْ قَبُولُ زِيَادَةِ الْأَحْكَامِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِ الْقُوَّةِ إِلَى زَمَانِ صُعُودِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ كَانَ خَارِجًا عَنِ اسْتِطَاعَتِهِمْ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ نَبِيٌّ تُزَادُ فِي شَرِيعَتِهِ
243
أَحْكَامٌ، وَيَثْقُلُ حَمْلُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ العِيسَوِيَّةِ.
(١٢) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكَذِّبُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَاجَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ يُقَرِّرَ حَالَ صِدْقِهِ فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا مَجَالَ لِمَظِنَّةِ التَّكْذِيبِ فِي حَقِّ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرُّوحَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ اللهِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ فَمِصْدَاقُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي حَقِّهِ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ اللهِ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤) وَقَالَ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (٦: ٥٠).
(١٣) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى الرُّوحِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّثْلِيثِ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَادِرٌ مُطْلِقٌ، لَيْسَ لَهُ كَمَالٌ مُنْتَظَرٌ، بَلْ كُلُّ كَمَالٍ مِنْ كِمَالَاتِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ كَمَالٌ مُنْتَظَرٌ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مُوهِمًا أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: (جَمِيعُ مَا لِلْأَبِ فَهُوَ لِي فَلِأَجْلِ هَذَا قُلْتُ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحْصُلُ لِلْفَارَقْلِيطِ مِنَ اللهِ فَكَأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنِّي كَمَا اشْتُهِرَ: مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللهُ لَهُ - فَلِأَجْلِ هَذَا قُلْتُ: إِنَّ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ.
وَأَمَّا الثَّانِي أَعْنِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُهَا عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ فَخَمْسَةٌ: (الشُّبْهَةُ الْأَوْلَى) جَاءَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَفْسِيرُ الْفَارَقْلِيطِ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُوحِ الْحَقِّ، وَهُمَا عِبَارَاتَانِ عَنِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ صَاحِبَ مِيزَانِ الْحَقِّ يَدَّعِي فِي تَأْلِيفَاتِهِ كَوْنَ أَلْفَاظِ رُوحِ اللهِ، وَرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُوحِ الْحَقِّ، وَرُوحِ الصِّدْقِ، وَرُوحِ فَمِ اللهِ، بِمَعْنَى وَاحِدٍ. قَالَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ مِفْتَاحِ الْأَسْرَارِ فِي الصَّفْحَةِ ٥٣
مِنَ النُّسْخَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٥٠: إِنَّ لَفْظَ رُوحِ اللهِ، وَلَفْظَ رُوحِ الْقُدُسِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. فَادَّعَى أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْعَهْدَيْنِ - وَقَالَ فِي حَلِّ الْإِشْكَالِ، فِي جَوَابِ كَشْفِ الْأَسْتَارِ: مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ مَا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ أَلْفَاظَ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْحَقِّ وَرُوحِ فَمِ اللهِ وَغَيْرِهَا بِمَعْنَى رُوح اللهِ، فَلِذَلِكَ مَا رَأَيْتُ إِثْبَاتَهُ ضَرُورِيًّا انْتَهَى.
244
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْقَوْلَ فَنَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ صِحَّةِ ادِّعَائِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ هَاهُنَا، وَنُسَلِّمُ تَرَادُفَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى زَعْمِهِ، لَكِنَّا نُنْكِرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَهْدَيْنِ بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَنَقُولُ قَوْلًا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ: مَنْ لَهُ شُعُورُ مَا يَكْتُبُ الْعَهْدَيْنِ يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ كَثِيرًا، فَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِ حِزْقِيَالَ قَوْلُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أَحْيَاهُمْ بِمُعْجِزَةِ حِزْقِيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا: (فَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحِي) فَفِي هَذَا الْقَوْلِ رُوحُ اللهِ بِمَعْنَى لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ اللهِ عَلَى زَعْمِهِمْ - وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا تَرْجَمَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَنَةَ ١٧٦٠ هَكَذَا (١ أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ ٢ بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ ٦ نَحْنُ مِنَ اللهِ فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لَا يَسْمَعُ لَنَا، مِنْ هَذَا تَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلَالِ (وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ (وَفِي التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْأُخَرِ سَنَةَ ١٨٢١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (بِهَذَا يُعْرَفُ رُوحُ اللهِ) وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ ١٨٢٥ (فَإِنَّكُمْ تُمَيِّزُونَ رُوحِ اللهِ) وَلَفْظُ رُوحِ اللهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَفْظُ رُوحٍ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بِمَعْنَى الْوَاعِظُ الْحَقُّ لَا بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ مُتَرْجَمُ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٥ لَفْظَ كُلِّ رُوحٍ بِكُلِّ وَاعِظٍ، وَلَفْظَ الْأَرْوَاحِ بِالْوَاعِظِينَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، وَلَفْظَ رُوحٍ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِالْوَاعِظِ مِنْ جَانِبِ اللهِ. وَلَفْظَ رُوحِ الْحَقِّ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بِالْوَاعِظِ الصَّادِقِ. وَتَرْجَمَ لَفْظَ رُوحِ الضَّلَالِ
بِالْوَاعِظِ الْمُضِلِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَوْحِ اللهِ، وَرُوحِ الْحَقِّ الْأُقْنُومَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ عَيْنُ اللهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. فَتَفْسِيرُ الْفَارَقْلِيطِ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْحَقِّ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْوَاعِظِ الْحَقِّ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ رُوحِ الْحَقِّ رُوحِ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا رَيْبٍ.
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ " كُمْ " الْحَوَارِيُّونَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ الْفَارَقْلِيطُ فِي عَهْدِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِهِمْ.
(أَقُولُ) : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَنْشَأَهُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا مُرَادِينَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَهُوَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالسِّتِّينَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي خِطَابِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ وَالْمَجْمَعِ هَكَذَا. (وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ مِنَ الْآنِ تُبْصِرُونَ ابْنَ الْإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ) وَهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ مَاتُوا:
245
وَمَضَتْ عَلَى مَوْتِهِمْ مُدَّةٌ هِيَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمَا رَأَوْهُ آتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبِينَ هَاهُنَا الْمَوْجُودُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، الْمُرَادُ: الَّذِينَ يُوجَدُونَ وَقْتَ ظُهُورِ الْفَارَقْلِيطِ.
(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَقِّ الْفَارَقْلِيطِ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ النَّاسَ رَأَوْهُ وَعَرَفُوهُ.
أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي هَذَا الْقَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا؛ لِأَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عَيْنُ اللهِ عِنْدَهُمْ، وَالْعَالَمُ يَعْرِفُ اللهَ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْكَامِلَةُ. فَفِي صُورَةِ التَّأْوِيلِ اشْتِبَاهٌ فِي صِدْقِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً. وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً. وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَرَّفَةُ، وَلِذَا لَمْ يُعِدْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَفْظَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ لَفْظِ أَنْتُمْ، بَلْ قَالَ: وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الرُّؤْيَةَ عَلَى الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ يَكُونُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ مَحْمُولًا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ الْإِنْجِيلِيِّ الْأَوَّلِ فِي الْبَابِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ. وَأَنْقُلُ عِبَارَتَهُ عَنِ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٥ (١٣ فَلِذَلِكَ أَضْرِبُ لَكُمُ الْأَمْثَالَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَيَسْمَعُونَ وَلَا يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ ١٤ وَقَدْ كَمُلَ فِيهِمْ تَنَبُّؤُ أَشْعِيَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَسْتَمِعُونَ سَمْعًا وَلَا تَفْهَمُونَ، وَتَنْظُرُونَ نَظَرًا وَلَا تُبْصِرُونَ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا.
وَأَمْثَالُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيَ مَجَازِيَّةً لَكِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَوَقَعَتْ فِي كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَثِيرًا، فَفِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الِابْنَ إِلَّا الْأَبُ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ الْأَبَ إِلَّا الِابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ (وَفِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (الَّذِي أَرْسَلَنِي حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ) وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (١٩ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلَا أَبِي لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا ٥٥ وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَيِ اللهَ إِلَخْ). وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (أَيُّهَا الْأَبُ إِنَّ الْعَالِمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ) فِي الْبَابِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (٧ لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا، وَمِنَ الْآنِ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ٨ قَالَ لَهُ فيلبس يَا سَيِّدُ أَرِنَا الْأَبَ وَكَفَانَا ٩ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هَذِهِ مَدَّتُهُ، وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فيلبس الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْأَبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الْأَبَ؟) فَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَعْرِفَةُ الْكَامِلَةُ، بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَرَّفَةِ. وَإِلَّا لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ يَقِينًا: لِأَنَّ الْعَوَامَّ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَعْرِفُونَ
246
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَضْلًا عَنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْحَوَارِيِّينَ، وَرُؤْيَةُ اللهِ بِالْبَصَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُمْتَنِعَةٌ عَنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ أَيْضًا.
(الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَقِّ الْفَارَقْلِيطِ (أَنَّهُ مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ وَثَابِتٌ فِيكُمْ) وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ كَانَ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ مُقِيمًا عِنْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَثَابِتًا فِيهِمْ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي التَّرَاجِمِ الْأُخْرَى هَكَذَا فَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٥ (لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ مَعَكُمْ وَسَيَكُونُ فِيكُمْ) وَالتَّرَاجِمُ الْفَارِسِيَّةُ الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ
١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسَنَةَ ١٨٤١ وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ ١٨١٤ وَسَنَةَ ١٨٣٩ كُلُّهَا مُطَابِقَةٌ لِهَاتَيْنِ التَّرْجَمَتَيْنِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا: (مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ (فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " ثَابِتٌ فِيكُمْ " الثُّبُوتَ الِاسْتِقْبَالِيَّ يَقِينًا فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَبَقِيَ قَوْلُهُ " مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ ".
فَأَقُولُ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَعْنَى هُوَ مُقِيمٌ عِنْدَكُمُ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: (أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ) وَقَوْلُهُ (قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ. إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ) وَإِذَا أُوِّلَ نَقُولُ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَمَعْنَاهُ: يَكُونُ مُقِيمًا عِنْدَكُمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَلَا خَدْشَةَ فِي صِدْقِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ بِالْحَالِ بَلْ بِالْمَاضِي فِي الْأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ كَثِيرٌ فِي الْعَهْدَيْنِ - أَلَّا تَرَى أَنَّ حِزْقِيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنْ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِهْلَاكِهِمْ حِينَ وُصُولِهِمْ إِلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِهِ هَكَذَا (هَا هُوَ جَاءَ وَصَارَ يَقُولُ الرَّبُّ الْإِلَهُ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَلْتُ عَنْهُ) فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ هَا هُوَ جَاءَ وَصَارَ - وَهَذَا الْقَوْلُ فِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٣٩ هَكَذَا (اينك رسيد وبوقوع بيوست) فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي لِكَوْنِهِ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَظْهَرْ خُرُوجُهُمْ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوَحَنَّا هَكَذَا (الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الْآنُ حِينَ يَسْمَعُ الْأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ وَالسَّامِعُونَ يُحْيَوْنَ) فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ وَهِيَ الْآنُ، وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانمِائَةِ سَنَةٍ وَلِمَ تَجِئْ هَذِهِ السَّاعَةُ، وَهِيَ إِلَى الْآنَ مَجْهُولَةٌ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَتَى تَجِيءُ!.
(الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ) فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا (٤ وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَلَّا يَبْرَحُوا مِنْ أُورْشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الْأَبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي ٥ لِأَنَّ يُوحَنَّا
247
عُمِّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِكَثِيرٍ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ هُوَ الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَعْدِ الْأَبِ هُوَ الْفَارَقْلِيطُ.
أَقُولُ: الِادِّعَاءُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْعِدِ الْأَبِ هُوَ الْفَارَقْلِيطُ ادِّعَاءٌ مَحْضٌ، بَلْ هُوَ غَلَطٌ لِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَقَدْ عَرَّفْتُهَا، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ شَيْءٌ وَالْوَعْدَ بِإِنْزَالِ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى شَيْءٌ آخَرُ. وَقَدْ وَفَّى اللهُ بِالْوَعْدَيْنِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ الْأَوَّلِ بِمَجِيءِ الْفَارَقْلِيطِ، وَهَاهُنَا بِمَوْعِدِ الْأَبِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ يُوحَنَّا نَقَلَ بِشَارَةَ الْفَارَقْلِيطِ، وَلَمْ يَنْقُلْهَا الْإِنْجِلِيُّونَ الْبَاقُونَ - وَلُوقَا نَقَلَ مَوْعِدَ نُزُولِ الرُّوحِ الَّذِي نَزَلَ يَوْمَ الدَّارِ، وَلَمْ يَقُلْهُ يُوحَنَّا. وَلَا بَأْسَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَّفِقُونَ فِي نَقْلِ الْأَقْوَالِ الْخَسِيسَةِ، كَرُكُوبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْحِمَارِ وَقْتَ الذَّهَابِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِهِ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ يَتَخَالَفُونَ فِي نَقْلِ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ لُوقَا انْفَرَدَ بِذِكْرِ إِحْيَاءِ ابْنِ الْأَرْمَلَةِ مِنَ الْأَمْوَاتِ فِي نَايِينَ، وَبِذِكْرِ إِرْسَالِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَبْعِينَ تِلْمِيذًا، وَبِذِكْرِ إِبْرَاءِ عَشَرَةِ بُرْصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْحَالَاتِ أَحَدٌ مِنَ الْإِنْجِيلِيِّينَ، مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْحَالَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّ يُوحَنَّا انْفَرَدَ بِذِكْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَظَهَرَ مِنْ يَسُوعَ فِي مُعْجِزَةِ تَحْوِيلِ الْمَاءِ خَمْرًا، وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ أَوَّلُ مُعْجِزَاتِهِ، وَسَبَبُ ظُهُورِ مَجْدِهِ وَإِيمَانِ التَّلَامِيذِ بِهِ، وَيَذْكُرُ إِبْرَاءَ السَّقِيمِ فِي بَيْتِ صَيْدَا فِي أُورْشَلِيمَ، وَهَذِهِ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمَرِيضُ كَانَ مَرِيضًا مِنْ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَيَذْكُرُ قِصَّةَ امْرَأَةٍ أُخِذَتْ فِي زِنَا، وَيَذْكُرُ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِهِ، وَهِيَ مُصَرَّحَةٌ بِهِمَا فِي الْبَابِ التَّاسِعِ وَبِذِكْرِ إِحْيَاءِ الْعَازَارِ مِنْ بَيْنِ الْأَمْوَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنَ الْإِنْجِلِيِّينَ، مَعَ أَنَّهَا حَالَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَهَكَذَا حَالُ مَتَّى وَمُرْقُصَ، فَإِنَّهُمَا انْفَرَدَا بِذِكْرِ بَعْضِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْحَالَاتِ الَّتِي لَمَّ يَذْكُرْهُمَا غَيْرُهُمَا، وَإِذَا طَالَ الْبَحْثُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْبِشَارَاتِ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي زَمَانِنَا اهـ.
بِشَارَةُ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا.
ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعْنَ بِإِيرَادِ الْبِشَارَاتِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يَعُدُّهَا أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ إِلَّا بِشَارَةَ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَقَدْ نَقَلَهَا عَنْ مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَةِ الْقِسِّيسِ سايل الْإِنْكِلِيزِيِّ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهَا: (اعْلَمْ يَا بِرْنَابَا أَنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَجْزِي اللهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ غَيْرُ رَاضٍ
عَنِ الذَّنْبِ، وَلَمَّا اكْتَسَبَ أُمِّي وَتَلَامِيذِي لِأَجْلِ الدُّنْيَا سَخِطَ اللهُ لِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَرَادَ بِاقْتِضَاءِ عَدْلِهِ أَنْ يَجْزِيَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَذِيَّةٌ هُنَاكَ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ بَرِيًّا لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمَّا قَالُوا فِي حَقِّي إِنَّهُ اللهُ وَابْنُ اللهِ كَرِهَ اللهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَاقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ أَلَّا تَضْحَكَ الشَّيَاطِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنِّي
248
وَلَا يَسْتَهْزِئُونَ بِي، فَأَرَادَ بِمُقْتَضَى لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَكُونَ الضَّحِكُ وَالِاسْتِهْزَاءُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَوْتِ يَهُوذَا، وَيَظُنُّ كُلُّ شَخْصٍ أَنِّي صُلِبْتُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْإِهَانَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ تَبْقَيَانِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا جَاءَ فِي الدُّنْيَا يُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ وَتَرْتَفِعُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ " تَرْجَمَةُ كَلَامِهِ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْبِشَارَةُ عَظِيمَةٌ وَإِنِ اعْتَرَضُوا بِأَنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ رَدَّهُ مَجَالِسُ عُلَمَائِنَا السَّلَفِ أَقُولُ: لَا اعْتِبَارَ لِرَدِّهِمْ وَقَبُولِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْإِنْجِيلُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الْقَدِيمَةِ، وَيُوجَدُ ذِكْرُهُ فِي كُتُبِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَعَلَى هَذَا كُتِبَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِائَتَيْ سَنَةٍ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُخْبِرَ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَإِنْ قَالُوا إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَرَّفَ هَذَا الْإِنْجِيلَ بَعْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا الْتَفَتُوا إِلَى هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا فَكَيْفَ إِلَى إِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يُؤَثِّرَ تَحْرِيفُ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا تَأْثِيرًا تُغَيَّرُ بِهِ النُّسَخُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا نَقَلُوا عَنْ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْبِشَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَحَرَّفُوهَا فَعَلَى زَعْمِهِمْ أَقُولُ إِنَّ
هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ الْكِبَارَ حَرَّفُوا عَلَى زَعْمِهِمْ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيفُهُمْ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، فَكَيْفَ أَثَّرَ تَحْرِيفُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا فِي النُّسَخِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ؟ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاهٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاجِبُ الرَّدِّ اهـ.
وَقَدْ خَتَمَ الشَّيْخُ (رَحْمَةُ اللهِ) - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هَذِهِ الْبِشَارَاتِ بِتَنْبِيهٍ ذَكَّرَ فِيهِ الْقَارِئَ بِمَا بَيَّنَهُ مُفَصَّلًا مِنِ اخْتِلَافِ النَّصَارَى فِي تَرْجَمَةِ كُتُبِهِمْ وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ وَرَآهُ مُخَالِفًا لِغَيْرِ التَّرْجَمَاتِ الَّتِي نَقَلَ عَنْهَا أَنَّهُ هُوَ الْمُخْطِئُ فِيمَا نَقَلَهُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ.
بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةَ اللهِ لَمْ يَرَ إِنْجِيلَ بِرْنَابَا وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ مِنْ مُقَدَّمَةِ سايل الْمُسْتَشْرِقِ الْإِنْجِلِيزِيِّ لِتَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَسَايل هَذَا قَدِ اطَّلَعَ عَلَى إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ
249
اللَّتَيْنِ وُجِدَتَا مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ، وَهِيَ النُّسْخَةُ الْأَسْبَانِيَّةُ وَقَدْ فُقِدَتْ، إِذْ كَانَ الْمُتَعَصِّبُونَ مِنَ النَّصَارَى يُتْلِفُونَ كُلَّ مَا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي تَعُدُّهَا الْكَنِيسَةُ غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ، وَأَمَّا النُّسْخَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ بِاللُّغَةِ الْإِيطَالِيَّةِ الْقَدِيمَةِ وَكَانَتْ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ (الْفَاتِيكَانْ) فَسَرَقَهَا مِنْهَا رَاهِبٌ اسْمُهُ (مرينو) فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا هِيَ النُّسْخَةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ بَلَاطِ (فِيِينَّا) وَقَدْ تُرْجِمَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَسَعَيْنَا إِلَى تَرْجَمَتِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ سَنَةَ ١٣٢٥ وَطَبَعْنَاهَا طَبْعًا دَقِيقًا فِي مَطْبَعَةِ الْمَنَارِ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنْهَا هُنَا نَصَّ بَعْضِ بِشَارَاتِهِ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ الْبِشَارَةِ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ إِذْ هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ.
جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالسَّبْعِينَ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُ سَيَنْصَرِفُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ قَالَ: (٧ فَبَكَى حِينَئِذٍ الرُّسُلُ قَائِلِينَ: يَا مُعْلِّمُ لِمَاذَا تَتْرُكُنَا، لِأَنَّ الْأَحْرَى بِنَا أَنْ نَمُوتَ مِنْ أَنْ تَتْرُكَنَا ٨ أَجَابَ يَسُوعُ: لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَخَافُوا ٩ لِأَنِّي لَسْتُ أَنَا الَّذِي خَلَقَكُمْ، بَلِ اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ يَحْمِيكُمْ ١٠ أَمَّا مِنْ خُصُوصِي فَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُ لِأُهَيِّئَ الطَّرِيقَ لِرَسُولِ اللهِ الَّذِي سَيَأْتِي بِخَلَاصِ الْعَالَمِ ١١
وَلَكِنِ احْذَرُوا أَنْ تُغَشُّوا؛ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ يَأْخُذُونَ كَلَامِي وَيُنَجِّسُونَ إِنْجِيلِي.
١٢ حِينَئِذٍ قَالَ اندراوس: يَا مُعَلِّمُ اذْكُرْ لَنَا عَلَّامَةً لِنَعْرِفَهُ ١٣ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي زَمَنِكُمْ بَلْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ بِعِدَّةِ سِنِينَ حِينَمَا يُبْطَلُ إِنْجِيلِي، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ ثَلَاثُونَ مُؤْمِنًا ١٤ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَرْحَمُ اللهُ الْعَالَمَ فَيُرْسِلُ رَسُولَهُ الَّذِي تَسْتَقِرُّ عَلَى رَأْسِهِ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، يَعْرِفُهُ أَحَدُ مُخْتَارِي اللهِ وَهُوَ سَيُظْهِرُهُ لِلْعَالَمِ ١٥ وَسَيَأْتِي بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى الْفُجَّارِ وَيُبِيدُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِنَ الْعَالَمِ ١٦ وَإِنِّي أُسَرَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ سَيُعْلَنُ وَيُمَجَّدُ اللهُ وَيَظْهَرُ صِدْقِي ١٧ وَسَيَنْتَقِمُ مِنَ الَّذِينَ سَيَقُولُونَ إِنِّي أَكْبَرُ مِنْ إِنْسَانٍ ١٨ الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْقَمَرَ سَيُعْطِيهِ رُقَادًا فِي صِبَاهُ، وَمَتَى كَبُرَ هُوَ أَخْذَهُ بِكَفَّيْهِ ١٩ فَلْيَحْذَرِ الْعَالِمُ أَنْ يَنْبِذَهُ؛ لِأَنَّهُ سَيَفْتِكُ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ٢٠ فَإِنَّ مُوسَى عَبْدُ اللهِ قَتَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلَمْ يُبْقِ يَشُوعُ عَلَى الْمُدُنِ الَّتِي أَحْرَقُوهَا وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ ٢١ لِأَنَّ الْقُرْحَةَ الْمُزْمِنَةَ يُسْتَعْمَلُ لَهَا الْكَيُّ). (٢٢ وَسَيَجِيءُ بِحَقٍّ أَجْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيُوَبِّخُ مَنْ لَا يُحْسِنُ السُّلُوكَ فِي الْعَالَمِ ٢٣ وَسَيُحْيِي طَرَبًا أَبْرَاجَ مَدِينَةِ آبَائِنَا بَعْضِهَا بَعْضًا ٢٤ فَمَتَى شُوهِدَ سُقُوطُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاعْتُرِفَ بِأَنِّي بَشَرٌ كَسَائِرِ الْبَشَرِ. فَالْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ حِينَئِذٍ يَأْتِي
250
وَجَاءَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ مُحَاوَرَةٍ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَرَئِيسِ كَهَنَةِ الْيَهُودِ: أَنَّ الْكَاهِنَ سَأَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَجَابَ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أُمِّهِ، وَبِأَنَّهُ بَشَرٌ مَيِّتٌ ثُمَّ قَالَ الْإِنْجِيلُ مَا نَصُّهُ: (٣ أَجَابَ الْكَاهِنُ: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ مُوسَى أَنْ إِلَهًا سَيُرْسِلُ لَنَا مسيا الَّذِي سَيَأْتِي لِيُخْبِرَنَا بِمَا يُرِيدُ اللهُ، وَسَيَأْتِي لِلْعَالِمِ بِرَحْمَةِ اللهِ ٤ لِذَلِكَ أَرْجُوكَ أَنْ تَقُولَ لَنَا الْحَقَّ هَلْ أَنْتَ مَسْيَا اللهِ الَّذِي نَنْتَظِرُهُ؟.
(٥ أَجَابَ يَسُوعُ: حَقًّا إِنَّ اللهَ وَعَدَ هَكَذَا وَلَكِنِّي لَسْتُ هُوَ ; لِأَنَّهُ خُلِقَ
قَبْلِيِ وَسَيَأْتِي بَعْدِي.
(٦ أَجَابَ الْكَاهِنُ: إِنَّنَا نَعْتَقِدُ مِنْ كَلَامِكَ وَآيَاتِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَّكَ نَبِيٌّ وَقُدُّوسُ اللهِ ٧ لِذَلِكَ أَرْجُوكَ بِاسْمِ الْيَهُودِيَّةِ كُلِّهَا وَإِسْرَائِيلَ أَنْ تُفِيدَنَا حُبًّا فِي اللهِ بِأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ سَيَأْتِي مَسْيَا؟) (٨ أَجَابَ يَسُوعُ: لَعَمْرُ اللهِ الَّذِي تَقِفُ بِحَضْرَتِهِ نَفْسِي إِنِّي لَسْتُ مَسْيَا الَّذِي تَنْتَظِرُهُ كُلُّ قَبَائِلِ الْأَرْضِ كَمَا وَعَدَ اللهُ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَائِلًا: بِنَسْلِكَ أُبَارِكُ كُلَّ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ٩ وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَأْخُذُنِي اللهُ مِنَ الْعَالِمِ سَيُثِيرُ الشَّيْطَانُ مَرَّةً أُخْرَى لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْمَلْعُونَةِ بِأَنْ يَحْمِلَ عَادِمَ التَّقْوَى عَلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنِّي اللهُ وَابْنُ اللهِ ١٠ فَيَتَنَجَّسَ بِسَبَبِ هَذَا كَلَامِي وَتَعْلِيمِي حَتَّى لَا يَكَادَ يَبْقَى ثَلَاثُونَ مُؤْمِنًا ١١ حِينَئِذٍ يَرْحَمُ اللهُ الْعَالِمَ، وَيُرْسِلُ رَسُولَهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِهِ ١٢ الَّذِي سَيَأْتِي مِنَ الْجَنُوبِ بِقُوَّةٍ وَسَيُبِيدُ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَةَ الْأَصْنَامِ ١٣ وَسَيَنْتَزِعُ مِنَ الشَّيْطَانِ سُلْطَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ ١٤ وَسَيَأْتِي بِرَحْمَةِ اللهُ لِخَلَاصِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ١٥ وَسَيَكُونُ مَنْ يُؤْمِنُ بِكَلَامِهِ مُبَارَكًا.
ثُمَّ قَالَ فِي الْفَصْلِ ٩٧ مَا نَصُّهُ: (١ وَمَعَ أَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ أَحُلَّ سَيْرَ حِذَائِهِ قَدْ نِلْتُ نِعْمَةً وَرَحْمَةً مِنَ اللهِ لِأَرَاهُ).
(٢ فَأَجَابَ حِينَئِذٍ الْكَاهِنُ مَعَ الْوَالِي وَالْمَلِكِ قَائِلِينَ لَا تُزْعِجُ نَفْسَكَ يَا يَسُوعُ قُدُّوسَ اللهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ لَا تَحْدُثُ فِي زَمَنِنَا مَرَّةً أُخْرَى ; لِأَنَّنَا سَنَكْتُبُ إِلَى مَجْلِسِ الشُّيُوخِ الرُّومَانِيِّ الْمُقَدَّسِ بِإِصْدَارِ أَمْرٍ مَلَكِيٍّ أَنْ لَا أَحَدَ يَدْعُوكَ فِيمَا بَعْدُ اللهَ أَوِ ابْنَ اللهِ (٤) فَقَالَ حِينَئِذٍ يَسُوعُ: إِنَّ كَلَامَكُمْ لَا يُعَزِّينِي ; لِأَنَّهُ يَأْتِي ظَلَامٌ حَيْثُ تَرْجُونَ النُّورَ ٥ وَلَكِنْ تَعْزِيتِي هِيَ فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ الَّذِي سَيُبِيدُ كُلَّ رَأْيٍ كَاذِبٍ فِيَّ وَسَيَمْتَدُّ دِينُهُ وَيَعُمُّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ ; لِأَنَّهُ هَكَذَا وَعَدَ اللهُ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ ٦ وَأَنَّ مَا يُعَزِّينِي هُوَ وَأَنْ لَا نِهَايَةَ لِدِينِهِ لِأَنَّ اللهَ سَيَحْفَظُهُ صَحِيحًا).
(٧ أَجَابَ الْكَاهِنُ: أَيَأْتِي رُسُلٌ آخَرُونَ بَعْدَ مَجِيءِ رَسُولِ اللهِ؟)
251
(٨ فَأَجَابَ يَسُوعُ: لَا يَأْتِي بَعْدَهُ أَنْبِيَاءُ صَادِقُونَ مُرْسَلُونَ مِنَ اللهِ ٩ وَلَكِنْ يَأْتِي عَدَدٌ غَفِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَهُوَ مَا يُحْزِنُنِي ١٠ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَيُثِيرُهُمْ بِحُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ فَيَتَسَتَّرُونَ بِدَعْوَى إِنْجِيلِي.
(١١ أَجَابَ هِيدْرُوسُ: كَيْفَ أَنَّ مَجِيءَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ يَكُونُ بِحُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ؟.
(١٢ أَجَابَ يَسُوعُ: مِنَ الْعَدْلِ أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْحَقِّ لِخَلَاصِهِ يُؤْمِنُ بِالْكَذِبِ لِلَعْنَتِهِ ١٣ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَالَمَ كَانَ يَمْتَهِنُ الْأَنْبِيَاءَ الصَّادِقِينَ دَائِمًا وَأَحَبَّ الْكَاذِبِينَ كَمَا يُشَاهَدُ فِي أَيَّامِ مِيشَعَ وَأَرْمِيَا ; لِأَنَّ الشَّبِيهَ يُحِبُّ شَبِيهَهُ).
(١٣ فَقَالَ الْكَاهِنُ حِينَئِذٍ: مَاذَا يُسَمَّى مسيا؟ وَمَا هِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي تُعْلِنُ مَجِيئَهُ ١٤ أَجَابَ يَسُوعُ: إِنَّ اسْمَ مسيا عَجِيبٌ ; لِأَنَّ اللهَ نَفْسَهُ سَمَّاهُ لَمَّا خَلَقَ نَفْسَهُ وَوَضْعَهَا فِي بَهَاءٍ سَمَاوِيٍّ ١٥ قَالَ اللهُ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ ; لِأَنِّي لِأَجْلِكَ أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ الْجَنَّةَ وَالْعَالَمَ وَجَمًّا غَفِيرًا مِنَ الْخَلَائِقِ الَّتِي أَهَبُهَا لَكَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُبَارِكُكَ يَكُونُ مُبَارَكًا، وَمَنْ يَلْعَنُكَ يَكُونُ مَلْعُونًا ١٦ وَمَتَى أَرْسَلْتُكَ إِلَى الْعَالَمِ أَجْعَلُكَ رَسُولِي لِلْخَلَاصِ وَتَكُونُ كَلِمَتُكَ صَادِقَةً، حَتَّى إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَهِنَانِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَكَ لَا يَهِنُ أَبَدًا ١٧ إِنَّ اسْمَهُ الْمُبَارَكَ مُحَمَّدٌ.
(١٨ حِينَئِذٍ رَفَعَ الْجُمْهُورُ أَصْوَاتَهُمْ قَائِلِينَ: يَا اللهُ أَرْسِلْ لَنَا رَسُولَكَ يَا مُحَمَّدُ تَعَالَ سَرِيعًا لِخَلَاصِ الْعَالَمِ!) اهـ.
وَأَمَّا الْبِشَارَةُ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ فَهِيَ مِنَ الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ غَيْرَ فَصْلَيْنِ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَتَرْجَمَتُهَا قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرْجَمَةِ الْأَخِيرَةِ لِلْإِنْجِيلِ كُلِّهِ.
تَنْبِيهٌ
لَقَدْ كَانَ مِنْ مَوَاضِعِ ارْتِيَابِ الْبَاحِثِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ ذِكْرُهُ لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ (مُحَمَّدٍ) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ بَعْضَ
الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَسُّوا فِيهِ ذَلِكَ، وَقَوَّى شُبْهَتَهُمْ مَا وُجِدَ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَوَاشِي النُّسْخَةَ الطَّلْيَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ.
وَقَدْ فَنَّدْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي مُقَدِّمَتِنَا لِطَبْعَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا بَيَّنَاهُ مِنِ اسْتِحَالَةِ صُدُورِ هَذِهِ الْحَوَاشِي عَنْ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهَا عَلَى فَسَادِ لُغَتِهَا وَعُجْمَتِهَا مُخَالَفَةٌ لِمَا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَذْكَارِ الدِّينِ كَكَلِمَةِ سُبْحَانَ اللهِ فَهِيَ تُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْحَوَاشِي بِتَقْدِيمِ الْمُضَافِ
252
إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ هَكَذَا " اللهُ سُبْحَانَ " وَبَعْدَ أَنْ أَوْرَدْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَمْثِلَةً أُخْرَى كَهَذِهِ قُلْنَا: " وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى: أَضِفْ إِلَيْهَا عَدَمُ اطِّلَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا عَلَى هَذَا الْإِنْجِيلِ كَمَا حَقَّقَهُ الدُّكْتُورُ مَرْجِلْيُوثُ الْمُسْتَشْرِقُ الْإِنْكِلِيزِيُّ. مُؤَيِّدًا تَحْقِيقَهُ بِخُلُوِّ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى النَّصَارَى مِنْ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِابْنِ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيِّ وَابْنِ تَيْمِيَةَ الْمَشْرِقِيِّ، فَقَدْ كَانَا أَوْسَعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ اطِّلَاعًا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرَا فِي رَدِّهِمَا عَلَى النَّصَارَى هَذَا الْإِنْجِيلَ.
" بَقِيَ أَمْرٌ يَسْتَنْكِرُهُ الْبَاحِثُونَ فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ بَحْثًا عِلْمِيًّا لَا دِينِيًّا أَشَدَّ الِاسْتِنْكَارِ وَهُوَ تَصْرِيحُهُ بِاسْمِ " النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِلِينَ. لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُتِبَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ ; إِذِ الْمَعْهُودُ فِي الْبِشَارَاتِ أَنْ تَكُونَ بِالْكِنَايَاتِ وَالْإِشَارَاتِ، وَالْعَرِيقُونَ فِي الدِّينِ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ مُسْتَنْكِرًا فِي خَبَرِ الْوَحْيِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بِيرَمْ عَنْ رَحَّالَةٍ إِنْكِلِيزِيٍّ أَنَّهُ رَأَى فِي دَارِ الْكُتُبِ الْبَابَوِيَّةِ فِي الْفَاتِيكَانِ نُسْخَةً مِنَ الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبَةً بِالْقَلَمِ الْحِمْيَرِيِّ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيهَا يَقُولُ الْمَسِيحُ (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمَهُ أَحْمَدُ) وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ بِالْحَرْفِ، وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ الصَّرِيحَةُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ فِي مَكْتَبَةِ الْفَاتِيكَانِ مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً فِي الْقُرُونِ الْأُولَى مَا لَوْ ظَهَرَ لَأَزَالَ كُلَّ شُبْهَةٍ عَنْ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَغَيْرِهِ.
" عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُتَرْجِمٌ بِاللُّغَةِ الْإِيطَالِيَّةِ قَدْ ذَكَرَ اسْمَ " مُحَمَّدٍ " تَرْجَمَةً، أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي تَرْجَمَ هُوَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يُفِيدُ مَعْنَاهُ كَلَفْظِ
الْفَارَقْلِيطِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَاهُلِ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ فِي التَّرْجَمَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ مِنَ الْمَسْلَكِ السَّادِسِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ كِتَابِهِ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَزَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانًا فِي الْبِشَارَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ " اهـ.
وَإِنَّنِي أَزِيدُ مِثَالًا عَلَى مَا سَبَقَ مِنِ اخْتِلَافِ تَرْجَمَةِ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ وَالصِّفَاتِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ يُقَرِّبُ لِفَهْمِ الْقَارِئِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ حجى مِنَ الْبِشَارَةِ بِنَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: بِشَارَةُ النَّبِيِّ حجى بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
" ٢: ٦ هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هِيَ مَرَّةٌ بَعْدَ قَلِيلٍ فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ ٧ وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الْأُمَمِ، وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الْأُمَمِ فَأَمْلَأُ هَذَا الْبَيْتَ مَجْدًا، قَالَ رَبُّ
253
الْجُنُودِ ٨ لِيَ الْفِضَّةُ وَلِيَ الذَّهَبُ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ٩ مَجْدُ هَذَا الْبَيْتِ الْأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الْأَوَّلِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ ١٠ وَفِي هَذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلَامَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ".
أَقُولُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ: إِنَّ اسْمَ أَوْ لَقَبَ " مُشْتَهَى الْأُمَمِ " وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْعِبْرَانِيِّ عِنْدَ الْيَهُودِ " حَمَدُوتْ " وَمَعْنَاهُ: الَّذِي يُحْمَدُ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْحَمْدِ كَمَلَكُوتٍ مِنَ الْمَالِكِ. فَحَمْدُوتُ الْأُمَمِ هَذَا الَّذِي تَحْمَدُهُ الْأُمَمُ، وَهُوَ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَمَحْمُودٍ، فَالْأَوَّلُ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ حَمَّدَهُ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا حَمِدَهُ كَثِيرًا، وَمَنْ تَحْمَدُهُ الْأُمَمُ يَكُونُ مَحْمُودًا حَمْدًا كَثِيرًا أَيْ مُحَمَّدًا. وَالثَّانِي اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ (حَمِدَ) الثُّلَاثِيِّ، وَمَحْمُودٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْفَارَقَلِيطِ الْيُونَانِيِّ مُتَرْجَمًا مِنْ لَفْظٍ حَمَدُوتْ الْعِبْرَانِيِّ، وَنُسَخُ الْإِنْجِيلِ الْعِبْرَانِيَّةِ الَّتِي نَقَلَتْ أَلْفَاظَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامِ بِحُرُوفِهَا قَدْ فُقِدَتْ، وَلَا نَدْرِي سَبَبَ فَقْدِهَا؟ بَلْ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نَتَّهِمُ مَجَامِعَ الْأَسَاقِفَةِ الَّتِي تَحَكَّمَتْ فِي الْأَنَاجِيلِ الْقَدِيمَةِ، فَعَدَّتْ بَعْضَهَا قَانُونِيًّا وَبَعْضَهَا غَيْرَ قَانُونِيٍّ، وَصَارُوا يُتْلِفُونَ مَا هُوَ غَيْرُ قَانُونِيٍّ. بَلْ نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِتَنَصُّرِ الْقَيْصَرِ قُسْطَنْطِينَ الْأَوَّلِ وَلَا نَعْتَقِدُ إِخْلَاصَهُ فِيهِ، بَلْ نَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَلًا سِيَاسِيًّا مِنْهُ، وَإِنَّهُ اسْتَعَانَ بِالْمَجَامِعِ عَلَى تَحْوِيلِ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ التَّوْحِيدِ إِلَى وَثَنِيَّةِ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْيُونَانِيِّينَ
وَأَسَاتِذَتِهِمْ مِنْ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّذِينَ دَانُوا بِعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلَوْ بَقِيَتْ نُسَخُ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ لَكَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ مِنَ التَّحْقِيقِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِأُولَئِكَ الْأَسَاقِفَةِ الَّذِينَ قَبِلُوا مِنْهَا مَا وَافَقَ اعْتِقَادَهُمْ وَرَدُّوا مَا لَمْ يُوَافِقْهُ، كَأَنَّ عَقَائِدَهُمُ التَّقْلِيدِيَّةَ الْمُتَأَثِّرَةَ بِنَصْرَانِيَّةِ قُسْطَنْطِينَ السِّيَاسِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ خَلَتْ لِلْمَسِيحِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالْأَنَاجِيلَ الْمَأْثُورَةَ هِيَ الْفَرْعُ، تُعْرَضُ عَلَى تِلْكَ التَّقَالِيدِ فَيُقْبَلُ مِنْهَا مَا وَافَقَهَا وَيُرَدُّ مَا خَالَفَهَا؟.
وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى إِنْجِيلَ بِرْنَابَا أَرْقَى مِنْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي عُلُومِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَالْفَضَائِلِ فَإِنَ كَانَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ كَالدُّكْتُورِ خَلِيلِ سَعَادَة الَّذِي تَرْجَمَ لَنَا هَذَا الْإِنْجِيلَ يُعَلِّلُ هَذَا بِمُوَافَقَتِهِ لِفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو الَّتِي كَانَتْ رَائِجَةً فِي قُرُونِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأَوْلَى - فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ قَدْ طَعَنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، وَفِي آدَابِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالُوا: إِنَّ التَّوْرَاةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ نَشَأَ مُوسَى فِي حِجْرِ فِرْعَوْنِهِمْ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ شَرِيعَةِ حَمُورَابِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرَائِعِ الْبَابِلِيِّينَ، وَكَانَتْ كِتَابَةُ التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ الْبَابِلِيِّ، وَفِيهَا أُلُوفٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْبَابِلِيَّةِ - وَقَالُوا: إِنَّ الْآدَابَ الْمَسِيحِيَّةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ كُتُبِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ الْأَخْلَاقَ.
254
وَنَحْنُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا نَعْتَدُّ بِهَذِهِ الشُّبُهَاتِ، وَلَكِنَّا نُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي مِثْلِ الْمَقَامِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا لَا مَحَلَّ لِبَسْطِهِ هُنَا....
ثُمَّ إِنَّ بَقِيَّةَ بِشَارَةِ حجى لَا تَصْدُقُ عَلَى غَيْرِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُحَمَّدِ الْأُمَمِ فَهُوَ الَّذِي زَلْزَلَ رَبُّ الْجُنُودِ بِبِعْثَتِهِ الْعَالِمَ، وَنَصَرَهُ بِالْجُنُودِ وَبِالْحُجَّةِ جَمِيعًا، وَكَانَ مَجْدُ دِينِ اللهِ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِهِ بِمُوسَى وَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ قَوْمِهِ، وَفُرِضَتْ شَرِيعَةُ الزَّكَاةِ وَخُمْسُ الْغَنَائِمِ تُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَكَانَتِ الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ لِلَّهِ - وَفِي النُّسْخَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْقَدِيمِ: إِنَّ الْآيَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، " إِنَّ الْمَجْدَ الْقَدِيمَ لِهَذَا الْبَيْتِ أَعْظَمُ مِنَ الْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِلْهَيْكَلِ الْأَوَّلِ " وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَرْجَمَةِ النَّصَارَى الَّتِي نَقَلْنَا عَنْهَا، وَحَسْبُنَا هَذَا مِنَ الْبِشَارَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَمَنْ
يَهْدِي اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَحْمَدُهُ تَعَالَى أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ وَالدُّعَاةِ إِلَى مِلَّتِهِ وَصَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ذُكِرَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِطْرَادًا بِحَسَبِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنَ الْقِصَّةِ، وَمِنْ سَائِرِ قِصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُهَا فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ لِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي كُتُبِهِمْ وَالْبِشَارَةِ بِرِسَالَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَبَيَانِ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاتِّبَاعِهِ نَاسَبَ أَنْ يُقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانُ عُمُومِ بَعْثَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَدَعْوَةُ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا لَهُ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَجَّهَهُ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْهَاشِمِيِّ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، يُنْبِئُهُمْ بِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ كَافَّةً لَا إِلَى قَوْمِهِ الْعَرَبِ خَاصَّةً كَمَا زَعَمَتِ الْعِيسَوِيَّةُ مِنَ الْيَهُودِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (٣٤: ٢٨) وَقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (٦: ١٩) أَيْ وَأَنْذِرَ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ
255
يُؤْمِنُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ ; لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِهَذِهِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفَرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيُكَوَّنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (٢٥: ١) وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١: ١٠٧) وَهُوَ يَشْمَلُ عُقَلَاءَ الْجِنِّ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ نَاطِقَةٌ بِاخْتِصَاصِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِرِسَالَةِ الْعَامَّةِ كَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ
فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً وَفِي رِوَايَةٍ " كَافَّةً "، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا غَيْرَ خَاصَّةٍ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَاصَّ بِهِ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ لِيُعْلَمَ مُسْتَقَرُّ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَفِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ يُرْسِلُونَ الْوُفُودَ إِلَى آدَمَ فَنُوحٍ فَإِبْرَاهِيمَ فَمُوسَى فَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِفَضْلِ الْقَضَاءِ، فَيَعْتَرِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَيَقُولُ " لَسْتُ هُنَاكُمْ " وَيَطْلُبُ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَيُحِيلُهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ، حَتَّى إِذَا أَحَالَهُمْ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَجَابَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، وَقَالَ: " أَنَا لَهَا " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَا صَاحِبُكُمْ " فَيُشَفَّعُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: مَا يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا، وَالرِّوَايَاتُ فِي الشَّفَاعَةِ مُتَدَاخِلَةٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهَا.
ثُمَّ وَصَفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَبِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَقَالَ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يَحْيَى وَيُمِيتُ وَالْمُرَادُ بِمُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: التَّصَرُّفُ وَالتَّدْبِيرُ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، لِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ هِيَ الْعَوَالِمُ الَّتِي تَعْلُو هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا، وَصَاحِبُ الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِمَا هُوَ رَبُّهُمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ تَصَرَّفٌ لَتَعَارَضَ مَعَ تَصَرُّفِهِ، وَفَسَدَ النِّظَامُ الْعَامُّ ; فَإِنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَدَمِ التَّفَاوُتِ وَالتَّعَارُضِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَةِ مَصْدَرِهَا وَتَدْبِيرِهَا، وَإِذَا كَانَ رَبُّ الْخَلَائِقِ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالتَّوْحِيدُ بِقِسْمَيْهِ، تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ - أَيْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ - هَمَّا أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِعَقَائِدِهِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِرِسَالَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي، وَأَمَّا وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَهُوَ بَعْضُ تَصَرُّفِ الرَّبِّ فِي خَلْقِهِ فَيَتَضَمَّنُ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، فَقَدْ أُدْمِجَتْ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ أَرْكَانُ الدِّينِ الثَّلَاثَةُ - وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ
256
الْقُرْآنِ الْغَرِيبِ - وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ الدَّعْوَةَ
إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلِ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَيْ: فَآمَنُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ بِاللهِ الْوَاحِدِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ الَّذِي يُحْيِي كُلَّ مَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ فِي الْعَالَمِ، وَيُمِيتُ كُلَّ مَا يَعْرِضُ لَهُ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ كُلَّ يَوْمٍ فَتُشَاهِدُونَهُ، وَمَثَلُهُ الْبَعْثُ الْعَامُّ بَعْدَ الْمَوْتِ الْعَامِّ وَخَرَابِ هَذَا الْعَالِمِ، وَآمَنُوا بِرَسُولِهِ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقِ الْمُمْتَازِ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي بَعَثَهُ فِي الْأُمِّيِّينَ (الْعَرَبِ) رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُطَهِّرُهُمْ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَالرَّذَائِلِ وَالْجَهْلِ وَالتَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي بِعَصَبِيَّاتِ الْأَجْنَاسِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ ; لِيَكُونُوا بِهِدَايَتِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً يَتَحَقَّقُ بِهَا الْإِخَاءُ الْبَشَرِيُّ الْعَامُّ، وَقَدْ بَشَّرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْكِرَامُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ الْمُتِمُّ الْمُكَمِّلُ لِمَا بُعِثُوا بِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْأَقْوَامِ، وَأُمِّيَّتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِهِ، وَأَيَّةٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيمِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ؟ !.
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ أَيْ: يُؤْمِنُ بِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَكَلِمَاتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، وَهِيَ مَظْهَرُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّكْوِينِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ أَمَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ: وَاتَّبِعُوهُ بِالْإِذْعَانِ الْفِعْلِيِّ لِكُلِّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِعْلًا وَتَرْكًا، رَجَاءَ اهْتِدَائِكُمْ بِالْإِيمَانِ وَبِاتِّبَاعِهِ لِمَا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ اهْتِدَاءُ صَاحِبِهِمَا وَوُصُولِهِ بِالْفِعْلِ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَدَلِيلُهُ الْفِعْلِيُّ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مَا آمَنَ قَوْمٌ بِنَبِيٍّ إِلَّا وَكَانُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا قَبْلَهُ مِنْ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ فِي دُنْيَاهُمْ، وَأَظْهَرُ التَّوَارِيخِ وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا تَارِيخُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَصِلَ بِهِمُ الْجَهْلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي نَالُوا بِهَا الْمُلْكَ الْعَظِيمَ وَالْعِزَّ وَالسُّؤْدُدَ وَالْغِنَى وَالْحَضَارَةَ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنْ يَزُولَ الْمَعْلُولُ بِزَوَالٍ عِلَّتِهِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَيَعُودُوا إِلَيْهِ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَصِلَ بِهِمُ الْجَهْلُ إِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَعِدُوا بِهَا ثُمَّ شَقُوا بِتَرْكِهَا هِيَ سَبَبُ هَذَا الشَّقَاءِ الْأَخِيرِ لَا تَرْكَهَا.
(فَصْلٌ فِي مَعْنَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَمَوْضُوعِهِ وَلَوَازِمِهِ)
قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَاتَّبِعُوهُ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: وَاتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ فَتِلْكَ فِي اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَهَذِهِ تَشْمَلُ اتِّبَاعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ ذَلِكَ، وَأَذِنَ لَهُ بِهِ، وَاتِّبَاعَهُ فِي اجْتِهَادِهِ
257
وَاسْتِنْبَاطِهِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ تَشْرِيعًا - كَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَنْصُوصِ فِي الْقُرْآنِ - وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ كَحَدِيثِ: كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ مُبَارَكٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ، وَحَدِيثُ كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ إِلَخْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ وَصَحَّحُوهُ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا قُرْبَةَ فِيهَا وَلَا حُقُوقَ تَقْتَضِي التَّشْرِيعَ بِخِلَافِ حَدِيثِ: كُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ وَادَّخِرُوا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْأَضَاحِيَّ مِنَ النُّسُكِ وَالْأَكْلَ مِنْهَا سُنَّةٌ فَأَمَرَ الْمُضَحِّيَ بِهِ لِلنَّدْبِ، وَادِّخَارُهَا جَائِزٌ لَهُ، لَوْلَا الْأَمْرُ بِهِ لَظُنَّ تَحْرِيمُهُ أَوْ كَرَاهَتُهُ لِعَلَاقَةِ الْأَضَاحِيِّ بِالْعِيدِ فَهِيَ ضِيَافَةُ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ، فَالتَّشْرِيعُ إِمَّا عِبَادَةٌ أُمِرْنَا بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهَا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَإِمَّا مَفْسَدَةٌ نُهِينَا عَنْهَا اتِّقَاءً لِضَرَرِهَا فِي الدِّينِ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ فِيمَا لَيْسَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَعَاوَنُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَكَأَكْلٍ الْمَذْبُوحِ لِغَيْرِ اللهِ وَتَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ بِمَا شَرَعَ تَعْظِيمَ اللهِ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ لَهُ وَالْحَلِفِ بِاسْمِهِ - أَوْ لِضَرَرِهَا فِي الْعَقْلِ أَوِ الْجِسْمِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ - وَإِمَّا حُقُوقٌ مَادِّيَّةٌ أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ أُمِرْنَا بِأَدَائِهَا إِلَى أَهْلِهَا كَالْمَوَارِيثِ وَالنَّفَقَاتِ وَمُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ أُمِرْنَا بِالْتِزَامِهَا لِضَبْطِ الْمُعَامَلَاتِ كَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَبِإِدْخَالِ حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ وَحُكْمِ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي التَّشْرِيعِ تَتَّسِعُ أَحْكَامُهُ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي:.
لَيْسَ مِنَ التَّشْرِيعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَلَا لِخَلْقِهِ لَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَفْعُ مَفْسَدَةٍ كَالْعَادَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْبَحْثِ، وَمَا يَرِدُ فِيهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ إِرْشَادًا لَا تَشْرِيعًا إِلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَعِيدٌ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ أَنَّ إِنْكَارَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِبَعْضِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّجَارِبِ لِلتَّشْرِيعِ كَتَلْقِيحِ النَّخْلِ فَامْتَنَعُوا عَنْهُ فَأَشَاصَ (خَرَجَ ثَمَرُهُ شِيصًا أَيْ رَدِيئًا أَوْ يَابِسًا) فَرَاجَعُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ عَنْ ظَنٍّ وَرَأْيٍ لَا عَنِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ لَهُمْ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَحِكْمَتُهُ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِذَاتِهَا تَشْرِيعٌ خَاصٌّ بَلْ هِيَ مَتْرُوكَةٌ إِلَى مَعَارِفَ النَّاسِ وَتَجَارِبِهِمْ.
وَكَانُوا يُرَاجِعُونَهُ أَيْضًا فِيمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ أَهْوَ مِنْ رَأْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاجْتِهَادِهِ الدُّنْيَوِيِّ أَوْ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى؟، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشْرِيعًا كَسُؤَالِهِ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي اخْتَارَهُ لِلنُّزُولِ فِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَهَذَا مُنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا مُتَقَدَّمٌ عَنْهُ وَلَا
258
مُتَأَخَّرٌ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَلَمَّا أَجَابَهُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ لَا وَحْيٌ، وَأَنَّ الْمُعَوِّلَ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَمَكَايِدِ الْحَرْبِ أَشَارَ بِغَيْرِهِ فَوَافَقَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُبَيِّنُ لِأُولَئِكَ الْحَقَّ فِيمَا اشْتَبَهُوا فِيهِ، وَمَنْ ذَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ اجْتِهَادَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ دِينًا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَهُ لَهَانَ الْأَمْرُ، وَلَكِنَّ اتِّخَاذَهُ دِينًا قَدْ كَثُرَتْ بِهِ التَّكَالِيفُ، وَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي ضَعُفَ فِيهَا الِاتِّبَاعُ، فَثَقُلَتْ عَلَى الطِّبَاعِ فَصَارُوا يَتْرُكُونَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، وَجَرَّأَهُمْ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْمَشْرُوعِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ فِيهِ، ثُمَّ جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ بَعْضِهِمْ لِلدِّينِ كُلِّهِ، وَدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالْجَامِدُونَ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفِقْهِ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي إِلْزَامِ الْأُمَّةِ التَّدَيُّنَ بِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ السُّوءِ وَلَا يُبَالُونَ إِذَا أَشْعَرَهُمُ الْمُصْلِحُونَ.
مِثَالُ مَا شَدَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ صَبْغُ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالزِّينَةِ الْمُبَاحَةِ إِذْ لَا تَعَبُّدَ فِيهِ وَلَا حُقُوقَ لِلَّهِ وَلَا لِلنَّاسِ، إِلَّا مَا قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ كَالزِّيِّ مِنْ كَوْنِ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ صَارَ خَاصًّا بِالْكُفَّارِ، وَفَعَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ تَشَبُّهًا بِهِمْ أَوْ صَارَ بِفِعْلِهِ لَهُ مُشَابِهًا لَهُمْ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مَعْنَوِيٌّ وَسِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ كَوْنِ الْمُتَشَبِّهِ بِقَوْمٍ تَقْوَى عَظَمَتُهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ تَضْعُفُ فِيهَا رَابِطَتُهُ بِقَوْمِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَبْغِ الشَّيْبِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ عَادَةً لَا عِبَادَةً وَلَوْ بِالسَّوَادِ، وَفَهِمَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ مِنْهُمَا اسْتِحْبَابَهُ شَرْعًا، وَفَهِمَ آخَرُونَ مِنْ بَعْضٍ آخَرَ كَرَاهَتِهِ بِالسَّوَادِ بَلْ قَالَ الْمُتَشَدِّدُونَ مِنْهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، فَصَارَ الْمُقَلِّدُونَ لَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَعُدُّونَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَخَالَفُوا هَدْيَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْإِنْكَارِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ.
فَمِنَ الْأَخْبَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ وَالِدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ جَاءَ أَوْ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ " فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّبْغِ بِالسَّوَادِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي وَاقِعَةِ عَيْنٍ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ عَادِيٍّ فَلَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، وَلَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُمُومُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُعَارَضَةٌ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِصَبْغِ الشَّيْبِ الْمُوَجَّهِ لِلْأُمَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ - وَبِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ " وَظَاهِرُهُ تَغْيِيرُهُ
259
بِهِمَا مَعًا، وَإِلَّا لَقَالَ " أَوِ الْكَتَمُ "، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ كَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ مَعًا، إِنَّهُ أَسْوَدُ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ أَيْ لَيْسَ حَالِكًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ السَّوَادِ إِذَا كَانَ قَوِيًّا مُشَبَّعًا، وَيَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ إِذَا كَانَ خَفِيفًا، وَهُوَ أَسْوَدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ سَبَبَ أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاجْتِنَابِ السَّوَادِ فِي تَغْيِيرِ شَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْهُ لِشَيْخٍ بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، وَكَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ كَالثَّغَامَةِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهِ كُلِّهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى ذَوْقِ الْبَشَرِ الْعَامِّ أَدْرَكَ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَخْضِبُ بِالسَّوَادِ إِذْ كَانَ الْوَجْهُ جَدِيدًا فَلَمَّا نَفَضَ الْوَجْهُ وَالْأَسْنَانُ تَرَكْنَاهُ اهـ. وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَعْيَانِ لَا عُمُومَ لَهَا. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَيْضًا: أَنَّ الَّذِينَ أَجَازُوا الصَّبْغَ بِالسَّوَادِ تَمَسَّكُوا بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِتَغْيِيرِهِ مُخَالَفَةً لِلْأَعَاجِمِ (وَقَالَ) وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ (أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ) أَقُولُ: وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ
الْقَاضِي عِيَاضٍ بَعْدَ جَزْمِهِ هُوَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ السَّوَادِ مَا نَصُّهُ:
" وَقَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْخِضَابِ وَفِي جِنْسِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَرْكُ الْخِضَابِ أَفْضَلُ. وَرَوَوْا حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ، وَلِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَهُ، رُويَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَآخَرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْخِضَابُ أَفْضَلُ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَخْضِبُ بِالصُّفْرَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَةَ وَآخَرِينَ (قَالَ الْقَاضِي) قَالَ الطَّبَرَانِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ، بَلِ الْأَمْرِ بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ، وَالنَّهْيِ لِمَنْ لَهُ شَمَطٌ فَقَطْ (قَالَ) : وَاخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي فِعْلِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ ; وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ خِلَافَهُ فِي ذَلِكَ. (قَالَ) : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ.
260
(قَالَ الْقَاضِي) وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ عَلَى حَالَيْنِ فَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ عَادَةُ أَهْلِهِ الصَّبْغُ أَوْ تَرْكُهُ فَخُرُوجُهُ عَنِ الْعَادَةِ شُهْرَةٌ وَمَكْرُوهٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَظَافَةِ الشَّيْبِ فَمَنْ كَانَتْ شَيْبَتُهُ تَكُونُ نَقِيَّةً أَحْسَنَ مِنْهَا مَصْبُوغَةً فَالتَّرْكُ أَوْلَى، وَمَنْ كَانَتْ شَيْبَتُهُ تُسْتَبْشَعُ فَالصَّبْغُ أَوْلَى (قَالَ النَّوَوِيُّ) : هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي، وَالْأَصَحُّ الْأَوْفَقُ لِلسُّنَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مَذْهَبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْإِصْرَارَ مِنَ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَجَعْلِهِ أَوْفَقَ لِلسُّنَّةِ مِنْ غَرِيبِ تَعَصُّبِهِ لَهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَمَلِ بَعْضِ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِهِ، وَسَائِرُ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - وَكَذَا أَمْثَالُهَا - لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَالنَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْعَادَاتِ وَالزِّينَةِ وَالتَّجَمُّلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ كَوْنِهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ، وَبِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ وَالْأَحْوَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُعَبِّرُ فِيهَا الذَّوْقُ فِي الزِّينَةِ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَأَيُّ مَدْخَلٍ لِلتَّحْرِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَا مُحَرَّمَ فِي الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ إِلَّا مَا كَانَ ضَارًّا؟.
وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا كَسُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي فَتَاوَى الْمَنَارِ، وَمِنْهُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ " يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخَضِبُونَ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " ضَعِيفٌ مَتْنًا وَسَنَدًا بَلْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مِنْ آيَاتِ الْوَضْعِ فِي مَتْنِهِ الْوَعِيدَ بِالْحِرْمَانِ مِنْ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْعَادَاتِ، وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا الْكَافِرُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ دَعْ مُخَالَفَتَهُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْجَزَرِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الشَّيْخَانِ قُلْنَا: التَّصْحِيحُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِأُصُولِ الشَّرْعِ كَهَذَا الْوَعِيدِ، وَإِنَّ ابْنَ حِبَّانَ مَنَعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ كَهَذَا الْحَدِيثِ.
وَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنِ الَّذِينَ اخْتَارُوا عَدَمَ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَتَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ خَضَبَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَلَهُ بَابٌ فِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ فَيُرَاجَعُ مَعَ شُرُوحِهِ، وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ أَفْعَالَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا تَدُلُّ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى وُجُوبٍ وَلَا نَدْبٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ، وَعَدَمُ فِعْلِهِ لِعَادَةٍ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ أَوْلَى بِأَلَّا يَدُلَّ عَلَى حُرْمَتِهَا وَلَا كَرَاهَتِهَا دِينًا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ نَبَّهَ الْأُمَّةَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّشْرِيعَ كَمَوْقِفِهِ فِي عَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ لِئَلَّا يَلْتَزِمُوهَا تَدَيُّنًا فَيَكُونُوا قَدْ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ
261
مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، عَلَى أَنَّ زَمَنَ تَوَخِّي اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، فِي الْعَادَاتِ، حُبًّا فِيهِ وَتَذَكُّرًا لِحَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، بِدُونِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ أَوْ يُوهِمَ النَّاسَ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَمَّلَ ضَرَرًا لَا يُبَاحُ التَّعَرُّضُ لَهُ شَرْعًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ شُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ شَرْعًا - فَجَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُ هَذَا مَزِيدَ كَمَالٍ فِي إِيمَانِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِتَحَرِّي ذَلِكَ يَزِيدُ تَذَكُّرُهُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحُبُّهُ لَهُ، وَقَدِ انْفَرَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ بِتَتَبُّعِ أَعْمَالِهِ وَعَادَاتِهِ وَتَقَلُّبِهِ فِي سَفَرِهِ وَلَا سِيَّمَا سَفَرُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَتَحَرِّي اتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَعُدَّهُ النَّاسُ تَشْرِيعًا فَيَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الدِّينِ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٥: ٣).
وُجُوبُ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ:
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلنَّاسِ كَافَّةً أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِيمَانَ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
أُمَّتِهِ - أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ - وَهُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَنْ يُبَلِّغُوا دَعْوَتَهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ جَمَاعَاتٍ تَتَعَاوَنُ عَلَيْهِ إِذْ لَا يُغْنِي الْأَفْرَادُ غَنَاءَ الْجَمَاعَاتِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيِّ - الَّذِي هُوَ بَدْءُ الدَّعْوَةِ - أَمْ إِلَى الشَّرَائِعِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣: ١٠٤) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ تَجْرِيدٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ - أَيْ لِتَكُنْ صَدِيقًا لِي، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هَدَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّفَ لِلدَّعْوَةِ جَمَاعَاتٌ تُعِدُّ لَهَا عُدَّتَهَا، وَأَنَّ هَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ جَعْلُ " مِنْكُمْ " لِلتَّبْعِيضِ إِلَخْ. [رَاجِعْ ص٢٢ - ٤٣٨ ط الْهَيْئَةِ].
وَتَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ، فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي عَصْرِ الْبَعْثَةِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقُ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْأَصْنَامِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَيَقْضِي لَهُمْ حَاجَتَهُمْ مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ بِوَسَاطَتِهِمْ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْحَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُنْكِرُونَ
262
الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِبَعْضِ الْبَشَرِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدْعُوهُمْ أَوَّلًا إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ، وَبَابُ الدُّخُولِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعَ دَفْعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَيَلِي ذَلِكَ دَعَوْتُهُمْ إِلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا الْكُلِّيَّةِ فِي الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ
وَالرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الْوَثَنِيَّةُ الْقَدِيمَةُ بِجَمِيعِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَلَاسِيَّمَا النَّصَارَى الَّذِينَ أَقَامُوا عَقِيدَتَهُمْ عَلَى أَسَاسِ التَّثْلِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قَدْ فُقِدَتْ فِي غَزْوَةِ الْبَابِلِيِّينَ لَهُمْ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْضُهُمْ لَهُمْ تَوْرَاةً بَعْدَ عِدَّةِ قُرُونٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ دِينِيٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عَهْدِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَعَلَى مَا تَذَكَّرَ الْكَاتِبُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ تَحْرِيفٍ وَأَغْلَاطٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَعْظٍ وَتَعْلِيمٍ وَبِشَارَةٍ قَدِ ادَّعَاهُ كَثِيرُونَ فَظَهَرَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَهُ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا اخْتَارَ الْجُمْهُورُ الَّذِي جَمَعَ شَمْلَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ - الْوَثَنِيُّ الَّذِي تَنَصَّرَ سِيَاسَةً - أَرْبَعَةً مِنْهَا فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ، وَفَشَا فِيهِمْ مُنْذُ عَهْدِ هَذَا الْمَلِكِ الْوَثَنِيِّ الْمُتَنَصِّرِ عِبَادَةُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّالِحِينَ حَتَّى صَارَتِ الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ كَهَيَاكِلِ الْأَوْثَانِ مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - فَكَانَتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُجَجُهُ عَلَيْهِمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ تَخْتَلِفُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَنْ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْلِيِّينَ، كَمَا تَرَاهُ مَبْسُوطًا فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ الْأَرْبَعِ الْأُولَى: الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ - فَفِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَقَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: يُوَجِّهُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ إِلَى الْيَهُودِ، وَذُكِرَتْ فِيهِ النَّصَارَى بِالْعَرَضِ - وَأَوَائِلُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي حِجَاجِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِي أَوَاخِرِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْثَرُهُ فِي النَّصَارَى. وَجُلُّ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَالنَّصَارَى خَاصَّةً.
وَأَمَّا هَذَا الْعَصْرُ فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْمَلَاحِدَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَتَجَدَّدَتْ لِلْكُفَّارِ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ شُبُهَاتٌ جَدِيدَةٌ يَتَوَكَّئُونَ فِيهَا عَلَى مَسَائِلَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ، وَحَدَثَتْ لِلنَّاسِ آرَاءٌ وَمَذَاهِبُ فِي الْحَيَاةِ فِيهَا الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ، وَالنَّافِعُ
263
وَالضَّارُّ، بَلْ مِنْهَا مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ، وَتَقْوِيضِ دَعَائِمِ الْعُمْرَانِ، وَمَثَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ ذُيُوعُ التَّعَالِيمِ الْمَادِّيَّةِ، وَفَوْضَى الْآدَابِ، وَتَدَهْوُرُ الْأَخْلَاقِ، وَتَغَلُّبُ الرَّذَائِلِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْفَسَادُ فِي أَفْظَعِ صُورَةٍ فِي حَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ الْكُبْرَى وَمَا وَلَّدَتْهُ مِنْ تَفَاقُمِ شَرَهِ
الْمُسْتَعْمِرِينَ وَشَرِّهِمْ وَفَظَائِعِهِمْ فِي الشَّرْقِ، وَانْتِشَارِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَفَاسِدِهِمْ فِي الْبِلَادِ الرُّوسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبَثِّ دَعْوَتِهَا فِي الْعَالَمِ - فَصَارَ مِنَ الْوَاجِبِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ، وَرَدِّ الشُّبَهِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا (آيَ ٣: ١٠٤) حَاجَةَ الدَّاعِي إِلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ عِلْمًا مِنْهَا السِّيَاسَةُ وَلُغَاتُ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ، وَأَشَرْتُ هُنَالِكَ إِلَى مَقَالَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا.
اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْإِسْلَامِ:
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي بَحْثِ اتِّبَاعِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ لُغَتِهِ الَّتِي هِيَ لُغَةُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَدَانَ بِدِينِهِ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِهِ، وَأَنْ يَتْلُوَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِتْقَانِ لُغَتِهِ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، فَالْمُسْلِمُونَ يُبَلِّغُونَ الدَّعْوَةَ لِكُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا هَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَّمُوهُ أَحْكَامَهُ وَلُغَتَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ الْفَاتِحُونَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَمَا بَعْدَهَا، إِلَى أَنْ تَغَلَّبَتِ الْأَعَاجِمُ عَلَى الْعَرَبِ، وَسَلَبُوهُمُ الْمُلْكَ فَوَقَفَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَضَعُفَ الْعِلْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنْ قَضَى عَلَيْهَا التُّرْكُ وَحَرَّمَتْهَا حُكُومَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لِتَقْطَعَ كُلَّ صِلَةٍ لَهُمْ بِدِينِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ تَفْصِيلًا.
وَمِمَّا نَشَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَقَالٌ فِي لُغَةِ الْإِسْلَامِ نَشَرْنَاهُ أَوَّلًا فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ الْيَوْمِيَّةِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ بِوُجُوبِ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِسَالَتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِلِسَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كِتَابَ اللهِ مَحْضٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَخْلِطُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؟ فَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ اللهِ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (١٤: ٤).
" فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانُوا يُرْسَلُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ خَاصَّةً، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؟ (قِيلَ) : فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يَتَعَلَّمُوا
لِسَانَهُ، أَوْ مَا يُطِيقُونَهُ مِنْهُ.
264
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ بِأَلْسِنَتِهِمْ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ خَاصَّةً دُونَ أَلْسِنَةِ الْعَجَمِ؟ ؟.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَالدّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَلْسِنَةُ مُخْتَلِفَةً بِمَا لَا يَفْهَمُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ تَبَعًا لِبَعْضٍ، أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ فِي اللِّسَانِ الْمُتَّبَعِ عَلَى التَّابِعِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْفَضْلِ فِي اللِّسَانِ مَنْ لِسَانُهُ لِسَانُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا يَجُوزُ - وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَهْلُ لِسَانِهِ أَتْبَاعًا لِأَهْلِ لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِهِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ لِسَانٍ تَبَعٌ لِلِسَانِهِ وَكُلُّ أَهْلِ دِينٍ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ دِينِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكِ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (٢٦: ١٩٢ - ١٩٥) وَقَالَ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا حُكْمًا عَرَبِيًّا (١٣: ٣٧) وَقَالَ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (٤٢: ٧) وَقَالَ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٤٣: ١ - ٣).
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَأَقَامَ حُجَّتَهُ بِأَنَّ كِتَابَهُ عَرَبِيٌّ فِي كُلِّ آيَةٍ ذَكَرْنَاهَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَفَى جَلَّ وَعَزَّ عَنْهُ كُلَّ لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٦: ١٠٣) وَقَالَ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ (٤١: ٤٤).
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَعَرَّفَنَا قَدْرَ نِعَمِهِ بِمَا خَصَّنَا بِهِ مِنْ مَكَانَةٍ فَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ... (٩: ١٢٨) الْآيَةَ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (٦٢: ٢) الْآيَةَ وَكَانَ مِمَّا عَرَّفَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ إِنْعَامِهِ أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (٤٣: ٤٤) فَخَصَّ قَوْمَهُ بِالذِّكْرِ مَعَهُ بِكِتَابِهِ وَقَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢٦: ٢١٤) وَقَالَ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (٤٢: ٧) وَأُمُّ الْقُرَى
مَكَّةُ وَهِيَ بَلَدُهُ وَبَلَدُ قَوْمِهِ، فَجَعَلَهُمْ فِي كِتَابِهِ خَاصَّةً، وَأَدْخَلَهُمْ مَعَ الْمُنْذَرِينَ عَامَّةً، وَقَضَى أَنْ يُنْذَرُوا بِلِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ لِسَانِ قَوْمِهِ مِنْهُمْ خَاصَّةً.
" فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَّغَهُ جُهْدُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأَمَرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا ازْدَادَ مِنَ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِسَانَ مَنْ خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ آخِرَ كُتُبِهِ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، كَمَا
265
عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ فِيهَا، وَيَأْتِيَ الْبَيْتُ وَمَا أُمِرَ بِإِتْيَانِهِ وَيَتَوَجَّهَ لِمَا وُجِّهَ لَهُ، وَيَكُونَ تَبَعًا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَنُدِبَ إِلَيْهِ لَا مَتْبُوعًا.
" قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَإِنَّمَا بَدَأْتُ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ إِيضَاحِ جُمَلِ عِلْمِ الْكِتَابِ أَحَدٌ جَهِلَ سَعَةَ لِسَانِ الْعَرَبِ وَكَثْرَةَ وُجُوهِهِ، وَجِمَاعَ مَعَانِيهِ وَتَفَرُّقَهَا. وَمَنْ عَلِمَهَا انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبَهُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى مَنْ جَهِلَ لِسَانَهَا، فَكَانَ تَنْبِيهُ الْعَامَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ خَاصَّةً نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ فَرْضٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، أَوْ إِدْرَاكُ نَافِلَةِ خَيْرٍ لَا يَدَعُهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَتَرَكَ مَوْضِعَ حَظِّهِ، فَكَانَ يَجْمَعُ مَعَ النَّصِيحَةِ لَهُمْ قِيَامًا بِإِيضَاحِ حَقٍّ، وَكَانَ الْقِيَامُ بِالْحَقِّ وَنَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَطَاعَةُ اللهِ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرِ " اهـ. ثُمَّ ذَيَّلْنَا هَذَا النَّقْلَ بِمَا نَذْكُرُ هُنَا مُلَخَّصَهُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَةِ الْأُصُولِ الشَّهِيرَةِ الْمَطْبُوعَةِ بِمِصْرَ بِنَصِّهَا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبٌ لَهُ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَلَّا إِنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَتْ رِسَالَتُهُ هَذِهِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ إِذْ كَانَتْ هِيَ أَوَّلُ مَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ دُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يُخَالِفْهُ وَلَمْ يُنَاقِشْهُ أَحَدٌ فِيهَا، وَلَا فِيمَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا، وَأَوْضَحُ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى التَّعَبُّدِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذَا سُنِّيٌّ وَلَا شِيعِيٌّ وَلَا إِبَاضَيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ وَلَا مُعْتَزِلِيٌّ.
نَعَمْ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَصَّرُوا فِي دِرَاسَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بَعْدَ ضَعْفِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَغَلُّبِ الْأَعَاجِمِ، فَعَطَّلُوا بِذَلِكَ بَعْضَ مَا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْعِبْرَةِ وَالِاتِّعَاظِ
بِآيَاتِهِ وَفَهْمِ عَقَائِدِهِ وَفِقْهِ أَحْكَامِهِ، وَلَكِنْ رُوِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِجَوَازِ أَدَاءِ بَعْضِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِيهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ مَا يَجِبُ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْأَفْرَادِ لِضَعْفٍ فِي نُطْقِهِ وَفَهْمِهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، عَلَى أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالضَّرُورَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَسَعُ أَيُ شَعْبٍ أَعْجَمِيٍّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ فِي دِينِهِ عَنْ لُغَةِ كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ جَمِيعَ مُقَلِّدِيهِ مِنَ الْأَعَاجِمِ لَا يَزَالُونَ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَأَذْكَارَ الصَّلَاةِ وَالْحَجَّ وَغَيْرَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ خُطْبَةُ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ إِلَّا مَا شَذَّتْ بِهِ الْحُكُومَةُ الْكَمَالِيَّةُ التُّرْكِيَّةُ فَأَمَرَتِ الْخُطَبَاءَ بِأَنْ يَخْطُبُوا بِالتُّرْكِيَّةِ تَمْهِيدًا لِلصَّلَاةِ بِهَا لِخَلْعِ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ جَمَاعَةَ الْمُصَلِّينَ مِنَ التُّرْكِ لَمَّا سَمِعُوا خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ بِالتُّرْكِيَّةِ نَكِرُوهَا، وَنَفَرُوا مِنْهَا وَاتَّخَذُوا خُطَبَاءَهَا سِخْرِيًّا ; لِأَنَّ لِلْعَرَبِيَّةِ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ يَخْشَعُونَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا كُلَّ عِبَارَاتِهَا ; وَلِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوهَا بِنَغَمٍ خَاصٍّ وَأَدَاءٍ خَاصٍّ لَا تَقْبَلُهُ اللُّغَةُ التُّرْكِيَّةُ كَالْعَرَبِيَّةِ.
266
وَلَيْسَتْ عِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَيْضًا فَإِنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا حَتَّى الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى تَوَقُّفِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْرِفَةً تُمَكِّنُ صَاحِبَهَا مَنْ فَهْمِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ - أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) فَتُرَاجَعْ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ إِقَامَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى لُغَةِ كِتَابَةِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ هِدَايَتُهُ الرُّوحِيَّةُ، وَرَابِطَتُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَحُكُومَتُهُ الْعَادِلَةُ الْمَدَنِيَّةُ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ أَحْوَجَ إِلَى الْوَحْدَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمُ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَمَزَّقُوا فِيهِ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَأَصْبَحُوا أَكْلَةً لِمَنْهُومِي الِاسْتِعْمَارِ وَمُسْتَعْبِدِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا الْحَدِيثَ.
بَحْثُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ:
سَيَقُولُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِ دِينًا رُوحَانِيًّا مَدَنِيًّا سِيَاسِيًّا، وَبَعْضُ أُولِي الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: إِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَجِبُ إِلَّا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ عَلَى شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ مَا جَازَ عَلَى شُعُوبِ النَّصَارَى مَثَلًا مِنْ تَرْجَمَةِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ بِلُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَمِلَّةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟.
وَنَقُولُ: (أَوَّلًا) إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَنَا مَسْأَلَةُ نَقْلٍ وَاتِّبَاعٍ لَا مَسْأَلَةُ رَأْيٍ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَئِمَّتَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَثَانِيًا) إِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ النَّصَارَى عَلَى مِلَّةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ نَزِيدَ عَلَى ذِكْرِ اعْتِقَادِنَا هَذَا فِي صَحِيفَةٍ عُمُومِيَّةٍ وَثَالِثًا (إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ تَرْجَمَةً تُؤَدِّي مَعَانِيَهُ تَأْدِيَةً تَامَّةً كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى وَيَبْقَى بِهَا مُعْجِزًا وَآيَةً - مُتَعَذِّرَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالْإِيضَاحِ فِي مَجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) وَلَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا. (وَرَابِعًا) إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ تَرْجَمَةَ الْكِتَابِ لَا تُخِلُّ بِفَهْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَتَشْرِيعِهِ أَفَلَا تُخِلُّ بِمَا هُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْمَقَالِ مِنْ وُجُوبِ وَحْدَتِهِمْ وَتَعَارُفِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ - وَتَوَقُّفُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرُورِيٌّ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لُغَةَ جَمِيعِ أَفْرَادِ شُعُوبِهِمْ فَلْتَكُنْ مِمَّا يُتْقِنُهُ طَوَائِفُ رِجَالِ الدِّينِ وَدُعَاةُ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ؟ بَلَى بَلَى اهـ.
267
(تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ) كَتْبَنَا فِي فَاتِحَةِ الْمُجَلَّدِ (٢٦) مِنَ الْمَنَارِ مَقَالًا فِي مَسْأَلَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ نَذْكُرُ هُنَا مِنْهُ مَا يَلِي:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (سُورَةُ يُوسُفَ ١٢ ١، ٢).
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يَحْدُثُ لَهُمْ ذِكْرًا (سُورَةُ طه ٢٠: ١١٣).
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذَرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الْأَحْقَافِ ٤٦: ١٢).
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (سُورَةُ الزُّمَرِ ٣٩: ٢٧، ٢٨).
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (سُورَةُ فُصِّلَتْ ٤١: ١ - ٣).
حُمَّ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزُّخْرُفِ ٤٣: ١ - ٤).
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (سُورَةُ الشُّورَى ٤٢: ٧).
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ ٢٦: ١٩٢ - ١٩٩).
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (سُورَةُ النَّحْلِ ١٦: ١٠٢، ١٠٣).
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينِ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمَى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (سُورَةُ فُصِّلَتْ ٤١: ٤٤).
268
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (سُورَةِ الرَّعْدِ ١٣: ٣٧).
أَمَّا بَعْدُ، فَهَذِهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْبَابِ، تَجَاوَزْنَ جَمْعَ الْقِلَّةِ
إِلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَعَدَوْنَ إِشَارَاتِ الْإِيجَازِ وَحُدُودَ الْمُسَاوَاةِ إِلَى بَاحَةِ الْإِطْنَابِ، يَنْطِقْنَ بِنُصُوصٍ صَرِيحَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَلَا التَّحْوِيلَ، بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي جَعَلَهُ آخِرَ كُتُبِهِ، عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْحَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَصَّلَ آيَاتِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَأَنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَزَلَ بِهِ عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَأَنَّهُ ضَرَبَ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، حَالَ كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، وَأَنَّهُ أَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُنْذِرَ بِهِ (أُمَّ الْقُرَى) وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوَرَى، وَأَنَّهُ عَلَى إِنْزَالِهِ إِيَّاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى، وَالْوَعِيدِ وَالْبُشْرَى، لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يَحْدُثُ لَهُمْ ذِكْرًا، أَنْزَلَهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وَأَمَرَ مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ حَقًّا مَشَاعًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا مُحَابَاةَ لِقَرَابَةٍ وَلَا فَضْلٍ، فَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا اقْرَأِ الْآيَاتِ (مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ ٤: ٥ ١٠ - ١١٤) بِطُولِهَا، وَرَاجِعْ سَبَبَ نُزُولِهَا فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ دِينِيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَأَنَّهُ حُكُومَةٌ دِينِيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ، عَرَبِيَّةُ اللِّسَانِ، عَامَّةً لِجَمِيعِ شُعُوبِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ.
وَصَلَوَاتُ اللهِ وَتَحِيَّاتُهُ الْمُبَارَكَةُ الطَّيِّبَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأَمِينِ، الَّذِي جَعَلَهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَفَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، بِإِكْمَالِ دِينِهِ بِلِسَانِهِ، وَعَلَى لِسَانِهِ وَإِرْسَالِهِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ هِدَايَةَ رِسَالَتِهِ بَاقِيَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، بِقَوْلِهِ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١: ١٠٧) وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (٢٥: ١) وَقَوْلِهِ تَعَالَى جَدُّهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤: ٢٨) وَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٣: ٤٠) وَقَوْلِهِ عَمَّ نَوَالُهُ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: الْيَوْمُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٥: ٣).
وَقَدْ بَلَّغَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَعْوَةَ رَبِّهِ كَمَا أُمِرَ، فَبَدَأَ بِأُمِّ الْقُرَى ثُمَّ بِمَا حَوْلَهَا مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَشُعُوبِ الْعَجَمِ، بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي قَضَى اللهُ أَنْ يُوَحِّدَ بِهِ أَلْسِنَةَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَيَجْعَلُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً بِالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ ; لِيَكُونُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
269
لَا مَثَارَ بَيْنِهِمْ لِلْعَدَاوَاتِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ بِعَصَبِيَّاتِ الْأَنْسَابِ وَالْأَقْوَامِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَلْسِنَةِ فَكَتَبَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كُتُبَهُ إِلَى قَيْصَرِ الرُّومِ وَكِسْرَى الْفُرْسِ وَمُقَوْقِسِ مِصْرَ بِلُغَةِ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةِ كَكُتُبِهِ إِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ وَأُمَرَائِهِمْ، وَبَلَّغَ أَصْحَابُهُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أُمَّتَهُ مِنْ تَعْمِيمِ الدَّعْوَةِ، وَبَشَّرَهُمْ بِأَنَّ نُورَهَا سَيَنْتَشِرُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَصَدَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لِهَدْيِهِمْ، وَجَمِيعَ دُوَلِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِهِمْ، بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ نَشْرِ هَذَا الدِّينِ بِلُغَتِهِ، فِي كِلَا قِسْمَيْ شَرِيعَتِهِ عِبَادَتِهِ وَحُكُومَتِهِ.
فَكَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي شُعُوبِ الْأَعَاجِمِ مِنْ قَارَّاتِ الْأَرْضِ الثَّلَاثِ (آسِيَةَ وَأَفْرِيقِيَّةَ وَأُورُبَّةَ) بِلُغَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيُقْبِلَ الدَّاخِلُونَ فِيهِ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِبَاعِثِ الْعَقِيدَةِ، وَضَرُورَةِ إِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ، وَلَا سِيَّمَا فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ هُمَا عُنْوَانُ الدُّخُولِ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَكَانَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ جَمِيعِ تِلْكَ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ، بِالْإِجْمَاعِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ التَّعَبُّدِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَقْصِيرِ دَوْلَةِ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ، بِعَدَمِ جَعْلِ الْعَرَبِيَّةِ لُغَةً رَسْمِيَّةً لِلدَّوَاوِينِ، كَسَلَفِهِمْ مِنَ السَّلْجُوقِيِّينَ وَالْبُوَيْهِيِّينَ، حَتَّى بَعْدَ تَنَحُّلِهِمْ لِلْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرَفْعِ أَلْوِيَتِهِمْ عَلَى مَهْدِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِلَادِ الْحِجَازِيَّةِ، فَآلَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَارُضِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ الْعَصَبِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ وَرَابِطَةِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّفَرُّقِ وَالتَّقَاتُلِ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْعَرَبِ، فَإِلْغَاءِ الْخِلَافَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، فَإِسْقَاطِ دَوْلَةِ آلِ عُثْمَانَ، وَتَأْلِيفِ جُمْهُورِيَّةٍ، تُرْكِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، أُورُبِّيَّةِ الْعَادَاتِ وَالتَّقْنِينِ وَالتَّشْرِيعِ، وَإِبْطَالِ مَا كَانَ فِي الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَمَشْيَخَةِ الْإِسْلَامِ وَالْأَوْقَافِ وَالْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَاكِمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ حُكُومَتَهُمْ هَذِهِ مَدَنِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ فَصْلًا بَاتًّا كَمَا فَعَلَتِ الشُّعُوبُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا وَضَعُوا قَانُونَ هَذِهِ الْجُمْهُورِيَّةِ قَبْلَ التَّجَرُّؤِ عَلَى كُلِّ مَا ذُكِرَ، وَضَعُوا فِي مَوَادِّهِ أَنَّ الدِّينَ الرَّسْمِيَّ لِلدَّوْلَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ مُرَاعَاةً لِلشَّعْبِ التُّرْكِيِّ الْمُسْلِمِ، كَمَا وَضَعُوا فِيهِ مَوَادًا أُخْرَى تُنَافِي الْإِسْلَامَ مِنَ اسْتِقْلَالِ الْمَجْلِسِ الْوَطَنِيِّ الْمُنْتَخَبِ بِالتَّشْرِيعِ بِلَا قَيْدٍ وَلَا شَرْطٍ، وَمِنْ إِبَاحَةِ الرِّدَّةِ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ الشَّرْعُ. وَظَهَرَ أَثَرُ
ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، كَالطَّعْنِ الصَّرِيحِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ حَتَّى فِي الصُّحُفِ الْعَامَّةِ وَكَإِبَاحَةِ الزِّنَا وَالسُّكْرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَبُرُوزِ النِّسَاءِ التُّرْكِيَّاتِ فِي مَعَاهِدِ الْفِسْقِ وَمَحَافِلِ الرَّقْصِ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُنَافِيَاتِ الدِّينِ....
وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يَرْوِ غَلِيلَ الْعَصَبِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ التُّورَانِيَّةِ، وَلَمْ يَذْهَبْ بِحِقْدِهَا عَلَى الرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَآدَابِهَا الدِّينِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ كَانَ مِنْ كَيْدِهَا لَهَا السَّعْيُ لِإِزَالَةِ كُلِّ مَا هُوَ عَرَبِيٌّ مِنْ نَفْسِ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ وَلِسَانِهِ، وَعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ ; لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ سَلَّهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، بِمَعُونَةِ التَّرْبِيَةِ
270
الْجَدِيدَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْعَامِّ، بَلْ عَمَدُوا إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، الثَّابِتِ أَصْلُهَا، الرَّاسِخِ فِي أَرْضِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ عِرْقُهَا، الْمُمْتَدِّ فِي أَعَالِي السَّمَاءِ فَرْعُهَا، الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، عَمَدُوا إِلَيْهَا لِاجْتِثَاثِ أَصْلِهَا وَاقْتِلَاعِ جِذْرِهَا بَعْدَ مَا كَانَ مِنَ الْتِحَاءِ عُودِهَا، وَامْتِلَاخِ أُمْلُودِهَا، وَخَضْدِ شَوْكَتِهَا وَعَضْدِ خَصْلَتِهَا، بَعْدَ أَنْ نَعِمُوا بِضْعَةَ قُرُونٍ بِثَمَرَتِهَا، وَإِنَّمَا تِلْكَ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْحَكِيمُ الْمَجِيدُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ، هِيَ الزَّيْتُونَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَإِذَا مَسَّتْهُ نَارُ الْإِيمَانِ بِحَرَارَتِهَا اشْتَعَلَ نُورًا عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٤: ٣٥).
وَإِنَّمَا أَعْنِي بِقَطْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مُحَاوَلَةَ حِرْمَانِهِ مِنْهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ تَرْجَمُوا الْقُرْآنَ بِالتُّرْكِيَّةِ لَا لِيَفْهَمَهُ التُّرْكُ، فَإِنَّ تَفَاسِيرَهُ بِلُغَتِهِمْ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مِنْ مَقَاصِدِ إِبْطَالِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ إِبْطَالُ دِرَاسَتِهَا (أَيِ التَّفَاسِيرِ حَتَّى التُّرْكِيَّةِ) وَحَظْرِ مُدَارَسَةِ كُتُبِ السَّنَةِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهَا مَشْحُونَةٌ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَشَوَاهِدِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ مَحْوَ كُلِّ مَا هُوَ عَرَبِيٌّ مِنَ اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ، وَمِنْ أَنْفُسِ الْأُمَّةِ التُّرْكِيَّةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَلَّفُوا جَمْعِيَّةً خَاصَّةً لِمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِتَطْهِيرِ اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ " مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاقْتِرَاحِ بَعْضِهِمْ كِتَابَةَ لُغَتِهِمْ بِالْحُرُوفِ اللَّاتِينِيَّةِ، وَإِذَا طَالَ أَمَدُ نُفُوذِ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذَا الشَّعْبِ الْإِسْلَامِيِّ الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُمْ سَيُنَفِّذُونَ هَذَا الِاقْتِرَاحَ قَطْعًا كَمَا نَفَّذُوا غَيْرَهُ حَتَّى اسْتِبْدَالَ قُرْآنٍ تُرْكِيٍّ بِلُغَةِ بَعْضِ مَلَاحِدَةِ التُّورَانِيِّينَ، بِالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ،
الْمُتَعَبَّدِ بِأَلْفَاظِهِ الْعَرَبِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعْجِزِ بِبَلَاغَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَكَوْنِهِ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَرَأَيْتَ أَيُّهَا الْقَارِئُ هَذَا الْخَطْبَ الْعَظِيمَ؟ أَرَأَيْتَ هَذَا الْبَلَاءَ الْمُبِينَ؟ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْجَرْأَةَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الصَّدْمَةَ لِدِينِ اللهِ الْقَوِيمِ؟ ثُمَّ أَرَأَيْتَ هَذَا الشَّنَآنَ وَالِاحْتِقَارَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَرَفْضَ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مُدَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفٍ؟ ثُمَّ أَرَأَيْتَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي مِصْرَ أَعْرَفِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ!.
لَقَدْ كَانَ مِنْ تَأْثِيرٍ ذَلِكَ مَا هُوَ أَقْوَى الْبَرَاهِينِ، عَلَى فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَاخْتِلَالِ الْمَنْطِقِ وَفَسَادِ التَّعْلِيمِ، وَالْجَهْلِ الْفَاضِحِ بِضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ وَشُئُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، وَتَعَارُضِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَسْوِيدِ الصَّحَائِفِ الْمُنَشَّرَةِ، بِمِثْلِ مَا شَوَّهُوهَا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ أَبْعَدَ عَنْ أَهْوَاءِ الْخِلَافِ، لِلنُّصُوصِ
271
الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِيهَا، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ شُذُوذِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْفِرَقِ حَتَّى الْمُبْتَدَعَةِ عَنْهَا، فَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ، وَتَعَدَّدَتِ الْأَحْزَابُ وَالشِّيَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَارْتَدَّ بَعْضُ الْفِرَقِ عَنِ الدِّينِ، بِضُرُوبٍ مِنْ فَاسِدِ التَّأْوِيلِ، وَسَخَافَاتٍ مِنْ أَبَاطِيلِ التَّحْرِيفِ، كَمَا فَعَلَ زَنَادِقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَقْوُوا وَيُصَرِّحُوا بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ تَقُمْ فِرْقَةٌ تَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَلَا ضَلَّتْ طَائِفَةٌ بِتَرْجَمَةِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالْآذَانِ ; لِأَجْلِ الِاسْتِغْنَاءِ بِهَا فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، عَنِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَا حَوْلَ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ تَصْوِيرِ الْفُقَهَاءِ لِلْوَقَائِعِ النَّادِرَةِ، أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَعْجَمِيٌّ مَثَلًا، وَأَرَدْنَا تَعْلِيمَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسَانُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِأَلْفَاظِ الْفَاتِحَةِ فَهَلْ يُصَلِّي بِمَعَانِيهَا مِنْ لُغَتِهِ، أَمْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا بَعْضُ الْأَذْكَارِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَأْثُورَةِ مُؤَقَّتًا رَيْثَمَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، أَمْ يُصَلِّيَ بِتَرْجَمَةِ الْفَاتِحَةِ بِلُغَتِهِ؟ نُقِلَ الْقَوْلُ الْأَخِيرِ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَحْدَهُ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ لَهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ عَمِلَ بِهِ (عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي عَمَلِ أَحَدٍ وَلَا فِي قَوْلِهِ، غَيْرَ الْمَعْصُومِ) فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَاعُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ مِمَّا يُؤَيِّدُ حَفِظَ اللهِ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَأَرَادَ مَلَاحِدَةُ التُّرْكِ أَنْ يُبْطِلُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (سُورَةُ الصَّفِّ ٦١: ٨، ٩)
مَنْشَأُ فِكْرَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَسَبَبُهَا:
لَقَدْ كَانَ ضَعْفُ الْخِلَافَةِ الْقُرَشِيَّةِ بِجَهْلِ الْخُلَفَاءِ وَتَرَفِهِمْ وَفِسْقِهِمْ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَخَاذُلِهِمْ فَضَعْفِهِمْ، إِذْ كَانَ سَبَبًا لِتَأْسِيسِ عِدَّةِ دُوَلٍ إِسْلَامِيَّةٍ تَتَنَازَعُ السُّلْطَةَ، وَلِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَرْكِ الْأَعَاجِمِ، فَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَتَدْرِيسِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، فَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ بِلُغَاتِهِمْ لِأَجْلِ فَهْمِهِ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَتِهِ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ لِأَجْلِ الدَّعْوَةِ بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا انْفَرَدَتْ دَوْلَةُ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ دُونَ سَائِرِ دُوَلِ الْأَعَاجِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِجَعْلِ لُغَتِهِمْ رَسْمِيَّةً لَهَا، ثُمَّ بِادِّعَاءِ مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ لِسُلْطَانِهَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَمُّدَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ لِإِضْعَافِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِمُعَادَاتِهَا، وَلِتَفْضِيلِ لُغَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ عَلَى لُغَةِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ رَسُولِهِمْ، ثُمَّ لِتَفْضِيلِ رَابِطَةِ جِنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ عَلَى رَابِطَةِ دِينِهِمْ، ثُمَّ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هَذَا بِتِلْكَ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَتْ جَامِعَةُ اللُّغَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ مُعَارِضَةً لِلْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَبَبًا لِمُعَادَاتِهَا. ثُمَّ تَجَدَّدَ لِدُعَاةِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ سَبَبٌ آخَرُ لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّمْهِيدُ بِهِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا التُّرْكُ الَّذِينَ نَالُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ غَيْرِهِ مَا نَالُوا مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْكَبِيرِ.
272
إِنْ مَلَاحِدَةَ التُّرْكِ وَدُعَاةَ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مِنْهُمْ قَدْ بَثُّوا فِي قَوْمِهِمْ فَكُرَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ بِاللِّسَانِ التُّرْكِيِّ قَبْلَ عَهْدِ الْحُرِّيَّةِ الدُّسْتُورِيَّةِ بِسِنِينَ، وَقَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَأَوَّلُ مَنْ سَمِعْنَا مِنْهُ هَذَا الرَّأْيَ مُحَمَّدُ عُبَيْد اللهِ أَفَنْدِي الَّذِي صَارَ بَعْدَ الدُّسْتُورِ مَبْعُوثًا،
وَأَنْشَأَ فِي الْآسِتَانَةِ جَرِيدَةً عَرَبِيَّةً بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَجْلِ خِدَاعِ الْعَرَبِ وَإِضْلَالِهِمْ سَمِعْتُ هَذَا الرَّأْيَ الْفَاسِدَ مِنْهُ فِي مِصْرَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ فِي الْآسِتَانَةِ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا وَأَنْكَرْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّالِثَ عَشَرَ.
(مِنْهَا) قَوْلُنَا فِي (الْفَتْوَى ٢٧ ص٣٤٣ ج ٥ م١٣ الَّذِي صَدَرَ فِي سَلْخِ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ١٣٢٧) فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ مُحَمَّدِ عُبَيْد اللهِ أَفَنْدِي فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ:.
" لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي شَذَّ فِيهَا وَحْدَهَا هَذَا الرَّجُلُ، فَإِنَّ لَهُ شُذُوذًا فِي مَسَائِلَ أُخْرَى دِينِيَّةٍ، وَتَارِيخِيَّةٍ كَادِّعَائِهِ أَنَّ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا تَمَّتْ وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ إِلَى جَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَكَادِّعَائِهِ أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي دِينِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى آيَةً لِلْعَالِمِينَ، مُعْجِزًا لِلْبَشَرِ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى التُّرْكِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَرْجِمُ يُتَرْجِمُ حَسَبَ فَهْمِهِ فَيَخْتَلِفُ مَعَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ أَهْلِ لُغَةٍ قُرْآنٌ، وَإِنْ كَانَتِ التَّرْجَمَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهَا الْإِعْجَازُ كَالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ التَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سَبَقَ لِي مُنَاظَرَةٌ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ مُنْذُ سِنِينَ اهـ.
وَمِنْهَا - مَا ذَكَرْتُهُ فِي (ج ٧ مِنْهُ ص ٥٤٩) فِي سِيَاقِ سَمَرٍ مَعَ طَلْعَت بِك (بَاشَا) نَاظِرِ الدَّاخِلِيَّةِ بِدَارِهِ فِي الْآسِتَانَةِ ذَكَرَ لِي فِيهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَيُنْشِئُ جَرِيدَةً عَرَبِيَّةً؛ لِأَجْلِ التَّآلُفِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّهُ يُخْشَى أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهَا زِيَادَةَ الشِّقَاقِ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْعَرَبِ، وَزَعْمِهِ إِمْكَانَ اسْتِغْنَاءِ التُّرْكِ عَنْ لُغَتِهِمْ وَعَنْ قُرْآنِهِمُ الْعَرَبِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ بِالتُّرْكِيَّةِ إِلَخْ وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَمِنْهَا - قَوْلُنَا فِي مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى (فِي ص٣٨٤ مِنْهُ) : اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ (أَيِ الْمُفْسِدِينَ) مَنْ يَفُوقُ سِهَامُ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي شَرَّفْتَهَا وَفَضَّلْتَهَا بِخَاتَمِ أَنْبِيَائِكِ وَرُسُلِكِ، وَخَيْرِ كُتُبِكَ الْمُنَزَّلَةِ لِهِدَايَةِ خَلْقِكَ وَخَاطَبْتَ سَلَفَهَا الصَّالِحَ بِقَوْلِكَ الْحَقِّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (٣: ١١٠) إِلَخْ.
" اللهُمَّ إِنَّهُمْ حَسَدُوهَا أَنْ جَعَلْتَ كِتَابَكَ عَرَبِيًّا مُبِينًا، فَهُمْ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ لِيَكُونَ عُرْضَةً لِتَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَّفِقِينَ، اللهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ لِتَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ تَرْجَمَتَهُ لِكُلِّ شَعْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَفَرَّقُوا فِيهِ، اللهُمَّ إِنَّهُ حَبْلُكَ الْمَتِينُ الَّذِي أَمَرَتْنَا أَنْ نَعْتَصِمَ بِهِ
273
وَلَا نَتَفَرَّقَ عَنْهُ بِقَوْلِكَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (٣: ١٠٣) وَهُوَ بَيِّنَاتُكَ الَّتِي قُلْتَ فِيهَا: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ (٣: ١٠٥).
" اللهُمَّ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رِسَالَةَ خَاتَمِ رُسُلِكَ مَا تَمَّتْ إِلَى الْآنِ. وَأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنْتِ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٥: ٣).
وَمِنْهَا - قَوْلُنَا فِي آخِرِ الْفَتْوَى ٣٢ مِنْهُ (ص٥٧١) فِي سِيَاقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: وَلَا يَتِمُّ هَذَا الِاهْتِدَاءُ إِلَّا بِالْعِنَايَةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا شَيْءَ أَضَرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ; لِيَسْتَغْنِيَ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّرْجَمَةِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. فَالْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ إِذَا وَقَعَتْ (لَا سَمَحَ اللهُ) أَنْ يَكُونَ الْأَعَاجِمُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُرْضَةً لِتَرْكِ الدِّينِ. وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى اهـ.
وَقَدْ رَاجَتْ دَعْوَةُ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ بَعْدَ قَبْضِ مَلَاحِدَةِ جَمْعِيَّةِ الِاتِّحَادِ وَالتَّرَقِّي عَلَى أَعِنَّةِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، تَمْهِيدًا مِنْهُمْ لِمَا نَفَّذَهُ أَنْدَادُهُمُ الْكَمَالِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ نَبْذِ الدَّوْلَةِ التُّرْكِيَّةِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَسَعْيِهَا لِسَلِّ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مِنْهُ أَيْضًا.
وَقَدْ كَانَ مِمَّا نَشَرَ الِاتِّحَادِيُّونَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُمَهِّدَةِ لِهَذَا السَّبِيلِ (كِتَابُ قَوْمٍ جَدِيدٌ) الَّذِي انْتَقَدْنَاهُ وَنَشَرْنَا تَرْجَمَةَ بَعْضِ مَسَائِلِهِ فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ ١٣٣٥) وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ (قَوْمٍ جَدِيدٍ) إِنْشَاءُ شَعْبٍ تُرْكِيٍّ غَيْرِ مُسْلِمٍ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِي آخِرِ مُقَالٍ طَوِيلٍ مِنْهُ (ص١٦٠ ج٢ م١٧) عُنْوَانُهُ (مَفَاسِدُ الْمُتَفَرْنِجِينَ فِي أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالدِّينِ) مَا نَصُّهُ: " يَرَى هَؤُلَاءِ الْعَامِلُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَرِيقِهِمْ عَقَبَةٌ تَحُولُ دُونَ بُلُوغِ الْمَقْصِدِ
بِالسُّرْعَةِ الَّتِي يَبْغُونَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْعَمَلِ إِلَّا حَاجَةَ التُّرْكِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَجْلِ الدِّينِ. وَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ وَلُغَتَهُ مِمَّا يُعِيقُ تَكْوِينَ أُمَّةٍ تُرْكِيَّةٍ مَحْضَةٍ عَلَى الطِّرَازِ الْإِفْرِنْجِيِّ الْفَرَنْسِيِّ، فَاجْتَهَدُوا فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَانِعِ بِمُزِيلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ، وَدَعْوَةُ التُّرْكِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِمَا سَمَّوْهُ الْقُرْآنَ التُّرْكِيَّ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْقُرْآنِ يَسْتَغْنُونَ بِالْأَوْلَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ.
(الثَّانِي) نَشْرُ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الَّتِي تَجْعَلُ الْجِنْسِيَّةَ التُّرْكِيَّةَ أَعْلَى وَأَسْمَى فِي النُّفُوسِ مِنْ رَابِطَةِ الدِّينِ تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ بِالْأُولَى....
(وَذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ كِتَابَ " قَوْمٍ جَدِيدٍ " وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضِ مَفَاسِدِهِ) ثُمَّ نَشَرْنَا نَمُوذَجًا مِنْ كِتَابِ (قَوْمٍ جَدِيدٍ) هَذَا فِي (ص٥٣٩ - ٥٤٤ مِنْهُ) أَوَّلُهُ قَوْلُهُ فِي (ص١٤ مِنْهُ) :
274
يَجِبُ تَعْطِيلُ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَالتَّكَايَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْآسِتَانَةِ مَا عَدَّا الْجَوَامِعِ الَّتِي بَنَاهَا السَّلَاطِينُ وَتَخْصِيصُ نَفَقَاتِهَا بِالشِّئُونِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ النَّبَوِيَّةِ (؟) وَيَلِيهِ قَوْلُهُ فِي ص١٥ بِفَرْضِيَّةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ.
وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَاتِ مَنْ سَمَّاهُمْ (قَوْمٌ عَتِيقٌ) مِنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْعَمَلِ بِكُتُبِ فِقْهِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي وَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ بِالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ - ثُمَّ قَالَ فِي صِفَاتٍ (قَوْمٍ جَدِيدٍ) مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا الْقَوْمُ الْجَدِيدُ فَإِنَّهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الْقَدِيمَةِ، بَلِ اسْتَخْرَجُوا مِنَ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ الْأَرْكَانَ الدِّينِيَّةَ الْآتِيَةَ: (١) الْعَقْلَ. (٢) كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ. (٣) الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ. (٤) الْجِهَادَ مَالًا وَبَدَنًا وَالْحَرْبَ. (٥) السَّعْيَ لِإِعْدَادِ لَوَازِمِ الْحَرْبِ... إِلَخْ ثُمَّ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ وَسَائِلَ وَمَقَاصِدَ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَقَدْ صَدَقَ كُلُّ مَا قُلْنَاهُ وَارْتَأَيْنَاهُ مِنْ مَقَاصِدِ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ مَا فَعَلَتْهُ الْحُكُومَةُ الْكَمَالِيَّةُ مِنْ إِلْغَاءِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كُلِّهَا، وَجَعْلِ جَمِيعِ سِيَاسَتِهَا وَأَحْكَامِهَا حَتَّى الشَّخْصِيَّةِ مَدَنِيَّةً أُورُبِّيَّةً، وَإِلْغَاءِ الْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَوْقَافِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ - دَعْ إِلْغَاءَ مَا عُمِلَ بِاسْمِ الدِّينِ مِنَ الْمُبْتَدِعَاتِ كَتَكَايَا أَصْحَابِ الطُّرُقِ مُقَلَّدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ إِلَخْ. صَدِّقُوا بِالْفِعْلِ كُلَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ بِحَالِ الدَّوْلَةِ التُّرْكِيَّةِ، وَتَأْثِيرِ التَّفَرْنُجِ فِيهَا يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا مَا نَقُولُهُ عَنْ عِلْمٍ وَخِبْرَةٍ وَغَيْرَةٍ عَلَى الْإِسْلَامِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ إِضْعَافٌ لِلدُّوَلِ حَامِيَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ حِرْصًا عَلَى تَقْوِيَةِ الدَّوْلَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَتَقْوِيَةِ الْإِسْلَامِ بِالدَّوْلَةِ ; لِأَنَّنَا نَعْلَمُ مَالًا يَعْلَمُونَ مِنْ إِفْضَاءِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ إِلَى إِضَاعَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ الْمَفْتُونِينَ لِلْإِسْلَامِ وَلِلدَّوْلَةِ مَعًا - وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ التُّرْكِ الرُّوسِيِّينَ اسْتَفْتَانَا فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجَمَةِ قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ بِهَذَا الْغَرَضِ الْفَاسِدِ فَأَفْتَيْنَاهُ فِيهَا لِذَاتِهَا ; إِذْ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِنَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إِلَى إِخْرَاجِ شَعْبٍ إِسْلَامِيٍّ مِنَ الْإِسْلَامِ - وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: (فَتْوَى الْمَنَارِ فِي حَظْرِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ)
نُشِرَتْ فِي ص ٢٦٨ - ٢٧٤م ١١ ج٤ مِنْهُ الْمُؤَرَّخِ ٢٩ رَبِيعِ الْآخَرِ سَنَةَ ١٣٢٦ (س١) مِنَ الشَّيْخِ أَحْسَن شَاه أَفَنْدِي أَحْمَد (مِنْ رُوسْيَا).
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذُ السَّيِّدُ مُحَمَّدُ رَشِيد رِضَا: نَرْجُو أَنْ تُعِيرُوا جَانِبَ الِالْتِفَاتِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُهِمَّةِ: ذَكَرَ الْفَاضِلُ أَحْمَدُ مِدْحَت أَفَنْدِي مِنْ عُلَمَاءِ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ فِي كِتَابِهِ " بَشَائِرِ صِدْقِ نُبُوَّت " مَا تَرْجَمْتُهُ:
275
إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْمُبَاحَثَاتِ الَّتِي دَارَتْ بِشَأْنِ تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ لَمْ تَرْسِ عَلَى نَتِيجَةٍ، وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ تَرْجَمَتَهُ بِالتَّمَامِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِإِعْجَازِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ. (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْكَلِمَاتِ لَا يُوجَدُ لَهَا مُقَابِلٌ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يُتَرْجِمُ إِلَيْهَا، فَيَضْطَرُّ الْمُتَرْجِمُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ. ثُمَّ إِذَا نُقِلَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى يَحْدُثُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّغْيِيرِ أَيْضًا وَهَلُمَّ جَرًّا، فَيُخْشَى مِنْ هَذَا أَنْ يُفْتَحَ طَرِيقٌ لِتَحْرِيفِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ كَلِمَاتِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ
يُسْتَخْرِجُ مِنْهَا بَعْضُ إِشَارَاتٍ وَأَحْكَامٍ بِطَرِيقِ الْحِسَابِ، فَإِبْدَالُهَا بِالتَّرْجَمَةِ يَسُدُّ هَذَا الطَّرِيقَ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدِي جَلَبِي كَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّهُ إِذَا أُخْرِجَتِ الْحُرُوفُ الْمُكَرَّرَةُ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ النَّاسِ الَّتِي هِيَ آخَرُ سُورَةٍ تَكُونُ الْحُرُوفُ الْبَاقِيَةُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ. قَالَ: وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُدَّةِ سِنِيِّ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - فَإِذَا تُرْجِمَ الْقُرْآنُ لَا يَبْقَى فِي التَّرْجَمَةِ مِثْلُ هَذِهِ الْفَوَائِدِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ انْتَهَى " مِنْ بَشَائِرِ صِدْقِ نُبُوَّت ".
أَمَّا أُدَبَاؤُنَا مَعْشَرَ التُّرْكِ الرُّوسِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى تَرْجَمَتِهِ وَيَقُولُونَ: لَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ إِلَّا إِيجَابَ بَقَائِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ ; فَلِذَا يَذْهَبُونَ إِلَى وُجُوبِ تَرْجَمَتِهِ، وَهُوَ الْآنُ يُتَرْجِمُ فِي مَدِينَةِ قَزَّانَ، وَتُطْبَعُ تَرْجَمَتَهُ تَدْرِيجًا، وَكَذَلِكَ تَشَبَّثَ بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى اللِّسَانِ التُّرْكِيِّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ حَاجِيُّ الْبَاكَوِيُّ أَحَدُ فِدَائِيَّةِ الْقُفْقَازِ، فَنَرْجُو مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ التَّدَبُّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
حَرَّرَهُ الْإِمَامُ الْحَقِيرُ أَحْسَنُ شَاه أَحْمَد
الْكَاتِبُ الدِّينِيُّ السَّمَاوِيُّ
(جَوَابُ الْمَنَارِ لَهُ) إِنَّ مِنْ تَقْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَشْرِ دِينِهِمْ أَلَّا يُبَيِّنُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لِأَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ، وَلَوْ بِتَرْجَمَةِ بَعْضِهِ ; لِأَجْلِ دَعْوَةِ مَنْ لَيْسَ مَنْ أَهِلْهُ إِلَيْهِ، وَإِرْشَادِ مَنْ يَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّ مَنْ زَلْزَلَ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا إِلَى أُمَمٍ تَكُونُ رَابِطَةُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهَا جِنْسِيَّةٌ نَسَبِيَّةٌ أَوْ لُغَوِيَّةٌ أَوْ قَانُونِيَّةٌ وَيَهْجُرُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ، الْمُعْجِزِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَهِدَايَتِهِ، الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، اكْتِفَاءً بِأَفْرَادٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ يُتَرْجِمُونَهُ لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ بِحَسْبَ مَا يَفْهَمُ الْمُتَرْجِمُ.
هَذَا الزِّلْزَالُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ جِهَادِ أُورُبَّا السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ. زُيِّنَ لَنَا أَنْ نَتَفَرَّقَ وَنَنْقَسِمَ إِلَى أَجْنَاسٍ، ظَانًّا كُلُّ جِنْسٍ مِنَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَيَاتَهُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مَوْتٌ لِلْجَمِيعِ.
276
وَلَا نُطِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا، وَلَكِنَّنَا نَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مِنْ مَفَاسِدِ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) - اسْتِغْنَاءً
عَنْهُ بِتَرْجَمَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ يُغْنِيهِمْ عَنْهَا تَفْسِيرُهُ بِلُغَتِهِمْ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى نَصِّهِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَحْفُوظِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ - مَعَ مُرَاعَاةِ الِاخْتِصَارِ فَنَقُولُ: (١) إِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً تُطَابِقَ الْأَصْلِ مُتَعَذِّرَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ، وَالتَّرْجَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْمُتَرْجِمِ لِلْقُرْآنِ، أَوْ فَهْمِ مَنْ عَسَاهُ يَعْتَمِدُ هُوَ عَلَى فَهْمِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا هِيَ فَهْمُ رَجُلٍ لِلْقُرْآنِ يُخْطِئُ فِي فَهْمِهِ وَيُصِيبُ، وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ مِنَ التَّرْجَمَةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نُنْكِرُهُ.
(٢) إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ ; إِذِ السُّنَّةُ لَيْسَتْ دِينًا إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ، فَالَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِتَرْجَمَتِهِ يَكُونُ دِينُهُمْ مَا فَهِمَهُ مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ لَهُمْ، لَا نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَالِاجْتِهَادُ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنِ النَّصِّ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ نَصًّا مِنَ الشَّارِعِ، وَالْإِجْمَاعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُسْتَنَدٌ وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ مُسْتَنَدًا. فَعَلَى هَذَا لَا يَسْلَمُ لِمَنْ يَجْعَلُونَ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ قُرْآنًا شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ.
(٣) إِنَّ الْقُرْآنَ مَنَعَ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ وَشَنَّعَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ. فَأَخْذُ الدِّينِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ هُوَ تَقْلِيدٌ لِمُتَرْجِمِهِ، فَهُوَ إِذًا خُرُوجٌ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَا اتِّبَاعٌ لَهَا.
(٤) يَلْزَمُ مِنْ هَذَا حِرْمَانُ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِمَّا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (١٢: ١٠٨) وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنْ مَزَايَا الْمُسْلِمِ اسْتِعْمَالَ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ ".
(٥) كَمَا يَلْزَمُ حِرْمَانُهُمْ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ يَلْزَمُ مَنْعُ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ عِبَارَةِ الْمُتَرْجِمِ ; لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهَا مِمَّا لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ.
(٦) إِنَّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي فَهْمِهِ كَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَارِيخِ الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ الْإِسْلَامُ يَكُونُ مَأْجُورًا بِالْعَمَلِ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ،
وَإِنْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ ; لِأَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الِاهْتِدَاءِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ هِدَايَةً لَهُ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَصْحَابِهِ فِيمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ إِذْ عُذِرُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي فَهْمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، وَمِثْلُهُ مُعَامَلَتُهُ لَهُمْ فِيمَا فَهِمُوهُ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ; وَلِذَلِكَ شَوَاهِدُ أُخْرَى، وَلَا إِخَالُ مُسْلِمًا يَجْعَلُ لِعِبَارَةِ مُتَرْجِمِ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ.
277
(٧) إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْبُوعٌ لِلْهِدَايَةِ وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا تَخْلُقُ جِدَّتُهُ، وَلَا تَفْتَأُ تَتَجَدَّدُ هِدَايَتُهُ وَتَفِيضُ لِلْقَارِئِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ حِكْمَتُهُ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِلْمُتَأَخِّرِ مَنْ حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ قَبْلَهُ، تَصْدِيقًا لِعُمُومِ حَدِيثِ: " فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوَعَى مِنْ سَامِعٍ " وَتَرْجَمَتُهُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ، إِذْ تُفِيدُ الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى الَّذِي صَوَّرَهُ الْمُتَرْجِمُ بِحَسْبَ فَهْمِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ قَدْ يَجْعَلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ (١٥: ٢٢) مِنَ الْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ، أَيْ أَنَّ اتِّصَالَ الرِّيحِ بِالسَّحَابِ، وَحُدُوثَ الْمَطَرِ عَقِبَ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَلْقِيحَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى، وَحُدُوثَ الْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا هُوَ جَرَى عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يُتَرْجِمُ بِهَا لَفْظٌ يَقُومُ مَقَامَ (لِوَاقِحَ) الْعَرَبِيِّ فِي احْتِمَالِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّ الْقَارِئِينَ يَتَقَيَّدُونَ بِهَذَا الْفَهْمِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْهَمُوا مِنَ الْعِبَارَةِ مَا هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ الرِّيَاحِ لَوَاقِحَ بِالْفِعْلِ، إِذْ هِيَ تَحْمِلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ الشَّجَرِ إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقْ هَذَا الْمِثَالُ عَلَى الْقَاعِدَةِ لَتَيَسَّرَ تَرْجَمَةُ الْآيَةِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْثِلَةً أُخْرَى، وَحَسَبُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُوَضَّحًا وَالتَّرْجَمَةُ تَقِفُ بِنَا عِنْدَ حَدٍّ مِنَ الْفَهْمِ يُعْوِزُنَا مَعَهُ التَّرَقِّي الْمَطْلُوبُ.
(٨) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ " إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " أَنَّ تَرْجَمَةَ آيَاتِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ فِي تَفْسِيرِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (٣: ٧) وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ مَدَرَجَةٌ لِلْكُفْرِ.
(٩) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا - أَيْ وَمِثْلُ الْفَارِسِيَّةِ التُّرْكِيَّةُ وَغَيْرُهَا - فَمَا الَّذِي
يَفْعَلُهُ الْمُتَرْجِمُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ إِنْ شَرْحَهَا بِحَسْبَ فَهْمِهِ رُبَّمَا يُوقِعُ قَارِئَ تَرْجَمَتِهِ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ الْقُرْآنُ؟ (١٠) قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَالَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا " لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفُرْسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا لَهَا " فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَرْجِمُ اللَّفْظَ الْفَارِسِيَّ يَكُونُ هُنَا مُؤَدِّيًا الْمَعْنَى الْحَقِيقِي لِلَّفْظِ الْعَرَبِيِّ. وَرُبَّمَا كَانَ مُرَادُ اللهِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَمِثْلُ الْفُرْسِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ. وَهَذَا الْمَقَامُ مِنْ مَزَلَّاتِ الْأَقْدَامِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
(١١) ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْعَجَمِيَّةِ كَذَلِكَ. فَقَدْ يَخْتَارُ الْمُتَرْجِمُ غَيْرَ الْمُرَادِ لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى الْمُشْتَرِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ آنِفًا.
278
(١٢) مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ ظَاهِرِ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى تَتَّفِقَ مَعَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَأْوِيلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِ أَلْفَاظِ تَرْجَمَتِهِ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ لَاسِيَّمَا فِي الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ.
(١٣) إِنَّ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ تَأْثِيرًا خَاصًّا فِي نَفْسِ السَّامِعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ بِالتَّرْجَمَةِ، وَإِذَا فَاتَ يَفُوتُ بِفَوْتِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَيَا طَالَمَا كَانَ جَاذِبًا إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ فَلَاسِفَةِ أُورُبَّا وَهُوَ فِرَنْسِيٌّ نَسِيتُ اسْمَهُ: إِنُّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِحَالِ مُؤَثِّرَةٍ تَجْذِبُ السَّامِعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَحَضَرَ الدُّكْتُورُ فَارِسُ أَفَنْدِي نَمِر مَرَّةً الِاحْتِفَالَ السَّنَوِيَّ لِمَدْرَسَةِ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ فَافْتَتَحَ الِاحْتِفَالَ تِلْمِيذٌ بِقِرَاءَةِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِي الدُّكْتُورُ فَارِسُ أَفَنْدِي: إِنَّ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْثِيرًا عَمِيقًا فِي النَّفْسِ. ثُمَّ لَمَّا كَتَبَ خَبَرَ الِاحْتِفَالِ فِي جَرِيدَتِهِ (الْمُقَطَّمِ) كَتَبَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّأْثِيرُ حَتَّى فِي نَفْسِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، فَكَيْفَ نَحْرِمُ مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لَهُمْ.
(١٤) إِذَا تَرْجَمَ التُّرْكِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَالصِّينِيُّ... إِلَخ. الْقُرْآنَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ هَذِهِ التَّرَاجِمِ مِنَ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا بَيْنَ تَرَاجِمِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَقَدْ رَأَيْنَا مَا اسْتَخْرَجَهُ لَهُمْ صَاحِبُ إِظْهَارِ الْحَقِّ مِنَ الْخِلَافَاتِ الَّتِي كُنَّا نَقْرَؤُهَا، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ حَفِظَ كِتَابَنَا مِنْ مِثْلِهَا، فَكَيْفَ نَخْتَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِنَا؟.
(١٥) إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، بَلْ هُوَ الْآيَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً مَحْفُوظَةً مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، بِالنَّصِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
هَذَا مَا تَرَاءَى لَنَا مِنَ الْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ مِنْ تَرْجَمَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ ; لِيَكُونَ لَهُمْ قُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ بَدَلَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنَّ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي الْبَعْضِ - وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَكَذَا ; لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ - فَإِنَّ هُنَاكَ وُجُوهًا أُخْرَى يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهَا لِمَنْ تَأَمَّلَ وَفَكَّرَ فِي وَقْتِ صَفَاءِ الذِّهْنِ وَصِحَةِ الْبَدَنِ، بَلْ مِنْهَا مَا تَرَكْنَاهُ مَعَ تَذَكُّرِهِ.
وَأَمَّا دَعْوَى الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ تَرْجَمَتِهِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّرْجَمَةِ يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ بَقَائِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ فَهْمَهُ سَهْلٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ فَهَمَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهُ دِينًا لِشَعْبٍ بِرُمَّتِهِ؟ وَإِنَّ لِاهْتِدَاءِ الْمُسْلِمِ الْأَعْجَمِيِّ بِالْقُرْآنِ دَرَجَتَيْنِ، دَرَجَةٌ دُنْيَا بِالْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَيَحْفَظُونَ الْفَاتِحَةَ وَبَعْضَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ ; لِأَجْلِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَيُتَرْجَمُ لَهُمْ تَفْسِيرُهَا، وَتُقْرَأُ أَمَامَهُمْ فِي مَجَالِسِ
279
الْوَعْظِ بَعْضُ الْآيَاتِ، وَيُذْكَرُ لَهُمْ تَفْسِيرُهَا بِلُغَتِهِمْ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ حَتَّى بِبِلَادِ الصِّينِ، وَدَرَجَةٌ عُلْيَا لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ، وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتْقِنُوا لُغَتَهُ وَيَسْتَقِلُّوا بِفَهْمِهِ مُسْتَعِينِينَ بِكَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرَ مُقَلِّدِينَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ.
إِنَّ الْأَعَاجِمَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَيْدِي الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ قَدْ فَهِمُوا أَنَّ لِلْإِسْلَامِ لُغَةً خَاصَّةً بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً بَيْنَ أَهْلِهِ لِيَفْهَمُوا كِتَابَهُ الَّذِي
يَدِينُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَعْبُدُونَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ ; وَلِتَتَحَقَّقَ بَيْنَهُمُ الْوَحْدَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِيهِ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (٢١: ٩٢) وَيَكُونُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يَعْتَصِمُوا بِهِ وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَلِتَكْمُلَ فِيهِمْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي حَتَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (٤٩: ١٠) ; وَلِذَلِكَ انْتَشَرَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ بِسُرْعَةٍ غَرِيبَةٍ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَدَارِسَ وَلَا كُتُبٍ وَلَا أَسَاتِذَةَ لِلتَّعْلِيمِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْأُمَوِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَفِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْعَبَّاسِيِّينَ حَتَّى صَارَتِ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةَ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَرْبَرِ وَالْقِبْطِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَمَالِكَ تَمْتَدُّ مِنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ (الْأَتْلَانْتِيكِ) إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، فَهَلْ كَانَ هَذَا إِلَّا خَيْرًا عَظِيمًا تَآخَتْ فِيهِ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَتَعَاوَنَتْ عَلَى مَدَنِيَّةٍ كَانَتْ زِينَةً لِلْأَرْضِ وَضِيَاءً وَنُورًا لِأَهْلِهَا.
ثُمَّ هَفَا الْمَأْمُونُ فِي الشَّرْقِ هَفْوَةً سِيَاسِيَّةً حَرَّكَتِ الْعَصَبِيَّةَ الْجِنْسِيَّةَ فِي الْفَرَسِ فَأَنْشَؤُوا يَتَرَاجَعُونَ إِلَى لُغَتِهِمْ، وَيَعُودُونَ إِلَى جِنْسِيَّتِهِمْ، وَجَاءَ الْأَتْرَاكُ فَفَعَلُوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مَا فَعَلُوا، فَسَقَطَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ وَتَمَزَّقَ شَمْلُ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَكِنْ لَمْ تَصِلِ الْفِتْنَةُ بِالنَّاسِ إِلَى إِيجَادِ قُرْآنٍ أَعْجَمِيٍّ لِلْأَعَاجِمِ، وَإِبْقَاءِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ خَاصًّا بِالْعَرَبِ، بَلْ بَقِيَ الدِّينُ وَالْعِلْمُ عَرَبِيَّيْنِ وَرَاءَ إِمَامِهِمَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ.
فَالْوَاجِبُ عَلَى دُعَاةِ الْإِصْلَاحِ فِي الْإِسْلَامِ الْآنَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي إِعَادَةِ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خَيْرِ قُرُونِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي التَّعْلِيمِ، فَيَجْعَلُوا تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ إِجْبَارِيًّا فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْيُوا الْعِلْمَ بِالْإِسْلَامِ بِطَرِيقَةٍ اسْتِقْلَالِيَّةٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ فِيهَا بِآرَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الْمُخَالِفَةِ لِطَبِيعَةِ هَذَا الْعَصْرِ فِي أَحْوَالِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمَفْتُونِينَ مِنَّا بِسِيَاسَةِ أُورُبَّا يُعَاوِنُونَهَا عَلَى تَقْطِيعِ بَقِيَّةِ مَا تَرَكَ الزَّمَانُ مِنَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَقْوِيَةِ الْعَصَبِيَّاتِ الْجِنْسِيَّةِ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يُحَاوِلُ إِغْنَاءَ بَعْضِ شُعُوبِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ! أَلَّا إِنَّهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا. فَهَذَا مَا أَقُولُهُ الْآنَ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ
تَفْسِيرِهِ لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ مَعَ بَقَائِهِ إِمَامًا لَهُمْ، وَدُونَ تَرْجَمَتِهِ لِدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ بِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ هُوَ. انْتَهَتِ الْفَتْوَى.
وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً مُتَعَذِّرَةٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ
280
كَثِيرَةٌ، فَهُوَ مَحْظُورٌ لَا يُبِيحُهُ الْإِسْلَامُ ; لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى التَّرْجَمَةُ قُرْآنًا وَلَا كِتَابَ اللهِ، وَلَا أَنْ يُسْنَدَ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فَيُقَالُ قَالَ: اللهُ كَذَا ; لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ وَقُرْآنَهُ عَرَبِيٌّ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَالْإِجْمَاعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ سَلَفِ أَهْلِ الْمِلَّةِ كُلِّهِمْ وَخَلَفِهِمْ لَا الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ; وَلِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيَّةِ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْإِعْجَازِ، وَهِيَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لَهُ فِي الْمَعْنَى كَمُخَالَفَتِهَا فِي اللَّفْظِ، فَإِسْنَادُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى كَذِبٌ عَلَيْهِ وَكُفْرٌ بِكِتَابِهِ. بَلْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُصْحَفِ بِلَفْظٍ آخَرَ يُرَادِفُهُ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَكَلِمَتِي " شَكٍّ، وَرَيْبٍ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (٢: ٢) وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَفْسِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِهِ مِنْهُ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَغَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا تُتَّبَعُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِقَدْرِهَا.
(أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ)
تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَكِتَابَتُهُ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ
الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ وَلَا قِرَاءَتُهُ وَلَا تَرْجَمَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا، إِلَّا فِيمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ مِنْ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ، وَإِلَيْكَ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْغِينَانِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي التَّجْنِيسِ: وَيُمْنَعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّا أُمِرْنَا بِحِفْظِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ ; وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ اهـ.
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: مَنْ تَعَمَّدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ كِتَابَتَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ
مَجْنُونٌ أَوْ زِنْدِيقٌ وَالْمَجْنُونُ يُدَاوَى، وَالزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ اهـ.
وَفِي الدِّرَايَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَى النُّبُوَّةِ وَعَلَمًا عَلَى الْهُدَى، وَالْهُدَى بِمَعْنَاهُ، وَالْحُجَّةُ بِنَظْمِهِ. وَكَمَا أَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْمَعْنَى يُسْقِطُ حُكْمَ الْقِرَاءَةِ كَذَلِكَ الْإِخْلَالُ بِالنَّظْمِ، وَلِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ ; لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَى الْحُكْمِ وَلَا قِرَاءَةَ تَجِبُ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ مَا أُنْزِلَ لِيَقَعَ الْحِفْظُ بِهَا اهـ.
وَرَوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا: جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَعَنِ الصَّاحِبَيْنِ: إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا فَلَا يَجُوزُ، وَتَفْسَدُ صَلَاتُهُ إِذَا قَرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: رُجُوعُ الْإِمَامِ إِلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ - وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ
281
فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ تُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا عِنْدُ الْعَجْزِ فَلَا فَسَادَ إِذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ كُلَّ لَفْظٍ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا. أَمَّا إِذَا قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ فَتَفْسَدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ اهـ.
وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ.
وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْجَصَّاصِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (٧٣: ٢٠) حَيْثُ أَمَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا مَوْضِعَ لِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ قَرَأَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ الْفَارِسِيَّ لَيْسَ قُرْآنًا، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا (١٢: ٢) وَأَيْضًا فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُعْجِزُ، وَالْإِعْجَازُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ ; وَلِهَذَا لَمْ تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ عَلَى
الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، غَيْرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ ; لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ اهـ - وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَمَعْنَى النَّظْمِ الْمُعْجِزِ لَا تُؤَدِّيهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَلَا يَعْنِينَا الْآنَ بَيَانُ وَجْهِ اسْتِدْلَالِ الْإِمَامِ بِالْآيَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَحَّ رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.
فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الثَّلَاثَةِ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا لَيْسَ مَبْنَاهُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَصِيرُ قُرْآنًا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَائِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَلِ الْمَفْرُوضُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّهُ الْقُرْآنُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَعْنَى فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ، وَلِأَنَّهُ الْمَيْسُورُ لَهُ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَلَمَا كَانَ أَدَاءُ الْمَفْرُوضَ مَوْقُوفًا عَلَى النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَيْسُورًا لَهُ أَتَى بِالتَّرْجَمَةِ بَدَلًا عَنْهُ ; لِتَقُومَ مَقَامَهُ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى الْمَفْرُوضِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كَلَامُ اللهِ، الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ - وَفِي الدِّرَايَةِ قِرَاءَةُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ تُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ الْقُرْآنِ عَنْهُ فَيُقَالُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَرْجَمَتُهُ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِلْعَاجِزِ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ قُرْآنٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعْنَى، فَالْإِتْيَانُ بِهِ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ مُطْلَقًا ; إِذِ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ اهـ.
وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، وَمَسْأَلَةُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا شَيْءٌ آخَرُ، وَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْأَوَّلِ عَلَى فَرْضِ
282
تَسْلِيمِهِ جَوَازُ الثَّانِي، حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ الْقَوْلُ بِجَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَكِتَابَتِهِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَقَدْ أَجْمَعَتْ كُتُبُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (٧٣: ٢٠) وَالْقُرْآنُ الْمَعْرُوفُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً.
وَفِي شَرْحِ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْبُخَارِيِّ الْحَنَفِيِّ:
الْقُرْآنُ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأُخْرَى، كَوُجُوبِ الِاعْتِقَادِ، وَحُرْمَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَحُرْمَةِ الْمُدَاوَمَةِ وَالِاعْتِيَادِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا اهـ.
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ النَّظْمُ رُكْنًا لَازِمًا عِنْدَهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (٢٦: ١٩٦) بِنَاءً عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْفَارِسِيَّةِ ; لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ بَعْدَ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي أُخْرَى إِنَّهَا إِنَّمَا تَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّحَ رُجُوعَهُ عَنِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا جَمْعٌ مِنَ الثِّقَاتِ الْمُحَقِّقِينَ ; لِضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقُرْآنِ بِتَقْدِيمِ مُضَافٍ، أَيْ وَإِنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ لَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إِنْ فَلَانَا فِي دَفْتَرِ الْأَمِيرِ اهـ مُلَخَّصًا.
وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ مَا فِي اسْتِدْلَالِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِأَيِّ لُغَةٍ خَارِجِ الصَّلَاةِ وَدَاخِلِهَا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ ; لِأَنَّهُ عَلَى رِوَايَةِ التَّخْصِيصِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تَجُوزُ بِغَيْرِهَا مُطْلَقًا، وَعَلَى رِوَايَةِ رُجُوعِهِ إِلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ لَا تَجُوزُ خَارِجَ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَلَا لِلْقَادِرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الثِّقَاتِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِلْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ رَأْيُهُ الْأَخِيرِ الَّذِي صَحَّ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْجَمَاعَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا؟ اهـ (ص٣١ - ٣٦) ثُمَّ قَالَ فِي فَصْلٍ آخَرَ (ص٣٩) :" وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، وَفِي فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَئِمَّةِ
الشَّافِعِيَّةِ - وَقَدْ سُئِلَ
283
هَلْ تَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَقِرَاءَتِهِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ قَضَّة مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ، وَوَجْهَهُ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ فَرَاجِعْهُ.
" وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ: الْأَقْرَبُ الْمَنْعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالْعَجَمِيِّ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ الْمُعْجِزِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّحَدِّي بِمَا لَمْ يَرِدْ بَلْ بِمَا يُوهِمُ عَدَمَ الْإِعْجَازِ بَلِ الرَّكَاكَةَ ; لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَجَمِيَّةَ فِيهَا تَقْدِيمُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ ; وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِالنُّظُمِ وَيُشَوِّشُ الْفَهْمَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مَنَاطُ الْإِعْجَازِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حُرْمَةِ تَقْدِيمِ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ يَعْنِي أَوْ كَلِمَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ كَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ قِرَاءَةً اهـ.
" بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ فِي تَرْتِيبِ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمُرَاعَاةِ التَّنَاسُبِ فِيمَا بَيْنَهَا مِنَ الصِّفَاتِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَضْلًا عَمَّا فِي تَرْتِيبِ الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلِ مِنَ اللَّطَائِفِ وَالْأَسْرَارِ مِمَّا لَا يَحُومُ حَوْلَ بَيَانِهِ لِسَانٌ أَوْ يُدْرِكُهُ جَنَانٌ.
" وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِهَا: هَلْ يَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَنَقْلَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ يَحْرِمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَإِلَّا لَمْ تَحْرُمْ كِتَابَتُهُ اهـ.
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا تَسَعُهُ أَوْضَاعُ اللُّغَةِ الْمَكْتُوبِ بِهَا، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَإِعْطَاؤُهَا حُكْمَ الْقُرْآنِ حَمَلًا وَمَسًّا عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ احْتِرَامٌ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِلْحَاقٌ لِنُقُوشِ الرَّسْمِ الْعَجَمِيِّ بِالرَّسْمِ الْمَخْطُوطِ الْعَرَبِيِّ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ.
" وَلَمْ يُلَاحَظْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مَوْجُودٌ فِيهِ مُتَخَلِّلٌ بَيْنَ سُطُورِهِ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنَ وَلَا تَرْجَمَتُهُ بَلْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا فَقَطْ، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَرُوعِيَ جَانِبُهُ فِي الْحُكْمِ كَمَا رُوعِيَ فِي التَّسْمِيَةِ،
وَالْكِتَابَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَظْمُ الْقُرْآنِ مَوْجُودًا فِيهَا بِذَاتِهِ، وَلَا هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ بِهَيْئَتِهِ، وَلَكِنْ لِوَضْعِ نَقْشِهِ مَكَانَ النَّقْشِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَهُ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ.
" وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّسُومَ الْكِتَابِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ كُلَّهَا مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِ أُعْطِيَتْ حُكْمًا وَاحِدًا حَمْلًا وَمَسًّا، بِخِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مِنْ وَضْعِ اللهِ تَعَالَى وَمَا عَدَاهُ مَنْ صُنْعِ الْبَشَرِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلْ غَيْرَ النَّظْمِ الْمُعْجِزِ مَنْزِلَتَهُ قِرَاءَةً وَتَعَبُّدًا وَنَزَلَ الرَّسْمُ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ مَنْزِلَةَ الْعَرَبِيِّ حَمَلَا وَمَسًّا عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ.
284
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَفْسُدُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتِهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مُطْلَقًا.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَبُوا تَعَلُّمَ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا ائْتَمَّ بِمَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمُخْتَارُ سُقُوطُهَا وَسُقُوطُ الْقِيَامِ لَهَا وَقِيلَ: يَجِبُ قِيَامُهُ بِقَدْرِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الذِّكْرِ.
" إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ وَلَا قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِعَاجِزٍ أَوْ قَادِرٍ، لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا خَارِجِهَا، إِلَّا مَا تَقَدَّمَ عَنِ السَّادَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ وَتَصْحِيحَ الثِّقَاتِ رُجُوعَ الْإِمَامِ عَنْهُ.
" وَمِنْ ذَلِكَ تَعُلُّمُ مَا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكَافِي مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (إِنِ اعْتَادَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا بِهَا يُمْنَعُ، وَإِنْ فَعَلَ فِي آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ لَا فَإِنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ وَتَفْسِيرَ كُلِّ حَرْفٍ وَتَرْجَمَتِهِ جَازَ اهـ.
" فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ التَّرْجَمَةَ الْحَرْفِيَّةَ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا ذُكِرَ مَعَهَا تَفْسِيرٌ أَوْ لَمَ يُذْكَرْ ; لِأَنَّهَا تَحْرِيفٌ وَتَغْيِيرٌ لِلنَّظْمِ لَا يَدْفَعُهُ اقْتِرَانُ التَّفْسِيرِ بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّرْجَمَةَ التَّفْسِيرِيَّةَ فَهَذِهِ جَائِزَةٌ مُطْلَقًا بِالشَّرْطِ الَّذِي بَيَّنَاهُ، وَلَيْسَتْ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ نُصُوصَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ تُخَالِفُهُ.
وَلِذَلِكَ أَفْتَى صَاحِبُ الْفَضِيلَةِ الْأُسْتَاذُ شَيْخُ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ بِمَنْعِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَوُجُوبِ مُصَادَرَةِ الْمُصْحَفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّرْجَمَةِ الْحَرْفِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا تَرْجَمَةٌ
تَفْسِيرِيَّةٌ.
" وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جَوَازِ التَّرْجَمَةِ الْحَرْفِيَّةِ أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ (٩: ٦) فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى كَمَا ذَكَرَهُ الْآلُوسِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا طَلَبَ الْأَمَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ يُؤْمِنُ حَتَّى يَتَدَبَّرَ الْأَمْرَ وَيَتَّعِظَ بِمَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُ اللهِ وَكَلَامُهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسَ بِدَلَالَتِهَا وَأَعْلَمِهِمْ بِبَرَاعَةِ أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَةِ نَظْمِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَآمَنُوا بِهِ وَهُمْ لِإِعْجَازِهِ مُذْعِنُونَ.
285
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ يُبَيِّنُ لَهُ مَا يُرْشِدُهُ لِلْحَقِّ وَيَهْدِيهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لَا بِخُصُوصِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى.
وَاقْتُصِرَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ السَّمَاعِ ; لِأَنَّهَا مُسَوِّقَةٌ لِبَيَانِ حَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللَّسَنِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا يَتَنَاوَلَهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى يَنْصَاعُوا لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
" وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا سَلَفَ حُكْمَ تَرْجَمَةِ كُتُبِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّ بَعْثَهَا إِلَى الْكُفَّارِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّرْجَمَةِ الْحَرْفِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَةُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ نَحْوِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ تَرْجَمَةً تَفْسِيرِيَّةً لَا حَرْفِيَّةً، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا حَرْفِيَّةٌ فَهِيَ لَمْ تَذْكُرْ فِي الْكُتُبِ عَلَى أَنَّهَا نَظْمٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَا قُصِدَ بِهَا تِلَاوَتُهُ بَلْ سِيقَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى حُكْمِهَا ضِمْنَ كُتُبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اهـ.
شُبَهَاتُ مِنْ أَبَاحَ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
قَدْ كَانَ مِمَّا نَشْكُو مِنْ فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَتَبُوا مَقَالَاتٍ فِي الْجَرَائِدِ خَالَفُوا فِيهَا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى الْيَوْمِ فَزَعَمُوا أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مُبَاحَةٌ، وَجَاءُوا بِشُبَهَاتٍ يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى رَأْيِهِمْ، بَعْضُهَا آرَاءٌ لَهُمْ، وَبَعْضُهَا أَقْوَالٌ مِنَ الْكُتُبِ لَمْ يَفْهَمُوهَا، فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَلَوْ دَلَّتْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ حُجَّةً ; لِأَنَّهَا كَآرَائِهِمْ، وَمَا كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ بِرَأْيِهِ بِنَاءً رَفَعَ سَمْكَهُ الْقُرْآنُ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ قَوْلًا وَعَمَلًا.
(الشُّبْهَةُ الْأَوْلَى) مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِإِمَامِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ الَّذِي كَانَ خَطَرَ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَلَا عَمَلَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ. أَعْنِي مَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِرَارًا مِنْ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْعَاجِزِ عَنِ النُّطْقِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَعْنِي بِمَا اسْتُدِلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (٢٦: ١٩٦) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ فِي تَفْسِيرِهَا: وَإِنَّ الْقُرْآنَ - يَعْنِي ذِكْرَهُ - مُثْبَتٌ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعَانِيَهُ فِيهَا، وَبِهِ يُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ قِيلَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لِكَوْنِ مَعَانِيهِ فِيهَا اهـ. وَنَقَلَهُ عَنْهُ آخَرُونَ كَصَاحِبِ التَّفْسِيرَاتِ الْأَحْمَدِيَّةِ. وَصَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَعْضُ الْأَزْهَرِيِّينَ فِي الْجَرَائِدِ عِنْدَمَا دَارَ الْجِدَالُ فِي حُكْمِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ وَادَّعَى أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فَهِمَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ.
وَنَقُولُ فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: (أَوَّلًا) إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا مِنَ الْآيَةِ، بَلْ فَهِمَ غَيَرَهُ، وَنَقَلَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ وَالتَّضْعِيفِ " قِيلَ " وَإِنَّمَا الَّذِي فَهِمَهُ وَاعْتَمَدَهُ مَا قَبْلَهُ، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا
286
عَادَةُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذْهَبٍ مُجْتَهِدٍ لِحِكَايَةِ كُلِّ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَهُ مِنْ قَوِيٍ وَضَعِيفٍ لَمْ يَنْقُلْهُ، وَلَوْ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَلَهُ كَثِيرٍ مِنَ النُّقُولِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا يَحْمِلُ تَبِعَتَهَا لِإِشَارَتِهِ إِلَى ضَعْفِهَا.
(ثَانِيًا) أَنَّ سَبَبَ إِشَارَتِهِ إِلَى ضَعْفِهِ هُوَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمَعَانِي بِمَا ذَكَرُوهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا مِنْ دُونِهِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ وَالدِّينِ، أَعْنِي أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهُ هِيَ مَدْلُولُ كَلِمَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، بِأَنْ تَكُونَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ - وَهِيَ مَوْضُوعُ مَسْأَلَةِ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ - مَوْجُودَةً فِي التَّوْرَاةِ بِهَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ وَلَكِنْ بِأَلْفَاظٍ عِبْرَانِيَّةٍ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقُرْآنُ تَرْجَمَةً لِلتَّوْرَاةِ، وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَلَا نُطِيلُ فِي بَيَانِ وُجُوهِ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَبُطْلَانِهِ، وَمَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مُرَادًا مِنَ الْأَبَاطِيلِ كَاحْتِجَاجِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِكِتَابٍ جَدِيدٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ بَلْ بِتَرْجَمَةِ بَعْضِ التَّوْرَاةِ.
(ثَالِثًا) إِنْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا مُرَادٌ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى الَّتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَوْ مُطْلَقًا دُونَ الْفَاتِحَةِ، وَمِثْلِ قِصَّةِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَأَنَّ مَنْ قَرَأَ قِصَّةَ مُوسَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْتُ التَّوْرَاةَ مُتَرْجَمَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا - عَلَى كَوْنِهِ - لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا عَلَى حَقِيقَتِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ الْقِصَّةَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الْخِلَافِ. وَإِنَّمَا قُصَارَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْ تَجُوزَ قِرَاءَةُ عِبَارَةِ التَّوْرَاةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا جَوَازُ تَرْجَمَتِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ مَثَلًا، وَلَمْ يَقُلْ بِالْأَصْلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ. وَهَاهُنَا مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّجْهِيلِ وَالسُّخْرِيَةِ بِمَنٍّ يَتَهَوَّكُونَ مِثْلَ هَذَا التَّهَوُّكِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَيَنْشُرُونَهُ عَلَى النَّاسِ فِي مَسْأَلَةٍ عَظِيمَةٍ كَهَذِهِ نَتْرُكُهُ عَفْوًا عَنْهُمْ.
(رَابِعًا) اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ مُقَدَّرٌ فِيهِ مُضَافٌ قَبْلَ ضَمِيرِ الْقُرْآنِ، وَمُضَافٌ قَبْلَ ضَمِيرِ الْقُرْآنِ، وَمُضَافٌ قَبْلَ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ - كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ - وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ ذِكْرَهُ أَوْ خَبَرَهُ أَوْ دَلِيلَ صِدْقِهِ - مَثَلًا - لَثَابِتٌ فِي بَعْضِ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. وَلَهُمْ فِي الضَّمِيرِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ الْقُرْآنُ - وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ قَبْلَهُ - (وَالثَّانِي) : أَنَّهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا قَالَ: يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
(٧: ١٥٧).
(خَامِسًا) أَنَّ الَّذِي يُوجَدُ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) عَامٌّ يُوجَدُ فِيهَا كُلِّهَا وَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ الْمُطْلَقِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي
287
وَالرَّذَائِلِ - وَيَصِحُّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا (٤٢: ١٣) إِلَخْ: (وَالثَّانِي) خَاصٌّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ سَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَكَذَا غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَوْمِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٦: ١٩٧) كَمَا قَالَ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُحْتَجًّا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ (٢٨: ٤٤) الْآيَاتِ.
فَهَلْ يَصِحُّ لِذِي عِلْمٍ أَوْ فَهْمٍ أَنْ يَقُولَ فِي الْآيَةِ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّ التَّرْجَمَةَ مَعَ هَذَا تُسَمَّى قُرْآنًا، وَكَلَامَ اللهِ، وَيُتَعَبَّدُ بِهَا، خِلَافًا لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ، وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مُنْذُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ إِلَى الْيَوْمِ؟ ! لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَصِحُّ مَعَهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا عَنِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، كَمَا صَحَّ لِعَالِمٍ أَزْهَرِيٍّ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ رَجَّحَ الْقَوْلُ الَّذِي رَأَيْتُ أَنَّهُ حَكَاهُ حِكَايَةً بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ، وَلَا فِي قَوَاعِدِ اللُّغَةِ مَا يَمْنَعُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقَدْ عَلِمْتُ قَطْعًا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ، وَالْمُتَبَادِرَ مِنَ اللُّغَةِ يَمْنَعُ ذَلِكَ! ! !.
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُ هَذَا الْأَزْهَرِيِّ " وَإِنْ رَجَعْنَا إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ - ; لِأَنَّ الْجَوَازَ وَعَدَمَهُ مِنْ مَبَاحِثِهِمْ - رَأَيْنَا الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأُمِّ أَنَّ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَنْطِقَ بِالْقُرْآنِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الْقُرْآنَ بِهِ صِحَّتْ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَمَا يَنْطِقُ بِهِ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ وُجُودُ جَمَاعَةٍ تُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ، وَيَقْرَأُ الْمُؤْتَمُّونَ بِهِ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ، كَذَلِكَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّورِ مَا دَامُوا لَا يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ " اهـ.
يَا لَلْعَجَبِ وَيَا لِلْفَوْضَى: الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يُجِيزُ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي
الصَّلَاةِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَيُسَمِّي التَّرْجَمَةَ قُرْآنًا؟ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ إِقَامَةَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ الْعَامَّةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ يَقْرَأُ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ، وَجَمَاعَةٍ يَقْرَؤُونَ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّورِ؟ وَمَاذَا بَقِيَ؟ إِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يُجِيزُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ لِلْإِمَامِ وَلِلْجَمَاعَةِ وَلِلْأَفْرَادِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الَّذِي حَكَاهُ هَذَا الْعَالِمُ الْأَزْهَرِيُّ عَنِ الْأُمِّ، فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ الْبَيَانِ الْمُفَصَّلِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي رِسَالَتِهِ فِي الْأُصُولِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا، وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَقْرَأَهُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَخ؟.
(وَالْجَوَابُ) عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ صَاحِبَهَا تَقَوَّلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَقُلْ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ
288
قَدْ نَقَلَ بَعْضَ عِبَارَتِهِ بِتَصَرُّفٍ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ، فَقَصَّرَ فِي النَّقْلِ، وَأَخْطَأَ فِي الْفَهْمِ، وَلَا نَتَّهِمُهُ بِتَعَمُّدِ التَّقَوُّلِ عَلَى الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا نَصُّ عِبَارَةِ الْأُمِّ: " فَإِنَّ أَمَّ أَعْجَمِيٌّ أَوْ لَحَّانٌ فَأَفْصَحَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ. أَوْ لَحْنَ لَا يُحِيلُ مَعْنَى شَيْءٌ مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ وَأَجْزَأَتْهُمْ، وَإِنْ لَحَنَ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ مَعْنَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ تُجْزِ مِنْ خَلْفِهِ صَلَاتُهُمْ وَأَجْزَأَتْهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنْ غَيْرَهُ، كَمَا يَجْزِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا قِرَاءَةٍ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْقِرَاءَةَ. وَمِثْلَ هَذَا إِنْ لَفِظَ مِنْهَا بِشَيْءٍ بِالْأَعْجَمِيَّةِ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ غَيْرَهُ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَلَمْ تُجْزِ مَنْ خَلْفَهُ قَرَءُوا مَعَهُ أَوْ لَمْ يَقْرَءُوا، وَإِذَا ائْتَمُّوا بِهِ فَإِنْ أَقَامَا مَعًا أُمَّ الْقُرْآنِ أَوْ نَطَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ لِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا أَجْزَأَتْهُ، وَمَنْ خَلْفَهُ صَلَاتُهُمْ إِذَا كَانَ أَرَادَ الْقِرَاءَةَ لِمَا نَطَقَ بِهِ مِنْ عُجْمَةٍ وَلَحْنٍ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَلَامًا غَيْرَ الْقِرَاءَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَإِنِ ائْتَمُّوا بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ " اهـ.
ذُكِرَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي الْأُمِّ فِي فَصْلِ عُنْوَانِهِ (إِمَامَةُ الْأَعْجَمِيِّ وَالْأَعْجَمِيُّ كَالْأَعْجَمِ مَنْ فِي لِسَانِهِ لَكْنَةٌ وَفَهَاهَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، وَضِدَّهُ الْفَصِيحُ الْجَيِّدُ النُّطْقِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ، وَحُكْمُ الْأَعْجَمِيِّ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ لَهُ مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنَ اللَّحْنِ فِي الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا وَإِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَقَطْ، كَمَا يُغْتَفَرُ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا مُطْلَقًا لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا. وَقَوْلُهُ الْأَخِيرُ الَّذِي لَمْ يَفْهَمْهُ النَّاقِلُ فَكَانَ مَحَلَّ الشُّبْهَةِ وَهُوَ " وَإِذَا ائْتَمُّوا بِهِ " إِلَخ. مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْجَمِيَّ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ إِذَا أَمَّ مِثْلَهُ
فَأَقَامَا مَعًا أُمَّ الْقُرْآنِ، أَيْ أَحْسَنَ كُلٌّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ، أَوْ لَحِنَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ نَطَقَ أَحَدُهُمَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ لِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَانَتْ صَلَاةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحَةً ; لِأَنَّ اللَّحْنَ وَالْعُجْمَةَ وَالرَّطَانَةَ الْأَعْجَمِيَّةَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ لَا تُبْطِلُ الْإِمَامَةَ وَلَا الصَّلَاةَ، إِذْ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الْفَاتِحَةُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لَا فَرْضٌ وَلَا وَاجِبٌ - وَلَيْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ غَيْرُ فَرْضٍ - وَالْمَفْرُوضُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ النُّطْقِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ سَبَبُهُ الْعَجْزُ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْفَصِيحَةِ لَا التَّلَاعُبُ وَلَا قَصَدُ غَيْرَ الْقِرَاءَةِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمَا.
وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ تَعَمُّدِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِالْعَجَمِيِّ الْمُتَرْجَمِ بِهِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَتَسْمِيَتِهِ قُرْآنًا. كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَبِوُجُوبِ أَدَاءِ سَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا. وَبِوُجُوبِ تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لِذَلِكَ، وَهَذَا نَصُّ عِبَارَتِهِ (كَمَا فِي ص٩ مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ الَّتِي مَعَ كِتَابِ الْأُمِ لَهُ) :.
" فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ
289
إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ " إِلَخْ.
هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي كَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيٌّ، وَكَتُبَ مَذْهَبَهُ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ كَسَائِرِ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْبَاعُهُ أَشُدُّهُمْ فِيهَا - أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ مَعَ هَذَا أَنْ يَتَجَرَّأَ عَالِمٌ أَزْهَرِيٌّ فَيَعْزُوَا إِلَى رِوَايَةِ الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَأْتِي عَلَى إِطْلَاقِهِ:.
(١) إِنَّ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَنْطِقَ بِالْقُرْآنِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ.
(٢) وَإِنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وُعُدَّ مَا يَنْطِقُ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا.
(٣، ٤) وَإِنَّهُ يَجُوزُ وُجُودُ جَمَاعَةٍ تُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ
بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَغَيْرَهَا مِنَ السُّورِ مَا دَامُوا لَا يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ.
أَيْنَ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ التَّرْجَمَةَ وَأَبَاحَهَا لِلْأَعْجَمِيِّ؟ اللهُمَّ هَذَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ.
أَيْنَ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ إِقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ إِمَامُهُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ إِلَخْ؟ وَعِبَارَتُهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُ آنِفًا صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ عَجْزِ الْأَعْجَمِيِّ عَنِ الْإِفْصَاحِ وَلَوْ بِبَعْضِ الْفَاتِحَةِ عُذْرًا لَهُ دُونَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ مَعَهُ، وَعَدَمُ الْإِفْصَاحِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ شَيْءٌ وَالتَّرْجَمَةُ بِلِسَانٍ عَجَمِيٍّ شَيْءٌ آخَرُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ عِبَارَةَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ النُّطْقَ بِالْقُرْآنِ، وَمَا يُعْذَرُ بِهِ هُوَ وَمَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَجْزِ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ نَسْمَعُهُ بِآذَانِنَا مِمَّنْ يَتَعَلَّمُونَ لُغَةً غَيْرَ لُغَتِهِمْ وَلَا يُتْقِنُونَهَا مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ، فَهُمْ يُحَرِّفُونَ وَيَلْحَنُونَ وَيَخْلِطُونَ أَلْفَاظًا مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي يُجِيدُونَهَا بِاللُّغَةِ الَّتِي لَا يُجِيدُونَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَنُعِيدُ الْقَوْلَ وَنُؤَكِّدُهُ بِأَنَّ تَعَمُّدَ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ لَا تَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْ أَحَدِ أَتْبَاعِهِ فِي مَذْهَبِهِ عِنْدَمَا شَرَحُوا كَلَامَهُ، وَفَصَّلُوا أَحْكَامَهُ، وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ أَيِّ قَارِئٍ لَهُ يَفْهَمُ مَا يَقْرَأُ.
(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى وُجُوبِ فَهْمِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ فِيهَا وَفِي خَارِجِهَا صَرِيحَةٌ، وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِيهَا مُحْكَمَةٌ، وَلَا يَتِمُّ أَدَاءُ هَذَا الْوَاجِبِ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَاتِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي تُدِينُ بِالْإِسْلَامِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْفَهْمَ وَالتَّدَبُّرَ وَمَا يُرَادُ بِهِمَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالِاعْتِبَارِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِتَعَلُّمِ الْمُسْلِمِينَ لِلُغَةِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ لَا بِتَحْوِيلِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ إِلَى لُغَاتِهِمْ كُلِّهَا، كَمَا فَصَّلَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَةِ الْأُصُولِ، وَأَقَرَّهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ لَسَبْقِ
290
الْإِجْمَاعِ وَجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً صَحِيحَةً تُؤَدِّي مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالتَّأْثِيرِ كَمَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مُتَعَذِّرَةٌ وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِتَغْيِيرِ كَلَامِ اللهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَسَنَدٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ تَابِعِينَ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى دُونَ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى تَابِعًا لِلُغَاتِهِمْ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُؤْثِرَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ لُغَةَ قَوْمِهِ عَلَى لُغَةِ
كِتَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ قُدَمَاءُ الْعَجَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُزَاحِمُونَ الْعَرَبَ بِالْمَنَاكِبِ فِي تَلَقِّي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَعْرَابِ الْبَادِيَةِ، وَفِي جَمِيعِ عُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَآدَابِهَا كَعُلُومِ الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ بُرْهَانِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَمَا أَحْدَثَ التَّنَافُسَ بَيْنَ لُغَةِ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَلُغَةِ الْآبَاءِ مِنَ الْعَجَمِ إِلَّا بَعْضُ زَنَادِقَةِ الْفُرْسِ الْأَوَّلِينَ وَمَلَاحِدَةِ التُّرْكِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا قُدَمَاءُ مُسْلِمِي التُّرْكِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا فَكَانَتْ آفَتُهُمُ الْجَهْلَ، فَالْخَوْفَ مِنْ عَوْدَةِ السُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ إِلَى الْعَرَبِ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعَدَّهُمْ لِقَبُولِ دَسَائِسِ الْإِفْرِنْجِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ الَّتِي قَوَّضَتْ سَلْطَنَتَهُمْ (إِمْبِرَاطُورِيَّتَهُمُ) الْعُظْمَى بِجَهْلِهِمْ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ وَبَعْضُ الْآيَاتِ أَوِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِحِفْظِهِ تَفْسِيرًا يَتَمَكَّنُ بِهِ مَنْ فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَالِاعْتِبَارِ بِهِ فَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرْجَمَتِهِ وَتَسْمِيَتِهَا كَلَامُ اللهِ كَذِبًا عَلَى اللهِ، وَخِلَافًا لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - فَضْلًا عَنْ تَرْجَمَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ.
(الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) مَسْأَلَةُ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانِهَا مِنْ قَبْلُ، وَنَزِيدُهَا هُنَا بَيَانًا فَنَقُولُ: لَئِنْ كَانَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَعَاجِمِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، فَعِلَّتُهُ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهَا أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَمَقَاصِدَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَذَلِكَ كَافٍ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ تَرْجَمَتَهُ كَتَأْثِيرِ أَصْلِهِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فِي إِقْنَاعِ الْعُقُولِ، وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اهْتِدَاءِ الْعَرَبِ، وَقَلْبِ طِبَاعِهِمْ، وَجَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَارْتِفَاعِ رَايَتِهِمْ، وَخُضُوعِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ لَهُمْ. وَلَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ وَالْمَقَاصِدُ لِلْأَعَاجِمِ بِلُغَاتِهِمْ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ كُلُّ أَصْلٍ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ مَعَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، بِبَيَانِ مَعَانِي نُصُوصِهِمَا بِالتَّفْسِيرِ، وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ - لَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِقْنَاعِ، وَأَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي هِدَايَةِ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِلدَّعْوَةِ، وَهِيَ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا مُسْلِمُو خَيْرِ الْقُرُونِ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَصْدَقُ الشُّهُودِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْجَرْحِ وَالطَّعْنِ - وَهِيَ
سِيرَتُهُمُ الْفُضْلَى فِي فُتُوحِهِمْ وَعَدْلِهِمُ الْمُطْلَقِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَصَلَاحِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَبِذَلِكَ انْتَشَرَ
291
الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَسَادَ أَهْلُهُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ بِسُرْعَةٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ فِي التَّارِيخِ.
فَإِسْلَامُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَ بِتَأْثِيرِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجِهَادِهِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (١٧: ٩)، نَهْدَيْ بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (٤٢: ٥٢) وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا (٢: ٢٦) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ (٥: ١٦) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٢٥: ٥٢) وَقَدْ كَانَ كُلُّ مَا كَانَ مِنِ اضْطِهَادِ رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ لِجَزْمِهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ جَذْبِهِمْ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَطْلُبُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ إِلَّا حِمَايَتَهُ لِيُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سِرًّا، وَنَشَرُوا الدَّعْوَةَ فِي عَاصِمَتِهِمْ يَثْرِبَ، وَصَارَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَحْمُونَهُ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. فَمَا زَالَتْ قُرَيْشٌ تُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ رَضِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ قَوَّتِهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَرْضَوْنَهَا - مَعَ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ لَهَا - فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ الْوَحِيدِ الَّذِي كَانَ هُوَ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الِاخْتِلَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ - وَلَاسِيَّمَا مِنْهُ - كَافٍ لِإِسْلَامِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ الْهَادُونَ الْمَهْدِيُّونَ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْأَقْطَارِ، وَثَلِّ عُرُوشِ أَعْظَمِ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَعَظْمَةً وَنِظَامًا وَتَشْرِيعًا وَحَضَارَةً، وَتَبْدِيلِ مَمَالِكِهِمْ وَشُعُوبِهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ - مَا فَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَعَاجِمِ فَقَدْ كَانَ بِتَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَدْيِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَالْعَجَمِ لِلدَّعْوَةِ، وَكَانَ بُرْهَانُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَسِيرَتِهِمُ الْحُسْنَى أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُنْقَلُ إِلَيْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَمْ يَنْتَشِرِ الْإِسْلَامُ فِي شَعْبٍ مِنْهَا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِ، وَقِرَاءَتِهِمْ لِتَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ دَرَجَةُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ تَرْتَفِعُ فِيهِمْ بِقَدْرِ تَدَبُّرِهِمْ لَهُ بَعْدَ تَعَلُّمِ لُغَتِهِ، فَكَانَ مِنْ مُتْقِنِي لُغَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَالِي كِبَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ، وَجَهَابِذَةُ عُلُومِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا، وَأَفْرَادُ الْعِبَادِ، وَنَوَابِغُ الْأُدَبَاءِ، وَفُحُولَةُ الشُّعَرَاءِ.
وَقَدْ كَانَ إِيمَانُهُمُ الصَّحِيحُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُثْلَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى طَلَبِ لُغَةِ الدِّينِ (الْعَرَبِيَّةِ) مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ حَاكِمٍ، وَلَا نِظَامِ تَعْلِيمٍ إِجْبَارِيٍّ تُؤَسَّسُ لَهُ الْمَدَارِسُ.
292
وَقَدْ تُرْجِمَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ بِأَشْهَرِ لُغَاتِ الشُّعُوبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَرْبِيَّةٍ وَشَرْقِيَّةٍ، فَكَانَتْ تَرْجَمَتُهُ مَثَارًا لِلشُّبَهَاتِ وَسَبَبًا لِلْمَطَاعِنِ، أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ مَثَارَ الشُّبَهَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ بَلْ مِنَ الْخَطَأِ فِيهَا، وَذَلِكَ يُتَلَافَى بِالتَّرْجَمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي نَدْعُو إِلَيْهَا، وَإِنَّ سَبَبَ الطَّعْنِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سُوءَ قَصْدٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ أَيْضًا.
(قُلْتُ) : إِنِّي عَلَى عِلْمِي بِهَذَا أَقُولُ: إِنَّ التَّرْجَمَةَ أَكْبَرُ عَوْنٍ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الَّذِي يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ حَاذِقًا لَهَا رَاسِخًا فِيهَا، فَالْأَوَّلُ شَبِيهٌ بِمَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى مَنْ جَهْلِهِ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَتَكَلَّفُ الطَّعْنَ تَكَلُّفًا يُكَابِرُ بِهِ وِجْدَانُهُ، وَيُغَالِبُ ذَوْقَهُ وَبَيَانَهُ، فَيَجِيءُ طَعْنُهُ ضَعِيفًا سَخِيفًا، وَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ سَهْلَ الْمَسْلَكِ. وَاضِحَ الْمَنْهَجِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الدِّفَاعُ عَنِ التَّرْجَمَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، وَلَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً إِلَّا فِي بَعْضِ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ الْقَصِيرَةِ، دُونَ السُّورِ وَالْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ. بَلْ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ تَتَعَذَّرُ تَرْجَمَتُهَا بِمُفْرَدَاتٍ مِنَ اللُّغَاتِ الْأُخْرَى تُؤَدِّي الْمُرَادَ مِنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا مُرَادِفٌ فِي لُغَةٍ أُخْرَى، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَغْنَاهُنَّ بِهَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ دَعْ مَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ فِي فُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَاتِ.
تَعَذُّرُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ:
قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِنَا الْجَزْمُ بِتَعَذُّرِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمُ الصَّحِيحُ الْإِسْلَامِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ، كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِهِدَايَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ، وَقَدْ تَحَدَّى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْعَرَبَ بِهَذَا الْإِعْجَازِ، وَتَحَدَّى الْمُسْلِمُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَثَبَتَ عَجْزُ الْجَمِيعِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَصَدَقَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (١٧: ٨٨) وَالتَّرْجَمَةُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِثْلَ الْأَصْلِ، فَالْآيَةُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَلَى عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَوْنًا وَمُسَاعِدًا لِبَعْضٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَرْدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ؟ !.
وَإِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ مِنَ التُّرْكِ لِصَرْفِ قَوْمِهِمْ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَتَقُومُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ لَيَنْخَدِعُونَ بِشُبَهَاتِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجَمَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِاللُّغَاتِ
293
الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا لِلْفَرِيقَيْنِ عَدَمَ جَوَازِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمَا الدَّلَائِلَ عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِهَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا نَقْتَصِرُ عَلَى بَيَانِهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَقَطْ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّنَا نَعْنِي بِالتَّرْجَمَةِ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادَ مِنْهَا الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَهُوَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْآيَاتِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا يُؤَدِّي مَعَانِيهَا وَتَأْثِيرِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى.
وَإِنَّ تَوْفِيَةَ هَذَا الْمَوْضُوعِ حَقَّهُ يَقْتَضِي تَأْلِيفَ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَكِنَّنَا نَكْتَفِي بِقَلِيلٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ تُغْنِي عَنِ الْكَثِيرِ، وَنَبْدَأُ بِالْمُفْرِدَاتِ، وَنُثَنِّي بِالْجُمَلِ ثُمَّ نُعَزِّزُهُمَا بِكَلِمَةٍ فِي الْأَسَالِيبِ.
أَمَّا الْمُفْرَدَاتُ: فَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَإِمَّا مَجَازٌ وَإِمَّا كِنَايَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهَا إِمَّا لُغَوِيٌّ سَبَقَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ، وَإِمَّا شَرْعِيٌّ أَوْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَمِنْهَا الْمُشْتَرَكُ الَّذِي وُضِعَ لِعِدَّةِ مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ تَعْرِفُ الْمُرَادَ مِنْهَا بِالْقَرَائِنِ. وَمِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالْأُصُولِ مَنْ أَثْبَتَ
أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَالْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، وَقَدْ جَرَى عَلَى هَذَا الْجَمْعِ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَتَبِعْنَاهُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ وَحُرُوفِ مَعَانٍ، وَكُلٌّ مِنْهَا أَقْسَامٌ لِكُلٍّ مِنْهَا مَوَاقِعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ لَدَى الْعَارِفِينَ بِاللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَّفِقَ لُغَتَانِ مِنْ لُغَاتِ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ مُفْرَدَاتِهَا، وَلَا فِي طُرُقِ دَلَالَتِهَا، وَإِذَا فُرِضَ اتِّفَاقُ لُغَتَيْنِ فِي حَقِيقَةِ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَجَازِهِ وَكِنَايَتِهِ بِحَيْثُ يُتَرْجِمُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ مَهْمَا يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْهُ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَنْ يُمْكِنَ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَوْضَاعِ الْجَدِيدَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، كَالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْقُرْآنِ لِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَوْ لِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ ; وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَاتِ وَعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ إِلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ لُغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى فِي آدَابِهَا وَمَعَارِفِهَا وَمَعَانِيهَا الْعَقْلِيَّةِ وَالشِّعْرِيَّةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: الْأَسْمَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ لَفْظٍ مِنْهَا لَهُ مَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّتُهُ الْعَرَبِيَّةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُرَادٌ لِتَحَقُّقِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، كَالْوَاقِعَةِ وَالْقَارِعَةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْحَاقَّةِ وَالْغَاشِيَةِ إِلَخ. وَقَدْ أَقَمْتُ الْحُجَّةَ عَلَى طَبِيبٍ تُرْكِيٍّ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ يُتَرْجِمُ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ - وَهُوَ لَا يُحْسِنُ التَّعْبِيرَ عَنْ مُرَادِهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَجِبُ - قُلْتُ لَهُ: لَكُمْ أَنْ تُفَسِّرُوهُ بِالتُّرْكِيَّةِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ عُلَمَائِكُمْ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ فَهِيَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى أَهْلِ اللُّغَاتِ الَّتِي هِيَ أَغْنَى مِنْ لُغَتِكُمْ وَأَوْسَعُ وَإِنْ أَتْقَنُوا الْعَرَبِيَّةَ.. ثُمَّ سَأَلْتُهُ: كَيْفَ تُتَرْجِمُ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الْمَوْضُوعَةَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: إِنَّهُ يُتَرْجِمُهَا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ: قُلْتُ: إِذَا تُفَوِّتُ الْمَعَانِي الِاشْتِقَاقِيَّةَ الْمَقْصُودَةَ بِالذَّاتِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ بَيَانُ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَبْدَأً وَغَايَةً وَمَا يَقَعُ فِيهِنَّ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْوَعْظِ وَالنُّذُرِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالرَّادِعَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا تُرْجِمَتْ بِمَعْنَاهَا الِاشْتِقَاقِيِّ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا صِفَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ
294
الْقَارِعَةَ اسْمُ فَاعِلٍ يُوصَفُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ امْرَأَةٌ تَقْرَعُ أَحَدًا بِالْمِقْرَعَةِ، وَفِي الْمَجَازِ دَاهِيَةٌ تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِأَهْوَالِهَا، وَالْقَرْعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضَرْبُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - وَأَخَصُّ مِنْهَا (الصَّاخَّةُ) وَهِيَ الضَّرْبَةُ ذَاتُ الصَّوْتِ
الشَّدِيدِ يَصُخُّ الْمَسَامِعَ أَيْ يَقْرَعُهَا حَتَّى يُصِمَّهَا أَوْ يَكَادَ، أَوِ الَّذِي يَضْطَرُّهَا إِلَى الْإِصَاخَةِ وَالْإِصْغَاءِ.
وَإِذَا أَنْتَ فَسَّرْتَ الْكَلِمَةَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَصَفْتَهُ بِالْقَارِعَةِ فِي سُورَتِهَا وَبِالصَّاخَّةِ فِي سُورَةِ عَبَسَ وَتَوَلَّى تَكُونُ قَدِ انْفَلْتَ مِنْ مَأْزِقِ التَّرْجَمَةِ إِلَى سِعَةِ التَّفْسِيرِ، وَحِينَئِذٍ قَدْ تَكُونُ عُرْضَةً لِغَلْطٍ فِي التَّفْسِيرِ يُضِيعُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَإِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي هَذَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَالْمُتَرْجَمُ بِلُغَةٍ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى بِالْغَلَطِ ; فَإِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَارِعَةِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي تَقْرَعُ الْقُلُوبَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْدُودٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي شَرْحِ هَذَا الْقَرْعِ: إِذَا وَقَعْتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٥٦: ١ - ٦) فَهَذَا عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (١٠١: ١ - ٥).
وَيُوَضِّحُ هَذَا مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْفَلَكِيِّينَ مِنْ أَنَّ خَرَابَ هَذَا الْعَالَمِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِدُنُوِّ بَعْضِ النُّجُومِ ذَوَاتِ الْأَذْنَابِ مِنَ الْأَرْضِ وَصَدْمِهِ أَوْ قَرْعِهِ لَهَا قَرْعَةً شَدِيدَةً عَلَى نِسْبَةِ قُوَّةِ الْجَذْبِ، تُبَسُّ بِهِ الْجِبَالُ أَيْ تَتَفَتَّتُ حَتَّى تَكُونَ هَبَاءً مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ نِظَامُ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ وَتَتَصَادَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٨٢: ٢) فَانْطِبَاقُ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْوَارِدَةِ فِي وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُتَفَرِّقَةِ عَلَى هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مَعْرُوفَةً لِلْعَرَبِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ عَلَى الطَّرِيقِ الْقَدِيمِ - قَدْ تُعَدُّ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ، وِفَاقًا لِمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ مِنَ الْأَثَرِ (وَلَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ) وَلَكِنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْحَرْفِيَّةِ، فَيَكُونُ قُصُورُهَا وَعَدَمُ مُوَافَقَتِهَا لِلْأَصْلِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
فِلْمًا سَمِعَ مِنِّي ذَلِكَ الطَّبِيبُ التُّرْكِيُّ الْمَغْرُورُ هَذَا الشَّرْحَ بُهِتَ وَلَمْ يُحْرِ جَوَابًا - عَلَى أَنَّنَا رَأَيْنَا فِي الصُّحُفِ أَنَّ الَّذِينَ شَرَعُوا يُتَرْجِمُونَ الْقُرْآنَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَدْ فَسَّرُوا يَوْمَ الدِّينِ فِي الْفَاتِحَةِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالِدِّينُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ،
وَذِكْرُهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَلَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا لَيْسَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ التَّالِي لِلْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ اللهَ سَيُحَاسِبُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ وَيَجْزِيهِ بِهَا " إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ ".
وَأَذْكُرُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْأَفْعَالِ دَلَالَةَ صِيَغِهَا مِنْ نَحْوِ التَّكَلُّفِ وَالتَّكْثِيرِ وَالْمُشَارَكَةِ وَالْمُطَاوَعَةِ إِلَخ. وَمِنْ مُفْرَدَاتِ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَالْأَدَوَاتِ الْفُرُوقَ فِي الْعَطْفِ وَنُكَتِ وَضْعِ بَعْضِهَا
295
فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ (٦: ١١) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ (٢٩: ٢٠) فَعَطَفَ النَّظَرَ فِي الْأَوَّلِ بِـ " ثُمَّ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّرَاخِي، وَفِي الثَّانِي بِـ " الْفَاءِ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ. فَهَلْ يُوجَدُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ مِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمَعَانِي، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مَعَ مُقَارَنَاتٍ أُخْرَى (ص٢٦٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَلَهُ نَظَائِرُ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِنَا.
وَأَذْكُرُ مِنْ مَعَانِي الْأَدَوَاتِ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَصْرِ بِـ " إِنَّمَا " وَالْحَصْرِ بِحَرْفَيِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِكَ: مَا هُوَ إِلَّا كَذَا. وَهُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ " إِنَّمَا " عَلَى أَنْ تَجِيءَ لِخَبَرٍ لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يَدْفَعُ صِحَّتَهُ، أَوْ لَمَّا نَزَلَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَأَنَّ الْخَبَرَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ يَكُونُ لِلْأَمْرِ يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَيَشُكُّ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِالْأَمْثِلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (٦: ١٤٥) وَبَيَّنَّا سَبَبَ حَصْرِ هَذَا الْمَعْنَى بِـ " إِنَّمَا " فِي سُورَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلْ فِي هَذَا الْحَصْرِ، فَكَانَ لِمَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ وَيَجْهَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنَّ آيَتَيِ النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ نَزَلَتَا بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى صَارَ مَعْرُوفًا، فَهَلْ يُوجَدُ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْأَدَوَاتِ فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا؟ وَهَلْ يَفْهَمُ الْمُتَرْجِمُونَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ فَيُرَاعُونَهَا فِي تَرْجَمَتِهِمْ، إِنْ كَانَتْ لُغَتُهُمْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ !.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: الْفَرْقُ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " الشَّرْطِيَّتَيْنِ ذَكَّرَنِي بِهِ قَوْلِي الْآنَ " إِنْ
كَانَتْ لُغَتُهُمْ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ " وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي شَرْطِ " إِنْ " أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ أَوْ يُنْكِرُهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ أَوْ مَا يَنْزِلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَأَنَّ شَرْطَ " إِذَا " بِخِلَافِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالنَّحْوِ بِأَمْثِلَتِهِ.
وَأَمَّا الْجُمَلُ فَأَكْتَفِي مِنْهَا بِإِيرَادِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ بِالْحَالِ وَالْفَرْقِ فِيهَا بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (٤: ٤٣) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ سُكَارَى جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُقَيِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. وَقَوْلُهُ: (جُنُبًا) حَالٌ مُفْرَدَةٌ مُقَيِّدَةٌ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْأُولَى تُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ السُّكَّرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَأْتِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكَّرِ فَيَضْطَرُّ السَّكْرَانُ إِلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ إِلَى أَدَائِهَا وَهُوَ سَكْرَانُ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى تَرْكِ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ الطَّهَارَةِ وَأَدَاءِ الصَّلَاةِ
296
قَبْلَ ذَهَابِ الْوَقْتِ. وَمِثَالُهُ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي النُّذُورِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ; لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَلَا يُجْزَئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ، وَيُرَاجَعَ وَجْهُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (ص٩٤ وَمَا بَعْدَهَا ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) فَهَلْ يَفْهَمُ مُتَرْجِمُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ مِثْلَ هَذِهِ الدَّقَائِقِ؟ وَهَلْ تُسَاعِدُهُ لُغَتُهُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا إِنْ كَانَ يَفْهَمُهَا؟ أَمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَتَفْسِيرٍ لِبَيَانِهَا فَيَكُونُ مُفَسِّرًا لَا مُتَرْجِمًا؟ !.
هَذَا شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَأَمَّا دِقَّةُ التَّعْبِيرِ، وَبَلَاغَتُهُ فِي الْوَصْفِ الْمُفِيدِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَمِنْ عَجَائِبِ شَوَاهِدِهِ وَصْفُ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (١٤: ٤٢، ٤٣).
شُخُوصُ الْأَبْصَارِ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِهَا، وَكَوْنُ أَجْفَانِهَا مَفْتُوحَةً سَاكِنَةً لَا تَطْرُفُ " وَمُهْطِعِينَ " مِنْ أَهْطَعَ الْبَعِيرُ إِذَا صُوَّبَ عُنُقَهُ وَمَدَّ بَصَرَهُ، وَقِيلَ: الْإِهْطَاعُ أَنْ تُقْبِلَ بِبَصَرِكِ عَلَى الْمَرْئِيِّ تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِسْرَاعِ، وَمُقْنِعِي
رُءُوسِهِمْ مِنْ أَقْنَعَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ إِلَى الْحَوْضِ لِيَشْرَبَ إِذَا رَفَعَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ رَفْعًا وَخَفْضًا فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الِاضْدَادِ، وَقَوْلُهُ: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرَفُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُمْ فِي شُخُوصِ الْأَبْصَارِ وَإِهْطَاعِهَا مَعَ امْتِدَادِ الْأَعْنَاقِ وَتَصْوِيبِهَا إِلَى مَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ شُغْلًا شَاغِلًا لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَتَكُونَ طَوْعَ إِرَادَتِهِمْ يُوَجِّهُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا بَلْ هُمْ فِي هَوْلٍ وَكَرْبٍ لَا مَشِيئَةَ وَلَا سُلْطَانَ لَهُمْ مَعَهُمَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ بَلْ عُيُونُهُمْ مَمْدُودَةٌ مَفْتُوحَةٌ لَا تَطْرُفُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ بِتَصْوِيبٍ وَلَا تَصْعِيدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ هَذَا وَسَبَبَهُ فِي النَّفْسِ فَقَالَ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أَيْ خَلَاءٌ خَاوِيَةٌ مِنَ الْعَقْلِ فَاقِدَةٌ لِلْقُوَّةِ وَالْإِرَادَةِ.
لَعَمْرُ الْحَقِّ إِذَا تَصَوَّرَ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا الْوَصْفَ حَقَّ الْفَهْمِ قَوْمًا هَذِهِ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُمْ لَيَأْخُذَنَّ الرُّعْبُ بِمَخْنِقِهِ، وَلِيَسْتَحْوِذَنَّ الذُّعْرُ عَلَى شُعُورِهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ أَوِ الْأَعْرَابِ الْأَقْحَاحِ.
وَأَذْكُرُ فِي الْكِنَايَاتِ مِثْلَ الرَّفَثِ وَإِفْضَاءِ الزَّوْجِ إِلَى الزَّوْجِ وَقَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفَا (٧: ١٨٩) وَقَوْلَهُ تَعَالَى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ (٤: ٤٣) وَقَوْلَهُ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (٢: ٢٢٣) وَقَوْلَهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ (٢: ٢٣٧) فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا لَفْظًا بِمَعْنَى التَّغَشِّيِ الدَّالِّ عَلَى السَّتْرِ، وَلَفْظًا بِمَعْنَى الْحَرْثِ وَهُوَ الزَّرْعُ - لِأَنَّ مَعَانِيَهُمَا كَالْمَسِّ وَالْمُلَامَسَةِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الشُّعُوبِ - فَهَلْ تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فِي لُغَاتِهِمْ كِنَايَةً عَنِ الْوَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ السِّرِّيَّةِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ؟.
297
وَأَمَّا أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ هُوَ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ، وَالْقَامُوسُ الْمُحِيطُ الْأَعْظَمُ، فَإِنَّهُ أَظْهَرَ وُجُوهَ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَمْزِجَ فُنُونَ الْكَلَامِ. وَيُنَظِّمَ مَقَاصِدَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَتَبَايُنِ مَوْضُوعَاتِهَا، مَزْجًا مُتَلَائِمًا، وَنَظْمًا مُتَنَاسِبًا مُتَنَاسِقًا، مُوَافِقًا لِلذَّوْقِ السَّلِيمِ، مُطَابِقًا لِنُكَتِ الْبَلَاغَةِ. فَالْعَقَائِدُ الْإِلَهِيَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ، وَالسُّنَنُ الْكَوْنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْمَوَاعِظُ الْأَخْلَاقِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَصْفُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ جَمَادَاتٍ وَأَحْيَاءٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَوَاءٍ وَهَبَاءٍ، تَرَاهُ كُلَّهُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَرَى الْكَثِيرَ مِنْهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، بِعِبَارَةٍ بَدِيعَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، يَنْتَقِلُ فِيهَا الْعَقْلُ مِنْ فَائِدَةٍ إِلَى فَائِدَةٍ وَيَتَقَلَّبُ
فِيهَا الْقَلْبُ مِنْ مَوْعِظَةٍ إِلَى مَوْعِظَةٍ، مَعَ مُنْتَهَى الْإِحْكَامِ وَالْمُنَاسَبَةِ، بِحَيْثُ لَا تَمَلُّ تِلَاوَتَهُ، وَلَا تَفْتَأُ تَتَجَدَّدُ هِدَايَتُهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ وَأَهْلِ الذَّوْقِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَدَّدُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَلَى بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ. وَيُمَتِّعُوا قُلُوبَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ بِسَمَاعِ تَرْتِيلِهِ، بِذَلِكَ النَّظْمِ الَّذِي لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا سَجْعٍ، وَلَا كَلَامٍ مُرْسَلٍ، بَلْ هُوَ نَظْمٌ خَاصٌّ، قَابِلٌ لِلْأَدَاءِ بِالنَّغَمَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ عَلَى تَفَاوُتِ آيَاتِهِ وَفَوَاصِلِهِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَالْآيَةُ قَدْ تَكُونُ كَلِمَةً مُفْرَدَةً أَوْ كَلِمَتَيْنِ وَجُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ جُمَلًا قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَكُلُّهَا " مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ، وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَأْثِيرٌ غَرِيبٌ فِي تَرْتِيلِهَا وَتَجْوِيدِهَا، بِالْأَصْوَاتِ الْمُلَائِمَةِ لِمَعَانِيهَا.
صَلَّيْتُ الْفَجْرَ مَرَّةً فِي أَهْلِ بَيْتِي بِسُورَةِ الْقَمَرِ، وَتَلَوْتُهَا بِصَوْتٍ خَاشِعٍ صَادِعٍ مُنَاسِبٍ لِزَوَاجِرِهَا وَنُذُرِهَا، فَقَالَتْ لِي الْوَالِدَةُ: إِنَّ هَذِهِ النُّذُرَ تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَصَارَتْ تُسَمِّيهَا سُورَةَ النُّذُرِ. وَقَالَتْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مَرَّةً أُخْرَى فِي سُورَةِ (ق) فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ لِلتَّرْجَمَةِ التُّرْكِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ لُغَاتِ الْأَعَاجِمِ فِي أَنْفُسِ أَهْلِهَا كَمَا يُؤَثِّرُ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا دُونَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ؟ كَلَّا.
نَمُوذَجٌ مِنْ تَرْجَمَةٍ تُرْكِيَّةٍ:
إِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا ذُكِرَ تَذَكَّرْتُ أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَعَارِفِي تَرْجَمَةً تُرْكِيَّةً لِلْقُرْآنِ فَاسْتَعَرْتُهَا مِنْهُ، فَإِذَا هِيَ تَرْجَمَةُ جَمِيلِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا - وَإِذَا فِيهَا مِنَ النَّقْصِ وَالْحَذْفِ وَالْخَطَأِ فَوْقَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ التَّرْجَمَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ قَبِيحَةٌ لَا تَصْدُرُ عَنْ رَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَتَدُلُّ عَلَى سُوءِ نِيَّةِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَوْنُ غَرَضَهُمْ مِنْهَا الْعَبَثُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَتَنْفِيرُ التُّرْكِ مِنْهُ. وَفَتْحُ أَبْوَابِ الطَّعْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ رَاجَعْنَا فِيهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَوَجَدْنَاهُ يَذْكُرُ أَلْفَاظَهَا
298
الْعَرَبِيَّةَ وَيُفَسِّرُهَا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا كِنَايَاتُ الْوِقَاعِ فَحَذَفَ مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا (٧: ١٨٩) وَاكْتَفَى بِكَلِمَةٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَمْلِ.
وَتَرْجَمَ الْمُلَامَسَةَ بِمَا مَعْنَاهُ وَإِذَا وُجِدْتُمْ بِالْمُنَاسَبَاتِ الْجِنْسِيَّةِ مَعَ النِّسَاءِ فَتَنَظَّفُوا.
وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَأَمَّا الْحَرْثُ فَتَرْجَمَهُ بِكَلِمَةِ " تارلا " وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُعَدَّةُ لِزَرْعِ الْحُبُوبِ دُونَ الْمُشَجَّرَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ، فَإِحْلَالُ الرَّفَثِ إِلَى النِّسَاءِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى حَظْرِ الرَّفَثِ بِالْقَوْلِ عَلَى الصَّائِمِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلْكَلِمَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُكَنَّى عَنْهُ. وَالتَّرْجَمَةُ التُّرْكِيَّةُ لَا تُفِيدُ الدَّلَالَتَيْنِ.
وَتَرْجَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى (٤: ٤٣) إِلَخْ. بِمَا مَعْنَاهُ: لَا تُصَلُّوا فِي حَالِ سُكْرِكُمْ بَلِ انْتَظَرُوا أَنْ تَجِيئُوا إِلَى حَالٍ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا فِيهَا مَا تَقُولُونَ - وَلَا تَعْبُدُوا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ جُنُبًا بَلِ انْتَظِرُوا الْغُسْلَ. وَهَذِهِ تَرْجَمَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا يَرَى الْقَارِئُ وَلَيْسَ فِيهَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الظَّالِمِينَ: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (١٤: ٤٢، ٤٣) فَقَدْ تَرْجَمَهُ بِمَا مَعْنَاهُ الْحَرْفِيُّ: يُمْهِلُهُمُ اللهُ إِلَى يَوْمٍ يَعْطِفُونَ فِيهِ أَنْظَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ بِصُورَةٍ كَامِلَةٍ، وَسَتَبْقَى قُلُوبُهُمْ فَارِغَةً وَأَنْظَارُهُمْ ثَابِتَةً، وَهُمْ يُسْرِعُونَ بِعَجَلَةٍ رُفِعَتْ رُؤُوسُهُمُ اهـ. فَزَادَ عَلَى الْأَصْلِ تَوْجِيهَ النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَوْلَهُ: " بِصُورَةٍ كَامِلَةٍ " أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ شُخُوصِ الْبَصَرِ، وَهُوَ لَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَلَا يُصَوِّرُ ذَلِكَ الْوَصْفَ الْبَلِيغَ الْمُؤْثَرَ لِلْأَبْصَارِ الشَّاخِصَةِ، وَالرُّءُوسِ الْمُقْنِعَةِ، وَالْأَعْنَاقِ الْمُهْطِعَةِ، بَلْ لَمْ يَذْكُرِ الرُّؤُوسَ وَالْأَعْنَاقَ أَلْبَتَّةَ. وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الدِّرْكَةِ مِنَ الْعَجْزِ مَعَ اسْتِعَانَتِهِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ تَرْجَمَتُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِذَا حَاوَلُوا أَنْ تَكُونَ تُرْكِيَّةً خَالِصَةً خَالِيَةً مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَطْلُبُ غُلَاةُ غُوَاتِهِمْ؟ !.
هَذَا وَإِنَّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْغَلَطِ وَتَحْرِيفِ الْمَعَانِي وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا لَا يَعْقِلُ لَهُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِ سَبَبًا إِلَّا تَعَمُّدَ الْإِضْلَالِ ; لِأَنَّ الْجَهْلَ وَحْدَهُ لَا يَهْبِطُ بِهَذَا الْمُتَرْجِمِ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مَعَ ادِّعَائِهِ الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ التَّعْبِيرِ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ بِلَفْظٍ تُرْكِيٍّ، كَوَظِيفَةِ مُتَرْجِمِي الْمَحَاكِمِ الْقَضَائِيَّةِ.
فَمِنَ التَّحْرِيفِ الْمُخِلِّ الدَّالِّ عَلَى سُوءِ النِّيَّةِ تَرْجَمَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (سُورَةِ يُونُسَ آيَةِ ٨٧).
اتَّفَقَ مُفَسِّرُوا السَّلَفِ وَالْخَلْفِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى اتِّخَاذِ بُيُوتِهِمْ قِبْلَةً أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوهَا مَسَاجِدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَوْ أَنْ يُوَجِّهُوهَا إِلَى الْقِبْلَةِ - قِيلَ: هِيَ الْكَعْبَةُ. وَقِيلَ
299
بَيْتُ الْمَقْدِسِ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنِ احْتِمَالِ جَعْلِهَا مُتَقَابِلَةً مُتَقَارِبَةً وَلَكِنَّ الْمُتَرْجِمَ التُّرْكِيَّ تَرْجَمَهَا بِقَوْلِهِ: " قومكزا يجون مصرده خانه لر إنشا ايديكز. ويوتلريني قبلة طرفنه توجيه ايديكز " أَيْ أَنْشِئُوا فِي مِصْرَ بُيُوتًا لِقَوْمِكُمْ وَوَجِّهُوا أَصْنَامَهَا لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ (؟ ؟) فَمَا قَوْلُ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ، تُعَلِّمُ التُّرْكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَجَازَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ. وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى! !.
وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْغَلَطُ الْوَحِيدُ فِي تَرْجَمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَلْ هُوَ الْأَفْحَشُ، وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ تَرْجَمَ تَبَوَّأَ الْبُيُوتِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا.
وَمِنَ الْحَذْفِ وَالْإِسْقَاطِ أَنَّهُ أَسْقَطَ مِنْ تَرْجَمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ (٢: ٢٩) وَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى مِنَ الْآيَةِ ٥٧ مِنْهَا - وَأَسْقَطَ وَصْفَ الْقُرْآنِ بِالْقَيِّمِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَالِاقْتِرَابِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْعَلَقِ.. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ إِحْصَاؤُهُ.
نَعَمْ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَئِيسَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فِي الْجُمْهُورِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ قَدْ أَعْلَنَ أَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مَمْلُوءَةٌ بِالْأَغْلَاطِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحُكُومَةَ لَمْ تَجْمَعْ نُسَخَهَا وَتَمْنَعِ اسْتِعْمَالَهَا وَطَبَعَهَا فَهِيَ مُنْتَشِرَةٌ، وَبَلَغَنَا أَنَّهَا أَلَّفَتْ لَجْنَةً لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ. أَيُّ مُسْلِمٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَعَلَى لَجْنَتِهَا فِي عِلْمٍ يَعُدُّهُ الْمُسْلِمُونَ الْعَارِفُونَ بِالْإِسْلَامِ جِنَايَةً عَلَيْهِ وَهَدْمًا لَهُ؟.
صِفَةُ تَرْجَمَاتِ الْقُرْآنِ التُّرْكِيَّةِ:
وَقَدْ نَشَرَتْ جَرِيدَةُ الْأَخْبَارِ الْمِصْرِيَّةِ رِسَالَةً لِمُرَاسِلِهَا مِنَ الْآسِتَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ جَاءَ فِيهَا: بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى تَرْجَمَةِ التَّرْكِ لِلْقُرْآنِ وَتَحْبِيذِهَا مَا نَصُّهُ: " كَانَ أَوَّلَ مُتَرْجِمٍ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ زَكِي أَفَنْدِي مَغَامِز، وَهُوَ مَسِيحِيٌّ سُورِيٌّ، وَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى تَرْجَمَتِهِ صُدْفَةً قَبْلَ طَبْعِهَا، فَأَبْدَيْنَا رَأْيَنَا فِي الْحَالِ، وَكُنَّا السَّبَبَ فِي عَدَمِ طَبْعِهَا ثُمَّ قَامَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ الشَّيْخُ مُحْسِنُ فَانِي (هُوَ حُسَيْنُ كَاظِم بِك)
أَحَدُ أَعْلَامِ تُرْكِيَا فِي الْأَدَبِ وَالْفَضْلِ، وَتَصَدَّى لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ زُمَلَائِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُ لَا يُؤَدِّي الْمَعَانِي حَقَّهَا، لَا يُؤَدِّيهَا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُؤَدَّى بِهَا فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا انْتَقَدْنَاهُ مِرَارًا.
300
ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُمَا جَمِيلُ سَعِيد بِك حَفِيدُ كَمَال بَاشَا نَاظِرِ الْمَعَارِفِ الْأَسْبَقِ، فَتَرْجَمَ الْقُرْآنَ لَقَدْ كَانَ الْمُنْتَظَرُ أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ الثَّانِيَةُ أَحْسَنَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْأَوَّلِ إِنَّمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الْأَمَلُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا قَدِ انْتَقَدْنَا جَمِيلَ بِك أَمَرَّ انْتِقَادٍ، وَلَمْ نَتْرُكْ لَهُ أَيَّ مَنْفَذٍ لِلتَّخَلُّصِ، وَقَدْ أَرَادَ حَضْرَتُهُ أَنْ يُجِيبَنَا عَلَى انْتِقَادَاتِنَا بِتَخْفِيفِ أَهَمِّيَّةِ أَخْطَائِهِ فَلَمْ يَفْلَحْ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَ جَوَابُهُ أَعْدَلَ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ لِلْعَمَلِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بِهِ، وَالْأَدْهَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّنَا عِنْدَ انْتِقَادِنَا لَهُ ظَنَنًّا أَنَّهُ تَرْجَمَ الْقُرْآنَ مِنْ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ أُورُبَّا، لَا مِنْ أَصْلِهِ الْعَرَبِيِّ، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ الدَّلَائِلِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُجِيبَنَا عَلَى ذَلِكَ بِبِنْتِ شَفَةٍ ; وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا فِي مَقَالَتِنَا الثَّانِيَةِ شَدَدْنَا عَلَيْهِ الْحَمَلَةَ لِآخَرَ دَرَجَةٍ، وَقُلْنَا لَهُ: إِنَّهُ فَضَحَ الشَّعْبَ التُّرْكِيَّ بِاقْتِرَافِ هَذِهِ الْجَرِيرَةِ الْمُدْهِشَةِ ; لِأَنَّ الشَّعْبَ التُّرْكِيَّ شَعْبٌ مُسْلِمٌ مُنْذُ عَشَرَاتِ الْقُرُونِ، شَعْبٌ يَخْدِمُ الْمَدَنِيَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيَتَوَلَّى زَعَامَةَ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُنْذُ قُرُونٍ، شَعْبٌ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مِنْ أَصْلِهِ الْعَرَبِيِّ مُنْذُ قُرُونٍ شَعْبٌ أَنْجَبَ الْمِئَاتَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ، وَتَبَحَّرُوا فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ. فَعَارٌ أَنْ يَقْرَأَ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْقَرْنِ مِنْ لُغَةِ مُبَشِّرٍ مُتَعَصِّبٍ.
وَقَدْ أَخْرَجْنَا لِذَلِكَ الْمُتَرْجِمِ كَثِيرًا مِنْ أَخْطَائِهِ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا، وَعَدَا هَذَا فَإِنَّ رِيَاسَةَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فِي أَنُقْرَةَ لَمْ تَتَأَخَّرْ مُطْلَقًا فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبِهَا، بَلْ إِنَّهَا عِنْدَ انْتِشَارِ كُلِّ تَرْجَمَةٍ مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِمِ حَذَّرَتِ النَّاسَ مِنْهَا، وَنَبَّهَتْهُمْ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفَاتِ. وَبِذَلِكَ قَضَتْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ بِمَا تَسْتَحِقُّهَا انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَجَاءَ فِي جَرِيدَةِ الْأَهْرَامِ فِي ٢٩ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ١٣٤٢ هـ مَا نَصُّهُ: تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ
أَقْدَمَ فَرِيقٌ مِنَ التَّرْكِ أَخِيرًا عَلَى تَنْفِيذِ الْفِكْرَةِ الَّتِي طَالَمَا تَمَنَّوْا تَنْفِيذَهَا، وَهِيَ أَنْ يُتَرْجِمُوا الْقُرْآنَ بِالتُّرْكِيَّةِ، وَيَسْتَغْنُوا بِهِ عَنِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ، فَشَرْعُ مُصْطَفَى أَفَنْدِي الْعَيْنَتَابِيُّ وَزِيرُ الْحَقَّانِيَّةِ السَّابِقُ، وَالشَّيْخُ مُحْسِنُ فَانِي، وَمُصْطَفَى بِك، وَسَيْفُ الدِّينِ بِك فِي نَشْرِ التَّرْجَمَةِ التُّرْكِيَّةِ بِأَقْلَامِهِمْ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَجَلَّةُ (سَبِيلِ الرَّشَادِ) التُّرْكِيَّةُ مَقَالَةً عِلْمِيَّةً فِي انْتِقَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَبَيَانِ مَوَاطِنِ الْخَلَلِ فِيهَا، وَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ نَمُوذَجًا مِنَ الْغَلَطَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي تَرْجَمَةِ (سُورَةِ الْفَاتِحَةِ) فَقَطْ فَبَلَغَتْ سِتَّ غَلَطَاتٍ لَا يَجُوزُ التَّسَامُحُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَمِنْ ذَلِكَ خَطَؤُهُمْ فِي وَضْعِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنْدَمِجِ فِي حَرْفِ (أَلْ) مِنْ (الْحَمْدُ) وَحَشُوِهِمْ لَفْظًا زَائِدًا فِي تَرْجَمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَتَقُولُ الْمَجَلَّةُ التُّرْكِيَّةُ: إِنَّهُمْ قَطَعُوا بِذَلِكَ نَظْمَ الْكَلِمَاتِ الْقُدْسِيَّةِ بَلْ سَحَقُوا مَا فِيهَا مِنَ الدُّرَرِ، وَتَرْجَمُوا وَغَيَّرُوا لَفْظَ يَوْمِ الدِّينِ بِلَفْظِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
301
وَقَدْ أَبَانَتِ الْمَجَلَّةُ التُّرْكِيَّةُ الْفُرُوقَ الْعَظِيمَةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَزَادُوا فِي الْفَاتِحَةِ نِدَاءَ " يَا اللهُ " مَرَّتَيْنِ بِلَا لُزُومٍ. وَبِذَلِكَ حَوَّلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ وَإِيجَازَهُ إِلَى شَكْلٍ غَيْرِ لَطِيفٍ. وَتَرْجَمُوا كَلِمَةً (اهْدِنَا) بِلَفْظِ " أَرِنَا " قَالَتِ الْمَجَلَّةُ: وَبِذَلِكَ نَحَوْا نَحْوَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا نَدْرِي أَقَصَدُوا ذَلِكَ أَمْ هِيَ رَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ؟ وَحَرَّفُوا نَظْمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلُوا " الصِّرَاطَ " فِي التَّرْجَمَةِ مَفْعُولَ الْإِنْعَامِ، وَهُوَ مَفْعُولُ الْهِدَايَةِ، فَجَاءَتْ تَرْجَمَتُهُمْ هَكَذَا: " الصِّرَاطُ الَّذِي أَنْعَمْتَهُ عَلَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ".
قَالَتْ مَجَلَّةُ سَبِيلِ الرَّشَادِ: وَالْحَقُّ أَنَّ جَرْأَةَ أُنَاسٍ هَذَا مَبْلَغُ عِلْمِهِمْ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنْ يُتَرْجِمُوا الْقُرْآنَ لَمِمَّا يَدْعُو إِلَى الْأَسَفِ، وَإِنَّهُ لَإِثْمٌ عَظِيمٌ. قَالَتْ: وَرَجَاؤُنَا إِلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا اللهَ مِمَّا ارْتَكَبُوا مِنَ الْإِثْمِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ وَيَتَحَوَّلُوا عَنْ هَذَا الْعَمَلِ السَّقِيمِ الَّذِي حَاوَلُوهُ اهـ.
وَتَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا، وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ مِنْ حُكُومَةِ أَنُقْرَةَ، وَأَنَّ تَرْجَمَتَهُمْ سَتَكُونُ الرَّسْمِيَّةَ وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ تَرْجَمَةٍ حَاوَلَهَا التُّرْكُ قَاصِرَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا كُلُّ قَارِئٍ، وَيَسْهُلُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِكُلِّ لُغَةٍ، دَعْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ، وَالْأَوْصَافِ الْمُمْتَازَةِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَالْأَسَالِيبِ الْخَاصَّةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دُونَ لُغَاتِ الْعَجَمِ وَلَاسِيَّمَا التُّرْكِيَّةُ الْفَقِيرَةُ، وَهَذَا يَفْتَحُ أَبْوَابًا وَاسِعَةً لِلشُّبَهَاتِ وَالْمَطَاعِنِ فِيهِ، وَيَسُدُّ أَبْوَابًا وَاسِعَةً لِضُرُوبٍ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأَمُّلِ الدَّافِعَةِ لَهَا، وَضُرُوبٍ مِنَ الْمَعَارِفِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ لَهُ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ التُّرْكَ حَظَرُوا تَعْلِيمَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونَهَا وَالْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ فِي بِلَادِهِمْ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجِدُ قَارِئُ تَرْجَمَتِهِمُ التُّرْكِيَّةِ لِلْقُرْآنِ فِي الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ مَرْجِعًا لِتَفْسِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِذَا هُوَ اسْتَشْكَلَ أَوْ طَعَنَ لَهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَأَضْرِبُ لِذَلِكَ مِنَ الْمَثَلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (٩٥: ١) الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا بَعْضَ عُلَمَائِهِمْ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُمْكِنُ بَيَانُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ نِصْفِ سَاعَةٍ، فَهَزَأَ بِهِ الْبَاشَا، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَثَلًا فِي الْجَهْلِ، وَهُوَ أَجْدَرُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ مُرَادِفَ التِّينِ بِالتُّرْكِيَّةِ وَهُوَ " انجير "، وَذَلِكَ الْعَالِمُ يُعْذَرُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْكَبِيرَ فِي مَقَامِهِ وَفِي مَعَارِفِهِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا يُقَابِلُهَا فِي التُّرْكِيَّةِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِالسُّؤَالِ مَعْنَى إِقْسَامِ اللهِ تَعَالَى بِبَعْضِ الشَّجَرِ وَالْبِقَاعِ وَالْبِلَادِ وَحِكْمَتِهِ، كَمَا إِذَا سَأَلَ هَذَا الْفَقِيهُ مِنَ الْبَاشَا عَمَّا يُسَمِّيهِ رِجَالُ الْحَرْبِ " خَطَّ الرَّجْعَةِ " مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ كَلِمَةِ خَطٍّوَكَلِمَةِ الرَّجْعَةِ لُغَةً.
302
وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْبَاشَا لَمْ يَسْأَلْ هَذَا السُّؤَالَ إِلَّا وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُرُودِ الْقَسَمِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامٍ لَهُ كَثُرَ نَقْلُهُ عَنْهُ، وَهُوَ احْتِقَارُ التَّعَالِيمِ وَالنَّظْمِ الَّتِي وُضِعَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَزَعْمُهُ أَنَّهَا وُضِعَتْ لِقَوْمٍ مُنْحَطِّينَ فِي الْحَضَارَةِ وَالْفُنُونِ، فَلَا يَلِيقُ اتِّبَاعُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي ارْتَقَتْ فِيهِ الصِّنَاعَاتُ وَالْفُنُونُ وَالْمَعَارِفُ الْمَادِّيَّةُ، وَاسْتَبَاحَ الْمُتْرَفُونَ فِيهِ الرَّذَائِلَ بِاسْمِ الْمَدَنِيَّةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مِنْ فِكْرِهِ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ الْجَهْلِيَّةِ، وَيُبَيِّنَ لَهُ مَعْنَى صِيغَةِ الْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ وَحِكْمَةُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِقْسَامِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالتَّذْكِيرِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمُنَاسِبَةِ
كُلِّ قَسَمٍ مِنْهُ أَقْسَمَ بِهِ عَلَيْهِ لِتَوْكِيدِهِ، كَالْإِقْسَامِ بِالنَّجْمِ عَلَى هِدَايَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَشَادِهِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُهْتَدَى بِهِ، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مُنَاسِبًا لِذَلِكَ، وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ الِاسْتِطْرَادُ ; إِزَالَةً لِشُبْهَةِ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا وَأَمْثَالِهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَنَقُولُ:.
إِنَّ الْجَمْعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٩٥: ١ - ٣) بَيَّنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الشَّجَرِ وَمَوْقِعَيْنِ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي التَّنْزِيلِ، وَفِيمَا دُونَهُ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ طُورَ سِينِينَ (أَيْ سَيْنَاءَ) مَهْبِطُ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَظْهَرُ نُبُوَّتِهِ - وَأَنَّ الْبَلَدَ الْأَمِينَ (مَكَّةَ) مَهْبِطُ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَظْهَرِ نُبُوَّتِهِ - تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ الْكِنَايَةَ عَنْ مَظْهَرَيْنِ مِنْ مَظَاهِرِ النُّبُوَّةِ وَالدِّينِ، كَمَا يُكَنَّى بِالْأَهْرَامِ أَوْ أَبِي الْهَوْلِ عَنْ حَضَارَةِ الْفَرَاعِنَةِ، وَبِشَجَرِ الْأَرْزِ عَنْ جَبَلِ لُبْنَانَ مَثَلًا.
وَإِذَا رَجَعْنَا لِلتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ نَرَى فِيهِ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ وَحَبْرِ الْأُمَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّينِ مَسْجِدُ نُوحٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) الَّذِي بَنَاهُ عَلَى الْجُودِيِّ - أَيْ حَيْثُ اسْتَوَتْ سَفِينَتُهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَالزَّيْتُونُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَطُورُ سِينِينَ مَسْجِدُ الطَّوْرِ، وَالْبَلَدُ الْأَمِينِ مَكَّةُ. (ثَانِيهُمَا) مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْأَخِيرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى حَيْثُ أُسْرِي بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَخْ. وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ تَعَدُّدُ رُوَاتِهِ وَمُوَافَقَةُ التَّارِيخِ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مِنْ جُزْءِ " عم "، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ أَشْهَرِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مَا نَصُّهُ:.
" وَقَالَ قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْإِقْسَامَ هُوَ بِالنَّوْعَيْنِ لِذَاتِهِمَا التِّينِ وَالزَّيْتُونِ. قَالُوا: لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهِمَا، وَلَكِنْ تَبْقَى الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ طُورِ سِينِينَ وَالْبَلَدِ الْأَمِينَ وَحِكْمَةِ جَمْعِهِمَا مَعَهُمَا فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ ; وَلِهَذَا رَجَّحَ أَنَّهُمَا مَوْضِعَانِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ أَنَّهُمَا النَّوْعَانِ مِنَ الشَّجَرِ، وَلَكِنْ لَا لِفَوَائِدِهِمَا كَمَا ذَكَرُوا، بَلْ لِمَا يُذْكُرُ أَنَّ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي
303
لَهَا الْآثَارُ الْبَاقِيَةُ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ:
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَنَا بِأَرْبَعَةِ فُصُولٍ مِنْ كِتَابِ الْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ بِعْثَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَالتِّينُ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَظِلُّ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا يُورِقُ التِّينُ، وَعِنْدَمَا بَدَتْ لَهُ وَلِزَوْجِهِ سَوْآتُهُمَا طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ. وَالزَّيْتُونُ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذُرِّيَّتِهِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَسَدَ الْبَشَرُ، وَأَهْلَكَ اللهُ مَنْ أَهْلَكَ مِنْهُ بِالطُّوفَانِ، وَنَجَّى نُوحًا فِي سَفِينَتِهِ وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ، نَظَرَ نُوحٌ إِلَى مَا حَوْلَهُ فَرَأَى الْمِيَاهَ لَا تَزَالُ تُغَطِّي وَجْهَ الْأَرْضِ فَأَرْسَلَ بَعْضَ الطُّيُورِ لَعَلَّهُ يَأْتِي إِلَيْهِ بِخَبَرِ انْكِشَافِ الْمَاءِ عَنْ بَعْضِ الْأَرْضِ فَغَابَ وَلَمْ يَأْتِ بِخَبَرٍ، فَأَرْسَلَ طَيْرًا آخَرَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ يَحْمِلُ وَرَقَةً مِنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فَاسْتَبْشَرَ وَسُرَّ وَعَرَفَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ قَدْ سَكَنَ، وَقَدْ أُذِنَ لِلْأَرْضِ أَنْ تُعَمَّرَ. ثُمَّ كَانَ مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ تَجْدِيدُ الْقَبَائِلِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي مُحِيَ عُمْرَانُهَا بِالطُّوفَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ بِزَمَنِ الزَّيْتُونِ. وَالْإِقْسَامُ هُنَا بِالزَّيْتُونِ لِلتَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُذَكَّرُ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَطُورُ سِينِينَ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَظُهُورِ نُورِ التَّوْحِيدِ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ مَا تَدَنَّسَتْ جَوَانِبُ الْأَرْضِ بِالْوَثَنِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مُوسَى يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَاءَ مُخْلِصًا لِرُوحِهَا مِمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ، ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ عَلَى قَوْمِهِ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَحَجْبِ نُورِهِ بِالْبِدَعِ، وَإِخْفَاءِ مَعْنَاهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَإِحْدَاثِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، فَمَنَّ اللهُ عَلَى الْبَشَرِ بِبِدَايَةِ تَارِيخٍ يَنْسَخُ جَمِيعَ تِلْكَ التَّوَارِيخِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ أَطْوَارِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَلْحَقُ، وَهُوَ عَهْدُ ظُهُورِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِذِكْرِ الْبَلَدِ الْأَمِينِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي فَصَّلْنَا بَيَانَهُ يَتَنَاسَبُ الْقَسَمُ وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ كَمَا سَتَرَى " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَمِنْ هَذَا الشَّرْحِ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ التُّرْكِيَّ عَلَى عِلْمٍ لَا يُشَارِكُهُ مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مُصِيبٌ فِي تَقْدِيرِ زَمَنِ الْجَوَابِ بِنِصْفِ سَاعَةٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ التُّرْكِيَّةَ لَنْ تَكُونَ إِلَّا قَاصِرَةً عَنِ احْتِمَالٍ مِثْلِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَنَّهَا تَمْهِيدٌ لِلْإِضْلَالِ وَالتَّكْفِيرِ.
سُبْحَانَ اللهِ! أَنَشُكُّ فِي كَوْنِ مُرَادِ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ التَّوَسُّلَ بِهَا
إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَالتَّشْكِيكَ فِي كَوْنِهِ كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِقَامَةَ الشُّبَهَاتِ عَلَى بُطْلَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُ فِيهَا بَصِيصًا مِنَ النُّورِ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْ دِينِهِ؟ أَنَشُكُّ فِي هَذَا بَعْدَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ حُكُومَتِهِمْ حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ وَإِرْثٍ، تَفْضِيلًا لِلتَّشْرِيعِ الْأُورُبِّيِّ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِهِ، وَإِبْطَالِ التَّعْلِيمِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَاضْطِهَادِ عُلَمَاءِ الدِّينِ حَتَّى فِي مَلَابِسِهِمْ، فَقَدْ أَكْرَهُوهُمْ عَلَى
304
لُبْسِ الزِّيِّ الْخَاصِّ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُبَالُوا بِمُرَاعَاةِ وِجْدَانِ أَحَدٍ وَلَا اعْتِقَادِهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ آيَةُ الرِّدَّةِ عَنْ دِينِهِ - فَعَلُوا هَذَا وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ يَدِينُ لِلَّهِ بِالْإِسْلَامِ وِجْدَانًا وَتَسْلِيمًا يَحْمِلُهُ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَيَزِعُهُ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَلِعُلَمَاءِ الدِّينِ احْتِرَامٌ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ دِينِ الشَّعْبِ بِكَلِمَةٍ مَعَ كَوْنِ مَادَّةِ الْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ لِلْجُمْهُورِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دِينَ الدَّوْلَةِ هُوَ الْإِسْلَامُ لَمَّا تُنْسَخُ - كَمَا نُسِخَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عَارَضَ الْحُكُومَةَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهَا هَذِهِ يُسَاقُ إِلَى مَحْكَمَةٍ خَاصَّةٍ تُسَمَّى مَحْكَمَةَ الِاسْتِقْلَالِ، مُفَوَّضَةٌ بِأَنْ تَحْكُمَ بِالْقَتْلِ لِلدِّفَاعِ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ اللَّادِينِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى شَرْعٍ مُنَزَّلٍ، وَلَا قَانُونٍ مُدَوَّنٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا نِهَائِيًّا لَا اسْتِئْنَافَ لَهُ، وَلَا مُرَاجَعَةَ فِيهِ، وَقَدْ قُتِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ لِلْمُعَارَضَةِ فِي وَضْعِ الْقَلَنْسُوَةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ (الْبُرْنِيطَةِ) مَوْضِعَ الْعِمَامَةِ وَاسْتِبْدَالِهَا بِهَا؟ !.
هَذَا مَا يَجْرِي الْيَوْمَ فَمَاذَا يَكُونُ فِي الْغَدِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُسْلِمُ التُّرْكِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي بِلَادِهِ مَنْ كُتُبِ دِينِهِ إِلَّا تَرْجَمَةً لِلْقُرْآنِ بِالصِّفَةِ الَّتِي عَرِفْتَ أَغْلَاطَهَا وَقُصُورَهَا؟ نَعَمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ أَنْفُسَهُمْ سَيُفَسِّرُونَهَا لَهُ بِمَا يَزِيدُهُ بُعْدًا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيُعِدُّهُ لِلْكُفْرِ بِهِ وَعَدَاوَتِهِ وَعَدَاوَةِ أَهْلِهِ، إِنْ طَالَ أَمْرُ اسْتِبْدَادِهِمْ فِيهِ.
لَا تَقُلْ: وَمَا يَمْنَعُ بَقِيَّةُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْهُمْ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِالتُّرْكِيَّةِ تَفْسِيرًا يُصَحِّحُ الْأَغْلَاطَ وَيَدْفَعُ الشُّبَهَاتِ؟ فَإِنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مَا عَلِمَتْ يَمْنَعُونَ هَذَا أَيْضًا، وَيَنْشُرُونَ تَفَاسِيرَ مَلَاحِدَتِهِمُ الْمُؤَيِّدَةَ لِغَرَضِهِمْ، وَهُمْ يَسْتَمِدُّونَهَا مِنْ خُصُومِ الْإِسْلَامِ كَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَشَيَاطِينِ السِّيَاسَةِ الْأُورُبِّيَّةِ، وَمَلَاحِدَةِ الْمَادِّيَّةِ، دَعْ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ أَوِ الْكُفْرُ.
أَذْكُرُ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
(١٥: ٩٩) بَلَغَنِي مِنْ عَالَمٍ عَرَبِيٍّ أَقَامَ فِي الْآسِتَانَةِ سِنِينَ كَثِيرَةً يُخَالِطُ عُلَمَاءَهُمْ عَنْ عَالِمٍ تُرْكِيٍّ أَعْرِفُهُ، وَكُنْتُ أُعِدُّهُ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَائِهَا الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّدَيُّنِ وَمَعْرِفَةِ حَالِ الْعَصْرِ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ الْأَوَّلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ: أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ لَمْ تُفْرَضْ إِلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلُوا فِي الْعِلْمِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِبَادَةُ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَكْفِي هَذَا التَّأْوِيلُ لِإِبْطَالِ جَمِيعِ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ الْيَقِينَ أَمْرٌ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَيُمْكِنُ إِضْلَالُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَفِي التَّحَكُّمِ فِيمَا يَطْلُبُ الْيَقِينُ فِيهِ.
وَنَقُولُ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الضَّلَالَةِ (أَوَّلًا) : إِنَّهَا طَعْنٌ صَرِيحٌ فِي النَّبِيِّ الْأَعْظَمِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًا، وَذَلِكَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ
305
الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ السَّبْعَ الْمَثَانِ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالصَّدْعِ بِهِ، وَتَهْوِينِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْبَائِهِ بِكِفَايَتِهِ تَعَالَى أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْهُمْ. بَعْدَ هَذَا قَالَ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (١٥: - ٩٧ - ٩٩) وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمَوْتُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَنَقَلُوا شَوَاهِدَ لَهُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَفَسَّرُوا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٧٤: ٤٦، ٤٧).
(ثَانِيًا) إِنَّ أَصْلَ الْيَقِينِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ فَالْيَقِينُ فِي الْإِسْلَامِ مَبْدَأٌ لَا غَايَةٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ تَلْقَى هَذَا التُّرْكِيُّ الدِّينَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ ; لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَقِينًا لَا يَكُونُ إِيمَانًا، وَلَيْسَ فَوْقَ الْيَقِينِ غَايَةٌ تَكُونُ هِيَ الزِّيَادَةَ، وَفِي هَذَا الْبَحْثِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ.
(ثَالِثًا) إِنَّ الْيَقِينَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَصْدِيقُ الْإِنْسَانِ فِي الدِّينِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ وَنَحْوِهُ كَالْمَجِيءِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ
بِهِ عَمَّا يَرُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَارِجِ بِذَاتِهِ أَوْ بِأَسْبَابِهِ كَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ الْخَبَرِيِّ، أَوِ الْمُنْتَزَعِ مِنَ الْمَعْلُومِ الْخَارِجِيِّ، دُونَ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (١٤: ١٧) وَقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (٦٣: ١٠) وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (٦: ٦١).
وَنَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَا يُدَافِعُ بِهِ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مِنْ مَقَاصِدَ التَّفْسِيرِ لَا مِنَ الِاسْتِطْرَادِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ. وَمَا ضَعُفَ اهْتِدَاءُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا بِخُلُوِّ تَفْسِيرِهِ مِنْ تَطْبِيقِ عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَدَفْعِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَصُدُّهُمْ عَنْهُ.
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ بَيَّنَ تَعَالَى فِي الِاسْتِطْرَادِ الْخَاصِّ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كِتَابَةِ رَحْمَتِهِ لِلَّذِينِ يَتْبَعُونَهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ فِي مُتَّبِعِيهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ بَعْدَ بَعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُتَّبِعِينَ لِمُوسَى حَقَّ الِاتِّبَاعُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى هُدًى وَحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَإِنَّ مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مِنَ الْحَصْرِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ كَمَا
306
أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَبَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْآيَةِ حَالَ خَوَاصِّ أَتْبَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ حَقَّ الِاتِّبَاعُ، عَاطِفًا إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُهْتَدِينَ بِاتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ:.
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ أَيْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى (أَيْضًا) جَمَاعَةٌ عَظِيمَةٌ يَهْدُونَ النَّاسَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْدِلُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ إِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ، لَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، وَلَا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ وَالرِّشَى. فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ كَانُوا فِي عَصْرِهِ وَبَعْدَ عَصْرِهِ حَتَّى بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ضَيَاعِ أَصْلِ التَّوْرَاةَ ثُمَّ وُجُودِ النُّسْخَةِ الْمُحَرَّفَةِ بَعْدَ السَّبْيِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ الْعَظِيمَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَهْلِ
الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. وَهَذَا مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ لِلْحَقَائِقِ، وَعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا (٣: ٧٥) وَقِيلَ فِي وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ: إِنَّهُ ذَكَرَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِهِ فِي مُقَابِلِ مُتَّخِذِي الْعِجْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْضَ قَوْمِهِ لَا كُلَّهُمْ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى بُعْدٍ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ بُعْدِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ قِصَّةِ الْعِجْلِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ قَوْلَهُ: " يَهْدُونَ وَيَعْدِلُونَ " لِلْحَالِ الْمُفِيدِ الِاسْتِمْرَارِ (قُلْنَا) : إِنَّ أَمْثَالَهُ مِمَّا حَكَى فِيهِ حَالَ الْغَابِرِينَ وَحْدَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَثِيرٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّعْبِيرَ لِتَصْوِيرِ الْمَاضِي فِي صُورَةِ الْحَاضِرِ، وَمَا هُنَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى إِلَى زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِمَّنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا كُلَّمَا بَلَغَتْ أَحَدًا مِنْهُمُ الدَّعْوَةُ قَبْلَهَا وَأَسْلَمَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصْفِهِمْ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ.
قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْأُمَّةِ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ (٣: ١٩٩) وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي هَذَا، بَلِ السِّيَاقِ يُنَافِيهِ ; لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَالْمُتَبَادَرُ فِيهَا أَنَّهَا فِي خَوَاصِّ قَوْمِ مُوسَى فِي عَهْدِ مُوسَى، وَبَعْدَ عَهْدِهِ وَمِنْهُمُ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْقُضَاةُ الْعَادِلُونَ، كَمَا يُعْلَمُ بِالْقَطْعِ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. فَالْآيَاتُ فِي الْخِيَارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: (١) الصَّرِيحَةُ فِي الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَآمَنُوا قَبْلَ إِيمَانِهِمْ أَوْ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (٢: ١٢١) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ
307
(٢٨: ٥٢ - ٥٤) الْآيَاتِ وَمِثْلُهُنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالرَّعْدِ وَالْإِسْرَاءِ وَالْقَصَصِ وَالْعَنْكَبُوتِ إِلَخْ.
(٢) الصَّرِيحَةُ فِيِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَقَامُوا مَعَهُ، ثُمَّ فِي
عَهْدٍ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَى عَهْدِ الْبِعْثَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ بُلُوغِ دَعْوَتِهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. (٣) الْمُحْتَمِلَةُ لِلْقِسْمَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ (٣: ١١٣ - ١١٥) إِلَخْ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ [فِي ص٥٨ - ٦١ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ].
وَفِي تَفْسِيرِ الْأُمَّةِ هُنَا خُرَافَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةُ ذَكَرَ بَعْضَهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي كَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ سِبْطًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَارُوا فِي نَفَقٍ مِنَ الْأَرْضِ فَخَرَجُوا مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ إِلَخْ، وَذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا بِدُونِ سَنَدٍ. وَابْنُ جَرِيجٍ عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ وَرِوَايَتِهِ وَعِبَادَتِهِ شَرُّ الْمُدَلِّسِينَ تَدْلِيسًا ; لِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ عَنْ ثِقَةٍ، وَأَئِمَّةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لَا يَعْتَدُّونَ بِشَيْءٍ يَرَوْنَهُ بِغَيْرِ تَحْدِيثٍ، وَنَقَلَ هَذِهِ الْخُرَافَةِ كَثِيرُونَ، وَزَادُوا فِيهَا مَا عَزَوْهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْضًا وَبَحَثُوا فِيهَا مَبَاحِثَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحْكَى.
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ هَذَا سِيَاقٌ آخَرُ مِنْ أَخْبَارِ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي كُلِّ مَا يَقْصِدُ بِهِ مِنَ الْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ. قَالَ تَعَالَى:.
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا أَيْ: وَفَرَّقْنَا قَوْمَ مُوسَى الَّذِينَ كَانَ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَمِنْهُمُ الظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ - قَطَّعْنَاهُمْ فَجَعَلْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قِطْعَةً، أَيْ فِرْقَةً تُسَمَّى أَسْبَاطًا، أَيْ أُمَمًا وَجَمَاعَاتٍ يَمْتَازُ كُلُّ مِنْهَا بِنِظَامٍ خَاصٍّ فِي مَعِيشَتِهِ وَبَعْضِ شُئُونِهِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي مُشَارِبِ مَائِهِمْ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى السِّبْطِ - بِكَسْرِ السِّينِ - أَنَّهُ وَلَدُ الْمَوْلُدِ
مُطْلَقًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِوَلَدِ الْبِنْتِ. وَأَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَلَائِلُ أَوْلَادِهِ الْعَشَرَةِ -
308
أَيْ مَا عَدَا لَاوِي - وَسَلَائِلُ وَلَدَيِ ابْنِهِ يُوسُفَ وَهُمَا (إفرايم ومنسى) وَأَمَّا سُلَالَةُ لَاوِي فَنِيطَتْ بِهَا خِدْمَةُ الدِّينِ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَاطِ، وَلَمْ تَجْعَلْ سِبْطًا مُسْتَقِلًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فَالْأَسْبَاطُ بَيَانٌ لِلْفِرَقِ وَالْقِطَعِ الَّتِي هِيَ أَقْسَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِيُعْلَمَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، كَمَا سُمِّيَتِ الْفِرَقُ فِي الْعَرَبِ بِالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ مَعْنَى الْأَسْبَاطِ الِاصْطِلَاحِيِّ. وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ أَفْرَادِهَا رَابِطَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ نِظَامٌ وَاحِدٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِثْلُ هَذَا مَعَ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (٢: ٦٠) فَأَفَادَ مَا هُنَا أَنَّ قَوْمَهُ اسْتَسْقَوْهُ، وَمَا هُنَاكَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى رَبَّهُ لِقَوْمِهِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ حَصَلَ. وَالِاسْتِسْقَاءُ طَلَبُ الْمَاءِ لِلسُّقْيَا، وَتَعْرِيفُ الْحَجَرِ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَكِّيَّةِ (الْأَعْرَافِ) وَالْمَدَنِيَّةِ (الْبَقَرَةِ) لِتَعْظِيمِ جُرْمِهِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالصَّخْرِ - أَوْ تَعْظِيمِ شَأْنِهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا، وَكَلَاهُمَا عَظِيمٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَهْدِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ التَّوْرَاةِ، إِذْ عَيَّنَتْ مَكَانَهُ مِنْ جَبَلِ حوريت. وَالِانْبِجَاسُ وَالِانْفِجَارُ وَاحِدٌ يُقَالُ: بِجَسَهُ أَيْ فَتْحَهُ فَانْبَجَسَ وَبِجَّسَهُ (بِالتَّشْدِيدِ) فَتَبَجَّسَ، كَمَا يُقَالُ: فَجَّرَهُ (كَنَصَرَهُ) إِذَا شَقَّهُ فَانْفَجَرَ وَفَجَّرَهُ (بِالتَّشْدِيدِ) فَتَفَجَّرَ - وَزَعَمَ الطَّبَرْسِيُّ أَنَّ الِانْبِجَاسَ خُرُوجُ الْمَاءِ بِقِلَّةِ، وَالِانْفِجَارَ خُرُوجُهُ بِكَثْرَةٍ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهِمَا ; لِإِفَادَةِ أَنَّهُ خَرَجَ أَوَّلًا قَلِيلًا ثُمَّ كَثُرَ. وَأَدَقُّ مِنْهُ قَوْلُ الرَّاغِبِ: الِانْبِجَاسُ أَكْثَرَ مَا يُقَالُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ ضَيِّقٍ، وَالِانْفِجَارُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، وَفِيمَا يَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ وَاسِعٍ، فَاسْتَعْمَلَ حَيْثُ ضَاقَ الْمُخْرِجُ اللَّفْظَانِ - أَيْ وَهُوَ حَجْرُ مُوسَى. وَقَالَ: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (١٨: ٣٣) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا (٥٤: ١٢) وَلَمْ يَقِلْ بَجَّسْنَا اهـ.
أَقُولُ: وَلَكِنَّ رُوَاةَ اللُّغَةِ فَسَّرُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، وَذَكَرُوا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ
مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبَجْسُ انْشِقَاقٌ فِي قِرْبَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ أَرْضٍ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فَلَيْسَ بِانْبِجَاسٍ وَأَنْشَدَ
وَكَيْفَ غَرَبِي دَالِجٍ تَبَجَّسَا
وَالسَّحَابُ يَتَبَجَّسُ بِالْمَطَرِ وَالِانْبِجَاسُ عَامٌّ، وَالنُّبُوعُ لِلْعَيْنِ خَاصَّةً، وَبَجَسْتَ الْمَاءَ فَانْبَجَسَ أَيْ فَجَّرْتَهُ فَانْفَجَرَ، وَبِجَّسَ بِنَفْسِهِ يُبَجِّسُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَسَحَابٌ بَجِسٌ، وَتَبَجَّسَ أَيِ انْفَجَرَ اهـ. وَفِي الْأَسَاسِ: انْبَجَسَ الْمَاءُ مِنَ السَّحَابِ وَالْعَيْنِ: انْفَجَرَ وَتَبَجَّسَ تَفَجَّرَ إِلَخْ... وَسَحَابٌ بَجِسٌ وَبَجَّسَهَا اللهُ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
309
لَهُ قَائِدٌ دُهْمُ الرَّبَابِ خَلْفَهُ رَوَايَا يُبَجِّسْنَ الْغَمَامَ الْكَنَهْوَرَا
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى حِينَ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ فَاسْتَسْقَى رَبَّهُ لَهُمْ (كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ) بِأَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَضَرَبَهُ فَنَبَعَتْ مِنْهُ عَقِبَ ضَرْبِهِ إِيَّاهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنَ الْمَاءِ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ أَيْ: قَدْ عَرِفَ أُنَاسُ كُلِّ سِبْطٍ الْمَكَانَ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ إِذْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لَا يَأْخُذُ الْمَاءَ إِلَّا مِنْهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ، وَاتِّقَاءِ ضَرَرِ الزِّحَامِ. وَفِي أَوَّلِ سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ: أَنَّ عَدَدَ الرِّجَالِ الصَّالِحِينَ لِلْحَرْبِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَزِيدُ عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ فَمَا فَوْقَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُ الْجَمِيعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا لَا يَقِلُّ عَنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ (مِلْيُونَيْنِ) وَلِلْمُؤَرِّخِ النَّقَّادِ الْحَكِيمِ ابْنِ خَلْدُونَ تَشْكِيكٌ مَعْرُوفٌ فِيمَا قَالَهُ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلتَّوْرَاةِ فِي كَثْرَةِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَصَّلَهَا فِي أَوَّلِ مُقَدَّمَةِ تَارِيخِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الشَّكُّ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا أُلُوفًا كَثِيرَةً أَوْ عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي سَيْنَاءَ مَوَارِدُ لِلْمَاءِ غَيْرَ تِلْكَ الْعُيُونِ الَّتِي انْفَجَرَتْ مِنْ صَخْرٍ فِي جَبَلِ (حوريت) مُتَّصِلٍ بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِسَاحَةُ ذَلِكَ الصَّخْرِ وَاسِعَةً جِدًّا، وَأَنْ يَكُونَ السَّهْلُ أَمَامَهُ أَفْسَحَ لِيَسَعَ الْأُلُوفَ مِنَ الْأَسْبَاطِ يَرِدُونَ وَيُصْدِرُونَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ (حوريت) الَّذِي أَمَرَ اللهُ مُوسَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى صَخْرٍ فِيهِ فَيَجِدُهُ - أَيِّ الرَّبَّ - عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرَ مِنْهُ الْمَاءُ، هَلْ هُوَ جَبَلُ سَيْنَاءَ نَفْسُهُ؟ أَمْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟ - وَيَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الصَّخْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْوَادِي الَّذِي يُسَمَّى (وَادِي اللجَاءِ) وَيُعَيِّنُ بَعْضُ الرُّهْبَانِ مَكَانَهُ، وَلَا يَعْنِينَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِلَّا أَنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عِنْدَنَا مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الْحَجَرِ وَحَجْمِهِ وَشَكْلِهِ كَكَوْنِهِ كَرَأْسِ الشَّاةِ أَوْ أَكْبَرَ، وَكَوْنِهِ يُوضَعُ فِي الْجَوَالِقِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى ثَوْرٍ أَوْ حِمَارٍ - كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا بِالْقَبُولِ أَيُّهَا أَغْرَبُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى احْتِرَامِهِ كَثِيرًا مِنْهَا.
وَفِي عَرَائِسِ الْمَجَالِسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَقْرَعُ لَهُمْ أَقْرَبَ حَجَرٍ فَتَنْفَجِرُ مِنْهُ عُيُونٌ... فَقَالُوا إِنْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مِتْنَا عَطَشًا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِأَنْ يُكَلِّمَ الْحِجَارَةَ فَتُعْطِيَهُ، فَقَالُوا: كَيْفَ بِنَا إِذَا مَضَيْنَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حِجَارَةٌ؟ فَأَمْرُ اللهِ مُوسَى أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ حَجَرًا فَحَيْثُمَا نَزَلَ أَلْقَاهُ! إِلَخْ. وَهَذَا مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي اخْتَلَقَهَا وَهْبٌ، لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْلَا جُنُونُ الرُّوَاةِ بِكُلِّ مَا يُقَالُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَا قَبِلُوا مِنْ مَثَلِهِ أَنْ يَشْرَبَ مِئَاتُ الْأُلُوفِ أَوِ الْمَلَايِينِ مِنْ حَجَرٍ صَغِيرٍ يُحْمَلُ، كَمَا قَبِلُوا مِنْ مَزَاعِمِهِ
310
أَنَّ رَأْسَ الرَّجُلِ مِنْ قَوْمِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَالْقُبَّةِ الْعَظِيمَةِ! ! وَقَدْ عَدُّوهُ مَعَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ ثِقَةً فِي الرِّوَايَةِ!.
وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ الْغَمَامُ: السَّحَابُ أَوِ الْأَبْيَضُ أَوِ الرَّقِيقُ مِنْهُ، أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُمُ الْغَمَامَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ ظِلَّهُ فَيَقِيهِمْ لَفْحَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنْ حَيْثُ لَا يُحْرَمُونَ فَائِدَةَ نُورِهَا وَحَرِّهَا الْمُعْتَدِلِ، وَتُسَمَّى السَّحَابَةُ ظُلَّةً بِالضَّمِّ كَكُلِّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقُ. وَلَوْلَا كَثْرَةُ السَّحَابِ فِي التِّيهِ لَأَحْرَقَتْهُمُ الشَّمْسُ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَجَرٌ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ.
وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى الْمَنُّ مَادَّةٌ بَيْضَاءُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ (الْجَوِّ) كَالطَّلِّ حُلْوَةُ الطَّعْمِ تُشْبِهُ الْعَسَلَ، وَإِذَا جَفَّتْ تَكُونُ كَالصَّمْغِ، وَقَدْ كَثُرَ نُزُولُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّ طَعْمَهُ كَطَعْمِ قَطَائِفَ بِالزَّيْتِ، وَمَنْظَرَهُ
كَمَنْظَرِ الْمُقَلِ، وَعُبِّرَ عَنْهُ فِيهَا بِخُبْزِ السَّمَاءِ. وَقَدْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْخُبْزِ. وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ بِالترنجبين. وَقَالَ: (الدُّكْتُورُ بُوسْتُ) فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَبَهَ بَيْنَ هَذَا الْمَنِّ، وَالْمَنِّ الطِّبِّيِّ الَّذِي هُوَ عَصِيرٌ مُنْعَقِدٌ مِنْ شَجَرَةِ الدَّرْدَارِ - وَلَا هُوَ أَيْضًا الْمَنُّ الَّذِي يَتَكَوَّنُ مِنْ شَجَرَةِ الطَّرْفَاءِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (١) إِنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لَمْ يَرَوْهُ قَبْلَ رِحْلَتِهِمْ. (٢) لَا يُوجَدُ الْمَنُّ الْعَرَبِيُّ إِلَّا تَحْتَ الطَّرْفَاءِ وَفِي أَوَّلِ الصَّيْفِ فَقَطْ. (٣) يُمْكِنُ حِفْظُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً وَلَا يُدَوِّدُ. (٤) لَا يُمْكِنُ طَحْنُهُ أَوْ دَقُّهُ. (٥) يَتَكَوَّنُ الْمَنُّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مُدَّةَ الْفَصْلِ اهـ. وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ لَا حَاجَةَ إِلَى شَرْحِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ إِثْبَاتَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَنَّ كَانَ " عَجِيبَةً " أَيْ مُعْجِزَةً أَوْ كَرَامَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا آتَى اللهُ كَلِيمَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى قَوْمِهِ لِإِصْلَاحِهِمْ. وَقَدْ كَانَ أَفْسَدَهُمُ اسْتِعْبَادُ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ، وَيَكْفِي أَنْ تَكُونَ الْمُعْجِزَةُ فِي نُزُولِهَا بِتِلْكَ الْكَثْرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَكْفِي تِلْكَ الْأُلُوفَ، وَتَقُومُ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْخُبْزِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ هُوَ فِي (السَّلْوَى) فَقَدْ وَافَقَ غَيْرَهُ فِي أَنَّهَا هِيَ طَيْرُ السِّمَّانِ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُهَاجِرُ مِنْ أَفْرِيقِيَّةَ (وَلَا سِيَّمَا مِصْرُ) فَتَصِلُ إِلَى سَيْنَاءَ تَعِبَةً فَتَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ تَسِفُّ فَتُؤْخَذُ بِالْيَدِ. وَقِيلَ: طَيْرٌ تُشْبِهُ السِّمَانَ وَلَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنْهَا.
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ هُنَا قَوْلٌ مُقَدَّرٌ يَكْثُرُ مِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ - أَوْ أَنْزَلْنَا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِمْ قَائِلِينَ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، فَوُضِعَ هَذَا الْوَصْفُ لِلْمَنِّ وَالسَّلْوَى مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ; لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمِنَّةِ بِهِمَا. وَإِسْنَادُ الرِّزْقِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الْعَظَمَةِ تَأْكِيدٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَيُقَدَّرُ مِثْلَ هَذَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُجَاوِرِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ وَلِمَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ هُنَالِكَ إِنَّمَا كَانَ بِمَا وَقَعَ لِأَجْدَادِهِمْ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكَايَةِ فِي آيَةِ
311
الْأَعْرَافِ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا كَانَ مُوَجَّهًا أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ ; وَلِذَلِكَ اتَّحَدَ عَجُزُ الْآيَةِ فِي السُّورَتَيْنِ وَهُوَ:.
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ وَمَا ظَلَمُونَا بِكُفْرِهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَلَكِنْ كَانَ دَأْبُهُمْ ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ دُونَ رَبِّهِمُ الَّذِي لَا يَنَالُهُ تَأْثِيرُ أَحَدٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَكَانُوا يَجْنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِ النِّعَمِ وَالْجُحُودِ وَغَيْرِهِمَا آنًا بَعْدَ آنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَالِ، وَفِي التَّوْرَاةِ بِالتَّفْصِيلِ. فَتَقْدِيمُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى يَظْلِمُونَ الْمُفِيدُ لِقَصْرِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنْ كُفْرَهُمْ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى يَضُرُّهُمْ وَلَا يَضُرُّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَرْفُوعًا " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا ". (وَمِنْهُ) " يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي " وَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْقَصْرِ أَنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ فَيَنْفِي عَنْهُمْ ظُلْمَهُ، وَلَمَّا اتَّصَلُوا بِالنَّاسِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمُ الْعَادِلُونَ وَمِنْهُمُ الظَّالِمُونَ، وَمِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَظْلَمَ. وَإِنْ كَانَ ظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ مِمَّا يَجْهَلُ أَنَّهُ ظُلْمٌ لَهَا ; لِأَنَّهُ يَتَجَلَّى لَهُ فِي صُورَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْمَضَرَّةَ، وَهَكَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ. يَنْوُونَ بِظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ جَهَالَةً مِنْهُمْ. وَلَا يَزَالُ طَوَائِفُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقْدِمُونَ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ يَقْصِدُونَ بِهَا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَهِيَ تُنْذِرُ بِخَطَرٍ كَبِيرٍ، وَشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ، كَالْفِتْنَةِ الَّتِي أَثَارُوهَا فِي بِلَادِ الرُّوسِيَّةِ بِتَعَالِيمَ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُسْرِفَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْبَلْشَفِيَّةِ، وَمُحَاوَلَةِ انْتِزَاعِ فِلَسْطِينَ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَضْمُونِ التَّمَادِي وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الظُّلْمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِجُمْلَةِ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ إِذْ هِيَ تُفِيدُ أَنَّ هَذَا صَارَ دَأْبًا وَعَادَةً لَهُمْ.
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُون
312
تَقَدَّمَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيْنَ مَا هُنَا وَمَا هُنَالِكَ فُرُوقٌ فِي التَّعْبِيرِ نُبَيِّنُهَا هُنَا فَنَقُولُ:.
(١، ٢) قَالَ تَعَالَى هُنَا: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لِأَنَّ الْقِصَّةَ خِطَابٌ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَالْحِكَايَةُ فِيهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِكَايَةٌ عَنْ غَائِبٍ، وَالْأَصْلِ أَنْ يَذْكُرَ ضَمِيرُهُ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَهُمْ) وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا (٢: ٥٨) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُوعِيَ هُنَالِكَ السِّيَاقُ، وَفِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَبْلَهَا: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ (٢: ٥٠)، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى.... (٢: ٥١) فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ: وَإِذْ قُلْنَا وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا " لَكُمْ " كَمَا قَالَ هُنَا: (لَهُمْ) ; لِأَنَّ الْقَوْلَ كَانَ لِأَجْدَادِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أُلُوفِ السِّنِينَ لَا لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: " لَهُمْ " أَيْضًا ; لِأَنَّ السِّيَاقَ لَمْ يَكُنْ حِكَايَةً عَنْ غَائِبٍ مَجْهُولٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ، بَلْ هُوَ تَذْكِيرُ الْخَلَفِ بِمَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِنْ شُئُونِ السَّلَفِ ; لِأَنَّهُمْ وَارِثُو أَخْلَاقَهُمْ وَغَرَائِزَهُمْ وَعَادَاتَهُمْ، فَهُوَ إِذَنْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْخَلَفِ الْحَاضِرِ وَالسَّلَفِ الْغَابِرِ، وَزِيَادَةُ " لَهُمْ " تَلْصِقُهُ بِالْغَائِبِ وَحْدَهُ فَتَكُونُ حِكَايَتُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَحِكَايَتِهِ لِعَرَبِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، فَتَأَمَّلْ!.
(٣) قَالَ هَاهُنَا: اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (ادْخُلُوا) وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا أَتَمُّ ; لِأَنَّ السُّكْنَى تَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ وَلَا عَكْسَ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْفِعْلَيْنِ بِمَا يَلِيهَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمَا وَهُوَ:.
(٤، ٥) قَالَ هَاهُنَا: وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا (٢: ٥٨) فَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ هُنَالِكَ بِـ " الْفَاءِ " ; لِأَنَّهُ بَدْءَهُ يَكُونُ عَقِبَ الدُّخُولِ كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ وَالثَّمَرَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْقَرْيَةِ - وَالسُّكْنَى أَمْرٌ مُمْتَدٌّ يَكُونُ الْأَكْلُ فِي أَثْنَائِهِ لَا عَقِبَهُ، بَلْ لَا يُقَالُ عَقِبَ السُّكْنَى إِلَّا فِيمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ السُّكْنَى ; وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ هُنَا بِـ " الْوَاوِ " الَّتِي تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا بِلَا مُلَاحَظَةِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْقِيبٍ، وَقَدْ وُصِفَ هُنَالِكَ الْأَكْلُ بِالرَّغَدِ وَهُوَ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ، وَالتَّبْشِيرُ بِهِ يُنَاسِبُ حَالَ الدُّخُولِ، إِذِ الْأَمْرُ لَدَى الدَّاخِلِ مَجْهُولٌ.
(٦) قَالَ هَاهُنَا: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقَدَّمَ هُنَالِكَ مَا أَخَّرَ
هُنَا، وَأَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ أَيْ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَرْتِيبٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهِ بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا لَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُقَدَّمَ فِي الذَّكَرِ أَرْجَحُ أَوْ أَهَمُّ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ لِذَاتِهِ. فَكَانَ الِاخْتِلَافُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَقْدِيمِ هَذَا وَتَأْخِيرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ عَكْسِهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (حِطَّةٌ) وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ تُحَطَّ عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ
313
وَخَطَايَاهُمْ كَقَوْلِكِ اللهُمَّ غُفْرًا وَبَيْنَ دُخُولِ بَابِ الْقَرْيَةِ فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِالتَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَنْكِيسِ الرُّؤُوسِ شُكْرًا لِجَلَالِهِ عَلَى نُوَالِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا.
(٧) قَالَ هَاهُنَا: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (تُغْفَرْ) بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَرَفْعِ (خَطِيئَاتُكُمْ) وَهُوَ يُنَاسِبُ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (نَغْفِرْ) بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءَ وَنَصْبِ " خَطِيئَاتِكُمْ " بِكَسْرِ تَائِهًا، وَهُوَ يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَوْنُ " سَنَزِيدُ " لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ. وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَاحِدٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (خَطِيئَتَكُمْ) بِالْإِفْرَادِ. وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى خَطِيئَةٍ خَاصَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (خَطَايَاكُمْ) وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي فِعْلِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا هُنَا. وَكِتَابَةُ الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ تَحْتَمِلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ لَفْظِيَّةٌ وَهِيَ التَّوَسُّعُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ قِرَاءَتِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ لِلْخَطِيئَةِ أَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ لَهُمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً كَوَاحِدَةٍ أَوْ كَثِيرَةً.
(٨) قَالَ هَاهُنَا: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بِدُونِ وَاوٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَاذَا بَعْدُ الْمَغْفِرَةِ؟ أَيْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمْ جَزَاءً حَسَنًا عَلَى
إِحْسَانِهِمْ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَسَنَزِيدُ بِالْعَطْفِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ يَكُونُ طَرْحُ الْوَاوِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لَيْسَ مُشَارِكًا لِلْمَغْفِرَةِ فِيمَا جَعَلَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْخُضُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ بِحَطِّ الْأَوْزَارِ.
(٩) قَالَ هَاهُنَا: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وَفِيهِ زِيَادَةُ (مِنْهُمْ) عَلَى مَثَلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَبَبِهَا مَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إِلَخْ. مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِ ضَمِيرِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ لِرَبْطِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْفَرْقِ السَّابِعِ آنِفًا، وَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَمَا قِيلَ، بَلْ هُوَ الْأَصْلُ هَاهُنَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَالِكَ وَإِنْ كَانَ حِكَايَةً عَنِ الْغَائِبِينَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سِيَاقِ مُخَاطَبَةِ خَلَفِهِمُ الْحَاضِرِينَ.
وَأَمَّا مَعْنَى تَبْدِيلِهِمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ عَصَوْا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَخَالَفُوا الْأَمْرَ مُخَالَفَةً تَامَّةً لَا تَحْتَمِلُ الِاجْتِهَادَ وَلَا التَّأَوُّلَ، فَلَمْ
314
يُرَاعُوا ظَاهِرُ مَدْلُولِ لَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ وَالْمَقْصِدَ مِنْهُ، حَتَّى كَأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ غَيْرُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَلَوْ قَالَ فَبَدَّلُوا قَوْلًا بِقَوْلٍ، أَوْ فَبَدَّلُوا مَا قِيلَ لَهُمْ، لَمْ يَدُلْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كُلِّهِ.
وَلَا ثِقَةَ لَنَا بِشَيْءٍ مِمَّا رُوِيَ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ مِنْ أَلْفَاظٍ عِبْرَانِيَّةٍ وَلَا عَرَبِيَّةٍ، فَكُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَضْعِيَّةِ، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَالِكَ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا " قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمُ وَقَالُوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٌ: " وَفِي رِوَايَةِ " شُعَيْرَةٍ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ السُّورَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي وَهْبٍ، وَهُمَا صَاحِبَا الْغَرَائِبِ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِسَمَاعِ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ، وَهَذَا مَدْرَكُ عَدَمِ اعْتِمَادِ الْأُسْتَاذِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهُ، وَلَكِنْ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ شَيْءٌ يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي سَنَدِهَا.
(١٠ - ١٢) قَالَ هَاهُنَا: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ
وَقَالَ هُنَالِكَ: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٢: ٥٩) فَالِاخْتِلَافُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:.
(أَوَّلُهَا) بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْزَالِ وَهُوَ لَفْظِيٌّ إِذِ الْإِرْسَالُ مِنْ فَوْقِ عَيْنِ الْإِنْزَالِ: (ثَانِيهَا) بَيْنَ الْمُضْمَرِ (عَلَيْهِمْ) وَالْمُظْهِرِ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْمُرَادُ مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ الرِّجْزَ عَذَابٌ كَانَ خَاصًّا بِالَّذِينِ ظَلَمُوا لَا عَامًّا، فَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: " عَلَيْهِمْ " لِتَصْرِيحِهِ بِسَبَبِيَّةِ الظُّلْمِ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ " فَأَرْسَلَنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ " لَكَانَ تَكْرَارُ التَّعْلِيلِ بِالظُّلْمِ مُنَافِيًا لِلْبَلَاغَةِ، وَهَذَا التَّكْرَارُ مُنْتَفٍ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ ; التَّعْلِيلَ فِيهَا بِالْفِسْقِ لَا الظُّلْمِ:.
(ثَالِثُهَا) بَيْنَ (يَظْلِمُونَ) وَ (يَفْسُقُونَ) وَفَائِدَتِهِ: بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ نَقْصٌ لِلْحَقِّ أَوْ إِيذَاءٌ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلْغَيْرِ، وَبَيْنَ الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الظُّلْمِ لِلنَّفْسِ أَوْ لِلنَّاسِ. وَحَسُنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ آخِرًا. وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ الَّذِي تَضْطَرِبُ لَهُ الْقُلُوبُ أَوْ يَضْطَرِبُ لَهُ النَّاسُ فِي شُئُونِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١٣٤ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرْنَا فِيهَا قَوْلَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الرِّجْزَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى الظَّالِمِينَ فِي قِصَّةِ دُخُولِ الْقَرْيَةِ هُوَ الطَّاعُونُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ عَزَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هَدًى وَمَوْعِظَةً، وَجَعَلَ قِصَصَ الرُّسُلِ فِيهِ عِبْرَةً وَتَذْكِرَةً لَا تَارِيخَ شُعُوبٍ وَمَدَائِنَ، وَلَا تَحْقِيقَ وَقَائِعَ وَمَوَاقِعَ. وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ نَتَّقِيَ الظُّلْمَ
وَالْفِسْقَ. وَنَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُ الْأُمَمَ عَلَى ذُنُوبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَاقَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُحِلْ دُونَ عِقَابِهِ، مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمَزَايَا وَالْفَضَائِلِ، وَكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ. وَمِنْهُ السِّيَاقُ الْآتِي:.
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (٢: ٦٥) إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَلَا أَعْلَمُ لِلْقِصَّةِ ذِكْرًا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُقَدَّسَةِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَهَتُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَمَا نَزَلْ عَلَيْهِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ أَوْ لَمَا آمَنَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ مَا حُكِيَ لَهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْقَسَمِ، وَإِذَا قَالَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ إِنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ أَوِ التَّارِيخِيَّةِ غَيْرِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِهِمْ قُلْنَا أَوَّلًا: إِنَّ آيَاتِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَقِيَ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ - وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٢٩: ٤٨) إِلَخْ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ يُصَدِّقُهُمْ بَعْدَ مُعَاشَرَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ بِكُلِّ مَا يَحْكُونَ عَنْ كُتُبِهِمْ بَلْ كَذَّبَهُمْ عَنِ اللهِ
316
تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ يُصَدِّقُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ غَيْرَ مَنْقُولٍ عَنْ كُتُبِهِمْ بِالْأَوْلَى، وَهَاكَ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ بِمَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا، وَلَا نَعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا:.
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالسُّؤَالُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّقْرِيعِ، وَالْإِدْلَالِ بِعِلْمِ مَاضِيهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أَيْ قَرِيبَةً مِنْهُ، رَاكِبَةً لِشَاطِئِهِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أَيِ اسْأَلْ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانُوا يَعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ، وَيَتَجَاوَزُونَ حُكْمَ اللهِ بِالصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ فِيهِ إِذْ تَأْتِيهِمْ أَيْ سَمَكُهُمْ - وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمَّوْنَ السَّمَكَةَ حُوتًا
كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، وَأَهْلُ سُورِيَّةَ يَخُصُّونَ السَّمَكَةَ الْكَبِيرَةَ بِاسْمِ الْحُوتِ - وَقَدْ أُضِيفَتِ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ لَمَّا كَانَ مِنِ ابْتِلَائِهِمْ بِهَا، وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى صَيْدِهَا، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ أَيْ تَعْظِيمِهِمْ لِلسَّبْتِ، فَهُوَ مُصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ تُسْبِتُ إِذَا عَظَّمَتِ السَّبْتَ بِتَرْكِ الْعَمَلِ فِيهِ وَتَخْصِيصِهِ لِلْعِبَادَةِ (شُرَّعًا) أَيْ ظَاهِرَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ ظَاهِرَةً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ - وَهِيَ جَمْعُ شَارِعٍ كَالرُّكَّعِ السُّجَّدِ جَمْعِ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، مِنْ شَرَعَ عَلَيْهِ إِذَا دَنَا وَأَشْرَفَ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ أَيْ: وَلَا تَأْتِيهِمْ يَوْمَ لَا يُعَظِّمُونَ السَّبْتَ فِعْلًا وَتَرْكًا. قِيلَ: إِنَّهَا اعْتَادَتْ أَلَّا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ لِصَيْدِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَمِنَتْ وَصَارَتْ تَظْهَرُ فِيهِ، وَتَخْفَى فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا يَسْبِتُونَ فِيهَا لَمَّا اعْتَادَتْ مِنِ اصْطِيَادِهَا فِيهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ظُهُورَهَا وَكَثْرَتَهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ أَغْرَاهُمْ ذَلِكَ بِالِاحْتِيَالِ عَلَى صَيْدِهَا فَفَعَلُوا.
كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْبَلَاءِ بِظُهُورِ السَّمَكِ لَهُمْ نَبْلُوهُمْ أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ أَوْ نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِحَالِ مَنْ يُرِيدُ إِظْهَارَ كُنْهِ حَالِهِ لِيَتَرَتَّبَ الْجَزَاءُ عَلَى عَمَلِهِ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُودَ شَرْعِهِ.
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا أَيْ: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ حَالِ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَتْ أُمَّةٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لَا كُلُّهُمْ، وَأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةُ الْعَادِينَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَفِرْقَةُ الْوَاعِظِينَ الَّذِينَ نَهَوُا الْعَادِينَ عَنِ الْعُدْوَانِ وَوَعَظُوهُمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِرْقَةُ اللَّائِمِينَ لِلْوَاعِظِينَ الَّتِي قَالَتْ لَهُمْ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا قَضَى الله عَلَيْهِمْ بِالْهَلَكَةِ أَوِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَهُوَ إِمَّا مُهْلِكُهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ دُونَ الِاسْتِئْصَالِ، أَوِ الْمَعْنَى مُهْلِكُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ - وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ فِي (أَوْ) هُنَا هِيَ الْمَانِعَةُ لِلْخُلُوِّ مِنْ وُقُوعِ أَحَدِ الْجَزَاءَيْنِ، لَا الْمَانِعَةُ لِجَمْعِهِمَا، فَهِيَ لَا تَنْفِي اجْتِمَاعَهُمَا. وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ مَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ.
قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ: قَالَ الْوَاعِظُونَ لِلَائِمِينَ: نَعِظُهُمْ وَعْظَ عُذْرٍ
317
نَعْتَذِرُ بِهِ إِلَى رَبِّكُمْ عَنِ السُّكُوتِ عَلَى الْمُنْكَرِ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِالتَّنَاهِي عَنْهُ، وَرَجَاءً فِي انْتِفَاعِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ، وَحَمْلِهَا عَلَى اتِّقَاءِ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ. أَيْ فَنَحْنُ لَمْ نَيْأَسْ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ يَأْسَكُمْ.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ فَلَمَّا نَسِيَ الْعَادُونَ الْمُذْنِبُونَ، مَا ذَكَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ بِهِ إِخْوَانُهُمُ الْمُتَّقُونَ، بِأَنْ تَرَكُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ حَتَّى صَارَ كَالْمَنْسِيِّ فِي كَوْنِهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أَيْ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ أَيْ: أَنْجَيْنَاهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ فَاعِلُو السُّوءِ بِظُلْمِهِمْ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَحْدَهُمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أَيْ: شَدِيدٍ، مِنَ الْبَأْسِ وَهُوَ الشِّدَّةُ، أَوِ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْمَكْرُوهُ أَوِ الْفَقْرُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ لَا بِظُلْمِهِمْ فِي الِاعْتِدَاءِ فِي السَّبْتِ فَقَطْ. وَذَلِكَ أَنَّ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا تَعْلِيلٌ لِأَخْذِهِمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ بِنَاءِ الْحُكْمِ أَوِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ كُلَّ ظَالِمٍ فِي الدُّنْيَا بِكُلِّ ظُلْمٍ يَقَعُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا فِي الصِّفَةِ أَوِ الْعَدَدِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْكَيْفِ أَوِ الْكَمِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ (٣٥: ٤٥) وَقَوْلِهِ: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ بِالظُّلْمِ وَالذُّنُوبِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيهَا بِالْإِصْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا أَفَادَهُ هُنَا فِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِقَابُ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا خَاصًّا بِالْأَفْرَادِ أَوَالْجَمَّاعَاتِ الصَّغِيرَةِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ كَأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ كَانُوا بَعْضَ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَمَّا الْأُمَمُ الْكَبِيرَةُ فَهِيَ الَّتِي تَصْدُقُ عَلَيْهَا سُنَنُ اللهِ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْفِسْقُ وَالظُّلْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (٨: ٢٥) إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْفَاسِقِينَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ كَانُوا أَقَلَّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَقَدْ عَاقَبَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَافَّةً بِتَنْكِيلِ الْبَابِلِيِّينَ ثُمَّ النَّصَارَى بِهِمْ وَسَلْبِهِمْ مُلْكَهُمْ، عِنْدَمَا عَمَّ فِسْقُهُمْ، وَلَمْ يَدْفَعْ
ذَلِكَ عَنْهُمْ وُجُودُ بَعْضِ الصَّالِحِينَ فِيهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَخْلَوْنَ مِنْهُمْ:.
وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِهَلَاكِ الظَّالِمِينَ الْفَاسِقِينَ، وَنَجَاةِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنْ عَمَلِ السُّوءِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكِرِ، وَسَكَتَتْ عَنِ الْفِرْقَةِ الَّتِي أَنْكَرَتْ عَلَى الْوَاعِظِينَ وَعْظَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهَا لَمْ تَنْجُ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ بَلْ أَنْكَرَتْ عَلَى الَّذِينَ نَهَوْا، وَقِيلَ: بَلْ نَجَتْ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكِرَةً لِلْمُنْكِرِ مُسْتَقْبِحَةً لَهُ. وَلِذَلِكَ لَمْ تَفْعَلُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْهَ عَنْهُ لِيَأْسِهَا مِنْ فَائِدَةِ النَّهْيِ، وَجَزْمِهَا بِأَنَّ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَحَقُّوا عِقَابَ اللهِ بِإِصْرَارِهِمْ فَلَا يُفِيدُهُمُ الْوَعْظُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي هَذِهِ الْفِرْقَةِ حَتَّى أَقْنَعَهُ تِلْمِيذُهُ عِكْرِمَةُ بِنَجَاتِهَا. وَقَدْ رَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا قَالَ:.
(فَإِنْ قُلْتَ) : الْأُمَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ؟ مَنْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ هُمْ؟ أَمِنَ فَرِيقِ النَّاجِينَ أَمِ الْمُعَذَّبِينَ؟ (قُلْتُ) : مِنْ فَرِيقِ النَّاجِينَ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ فَرِيقِ النَّاهِينَ، وَمَا قَالُوا مَا قَالُوا إِلَّا سَائِلَيْنِ عَنْ عِلَّةِ الْوَعْظِ وَالْغَرَضِ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ يَرَوْا فِيهِ غَرَضًا صَحِيحًا لِعِلْمِهِمْ بِحَالِ الْقَوْمِ، وَإِذَا عَلِمَ النَّاهِي حَالَ الْمَنْهِيِّ، وَأَنَّهُ النَّهْيُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، سَقَطَ عَنْهُ النَّهْيُ، وَرُبَّمَا وَجَبَ التَّرْكُ لِدُخُولِهِ فِي بَابِ الْعَبَثِ. أَلَّا تَرَى أَنَّكَ لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى الْمَكَّاسِينَ الْقَاعِدِينَ عَلَى الْمَآصِرِ، وَالْجَلَّادِينَ الْمُرَتَّبِينَ لِلتَّعْذِيبِ، لِتَعِظَهُمْ وَتَكُفَّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا مِنْكَ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَبَبًا لِلتَّلَهِّي بِكَ. وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنَّمَا لَمْ يُعْرِضُوا عَنْهُ إِمَّا ; لِأَنَّ يَأْسَهُمْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ كَمَا اسْتَحْكَمَ يَأْسُ الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَخْبَرُوهُمْ كَمَا خَبَرُوهُمْ. أَوْ لِفَرْطِ حَصْرِهِمْ، وَجَدِّهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، كَمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ (١٨: ٦) اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ سُقُوطِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ وُجُوبِ تَرْكِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ مِنْ تَأْثِيرٍ مَرْجُوحٍ وَلَاسِيَّمَا إِذَا أَخَذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ أَضْعَفِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكِرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ مَا قَبْلَهَا، فَإِنِ اسْتَطَاعَ النَّهْيَ، وَسَكَتَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ مُطْلَقًا ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِي هَؤُلَاءِ السَّاكِتِينَ،
الْمُحْتَمِلَةُ حَالُهُمْ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ، وَالْيَأْسُ قَلَّمَا يَنْشَأُ إِلَّا مِنْ ضَعْفٍ فِي النَّفْسِ أَوِ الْإِيمَانِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ مِكَّاسٍ وَجَلَّادٍ وَمُدْمِنِ خَمْرٍ تَابَ وَأَنَابَ، وَالْمُحَقِّقُونَ لَمْ يَجْعَلُوا احْتِمَالَ الْأَذَى وَلَا يَقِينَهُ مُوجِبًا لِتَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا لِتَفْضِيلِهِ عَنِ الْفِعْلِ بَلْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْجَوَازِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَفْضِيلِ النَّهْيِ بِحَدِيثِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي (بَئِيسٍ) عِدَّةُ قِرَاءَاتٍ أُخْرَى بَيْنَ مُتَوَاتِرَةٍ وَشَاذَّةٍ، تَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَصْلِ صِيغَتِهِ، وَعَلَى لُغَاتِ الْعَرَبِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَهْمُوزِ: فَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ " بَئْيَسٍ " بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ - وَابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَصْلُهُ بِئْسَ بِوَزْنِ حِذْرَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ لِلتَّخْفِيفِ كَكَبِدٍ فِي كِبْدٍ، وَنَافِعٌ " بِيسٍ " عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءُ كَذِئْبٍ وَذِيبٍ أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ الذَّمِّ وُصِفَ بِهِ فَجُعِلَ اسْمًا، وَمِنَ الشَّوَاذِّ " بَيِّسٍ " كَرَيِّسٍ عَلَى قَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَإِدْغَامِهَا، وَ " بَيْسٍ " كَهَيْنٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْمُشَدِّدَةِ، وَ " بَائِسٍ " بِوَزْنٍ فَاعِلٍ.
فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ أَيْ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ عُتُوَّ إِبَاءٍ وَاسْتِكْبَارٍ عَنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ الْوَاعِظُونَ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ هَذَا الْقَوْلُ لِلتَّكْوِينِ، أَيْ: تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُنَا بِأَنْ يَكُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ أَيْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ فَكَانُوا كَذَلِكَ.
قِيلَ: إِنَّ هَذَا بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْعَذَابِ الْبَئِيسِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقِيلَ هُوَ عَذَابٌ آخَرُ، وَإِنَّ
اللهَ عَاقَبَهُمْ أَوَّلًا بِالْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ فِي الْمَعِيشَةِ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يُرَبِّيهِ وَيُهَذِّبُهُ إِلَّا الشِّدَّةُ وَالْبُؤْسُ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَبِّيهِ وَيُهَذِّبُهُ الرَّخَاءُ وَالنِّعْمَةُ، وَبِكُلٍّ يَبْتَلِي اللهُ عِبَادَهُ وَيَمْنَحُهُمْ كَمَا قَالَ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (٢١: ٣٥) وَقَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧: ١٦٨) وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمْ يَزِدْهُمُ الْبُؤْسُ وَالسُّوءُ إِلَّا عُتُوًّا وَإِصْرَارًا عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، وَمَسَخَهُمْ مَسْخَ خُلُقٍ وَبَدَنٍ فَكَانُوا قِرَدَةً بِالْفِعْلِ، أَوْ مَسْخَ خُلُقٍ وَنَفْسٍ، فَكَانُوا كَالْقِرْدَةِ فِي طَيْشِهَا وَشَرِّهَا وَإِفْسَادِهَا لِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِيهَا، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي قَوْلُ مُجَاهِدٍ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ الْحَقِّ.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ خَاتِمَةُ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا سَيَأْتِي مِنْ نَبَأِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا مَثَلٌ عَامٌّ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ
320
فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي قِصَّتِهِمْ، وَمُنَاسِبَةٌ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً أَنَّهَا بَيَانٌ لِجَرَيَانِ سُنَّةِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ، وَانْطِبَاقِهَا عَلَى الْيَهُودِ عَامَّةً، بَعْدَ بَيَانِ عِقَابِهِ تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ تَأَذَّنَ صِيغَةُ " تَفَعَّلَ " مِنَ الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ الَّذِي يُبَلِّغُ فَيُدْرِكُ بِالْآذَانِ، وَيَتَضَمَّنُ هُنَا تَأْكِيدَ الْقَسَمِ، وَمَعْنَى الْعَهْدِ الْمَكْتُوبُ الْمُلْتَزَمُ، بِدَلِيلِ مَجِيءِ لَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِهِ، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْعَامُّ إِذْ أَعْلَمَ رَبُّكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُ قَدْ قَضَى فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وِفَاقًا لِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ سُنَنِهِ، لَيَبْعَثَنَّ وَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَيْ يُرِيدُهُ وَيُوقِعُهُ بِهِمْ، عِقَابًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَوَّمَ الشَّيْءَ، كَمَا يُقَالُ سَامَهُ خَسْفًا. وَسُوءُ الْعَذَابِ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَيُذِلُّهُ، وَهُوَ هُنَا سَلْبُ الْمِلْكِ، وَإِخْضَاعُ الْقَهْرِ.
مِصْدَاقُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (١٧: ٤) إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (١٧: ٧) ثُمَّ قَالَ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا (١٧: ٨) الْآيَةَ أَيْ وَإِنْ عُدْتُمْ بَعْدَ عِقَابِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ إِلَى الْإِفْسَادِ، عُدْنَا إِلَى التَّعْذِيبِ وَالْإِذْلَالِ، وَقَدْ عَادُوا فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى فَسَلَبُوا مُلْكَهُمُ الَّذِي أَقَامُوهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ مِنَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ، وَقَهَرُوهُمْ وَاسْتَذَلُّوهُمْ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَعَادَاهُ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا هَرَبُوا مِنَ الذُّلِّ وَالنَّكَالِ، وَلَجَئُوا إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَعَاشُوا فِيهَا أَعِزَّاءَ آمِنِينَ، وَلَمْ يَفُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ إِذْ أَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، بَلْ غَدَرُوا بِهِ وَكَادُوا لَهُ، وَنَصَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَسَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَجْلَى بَعْضَهُمْ، وَقَتَلَ بَعْضًا، وَأَجْلَى عُمَرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، ثُمَّ فَتَحَ عُمَرُ سُورِيَّةَ، بَعْضَهَا بِالصُّلْحِ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْضَهَا عَنْوَةً، فَصَارَ الْيَهُودُ مِنْ سِيَادَةِ الرُّومِ الْجَائِرَةِ الْقَاهِرَةِ فِيهَا إِلَى سُلْطَةِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا أَذِلَّةً بِفَقْدِ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنِ اسْتِعَادَةِ مُلْكِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ.
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَفْسُقُ عَنْ أَمْرِهِ وَتُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَتَخَلَّفُ عِقَابُهُ عَنْهَا كَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٧: ١٦) أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ، وَأَفْسَدُوا وَظَلَمُوا فِي الْأَرْضِ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، فَحَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ أَفْسَدَ فِي
الْأَرْضِ، قَبْلَ
321
أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْيَهُودِ بَعْدَ ذِكْرِ إِفْسَادِهِمْ مَرَّتَيْنِ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَقَلَّمَا ذَكَرَ اللهُ عَذَابَ الْفَاسِقِينَ الْمُفْسِدِينَ، إِلَّا وَقَرَنَهُ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِلتَّائِبِينَ الْمُحْسِنِينَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ صَالِحٌ مُصْلِحٌ مِنْ رَحْمَتِهِ بِذَنْبٍ عَمَلِهِ بِجَهَالَةٍ، وَلَا يَأْمَنُ مُفْسِدٌ مِنْ عِقَابِهِ اغْتِرَارًا بِكَرَمِهِ وَعَفْوِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَنْبِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِذْلَالِ الْيَهُودِ بِإِزَالَةِ وَحْدَتِهِمْ، وَتَمْزِيقِ جَامِعَتِهِمْ فَقَالَ: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا أَيْ وَفَرَّقْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِمْ أُمَمًا بِالتَّقْدِيرِ، أَوْ صَيَّرْنَاهُمْ أُمَمًا مُتَقَطِّعَةً، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أُمَّةً مُتَّحِدَةً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ كَالَّذِينِ نَهَوُا الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ عِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَمِنْهَا نَاسٌ دُونَ وَصْفِ الصَّلَاحِ لَمْ يَبْلُغُوهُ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ أَوْ دَرَكَاتٌ، مِنْهُمُ الْغُلَاةُ فِي الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْهُمُ السَّمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الْأَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ شَأْنُ الْأُمَمِ الْفَاسِدَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، تُفْسِدُ بِالتَّدْرِيجِ لَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا نَرَاهُ فِي أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيِ امْتَحَنَّاهُمْ، وَبَلَوْنَا سَرَائِرَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي تَحْسُنُ، وَتَقَرُّ بِهَا الْأَعْيُنُ، وَبِالنِّقَمِ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَرُبَّمَا حَسُنَتْ بِالصَّبْرِ وَالْإِنَابَةِ عَوَاقِبُهَا، رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَيْ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، خَلْفُ سُوءٍ وَبَدَلُ شَرٍّ، قِيلَ: إِنَّ الْخَلْفَ بِسُكُونِ اللَّامِ يَغْلِبُ فِي الْأَشْرَارِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْأَخْبَارِ خَلَفٌ بِالتَّحْرِيكِ كَسَلَفٍ وَرِثُوا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ عَنْهُمْ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَيْهِمْ،
فَمَاذَا كَانَ شَأْنُهُمْ؟ الْجَوَابُ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى أَيْ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الشَّيْءِ الْأَدْنَى، أَيْ هَذَا الْحُطَامَ الْحَقِيرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّشَى، وَالِاتِّجَارِ بِالدِّينِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا أَيْ: سَيَغْفِرُ اللهُ لَنَا، وَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا أَذْنَبْنَا، فَإِنَّنَا شَعْبُهُ الْخَاصُّ، سَلَائِلُ أَنْبِيَائِهِ، وَنَحْنُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ إِلَّا أَمَانِيَّ، وَغُرُورٌ وَأَوْهَامٌ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُنَافِيهِ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، فَأَوَائِلُ النَّصَارَى كَانُوا صَالِحِينَ، وَسَابِقُ الْكَلَامِ وَلَاحِقُهُ فِي الْيَهُودِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبِهِمْ، إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ آخَرُ مِثْلُ الَّذِي أَخَذُوهُ أَوْ بِالْبَاطِلِ يَأْخُذُوهُ لَا يَتَعَفَّفُونَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللهُ فِي كُتُبِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ
322
يَتْرُكُونَ الذُّنُوبَ نَدَمًا وَخَوْفًا مِنَ اللهِ وَرَجَاءً فِيهِ، وَيَصْلُحُونَ مَا كَانُوا أَفْسَدُوا، كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - خِطَابًا لَهُمْ - مِنْ سُورَةِ طه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢).
وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ قَدْ أُخِذَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ فِي كِتَابِهِ بِأَلَّا يَقُولُوا عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيهِ، فَمَا بَالُهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ اللهَ سَيَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ كَمَا فِي آخِرِ سَفَرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ.
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيْ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الرَّذَائِلَ وَالْمَعَاصِيَ خَيْرٌ مِنَ الْحُطَامِ الْفَانِي مِنْ عَرَضِ
الدُّنْيَا بِالرَّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى عَقْلٍ لَمْ يَطْمِسْهُ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ، فِي الْحُطَامِ الْعَاجِلِ، فَتُرَجِّحُونَ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّعِيمَ الْعَظِيمَ الدَّائِمَ، عَلَى الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ الزَّائِلِ! وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّمَعَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ، وَلَا يَزَالُ هَذَا التَّفَانِي فِيهِ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ.
وَقَدْ سَرَى شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى رِجَالِ الدِّينِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ، وَالْقُرْآنَ الْحَكِيمَ، وَدَرَسُوا مَا فِيهِ، غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الطَّمَعُ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا الْقَلِيلِ، وَعَرَضِهَا الدَّنِيءِ، وَالْغُرُورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّحَلِّي بِلَقَبِهِ، وَالتَّعَلُّلِ بِأَمَانِيِّ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ وَالشَّفَاعَاتِ، وَهُمْ يَقْرَؤُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْ نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ الشَّفَاعَةِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢١: ٢٨) وَلَنْ يَرْضَى الله عَنْ فَاسِقٍ وَلَا مُنَافِقٍ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩: ٩٦)، بَلْ مَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِهِمْ وَنَتَّقِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي أَخَذَهُمْ بِهَا، وَلَكِنَّنَا مَعَ هَذَا كُلِّهِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَّا أَنَّنَا نَحْمَدُ اللهَ أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ فِينَا غَيْرُ عَامٍّ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِينَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ يَطْعَنُ فِيهَا الْجَمَاهِيرُ الَّذِينَ صَارَ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ غَرِيبًا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ مِرَارًا بَلْ صَرَّحَتِ الْآيَاتُ بِالتَّحْذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمَانِيهِمْ وَفِي فِسْقِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ (٤: ١٢٣) إِلَخ. وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٥٧: ١٦)
قَرَأَ تَعْقِلُونَ بِالتَّاءِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَسَهْلٌ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْيَهُودِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِتَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ، وَتَجْتَنِبَ مَا كَانَ سَبَبًا لِسُوءِ مَآلِهِمْ، مِنَ الْإِصْرَارِ
عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (يَعْقِلُونَ) عَلَى الْأَصْلِ فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِينَ، وَلَوْ صَحَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ وَحْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا ; لِأَنَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ الْخَلْفِ، الَّذِي نَزَلَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُمَسِّكُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مَنْ مَسَّكَ تَمَسُّكًا بِمَعْنَى تَمَسُّكَ تَمَسُّكًا، وَمِثْلُهُ قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ (٤٩: ١) وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ يُمَسِكُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِمْسَاكِ - أَيْ: وَالَّذِينَ يَسْتَمْسِكُونَ بِعُرْوَةِ الْكِتَابِ الْوُثْقَى، وَيَعْتَصِمُونَ بِحَبْلِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ فِي أَوْقَاتِهَا إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُصْلِحُونَ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، فَهُوَ خَبَرٌ قُرِنَ بِالدَّلِيلِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (١٨: ٣٠).
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَعَلَّ حِكْمَةَ خَتْمِ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا لِلتَّذْكِيرِ بِبَدْءِ حَالِهِمْ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ فِي أَثَرِ بَيَانِ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ ; فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْفَاتِحَةِ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْخَاتِمَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ لِيَأْخُذُنَّ بِالشَّرِيعَةِ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، فَإِنَّهُ رَفَعَ فَوْقَهُمُ الطُّورَ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِهِ بِهِمْ، فَلَا غَرْوَ إِذَا آلَ أَمَرُهُمْ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ وَقَسَاوَةِ الْقُلُوبِ وَالْأُنْسِ بِالذُّنُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَتَانِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَذَكَرْنَا آيَةَ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ الْأُولَى. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ إِذْ نَتَقْنَا فَوْقَ هَؤُلَاءِ الْجَبَلَ، جَبَلَ الطُّورِ: أَيْ رَفَعْنَاهُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَوْ زَلْزَلْنَاهُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَهُمْ مُظَلِّلٌ لَهُمْ - كَمَا يُقَالُ نَتَقَ السِّقَاءُ إِذَا هَزَّهُ وَنَفَضَهُ ; لِيُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدَةَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ اقْتَلَعَهُ وَجَعَلَهُ فَوْقَهُمْ (فَإِنْ قِيلَ) : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ ظُلَّةً بِالْفِعْلِ
لَا كَالظُّلَّةِ، فَإِنَّ الظُّلَّةَ كُلُّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقِكَ، وَيُصَدِّقُ رَفْعَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ وَجُودُهُمْ فِي سَفْحِهِ وَاسْتِظْلَالِهِمْ بِهِ (قُلْنَا) : إِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ فَإِنَّ رَفْعَ الْجَبَلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ لِإِخَافَتِهِمْ لَا لِإِظْلَالِهِمْ، وَأَمَّا ظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ فَإِنَّمَا جَاءَ مَنْ زَلْزَلَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ ; عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى قَلْعِهِ وَجَعْلِهِ فَوْقَهُمْ، وَكَمْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهِ مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَقُلْنَا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: خُذُوا مَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِقُوَّةِ عَزِيمَةِ وَعَزْمٍ عَلَى احْتِمَالِ مَشَاقِّهِ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوَامِرَهَا وَنَوَاهِيَهَا، أَوِ اعْمَلُوا بِهِ لِئَلَّا تَنْسَوْهُ - فَإِنَّ ذَلِكَ يُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى وَيَجْعَلُهَا مَرْجُوَّةً لَكُمْ، فَإِنَّ الْجِدَّ وَقُوَّةَ الْعَزْمِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ يُهَذِّبُ النَّفْسَ وَيُزَكِّيهَا، وَالتَّهَاوُنَ وَالْإِغْمَاضَ فِيهِ يُدَسِّيهَا وَيُغْوِيهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (٩١: ٩، ١٠).
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ فِي شُئُونِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِدَايَةِ اللهِ لَهُمْ، بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِمْ، وَرَكَّبَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ، فِي إِثْرِ بَيَانِ هِدَايَتِهِ لَهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، أَوْ سِيَاقٍ عَلَى سِيَاقٍ، قَالَ تَعَالَى:.
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الظُّهُورُ جَمْعُ ظَهْرٍ وَهُوَ الْعَمُودُ الْفِقْرِيُّ لِهَيْكَلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ بِنْيَتِهِ، وَمَرْكَزُ النُّخَاعِ الشَّوْكِيُّ
الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ حَيَّاتِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ وُجُودِهِ الْجَسَدِيِّ الْحَيَوَانِيِّ، وَالذَّرِّيَّةُ سُلَالَةُ الْإِنْسَانِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بِالْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ; فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ بِمَعْنَاهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْبَعْضِ ذَلِكَ الْكُلَّ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي أَثَرِ ذِكْرِ أَخْذِ مِيثَاقِ الْوَحْيِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً، مَا أَخَذَهُ اللهُ مِنْ مِيثَاقِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ عَامَّةً، إِذِ اسْتَخْرَجَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُرِّيَّتَهُمْ بَطْنًا
بَعْدَ بَطْنٍ، فَخَلَقَهُمُ اللهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْدَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ غَرِيزَةَ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ مِنْ مَدَارِكِ عُقُولِهِمُ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ، وَكُلَّ حَادِثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَأَنَّ فَوْقَ الْعَوَالِمِ الْمُمْكِنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سُنَّةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلَ وَالْمَعْلُولَاتِ، سُلْطَانًا أَعْلَى عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَيْ: أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ الْمُتَسَلْسِلَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ فِي غَرِيزَتِهِ، وَاسْتِعْدَادِ عَقْلِهِ قَائِلًا قَوْلَ إِرَادَةٍ وَتَكْوِينٍ، لَا قَوْلَ وَحْيٍ وَتَلْقِينٍ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فَقَالُوا كَذَلِكَ بِلُغَةِ الِاسْتِعْدَادِ وَلِسَانِ الْحَالِ، لَا بِلِسَانِ الْمَقَالِ: بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا وَالْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِعِبَادَتِنَا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (٤١: ١١) وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّعْبِيرِ وَالْبَيَانِ يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِالتَّمْثِيلِ، وَهُوَ أَعْلَى أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْبُلَغَاءِ كَثِيرَةٌ.
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ سَبَبَ هَذَا الْإِشْهَادِ وَعِلَّتَهُ فَقَالَ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: فَعَلْنَا هَذَا مَنْعًا لِاعْتِذَارِكُمْ أَوِ احْتِجَاكِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ تَقُولُوا: إِذَا أَنْتُمْ أَشْرَكْتُمْ بِهِ: إِنَّا كُنَّا
غَافِلِينَ: عَنْ هَذَا التَّوْحِيدِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ وَحْدَهُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارَ بِالْجَهْلِ.
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ جَاهِلِينَ بِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ، فَلَمْ يَسَعْنَا إِلَّا الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ بِاخْتِرَاعِ الشِّرْكِ فَتَجْعَلُ عَذَابَنَا كَعَذَابِهِمْ، مَعَ عُذْرِنَا بِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارَ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارَ بِالْجَهْلِ، بَعْدَ مَا أَقَامَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُجَّةِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ.
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ: وَبِمِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ الْبَلِيغِ نُفَصِّلُ لِبَنِي آدَمَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ ; لِيَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِهَا عَنْ جَهْلِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ. وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ بَعْثَةُ رَسُولٍ لَا يُعْذَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى، وَلَا بِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تُنَفِّرُ مِنْهَا الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَتُدْرِكُ ضَرَرَهَا وَفَسَادَهَا الْعُقُولُ الْمُسْتَقِلَّةُ، وَإِنَّمَا يُعْذَرُونَ بِمُخَالَفَةِ هِدَايَةِ الرُّسُلِ فِيمَا شَأْنُهُ أَلَّا يُعْرَفَ إِلَّا مِنْهُمْ. وَهُوَ أَكْثَرُ الْعِبَادَاتِ التَّفْصِيلِيَّةِ.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْآيَاتِ لِذَاتِهَا.
وَلَكِنْ وَرَدَ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْرَفَ إِلَّا مَنْ خَبَرِ الْوَحْيِ، وَقَدْ كَانَتْ مَوْضُوعَ بَحْثٍ وَمُنَاقَشَةٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ فَنُورِدُ أَمْثَلَ مَا قَالُوهُ فِيهَا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ:.
326
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مَنَّ أَصْلَابِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ (٣٠: ٣٠) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
" يَقُولُ اللهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ "، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ حَدَّثَهُمْ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ مِنْ بُنِيَ سَعْدٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَرْبَعَ غَزَوَاتٍ قَالَ: فَتَنَاوَلَ الْقَوْمُ الذُّرِّيَّةَ بَعْدَ مَا قَتَلُوا الْمُقَاتَلَةَ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَاوَلُونَ الذُّرِّيَّةَ "؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَيْسُوا أَبْنَاءَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: " إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، أَلَّا إِنَّهَا لَيْسَتْ نَسْمَةٌ تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبَيِّنُ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وَيُنَصِّرَانِهَا قَالَ الْحَسَنُ: وَاللهِ لَقَدْ قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمِ بْنِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ بْنُ سُرَيْعٍ فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَاسْتِحْضَارَهُ الْآيَةَ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَمَيُّزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عُمْرَانَ الْجَوْنَيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ ".
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي - ابْنَ حَازِمٍ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " إِنَّ اللهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ
327
ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ فَتَلَا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ صَاعِقَةَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهِ. إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَدِ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِكُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَقَفَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ وَوَكِيعٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَعَلِيُّ بْنُ بِذِيمَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْرَجَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، وَهُوَ فِي أَذًى مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ: مَاتَ ابْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ابْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ قَالَ: فَقَالَ يَا جَابِرُ إِذَا أَنْتِ وَضَعْتَ ابْنِي فِي لِحِدَّةِ فَأَبْرِزْ وَجْهَهُ، وَحِلَّ عَنْهُ عَقْدَهُ، فَإِنَّ ابْنَيْ مُجْلَسٌ وَمَسْئُولٌ، فَفَعَلْتُ الَّذِي بِهِ أَمَرَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ عَمَّ يُسْأَلُ ابْنُكَ؟ مَنْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: يُسْأَلُ عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ، قُلْتُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَمَا هَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِهِ فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ مَنْ أَعْطَى الْمِيثَاقَ يَوْمَئِذٍ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَوَفَّى بِهِ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ مَاتَ عَلَى الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا مِمَّا تُقَوِّي وَقْفَ هَذَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي ظَبْيَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدِ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قَالَ: " أَخَذَ مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "، أَحْمَدُ بْنُ أَبِي ظَبْيَةَ هَذَا هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ قَاضِي قُومَسَ، كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ، أَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ:
328
أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ غَرَائِبَ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَوْلَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وَاللهُ أَعْلَمُ: (حَدِيثٌ آخَرٌ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ أَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الْآيَةَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ " فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِذَا خَلَقَ اللهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبَيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ قُتَيْبَةِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَعْنٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبَدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنٍ وَهْبٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ
الزُّبَيْرِيِّ كُلُّهُمْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ عُمَرَ، وَكَذَا قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، زَادَ أَبُو حَاتِمٍ وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَعْثَمٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عَمْرُو بْنُ جَعْثَمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيَّ، وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلٍ مَالِكٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ: (قُلْتُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا إِنَّمَا أَسْقَطَ ذِكْرَ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا جَهِلَ حَالَ نُعَيْمٍ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِذَلِكَ يُسْقِطُ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا يَرْتَضِيهِمْ، وَلِهَذَا يُرْسِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ، وَيَقْطَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوْصُولَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ التِّرْمِذِيَّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا
329
مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتِكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ عَيْنَيْهِ قَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخَرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. قَالَ: رَبِّ وَكَمْ جَعَلَتْ عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عُمَرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟، قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتَهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ وَالْأَبْرَصُ وَالْأَعْمَى وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا بِذُرِّيَّتِي؟ قَالَ كَيْ تُذْكَرَ نِعْمَتِي. وَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَاهُمْ أَظْهَرَ النَّاسِ نُورًا؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ يَا آدَمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ " ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَمَ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَتَادَةَ النَّضْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْتَدِأُ الْأَعْمَالَ أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرْقٍ عَنْهُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) رَوَى جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ وَقَضَى الْقَضِيَّةَ أَخَذَ أَهْلَ الْيَمِينِ بِيَمِينِهِ، وَأَهْلَ الشِّمَالِ بِشَمَالِهِ، فَقَالَ يَا أَصْحَابَ الْيَمِينِ. فَقَالُوا: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى: ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ لَهُ: يَا رَبِّ لِمَ خَلَطْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
(أَثَرٌ آخَرُ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَاتِ. قَالَ: فَجَمَعَهُمْ
330
لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَعَلَهُمْ فِي صُوَرِهِمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الْآيَةَ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي،
وَلَا رَبَّ غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ لَكُمْ رُسُلًا لِيُنْذِرُوكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ، وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمُ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ، قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ وَخَصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ (٣٣: ٧) الْآيَةَ. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ (٣٠: ٣٠) الْآيَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٣: ٥٦) وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ (٧: ١٠٢) الْآيَةَ. رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ رِوَايَةٍ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ سِيَاقَاتٌ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ اكْتَفَيْنَا بِإِيرَادِهَا عَنِ التَّطْوِيلِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ كُلِّهَا وَبِاللهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ فَمَا هُوَ إِلَّا فِي حَدِيثِ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا مَوْقُوفَانِ لَا مَرْفُوعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشَعِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْآيَةَ بِذَلِكَ قَالُوا وَلِهَذَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ ظَهْرِ ذُرِّيَّاتِهِمْ أَيْ: جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ (٦: ١٦٥) وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ (٢٧: ٦٢) وَقَالَ: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (٦: ١٣٣) ثُمَّ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أَيْ أَوَجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ قَائِلِينَ لَهُ حَالًا وَقَالَا. وَالشَّهَادَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا (٦: ١٣٠) الْآيَةَ. وَتَارَةً تَكُونُ حَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ
أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (٩: ١٧) أَيْ: حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، لَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (١٠٠: ٧) كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ
331
بِالْقَالِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْحَالِ، كَقَوْلِهِ: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ (١٤: ٣٤) قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ ; لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِخْبَارُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَنْ تَقُولُوا أَيْ: لِئَلَّا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنِ التَّوْحِيدِ غَافِلِينَ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا الْآيَةَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَدْ بَسَطَ الْعَلَامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرُّوحِ فِي سِيَاقِ الْبَحْثِ فِي خَلْقِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ الْأَجْسَادِ - فَذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الْمَرْفُوعَةَ وَالْمَوْقُوفَةَ وَالْآثَارَ فِيهَا وَمَا قِيلَ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي أَسَانِيدِهَا ثُمَّ قَالَ:.
وَهَاهُنَا أَرْبَعُ مَقَامَاتٍ (أَحَدُهَا) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اسْتَخْرَجَ صُوَرَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، فَمَيَّزَ شَقِيَّهُمْ وَسَعِيدَهُمْ وَمُعَافَاهُمْ مِنْ مُبْتَلَاهُمْ. (وَالثَّانِي) أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ حِينَئِذٍ، وَأَشْهَدَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَهُ. (الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (الرَّابِعُ) أَنَّهُ أَقَرَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا بَعْدَ إِخْرَاجِهَا بِمَكَانٍ وَفَرَاغٍ مِنْ خَلْقِهَا، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقْتِ إِرْسَالِ جُمْلَةٍ مِنْهَا بَعْدَ جُمْلَةٍ إِلَى أَبْدَانِهَا.
(فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ) فَالْآثَارُ مُتَظَاهِرَةٌ بِهِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً. (وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي) فَإِنَّمَا أَخَذَهُ مَنْ أَخَذَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ تَفْسِيرُهَا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِأَمْثَالِ الذَّرِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا فَهْمًا تَعْقِلُ بِهِ كَمَا قَالَ: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ (٢٧: ١٨) وَقَدْ سَخَّرَ مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَأَصْلَابِ
أَوْلَادِهِ وَهُمْ فِي صُوَرِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَصْنُوعُونَ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَقَبِلُوا، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَكَّبَ فِيهِمْ عُقُولًا عَرَفُوا بِهَا مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا جَعَلَ لِلْجَبَلِ عَقْلًا حِينَ خُوطِبَ، وَكَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْبَعِيرِ لَمَّا سَجَدَ، وَالنَّخْلَةِ الَّتِي سَمِعَتْ وَانْقَادَتْ حِينَ دُعِيَتْ.
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ " وَبَيْنَ الْآيَةِ اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللهِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَقَدْ أَخَذَهُمْ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ ; لِأَنَّ ذُرِّيَّةَ آدَمَ ذَرِّيَّةٌ لِذَرِّيَّتِهِ، بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ شُهُودًا عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ. قَالَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي جَاءَتْ
332
بِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا فَقَالُوا: شَهِدْنَا. قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الَّتِي تَعْقِلُ وَتَفْهَمُ، وَلَهَا الثَّوَابُ وَعَلَيْهَا الْعِقَابُ، وَالْأَجْسَادُ أَمْوَاتٌ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَفْهَمُ. قَالَ: وَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ اسْتَنْطَقَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ (٣: ١٦٩) وَالْأَجْسَادُ قَدْ بَلِيَتْ، وَضَلَّتْ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَرْوَاحُ تُرْزَقُ وَتَفْرَحُ، وَهِيَ الَّتِي تَلَذُّ وَتَأْلَمُ، وَتَفْرَحُ وَتَحْزَنُ وَتَعْرِفُ وَتُنْكِرُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحْلَامِ مَوْجُودٌ، إِنَّ الْإِنْسَانَ يُصْبِحُ وَأَثَرَ لَذَّةِ الْفَرَحِ وَأَلَمِ الْحُزْنِ بَاقٍ فِي نَفْسِهِ مِمَّا تُلَاقِي الرُّوحُ دُونَ الْجَسَدِ.
قَالَ: وَحَاصِلُ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَثْبَتَ الْحُجَّةَ عَلَى كُلِّ مَنْفُوسٍ مِمَّنْ يُبَلَّغُ، وَمِمَّنْ لَمْ يُبَلِّغْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَزَادَ عَلَى مَنْ بُلِّغَ مِنْهُمُ الْحَجَّةَ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي الْعَالِمِ وَبِالرُّسُلِ الْمُنْفَذَةِ إِلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَبِالْمَوَاعِظِ بِالْمُثُلَاتِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهِمْ أَخْبَارُهَا، غَيْرَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُطَالِبُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْحُجَّةِ، وَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْقُدْرَةِ، وَآتَاهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَبَيَّنَ سُبْحَانِهِ مَا هُوَ عَامِلٌ فِي الْبَالِغِينَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْأَمْرَ
وَالنَّهْيَ، وَحَجَبَ عَنَّا عِلْمَ مَا قَدَّرَهُ فِي غَيْرِ الْبَالِغِينَ، إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، وَحَكِيمٌ لَا تَفَاوُتَ فِي صُنْعِهِ، وَقَادِرٌ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
(فَصْلٌ)
وَنَازَعَ هَؤُلَاءِ غَيْرُهُمْ فِي كَوْنٍ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ: أَخْرَجَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى الدُّنْيَا عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إِلَى أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ، فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَفِيهِ مِنْ صَنْعَةِ رَبِّهِ مَا يَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ بَارِيهِ، وَنَافِذُ الْحُكْمِ فِيهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ كُلُّ مَا يَرَوْنَ وَيُشَاهِدُونَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِينَ وَالْمُشْهَدَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِصِحَّتِهِ. كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (٩: ١٧) يُرِيدُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِينَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا نَحْنُ كَفَرَةٌ، وَكَمَا تَقُولُ: قَدْ شَهِدَتْ جَوَارِحِي بِقَوْلِكَ، تُرِيدُ: قَدْ عَرَفَتْهُ، فَكَأَنَّ جَوَارِحِي لَوِ اسْتُشْهِدَتْ وَفِي وُسْعِهَا أَنْ تَنْطِقَ لَشَهِدَتْ، وَمِنْ هَذَا إِعْلَامُهُ وَتَبْيِينُهُ أَيْضًا شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (٣: ١٨) يُرِيدُ: أَعْلَمَ وَبَيَّنَ فَأَشْبَهَ ذَلِكَ شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَزَادَ الْجُرْجَانِيُّ بَيَانًا لِهَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ حَاكِيًا عَنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَنَفَذَ عِلْمُهُ
333
فِيهِمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ كَالْكَائِنِ إِذْ عَلِمَهُ بِكَوْنِهِ مَانِعٌ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ نَابِعٌ فِي مَجَازِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُوضَعَ مَا هُوَ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ - مِمَّا لَمْ يَقَعْ بَعْدُ - مَوْقِعَ الْوَاقِعِ، لَسَبْقِ عِلْمِهِ بِوُقُوعِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ (٧: ٥٠) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ (٧: ٤٤) - وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ (٧: ٤٨) قَالَ: فَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ: وَإِذْ يَأْخُذُ رَبُّكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: وَيُشْهِدُهُمْ بِمَا رَكَّبَهُ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ، وَيَجِبُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَكُلُّ مَنْ وُلِدَ وَبَلَغَ الْحِنْثَ، وَعَقَلَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وَفَهِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، صَارَ كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ فِي التَّوْحِيدِ بِمَا رَكَّبَ فِيهِ مِنَ
الْعَقْلِ، وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى حُدُوثِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ نَفْسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ هُوَ غَيْرُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَخْلُوقٍ يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ مَانِعٌ مَنْ فَهْمٍ إِلَّا إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ يَفْزَعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا بِإِصْبَعِهِ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّ خَالِقَهُ تَعَالَى فَوْقَهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ الَّذِي مِنْهُ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ مُؤَدِّيًا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَا وَدَالًّا عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ فَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، إِذْ جَعَلَ فِيهِ السَّبَبَ وَالْأَدِلَّةَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُؤْخَذُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ لَهُ قَدْ أَقَرَّ وَأَذْعَنَ وَأَسْلَمَ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (١٣: ١٥) قَالَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ.
وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (٣٣: ٧٢) الْأَمَانَةُ هِيَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ. فَامْتِنَاعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ خُلُوُّهَا مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ، وَحَمْلُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا لِمَكَانِ الْعَقْلِ فِيهِ. قَالَ: وَلِلْعَرَبِ فِيهَا ضُرُوبُ نَظْمٍ فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
ضَمِنَ الْقَنَانُ لِفَقْعَسٍ بِثَبَاتِهَا إِنَّ الْقَنَانَ لِفَقْعَسٍ لَا يَأْتَلِي
وَالْقَنَانُ: جَبَلٌ، فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِفَقْعَسٍ وَضَمَانُهُ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ خَوْفٍ لَجَئُوا إِلَيْهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالضَّمَانِ لَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
كَأَجَارِفِ الْجُولَانِ هَلَّلَ رَبَّهُ وَجُورَانُ مِنْهَا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
وَأَجَارِفُ الْجَوَلَانِ جِبَالُهَا، وَجُورَانُ الْأَرْضُ الَّتِي إِلَى جَانِبِهَا. وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ دَلِيلًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لِلْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وَالْغَفْلَةُ هَاهُنَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
334
إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ عَنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ. فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَخَذَ
عَلَيْهِمْ عَهْدًا وَمِيثَاقًا بِمَعْرِفَةِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَعْرِفَتَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ فَالْأَطْفَالُ، وَالْأَسْقَاطُ إِنْ كَانَ هَذَا الْعَهْدُ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ - كَمَا قَالَ الْمُخَالِفُ - فَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بَعْدَمَا أَخَذَ هَذَا الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُبْلَغًا يَكُونُ مِنْهُمْ غَفْلَةٌ عَنْهُ فَيَجْحَدُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، فَمَتَى تَكُونُ هَذِهِ الْغَفْلَةُ مِنْهُمْ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؟ وَذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ مُحَالٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فَلَا يَخْلُو هَذَا الشِّرْكُ الَّذِي يُؤَاخِذُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آبَائِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِذِ الطِّفْلُ لَا يَكُونُ مِنْهُ شِرْكٌ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَلَّا تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ وَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ لِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اقْتَصَّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَجَاءَ مِثْلَ نَظْمِهِ فَوَضَعَ الْمَاضِي مِنَ اللَّفْظِ مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِقِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ (٣: ٨١) فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِيثَاقًا أَخَذَهُ مِنْ أُمَمِهِمْ بَعْدَهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (٣: ٨١) ثُمَّ قَالَ لِلْأُمَمِ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٣: ٨١) فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ بُلُوغَ الْأُمَمِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ مَعْرِفَتَهُمْ بِهِ إِقْرَارًا مِنْهُمْ. قُلْتُ: وَشَبِيهٌ بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (٥: ٧) فَهَذَا مِيثَاقُهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (١٣: ٢٠) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَلَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦: ٦٠، ٦١) فَهَذَا عَهْدُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (٢: ٤٠) وَمِثْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
(٣: ١٨٧) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٣٣: ٧) فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ مِنْهُمْ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَمَا أَخَذَ مِنْ أُمَمِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ، وَهَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي لَعَنَ سُبْحَانَهُ مَنْ نَقْضَهُ وَعَاقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً (٥: ١٣) فَإِنَّمَا عَاقَبَهُمْ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
335
(٢: ٦٣) وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظِيرُهَا فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خَاطَبَ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ فِيهَا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مِيثَاقٌ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا الْمِيثَاقَ وَالْإِشْهَادَ الْعَامَّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَهُوَ مِيثَاقٌ وَإِشْهَادٌ تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ، وَتَحِلُّ بِهِ الْعُقُوبَةُ، وَيَسْتَحَقُّ بِمُخَالَفَتِهِ الْإِهْلَاكُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا ذَاكِرِينَ لَهُ عَارِفِينَ بِهِ، وَذَلِكَ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَفَاطِرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ يُذَكِّرُونَهُمْ بِمَا فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَنَظْمُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يَقُلْ آدَمَ وَبَنِي آدَمَ. (الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ ظَهْرَهُ، وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ وَهُوَ أَحْسَنُ (الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَالَ (ذُرِّيَّتَهُمْ) وَلَمْ يَقُلْ ذُرِّيَّتَهُ. (الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْ: جَعَلَهُمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهَا، (الْخَامِسُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (٤ ـ ١٦٥) :(السَّادِسُ) تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ بِالْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهِمْ، وَإِشْهَادِهِمْ
جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (السَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَالْإِشْهَادِ: (إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَلَّا يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ. (الثَّامِنُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ: لَوْ عَذَّبَهُمْ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ لِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ، فَلَوْ أَهْلَكَهُمْ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ لَأَهْلَكَهُمْ بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَوْ أَهْلَكَهُمْ مَعَ غَفْلَتِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ بَطَلَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. (التَّاسِعُ) أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِشْهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٢٩: ٦١) أَيْ: فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ رَبَّهُمْ وَخَالِقَهُمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا
336
رُسُلُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١٤: ١٠) فَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُذَكِّرْهُمْ قَطُّ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ عَلَى إِيجَادِهِمْ وَلَا أَقَامَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً. (الْعَاشِرُ) أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَدْلُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْمَدْلُولُ، وَهَذَا شَأْنُ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَدِلَّةٌ مُعِينَةٌ عَلَى مَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ وَالتَّبْيِينِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فَصَّلَهَا هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ آيَاتٌ أُفُقِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ، آيَاتٌ فِي نُفُوسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ وَخُلُقِهِمْ، وَآيَاتٌ فِي الْأَقْطَارِ وَالنَّوَاحِي مِمَّا يُحْدِثُهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى الْمَعَادِ وَالْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَبْيَنِهَا مَا أَشْهَدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ
رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَمُبْدِعُهُ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ بِلَا مُحْدِثٍ أَوْ يَكُونَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْإِقْرَارُ وَالْمُشَاهَدَةُ فِطْرَةٌ فُطِرُوا عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ (٣٠: ٣٠، ٣١) وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ فَقَطْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ، كَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْجُرْجَانِيُّ: فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتِهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ وَقَالَ إِنَّ هَذَا مَانَعٌ مِنْ جَوَازِ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ لِامْتِنَاعِ رَدِّهِمْ فِي الظَّهْرِ، إِنْ كَانَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى " ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ " ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ، كَمَا قُلْنَا إِنَّ مَعْنَى أَخَذَ رَبُّكَ: يَأْخُذُ رَبُّكَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي ظَهْرِهِ بِوَفَاتِهِمْ: لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا رُدُّوا إِلَى الْأَرْضِ لِلدَّفْنِ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْهَا وَرُدَّ فِيهَا، فَإِذَا رُدُّوا فِيهَا فَقَدْ رُدُّوا فِي آدَمَ، وَفِي ظَهْرِهِ إِذْ كَانَ آدَمُ خُلِقَ مِنْهَا، وَفِيهَا رَدُّ بَعْضِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَدَّ تَأْوِيلُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ، إِنَّمَا هُوَ هَاهُنَا مُضَافٌ إِلَيْهِ لِتَعْرِيفِ ذُرِّيَّتِهِ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا جَاءَ
337
فِي الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الِاتِّفَاقِ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَأَنَا أَقُولُ " وَنَحْنُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَمِيلُ، وَلَهُ أَقْبَلُ وَبِهِ آنَسُ، وَاللهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ لِمَا هُوَ أَوْلَى وَأَهْدَى
عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قَدْ ذَكَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ مَعْنًى يُحْتَمَلُ وَيُسَوَّغُ فِي النَّظْمِ الْجَارِي، وَمَجَازِ الْعَرَبِيَّةِ بِسُهُولَةٍ، وَإِمْكَانٍ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا اسْتِكْرَاهٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ وَ " إِذْ " يَقْتَضِي جَوَابًا يَجْعَلُ جَوَابَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالُوا بَلَى وَانْقَطَعَ هَذَا الْخَبَرُ بِتَمَامِ قِصَّتِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا آخَرَ بِذِكْرِ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: " شَهِدْنَا " يَعْنِي نَشْهَدُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
بِمَعْنَى يَشْهَدُ الْحُطَيْئَةُ. يَقُولُ تَعَالَى نَشْهَدُ إِنَّكُمْ سَتَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ خَبَرًا آخَرَ فَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا بِمَعْنَى: وَأَنْ تَقُولُوا، لِأَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى وَاوِ النَّسَقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٧٦: ٢٤) فَتَأْوِيلُهُ وَنَشْهَدُ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ إِنَّهُمْ: أَشْرَكُوا وَحَمَلُونَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الشِّرْكِ فِي صِبَانَا، فَجَرَيْنَا عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ فَلَا ذَنْبَ لَنَا إِذْ كُنَّا مُقْتَدِينَ بِهِمْ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ لَهُمْ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٤٣: ٢٣) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ حَمْلُهُمْ إِيَّانَا عَلَى الشِّرْكِ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ الْأَوْلَى خَبَرًا عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ خَبَرًا عَمَّا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَقَالَ فِيمَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ: إِنَّهُ تَفَاوَتَ فِيمَا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ، لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمَا فِيهِمَا، قَوْلًا يَجِبُ قَبُولُهُ بِالنَّظَائِرِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا مُخَالَفَتَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ أَفَادَ زِيَادَةَ خَبَرِ كَانَ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ بَعْضَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ كُلَّهَا، وَلَوْ أَخْبَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِسِوَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا، فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُخِذَ فِيهِ الْعَهْدُ مِمَّا لَمْ يُضَمِّنْهُ اللهُ كِتَابَهُ، لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَلَا تَفَاوُتَ، بَلْ كَانَ زِيَادَةً فِي الْفَائِدَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ إِذَا اخْتَلَفَتْ فِي ذَاتِهَا، وَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ فَذَكَرَ مَرَّةً
أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، وَمَرَّةً أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمَرَّةً مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَمَرَّةً مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَعَانِيهَا أَيْضًا فِي الْأَحْوَالِ مُخْتَلِفَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّلْصَالَ غَيْرُ الْحَمْأَةِ، وَالْحَمْأَةُ غَيْرُ التُّرَابِ إِلَّا أَنَّ مَرْجِعَهَا كُلَّهَا فِي الْأَصْلِ إِلَى جَوْهَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التُّرَابُ، وَمِنَ التُّرَابِ تَدَرَّجَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ. فَقَوْلُهُ
338
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فِي الْخَبَرِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَسْحُهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَهْرَ آدَمَ وَاسْتِخْرَاجُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْهُ مَسْحٌ لِظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ، وَاسْتِخْرَاجُ ذُرِّيَّاتِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ - كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى - ; لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ لَمْ يَكُونُوا مَنْ صُلْبِهِ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الطَّبَقُ الْأَوَّلُ مِنْ صُلْبِهِ، ثُمَّ الثَّانِي مِنْ صَلْبِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثُ مِنْ صَلْبِ الثَّانِي جَازَ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى ظَهْرِ آدَمَ؛ لِأَنَّهُمْ فَرْعُهُ وَهُوَ أَصْلُهُمْ، وَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ ظُهُورِ ذَرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ ذُرِّيَّتِهِ، إِذِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَضَافَ الذَّرِّيَّةَ إِلَى آدَمَ فِي الْخَبَرِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَنِ الذُّرِّيَّةِ وَعَنْ آدَمَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٢٦: ٤) وَالْخَبَرُ فِي الظَّاهِرِ عَنِ الْأَعْنَاقِ وَالنَّعْتُ لِلْأَسْمَاءِ الْمَكْنِيَةِ فِيهَا، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهَا كَمَا كَانَ آدَمُ مُضَافًا إِلَيْهِ هُنَاكَ، وَلَيْسَتْ جَمِيعًا بِالْمَقْصُودِينَ فِي الظَّاهِرِ بِالْخَبَرِ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (خَاضِعِينَ) لِلْأَعْنَاقِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ جَمْعِهَا خَاضِعَاتٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَشْرِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتُهُ كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
فَالصَّدْرُ مُذَكَّرٌ وَقَوْلُهُ شَرِقَ أُنِّثَ لِإِضَافَةِ الصَّدْرِ إِلَى الْقَنَاةِ اهـ.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ
أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ
339
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَا أَيَّدَهَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَهُوَ مَثَلُ مَنْ آتَاهُ اللهُ آيَاتَهُ فَكَانَ عَالِمًا بِهَا حَافِظًا لِقَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، قَادِرًا عَلَى بَيَانِهَا وَالْجَدَلِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ الْعَمَلَ مَعَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِعِلْمِهِ تَمَامَ الْمُخَالَفَةِ، فَسُلِبَهَا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ، فَأَشْبَهَ الْحَيَّةَ الَّتِي تَنْسَلِخُ مِنْ جِلْدِهَا وَتَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتْرُكُهُ عَلَى الْأَرْضِ (وَيُسَمَّى هَذَا الْجِلْدُ الْمِسْلَاخَ) أَوْ كَانَ فِي التَّبَايُنِ بَيْنَ عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ كَالْمُنْسَلِخِ مِنَ الْعِلْمِ التَّارِكِ لَهُ، كَالثَّوْبِ الْخَلِقِ يُلْقِيهِ صَاحِبُهُ، وَالثُّعْبَانُ يَتَجَرَّدُ مِنْ جِلْدِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ بِهِ صِلَةٌ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمُكْرُمَةٍ فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا
رُزِقُوا، وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا
فَحَاصِلُ مَعْنَى الْمَثَلِ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، عَلَى إِيضَاحِهَا بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، كَالْعَالَمِ الَّذِي حُرِمَ ثَمَرَةَ الِانْتِفَاعِ مِنْ عِلْمِهِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ وَإِخْلَاصٍ.
وَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُهَا الْعَرَبِيُّ، وَيَتْلُوهُ مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا، وَنَظْرَةٌ فِيهَا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَإِلْقَاءُ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَادُ وَيُكَرَّرُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي (عَلَيْهِمْ) لِلنَّاسِ الْمُخَاطِبِينَ بِالدَّعْوَةِ، وَأَوَّلُهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ ; لِأَنَّ الْمَثَلَ تَابِعٌ لِقِصَّةِ مُوسَى فِي السُّورَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَهَذَا الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ مِنْ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ، لَمْ يُبَيِّنَ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْهُ اسْمِهِ وَلَا جِنْسِهِ وَلَا وَطَنِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا دَخْلَ لَهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَاتِ لِبَيَانِهِ، وَانْسِلَاخُهُ مِنْهَا: تَجَرُّدُهُ وَانْسِلَالُهُ مِنْهَا وَتَرْكُهُ إِيَّاهَا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا لِاهْتِدَاءٍ وَلَا اعْتِبَارٍ وَلَا عَمَلٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِانْسِلَاخِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي خُرُوجِ الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ أَحْيَانًا مِنْ جُلُودِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ أَيْ: فَتَرَتَّبَ عَلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا
بِاخْتِيَارِهِ أَنْ لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ، فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَهُ، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ مَا يَحُولُ دُونَ قَبُولِ وَسْوَسَتِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَيِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ.
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا أَيْ: وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَرْفَعَهُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِرْفَانِ، الَّتِي تُقْرَنُ فِيهَا الْعُلُومُ بِالْأَعْمَالِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (٥٨: ١١) - لَفَعَلْنَا، بِأَنْ نَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا، وَنَحْمِلَهُ عَلَيْهَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْجِزُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِنَا.
340
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ أَيْ: وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ التَّسَفُّلَ الْمُنَافِيَ لِتِلْكَ الرِّفْعَةِ بِأَنْ أَخْلَدَ وَمَالَ إِلَى الْأَرْضِ وَزِينَتِهَا، وَجَعَلَ كُلَّ حَظِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَائِذِ الْجَسَدِيَّةِ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ رَأْسًا، وَلَمْ يُوَجِّهْ إِلَى الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْخَالِدَةِ عَزْمًا، وَاتَّبِعَ هَوَاهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُرَاعِ فِيهِ الِاهْتِدَاءَ بِشَيْءٍ مِمَّا آتَيْنَاهُ مِنْ آيَاتِنَا، وَقَدْ مَضَتْ سَنَتُنَا فِي خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِهِ، لِيَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ بِحَسَبِهِ، وَأَنْ نَبْتَلِيَهُ وَنَمْتَحِنَهُ بِمَا خَلَقْنَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنَ الزِّينَةِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (١٨: ٧) وَتَوَلَّى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (١٧: ١٨ - ٢١).
وَقَدْ مَضَتْ سَنَتُنَا أَيْضًا بِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِهَوَاهُ بِتَحَرِّيهِ وَتَشَهِّيهِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، دُونَ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَالْفَائِدَةُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَسَدٌ
وَرُوحٌ، يُضِلُّهُ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَتَعَسَّفُ بِهِ فِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ الْمُرْدِيَةِ الْمُهْلِكَةِ. قَالَ تَعَالَى لِخَلِيفَتِهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٣٨: ٢٦) وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا أَوْحَاهُ إِلَى كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذِكْرِ السَّاعَةِ: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (٢٠: ١٦) وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٢٥: ٤٣) وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ الْهَوَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ كَثِيرَةٌ، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (٢٣: ٧١).
وَحَاصِلُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالِاسْتِدْرَاكِ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ أُوتِيَ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى أَنْ تَرْتَقِيَ نَفْسُهُ، وَتَرْتَفِعَ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ دَرَجَتُهُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالذِّكْرَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَلَقَّاهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ: " وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِنَّمَا تَلَقَّى الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةَ اتِّفَاقًا بِغَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ بِنِيَّةِ كَسْبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَوَجَدَ مَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَلَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا، وَأَسْرَعَ بِهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْهَا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ; لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا هُدًى وَنُورٌ، وَلَكِنْ تَعَارَضَ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعُ، وَهُوَ إِخْلَادُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ:فَقُلْتُ:
341
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اللهْثُ بِالْفَتْحِ وَاللُّهَاثِ بِالضَّمِّ: التَّنَفُّسُ الشَّدِيدُ مَعَ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ، وَيَكُونُ لِغَيْرِ الْكَلْبِ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ أَوِ الْعَطَشِ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَيَلْهَثُ فِي كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَصَابَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ حَمَلْتَ عَلَيْهِ تُهَدِّدُهُ بِالضَّرْبِ أَمْ تَرَكْتَهُ وَادِعًا آمَنَّا، وَهَذَا الرَّجُلُ صِفَتُهُ كَصِفَةِ الْكَلْبِ فِي حَالَتِهِ هَذِهِ، وَهِيَ أَخَسُّ أَحْوَالِهِ وَأَقْبَحُهَا، وَالْمُرَادُ وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كَانَ مِنْ إِخْلَادِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، خِلَافًا لِمَا كَانَ يَبْغِي مِنْ نِعْمَةِ الْعَيْشِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، فَهُوَ فِي هَمٍّ دَائِمٍ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَهْتَمَّ بِهِ، وَمَا شَأْنُهُ أَلَّا يَهْتَمَّ بِهِ مِنْ صَغَائِرَ الْأُمُورِ وَخَسَائِسِ الشَّهَوَاتِ، كَدَأْبِ عُبَّادِ الْأَهْوَاءِ
وَصِغَارِ الْهِمَمِ تَرَاهُمْ كَاللَّاهِثِ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعْنُونَ بِهِ، وَيَحْمِلُونَ هَمَّهُ حَقِيرًا لَا يُتْعِبُ وَلَا يُعْيِي، وَلَا تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ رَاضِيًا بِمَا أَصَابَهُ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ، بَلْ يَزِيدُ طَمَعًا وَتَعَبًا كُلَّمَا أَصَابَ سِعَةً وَقَضَى أَرَبًا:
قَالُوا فُلَانٌ عَالِمٌ فَاضِلٌ فَأَكْرَمُوهُ مِثْلَمَا يَقْتَضِي
لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي
فَمَا قَضَى مِنْهَا أَحَدٌ لُبَانَتَهُ وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الشَّأْوِ فِي الْغَرَابَةِ هُوَ مَثْلَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ الْجَاهِلِينَ، كَذَّبُوا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَا يَسْلُبُهُمْ مَا يَفْخَرُونَ بِهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، وَيَحُطُّ مِنْ قَدْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، وَيَحُولُ دُونَ تَمَتُّعِهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ مِنْ لَذَّاتِهِمْ، فَلِهَذَا الظَّنِّ الْبَاطِلِ لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْآيَاتِ نَظَرَ تَفَكُّرٍ وَاسْتِقْلَالٍ، وَتَبَصُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، بَلْ نَظَرُوا إِلَيْهَا - لَا فِيهَا - مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ اتِّبَاعَهَا يَحُطُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَيُعَدُّ اعْتِرَافًا بِضَلَالِ سَلَفِهِمُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِهِمْ، وَيَحْرِمُهُمُ التَّمَتُّعَ بِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ.
فَكَانَ مَثَلُهُمْ مَثْلَ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَعِيبُ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعِيبُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ حَرَمَهُمْ سُوءُ اخْتِيَارِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوَاهِبِهِ الْفِطْرِيَّةِ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ إِيَّاهَا فِيمَا يَرْفَعُهُ دَرَجَاتٍ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَأَيِّنٍ مِنْ إِنْسَانٍ اسْتَعْمَلَ حَوَاسَّهُ فِي الضُّرِّ، وَعَقْلَهَ وَذَكَاءَهُ فِي الشَّرِّ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: فَاقْصُصْ أَيُّهَا الرَّسُولُ قِصَصَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُشَابِهَةِ حَالِهِ لِحَالِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ وَغَايَتِهِ، وَمَعْنَاهُ وَصُورَتِهِ، رَجَاءَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهِ فَيَحْمِلُهُمْ سُوءُ حَالِهِمْ، وَقُبْحُ مَثَلِهِمْ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَإِذَا هُمْ تَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْرَجِ مِنْهُ، وَنَظَرُوا فِي الْآيَاتِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ الْهَوَى وَالْعَدَاوَةِ، وَلَا طَرِيقَ لِهِدَايَتِهِمْ غَيْرُ هَذِهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنٍ ضَرَبِ الْأَمْثَالِ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ، وَكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ سُوقِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ الْمُجَرَّدَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ التَّفَكُّرِ،
وَكَوْنِهِ مَبْدَأَ الْعِلْمِ وَطَرِيقَ الْحَقِّ ; وَلِذَلِكَ
342
حَثَّ اللهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ إِنَّمَا تُسَاقُ إِلَى الْمُتَفَكِّرِينَ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَقَدْ تَكَرَّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي عِدَّةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ضَارِبًا مَثَلًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْغُرُورِ بِهَا يُنَاسِبُ سِيَاقَنَا هَذَا: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٠: ٢٤) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ: إِنَّ الْفَارِقَ الْحَقِيقِيِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الْمَدَنِيِّ، وَالْإِنْسَانِ الْوَحْشِيِّ هُوَ التَّفَكُّرُ انْتَهَى. فَبِقَدْرِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَسُنَنِهِ وَحِكَمِهِ فِي الْبَشَرِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، يَكُونُ ارْتِقَاءُ النَّاسِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ.
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ أَيْ: سَاءَ مَثَلُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فِي الْأَمْثَالِ، وَقُبِّحَتْ صِفَتُهُمْ فِي الصِّفَاتِ، وَمَا كَانُوا بِمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَمِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا نَظَرَ الْعَدُوِّ الشَّانِئِ يَظْلِمُونَ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا بِحِرْمَانِهَا مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَبِمَا يُعْقِبُ ذَلِكَ مِنْ حِرْمَانِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. هَذَا مَا فَهِمْتُهُ مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ كَتَبْتُهُ (بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ) وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَهْمِ، وَكُنْتُ قَرَأْتُ تَفْسِيرَهَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي ذِهْنِي إِلَّا تَنَازُعَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا هَلْ يَدُلُّ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى لِضَلَالِ الرَّجُلِ أَمْ لَا؟، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَقَعُ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّ مَشِيئَتَهُ تَجْرِي فِي الْعَالَمِ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ - وَإِلَّا مَا وَرَدَ فِي الرِّوَيَاتِ الْمَأْثُورَةِ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّ اسْمَهُ (بَلْعَامُ) وَاسْمَ
أَبِيهِ (بَاعُورَا) وَهَذَا مِمَّا تَلْقَاهُ أُولَئِكَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَصَارَ يَنْقُلُهُ بَعْضُهُمْ لِثِقَتِهِمْ بِالرَّاوِي، لِكَوْنِهِ مِمَّنِ اغْتَرُّوا بِصَلَاحِهِمْ كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَهَاكَ خُلَاصَةَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، مَنْقُولَةٌ عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ.
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا الْآيَةَ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ
343
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ بْنُ أَبَرَّ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ بُلْعُمُ بْنُ بَاعُورَاءَ وَفِي لَفْظٍ بَلْعَامُ بْنُ عَامِرِ: الَّذِي أُوتِيَ الِاسْمَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا الْآيَةَ. قَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ تَعَلَّمَ اسْمَ اللهِ الْأَكْبَرِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ مُوسَى أَتَاهُ بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمِهِ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرَ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا فَادْعُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ عَنَّا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: إِنِّي إِنْ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَضَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي. فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ فَانْسَلَخَ مِمَّا كَانَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قَالَ: إِنْ حُمِّلَ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنَّ تُرِكَ لَمْ يَهْتَدِ لِخَيْرٍ، كَالْكَلْبِ إِنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ طُرِدَ لَهَثَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ الْآيَةَ. قَالَ: هُوَ رَجُلٌ أُعْطِيَ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَتِ: اجْعَلْ لِي مِنْهَا وَاحِدَةً، قَالَ: فَلَكِ وَاحِدَةٌ، فَمَا الَّذِي تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: ادْعُ اللهُ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا اللهُ فَجَعَلَهَا أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ
عَنْهُ، وَأَرَادَتْ شَيْئًا آخَرَ، فَدَعَا اللهُ أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً فَصَارَتْ كَلْبَةً، فَذَهَبَتْ دَعْوَتَانِ فَجَاءَ بَنُوهَا فَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا قَرَارٌ، قَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، فَدَعَا اللهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَذَهَبَتِ الدَّعَوَاتُ الثَّلَاثُ وَسُمِّيَتِ الْبَسُوسَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، هُوَ رَجُلٌ يُدْعَى بُلْعُمَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَتَرَكَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَفِي لَفْظٍ نَزَلَتْ فِي صَاحِبِكُمْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَدِمَتِ الْفَارِعَةُ أُخْتُ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهَا: " هَلْ تَحْفَظِينَ مَنْ شِعْرِ أَخِيكِ شَيْئًا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " يَا فَارِعَةُ إِنْ مَثَلَ أَخِيكِ كَمَثَلِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ".
344
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
أَلَّا رَسُولٌ لَنَا مِنَّا يُخْبِرُنَا مَا بَعْدَ غَايَتِنَا مِنْ رَأْسِ نَجْرَانَا
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ إِلَى الْبَحْرِينِ وَتَنَبَّأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَقَامَ أُمَيَّةَ بِالْبَحْرَيْنِ ثَمَانِي سِنِينَ، ثُمَّ قَدِمَ فَلَقِيَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَرَأَ عَلَيْهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٣٦: ١، ٢) حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، وَثَبَ أُمَيَّةُ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ فَتَبِعَتْهُ قُرَيْشٌ تَقُولُ: مَا تَقَوُّلُ يَا أُمَيَّةُ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قَالُوا: فَهَلْ تَتْبَعُهُ؟ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ إِلَى الشَّامِ وَقَدِمَ بَعْدَ وَقْعَةِ بِدْرٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَتْلَى بَدْرٍ تَرَكَ الْإِسْلَامَ، وَرَجَعَ إِلَى الطَّائِفِ فَمَاتَ بِهَا، قَالَ: فَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنِّي لَفِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو فَقَرَأَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَقَالَ: أَتُدْرُونَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بُلْعُمُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: لَا. فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بُلْعُمُ بْنُ بَاعُورَا، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ تَقُولُ: هُوَ ابْنُ الرَّاهِبِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ مَسْجِدٌ الشِّقَاقِ، وَكَانَتْ ثَقِيفُ تَقُولُ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ نَبِيٌّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَعْنِي " بُلْعُمَ " أُوتِيَ النُّبُوَّةَ فَرَشَاهُ قَوْمُهُ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَفَعَلَ وَتَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْمُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قَالَ: لَرَفَعَهُ اللهُ بِعِلْمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَعَثَ نَبِيُّ اللهِ مُوسَى بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ مُوسَى يُقَدِّمُهُ فِي الشَّدَائِدِ، فَأَقْطَعَهُ وَأَرْضَاهُ فَتَرَكَ دِينَ مُوسَى وَتَبِعَ دِينَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا قَالَ: كَانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللهُ لِمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ
345
الْهُدَى فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَتَرَكَهُ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قَالَ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِإِيتَائِهِ الْهُدَى، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَكِنَّ اللهَ يَبْتَلِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ قَالَ: أَبَى أَنْ يَصْحَبَ الْهُدَى، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ مَيِّتِ الْفُؤَادِ كَمَا أُمِيتَ فُؤَادُ الْكَلْبِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْحُنَفَاءِ مِمَّنْ أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ آيَاتِهِ وَكِتَابِهِ فَانْسَلَخُوا مِنْهَا فَجَعَلَهُمْ مِثْلَ الْكَلْبِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قَالَ: لَدَفَعْنَا عَنْهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: سَكَنَ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ: إِنْ تَطْرُدْهُ بِدَابَّتِكَ وَرِجْلَيْكَ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَكَنَ، نَزَعَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحُسْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ قَالَ: إِنْ تَسْعَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ قَالَ: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ لَا فُؤَادَ لَهُ، مِثْلُ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى، لَا فُؤَادَ لَهُ، إِنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ كَانَ ضَالًّا قَبْلُ أَوْ بَعْدُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَحَدَّثَ عَنْ سَيَّارٍ: أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: " بَلْعَامُ " وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ إِنْ مُوسَى أَقْبَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا " بَلْعَامُ " فَرَعُبَ النَّاسُ مِنْهُ رُعْبًا شَدِيدًا فَأَتَوْا بَلْعَامَ فَقَالُوا: ادْعُ اللهَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ قَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي فَآمَرَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ: ، فَإِنَّ فِيهِمْ عِبَادِي، وَفِيهِمْ نَبِيُّهُمْ. فَقَالَ لِقَوْمِهِ: قَدْ آمَرْتُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ، قَالَ: فَأَهْدَوْا إِلَيْهِ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، ثُمَّ رَاجِعُوهُ فَقَالُوا: ادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: حَتَّى أُؤَامِرَ، فَآمَرَ فَلَمْ يُحَارَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: قَدْ آمَرَتُ فَلَمْ يُحَارَ إِلَيَّ شَيْءٌ، فَقَالُوا: لَوْ كَرِهَ رَبُّكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَنَهَاكَ كَمَا نَهَاكَ الْمَرَّةَ الْأُولَى، فَأَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَإِذَا دَعَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ الدُّعَاءُ عَلَى قَوْمِهِ فَإِذَا أَرْسَلَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى قَوْمِهِ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى مُوسَى وَجَيْشِهِ، فَقَالُوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا تَدْعُو عَلَيْنَا. قَالَ: مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِي إِلَّا هَكَذَا، وَلَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِمْ مَا اسْتُجِيبَ لِي، وَلَكِنْ سَأَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُهُمْ. إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الزِّنَا، وَإِنْ هُمْ وَقَعُوا بِالزِّنَا هَلَكُوا، فَأَخْرِجُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ مُسَافِرُونَ فَعَسَى أَنْ يَزْنُوا فَيَهْلِكُوا.
346
فَأَخْرَجُوا النِّسَاءَ تَسْتَقْبِلُهُمْ فَوَقَعُوا بِالزِّنَا، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قَالَ: كَانَ اسْمُهُ " بلعلم " وَكَانَ يُحْسِنُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، فَغَزَاهُمْ مُوسَى فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، فَجَاءَهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: ادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا إِذَا غَزَاهُمْ أَحَدٌ أَتَوْهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا، وَكَانَ لَا يَدْعُو حَتَّى يَنَامَ فَيَنْظُرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي مَنَامِهِ، فَنَامَ، فَقِيلَ لَهُ: ادْعُ اللهَ لَهُمْ وَلَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَيْقَظَ فَأَبَى أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: زَيَّنُوا لَهُمُ النِّسَاءَ فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُنَّ لَمْ يَصْبِرُوا حَتَّى يُصِيبُوا مِنَ الذُّنُوبِ فَتُدَالُوا عَلَيْهِمْ.
ذَلِكَ مَا لَخَّصَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَكُلُّهُ مِمَّا انْخَدَعَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ، وَبَعْضُهَا قَوِيُّ السَّنَدِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ جُلَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَزَادَ عَلَيْهَا وَانْتَقَدَ بَعْضَهَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ رُوَاتِهَا كَعْبَ الْأَخْبَارِ وَوَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، وَمِمَّا عَزَاهُ إِلَى رِوَايَةِ وَهْبٍ وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِغَيْرِهِ أَنَّ قِصَّةَ بَلْعَامَ كَانَتْ فِي قِتَالِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ لِأَمَةِ مُوسَى بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَنَّ بَلْعَامَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى، وَقَالَ بَعْدَ سِيَاقٍ طَوِيلٍ لِلْقِصَّةِ لَا حَاجَةَ إِلَى نَقْلِهِ مَا نَصُّهُ:
" وَحُكِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَنْ كَعْبٍ، وَفِيهَا أَنَّ مُعَسْكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِأَرْضِ كَنْعَانَ مِنَ الشَّامِ، بَيْنَ أَرِيحَا وَبَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَجَبَلِ الْبَلْقَاءِ وَالتِّيهِ فِيمَا بَيْنُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ عَلَى نَمَطِ مَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ " انْدَلَعَ لِسَانُهُ " وَجَاءَتْهُ لَمْعَةٌ فَأَخَذَتْ بَصَرَهُ فَعَمِيَ.
" وَحُكِيَ عَنْ وَهَبَّ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ بَلْعَامُ أُخِذَ أَسِيرًا فَأُتِيَ بِهِ إِلَى مُوسَى فَقَتَلَهُ (قَالَ) : وَهَكَذَا كَانَتْ سُنَّتَهُمْ، أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى (قَالَ) : فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْسَلَخَ مِنْهَا يَقُولُ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزَّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " كَانَ مَثَلُ بلعلم بْنِ بَاعُورَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمُثُلٍ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ " (قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ) قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَتَأَمَّلْ (؟ ؟) (قَالَ) " وَأَقُولُ: فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ ذُكِرَ بَلْعَامُ
وَقِصَّتُهُ مُطَوَّلَةٌ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِرِوَايَةِ وَهْبٍ غَيْرَ أَنَّ الَّذِينَ دَوَّنُوا التَّوْرَاةَ الْمَوْجُودَةَ الْيَوْمَ بَرَّءُوا بَلْعَامَ فَقَالُوا: إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي حِكَايَةٍ بَلْعَامَ فَيَكُونُ الْقُرْآنُ قَدْ أَظْهَرَ مَا كَتَمَهُ التَّوْرَاتِيُّونَ، وَأَظْهَرَ مَا خَبَّؤُوهُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ نَزَلَتْ ; عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْآيَاتِ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِنْ كُلِّ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ الْحُجَجُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ إِنَّهُ انْسَلَخَ مِنْهَا - إِلَى أَنْ قَالَ - وَالصَّوَابُ
347
فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِذَا كَانَ لَا دَلَالَةَ عَلَى خُصُوصِهِ مِنْ خَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَسَاكِرَ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَافِظَ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهِيَ عَيْنُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْهَا إِلَّا مَا فِي اخْتِلَافِ التَّرْجَمَاتِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ مِنَ الْفُرُوقِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي فَلَنْ يَصِلَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي فِي رِوَايَاتٍ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ، وَابْنِ عَسَاكِرَ يُرَجِّحُ قَوْلَ وَهْبٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ ; لِأَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَيَعُدُّ رِوَايَتَهُ دَلِيلًا عَلَى مُعْجِزَةٍ لِلْقُرْآنِ، وَلَوْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ هُوَ بَلْعَامُ هَذَا، أَوْ لَوْ صَحَّ هَذَا فِي خَبَرٍ مُسْنَدٍ مُتَّصِلٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَكَانَ صَحِيحًا، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ جَاءَ وَهْبٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَاوِيًا لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِمَا عِنْدَهُمْ.
وَقِصَّةُ بَلْعَامَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفُصُولِ (٢٢ - ٢٤) مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَفِيهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي " عَرَبَاتِ مُوَآبَ مِنْ عَبَرِ أُرْدُنِّ أَرِيحَا " مَنْ أَرْضِ مَدْيَنَ كَمَا نَقُولُ (أَوْ مَدْيَانَ كَمَا يَقُولُونَ) وَأَنَّ بَالَاقَ بْنَ صِفُّورَ (بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ) مَلِكَ الْمَوَآبِيِّينَ طَلَبَ مِنْ بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَ أَنْ يَلْعَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِيَنْصُرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَعَدَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ أَلَّا يَفْعَلَ فَلَمْ يَفْعَلْ.
وَفِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلدُّكْتُورِ " بُوسْت " أَنَّ بَلْعَامَ هَذَا مِنْ قَرْيَةِ فَثَوْر مِنْ بَيْنِ النَّهْرَيْنِ قَالَ: وَكَانَ نَبِيًّا مَشْهُورًا فِي جِيلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا يَعْبُدُ
اللهَ (! !) وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ وَطَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ جُرْثُومَةَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ فِي أَيَّامٍ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَقَدْ ذَاعَ صِيتُ هَذَا النَّبِيِّ بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَلَا شَأْنُهُ، وَصَارَتِ النَّاسُ تَقْصِدُهُ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْبِلَادِ لِيَتَنَبَّأَ لَهُمْ عَنْ أُمُورٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِمْ، أَوْ لِيُبَارِكَهُمْ وَيُبَارِكَ مُقْتَنَيَاتِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ " ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ مَلِكِ مُوَآبَ مَعَهُ، فَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ بَلْعَامُ عِرَاقِيًّا لَا إِسْرَائِيلِيًّا وَلَا مُوَآبِيًّا.
وَذَكَرَ الْبُسْتَانِيُّ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ مُلَخَّصَ قِصَّةِ بَلْعَامَ " ثُمَّ قَالَ: وَبَعْضُ مُفَسِّرِي (الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) الْمُدَقِّقِينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ " بَلْعَامَ " الْمُدْرَجَةَ فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٢ - ٢٤) دَخِيلَةٌ إِلَخْ. فَتَأَمَّلْ!.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا قِيمَةَ لِأَسَانِيدِهَا ; لِأَنَّ مَنْ يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّنَدُ قَدِ اغْتَرَّ بِبَعْضِ مُلَفِّقِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ حَتْمًا، وَقَدْ رَأَيْنَا شَيْخَ الْمُفَسِّرِينَ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يَعْتَدْ بِهَا. وَنَرْجُو - وَقَدْ رَاجَعْنَا أَشْهَرَ مَا لَدَيْنَا مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ - أَنْ يَكُونَ مَا بَيَّنَّا بِهِ مَعْنَى الْآيَاتِ أَصَحَّهَا وَأَكْبَرَهَا فَائِدَةً.
348
وَأَكْبَرُ وُجُوهِ الْعَبْرَةِ فِيهَا مَا نَرَاهُ مِنْ حَالِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا اللَّابِسِينَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ، الَّذِينَ هُمْ أَظْهَرُ مَظَاهِرِ الْمَثَلِ فِي الِانْسِلَاخِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَتَفَانِيهِمْ فِي إِرْضَاءِ الْحُكَّامِ، وَإِنْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَالْعَوَامِ وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً خُرَافِييِّنَ، وَهُمْ فِتْنَةٌ لِلنَّابِتَةِ الْعَصْرِيَّةِ تَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِلْعَوَّامِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ مَوْتَاهَا فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالطَّوَافُ بِهَا وَالنُّذُرُ لَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ
لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِمَضْمُونِ الْمَثَلِ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ إِنَّمَا يَنْتَهِي كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْمَرْءِ الْمُسْتَعِدِّ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْغَايَتَيْنِ، وَالْعُرْضَةُ لِسُلُوكِ كُلٍّ مِنَ النَّجْدَيْنِ، بِتَقْدِيرِ اللهِ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِهِ فِي اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ وِهَدَايَاتِهِ الْفِطْرِيَّةِ، مِنَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٧٦: ٣) وَقَدْ أَجْمَلَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَفَصَّلَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِإِيجَازٍ بَدِيعٍ فَقَالَ: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أَيْ: مَنْ يُوَفِّقُهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِسُلُوكِ سَبِيلِ الْهُدَى بِاسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ، بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَإِرْشَادِ الدِّينِ، فَهُوَ الْمُهْتَدِي الشَّاكِرُ لِنِعَمِهِ تَعَالَى، الْفَائِزُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَيْ وَمَنْ يَخْذُلْهُ بِالْحِرْمَانِ مِنْ هَذَا التَّوْفِيقِ، فَيَتَّبِعَ هَوَاهُ وَشَيْطَانَهُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ فِي فِقْهِ آيَاتِهِ تَعَالَى وَشُكْرِ نِعَمَهِ، فَهُوَ الضَّالُّ الْكَفُورُ الْخَاسِرُ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَخْسَرُ بِذَلِكَ مَوَاهِبَ نَفْسَهُ الَّتِي كَانَ بِهَا إِنْسَانًا مُسْتَعِدًّا لِلسَّعَادَةِ فَتَفُوتُهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَوْتًا إِضَافِيًّا فِي الدُّنْيَا وَحَقِيقِيًّا فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَدِيعِ الِاحْتِبَاكُ، وَهُوَ حَذْفُ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَمُقَابِلِهِ - وَهُوَ الْخُسْرَانُ - فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَحَذْفُ الضَّالِّ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْمُهْتَدِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِفْرَادُ الْمُهْتَدِي فِي الْأُولَى
مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مَنْ)، وَجَمْعُ الْخَاسِرِينَ فِي الثَّانِيَةِ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَحِكْمَةُ إِفْرَادِ الْأَوَّلِ، الْإِشَارَةُ بِهِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُثْمِرُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَحِكْمَةُ جَمْعِ الثَّانِي، الْإِشَارَةُ إِلَى تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
(٦: ١٥٣) وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (٢: ٢٥٧) الْآيَةَ.
ثُمَّ فَصَّلَ تَعَالَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا. (الذَّرْءُ) فَسَّرُوهُ بِالْخَلْقِ، وَذَرَأْنَا: خَلَقْنَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، وَلِكُلِّ مَادَّةٍ مَعْنًى خَاصٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى مَادَّةِ " خَلَقَ " وَسَنُعِيدُهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الذَّرْءُ (إِظْهَارُ اللهِ تَعَالَى مَا أَبْدَأَهُ) يُقَالُ: ذَرَأَ اللهُ الْخَلْقَ أَيْ أَوْجَدَ أَشْخَاصَهُمْ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا وَقَالَ: وَقُرِئَ تَذْرَؤُهُ الرِّيَاحُ، وَفِي اللِّسَانِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الذَّرْءِ بِالْخَلْقِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ: وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ (٤٢: ١١) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْنَى يَذْرَؤُكُمْ بِهِ أَيْ يُكَثِّرُكُمْ بِجَعْلِهِ مِنْكُمْ وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا.. ثُمَّ قَالَ: " أَعُوُذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ " وَكَأَنَّ الذَّرْءَ مُخْتَصٌّ بِخَلْقِ الذُّرِّيَّةِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ " وَإِنِّي لَأَظُنُّكُمْ آلَ الْمُغِيرَةِ ذَرْءَ النَّارِ " يَعْنِي خَلْقَهَا الَّذِينَ خُلِقُوا لَهَا، وَيُرْوَى (ذَرْوُ النَّارِ)، يَعْنِي الَّذِينَ يُفَرَّقُونَ فِيهَا، مَنْ ذَرَّتِ الرِّيحُ التُّرَابَ إِذَا فَرَّقَتْهُ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَفِي الْأَسَاسِ: ذَرَأْنَا الْأَرْضَ وَذَرَوْنَاهَا، وَذَرَأَ اللهُ الْخَلْقَ وَبَرَأَ إِلَخْ.
فَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَعَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ لِهَذَا الْحَرْفِ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ خَاصَّةً، عَلِمْتَ أَنَّ الذَّرْءَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى بَثِّ الْأَشْيَاءِ وَبَذْرِهَا وَتَفْرِيقِهَا وَتَكْثِيرِهَا، وَأَنَّ إِسْنَادَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَعْنَى خَلْقِ ذَلِكَ أَيْ إِيجَادِهِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْخَلْقِ التَّقْدِيرُ، وَيُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَعْنَى إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ بِتَقْدِيرٍ وَنِظَامٍ لَا جِزَافًا ; وَلِهَذَا عُطِفَ الذَّرْءُ وَالْبَرْءُ عَلَى الْخَلْقِ فِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَ " الْجِنُّ " الْأَحْيَاءُ الْعَاقِلَةُ الْمُكَلَّفَةُ الْخَفِيَّةُ غَيْرُ الْمُدْرِكَةِ بِحَوَاسِّ الْبَشَرِ، وَلَعَلَّ تَقْدِيمَهُمْ هُنَا فِي الذِّكْرِ عَلَى الْإِنْسِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ ; لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ وَأَعْرَقُ فِي الصِّفَاتِ الْآتِيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهَا، وَكَوْنُ خَلْقِ أَصْلِ نَوْعِهِمْ وَأَوَّلِهِ مِنْ
مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، لَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَأَلُّمِهِمْ
350
مِنَ النَّارِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، فَإِنَّ بَيْنَ حَقِيقَةِ نَوْعِ الْبَشَرِ وَحَقِيقَةِ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ أَبُوهُمْ مِنْهُ بَوْنًا عَظِيمًا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجِنُّ.
وَ " الْقُلُوبُ " جَمْعُ قَلْبٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُضْغَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ جَسَدِ الْإِنْسَانِ، إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ الْكَلَامِ جَسَدَ الْإِنْسَانِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَإِدْرَاكِهِ وَعِلْمِهِ وَشُعُورِهِ وَتَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِهِ، عَلَى الصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ وَاللَّطِيفَةِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْحُكْمِ فِي أَنْوَاعِ الْمُدْرَكَاتِ، وَالشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَالْمُلَائِمَاتِ، أَعْنِي أَنَّهُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَقْلِ، وَبِمَعْنَى الْوِجْدَانِ الرُّوحِيِّ، الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالضَّمِيرِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ صَحِيحٌ. وَاشْتِقَاقُ الْعَقْلِ مِنْ عَقْلِ الْبَعِيرِ لِمَنْعِهِ مِنَ السَّيْرِ، وَفِي مَعْنَى الْقَلْبِ اللُّبُّ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ الشَّيْءِ وَيَكْثُرُ فِي التَّنْزِيلِ، وَمِنْهُ النُّهْيَةُ وَجَمْعُهَا نُهًى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٢٠: ١٢٨).
وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنَى الْعَقْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٢٢: ٤٦) وَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَحُذِفَ مِنْهَا " أَوْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا " اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَالْآيَاتُ الْمُبْصَرَةُ بِالْأَعْيُنِ فِي السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَسْمُوعَةِ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنَى الْوِجْدَانِ النَّفْسِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ (٣٩: ٤٥) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْأَنْفَالِ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (٨: ١٢) وَقَوْلُهُ فِي النَّازِعَاتِ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٧٩: ٨) فَالِاشْمِئْزَازُ وَالرُّعْبُ وَالْوَجِيفُ شُعُورٌ وِجْدَانِيٌّ، لَا حُكْمٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ مِنْهُ فِقْهَ الْقُلُوبِ هُنَا، فَإِنَّ الْفِقْهَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْإِدْرَاكِ، يَصْحَبُهُ وِجْدَانٌ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا نَذْكُرُهُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَتَعَارَضُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، كَوِجْدَانِ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَى أَعْمَالٍ مُخَالِفَةٍ لِحُكْمِ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ.
وَسَبَبُ اسْتِعْمَالِ الْقَلْبِ بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الضَّمِيرُ، مَا يَشْعُرُ
بِهِ الْمَرْءُ مِنَ انْقِبَاضٍ أَوِ انْشِرَاحٍ عِنْدَ الْخَوْفِ وَالِاشْمِئْزَازِ أَوِ السُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ حِينَ جَاءَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ وَقَدْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ قَبْلَ السُّؤَالِ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ
351
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَمُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ الْمُؤَثِّرِ فِي النَّفْسِ لَا مُطْلَقَ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ. فَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ مَرْكَزِهِمَا الدِّمَاغُ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةَ، لَا يَجِبُ أَنْ تُوَافِقَ الْحَقَائِقَ الْعِلْمِيَّةَ.
وَ " الْفِقْهُ " قَدْ فَسَّرُوهُ بِالْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمِ لَهُ - وَكَذَا بِالْفِطْنَةِ كَمَا فِي جُلِّ الْمَعَاجِمِ أَوْ كُلِّهَا، وَقَالُوا: فَقِهَ (كَعَلِمَ وَفَهِمَ) وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَالُوا: فَقُهَ (كَكَرُمُ وَضَخُمَ) فَقَاهَةً أَيْ صَارَ الْفِقْهُ وَصْفًا وَسَجِيَّةً لَهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِقْهُ هُوَ التَّوَصُّلُ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ: فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: إِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الشَّقِّ وَالْفَتْحِ. أَيْ هَذَا مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ فَهُوَ كَالْفَقْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَهِيَ تَتَعَاقَبُ مَعَ الْهَاءِ لِاتِّحَادِ مَخْرَجِهِمَا، وَذَكَرَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ بِالشَّيْءِ هُوَ مَعْرِفَةُ بَاطِنِهِ، وَالْوُصُولُ إِلَى أَعْمَاقِهِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا ظَوَاهِرَهَا لَا يُسَمَّى فَقِيهًا، وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَعَاجِمِ أَنَّ اسْمَ الْفِقْهِ غَلَبَ عَلَى عِلْمِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، أَيْ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لَا يُفَسَّرُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْفُرُوعَ فَقِيهًا، كَمَا تَرَى مِنْ عِبَارَةِ الْغَزَالِيِّ الْآتِيَةِ، وَلِغَيْرِهِ مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهَا، فَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ مَعْرِفَتَهَا بِدَلَائِلِهَا.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي (بَيَانِ مَا يَدُلُّ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُلُومِ) أَنَّ لَفْظَ الْفِقْهِ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِالتَّخْصِيصِ لَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، إِذْ خَصَّصُوهُ بِمَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ الْغَرِيبَةِ فِي الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِ عِلَلِهَا... (قَالَ)، وَلَقَدْ كَانَ اسْمُ الْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا عَلَى عِلْمِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ، وَقُوَّةِ الْإِحَاطَةِ بِحَقَارَةِ الدُّنْيَا، وَشِدَّةِ التَّطَلُّعِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الْخَوْفِ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ (٩: ١٢٢) وَمَا يَحْصُلُ
بِهِ الْإِنْذَارُ وَالتَّخْوِيفُ هُوَ هَذَا الْفِقْهُ دُونَ تَفْرِيعَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَاللِّعَانِ وَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ، فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ إِنْذَارٌ وَلَا تَخْوِيفٌ، بَلِ التَّجَرُّدُ لَهُ عَلَى الدَّوَامِ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيَنْزِعُ الْخَشْيَةَ مِنْهُ، كَمَا نُشَاهِدُ الْآنَ مِنَ الْمُتَجَرِّدِينَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَأَرَادَ بِهِ مَعَانِيَ الْإِيمَانِ دُونَ الْفَتْوَى اهـ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْسِيرُهُ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا.
وَأَقُولُ: ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ دِقَّةِ الْفَهْمِ، وَالتَّعَمُّقِ فِي الْعِلْمِ، الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَأَظْهَرَهُ نَفْيُ الْفِقْهِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا كُنْهَ الْمُرَادِ مِمَّا نُفِيَ فِقْهُهُ عَنْهُمْ، فَفَاتَتْهُمُ الْمَنْفَعَةُ مِنَ الْفَهْمِ الدَّقِيقِ، وَالْعِلْمِ الْمُتَمَكِّنِ مِنَ النَّفْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَوْمِ شُعَيْبٍ لِنَبِيِّهِمْ:
352
مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ (١١: ٩١) وَإِنْ تَرَاءَى لِغَيْرِ الْفَقِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ مَا يَقُولُ فَهْمًا سَطْحِيًّا سَاذَجًا; لِأَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَتِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ مَا فِي أَعْمَاقِ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْغَايَاتِ الْبَعِيدَةِ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ، وَعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ لَهُ، وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَقَالِيدِهِمْ وَأَهْوَائِهِمُ الصَّادَّةِ لَهُمْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْعِشْرُونَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٠: ٢٧، ٢٨) وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ ; لِأَنَّ فَصَاحَةَ لِسَانِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْوَاعِظِ الْمُنْذِرِ تُعِينُ عَلَى تَدَبُّرِ مَا يَقُولُ وَفِقْهِهِ.
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَاهُ: نُقْسِمُ أَنَّنَا قَدْ خَلَقْنَا وَبَثَثْنَا فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَجْلِ سُكْنَى جَهَنَّمِ وَالْمُقَامِ فِيهَا، أَيْ: كَمَا ذَرَأْنَا لِلْجَنَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِ الْفَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١١: ١٠٥) فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧) وَبِمَاذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُعِدِّينَ لِجَهَنَّمَ دُونَ الْجَنَّةِ، وَمَا صِفَاتُهُمُ الْمُؤَهِّلَةُ لِذَلِكَ؟.
(الْجَوَابُ) : ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا إِلَخْ. أَيْ لَا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا تَصْلُحُ وَتَتَزَكَّى بِهِ أَنْفُسُهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ الْمُطَهِّرِ لَهَا مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنَ الْمَهَانَةِ وَالصَّغَارِ ; فَإِنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ عَنْ إِيمَانٍ وَمَعْرِفَةٍ تَعْلُو نَفْسُهُ، وَتَسْمُو بِمَعْرِفَةِ رَبِّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَمُدَبِّرِ الْكَوْنِ بِتَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا تَذِلُّ نَفْسُهُ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالرَّجَاءِ فِيهِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ، بَلْ يَطْلُبُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا أَقْدَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ خَلْقَهُ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَسْبَابِهِ وَتَمْكِينِهِمْ مِنْهَا طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ، مُرَاعِيًا فِي طَلَبِهِ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ وَسُنَنِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّلَبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَا سِيَّمَا فِي نَظَرِ الْعَالِمِ بِمَا ذُكِرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لِهِدَايَتِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ سَبَبِهِ، وَإِقْدَارِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وَسَائِلِهِ، أَوْ تَسْخِيرِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ لِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ إِيصَالِهِ إِلَيْهِ، مِمَّنْ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِهِ مَا لَمْ يُعْطِهِ، كَالْأَطِبَّاءِ لِمُدَاوَاةِ الْأَمْرَاضِ، وَأَقْوِيَاءِ الْأَبْدَانِ لِرَفْعِ الْأَثْقَالِ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ وَحَلِّ الْإِشْكَالِ. وَلَا يَتَوَجَّهُ مِثْلُ هَذَا الْعَارِفِ الْمُوَحِّدِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ مَا يَعْرِفُ الْبَشَرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُطَّرِدَةِ، وَالْوَسَائِلِ الْمَعْقُولَةِ الْمُجَرَّدَةِ، كَالرُّقَى وَالنَّشَرَاتِ، وَالتَّنَاجُسِ وَالطَّلْسَمَاتِ، وَالْعَزَائِمِ وَالتَّبْخِيرَاتِ،
353
وَلَا كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، دَعِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ
مُخُّ الْعِبَادَةِ، وَالرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِيهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (٧٢: ١٨) وَيَقُولُ: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٦: ٤١) وَيَقُولُ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣: ١٧٥) وَيَقُولُ: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ (٩: ١٣) وَيَقُولُ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي (٢: ١٥٠) إِلَخْ. وَيَقُولُ: وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا (٥: ٢٣) وَيَقُولُ: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٤: ١٢).
ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَنَّ تَرْكَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْحِرْصَ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرَاتِ - وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: وَاجْتِنَابَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّيَ بِالْفَضَائِلِ - مَنَاطُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَبِهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتِمُّ الِاسْتِعْدَادُ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُ النَّاسِ بِهَا فِعْلًا وَتَرْكًا، وَسِرًّا وَجَهْرًا، إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى أَعْلَمَهُمْ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَخْلَاقِهَا، وَقَوَانِينِ التَّرْبِيَةِ الصُّورِيَّةِ وَآدَابِهَا، يَجْنُونَ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَالِاحْتِيَالِ عَلَى كَثْرَةِ الْمُقْتَنَيَاتِ، وَالتَّعَالِي عَلَى الْأَقْرَانِ وَاللَّذَّاتِ، فَيَجْتَرِحُونَ فَوَاحِشَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ، وَيَقْتَرِفُونَ جَرِيمَتَيِ الرِّشْوَةِ وَالْقِمَارِ، وَيَسْتَحِلُّونَ مُنْكَرَاتِ الْحَسَدِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْهُمْ أَكْثَرُ الْخَوَنَةِ أَعْوَانُ الْأَجَانِبِ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ، وَامْتِلَاكِ أَوْطَانِهِمْ.
ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَى الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٣٠: ٧).
ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَى الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَلَا آيَاتِهِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ مِنْ عِلْمِيَّاتٍ وَكَوْنِيَّاتٍ، وَأَظْهَرُ آيَاتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، مَا أَوْدَعَهُ مِنْهَا فِي كِتَابِهِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، فَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَتَكَلَّفُونَ لَهَا غَرَائِبَ التَّأْوِيلَاتِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضُوعِ
354
الْآيَاتِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦: ٦٥) وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ
فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٦: ٩٨) وَقَالَ فِي عَدَمِ فِقْهِهِمْ لِلْقُرْآنِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦: ٢٥) وَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ حِرْمَانَهُمْ لِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، فَهِيَ شَاهِدٌ لِكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَمِثْلُهَا فِي سُورَتَيِ الْإِسْرَاءِ (١٧: ٤٥ و٤٦) وَالْكَهْفِ (١٨: ٥٧) وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ فِيهِمَا عَلَى نَفْيِ هِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ فَقَطْ ; إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَوْضُوعِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَسْبَابَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ رُوحِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَآلِيَّةٍ، الَّتِي نَصَرَ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَعْلَ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ أَهْلًا لَغَلْبِ الْمِائَةِ فِي طَوْرِ الْقُوَّةِ، وَالْمِائَةَ أَهْلًا لَغَلْبِ الْمِائَتَيْنِ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (الْأَنْفَالِ ٨: ٦٥، ٦٦) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٥٩: ١٣) فَمِنْ آيَاتِ الدِّينِ فِي الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَفْقَهَ مِنَ الْكَافِرِ بِنُظُمِ الْحَرْبِ وَأَسْبَابِ النَّصْرِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَأَكْمَلَ اتِّصَافًا بِهَا، وَتَمَتُّعًا بِثَمَرِهَا، فَأَيْنَ هَذَا الْإِيمَانُ، مِنْ مُسْلِمِي هَذَا الزَّمَانِ؟.
ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ، وَتَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَقُوَّةِ الْجَمَاعَاتِ، وَلَا سِيَّمَا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَزَمَنِ الْمُعْجِزَاتِ، وَلَا يَفْقَهُونَ بِهَا إِدَالَةَ اللهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، بَلْ يَحْكُمُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَبْدُو لِعُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ مِنَ الظَّوَاهِرِ، دُونَ مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْفِقْهِ الْبَاطِنِ، كَمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَزْدَادُونَ بِنُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ إِلَّا رِجْسًا، أَيْ خُبْثًا وَنِفَاقًا، وَكَوْنُهُمْ يُفْتَنُونَ وَيُمْتَحَنُونَ مِرَارًا، وَلَا يُفِيدُهُمْ ذَلِكَ تَوْبَةً وَلَا ادِّكَارًا، حَتَّى إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَرُّوا مِنْ سَمَاعِهَا فِرَارًا، لَا يَخَافُونَ أَنْ يَرَاهُمُ اللهُ وَلَكِنْ يَخَافُونَ أَنْ يَرَاهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٩: ١٢٧) وَمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَتِهِمْ مِنْ قِصَرِ نَظَرِهِمْ وَظُلْمَةِ بَصِيرَتِهِمْ ; إِذْ تَوَهَّمُوا
أَنَّهُمْ يُقْنِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي انْفِضَاضِهِمْ مِنْ حَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ
355
(٦٣: ٧) أَيْ لَا يَفْقَهُونَ سِرَّ كِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى رَسُولَهَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَفَالَتِهِ لَهُمْ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَنَّ سَبَبَ إِنْفَاقِ الْأَنْصَارِ الْأَبْرَارِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ قَوْلُهُمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - إِلَّا احْتِقَارُهُمْ لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَثَبَاتُهُمْ هُمْ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ - لَا يَفْقَهُونَ هَذَا وَلَا ذَاكَ; لِأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ وِجْدَانِ الْإِيمَانِ، وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ مِنْ مَتَاعٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ نَفْيَ الْفَقَاهَةِ عَنْ قُلُوبِ الْمَخْلُوقِينَ لِجَهَنَّمَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ عَلَاقَتِهَا بِالدِّينِ وَتَكْمِيلِ النَّفْسِ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِيهِ: أَنَّ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَا ذُكِرَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ فَقِهَهُ فَهُوَ الْمَخْلُوقُ لِلْجَنَّةِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْقَهْهُ مَخْلُوقٌ لِجَهَنَّمَ، بَلْ صَارَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُوصَفُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا إِسْلَامٍ يَفْقَهُونَ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمُشَارَ إِلَى بَعْضِهَا فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُونَ، كَأَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ ; وَلِذَلِكَ نَرَاهُمْ يُنْصَرُونَ فِيهَا عَلَى هَؤُلَاءِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٤٧: ٤) وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ إِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ هُمُ الَّذِينَ يَفْقَهُونَ أَسْبَابَ النَّصْرِ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ. وَفَقَاهَةُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ، وَالْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ لَدَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهَا مَرْتَبَةَ الْإِيمَانِ الْإِسْلَامِيِّ الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُدُّونَ جَهْلَهُمْ وَخِذْلَانَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِمُ النَّصْرَ، وَالتَّرَقِّيَ فِي مَعَارِجِ الْعُمْرَانِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ
وَمَا الْإِيمَانُ، فَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَجْهَلُ وَأَضَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ خَلْقِ الْقُلُوبِ لَهُمْ، هُوَ مَوْضِعُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ الْآخَرُ يَصْدُقُ بِأَمْرَيْنِ: بِعَدَمِ وُجُودِ الْقُلُوبِ لَهُمْ بِالْمَرَّةِ، وَبِوُجُودِ قُلُوبٍ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتُوا آلَةَ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ، فَلَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ نَصًّا فِي قِيَامِ الْحُجَّةِ لِاحْتِمَالِهَا عَدَمَ التَّكْلِيفِ. وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَمْ يَقُلْ: " لَا تَفْقَهُ " ; لِبَيَانِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤَاخَذُونَ بِعَدَمِ تَوْجِيهِ إِرَادَتِهِمْ لِفِقْهِ الْأُمُورِ، وَاكْتِنَاهِ الْحَقَائِقِ، وَيُقَالُ مِثْلُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ وَهُوَ:
356
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا وَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ يُفْهَمُ إِجْمَالًا مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ فِقْهَ الْقُلُوبِ تَفْصِيلًا، أَيْ: وَلَهُمْ أَبْصَارٌ وَأَسْمَاعٌ لَا يُوَجِّهُونَهَا إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا يَرَوْنَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَفِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، وَمِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، فَيَهْتَدُوا بِكُلٍّ مِنْهَا إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَفِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَكَذَا الِاسْتِفَادَةِ مِمَّا يُرْوَى وَيُؤْثَرُ مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ ; فَإِنَّ الْآذَانَ قَدْ خُلِقَتْ لِلْإِنْسَانِ; لِيَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ مَا يَسْمَعُ، لَا مِنَ الْقُرْآنِ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْأَبْصَارَ خُلِقَتْ لَهُ لِيَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ مَا يُبْصَرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِهِ بِتَوْجِيهِ إِرَادَتِهِ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا خُلِقَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٣٢: ٢٦، ٢٧) فَهَذَانِ مَثَلَانِ لِلْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْقُرْآنِ لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَيْسَ الْفِقْهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا تَقْلِيدَ عُلَمَاءِ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِيمَا كَتَبُوهُ مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي حِكَايَتِهَا دُونَ الْعَمَلِ بِهَا! !.
وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ جَهَنَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ عَلِمَ اللهُ رُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَثَبَاتَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (٢: ٧) فَقَدْ بَيَّنَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عَدَمَ انْتِفَاعِهِمْ بِمَوَاهِبِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ آلَاتُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَطُرُقُ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ بِتَشْبِيهٍ أَبْلَغَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٢: ١٨) وَمِثْلُهُ الْمَثَلُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٢: ١٧١) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٦: ١٠٨) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٤٥: ٢٣) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ بَعْدَ ذِكْرِ هَلَاكِ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ (٤٦: ٢٦) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٨: ٢٠ - ٢٣)
357
أَيْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَاعْتِبَارٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ الِاسْتِجَابَةِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
كَرَّرَ الرَّبُّ الْحَكِيمُ بَيَانَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ، كَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَبَيَانِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ; لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ، لِمَنْ لَمْ يَفْقِدِ اسْتِعْدَادَ الْهِدَايَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ ; وَلِأَجْلِ الْعِظَةِ وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا نَرَى فِي آيَاتِ الْأَنْفَالِ، وَمَعَ هَذَا التَّكْرَارِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ، نَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ إِهْمَالًا مِنْ غَيْرِهِمْ لِاسْتِعْمَالِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ فِي النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الشُّعُوبِ بِالْعُلُومِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا آيَاتُهُ تَعَالَى فِي أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَمَشَاعِرِهِ وَقُوَاهُ الْعَقْلِيَّةِ وَانْفِعَالَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ،
وَآيَاتِهِ فِي الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالْبُخَارِ، وَالْغَازَاتِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَوَادُّ وَغَيْرُهَا، وَسُنَنِ النُّورِ وَالْكَهْرُبَاءِ وَالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ أَوْ تَلَامِيذِهِمُ الْمُتَفَرْنِجِينَ فَكَانَ مُقَلِّدًا فِيهِ لَهُمْ لَا مُسْتَقِلًّا، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَرِيقَهُمْ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهَا آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ لَهَا رَبًّا خَالِقًا مُدَبِّرًا عَلِيمًا حَكِيمًا مُرِيدًا قَدِيرًا رَحِيمًا، يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُخْشَى وَيُحَبَّ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ، وَرَجَاءُ لِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ مُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَوْ قَصَدَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ لَأَصَابُوهُ ; فَإِنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا وَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَلَكِنَّهُمْ غَفَلُوا عَنْهُ; لِتَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِمَا دُونَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ عِلْمُهُمْ عَلَى سِعَتِهِ نَاقِصًا أَقْبَحَ نَقْصٍ، وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَشُوبًا بِضَرَرٍ عَظِيمٍ بِاسْتِعْمَالِ مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَرْبِ وَآلَاتِ الْقِتَالِ. الَّتِي تُدَمِّرُ الْعُمْرَانَ وَتَسْحَقُ الْأُلُوفَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْبَشَرِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ - وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِي اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَنَفْعِهَا الْمَادِّيِّ الْعَاجِلِ، مَا يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَهَا، وَآثَرُوا الْجَهْلَ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أَيْ: أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ كَالْأَنْعَامِ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، فِي كَوْنِهِمْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ إِلَّا اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعِيشَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِأَنَّ هَذِهِ لَا تَجْنِي عَلَى أَنْفُسِهَا بِتَجَاوُزِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَحُدُودِ الْحَاجَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَنَزَوَاتِهَا بَلْ تَقِفُ فِيهِ عِنْدَ قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا الْحَيَاةَ الشَّخْصِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا عَبِيدُ الشَّهَوَاتِ مِنَ النَّاسِ فَهُمْ يُسْرِفُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِسْرَافًا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ يَقِلُّ فِيهِمْ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كُلِّهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَاهِدُ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ جِهَادًا يُفَرِّطُ فِيهِ بِحُقُوقِ الْبَدَنِ فَلَا يُعْطِيهِ الْغِذَاءَ الْكَافِي
358
وَيُقَصِّرُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَهَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ، فَيَجْنِي عَلَى شَخْصِهِ وَعَلَى نَوْعِهِ بِالتَّفْرِيطِ كَمَا يَجْنِي عَلَيْهِمَا عَبِيدُ اللَّذَّاتِ بِالْإِفْرَاطِ، دَعِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَخْلَاقِ
وَالْآدَابِ وَعَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَهِدَايَةُ الْإِسْلَامِ تَحْظُرُ هَذَا وَذَاكَ، وَتُوجِبُ الْأَكْلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزَّوَاجَ بِشَرْطِهِ، وَتُحَرِّمُ الْإِسْرَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوِ اهْتَدَى النَّاسُ بِالْقُرْآنِ فِي فِقْهِ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِ لَجَمَعُوا بِهَا بَيْنَ ارْتِقَائِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، وَاتَّقَوْا هَذَا الْإِسْرَافَ فِي الشَّهَوَاتِ وَالتَّنَازُعَ عَلَيْهَا الَّذِي أَفْسَدَ مَدَنِيَّةَ الْإِفْرِنْجِ بِمَا يَشْكُو مِنْهُ جَمِيعُ حُكَمَائِهِمْ، وَيَجْزِمُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ.
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِكُلِّ مَا ذَكَرَهُمُ الْغَافِلُونَ التَّامُّو الْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، أَوْ خَيْرِهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا وَأَدْوَمِهِمَا وَهِيَ الثَّانِيَةُ، فَهُمْ طَبَقَاتٌ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي الْغَفْلَةِ، الْغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ، الْغَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ فِي أَفْضَلِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، الْغَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تَهْدِي إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ، الْغَافِلُونَ عَنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ. وَحَيَاتِهِمُ الْقَوْمِيَّةِ، وَحَيَاتِهِمُ الْمِلِّيَّةِ، الَّذِينَ يُعَدُّونَ كَالْأَنْعَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ مُجَافَاةِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ حَقَارَتُهُمْ وَمَهَانَتُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالْقَوْمِيَّةُ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ وَتَسْخِيرُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ كَمَا يُسَخَّرُ الْأَنْعَامُ فِي سَبِيلِ مَعِيشَتِهِ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْغَافِلِينَ: هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ يُونُسَ، بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرِهِ أَمْرَ الْعَالَمِ وَكَوْنِهِ يُبْدِئُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ - وَالْإِعَادَةُ فِي الْعَادَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدْءِ - وَالتَّذْكِيرِ بِآيَاتِهِ فِي جَعْلِ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ ; لِيُعْلَمَ مِنْهَا عَدَدُ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، وَآيَاتِهِ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ - إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٠: ٧، ٨) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّارَ مَأْوَى الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَيْ عَنْ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا وَمُدَبِّرِ النِّظَامِ فِيهَا، وَكَوْنِ إِعَادَةِ خَلْقِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ فِي طَوْرٍ آخَرَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَعَنْ كَوْنِ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ، وَكَوْنِ التَّنَعُّمِ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ أَسْمَى أَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْغَافِلُونَ عَمَّا ذُكِرَ - مِنْ أَكْبَرِ
الْعُلَمَاءِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكَمِهِ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَلْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ أَبْلَغُ وَأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ فَطِنُوا لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، وَفَقِهُوهُ كَمَا يَجِبُ لَكَانُوا أَسْعَدَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَبْعَدَ عَنْ شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ، وَلَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ أَكْمَلَ اسْتِعْدَادٍ.
359
كَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٣٠: ٧) فَانْظُرْ إِلَى بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي إِعَادَةِ ضَمِيرِ (هُمْ) وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ الَّذِي اقْتَضَاهُ وَصْفُهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ صَاحِبِهِ عَدَمُ الْغَفْلَةِ.
تِلْكَ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ مَنْ خُلِقُوا لِسُكْنَى الْجَحِيمِ، وَمَا يُقَابِلُهَا فَهُوَ صِفَاتُ أَهْلِ دَارِ النَّعِيمِ، فَأَهْلُ النَّارِ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى هُمُ الْأَغْنِيَاءُ الْجَاهِلُونَ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فِقْهِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَارِفِ، وَاسْتِفَادَةِ الْعُلُومِ، وَمَعْرِفَةِ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَفِقْهِ آيَاتِهِ التَّنْزِيلِيَّةِ، وَهُمَا سَبَبُ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَى كَمَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَنْ تَرَى فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْكَثِيرَةِ مَنْ نَبَّهَ قُرَّاءَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْهَادِيَةِ إِلَى سَبِيلِهِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّخَذُوا كِتَابَ اللهِ مَهْجُورًا، فَإِذَا سَأَلْتَ أَشْهَرَهُمْ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ لَكَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلنَّارِ خَلْقًا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مَجْبُورُونَ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَفْهَمُوا بِهَا شَيْئًا مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْهَمَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ مِنَ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا -، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّوَاهِدُ التَّكْوِينِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا - وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، فَيَتَنَاوَلُ الْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةَ عَلَى طُرُزِ مَا سَلَفَ " انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فِيهِ فَكَلَامٌ فِي الْإِعْرَابِ وَنُكَتِ التَّعْبِيرِ، وَتَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْجَبْرِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ زُبْدَةُ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَأَهْلُ النَّارِ عِنْدَهُمْ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ كَافِرِينَ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ مُسْلِمِينَ، إِنْ كَانُوا يَجْهَلُونَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيُصِرُّونَ عَلَى الْفُجُورِ، اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ لِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ، وَيَذْبَحُونَ لَهُمُ النَّسَائِكَ، وَيَنْذِرُونَ لَهُمُ النُّذُورَ،
وَهِيَ عِبَادَاتٌ لِغَيْرِ اللهِ يَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ غَفْلَةٌ وَجَهْلٌ بَلْ هِيَ كَسَائِرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ وَمَعْنَاهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ تَرَكُوا اسْتِعْمَالَ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمُ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي عِلْمِ الْهُدَى، الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ الْمُزَكِّيَةُ لِلنَّفْسِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ أَهْلَ جَهَنَّمَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَرَأَهُمْ لِجَهَنَّمَ لِذَوَاتِهِمْ ; فَإِنَّ ذَوَاتِ الْجِنْسَيْنِ كُلُّهَا مُتَشَابِهَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ خَلَقَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْقُوَى فِي أَسْبَابِ الْهُدَى بَلْ قَالَ: إِنَّهُمْ هُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦٧: ١٠، ١١) وَلَكِنَّ الْجَدَلَ فِي الْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي أَوْهَمَهُمْ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ هَدَانَا إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ وَالْأَكْوَانِ، وَهُوَ مَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا مَا يَحُومُ حَوْلَهُ الْإِنْسَانُ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ، مِمَّا أَمَرَ بِهِ اللهُ فَالْحَمْدُ لَهُ ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ.
360
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ حَالَ الْمَخْلُوقِينَ لِجَهَنَّمَ فِي عَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللهِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْإِهْمَالَ أَعْقَبَهُمُ الْغَفْلَةَ التَّامَّةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا فِيهِ صَلَاحُهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَشُكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ - وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدَوَاءِ هَذِهِ الْغَفْلَةِ، وَأَقْرَبِ الْوَسَائِلِ لِلْمَخْرَجِ مِنْهَا إِلَى ضِدِّهَا فَقَالَ:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا الْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الذَّاتِ فَقَطْ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ مَعَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَقًّا، كَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ، أَوْ مَصْدَرًا، كَالرَّبِّ وَالسَّلَامِ وَالْعَدْلِ. وَالْحُسْنَى جَمْعُ أَحْسَنَ، وَالْمَعْنَى:
وَلِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَعَانِي وَأَكْمَلِ الصِّفَاتِ، فَادْعُوهُ أَيْ سَمُّوهُ وَاذْكُرُوهُ وَنَادُوهُ بِهَا، لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ، وَعِنْدَ السُّؤَالِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ، فَمِنَ الذِّكْرِ لِمَحْضِ الثَّنَاءِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢: ٢٥٥) إِلَخْ. وَآخِرُ سُورَةٍ الْحَشْرِ: هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥٩: ٢٢ - ٢٤) وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَنْ يَقُولَ قَبْلَهَا " أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ.
وَلِلذِّكْرِ الْمَحْضِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ فِي تَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَحُبِّهِ وَالْخُشُوعِ لَهُ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَاحْتِقَارِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالتَّأَلُّمِ لِمَا يَفُوتُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَنْ نَزَلَ بِهِ غَمٌّ أَوْ كَرْبٌ أَوْ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
وَمِنَ الذِّكْرِ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ
361
يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ " وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ: مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْأَدْعِيَةُ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى نِدَاءً أَوْ غَيْر نِدَاءٍ كَثِيرَةٌ، تُرَاجَعُ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ لِلنَّوَوِيِّ، وَكِتَابِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ لِابْنِ الْجَزَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ.
وَأَسْمَاءُ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا حُسْنَى بِدَلَالَةِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى مُنْتَهَى كَمَالِ مَعْنَاهُ، وَتَفْضِيلِهَا عَلَى مَا يُطْلَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، كَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْحَفِيظِ وَالْعَلِيمِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَمُسْلِمٍ فِي الذِّكْرِ. قَالَ مُسْلِمٌ: وَزَادَ هَمَامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَهُ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ (قَالَ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ " مَنْ أَحْصَاهَا " اهـ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ بِلَفْظِ: لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ وَقَوْلُهُ: " إِلَّا وَاحِدَةً " بِالتَّأْنِيثِ وَجَّهَهُ ابْنُ مَالِكٍ; لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْكَلِمَةِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَسَرَدَا فِيهِ الْأَسْمَاءَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَفِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَاتِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُحَدِّثُونَ فِي سَرْدِ الْأَسْمَاءِ، هَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ أَوْ مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ؟ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُدْرَجٌ لَا مَرْفُوعٌ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ; لِتَفَرُّدِ الْوَلِيدِ بِهِ، وَالِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَتَدْلِيسِهِ وَاحْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَضْعَفَ مِنْ هَذِهِ، وَهَذَا سَرْدُ الْأَسْمَاءِ فِي أَمْثَلِ الطُّرُقِ عَنِ الْوَلِيدِ مِنْ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ:
" هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ، الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ، الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ
362
الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ الْآخِرُ، الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِي الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّؤُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، النُّورُ الْهَادِي، الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ الصَّبُورُ ".
أَوْرَدَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا وَإِنْكَارَ بَعْضِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ لِرَفْعِهَا، كَابْنِ حَزْمٍ وَالدَّاوُدِيُّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - وَالْأَقْوَالَ فِي حَصْرِهَا وَمَأْخَذِهَا ثُمَّ قَالَ:.
" وَإِذَا تَقَرَّرَ رُجْحَانُ أَنَّ سَرْدَ الْأَسْمَاءِ لَيْسَ مَرْفُوعًا، فَقَدِ اعْتَنَى جَمَاعَةٌ بِتَتَبُّعِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَدٍ، فَرُوِّينَا فِي كِتَابِ الْمِائَتَيْنِ لِأَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، وَالْخَلَّالُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَقَالَ: هِيَ فِي الْقُرْآنِ، وَرُوِّينَا فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْجِ عَنْ حِبَّانَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ الْحَدِيثَ، يَعْنِي حَدِيثَ " إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا قَالَ: فَوَعَدَنَا سُفْيَانُ أَنْ يُخْرِجَهَا لَنَا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَبْطَأَ، فَأَتَيْنَا أَبَا زَيْدٍ فَأَخْرَجَهَا لَنَا، فَعَرَضْنَاهَا عَلَى سُفْيَانَ فَنَظَرَ فِيهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَقَالَ: نَعَمْ هِيَ هَذِهِ.
" وَهَذَا سِيَاقُ مَا ذَكَرَهُ جَعْفَرٌ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَا: فَفِي الْفَاتِحَةِ خَمْسَةٌ: اللهُ، رَبُّ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، مَالِكٌ، وَفِي الْبَقَرَةِ: مُحِيطٌ، قَدِيرٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، عَلِيٌّ، عَظِيمٌ، تَوَّابٌ، بَصِيرٌ، وَلِيٌّ، وَاسِعٌ، كَافٍ، رَؤُوفٌ، بَدِيعٌ، شَاكِرٌ، وَاحِدٌ، سَمِيعٌ، قَابِضٌ، بَاسِطٌ، حَيٌّ، قَيُّومٌ، غَنِيٌّ، حَمِيدٌ، غَفُورٌ، حَلِيمٌ، وَزَادَ جَعْفَرٌ: إِلَهٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، عَزِيزٌ نَصِيرٌ، قَوِيٌّ شَدِيدٌ، سَرِيعٌ خَبِيرٌ، قَالَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ، وَهَّابٌ، قَائِمٌ. زَادَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: بَاعِثٌ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ، وَفِي النِّسَاءِ: رَقِيبٌ حَسِيبٌ شَهِيدٌ مُقِيتٌ وَكِيلٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: عَلِيٌّ كَبِيرٌ. وَزَادَ سُفْيَانُ: عَفُوٌّ، وَفِي الْأَنْعَامِ: فَاطِرٌ قَاهِرٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: مُمِيتٌ غَفُورٌ بُرْهَانٌ. وَزَادَ سُفْيَانُ: لَطِيفٌ خَبِيرٌ قَادِرٌ، وَفِي الْأَعْرَافِ: مُحْيٍ مُمِيتٌ، وَفِي الْأَنْفَالِ: نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، وَفِي هُودٍ: حَفِيظٌ مَجِيدٌ، وَدُودٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، زَادَ سُفْيَانُ: قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَفِي الرَّعْدِ: كَبِيرٌ مُتَعَالٍ، وَفِي إِبْرَاهِيمَ: مَنَّانٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: صَادِقٌ وَارِثٌ، وَفِي الْحِجْرِ: خَلَّاقٌ، وَفِي مَرْيَمَ: صَادِقٌ وَارِثٌ. زَادَ
جَعْفَرٌ: فَرْدٌ، وَفِي طه عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ: غَفَّارٌ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ: كَرِيمٌ، وَفِي النُّورِ: حَقٌّ مُبِينٌ. زَادَ سُفْيَانُ: نُورٌ، وَفِي الْفُرْقَانِ: هَادٍ، وَفِي سَبَأٍ: فَتَّاحٌ، وَفِي الزُّمَرِ: عَالِمٌ، عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ، وَفِي الْمُؤْمِنِ
363
غَافِرٌ قَابِلٌ ذُو الطَّوْلِ. زَادَ سُفْيَانُ: شَدِيدٌ، وَزَادَ جَعْفَرٌ: رَفِيعٌ، وَفِي الذَّارِيَاتِ: رَزَّاقٌ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، بِالتَّاءِ، وَفِي الطُّورِ: بَرٌّ، وَفِي اقْتَرَبَتْ: مُقْتَدِرٌ. زَادَ جَعْفَرٌ: مَلِيكٌ، وَفِي الرَّحْمَنِ: ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، زَادَ جَعْفَرٌ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، بَاقٍ مُعِينٌ، وَفِي الْحَدِيدِ: أَوَّلٌ آخِرٌ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ، وَفِي الْحَشْرِ: قُدُّوسٌ سَلَامٌ مُؤْمِنٌ مُهَيْمِنٌ عَزِيزٌ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ خَالِقٌ بَارِئٌ مُصَوِّرٌ، زَادَ جَعْفَرٌ: مَلِكٌ، وَفِي الْبُرُوجِ: مُبْدِئٌ مُعِيدٌ، وَفِي الْفَجْرِ: وِتْرٌ عِنْدَ جَعْفَرٍ وَحْدَهُ، وَفِي الْإِخْلَاصِ: أَحَدٌ صَمَدٌ. هَذَا آخِرُ مَا رُوِّينَاهُ عَنْ جَعْفَرٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَتَقْرِيرِ سُفْيَانَ مِنْ تَتَبُّعِ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ وَتَكْرَارٌ وَعِدَّةُ أَسْمَاءٍ لَمْ تَرِدْ بِلَفْظِ الِاسْمِ، وَهِيَ: صَادِقٌ، مُنْعِمٌ، مُتَفَضِّلٌ، مَنَّانٌ، مُبْدِئٌ، مُعِيدٌ، بَاعِثٌ، قَابِضٌ، بُرْهَانٌ، مُعِينٌ، مُمِيتٌ، بَاقٍ.
" وَوَقَفْتُ فِي كِتَابِ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى لِأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ أَنَّهُ تَتَبَّعَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَأَمَّلْتُهُ فَوَجَدْتُهُ كَرَّرَ أَسْمَاءً، وَذَكَرَ مِمَّا لَمْ أَرَهُ فِيهِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ: الصَّادِقَ وَالْكَاشِفَ وَالْعَلَّامَ، وَذَكَرَ مِنَ الْمُضَافِ: الْفَالِقَ مِنْ قَوْلِهِ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى (٦: ٩٥) وَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ " الْقَابِلَ " مِنْ قَوْلِهِ: قَابِلِ التَّوْبِ (٤٠: ٣).
" وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَهِيَ: الرَّبُّ الْإِلَهُ الْمُحِيطُ، الْقَدِيرُ الْكَافِي، الشَّاكِرُ الشَّدِيدُ، الْقَائِمُ الْحَاكِمُ، الْفَاطِرُ الْغَافِرُ الْقَاهِرُ، الْمَوْلَى النَّصِيرُ، الْغَالِبُ الْخَالِقُ، الرَّفِيعُ، الْمَلِيكُ، الْكَفِيلُ، الْخَلَّاقُ، الْأَكْرَمُ، الْأَعْلَى، الْمُبِينُ - بِالْمُوَحَّدَةِ - الْحَفِيُّ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ - الْقَرِيبُ، الْأَحَدُ، الْحَافِظُ. فَهَذِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِمَّا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ تَكْمُلُ بِهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ، وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ لَكِنَّ بَعْضَهَا بِإِضَافَةٍ كَالشَّدِيدِ مِنْ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢: ١٩٦) وَالرَّفِيعِ مِنْ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ (٤٠: ١٥) وَالْقَائِمِ مِنْ قَوْلِهِ: قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (١٣: ٣٣) وَالْفَاطِرِ مِنْ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ (٣٥: ١) وَالْقَاهِرِ مِنْ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (٦: ١٨) وَالْمَوْلَى وَالنَّصِيرِ منْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرِ (٨: ٤٠) وَالْعَالِمِ مِنْ عَالِمُ
الْغَيْبِ (٦: ٧٣) وَالْخَالِقِ مِنْ قَوْلِهِ: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (١٣: ١٦) وَالْغَافِرِ مِنْ غَافِرِ الذَّنْبِ (٤٠: ٣) وَالْغَالِبِ مِنْ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (١٢: ٢١) وَالْحَافِظُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا (١٢: ٦٤) وَمِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢: ١٢) وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَهِيَ الْمُحْيِي مِنْ قَوْلِهِ: لَمُحْيِي الْمَوْتَى (٤١: ٣٩) وَالْمَالِكِ مِنْ قَوْلِهِ: مَالِكَ الْمُلْكِ (٣: ٢٦) وَالنُّورِ مِنْ قَوْلِهِ: نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٢٤: ٣٥) وَالْبَدِيعِ مِنْ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٢: ١١٧) وَالْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: جَامِعُ النَّاسِ (٣: ٩) وَالْحَكَمِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا (٦: ١١٤)
364
وَالْوَارِثِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (١٥: ٢٣) وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي تُقَابِلُ هَذِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ بِصِيغَةِ الِاسْمِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا: الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، الْعَدْلُ الْجَلِيلُ، الْبَاعِثُ الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُمِيتُ، الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ، الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ، الْوَالِي ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ الْمُغْنِي، الْمَانِعُ الضَّارُّ، النَّافِعُ الْبَاقِي، الرَّشِيدُ الصَّبُورُ.
" فَإِذَا اقْتُصِرَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَا عَدَا هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَأُبْدِلَتْ بِالسَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، وَكُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ وَارِدَةٌ بِصِيغَةِ الِاسْمِ، وَمَوَاضِعُهَا كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ " الْحَفِيُّ " فَإِنَّهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (١٩: ٤٧) وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ.
" وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا النَّظَرُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِ: الْقَدِيرِ وَالْمُقْتَدِرِ وَالْقَادِرِ، وَالْغَفُورِ وَالْغَفَّارِ وَالْغَافِرِ، وَالْعَلِيِّ وَالْأَعْلَى وَالْمُتَعَالِ، وَالْمَلِكِ وَالْمَلِيكِ وَالْمَالِكِ، وَالْكَرِيمِ وَالْأَكْرَمِ، وَالْقَاهِرِ وَالْقَهَّارِ، وَالْخَالِقِ وَالْخَلَّاقِ، وَالشَّاكِرِ وَالشَّكُورِ، وَالْعَالِمِ وَالْعَلِيمِ: فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ عَدِّهَا ; فَإِنَّ فِيهَا التَّغَايُرَ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَزِيدُ بِخُصُوصِيَّةٍ عَلَى الْآخَرِ لَيْسَتْ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ اسْمَانِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُشْتَقَّيْنِ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ مُنِعَ مِنْ عَدِّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَلَّا يُعَدَّ مَا يَشْتَرِكُ الِاسْمَانِ فِيهِ مَثَلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مِثْلَ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ لَكِنَّهَا عُدَّتْ; لِأَنَّهَا وَلَوِ اشْتَرَكَتْ فِي مَعْنَى الْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ فَهِيَ مُغَايِرَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَهِيَ أَنَّ الْخَالِقَ يُفِيدُ الْقُدْرَةَ
عَلَى الْإِيجَادِ وَالْبَارِئَ يُفِيدُ الْمُوجِدَ لِجَوْهَرِ الْمَخْلُوقِ، وَالْمُصَوِّرَ يُفِيدُ خَالِقَ الصُّورَةِ فِي تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْلُوقَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُغَايَرَةَ لَمْ يَمْتَنِعْ عَدُّهَا أَسْمَاءَ مَعَ وُرُودِهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَهَذَا سَرْدُهَا لِتُحْفَظَ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِعَادَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُغْتَفَرُ لِهَذَا الْقَصْدِ " اللهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ، التَّوَّابُ الْوَهَّابُ، الْخَلَّاقُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ، الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الْمُحِيطُ الْقَدِيرُ، الْمَوْلَى النَّصِيرُ، الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ، الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ، الْوَكِيلُ الْحَسِيبُ، الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ، الْوَدُودُ الْمَجِيدُ، الْوَارِثُ الشَّهِيدُ، الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، الْحَقُّ الْمُبِينُ، الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، الْغَنِيُّ الْمَالِكُ الشَّدِيدُ، الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ، الْقَاهِرُ الْكَافِي، الشَّاكِرُ الْمُسْتَعَانُ، الْفَاطِرُ الْبَدِيعُ الْغَافِرُ، الْأَوَّلُ الْآخِرُ، الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ، الْكَفِيلُ الْغَالِبُ، الْحَكَمُ الْعَادِلُ الرَّفِيعُ، الْحَافِظُ الْمُنْتَقِمُ، الْقَائِمُ الْمُحْيِي، الْجَامِعُ الْمَلِيكُ
365
الْمُتَعَالِي، النُّورُ الْهَادِي، الْغَفُورُ الشَّكُورُ، الْعَفُوُّ الرَّؤُوفُ، الْأَكْرَمُ الْأَعْلَى، الْبَرُّ الْحَفِيُّ، الرَّبُّ الْإِلَهُ، الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ".
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَدَدِ، هَلِ الْمُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ؟ أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَلِكَ؟، وَلَكِنِ اخْتُصَّتْ هَذِهِ; لِأَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حَصْرُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَالْمُرَادُ الْإخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الْأَسْمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ "، وَعِنْدَ مَالِكٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي دُعَاءٍ " وَأَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ
الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ " وَأَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا دَعَتْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْعَدَدِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ مَا عَدَاهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ الْأَسْمَاءِ وَأَبْيَنَهَا مَعَانِيَ. وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ قَوْلُهُ: " مَنْ أَحْصَاهَا " لَا قَوْلُهُ: " لِلَّهِ " وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَعُدُّهَا لِلصَّدَقَةِ، وَلِعَمْرٍو مِائَةُ ثَوْبٍ مَنْ زَارَهُ أَلْبَسُهُ إِيَّاهَا ". وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُبْهَمِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا هَذِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ أَنَّ أَكْثَرَهَا صِفَاتٌ، وَصِفَاتُ اللهِ لَا تَتَنَاهَى، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (٧: ١٨٠) فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَيُدْعَى بِهَا، وَلَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ الدُّعَاءُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ: " أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ إِمَّا ثُبُوتِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ كَالْحَيِّ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ كَالْعَظِيمِ، وَإِمَّا سَلْبِيَّةٌ كَالْقُدُّوسِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ كَالْقَدِيرِ، أَوْ مِنْ سَلْبِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ كَالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَإِمَّا مِنْ حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ كَالْمَلِكِ، وَالسُّلُوبُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ; لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِلَا نِهَايَةٍ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ
366
اسْمٌ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا نِهَايَةَ لِأَسْمَائِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَلِيلٌ فِيهَا. وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ اسْمٍ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ أَلْفٍ مِنْهَا، وَأَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ بِالْبَقِيَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءَ بِأَلْفَيْنِ مِنْهَا، وَسَائِرَ النَّاسِ بِأَلْفٍ. وَهَذِهِ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي نَفْسِ حَدِيثِ الْبَابِ " إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " الرِّوَايَةُ
الَّتِي سُرِدَتْ فِيهَا الْأَسْمَاءُ لَمْ يُعَدَّ فِيهَا الْوِتْرُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً أُخَرَ غَيْرَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَتَعَقَّبَهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْحَصْرِ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ كَابْنِ حَزْمٍ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْوَارِدَ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُدْرَجٌ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَابْنُ حَزْمٍ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى الْحَصْرِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ احْتَجَّ بِالتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إِلَّا وَاحِدًا " قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِائَةُ اسْمٍ؛ فَيَبْطُلُ قَوْلُهُ " مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا " وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ الْحَصْرَ الْمَذْكُورَ عِنْدَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْوَعْدِ الْحَاصِلِ لِمَنْ أَحْصَاهَا، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ لِمَنْ أَحْصَى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ خَطَأٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ اسْمٌ زَائِدٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ (٧: ١٨٠) وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: مِنَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةً، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٥٩: ٢٤) قَالَ: وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَعَلَّهُ مُكَرَّرٌ مَعْنًى وَإِنْ تَغَايَرَ لَفْظًا، كَالْغَافِرِ وَالْغَفَّارِ وَالْغَفُورِ مَثَلًا فَيَكُونُ الْمَعْدُودُ مِنْ ذَلِكَ وَاحِدًا فَقَطْ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ ذَلِكَ وَجَمَعْتَ الْأَسْمَاءَ الْوَارِدَةَ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ تَزِدْ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا فَإِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي تَعْيِينِهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلْيُتَّبَعْ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْعَهْدِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَعْهُودِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالدُّعَاءِ بِهَا، وَنَهْيٌ عَنِ الدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ. (قُلْتُ) : وَالْحِوَالَةُ عَلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَقْرَبُ، وَقَدْ حَصَلَ بِحَمْدِ اللهِ تَتْبُّعُهَا كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَبَقِيَ أَنْ يُعْمَدَ إِلَى مَا تَكَرَّرَ لَفْظًا وَمَعْنًى مِنَ الْقُرْآنِ فَيُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُتَتَبَّعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَكْمِلَةُ الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ نَمَطٌ آخَرُ مِنَ التَّتَبُّعِ عَسَى اللهُ أَنْ يُعِينَ عَلَيْهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ آمِينَ اهـ. (فَتْحٌ) وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ جُمْلَتَانِ، فَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ ٩٩ وَكَانَ الْحَافِظُ أَجْدَرَ الْعُلَمَاءِ بِمَا رَجَاهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ.
367
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ: ادْعُوهُ بِهَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَاتْرُكُوا وَأَهْمِلُوا بِلَا مُبَالَاةٍ جَمِيعَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِالْمَيْلِ بِأَلْفَاظِهَا أَوْ مَعَانِيهَا عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ الْوَسَطِ، إِلَى بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ وَمُتَفَرِّقِ السُّبُلِ، مِنْ تَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوْ تَشْبِيهٍ أَوْ تَعْطِيلٍ، أَوْ شِرْكٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ مَا يُنَافِي وَصْفَهَا بِالْحُسْنَى وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ، ذَرُوا هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ، وَلَا تُبَالُوا بِهِمْ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: وَلِمَاذَا نَذَرُهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَعْمَهُونَ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ عَمَلِهِمْ عَنْ قَرِيبٍ، بَعْضُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَعُمُّهُمْ جَمِيعَهُمْ عِقَابُ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَإِنَّنَا نُفَصِّلُ هَذَا التَّفْسِيرَ الْإِجْمَالِيَّ بَعْضَ التَّفْصِيلِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَنَقُولُ:.
" ذَرُوا " أَمْرٌ لَمْ يَرِدْ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالُ مَاضِيهِ وَلَا مَصْدَرِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ، فَهُوَ بِوَزْنِ وَدَعَ الشَّيْءَ يَدَعُهُ وَدْعًا، وَمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا قَدِ اسْتُعْمِلَ مَاضِيهِ وَمَصْدَرُهُ قَلِيلًا، وَذَاكَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ إِلَّا الْمُضَارِعُ " يَذَرُ " وَالْأَمْرُ " ذَرْ " وَتَعَدَدَّ ذِكْرُهَا فِي التَّنْزِيلِ، وَزَعَمَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: قَذْفُ الشَّيْءِ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَأَوْرَدَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَى شَاهِدٍ وَاحِدٍ يُخَالِفُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَوَعَدَ بِبَيَانِ دُخُولِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي تَفْسِيرَهُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (٢: ٢٣٤) وَلَمْ يَقُلْ: وَيَتْرُكُونَ وَيَخْلُفُونَ، وَلَعَلَّهُ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: وَيَتْرُكُونَ أَزْوَاجَاهُنَ عُرْضَةً لِلْإِهْمَالِ، وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، فَلْيُوصُوا لَهُنَّ، وَإِلَّا كَانُوا هُمُ الْمُهْمِلِينَ لَهُنَّ، وَالْقَاذِفِينَ بِهِنَّ فِي بَيْدَاءِ الْإِهْمَالِ وَالْحَاجَةِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُخَلَّفِينَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ (٤٨: ١٥) وَكُلُّ مَا عَدَاهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّرْكِ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَالِاهْتِمَامِ. لَا الْقَذْفِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَاقَةِ صَالِحٍ حِكَايَةً عَنْهُ: فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ (٧: ٧٣) وَأَظْهَرُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ (٣: ١٧٩) أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (٧: ١٢٧) رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ (٧١: ٢٦) وَيَذْرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٧٦: ٢٧) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ (٢٦: ١٦٦) وَتَذْرُونَ الْآخِرَةَ
(٧٥: ٢١) ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٦: ٩١) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (٦: ١١٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٣: ٨٣) إِلَخْ.
وَأَمَّا الْإِلْحَادُ فَمَعْنَاهُ الْعَامُّ الْمَيْلُ وَالِازْوِرَارُ عَنِ الْوَسَطِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَالْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِيهِ كَأَمْثَالِهِ، وَمِنْهُ لَحْدُ الْقَبْرِ لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ مَا يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مَائِلًا عَنْ وَسَطِهِ.
368
وَيُسَوَّى بِبِنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَيُقَابِلُهُ الضَّرِيحُ أَوِ الشَّقُّ، وَهُوَ وَضْعُهُ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ (وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ فِي الشَّرْعِ) يُقَالُ: لَحَدَ الْقَبْرَ وَأَلْحَدَهُ، وَلَحَدَ لِلْمَيِّتِ وَأَلْحَدَ، أَيْ جَعَلَ لَهُ لَحْدًا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَلْحَدَ السَّهْمُ الْهَدَفَ، أَيْ مَالَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ، وَلَمْ يُصِبْ وَسَطَهُ، وَلَمَّا كَانَ " خِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطَهَا " كَانَ الِانْحِرَافُ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومًا، وَمِنْهُ أُخِذَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ وَالشَّكِّ فِي اللهِ تَعَالَى بِالْإِلْحَادِ وَسُمِّيَ ذَوُوهُ الْمَلَاحِدَةُ وَالْمُلْحِدُونَ.
قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّحْدُ حُفْرَةٌ مَائِلَةٌ عَنِ الْوَسَطِ، وَقَدْ لَحَدَ الْقَبْرَ حَفَرَهُ وَأَلْحَدَهُ، وَقَدْ لَحَدْتُ الْمَيِّتَ وَأَلْحَدْتُهُ: جَعَلْتُهُ فِي اللَّحْدِ، وَيُسَمَّى اللَّحْدُ مُلْحَدًا، وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ أَلْحَدْتُهُ. وَلَحَدَ بِلِسَانِهِ إِلَى كَذَا مَالَ. قَالَ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ (١٦: ١٠٣) مِنْ لَحَدَ، وَقُرِئَ (يَلْحَدُونَ) مِنْ أَلْحَدَ، وَأَلْحَدَ فُلَانٌ: مَالَ عَنِ الْحَقِّ، وَالْإِلْحَادُ ضَرْبَانِ: إِلْحَادٌ إِلَى الشِّرْكِ بِاللهِ، وَإِلْحَادٌ إِلَى الشِّرْكِ بِالْأَسْبَابِ، فَالْأَوَّلُ يُنَافِي الْإِيمَانَ وَيُبْطِلُهُ، وَالثَّانِي يُوهِنُ عُرَاهُ وَلَا يُبْطِلُهُ، وَمِنْ هَذَا النَّحْوِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٢: ٢٥) وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ (٧: ١٨٠) وَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُوصَفَ بِمَا لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِهِ، وَالثَّانِي أَنْ يَتَأَوَّلَ أَوْصَافَهُ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ اهـ.
أَقُولُ: قَرَأَ حَمْزَةُ (يَلْحِدُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا (٤١: ٤٠) مِنْ لَحَدَ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مَنْ أَلْحَدَ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَمَا عَلِمْتَ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الْإِلْحَادُ التَّكْذِيبُ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا: اشْتَقُّوا الْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَاللَّاتِ مِنَ اللهِ، وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ " يَلْحِدُونَ " بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ اللَّحْدِ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: يُشْرِكُونَ وَالثَّانِيَةُ: يُكَذِّبُونَ فِي أَسْمَائِهِ، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى التَّكْذِيبَ بِهَا، وَإِنْكَارَ مَعَانِيهَا، وَتَحْرِيفَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَنَحْوِهِ، وَتَسْمِيَتَهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَإِشْرَاكَ غَيْرِهِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَانِ قِسْمَانِ: إِشْرَاكٌ فِي التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ يُقْصَرُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَخَصَائِصِهِمَا، وَإِشْرَاكٌ فِي الْمَعَانِي وَهِيَ قِسْمَانِ: مَعَانٍ خَاصَّةٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَمَعَانٍ غَيْرُ خَاصَّةٍ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا الْخَاصُّ بِهِ
369
تَعَالَى كَمَالُهَا، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا الْحُسْنَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى أَيْ: لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَقْسَامٌ.
(١) التَّغْيِيرُ فِيهَا بِوَضْعِهَا لِغَيْرِهِ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي " اللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا، قِيلَ: وَ " مَنَاةُ " مِنَ اسْمِهِ تَعَالَى الْمَنَّانِ، فَإِنْ صَحَّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُطْلِقُ هَذَا الِاسْمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لِأَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَأَمَّا لَفْظُ " اللَّاتِ " فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَنَّثُوا بِهِ اسْمَ الْجَلَالَةِ، " وَالْعُزَّى " مُؤَنَّثُ الْأَعَزِّ، كَالْفُضْلَى مُؤَنَّثِ الْأَفْضَلِ، وَالْحُسْنَى مُؤَنَّثِ الْأَحْسَنِ.
(٢) تَسْمِيَتُهُ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ مِنْهُمَا، وَمِنْهُ " وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْوَاجِبِ " - لَكِنْ يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى قَرِينَةٍ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي كُلِّ وَاجِبٍ عَقْلِيٍّ، وَكُلِّ وَاجِبٍ شَرْعِيٍّ هُوَ الْأَكْثَرُ - (قَالَ) :" وَالْقَدِيمُ وَالصَّانِعُ، وَقِيلَ هُمَا مَسْمُوعَانِ " وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَاجِبَ وَوَاجِبَ الْوُجُودِ وَالصَّانِعَ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ
لَا يَثْبتُ كَوْنُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مُسْتَنَدٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَلِلصَّانِعِ مَأْخَذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (٢٧: ٨٨) عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ مِثْلِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمُتْقِنُ أَيْضًا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَابَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِأَفْعَالِهِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الِاسْمَ فِي الْأَصْلِ: مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اتِّصَافُ الْمُسَمَّى بِمَعْنَى الِاسْمِ إِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الْعِلْمِيَّةِ كَزَيْدٍ وَحَارِثٍ وَفَضْلٍ، وَمَا أُطْلِقَ لِأَجْلِ مَعْنَاهُ فَقَطْ يُسَمَّى وَصْفًا وَنَعْتًا كَالْحَارِثِ يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَالظَّالِمِ لِمَنْ يَجُورُ فِي فِعْلِهِ أَوْ حُكْمِهِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ الْوَصْفُ مَعَ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ أَوِ الْمَدْحِ، فَإِنْ لُمِحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَقَالُوا الْحَارِثَ وَالْفَضْلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْمُهَيْمِنِ، أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَوْ مَصْدَرٍ كَالسَّلَامِ وَالْعَدْلِ، فَكُلُّهَا يُرَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ فَتُسَمَّى صِفَاتٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَدْلُولِهِ الْوَصْفِيِّ فَتُسَمَّى أَسْمَاءَ.
وَيُقْتَصَرُ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى التَّوَقُّفِ، وَلَيْسَ مِنْهُ الْوَاجِبُ وَالصَّانِعُ وَالْمَوْجُودُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْهُ تَعَالَى، فَيُقَالُ: إِنَّ اللهَ مَوْجُودٌ وَوَاجِبٌ، وَهُوَ صَانِعٌ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُتْقِنُ لِكُلِّ مَا خَلَقَهُ، وَلَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ: يَا وَاجِبُ أَوْ يَا صَانِعُ اغْفِرْ لِي مَثَلًا، بِهَذَا الْقَدْرِ يَصِحُّ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ تَعَالَى أَسْمَاءٌ مِنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّارِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ
370
(٥٦: ٦٤) وَلَا الْمَاكِرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣: ٥٤) وَلَا الْمُخَادِعِ أَوِ الْخَادِعِ مِنْ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ (٤: ١٤٢) وَلَكِنْ عَدُّوا مِنْهَا بَعْضَ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّدِيدِ وَالرَّفِيعِ وَالْقَائِمِ وَالْفَاطِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ هَذِهِ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا تِلْكَ فَذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ أَوْ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، وَاسْمُ الصِّفَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْكَمَالِ بِمُجَرَّدِ إِطْلَاقِهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، وَنَصُّوا عَلَى إِثْبَاتِ
كُلِّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ دُعَاءً وَوَصْفًا لَهُ، وَإِخْبَارًا عَنْهُ، وَعَلَى مَنْعِ كُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْهُ كُلُّ مَا يُسَمَّى إِلْحَادًا فِي أَسْمَائِهِ، وَكُلُّ مَا أَوْهَمَ نَقْصًا أَوْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْكَمَالِ وَلِوَصْفِ الْحُسْنَى، وَقَدْ مَنَعَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّارِعُ مُطْلَقًا، وَجَوَّزَ الْمُعْتَزِلَةُ مَا صَحَّ مَعْنَاهُ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اتِّصَافِهِ بِهِ، وَلَمْ يُوهِمْ إِطْلَاقُهُ نَقْصًا، وَالْفَلَاسِفَةُ أَوْسَعُ حُرِّيَّةً فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ... وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ سِينَا:
مُدِيرُ الْكُلِّ أَنْتَ الْقَصْدُ وَالْغَرَضُ وَأَنْتَ عَنْ كُلِّ مَا قَدْ فَاتَنَا عِوَضُ
مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ خَرْدَلَةٍ سَوِيَ جَلَالِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَرَضُ
وَقَدْ عَدُّوا عَلَيْهِ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ قَوْلَهُ لِخَالِقِهِ: فَاعْلَمْ ذَكَرَ ذَلِكَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَمَالَ إِلَيْهِ - أَيْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْجَوَازِ - بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فَجَوَّزَ إِطْلَاقَ الصِّفَةِ، وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ، وَمَنَعَ إِطْلَاقَ الِاسْمِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ لِلْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ " بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ فَالْبَارِي أَوْلَى، وَتَعَلَّقَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ لُغَةٍ يُسَمُّونَهُ سُبْحَانَهُ بَاسِمٍ مُخْتَصٍّ بِلُغَتِهِمْ كَقَوْلِهِمْ (خداى) وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَرَدَ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ، وَنَقَلَ الَآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ سِيَاقَ السَّفَارِينِيِّ إِلَى احْتِجَاجِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعَدَمِ إِنْكَارِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِطْلَاقِ الْفُرْسِ (خدا) وَزَادَ عَلَيْهِ اسْمُ (تكرى) وَهُوَ تُرْكِيٌّ وَكَافُهُ نُونٌ فِي النُّطْقِ، وَقَالَ إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا إِجْمَاعٌ، وَأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ.
وَأَقُولُ: إِنَّ لَفْظَيْ " خدا وتكرى " هُمَا الِاسْمُ الْعَلَمُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجَمَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) وَلَيْسَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمٍ جَدِيدٍ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ أَوْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَمِثْلُهُ تَرْجَمَةُ مَا يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ فِي اللُّغَاتِ، وَلَا سِيَّمَا الرَّاقِيَةَ مِنْهَا كَالْفَارِسِيَّةِ، فَهُوَ جَائِزٌ بِخِلَافِ تَرْجَمَةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ مُرَادِفٌ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَالرَّحْمَنِ وَالْقَيُّومِ - كَمَا نَعْتَقِدُ - وَمَنَعَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ (إِلْجَامِ الْعَوَامِّ) تَرْجَمَةَ
371
صِفَاتِ اللهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ مِنْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ
خَطَرِ مُخَالَفَةِ مُرَادِهِ تَعَالَى، وَقَالَ: إِنَّ بَعْضَهَا لَا مُرَادِفَ لَهُ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِبَعْضِهَا مُرَادِفٌ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَالْيَدِ، فَهِيَ تُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْجَارِحَةِ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، وَلَهَا عِدَّةُ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ كَالنِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ مَثَلًا، وَقَدْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ قَدْ تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (٤٨: ١٠) بِيَدِهِ الْمُلْكُ (٦٧: ١) بِيَدِكَ الْخَيْرُ (٣: ٢٦) لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (٣٨: ٧٥) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ (٥: ٦٤) فَلَا يُمْكِنُ وَضْعُ كَلِمَةِ تَرْجَمَةِ يَدٍ بِالْفَارِسِيَّةِ لِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا. انْتَهَى بِالْمَعْنَى، وَقَدْ أَوْرَدْتُ لَفْظَةً فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
ثُمَّ إِنَّ الْآلُوسِيُّ نَقَلَ مُوَافَقَةَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ اعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ دُونَ الْعِلْمِيَّاتِ، وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مِنْهَا (قَالَ) : وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ التَّوَقُّفَ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ احْتَجَّ لَهُ بِإِبَاحَةِ الصِّدْقِ وَاسْتِحْبَابِهِ، وَالصِّفَةُ لِتَضَمُّنِهَا النِّسْبَةَ الْخَبَرِيَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَهِيَ لَا تَتَوَقَّفُ إِلَّا عَلَى تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا، بِخِلَافِ الِاسْمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ النِّسْبَةَ الْخَبَرِيَّةَ، وَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَّا لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ مَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمَا. (قَالَ الْآلُوسِيُّ) وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَا مَانِعَ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ - وَالْخَطَرٌ قَائِمٌ - وَأَيْنَ التُّرَابُ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ اهـ.
وَأَقُولُ: مِثَالُ مَا ذَكَرُوهُ، وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْعَقْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْكَمَالُ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، وَيَدُلُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى الْعَقْلِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مَادَّتُهُ، وَهِيَ عَقْلُ الْبَعِيرِ، أَيْ رَبْطُ ذِرَاعِهِ وَوَظِيفِهِ وَشَدِّهِمَا بِالْعِقَالِ (وَهُوَ بِالْكَسْرِ الْحَبَلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ وَغَيْرُهُ) لِمَنْعِهِ مِنَ الْمَشْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْقِلَهُ أَيْ يَمْنَعَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقَاعِدَةُ الْغَزَالِيِّ فِي الصِّفَاتِ تَقْتَضِي تَحْكِيمَ رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ فِي وَصْفِ خَالِقِهِ بِمَا يَرَاهُ هُوَ حُسْنًا أَوْ كَمَالًا، وَقَدْ يَكُونُ فِي رَأْيِ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ غَيْرَ حُسْنٍ وَلَا كَمَالٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَقْلًا لَا نَقْلًا فَالْحَقُّ أَلَّا يُطْلِقَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(٣) تَرْكُ تَسْمِيَتِهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصْفِهِ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ، وَمِثْلُهُ إِسْنَادُ مَا أَسْنَدَهُ
تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، أَوْ أَنَّهُ يُوهِمُ نَقْصًا فِي حَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ أَعْلَمُ مِنْهُ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ، وَأَعْلَمُ مِنْ رَسُولِهِ صَلَوَاتُهُ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا لَا يَلِيقُ، وَبِمَا يُوهِمُ نَقْصَ التَّشْبِيهِ أَوْ غَيْرَ التَّشْبِيهِ، كَامْتِنَاعِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ ذِكْرَ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي زَعَمُوا وُجُوبَ تَأْوِيلِهَا فِي
372
عَقَائِدِهِمْ وَدُرُوسِهِمْ، وَعَدَمَ ذِكْرِهَا فِي مَجَالِسِهِمْ إِلَّا مَقْرُونَةً بِالتَّأْوِيلِ وَادِّعَاءِ أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى فِي التَّأْوِيلِ غُلُوَّ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ أَشَدَّ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَوُا السَّلَاطِينَ بِسَجْنِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ كَصِفَةِ عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ، وَمِنْهَا اسْمُ الْعَلِيِّ وَالْمُتَعَالِ، وَمِنْهَا آيَاتُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَحَادِيثُ النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، وَانْتَهَى بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ التَّوْبَةَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِلْعَامَّةِ، وَأَنْ يَتَعَهَّدَ بِذَلِكَ كِتَابَةً، وَهَذَا مِنْ أَعَاجِيبِ تَعَصُّبِ الْمَذَاهِبِ، وَالْغُرُورِ فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ: أَيِ الْآرَاءِ النَّظَرِيَّةِ فِي النُّصُوصِ، وَإِنَّ ادِّعَاءَ أَنَّ بَعْضَ كَلَامِ اللهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ مِمَّا يَجِبُ كِتْمَانُهُ وَاسْتِبْدَالُ نَظَرِيَّاتِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَمْثَالِهِمْ بِهِ لَمَطْعَنٌ كَبِيرٌ فِي الدِّينِ، وَفِي سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِلْحَادِ هُوَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْآتِي مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهَا.
(٤) تَحْرِيفُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ تَقْتَضِي التَّشْبِيهَ أَوِ التَّعْطِيلَ، فَالْمُشَبِّهَةُ ذَهَبَتْ إِلَى جَعْلِ الرَّبِّ الْقُدُّوسِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ كَرَجُلٍ مِنْ خَلْقِهِ، زَاعِمَةً أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتٍ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى ذَلِكَ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالضَّحِكِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْجَهْمِيَّةُ ذَهَبَتْ إِلَى تَأْوِيلِ جَمِيعِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى جَعَلَتْهُ كَالْعَدَمِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: فِيهِمْ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (٢: ١٤٣) هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، فِي تَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَتَسْمِيَتِهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ، وَإِسْنَادِ مَا أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَثْبَتُوا
لَهُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَمَالِ التَّنْزِيهِ، فَقَالُوا: إِنَّ لَهُ رَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ، وَغَضَبًا لَا يُشْبِهُ غَضَبَ الْمَخْلُوقِ، وَاسْتِوَاءً عَلَى عَرْشِهِ لَيْسَ كَاسْتِوَاءِ الْمُلُوكِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى عُرُوشِهِمْ، وَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَنَا بِمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كُلَّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَهُ مِنْ عَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ ذَلِكَ لَنَا إِلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي نَسْتَعْمِلُهَا فِي شُئُونِ أَنْفُسِنَا، وَعَلَّمَنَا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَعَصَمَنَا بِهَذَا التَّنْزِيهِ. أَنْ يُضِلَّنَا الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ فَنَقَعُ فِي التَّشْبِيهِ.
(٥) إِشْرَاكُ غَيْرِهِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ بِاللَّفْظِ كَاسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهِ) وَالرَّحْمَنِ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْإِضَافَاتِ كَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ رَبِّ الْكَعْبَةِ، أَوْ رَبِّ الْبَيْتِ - إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْكَعْبَةُ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (١٠٦: ٣) وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ لَفْظُ رَبٍّ إِلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ فِي كَلَامٍ بِعَيْنِهِ فَلَا بَأْسَ، كَأَنْ تَقُول وَأَنْتَ فِي بَيْتِ أَحَدِ النَّاسِ، وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ الْإِمَامَةُ حَقُّ رَبِّ
373
الْبَيْتِ، أَوْ لِيَؤُمَّنَا رَبُّ الْبَيْتِ. أَوْ تَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فِي كُرْسِيِّ صَاحِبِ الْبَيْتِ أَوْ عَلَى الْحَشْيَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ: هَذِهِ تَكْرُمَةُ رَبِّ الْبَيْتِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا بِدُونِ إِذْنِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ تَعَالَى. وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْقَوْلُ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَصْرِفُ اللَّفْظَ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِنَ الْفَتْحِ بَحْثَ انْعِقَادِ الْيَمِين بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ حَزْمٍ مُطْلَقًا ثُمَّ قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) مَا يَخْتَصُّ بِاللهِ تَعَالَى، كَاسْمِ الْجَلَالَةِ وَالرَّحْمَنِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ فَهَذَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ إِذَا أُطْلِقَ، وَلَوْ نَوَى بِهِ غَيْرَهُ (ثَانِيهَا) مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَيَّدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّقْيِيدِ كَالْجَبَّارِ وَالْحَقِّ وَالرَّبِّ وَنَحْوِهَا، فَالْحَلِفُ بِهِ يَمِينٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. (ثَالِثُهَا) مَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ اللهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. كَالْحَيِّ وَالْمُؤْمِنِ فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللهِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى اللهَ تَعَالَى فَوَجْهَانِ، صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَكَذَا فِي الْمُحَرَّرِ. وَخَالَفَ فِي الشَّرْحَيْنِ فَصَحَّحَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَقَالَ الْمُجِدُّ ابْنُ تَيْمِيَةِ فِي الْمُحَرَّرِ: أَنَّهَا يَمِينٌ اهـ.
(٦) إِشْرَاكُ غَيْرِهِ تَعَالَى فِي مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْخَاصَّةِ مَعَ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ (الْوَسِيلَةِ) عَلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَرَفْعِ الْكُرُبَاتِ، وَكِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ وَالْعَادَاتِ، كَطَلَبِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَلَفْظُ الْوَسِيلَةِ هُنَا بِمَعْنَى (الْإِلَهِ) إِذْ مَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا، أَوِ (الرَّبِّ) الْمُدَبِّرِ لِلْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ - فَهَذَا إِلْحَادٌ فِي مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى لَا فِي أَلْفَاظِهَا.
(٧) إِشْرَاكُ غَيْرِهِ فِي كَمَالِ أَسْمَائِهِ التَّامِّ الَّذِي وُصِفَتْ لِأَجْلِهِ بِالْحُسْنَى، كَمَنْ يَزْعُمُ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِغَيْرِهِ تَعَالَى رَحْمَةً كَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ كَالْمُجِيبِ مَثَلًا، قَالَ تَعَالَى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (٢: ١٨٦) وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (١١: ٦١) وَأَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمَوْتَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ وَأَسْرَعُ فِي إِجَابَتِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَيَجْمَعُونَ بِذَلِكَ بَيْنَ الشِّرْكَيْنِ: شِرْكِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، مَعَ اعْتِقَادِ إِجَابَتِهِ لِلدُّعَاءِ - وَاللهُ يَقُولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ (٢٧: ٦٢) أَيْ: لَا يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِلَّا اللهُ. فَهُوَ الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْكُفْرُ بِهِ بِتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ، وَقَدْ سَمِعْتُ امْرَأَةً مِصْرِيَّةً تَدْعُو وَتَسْتَغِيثُ فِي
374
أَمْرٍ أَهَمَّهَا: يَا مَتْبُولِيُّ يَا مَتْبُولِيُّ.. فَقُلْتُ لَهَا بَعْدَ أَنْ هَدَأَ رَوْعُهَا: لِمَاذَا تَدْعِينَ الْمَتْبُولِيَّ وَلَا تَدْعِينَ اللهَ تَعَالَى؟ قَالَتْ: الْمَتْبُولِيُّ مَا " يستناش " - أَيْ لَا يُهْمِلُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ فِي إِجَابَةِ مَنْ دَعَاهُ وَاسْتَغَاثَ بِهِ - وَذَكَرَتْ حِكَايَةً مُتَنَاقَلَةً بَيْنَ أَمْثَالِهَا وَهِيَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَدْ سَرَقَ سَمَكَةَ فَسِيخٍ وَأَكَلَهَا، فَحَلَّفَهُ صَاحِبُهَا يَمِينًا بِالْمَتْبُولِيِّ، فَحَلَفَ بِهِ فَقَيَّأَهُ الْفِسِيخَةَ، وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ يَتَجَرَّأُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَلِفِ بِاللهِ تَعَالَى كَذِبًا، وَلَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْحَلِفِ بِمُعْتَقِدِيهِمْ، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ إِيَّاهُمْ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مِنْ إِلْحَادِ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ، وَيَزْعُمُونَ مَعَهُ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ عُلَمَاءُ الْجُمُودُ الْمُضِلِّينَ، وَيَنْبِزُونَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِلَقَبِ وَهَّابِيِّينَ وَيَمْقُتُونَ هَذَا اللَّقَبَ وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى الْمُوَحِّدِينَ.
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قِصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي بَعْضِ آيَاتٍ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ فِي الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَمَا لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَإِهْمَالِ مَوَاهِبِهَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ مِنْ سُوءِ الْمَآلِ، وَأَرْشَدَنَا فِي آخِرِهَا إِلَى مَا يُصْلِحُ فَسَادَ الْفِطْرَةِ مِنْ دُعَائِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَإِلَى مَا لِلْإِلْحَادِ فِيهَا مِنْ سُوءِ الْجَزَاءِ فِي الْعُقْبَى، ثُمَّ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْبِضْعِ الْآيَاتِ بِبِضْعِ آيَاتٍ أُخْرَى فِي شَأْنِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَدَأَهَا بِوَصْفِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَثَنَّى بِذِكْرِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَثَلَّثَ بِتَفْنِيدِ
375
مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَالْإِرْشَادُ إِلَى التَّفَكُّرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى فِقْهِ الْأُمُورِ، وَمَا فِي حَقَائِقِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ، وَإِلَى النَّظَرِ الْهَادِي إِلَى مَأْخَذِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، لِمَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِقُرْبِ الْأَجَلِ، وَالِاحْتِيَاطِ لِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَتَمَهَا بِبَيَانِ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي هِدَايَةِ مَنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِضَلَالِهِ، وَتَرْكِهِ يَعْمَهُ فِي طُغْيَانِهِ. قَالَ تَعَالَى:
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكِلْتَاهُمَا تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَخْ بَدَأَهُ بِبَيَانِ حَالِ مَنْ أَضَلَّهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا
اسْتِعْمَالَ قُلُوبِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ فِي فِقْهِ آيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّهُ مَا سَمَّاهُمْ أُمَّةً ; لِأَنَّهُمْ لَا تَجْمَعُهُمْ فِي الضَّلَالِ جَامِعَةٌ، وَلِأَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرٌ وَسُبُلَهُ مُتَفَرِّقَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا حَالَ مَنْ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ، أَيْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةٍ، يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ دُونَ غَيْرِهِ يَعْدِلُونَ، فَسُبُلُهُمْ وَاحِدَةٌ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، هَؤُلَاءِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) فَلْيُرَاجَعْ فَهُوَ قَرِيبٌ، فَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ لِقُرْبِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمَّةِ مُوسَى وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَقُرْبِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا وَإِنَّمَا قَالَ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا إِلَخْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ فِي مُقَابَلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا أَيْ: خَلَقْنَا فَهُنَالِكَ يَقُولُ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ مِنْ صِفَتِهِمْ كَذَا، وَهُنَا يَقُولُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أَيْ: لِلْجَنَّةِ أُمَّةٌ صِفَتُهُمْ كَذَا وَكَذَا.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَذِهِ أُمَّتِي، بِالْحَقِّ يَحْكُمُونَ وَيَقْضُونَ، وَيَأْخُذُونَ وَيُعْطُونَ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِيهَا قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَهَا: " هَذِهِ لَكَمَ وَقَدْ أَعْطَى الْقَوْمَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَتَفْتَرِقَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً، يَقُولُ اللهُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ مَرْفُوعٌ إِلَى
376
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ; لِيُفَسِّرَ بِهِ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ، وَقَدْ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَسْتَقِيمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَعْنَى التَّفْسِيرَيْنِ وَاحِدٌ فِي مَآلِهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ لِدَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَقَالَ:
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ الِاسْتِدْرَاجُ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّرْجِ مَصْدَرِ دَرَجَ، أَوْ مِنَ الدَّرَجَةِ وَهِيَ الْمِرْقَاةُ، يُقَالُ: دَرَجَ الْكِتَابَ وَالثَّوْبَ وَأَدْرَجَهُ إِذَا طَوَاهُ، وَيُعَبَّرُ بِالدَّرْجِ - وَهُوَ الْمَصْدَرُ - عَنِ الْمُدْرَجِ أَيِ الْمَطْوِيِّ، وَيُقَالُ: دَرَجَ فُلَانٌ بِمَعْنَى مَاتَ، وَهَذِهِ آثَارُ قَوْمٍ دَرَجُوا أَيِ انْقَرَضُوا، جَعَلَهُ الرَّاغِبُ مَجَازًا بِالِاسْتِعَارَةِ، وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ ذَكَرَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ وَقَالَ وَاسْتَدْرَجَهُ: رَقَّاهُ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ، وَقِيلَ: اسْتَدْعَى هَلَكَتَهُ مِنْ دَرَجَ إِذَا مَاتَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي " سَنَسْتَدْرِجُهُمْ " مِنَ الْآيَةِ: قِيلَ مَعْنَاهُ سَنَطْوِيهِمْ طَيَّ الْكِتَابِ، عِبَارَةً عَنْ إِغْفَالِهِمْ نَحْوَ: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا (١٨: ٢٨) وَقِيلَ مَعْنَاهُ: سَنَأْخُذُهُمْ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَذَلِكَ إِدْنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيْءِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْمَرَاقِي وَالْمَنَازِلِ فِي ارْتِقَائِهَا وَنُزُولِهَا اهـ.
أَقُولُ: وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرُونَ شَيْئًا مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ ; لِجَهْلِهِمْ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْمُصَارَعَةِ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ يَدْمَغُ الْبَاطِلَ، وَمَا يَنْفَعُ النَّاسَ يَصْرَعُ مَا يَضُرُّهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (٢١: ١٨) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (١٣: ١٧) وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ إِنْذَارُهُمْ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَأْخُذُهُمْ بِالْعِقَابِ وَيَنْصُرُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَيَيْ الِاسْتِدْرَاجِ جَائِزٌ هُنَا لِظُهُورِهِ فِيمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْجَاحِدُونَ وَالْمُبَالِغُونَ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانُوا مُغْتَرِّينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ لَا يَعْتَدُّونَ بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَوَّلًا، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ فَمَا زَالُوا يَتَدَرَّجُونَ فِي عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَقِتَالِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا، ثُمَّ زَادَهُمْ غُرُورًا ظُهُورُهُمْ فِي آخِرِ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ وَقَالَ قَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ " يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ " - إِلَى أَنْ كَانَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ، فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِدْرَاجٌ بِمَعْنَى التَّنَقُّلِ فِي مَدَارِجِ الْغُرُورِ، وَبِمَعْنَى أَخْذِ اللهِ إِيَّاهُمْ، وَإِظْهَارِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ.
وَقَدْ فَسَّرَ السُّدِّيُّ الِاسْتِدْرَاجَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَجَعَلَهُ خَاصًّا بِأَخْذِهِمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.
وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ الِاسْتِدْرَاجَ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، كَاغْتِرَارِ الْعُصَاةِ بِالنِّعَمِ الَّتِي تُنْسِيهِمُ التَّوْبَةَ، وَتُلْهِيهِمْ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَاقْتِصَارِهِمْ عَلَيْهِ غَفْلَةً عَنْ سَبَبِ النُّزُولِ، وَمَنْ أُنْزِلَ فِيهِمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨: ٤٤) وَقَفَّى عَلَيْهَا بِمِثْلِ مَا هُنَا - وَالسُّورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ - وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ الْإِمْلَاءُ: الْإِمْدَادُ فِي الزَّمَنِ وَالْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَلْوَةِ وَالْمُلَاوَةِ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَالْمَلَوَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ تَكَرُّرُهُمَا وَامْتِدَادُهُمَا، يُقَالُ: أَمْلَى لَهُ إِذَا أَمْهَلَهُ طَوِيلًا، وَأَمْلَى لِلْبَعِيرِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الزِّمَامَ، وَوَسَّعَ لَهُ فِي الْقَيْدِ; لِيَتَّسِعَ لَهُ الْمَرْعَى. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (١٩: ٤٦) أَيْ زَمَنًا طَوِيلًا وَالْمَلَا بِالْقَصْرِ الْمَفَازَةُ الْوَاسِعَةُ الْمُمْتَدَّةُ، وَأَمَّا الْإِمْلَاءُ لِلْكَاتِبِ بِمَعْنَى تَلْقِينِهِ مَا يَكْتُبُ فَأَصْلُهُ أَمْلَلَ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ.
وَالْكَيْدُ كَالْمَكْرِ هُوَ التَّدْبِيرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، بِحَيْثُ يَنْخَدِعُ الْمَكِيدُ لَهُ بِمَظْهَرِهِ فَلَا يَفْطِنُ لَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَا يَسُوءُهُ مِنْ مَخْبَرِهِ وَغَايَتِهِ، وَأَكْثَرُهُ احْتِيَالٌ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، كَكَيْدِ يُوسُفَ لِأَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ مِنْ إِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ بِرِضَاهُمْ وَمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمْ ; وَلِذَلِكَ أُسْنِدَ وَأُضِيفَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ أَوْ إِسْنَادَهُمَا إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى الْعِقَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ أَدَقُّ. وَالْمَتِينُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأُمْهِلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَدْرَجِينَ فِي الْعُمْرِ، وَأَمُدُّ لَهُمْ فِي أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْحَرْبِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ لِلْبَشَرِ كَيْدًا لَهُمْ وَمَكْرًا بِهِمْ لَا حُبًّا فِيهِمْ وَنَصْرًا لَهُمْ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٣: ٥٤ - ٥٦) وَإِنْ تَسْأَلْ عَنْ كَيْدِي فَهُوَ قَوِيٌّ مَتِينٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ فَمَعْنَى هَذَا الْإِمْلَاءِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ قَدْ مَضَتْ بِأَلَّا يَكُونَ عِقَابُهُمْ بِمُقْتَضَى الْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْخَلْقِ، فَالْمَخْذُولُ إِذَا بَغَى وَظَلَمَ وَلَمْ يَنْزِلْ بِهِ الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ عَقِبَ ظُلْمِهِ يَزْدَادُ
بَغْيًا وَظُلْمًا، وَلَا يَحْسِبُ لِلْعَوَاقِبِ حِسَابًا، فَيَسْتَرْسِلُ فِي ظُلْمِهِ إِلَى أَنْ تَحِيقَ بِهِ عَاقِبَةُ ذَلِكَ، بِأَخْذِ الْحُكَّامِ لَهُ أَوْ بِتَوَرُّطِهِ فِي مَهْلَكَةٍ أُخْرَى، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.
وَقَدْ نَقَلْنَا فِي أَوَائِلِ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ عَذَابَ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا
مُطَّرِدٌ، وَأَمَّا عَذَابُ الْأَفْرَادِ فَقَدْ يَتَخَلَّفُ وَيُرْجَأُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَحَقَّقْنَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ عِقَابَ الْأُمَمِ وَبَعْضَ عِقَابِ الْأَفْرَادِ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، فَالْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ الْبَاغِيَةُ الظَّالِمَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَزُولَ سُلْطَانُهَا وَتَدُولَ دَوْلَتُهَا، وَالسِّكِّيرُ وَالزَّنَّاءُ لَا يَسْلَمَانِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَّبَهَا السُّكْرُ وَالزِّنَا، وَالْمُقَامِرُ قَلَّمَا يَمُوتُ إِلَّا فَقِيرًا مُعْدَمًا إِلَخْ.
وَقَدْ سَرَدْنَا الشَّوَاهِدَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى عَلَى عِقَابِ الْأُمَمِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدَّقَتْهَا شَوَاهِدُ التَّارِيخِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَسَتُصَدِّقُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا كَانَتِ الْحَرْبُ الْأَخِيرَةُ الْعُظْمَى إِلَّا بَعْضَ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى لِلَّذِينِ صُلُوا نَارَهَا بِبَغْيِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ، وَسَيَرَوْنَ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ غَيِّهِمْ.
بَعْدَ هَذَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْ أَكْبَرِ شُبْهَةٍ لَهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الْجِنَّةُ بِالْكَسْرِ النَّوْعُ الْخَاصُّ مِنَ الْجُنُونِ، فَهُوَ اسْمُ هَيْئَةٍ، وَاسْمٌ لِلْجِنِّ أَيْضًا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَسِّ جِنَّةٍ - وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِ رُسُلِهِ إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِالْجُنُونِ فَقَالُوا بَعْدَ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٣: ٢٥) وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ عَنْهُمْ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٥٤: ٩) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللهُ - فِي مُوسَى صَلَّى الله عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٦: ٢٧) وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥١: ٣٩) ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ فِي رُسُلِهِمْ فَقَالَ: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥١: ٥٢، ٥٣).
وَفِي مَعْنَى آيَةِ الْأَعْرَافِ فِي خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عِدَّةُ آيَاتٍ (مِنْهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ
آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٢٣: ٦٨ - ٧٠) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَافْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٣٤: ٧، ٨) ثُمَّ قَالَ فِيهَا: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكُّروا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٣٤: ٤٦) وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
379
(١٥: ٦، ٧) وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٧: ٣٦) وَفِي سُورَةِ الطُّورِ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٥٢: ٢٩) وَمِثْلُهُ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٦٨: ١، ٢) وَفِي آخِرِهَا: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٦٨: ٥١، ٥٢) وَفِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ بَعْدَ وَصْفِ مَلَكِ الْوَحْيِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٨١: ٢٢).
رَوَى أَبْنَاءُ حُمَيْدٍ وَجَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا: " أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا فَخِذًا فَخِذًا: يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللهِ وَوَقَائِعَ اللهِ إِلَى الصَّبَاحِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ بَاتَ يُهَوِّنُ (أَيْ يَصِيحُ) حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ.
قَدْ عَلِمْنَا بِمَا سَبَقَ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَرْمُونَ رُسُلَهُمْ بِالْجُنُونِ ; لِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِرِسَالَتِهِ وَوَحْيِهِ عَلَى كَوْنِهِمْ بَشَرًا كَغَيْرِهِمْ لَا يَمْتَازُونَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِمَا يَفُوقُ أُفُقَ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ نَشْأَتِهِمْ وَمَعِيشَتِهِمْ ; وَلِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا مَا لَا يُعْهَدُ لَهُ عِنْدَهُمْ نَظِيرٌ، وَلَيْسَ مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِالتَّفْكِيرِ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبِلَى خَلْقًا جَدِيدًا ; وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّ النَّاسَ مُخْطِئُونَ وَهُوَ الْمُصِيبُ، وَضَالُّونَ وَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَخَاسِرُونَ وَهُوَ الْمُفْلِحُ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْهُمْ - ; وَلِأَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَأَنْكَرُوا أَنَّهَا بِالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالنُّذُورِ لَهَا تُقَرِّبُ
الْمُتَوَسِّلِينَ بِهَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، وَتَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَثْبَتُوا أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، مَنْ رَضِيَ لَهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ فَلَا اسْتِقْلَالَ لِهَؤُلَاءِ الْآلِهَةِ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ - وَشَرَّعُوا أَنَّهُ لَا يُدْعَى مَعَ اللهِ أَحَدٌ مِنْ مَلَكٍ كَرِيمٍ، وَلَا صَالِحٍ عَظِيمٍ، فَضْلًا عَنْ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمُ الْمُذَكِّرَةِ بِهِمْ وَقُبُورِهِمُ الْمُشْرِفَةِ بِرُفَاتِهِمْ مَعَ أَنَّ الْمُذْنِبَ الْعَاصِيَ لَا يَلِيقُ بِهِ فِي رَأْيِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا وَسِيلَةٍ لِتَدَنُّسِهِ بِالذُّنُوبِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُقِرُّبُهُ إِلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ الطَّاهِرِينَ، وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمُلُوكَ الْعِظَامَ فِي الدُّنْيَا لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِ وُزَرَائِهِمْ وَحُجَّابِهِمْ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الشِّرْكِيَّةَ لَا تَزَالُ مُتَسَلْسِلَةً فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ خَالَفُوا نُصُوصَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَسُنَّةَ الرُّسُلِ، إِلَى أَعْمَالِ الْوَثَنِيِّينَ، وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي تَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، بِالْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ الْمُسْتَبِدِّينَ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ سِيَاقِ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثَالِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَكَذَّبُوا الرَّسُولَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي حَالِهِ مِنْ أَوَّلِ
380
نَشْأَتِهِ، وَفِي حَقِيقَةِ دَعْوَتِهِ، وَدَلَائِلِ رِسَالَتِهِ، وَآيَاتِ وَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأَهُمْ وَحِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ - فَإِنَّ حَذْفَ مَعْمُولِ التَّفَكُّرِ يُؤْذِنُ بِعُمُومِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا ; فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَفَكُّرٍ وَتَأَمُّلٍ إِنَّهُمْ إِنْ تَفَكَّرُوا أَوْشَكَ أَنْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ، وَمَا الْحَقُّ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَهِيَ نَافِيَةٌ لِمَا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَقَوْلِهِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَمِثْلِهَا آيَةُ سَبَأٍ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ; وَلِذَلِكَ خُتِمَتَا بِنَفْيِ كُلِّ صِفَةٍ عَنْهُ فِي مَوْضُوعِ رِسَالَتِهِ إِلَّا كَوْنَهُ مُنْذِرًا مُبَلِّغًا عَنْ رَبِّهِ، فَقَالَ هُنَا: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، أَيْ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، لَيْسَ إِلَّا مُنْذِرًا نَاصِحًا، وَمُبَلِّغًا عَنِ اللهِ مُبَيِّنًا، يُنْذِرُكُمْ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا لَمْ تَسْتَجِيبُوا لَهُ، وَقَدْ دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي الدُّنْيَا بِجَمْعِ كَلِمَتِكُمْ، وَإِصْلَاحِ أَفْرَادِكُمْ وَمُجْتَمَعِكُمْ، وَالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِكُمْ، وَيُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ. وَقَالَ هُنَالِكَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
(٣٤: ٤٦).
وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَفِي آيَةِ التَّكْوِيرِ بِالصَّاحِبِ لَهُمْ ; لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تَجَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَفَكَّرُوا حَقَّ التَّفَكُّرِ فِي سِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْقُولَةِ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ الشُّذُوذَ وَمُجَافَاةَ الْمَعْقُولِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ، وَلَا مِمَّا عُهِدَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ كَمَا قَالَ بَعْضُ زُعَمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الزُّعَمَاءِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦: ٣٣).
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا شُبْهَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرُّسُلِ بِكَوْنِهِمْ بَشَرًا مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا كَذَلِكَ شُبْهَاتُهُمْ عَلَى الْبَعْثِ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا.
وَلَوْ تَفَكَّرَ مُشْرِكُو مَكَّةَ فِي نَشْأَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَمَا جَرَّبُوا مِنْ أَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ مِنْ صَبْوَتِهِ إِلَى أَنِ اكْتَهَلَ، ثُمَّ تَفَكَّرُوا فِيمَا قَامَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْ كَوْنِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ تَقْتَضِي تَنَزُّهَهُ عَنِ الْعَبَثِ (وَمِنْهُ) أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْإِنْسَانُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَاقِلُ الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَاضٍ وَحَاضِرٍ وَآتٍ، وَيَنْتَهِي وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ ثُمَّ لَوْ تَفَكَّرُوا فِي سُوءِ حَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ (كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ) وَالْأَدَبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَمَا
381
دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِهَا كُلِّهَا، لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ الدِّينِيَّ وَالْأَدَبِيَّ وَالِاجْتِمَاعِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ لَا يُثْمِرُ إِلَّا السِّيَادَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُهُ جُنُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ، بَلْ إِذَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ الْعَالِي وَالْإِصْلَاحُ الْكَامِلُ مِنْ رَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَلَاغَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ مِنْ كَسْبِ مُحَمَّدٍ الَّذِي بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَنْظِمْ قَصِيدَةً، وَلَا ارْتَجَلَ خُطْبَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَجَ الْبَالِغَةَ عَلَى كُلِّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ، لَا يَتَأَتَّى أَنْ تَأْتِيَ فَجْأَةً مِنْ ذِي عُزْلَةٍ لَمْ يُنَاظِرْ وَلَمْ يُفَاخِرْ وَلَمْ يُجَادِلْ أَحَدًا فِيمَا مَضَى مَنْ عُمْرِهِ كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - فَإِذَا تَفَكَّرُوا فِي هَذَا كُلِّهِ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى
أَلْقَاهُ فِي رَوْعِهِ، وَنَزَلَ مِنْ لَدُنْهُ عَلَى رُوحِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ اسْتِبْعَادَهُمْ لِذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، فَاللهُ تَعَالَى الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ; لِهَذَا حَثَّهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ بَعْدَهَا كَوْنَهُ نَذِيرًا مُبِينًا، وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ دَعَاهُمْ بَعْدَ هَذَا إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ (فَعَلُوتَ) وَالْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ فِي جُمْلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي إِمْكَانِهِ، وَلَا فِي حُدُوثِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَصْدَرِهِ وَمِمَّ وُجِدَ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمٍ مَحْضٍ ; لِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ فَرْضِيٌّ، فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ وُجُودٌ، وَلَا يُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ قَدْ أَوْجَدَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَهَذَا بَدِيهِيٌّ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ وُجُودِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَهُوَ اللهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا النِّظَامَ الْعَامَّ فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْظَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ وَاحِدٌ، وَتَدْبِيرَهُ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ عَلِيمٍ وَاحِدٍ، وَحِكْمَةِ حَكِيمٍ وَاحِدٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٥٢: ٣٥، ٣٦).
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَكَذَّبُوا الرَّسُولَ الْمَشْهُورَ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالرِّوَايَةِ وَالْعَقْلِ، حَتَّى جَعَلُوا تَحْكِيمَهُ فِي تَنَازُعِهِمْ عَلَى رَفْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ هُوَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ - وَلَمْ يَنْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي مَجْمُوعِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَ بِجُمْلَتِهِ، وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ دَقَّ وَصَغُرَ، وَخَفِيَ وَاسْتَتَرَ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، تَدُلُّ عَلَى
382
ذَلِكَ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبِتَرْجِيحِ كُلِّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ، وَبِمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ، فَكَيْفَ بِالْمَلَكُوتِ الْأَعْظَمِ فِي
جُمْلَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْبَدِيعِ الَّذِي قَامَ هُوَ بِهِ؟ أَكَذَّبُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ، وَلَا فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَصْغَرِ، نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلَا فِيمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الشَّأْنُ مِنَ اقْتِرَابِ أَجَلِهِمْ، وَقُدُومِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِسُوءِ عَمَلِهِمْ، فَأَجَلُ الْأَفْرَادِ مَهْمَا يَطُلْ فَهُوَ قَصِيرٌ، وَمَهْمَا يَبْعُدُ أَمَلُهُمْ فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِّ الْوَاقِعِ قَرِيبٌ، وَلَوْ نَظَرُوا فِي الْمَلَكُوتِ أَوْ فِي شَيْءٍ مَا مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، لَاهْتَدَوْا بِدَلَائِلِهِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَلَوْ نَظَرُوا فِي تَوَقُّعِ قُرْبِ أَجَلِهِمْ لَاحْتَاطُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّوِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوا إِنْذَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ ; لِأَنَّ خَيْرِيَّتَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَهَا، وَأَمَّا خَيْرِيَّتُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ أَعْظَمُ إِذَا صَدُقَ مَا يُقَرِّرُهُ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ، وَإِنْ صَحَّ إِنْكَارُهُمْ لَهُ - وَمَا هُوَ بِصَحِيحٍ - فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا... لَا تُبْعَثُ الْأَمْوَاتُ، قُلْتُ: إِلَيْكُمَا
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا
فَالْمَجْنُونُ إِذًا مَنْ يَتْرُكُ مَا فِيهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا بِاعْتِرَافِهِ، وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَلَوْ عَلَى احْتِمَالٍ لَا ضَرَرَ فِي تَخَلُّفِهِ، لَا مَنْ يَدْعُو إِلَى السَّعَادَتَيْنِ، أَوْ إِلَى شَيْئَيْنِ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَافِعٌ قَطْعًا وَالْآخِرَ إِمَّا نَافِعٌ وَإِمَّا غَيْرُ ضَارٍّ. هَذَا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ صَاحِبُهُمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ مُؤَيَّدًا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ وَيَعْلَمُونَ.
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِنَصِّهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ، الْآيَةِ رَقْمِ " ٥٠ " الَّتِي أُقِيمَتْ فِيهَا الدَّلَائِلُ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَتَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ تَقْرِيرِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. وَوَرَدَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ (٤٥) بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَآيَاتِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَآيَاتِهِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، قَوْلُهُ: تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَالْحَدِيثُ فِي الْجَمِيعِ كَلَامُ اللهِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧: ١٨٤) وَفِي آيَةِ الْمُرْسَلَاتِ الْقَرِينَةُ فِي تَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَفِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كِتَابِ
اللهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَآيَاتِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بَعْدَهَا يُؤْمِنُونَ؟ وَالْمُرَادُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَذِيرٌ مُبِينٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَنْذَرَ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيِ الْقُرْآنِ. كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (٦: ١٩)
383
وَهُوَ أَكْمَلُ كُتُبِ اللهِ بَيَانًا، وَأَقْوَاهَا بُرْهَانًا، وَأَقْهَرُهَا سُلْطَانًا، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِهِ بِغَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَرْوِ ظَمَأَهُ الْمَاءُ النُّقَاخُ الْمُبَرَّدُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَرْوِيهِ؟ وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فِي نُورِ النَّهَارِ فَفِي أَيِّ نُورٍ يُبْصِرُ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُقَرِّرٌ لِجُمْلَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْمُرَادِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لَا لِلْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لَهُ أَكْمَلَ الرُّسُلِ، وَأَقْوَاهُمْ بُرْهَانًا فِي حَالِهِ وَعَقْلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَكَوْنِهِ أُمِّيًّا - فَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِهَذَا الْكِتَابِ، عَلَى ظُهُورِ آيَاتِهِ وَقُوَّةِ بَيِّنَاتِهِ، وَبِهَذَا الرَّسُولِ الْمُتَحَدَّى بِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ، أَيْ قَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ فِي أَعْمَالِهِ بِالْأَسْبَابِ، بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا رَاسِخًا فِي الضَّلَالِ، وَإِذَا كَانَ ضَلَالُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ وَلَا تَبْدِيلِهَا.
وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَتْرُكُ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ، كَالشَّيْءِ اللَّقَا الَّذِي لَا يُبَالَى بِهِ، حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَعْمَهُونَ فِيهِ أَيْ يَتَرَدَّدُونَ تَرَدُّدَ الْحَيْرَةِ وَالْغُمَّةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهُوَ الطُّغْيَانُ، أَيْ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْعَمَهِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي الْحَيْرَةِ وَالِارْتِكَاسِ فِي الْغُمَّةِ، وَقَدْ رُوعِيَ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ أَوَّلًا لَفْظُ مَنْ " يُضْلِلِ " وَفِي جَمْعِهِ آخِرًا مَعْنَاهَا وَهُوَ الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ..
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ إِسْنَادَ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَى الضَّلَالِ إِجْبَارًا، وَأَعْجَزَهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَنِ الْهُدَى فَكَانَ ضَلَالُهُمُ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَارَسُوا الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ، وَأَسْرَفُوا فِيهِمَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْعَمَهِ فِي الطُّغْيَانِ، فَفَقَدُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَا يُضَادُّهَا مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " يَذَرْهُمْ " بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، فَقِيلَ: هُوَ لِلتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: لِلْإِعْرَابِ بِالْعَطْفِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِـ " النُّونِ " عَلَى الِالْتِفَاتِ.
(تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ)
مِنْ تَحْقِيقِ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَاتِ كَلِمَتَا التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ عُبِّرَ هُنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوْضُوعِ اسْتِبَانَةِ كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ غُوَاتِهِمْ، وَبِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْمَلَكُوتِ وَجُزْئِيَّاتِهِ فِي مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ نُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ، وَيَتَجَلَّى تَفْسِيرُ الْآيَتَيْنِ:
384
الْفِكْرُ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْمَعَانِي وَتَدَبُّرِهَا، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ فَكَّرَ يُفَكِّرُ فِكْرًا (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) وَفَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَتَفَكَّرَ، وَمِثْلُهُ الْفِكْرَةُ وَالْفِكْرَى. وَفَسَّرُوهُ أَيْضًا بِإِعْمَالِ الْخَاطِرِ وَإِجَالَتِهِ فِي الْأُمُورِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِكْرَةُ مَطْرَقَةٌ لِلْعِلْمِ إِلَى الْمَعْلُومِ - وَالتَّفَكُّرُ جَوَلَانُ تِلْكَ الْقُوَّةِ بِحَسَبِ نَظَرِ الْعَقْلِ... وَلَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ صُورَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا رُوِيَ " تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ " إِذْ كَانَ مُنَزَّهًا أَنْ يُوصَفَ بِصُورَةٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ أَنَّ الْفِكْرَ مَقْلُوبٌ عَنِ الْفَرْكِ لَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ فَرْكُ الْأُمُورِ وَبَحْثُهَا طَلَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهَا اهـ.
وَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ: الْفِكْرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَجْهُولٍ تَصَوُّرِيٍّ أَوْ تَصْدِيقِيٍّ، وَهُوَ يُنَافِي الْحُكْمَ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِيهَا بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لِلتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ أَوْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي مَبَادِئُهَا حِسِّيَّاتٌ، فَالْإِنْسَانُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ فِي الْمَوَاقِفِ الَّتِي تُمَيَّزُ الْأَقْوَالُ، وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ تُنْتَقَدُ الْأَفْعَالُ، وَيُفَكِّرُ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُفَكِّرُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَيُفَكِّرُ أَيْضًا فِي الْمُبْصَرَاتِ كَالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ التَّنْزِيلُ فِي آيَاتِ اللهِ وَدَلَائِل وَجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَأَمَّا النَّظَرُ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ تَقْلِيبُ الْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَرُؤْيَتِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ وَالْفَحْصُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْفَحْصِ وَهُوَ الرَّوِيَّةُ، يُقَالُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ، أَيْ لَمْ تَتَأَمَّلْ وَلَمْ تَتَرَوَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (١٠: ١٠١) أَيْ تَأَمَّلُوا. وَاسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْبَصَرِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَفِي الْبَصِيرَةِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ. اهـ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنَاطِقَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَخَصُّ مِنَ الْآخَرِ؟ وَلَهُمْ كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُهُ اصْطِلَاحِيٌّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ.
وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ مَبْدَأٌ مِنْ مَبَادِئِ الْفِكْرِ وَالتَّفْكِيرِ، كَمَا أَنَّ مُبْتَدَأَهُ هُوَ النَّظَرُ الْحِسِّيُّ فِي الْغَالِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (٨٨: ١٧) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا (٥٠: ٦) ؟ إِلَخْ. وَمِنْهُ النَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الْأُمَمِ بِرُؤْيَةِ آثَارِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ مَعْرُوفَةٌ فَلَا نُطِيلُ فِي سَرْدِهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْمَبْدَأِ الْحِسِّيِّ، وَهُوَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَبْدَأِ الْفِكْرِيِّ وَهُوَ اقْتِرَابُ الْأَجَلِ، وَهُمَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا يَدُلَّانِ
385
عَلَى بِنَاءِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى قَاعِدَتَيِ: النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالتَّفَكُّرِ، اللَّذَيْنِ يَمْتَازُ بِهِمَا الْأَفْرَادُ وَالْأُمَمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهَا إِرْشَادٌ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ السَّاعَةِ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا أَجْلُ جَمِيعِ النَّاسِ، فِي أَثَرِ الْإِرْشَادِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي اقْتِرَابِ أَجَلِ مَنْ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَعَهْدِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُمْ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا كَلَامٌ فِي السَّاعَةِ الْعَامَّةِ، وَبَعْدَ الْكَلَامِ فِي السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ. قَالَ تَعَالَى:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا السَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ جُزْءٌ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَتُسَمَّى سَاعَةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ:
لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً (٧: ٣٤) وَفِي اصْطِلَاح الْفَلَكِيِّينَ جُزْءٌ مِنْ ٢٤ جُزْءًا مُتَسَاوِيَةً مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى سِتِّينَ دَقِيقَةً، وَالدَّقِيقَةُ إِلَى سِتِّينَ ثَانِيَةً، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ عُرْفًا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْحَضَرِيَّةِ يُضْبَطُ بِآلَةٍ تُسَمَّى السَّاعَةُ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ " يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً " يَعْنِي نَهَارَهَا.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّاعَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْجَمِيعُ سَاعَاتٌ وَسَاعٌ، وَجَاءَنَا بَعْدَ سَوْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَبَعْدَ سَوَاعٍ. أَيْ بَعْدَ هَدْءٍ مِنْهُ - أَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ. وَالسَّاعَةُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ (٣٠: ٥٥) يَعْنِي بِالسَّاعَةِ الْوَقْتَ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ أَنْ يُعَرِّفَ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ. فَإِنْ سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ سَاعَةً فَعَلَى هَذَا، وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اسْمٌ لِلْوَقْتِ الَّذِي يُصْعَقُ فِيهِ الْعِبَادُ، وَالْوَقْتُ الَّذِي يُبْعَثُونَ فِيهِ وَتَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ سَاعَةً ; لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِنْدَ الصَّيْحَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (٣٦: ٢٩) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّهَا تُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَيَنِ، وَهُمَا
386
مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا مِنَ السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ وَالسَّاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَالَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: يُقَالُ جَلَسْتُ عِنْدَكَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ أَيْ وَقْتًا قَلِيلًا مِنْهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِاسْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى السَّاعَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ - يُرِيدُ أَنَّهَا سَاعَةُ خَفِيفَةٌ يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَلِقِلَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ سَمَّاهَا سَاعَةً اهـ أَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْقُرْآنِ مُنَكَّرَةً بِمَعْنَى السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَمُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعَهْدِيَّةِ بِمَعْنَى السَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ سَاعَةُ خَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ، وَمَوْتِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ (٣٠: ٥٥) وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالسَّاعَةِ.
وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْحِسَابُ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ - وَالتَّعْبِيرُ بِالسَّاعَةِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْأَحْيَاءُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَيَضْطَرِبُ نِظَامُهُ وَيَخْرَبُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالسَّاعَةُ هِيَ الْمَبْدَأُ، وَالْقِيَامَةُ هِيَ الْغَايَةُ، فَفِي الْأُولَى
الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ. وَبَعْضُ التَّعْبِيرَاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ حُلُولُهُ مَحَلَّ الْآخَرِ فِي الْغَالِبِ، وَفِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَعُمُّ الْمَبْدَأَ وَالْغَايَةَ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَاتِ عَلَى الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى لِكُلِّ فَرْدٍ وَهِيَ سَاعَةُ مَوْتِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْقِيَامَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ هَلَاكُ الْجِيلِ أَوِ الْقَرْنِ، وَفَسَّرُوا بِهِ حَدِيثَ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّاعَةِ هُنَا سَاعَةُ زَوَالِ الدَّوْلَةِ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شُئُونِهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ صَحِيحٍ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَقَالَ " إِنَّ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهِرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ " وَمِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَهُ أَيْضًا وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِإِضَافَةِ السَّاعَةِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الدَّاوُودِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أَدْرِي - ابْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ، وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ - لَارْتَابُوا، فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ دَعُوا السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، وَاسْأَلُوا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِكُمْ فَهُوَ أَوْلَى لَكُمْ ; لِأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ تَبْعَثُكُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ فَوْتِهِ ; لِأَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي يَسْبِقُ الْآخَرَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَكَلَّمُ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مَعْمُولٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي قُرْبِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (١٦: ١) وَقَوْلِهِ:
387
وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (١٦: ٧٧) حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى مُضِيِّ قَرْنٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الدَّجَّالِ " إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ " فَجَوَّزَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ - وَذُكِرَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الدَّاوُودِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ.
وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ السَّاعَةِ فِيهِ بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا (٦: ٣١) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ
اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦: ٤٠) ؟ وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ.
وَحَيْثُ يُذْكَرُ قِيَامُ السَّاعَةِ كَآيَاتِ سُورَةِ الرُّومِ الثَّلَاثِ (١٢ و١٤ و٥٥) وَآيَةِ سُورَةِ غَافِرٍ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٠: ٤٦) فَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ غَايَتُهَا يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ - وَحَيْثُ يُذْكَرُ التَّكْذِيبُ بِهَا أَوِ الْمُمَارَاةُ فِيهَا، فَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِكُلِّ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ وَأَوْعَدَ مِنْ أَمْرِ مُبْئِسِهَا وَغَايَتِهَا.
وَحَيْثُ يُذْكَرُ اقْتِرَابُ السَّاعَةِ أَوْ مَجِيئُهَا وَإِثْبَاتُهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُرِنَ بِبَغْتَةٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ مَبْدَأُ الْقِيَامَةِ وَخَرَابُ الْعَالَمِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ السُّؤَالُ عَنْهَا فَإِنَّ السُّؤَالَ يَكُونُ عَنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ الْمُنْتَظَرِ فِي الْغَالِبِ، وَمِنْهُ آيَةُ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَّانَ مُرْسَاهَا مَعْنَاهُ يَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَنِ السَّاعَةِ قَائِلِينَ: أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ أَيْ مَتَى إِرْسَاؤُهَا وَحُصُولُهَا وَاسْتِقْرَارُهَا - أَوْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ زَمَنِ مَجِيئِهَا وَثُبُوتِهَا بِالْوُقُوعِ وَالْحُصُولِ... فَأَيَّانَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَمُرْسَاهَا، مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ إِرْسَاؤُهَا، يُقَالُ: رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو: ثَبَتَ، وَأَرْسَاهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ إِرْسَاءُ السَّفِينَةِ وَإِيقَافُهَا بِالْمِرْسَاةِ الَّتِي تُلْقَى فِي الْبَحْرِ فَتَمْنَعُهَا مِنَ الْجَرَيَانِ، قَالَ تَعَالَى: بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (١١: ٤١) وَقَالَ: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٧٩: ٣٢).
وَفِي السُّؤَالِ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا بِحَرْفِ الْإِرْسَاءِ الدَّالِّ عَلَى اسْتِقْرَارِ مَا شَأْنُهُ الْحَرَكَةُ وَالْجَرَيَانُ أَوِ الْمَيَدَانُ وَالِاضْطِرَابُ - نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ هِيَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ. وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ أَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَانْقِضَاءِ عُمْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي تَدُورُ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُضْطَرِبَةِ، فَعَبَّرَ بِإِرْسَائِهَا عَنْ مُنْتَهَى أَمْرِهَا وَوُقُوفِ سَيْرِهَا، وَالسَّاعَةُ زَمَنٌ، وَهُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ، لَا جِسْمٌ سَائِرٌ أَوْ مُسَيَّرٌ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ فَهُوَ حَرَكَةُ اضْطِرَابٍ وَزِلْزَالٍ، لَا رُسُوٌّ وَلَا إِرْسَاءٌ، وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا حَاصِلٌ، وَمُتَوَقَّعٌ لَا وَاقِعٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٥٢: ٧، ٨) مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ حَتْمًا ; وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِهِ بَيَانَ مَا يَقَعُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
388
(١٥٢: ٩ - ١١) فَلَمْ يَبْقَ لِإِرْسَائِهَا مَعْنًى إِلَّا إِرْسَاءَ حَرَكَةِ هَذَا الْعَالَمِ فِيهَا، وَإِنَّهُ لَتَعْبِيرٌ بَلِيغٌ، لَمْ يُعْهَدْ لَهُ فِي كَلَامِ
الْبُلَغَاءِ نَظِيرٌ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ لِهَذَا. وَذِكْرُ السَّاعَةِ أَوَّلًا، وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا ثَانِيًا عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ.
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِلِينَ هُنَا الْيَهُودُ، سَأَلُوهُ عَنْهَا امْتِحَانًا. قَالُوا: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُعَيِّنُ لَهَا زَمَنًا; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ. وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَصِيغَةُ " يَسْأَلُونَكَ " الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ الْبَعِيدُ، وَفِي آيَةِ الْأَحْزَابِ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٣٣: ٦٣) وَهَذِهِ مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ تَرْجِيحِ كَوْنِ السَّائِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا، وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٠: ٤٨) وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٤٢: ١٨) وَقَوْلُهُ: أَيَّانَ مُرْسَاهَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُنْتَهَاهَا. أَيْ مَتَى مَحَطُّهَا، وَأَيَّانَ آخِرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ اهـ.
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي قُلْ أَيُّهَا النَّذِيرُ: إِنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ عِنْدَ رَبِّي وَحْدَهُ، لَيْسَ عِنْدِي وَلَا عِنْدَ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ شَيْءٌ مِنْهُ - وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ " إِنَّمَا " مِنَ الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفَاتِحَ الْغَيْبِ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ (٣١: ٣٤) أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَاهُ - وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا (٤١: ٤٧) الْآيَةَ. أَيْ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَأَشْبَهُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِئْثَارِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِالسَّاعَةِ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ آيَتَانِ: آيَةُ الْأَحْزَابِ (٣٣: ٦٣) وَذَكَرْنَاهَا آنِفًا - وَآيَةُ أَوَاخِرِ النَّازِعَاتِ وَمَا بَعْدَهَا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٧٩: ٤٢ - ٤٦) أَيْ إِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ مِنْ دُونِكِ، وَدُونِ سَائِرِ خَلْقِهِ مُنْتَهَى أَمْرِ السَّاعَةِ الَّذِي يَسْأَلُونَكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهَا، وَيَسْتَعِدُّونَ لَهَا لَا تَعْدُو وَظِيفَتُهُ الْإِنْذَارَ وَالتَّعْلِيمَ وَالْإِرْشَادَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ كَآيَةِ الْأَعْرَافِ سُؤَالًا وَجَوَابًا، فَالسُّؤَالُ عَنِ السَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ إِرْسَاؤُهَا وَمُنْتَهَى أَمْرِهَا، وَالْجَوَابُ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ رَسُولِهِ، فَمَا أَخْبَرَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى رَبِّكِ مُنْتَهَاهَا هُوَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَ بِهِ فِي قَوْلِهِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ، لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ رَبَّاهُ لِيَكُونَ مُنْذِرًا وَمُبَشِّرًا
389
لَا لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ بِأَعْيَانِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُنَاطُ بِالْإِعْلَامِ بِالسَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَالنَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَلَا تَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِبْهَامِ وَقْتِهَا ; لِيَخْشَى أَهْلُ كُلِّ زَمَنٍ إِتْيَانَهَا فِيهِ، وَالْإِعْلَامُ بِوَقْتِ إِتْيَانِهَا وَتَحْدِيدِ تَارِيخِهَا يُنَافِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَلْ فِيهِ مَفَاسِدٌ أُخْرَى، فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي بَعْدَ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا، مَثَلًا - وَأَلْفَا سَنَةٍ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ وَآلَافُ السِّنِينَ تُعَدُّ أَجَلًا قَرِيبًا - لَرَأَى الْمُكَذِّبِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَيُلِحُّونَ فِي تَكْذِيبِهِ، وَالْمُرْتَابِينَ يَزْدَادُونَ ارْتِيَابًا، حَتَّى إِذَا مَا قَرُبَ الْأَجَلُ وَقَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِي رُعْبٍ عَظِيمٍ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ حَيَاتَهُمْ، وَيُوقِعُ الشَّلَلَ فِي أَعْضَائِهِمْ، وَالتَّشَنُّجَ فِي أَعْصَابِهِمْ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعُونَ عَمَلًا وَلَا يَسِيغُونَ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ وَمَا يَمْلِكُهُ، مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الْكَافِرُونَ آمِنِينَ، يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي أُورُبَّةَ أَنْ أَخْبَرَ بَعْضُ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ كَانَ يُقَلِّدُهُمُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ فِي سَنَةِ كَذَا، فَهُلِعَتِ الْقُلُوبُ، وَاخْتَلَّتِ الْأَعْمَالُ، وَأُهْمِلَ أَمْرُ الْعِيَالِ، وَوَقَفَ الْمُصَدِّقُونَ مَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْأَدْيَارِ، وَلَمْ تَهْدَأِ الْأَنْفُسُ، وَيَثُبْ إِلَيْهَا رُشْدُهَا إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ كَذِبِ النَّبَأِ بِمَجِيءِ أَجَلِهِ دُونَ وُقُوعِهِ، فَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ إِذًا فِي إِبْهَامِ أَمْرِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِ، وَكَذَا السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِأَفْرَادِ النَّاسِ، أَوْ بِالْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ فِي إِيضَاحِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حَصْرِ أَمْرِهَا فِي عِلْمِهِ:.
لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ هَذَا جَوَابٌ عَنْ طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ إِرْسَاؤُهَا فِيهِ، يُقَالُ: جَلَا لِي الْأَمْرُ وَانْجَلَى، وَجَلَّاهُ فَلَانٌ تَجْلِيَةً بِمَعْنَى: كَشَفَهُ وَأَظْهَرَهُ أَتَمَّ الْإِظْهَارِ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَقْتِهَا تُسَمَّى لَامُ التَّوْقِيتِ كَقَوْلِهِمْ: وَكُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ لِغُرَّةِ الْمُحَرَّمِ أَوْ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ أَوْ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُكْشَفُ حِجَابُ الْخَفَاءِ عَنْهَا، وَلَا يُظْهِرُهَا فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَّا هُوَ، فَلَا
وَسَاطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي إِظْهَارِهَا، وَلَا الْإِعْلَامِ بِمِيقَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْإِنْذَارِ بِهَا.
وَقَفَّى عَلَى هَذَا الْإِيئَاسِ مِنْ عِلْمِ أَمْرِهَا، وَالْإِنْبَاءِ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَسِرِّ إِخْفَاءِ وَقْتِهَا: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: ثَقُلَ وَقْعُهَا وَعَظُمَ أَمْرُهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى نَبَّأَهُمْ بِأَهْوَالِهَا، وَلَمْ يُشْعِرْهُمْ بِمِيقَاتِهَا، فَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ أَمْرًا عَظِيمًا لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَفْجَؤُهُمْ وُقُوعُهُ.
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَالَ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَفِيَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ تَفْسِيرٌ لِثِقَلِهَا بِفَقْدِ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ ثَقِيلٌ عَلَى النَّفْسِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَظِيمًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ ثِقَلَهَا يَكُونُ يَوْمَ مَجِيئِهَا إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
390
(٨١: ١) وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٨٢: ١، ٢) وَإِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ٥٦: ٤ - ٦ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ قِيَامِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ثِقَلِهَا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِكُلِّ رِوَايَةٍ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ جُمْلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ.
لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّعٍ وَلَا انْتِظَارٍ، وَلَا إِشْعَارٍ وَلَا إِنْذَارٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْقَوْلُ فِي التَّنْزِيلِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ " وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يُسْقَى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا " وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَبْغُتُ النَّاسَ وَهُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي أُمُورِ مَعَايِشِهِمُ الْمُعْتَادَةِ. وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢٢: ١، ٢).
فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخَافُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَنْ يَحْمِلَهُمُ الْخَوْفُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهِمْ فَيَلْتَزِمُوا فِيهَا الْحَقَّ، وَيَتَحَرَّوُا الْخَيْرَ، وَيَتَّقُوا الشَّرَّ وَالْمَعَاصِيَ، وَلَا يَجْعَلُوا حَظَّهُمْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ الْجِدَالَ، وَالْقِيلَ وَالْقَالَ. وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ شَغَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ بِبَحْثٍ افْتَجَرَهُ بَعْضُ الْغُلَاةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْقَ طُولَ عُمْرِهِ لَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بَلْ أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بَلْ زَعَمَ أَنَّهُ أَطْلَعَهُ عَلَى كُلِّ مَا فِي عِلْمِهِ، فَصَارَ عِلْمُهُ كَعِلْمِ رَبِّهِ، أَيْ صَارَ نِدًّا وَشَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَمِنْ أَصُولِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالرَّسُولُ عَبْدُ اللهِ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ لِأَدَاءِ وَظِيفَةِ التَّبْلِيغِ، وَسَتَزْدَادُ عِلْمًا بِبُطْلَانِ هَذَا الْغُلُوِّ خَاصَّةً فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَلَكِنَّ الْغُلَاةَ يَرَوْنَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمِهِ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ دُونَ صِفَاتِ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ وَخَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَكَذَّبُوا كَلَامَ اللهِ تَعَالَى، وَشَبَّهُوا بِهِ بَعْضَ عَبِيدِهِ إِرْضَاءً لِغُلُوِّهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْغُلُوِّ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ أَرَادَ اللهُ
391
تَعَالَى أَنْ يُعْلِمَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَقْتِ السَّاعَةِ، بَعْدَ كُلِّ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي إِخْفَائِهَا وَاسْتِئْثَارِهِ بِعِلْمِهِ، لَمَا أَكَّدَ كُلَّ هَذَا التَّأْكِيدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا إِلَخْ. يَسْأَلُونَكَ هَذَا السُّؤَالَ كَأَنَّكَ حَفِيُّ مُبَالِغٌ فِي سُؤَالِ رَبِّكَ عَنْهَا - أَوْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ - فَعَنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِـ " يَسْأَلُونَكَ "، وَجُمْلَةُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ مُعْتَرِضَةٌ. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: أَحْفَى فِي السُّؤَالِ: أَلْحَفَ... وَهُوَ حَفِيٌّ عَنِ الْأَمْرِ: بَلِيغٌ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ حَفِيٍّ عَنِ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا
واسْتَحْفَيْتُهُ عَنْ كَذَا: اسْتَخْبَرْتُهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ. وَتَحَفَّى بِي فُلَانٌ، وَحَفِيَ بِي
حَفَاوَةً، إِذَا تَلَطَّفَ بِكَ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِكَ اهـ. أَقُولُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (١٩: ٤٧).
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا يَقُولُ: كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةً كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سَأَلَ النَّاسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ، اسْتَأْثَرَ بِهِ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا رَسُولًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً فَأَشِرْ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ، هَذَا قَوْلٌ، وَالصَّحِيحُ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَغَيْرِهِ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قَالَ: اسْتَحْفَيْتُ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتُ وَقْتَهَا. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا يَقُولُ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، لَسْتَ تَعْلَمُهَا، قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ بَعْضِهِمْ، كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، وَقَدْ أَخْفَى الله عِلْمَهَا عَنْ خَلْقِهِ. وَقَرَأَ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (٣١: ٣٤) الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا قَالَ:
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ هَذَا تَكْرَارٌ لِلْجَوَابِ فِي إِثْرِ تَكْرَارِ السُّؤَالِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ وَالْإِيئَاسِ مِنَ الْعِلْمِ بِوَقْتِ مَجِيئِهَا، وَتَخْطِئَةِ مَنْ يَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا اسْمُ الْجَلَالَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ لِذَاتِهِ، كَمَا أَشْعَرَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ شُئُونِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى خَلْقِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اخْتِصَاصَ عِلْمِهَا بِهِ تَعَالَى وَلَا حِكْمَةَ ذَلِكَ، وَلَا أَدَبَ السُّؤَالِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْقَلِيلُونَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ أَخْبَارِهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَبِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالَّذِينِ حَضَرُوا تَمَثُّلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِفَةِ رَجُلٍ وَسُؤَالَهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِيمَانِ
392
وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ ثُمَّ عَنِ السَّاعَةِ. وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عِنْدَ السُّؤَالِ الْأَخِيرِ: " وَمَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " يَعْنِي أَنَّنَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَّا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ.
(فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا وَمَا قِيلَ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا)
إِنَّ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ حَقٌّ مُقْتَبَسٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَآيَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَرِيبًا، وَمِثْلُهَا آيَةُ الشُّورَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (٤٢: ١٧) وَفِي مَعْنَاهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (١٧: ٥١) وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْ قُرْبِهِ بِـ " لَعَلَّ " و" عَسَى " مَا يُنَاسِبُ عَدَمَ إِطْلَاعِ اللهِ لِرَسُولِهِ عَلَى وَقْتِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قُرْبَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي مِقْدَارُهُ مِنْ مَبْدَئِهِ إِلَى غَايَتِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مُنَاسِبٌ لَهُ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مَنْ عُمْرِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ مِنْهُ - فَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، وَالْمُرَادُ قُرْبُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
وَمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ - مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ يَبُثُّهَا زَنَادِقَةُ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ فِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَوَوْهُ مَرْفُوعًا، وَقَدِ اغْتَرَّ بِهَا مَنْ لَا يَنْظُرُونَ فِي نَقْدِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَسَانِيدِهَا، حَتَّى اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَلِلْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ فِي هَذَا رِسَالَةٌ فِي ذَلِكَ قَدْ هَدَمَهَا عَلَيْهِ الزَّمَانُ، كَمَا هَدَمَ أَمْثَالَهَا مِنَ التَّخَرُّصَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا بُثَّ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنَ الْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ.
قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسُ فِي إِثْرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: " وَإِنَّمَا أَخْفَى سُبْحَانَهُ أَمْرَ السَّاعَةِ لِاقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا أَنَّ إِخْفَاءَ الْأَجَلِ الْخَاصِّ لِلْإِنْسَانِ كَذَلِكَ. وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ التَّكْوِينِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَبْعُدْ، وَظَاهِرُ الْآيَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ قِيَامِهَا. نَعَمْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْبَهَا عَلَى الْإِجْمَالِ، وَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ " وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَيْضًا: إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيمَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَاءَ فِي غَيْرِ مَا أُثِرَ أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ
آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثَ فِي أَوَاخِرِ الْأَلِفِ السَّادِسَةِ، وَمُعْظَمُ الْمِلَّةِ فِي الْأَلْفِ السَّابِعَةِ.
" وَأَخْرَجَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ عِدَّةَ أَحَادِيثَ فِي أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّ
393
مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ وَآثَارٍ ذَكَرَهَا فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ (بِالْكَشْفِ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ) وَسَمَّى بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ هَذِهِ الْأَلْفَ الثَّانِيَةِ بِالْمُخَضْرَمَةِ; لِأَنَّ نِصْفَهَا دُنْيَا، وَنِصْفَهَا الْآخَرَ أُخْرَى، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْمَهْدِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا يَنْهَدِمُ جَمِيعُ مَا بَنَاهُ فِيهَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَأَنِّي بِكَ تَرَاهُ مُنْهَدِمًا " اهـ.
أَقُولُ: نَقَلْتُ هَذَا; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرْجِعُونَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْرِفَ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَتِ الْمِائَةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُؤَلَّفُهُ بِرَأْسِهَا وَذَنَبِهَا وَهِيَ الْمِائَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ مَضَى زُهَاءَ نِصْفِ الْمِائَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، إِذْ نَكْتُبُ هَذَا الْبَحْثَ فِي سَنَةِ ١٣٤٥ وَلَمْ يَظْهَرِ الْمَهْدِيُّ، فَانْهَدَمَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مَا بَنَاهُ السُّيُوطِيُّ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنَ الْأَوْهَامِ الَّتِي جَمَعَهَا كَحَاطِبِ لَيْلٍ، وَنَحْنُ نُورِدُ هُنَا مَا كَتَبَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ " مِنْ شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، ثُمَّ نُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ.
بَدَأَ الْحَافِظُ شَرْحَهُ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ بِأَقْوَالِ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى التَّشْبِيهِ بِالْإِصْبَعَيْنِ، هَلِ الْمُرَادُ بِهِ قُرْبُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى؟ أَمِ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي الطُّولِ؟ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ؟ وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌّ آخَرُ فَهِيَ تَلِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (٣١: ٣٤) وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ عِلْمَ قُرْبِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ وَقْتِ مَجِيئِهَا مُعَيَّنًا، وَقِيلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقِيَامَةِ شَيْءٌ، هِيَ الَّتِي تَلِينِي كَمَا تَلِي السَّبَّابَةُ الْوُسْطَى؟. وَعَلَى هَذَا فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ السَّاعَةِ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ قَدْ وَرَدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (٦: ٥٩) لَا فِي السَّاعَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ تَفْسِيرُ
مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِآيَةِ آخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ (٣١: ٣٤) إِلَخْ. فَعِبَارَتُهُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ وَأَثَابَهُ: " وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: حَاوَلَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ كَنِسْبَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى، وَأَنَّ جُمْلَتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَخْبَارٍ لَا تَصِحُّ، وَذَكَرَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي تَأْخِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ نِصْفَ يَوْمٍ، وَفَسَّرَهُ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ نِصْفُ سُبُعٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فِي الطُّولِ. (قَالَ) :
394
وَقَدْ ظَهَرَ عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ لِوُقُوعِ خِلَافِهِ، وَمُجَاوَزَةِ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَمْ يَقَعْ خِلَافُهُ ".
قُلْتُ: قَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مُنْذُ عَهِدَ عِيَاضٌ إِلَى هَذَا الْحِينِ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قِيلَ: الْوُسْطَى تَزِيدُ عَلَى السَّبَّابَةِ نِصْفَ سُبُعِهَا، وَكَذَا الْبَاقِي مِنَ الدُّنْيَا مِنَ الْبَعْثَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَتَحَصَّلُ لَنَا نِصْفُ سُبُعِ أَمَدٍ مَجْهُولٍ؟ فَالصَّوَابُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: السَّابِقُ إِلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَقَدْ مَضَى سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَيَحْيَى هُوَ أَبُو طَالِبٍ الْقَاضِي الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرَ الْحَدِيثِ، وَشَيْخُهُ هُوَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ، وَفِيهِ مَقَالٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: الدُّنْيَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ، أَرَادَ أَنَّ الَّذِي مَضَى مِنْهَا خَمْسَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ زَيَّفَهُمَا وَرَجَّحَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا مَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِلَّا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ حَكِيمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَا بَقِيَ لِأُمَّتِي مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَمِقْدَارِ مَا إِذَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ وَمِنْ طَرِيقِ
مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشَّمْسُ عَلَى قُعَيْقِعَانٍ مُرْتَفِعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: مَا أَعْمَارُكمْ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا النَّهَارِ مِمَّا مَضَى مِنْهُ " وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَنَسٍ " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ " فَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِمَعْنَاهُ قَالَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا كَبَقِيَّةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا وَفِيهِ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ " بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ " عَلَى مَا إِذَا صَلَّيْتَ فِي وَسَطٍ مِنْ وَقْتِهَا.
قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَالصَّوَابُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. وَلَهُ مَحْمَلَانِ أَحَدُهمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ، وَلَا يُرَادُ حَقِيقَةُ
395
الْمِقْدَارِ فِيهِ، يَجْتَمِعُ مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا، وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُقَدَّمُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لِصِحَّتِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْرُ خُمْسِ النَّهَارِ تَقْرِيبًا، ثُمَّ أَيَّدَ الطَّبَرِيُّ كَلَامَهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَفْظُهُ: " وَاللهِ لَا تَعْجِزُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ " وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنْ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَقْفَهُ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِلَفْظِ " إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ، قِيلَ لِسَعْدٍ: كَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ " وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا أَنَّ فِيهَا انْقِطَاعًا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَنِصْفُ الْيَوْمِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ (٢٢: ٤٧) فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ تَوَافَقَتِ الْأَخْبَارُ، فَيَكُونُ الْمَاضِي إِلَى وَقْتِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ وَخَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وَقَدْ أَوْرَدَ السُّهَيْلِيُّ كَلَامَ الطَّبَرِيِّ وَأَيَّدَهُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ، وَأَكَّدَ بِحَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ رَفْعَهُ " وَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ بُعِثْتُ فِي آخِرِهَا ".
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ زِمْلٍ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ
فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ عَبْدَ اللهِ وَبَعْضُهُمُ الضَّحَّاكَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَلْفَاظُهُ مَصْنُوعَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ نِصْفِ يَوْمٍ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ قَالَ: وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ " إِنْ أَحْسَنَتْ أُمَّتِي فَبَقَاؤُهَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ - وَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ - وَإِنْ أَسَاءَتْ فَنِصْفُ يَوْمٍ " قَالَ: وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ مَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الْمَاضِي، بَلْ قَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيٌّ مَعَ التَّقْرِيبِ لِمَجِيئِهَا ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ زِمْلٍ، وَذَكَرَ أَنَّ عِدَّتَهَا تِسعُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ.
قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَغَارِبَةِ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَأَمَّا الْمَشَارِقَةُ فَيَنْقُصُ الْعَدَدُ عِنْدَهُمْ مِائَتَيْنِ وَعَشْرَةَ، فَإِنَّ السِّينَ عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَالصَّادَّ بِسِتِّينَ، وَأَمَّا الْمَشَارِقَةُ فَالسِّينُ عِنْدَهُمْ سِتُّونَ وَالصَّادُ تِسْعُونَ فَيَكُونُ الْمِقْدَارُ عِنْدَهُمْ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ مَضَتْ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، فَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الزَّجْرُ عَنْ عَدِّ أَبِي جَادٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ السُّهَيْلِيِّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ مَا نَصُّهُ: وَمِنَ الْبَاطِلِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَقَدْ تَحَصَّلَ لِي فِيهَا
396
عِشْرُونَ قَوْلًا وَأَزْيَدُ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِعِلْمٍ، وَلَا يَصِلُ فِيهَا إِلَى فَهْمٍ، إِلَّا أَنِّي أَقُولُ - فَذَكَرَ مَا مُلَخَّصُهُ - أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ (ص وَحم فُصِّلَتْ) وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، بَلْ صَرَّحُوا بِالتَّسْلِيمِ لَهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مَعَ تَشَوُّقِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ لَا إِنْكَارَ فِيهِ.
" قُلْت: وَأَمَّا عَدُّ الْحُرُوفِ بِخُصُوصِهِ فَإِنَّمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ أَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْحُرُوفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ، واسَتَقْصَرُوا الْمُدَّةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ " الم " وَ " الر " فَإِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ (المص وَطسم) وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالُوا: أَلْبَسْتَ عَلَيْنَا الْأَمْرَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا فَلْيُحْمَلْ عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْوَارِدَةِ، وَلَا يُحْذَفُ الْمُكَرَّرُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا وَلَهُ سِرٌّ يَخُصُّهُ، أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَى حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ أَسْمَاءِ السُّوَرِ، وَلَوْ تَكَرَّرَتِ الْحُرُوفُ فِيهَا فَإِنَّ السُّوَرَ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِذَلِكَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً، وَعَدَدُ حُرُوفِ الْجَمِيعِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ حَرْفًا، وَهِيَ: الم سِتَّةٌ، حم سِتَّةٌ، الر خَمْسَةٌ، طسم اثْنَتَانِ، المص الر كهيعص طه طس يس ص ق ن. فَإِذَا حُذِفَ مَا كُرِّرَ مِنَ السُّورَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ: الم، وَخَمْسٌ مِنْ حم، وَأَرْبَعٌ مِنْ الر، وَوَاحِدَةٌ مِنْ طسم، بَقِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، عَدَدُ حُرُوفِهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا، فَإِذَا حُسِبَ عَدَدُهَا بِالْجُمَّلِ الْمَغْرِبِيِّ بَلَغَتْ أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَأَمَّا بِالْجُمَّلِ الْمَشْرِقِيِّ فَتَبْلُغُ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ. وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ لِيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ إِلَّا لِأُبَيِّنَ أَنَّ الَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ السُّهَيْلِيُّ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ التَّخَالُفِ فِيهِ.
" وَفِي الْجُمْلَةِ فَأَقْوَى مَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَعْمَرٌ فِي الْجَامِعِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٧٠: ٤) قَالَ: " الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا يَوْمٌ، مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْرِي كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى "، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ حَدِيثَ " لَنْ تَعْجِزَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ " عَلَى حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَزَيَّفَهُ الطِّيبِيُّ فَأَصَابَ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ جَعْفَرٍ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ; لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الْأَئِمَّةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ سَنَدُهُ بِذَلِكَ، فَالْعَجَبُ مِنَ السُّهَيْلِيِّ كَيْفَ سَكَتَ عَنْهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ اهـ. سِيَاقُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ كُلُّهُ.
397
يَقُولُ مُحَمَّدُ رَشِيدُ: أَمَّا زِيَادَةُ جَعْفَرٍ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْيَوْمِ وَنِصْفِ الْيَوْمِ فِي عُمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ
فَهُوَ مَوْضُوعٌ، جَمَعَ السُّيُوطِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ زِمْلٍ الْمَجْهُولِ الَّذِي حَكَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِوَضْعِهِ، وَمَزَجَهَا بِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ يُؤَيِّدُ مُرَادَهُ، فَكَأَنَّ رِسَالَتَهُ كُلَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْخَبَرَيْنِ الْمَوْضُوعَيْنِ أَيِ الْمَكْذُوبَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ تَعَالَى مَا يَفْعَلُ الْغُرُورُ بِظَوَاهِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى فِي أَنْفُسِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْحَدِيثِ كَالسُّيُوطِيِّ الَّذِي عُدَّ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ زَمِيلُهُ السَّخَاوِيُّ، وَكِلَاهُمَا مِنْ تَلَامِيذِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ هُنَا أَنَّ بَطَلَيِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَيَنْبُوعَيِ الْخُرَافَاتِ كَعْبَ الْأَحْبَارِ وَوَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ قَدْ بَثَّا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خُرَافَةَ تَحْدِيدِ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ أَصْلُهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِهِمَا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ حَتَّى فِيمَا يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ، وَلَكِنَّهُ فِيهَا سَبْعَةُ آلَافٍ فَجَعَلَاهُ سِتَّةَ آلَافٍ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ كُلَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَوِ الْمَوْقُوفَةِ مِنْهَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ مَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَلَى سَبِيلِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ، بَلْ يَذْكُرُونَهُ بِالْمُنَاسَبَاتِ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ غَالِبًا، وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ، بَلْ أَكْثَرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَكْثَرُهُ عَنْهُ بِالْعَنْعَنَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقَلُّهُ بِلَفْظِ " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَثَبَتَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَمِنْ هُنَا نُجْزِمُ بِأَنَّ مَوْقُوفَاتِ الصَّحَابَةِ الَّتِي لَا مَجَالَ فِيهَا لِلِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ لَا يَكُونُ لَهَا قُوَّةُ الْمَرْفُوعِ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُونَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ قُرْبِ السَّاعَةِ بَعْدَ السُّيُوطِيِّ كَثِيرُونَ، وَلِبَعْضِهِمْ فِيهَا مُصَنَّفَاتٌ كَبَهْجَةِ النَّاظِرِينَ وَالْإِشَاعَةِ وَمِنْهُمُ الْعَلَّامَةُ السَّفَارِينِيُّ فِي كُتُبِهِ، وَالسَّيِّدُ ابْنُ الْأَمِيرِ الْيَمَنِيُّ وَالسَّيِّدُ أَبُو الطَّيِّبِ صِدِّيقُ حَسَنِ خَانَ فِي كُتُبِهِ وَمِنْهَا كِتَابُ (الْإِذَاعَةِ لِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ) وَكَانَ مُعَاصِرًا لِلسَّيِّدِ مَحْمُودِ الْآلُوسِيِّ صَاحِبِ تَفْسِيرِ (رُوحِ الْمَعَانِي) وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْأَمِيرِ وَعَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ الْأَمِيرِ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ وَمَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ خُلَاصَةَ كَلَامِ السُّيُوطِيِّ وَرَدَّهُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْحَقَّ الْوَاقِعَ يُخَالِفُهُ - وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْآلُوسِيُّ بَعْدَهُ إِشَارَةً - وَهَاكَ مَا نَقَلَهُ
عَنْهُ صَاحِبُ الْإِذَاعَةِ السَّيِّدُ أَبُو الطَّيِّبِ صِدِّيقُ حَسَنِ خَانَ الْمُعَاصِرُ لِلْآلُوسِيِّ فِي هَذَا عَقِبَ مَا نَقَلَهُ مِنْ تَعْقِيبِ الْحَافِظِ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: (قُلْتُ) : لَمَّا تَقَارَبَ انْخِرَامُ الْقَرْنِ التَّاسِعِ ذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَمَعَهُ وَرَقَةٌ حَاصِلُ مَا فِيهَا الِاعْتِمَادُ عَلَى حَدِيثِ
398
أَنَّهُ لَا يَلْبَثُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ أَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِي الْمِائَةِ الْعَاشِرَةِ خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ وَالدَّجَّالِ، وَنُزُولُ عِيسَى وَسَائِرُ الْآيَاتِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بَاطِلٌ، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي صَدْرِ رِسَالَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا (الْكَشْفُ فِي مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ مُدَّةُ بَقَائِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ اعْتَمَدَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ فِي آخِرِ الْأَلْفِ السَّادِسِ، وَسَاقَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَدِلَّةِ ابْنِ جَرِيرٍ، بَلْ قَالَ وَصَحَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْأَصْلَ وَعَقَدَهُ بَابًا. انْتَهَى.
قَالَ السَّيِّدُ الْأَمِيرُ (قُلْتُ) وَمَا كَانَ لِلسُّيُوطِيِّ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ تَعَقُّبَاتِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، بَلْ كَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا وَإِقْرَارُهَا أَوْ رَدُّهَا، فَإِنَّ تَرْكَهُ لَهَا يُوهِمُ النَّاظِرَ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ عَلَى تَصْحِيحِ ابْنِ جَرِيرٍ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَرَفْتُ.
" ثُمَّ اسْتَنَدَ السُّيُوطِيُّ فِي جَزْمِهِ بِبَقَاءِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى آثَارٍ ذَكَرَهَا، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ " يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً " وَإِلَى أَنَّهُ يَلْبَثُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ ثُمَّ يُسْتَخْلَفُ رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ يَبْقَى ثَلَاثَ سِنِينَ، وَإِلَى أَنَّهُ يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ إِرْسَالِ اللهِ رِيحًا تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِائَةَ سَنَةٍ لَا يَعْرِفُونَ
دِينًا مِنَ الْأَدْيَانِ، وَإِلَى أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَإِلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ عِيسَى عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، فَهَذِهِ مِائَةُ سَنَةٍ وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَنَحْنُ الْآنُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ وَيُضَافُ إِلَيْهِ مِائَتَانِ وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فَيَكُونُ الْجَمِيعُ ١٤٦٠ وَعَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَبْلُغُ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ يَكُونُ مُنْتَهَى بَقَاءِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْأَلْفِ ١٤٦٣ سَنَةً وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ أَعَاذَنَا اللهُ مَنْ فِتْنَتِهِ قَبْلَ انْخِرَامِ هَذِهِ الْمِائَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ الْمِائَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ انْتَهَى، وَقَدْ تُوَفِّيَ ابْنُ الْأَمِيرِ سَنَةَ ١١٨٢.
قَالَ صَاحِبُ الْإِذَاعَةِ: " أَقُولُ: وَقَدْ مَضَى إِلَى الْآنِ عَلَى الْأَلْفِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرِ الْمَهْدِيُّ، وَلَمْ يَنْزِلْ عِيسَى وَلَمْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِسَابَ لَيْسَ صَحِيحْ.
" ثُمَّ قَالَ السَّيِّدُ الْعَلَّامَةُ (قُلْتُ) : وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَمْكُثُ فِي أُمَّتِي أَرْبَعِينَ انْتَهَى، هَكَذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْعَدَدُ بِشَيْءٍ لَا بِالْأَيَّامِ، وَلَا بِالشُّهُورِ، وَلَا بِالسِّنِينَ، فَلَوْ كَانَتْ سِنِينَ لَكَانَ ظُهُورُهُ مِنْ رَأْسِ سِتِّينَ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
399
عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَأَبِي يَعْلَى وَالْحَاكِمِ تَعْيِينُ الْأَرْبَعِينَ بِلَيْلَةٍ، فَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَقَالَ " يَوْمٌ مِنْهَا كَالسَّنَةِ، وَيَوْمٌ كَالشَّهْرِ، وَيَوْمٌ كَالْجُمُعَةِ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ " وَعَلَى هَذَا يَكُونُ خُرُوجُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِيَتِمَّ نُزُولُ عِيسَى فِي رَأْسِهَا وَيَبْقَى عِيسَى مِنَ الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَلِيفَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَيَبْقَى النَّاسُ مِائَةً وَعِشْرِينَ بَعْدَ طُلُوعِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمِائَةَ الَّتِي يَبْقَى النَّاسُ فِيهَا لَا يَعْرِفُونَ دِينًا هِيَ مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ السُّيُوطِيِّ فِي رِسَالَةِ الْكَشْفِ، وَفِيهِ مَا عَرَفْتَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بِآثَارٍ عَنِ السَّلَفِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَلَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ.
(ثُمَّ قَالَ) : وَإِذَا أَحَطْتَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا سُقْنَاهُ عَلِمْتَ بِأَنَّ الْقَوْلَ يَتَعَيَّنُ مُدَّةَ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا بِأَنَّهُ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ آثَارٌ عَنِ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقَالُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ فَلَعَلَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ، وَقَدْ عُلِمَ تَغْيِيرُهُمْ لِمَا لَدَيْهِمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ
وَأَهْلِ الْكِتَابِ، هُمُ الْقَائِلُونَ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (٢: ٨٠) وَنَقَلَ عَنْهُمُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِكُلِّ أَلْفِ عَامٍ يَوْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودًا كَانُوا يَقُولُونَ: مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (٢٠: ٨٠). إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢: ٨١) انْتَهَى وَأَكْذَبَهُمُ اللهُ فِيمَا قَالُوهُ.
وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي سُقْنَاهَا وَسَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَةِ الْكَشْفِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ نَبَوِيٌّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا كَذَا، عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ الْقَاضِيَةَ بِأَنَّ مُدَّتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ مُعَارِضَةٌ لِمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٧٠: ٤) قَالَا: هِيَ الدُّنْيَا أَوَّلُهَا إِلَى آخِرِهَا يَوْمٌ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. فَهَذِهِ الْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى، وَإِنَّمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ بَعْثَتَهُ مِنْ آيِ قِيَامِ السَّاعَةِ. انْتَهَى كَلَامُ السَّيِّدِ الْعَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرِ رَحِمَهُ اللهُ.
(قَالَ صَاحِبُ الْإِذَاعَةِ) : وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي بَهْجَةِ النَّاظِرِينَ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ السُّيُوطِيِّ فِي رِسَالَةِ الْكَشْفِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا مَرْدُودٌ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ. انْتَهَى.
400
وَقَالَ فِي الْإِشَاعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ السُّيُوطِيِّ: الَّذِي فُهِمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّ عِيسَى يَمْكُثُ. بَعْدَ الدَّجَّالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ الدَّجَّالِ، وَأَنَّ بَعْدَ عِيسَى يَتَوَلَّى أُمَرَاءٌ مِنْهُمُ الْقَحْطَانِيُّ يَتَوَلَّى إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلْيُفْرَضْ لِبَقِيَّتِهِمْ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ سَنَةً أَيْضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ، فَهَذِهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَمَرَّ أَنَّ الدَّجَّالَ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سِنِينَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ سَنَتَيْنِ; لِأَنَّ أَيَّامَهُ طِوَالٌ، وَأَنَّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا يَمْكُثُ النَّاسُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ
الشِّرَارَ بَعْدَ الْخِيَارِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَمَتَّعُونَ بَعْدَ طُلُوعِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُسْرِعُ فِيهِمُ الْمَوْتُ فَهَذِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَدْ مَضَى بَعْدَ الْأَلْفِ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِينَ، فَهَذِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَإِلَى تَمَامِ هَذِهِ الْمِائَةِ تَبْلُغُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَقَدْ مَرَّ عَنِ السُّيُوطِيِّ أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ بَلْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً (٤٧: ١٨) وَقَوْلِهِ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ سَنَةً ١٤٠٧ فَإِنَّ عَدَدَ حُرُوفِ " بَغْتَةً " ١٤٠٧ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ، فَيُحْتَمَلُ خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمِائَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَأَخَّرَ لِلْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَفُوتُهَا قَطْعًا، وَإِذَا تَأَخَّرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمِائَةِ مِنْ يُجَدِّدُ لِلْأُمَّةِ أَمْرَ دِينِهَا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَظْنُونَاتٌ وَرَدَ بِهَا آحَادُ الْأَخْبَارِ، بَعْضُهَا صِحَاحٌ، وَبَعْضُهَا حِسَانٌ وَبَعْضُهَا ضِعَافٌ مَعَ شَوَاهِدَ وَبَعْضُهَا بِغَيْرِ شَوَاهِدَ، وَغَايَةُ مَا ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي بَلَغَتِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ وُجُودُ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الَّتِي أَوَّلُهَا خُرُوجُ الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّهُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَأَنَّهُ يُقَاتِلُ الرُّومَ فِي الْمَلْحَمَةِ وَيَفْتَحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي زَمَنِهِ وَيَنْزِلُ عِيسَى وَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ كُلِّهِ أُمُورٌ مَظْنُونَةٌ أَوْ مَشْكُوكَةٌ وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.
(أَقُولُ) : قَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ، وَلَا حَسَنٌ وَأَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ إِمَّا ضَعِيفَةٌ وَإِمَّا مَوْضُوعَةٌ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ مَرْفُوعٍ وَمَوْقُوفٍ وَمِنَ الْآثَارِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي بَثَّهَا فِي الْأُمَّةِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَأَمْثَالُهُمَا، وَلَوْ فَطِنَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لِدَسَائِسِهِمَا وَخَطَأِ مَنْ عَدَّلَهُمَا مِنْ رِجَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِخَفَاءِ تَلْبِيسِهِمَا عَلَيْهِمْ لَكَانَ تَحْقِيقُهُ لِهَذَا الْبَحْثِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ حَكِيمُ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَتِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي ابْتِدَاءِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ وَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ: " فَكَانَ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ آثَارًا مَنْقُولَةً عَنِ الصَّحَابَةِ وَخُصُوصًا مُسْلِمَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَمْثَالِهِمَا
401
وَرُبَّمَا اقْتَبَسُوا بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ ظَوَاهِرَ مَأْثُورَةٍ وَتَأْوِيلَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبَاحِثَ السُّهَيْلِيِّ فِي كَلَامِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُغْنِي عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ أَيْضًا كَلَامَ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَظُهُورَ كَذِبِ الْجَمِيعِ.
وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٤٥٦) لَمْ يَعْبَأْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طُولِ بَاعِهِ وَسِعَةِ حِفْظِهِ لِلْآثَارِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَاضِيَ عِيَاضًا وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْعَرَبِيِّ، وَابْنَ خَلْدُونَ فِي رَفْضِهِ لِمَا قِيلَ فِي عُمْرِ الدُّنْيَا، وَعَجِبْتُ كَيْفَ غَفَلَ الْحَافِظُ عَنْ إِيرَادِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سِعَةِ اطِّلَاعِهِ. قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا كَانَ يَقُولُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بَدْءِ الْخَلِيقَةِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا نَحْنُ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ - فَلَا نَقْطَعُ عَلَى عِلْمٍ عَدَدًا مَعْرُوفًا عِنْدَنَا، وَمَنِ ادَّعَى فِي ذَلِكَ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَقَدْ قَالَ مَا لَمْ يَأْتِ قَطُّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لَفَظَةٌ تَصِحُّ، بَلْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُهُ، بَلْ نَقْطَعُ عَلَى أَنَّ لِلدُّنْيَا أَمَدًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ (١٨: ٥١) وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوِ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ وَهَذِهِ نِسْبَةٌ مَنْ تَدَبَّرَهَا وَعَرَفَ مِقْدَارَ عَدَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنِسْبَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ مَعْمُورِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ الْأَكْثَرُ - عَلَى أَنَّ لِلدُّنْيَا أَمَدًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ أُصْبُعَيْهِ الْمُقَدَّسَتَيْنِ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا يَعْلَمُ مَتَى تَكُونُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى لَا أَحَدَ سِوَاهُ - فَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا عَنَى شِدَّةَ الْقُرْبِ لَا فَضْلَ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ، إِذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَأُخِذَتْ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ، وَنُسِبَ مِنْ طُولِ الْأُصْبُعِ - فَكَانَ يُعْلَمُ بِذَلِكَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَكَانَ تَكُونُ نِسْبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّانَا إِلَى مَنْ قَبْلَنَا بِأَنَّنَا كَالشَّعْرَةِ فِي الثَّوْرِ كَذِبًا، وَمَعَاذَ اللهِ مِنْ ذَلِكَ، فَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَرَادَ شِدَّةَ الْقُرْبِ. وَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ بُعِثَ أَرْبَعُمِائَةِ عَامٍ وَنَيِّفٍ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا بَقِيَ لِلدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ لَا نِسْبَةَ لَهُ عِنْدَمَا سَلَفَ لِقِلَّتِهِ وَتَفَاهَتِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى فَهُوَ الَّذِي قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّنَا فِيمَنْ مَضَى كَالشَّعْرَةِ فِي الثَّوْرِ أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ اهـ كَلَامُ ابْنُ حَزْمٍ.
وَأَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ، فَالَّذِينَ حَاوَلُوا تَحْدِيدَ عُمْرِ الدُّنْيَا وَمَعْرِفَةِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ إِرْضَاءَ شَهْوَةِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُهِمُّ جَمِيعَ النَّاسِ، لَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ تَكْذِيبَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ السَّاعَةَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ
تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهَا تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ - أَيْ عَلَى غَيْرِ انْتِظَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا أَدْنَى عِلْمٍ. وَهَذَا الْبَلَاءُ كُلُّهُ مِنْ
402
دَسَائِسِ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَتَلْبِيسِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ وَضْعِ بَعْضِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، كَكَوْنِ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُحْتَمَلُ إِرْجَاعُهَا إِلَى مَصْدَرٍ وَاحِدٍ يُعْنَى بِنَشْرِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَمَسْأَلَةِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ مَذْهَبٍ سِيَاسِيٍّ كُسِيَ ثَوْبَ الدِّينِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ رِوَايَاتِهِ لَا تَخْلُو أَسَانِيدُهَا مِنْ شِيعِيٍّ، وَأَنَّ الزَّنَادِقَةَ كَانُوا يَبُثُّونَ الدَّعْوَة إِلَى ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِسَلْبِ سُلْطَانِ الْعَرَبِ، وَإِعَادَةِ مُلْكِ الْفُرْسِ؟ وَكَكَوْنِ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْي وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا فِيمَا لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرُ فِي مَوْضُوعِنَا هَذَا كَمَا رَأَيْتَ آنِفًا.
هَذَا وَإِنَّ لِمُتَقَدِّمِي أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْهُنُودِ وَالصِّينِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالًا فِي عُمْرِ الدُّنْيَا وَتَارِيخِ الْبَشَرِ الْمَاضِي تُذْكَرُ فِيهِ الْأَرْقَامُ بِأُلُوفِ السِّنِينَ وَأُلُوفِ الْأُلُوفِ، وَقَدْ بُنِيَ بَعْضُهُ عَلَى رِوَايَاتٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ قُدَمَائِهِمْ، وَبَعْضُهُ عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ فَلَكِيَّةٍ وَأَوْهَامٍ تَنْجِيمِيَّةٍ لَا تُفِيدُ عِلْمًا صَحِيحًا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَلَهُمْ مَنْهَجٌ فِي عُمْرِ الْأَرْضِ الْمَاضِي، وَمَنْهَجٌ آخَرُ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ: مَنْهَجَانِ عِلْمِيَّانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا عُرِفَ بِالْحَفْرِ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَمَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ، وَمِنْ عِظَامِ مَوْتَاهُمْ وَرُفَاتِهِمْ، وَهُمْ يَجْزِمُونَ أَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا الْمَاضِيَ يُعَدُّ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ، وَقَدْ وُجِدَتْ آثَارٌ لِلْبَشَرِ فِيهَا مُنْذُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَنْقُضُ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مِنَ الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَلَا حَرْفًا وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٤: ٨٢) وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الرَّسُولِ الْقَطْعِيَّةُ أَوِ الصَّحِيحَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْقَطْعِيَّةِ، الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا لِلدَّسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَلَا لِلْمَكَايِدِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَإِنَّنَا نُتَمِّمُ هَذَا الْبَحْثَ بِفَصْلٍ وَجِيزٍ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا; لِأَنَّنَا أَلْمَمْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ بِذِكْرِ أَهَمِّهَا، وَفِيهَا الشُّبْهَاتُ مَا فِي مَسْأَلَةِ عُمْرِ الدُّنْيَا، وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ أَمَارَاتُهَا فَنَقُولُ:
أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتُهَا:
إِنَّ لِلسَّاعَةِ أَشْرَاطًا ثَبَتَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (٤٧: ١٨) الْأَشْرَاطُ جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ، كَأَسْبَابٍ جَمْعُ سَبَبٍ، وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالْأَمَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى قُرْبِهَا وَأَعْظَمُهَا بَعْثَةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِآخِرِ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ; لِأَنَّ بَعْثَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَمُلَ بِهَا الدِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٥: ٣) وَبِكَمَالِهِ تَكْمُلُ الْحَيَاةُ
403
الْبَشَرِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ، وَيَتْلُوهَا كَمَالُ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا الزَّوَالُ ; لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُحَالٌ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيُّ السَّاعَةِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْمَادِّيَّةَ تَتَنَازَعُ مَعَ الْهِدَايَةِ الرُّوحِيَّةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْغَلَبُ زَمَنًا ثُمَّ تَنْتَصِرُ الْهِدَايَةُ الرُّوحِيَّةُ زَمَنًا قَصِيرًا، ثُمَّ يَغْلِبُ الضَّلَالُ وَالشَّرُّ وَالْفُجُورُ وَالْكُفْرُ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اخْتِلَافًا وَتَعَارُضًا، وَمَا يُنَافِي حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي إِخْفَائِهَا، وَعَدَمِ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ عَلَى وَقْتِهَا، وَبَعْضُهَا ظَاهِرٌ فِي قُرْبِ قِيَامِ سَاعَةِ دَوْلَةِ الْعَرَبِ أَوْ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي إِقْبَالِ الدُّنْيَا وَسِعَتِهَا مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ فِي صِفَةِ رَجُلٍ غَرِيبٍ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ; لِيُعَلِّمَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَيْفَ يَسْأَلُونَ عَنْ دِينِهِمْ - ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ قَالَ " فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ " وَرَوَى هَذَا السُّؤَالَ وَحْدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَتِ
الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رِعَاءُ الشَّاءِ رُؤُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْغَنَمِ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا " قِيلَ: مَعْنَى وِلَادَةِ الْأَمَةِ رَبَّتَهَا كَثْرَةُ السَّرَارِي وَأَوْلَادِ السَّبَايَا - وَكَانَ لِهَذَا طَوْرٌ عَظِيمٌ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ - وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ أَوْلَادِ السَّرَارِيِّ لَا مِنْ أَوْلَادِ بَنَاتِ الْبُيُوتَاتِ الْعَرِيقَةِ فِي حُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَعُلُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَالْمُرَادُ بِصَيْرُورَةِ رِعَاءِ (بِالْهَمْزَةِ) أَيْ رُعَاةِ الْغَنَمِ وَأَهْلِ الْبَدَاوَةِ مِنْ أَصْحَابِ الثَّرْوَةِ وَالْبَذَخِ وَالْقُصُورِ الْعَالِيَةِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رُؤَسَاءٌ لِلنَّاسِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةُ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ أَيْضًا فِي أُمَّتِنَا وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَصَارَ بَعْضُ تَسَوُّدِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ وَأَمْثَالِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَعْدُودًا فِي مَنَاقِبِهِ بَعْدَ فَسَادِ تَرْبِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ أُسَرِ الْأَشْرَافِ وَالنُّبَلَاءِ وَاسْتِعْلَائِهِمْ عَلَى النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَمَارَاتِ زَوَالِ الدَّوْلَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَهُوَ يَظْهَرُ فِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ لَا الْعَامَّةِ.
وَأَجْمَعُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّنَدِ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
404
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ مَا ذُكِرَ فِيهِ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى مُفَصَّلَةٍ وَهَذَا نَصُّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
" لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ
اللهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ
405
الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضُ حَتَّى يُهِمَّ
رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا (٦: ١٥٨) وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهُ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يُسْقَى فِيهِ، وَلَتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا " وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ.
406
وَفِي الْأَحَادِيثِ أَشْرَاطٌ وَأَمَارَاتٌ أُخْرَى بَعْضُهَا صَارَ عَادِيًّا، وَبَعْضُهَا غَرِيبًا، وَيَقُولُ عُلَمَاؤُنَا إِنَّ مِنْهُ مَا وَقَعَ، وَبَاقِيهِ يُتَوَقَّعُ، وَفِيهَا تَعَارُضٌ وَتَنَاقُضٌ وَمُشْكِلَاتٌ حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهَا، وَإِنَّنِي أَتَكَلَّمُ عَنْهُ كَلَامًا إِجْمَالِيًّا عَامًّا، وَأَبْسُطُ الْكَلَامَ فِي أَهَمِّهَا بَسْطًا خَاصًّا، وَلَا سِيَّمَا أَحَادِيثُ الدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ، فَأَلْقِ لَهُ السَّمْعَ وَوَجِّهْ إِلَيْهِ النَّظَرَ، فَهُوَ يُجْلِي الْعِبْرَةَ لِمَنِ اعْتَبَرَ.
(نَظْرَةٌ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتَقَاسِيمِهَا وَمُشْكِلَاتِهَا)
اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِ، أَنَّ فِي رِوَايَاتِ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالتَّعَارُضِ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْرِفَهُ وَلَوْ إِجْمَالًا، حَتَّى لَا تَكُونَ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْتَمِدُهُ أَصْحَابُ النَّقْلِ حَقٌّ، وَلَا لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ حَقٌّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (٣٩: ١٧، ١٨) الْآيَةَ. وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (١٢: ١٠٨) وَإِنَّنِي أُبَيِّنُ فِيهِ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُ الْقَانِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَفْتَحُ بَابَ التَّحْقِيقِ لِطَالِبِ التَّفْصِيلِ، فَأَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا مَا رُوِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ مُنْذُ قُرُونٍ خَلَتْ إِلَى زَمَنِ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَدُّوهُ عَدًّا - وَمَا وَقَعَ بَعْضُهُ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ كَالْفِتَنِ وَالْفُسُوقِ وَكَثْرَةِ الزِّنَا وَكَثْرَةِ الدَّجَّالِينَ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَتَشَبُّهِهِنَ بِالرِّجَالِ وَالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ حَتَّى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا سَيَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الْعَلَامَاتِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى - وَمِنَ الْأُولَى قِتَالُ الْيَهُودِ وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مَا عُهِدَ وَيُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ وَسِعَةِ الدُّنْيَا وَضِيقِهَا، وَقِيَامِ الدُّوَلِ وَسُقُوطِهَا، وَالْفِسْقِ مِنْ زِنًا وَلِوَاطٍ وَسُكْرٍ، إِلَخْ. وَالْأَوْبِئَةِ وَالزَّلَازِلِ وَهَذَا لَا يَشْعُرُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ بِأَنَّ لَهُ عَلَاقَةً مَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَإِلَى مَا هُوَ غَرِيبٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ كَظُهُورِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْمَسِيحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمَّا الزَّلَازِلُ وَالْخُسُوفُ وَظُهُورُ النُّجُومِ ذَوَاتُ الْأَذْنَابِ أَوِ الْأَذْيَالِ، فَقَدْ صَارَتْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَبِاعْتِبَارٍ ثَالِثٍ إِلَى مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى قِيَامِ سَاعَةِ الْجِيلِ أَوِ الدَّوْلَةِ، كَذِهَابِ الْأَمَانَةِ وَتَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَمَا هُوَ آيَةٌ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ الْكُبْرَى.
وَيَرِدُ مِنَ الْإِشْكَالِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الصُّغْرَى الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، الَّتِي تَقَعُ عَادَةً بِالتَّدْرِيجِ لَا يُذَكِّرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْفَائِدَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا
أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ - وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ يَضَعُ الْعَالِمَ بِهِ فِي مَأْمَنٍ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا كُلِّهَا، فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ الْمُنْتَظِرُونَ لَهَا يَعْلَمُونَ
407
أَنَّ لَهَا أَشْرَاطًا تَقَعُ بِالتَّدْرِيجِ، فَهُمْ آمِنُونَ مِنْ مَجِيئِهَا بَغْتَةً فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ قَبْلَهَا ظُهُورَ الدَّجَّالِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُفِيدُ النَّاسَ مَوْعِظَةً وَلَا خَشْيَةً، وَلَا اسْتِعْدَادًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، فَمَا فَائِدَةُ الْعِلْمِ بِهِ إِذًا؟ وَهَلْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا مَحْصُورَةٌ فِي وُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَلَا سِيَّمَا آخِرُ آيَةٍ مِنْهَا؟ وَكَيْفَ يَتَّفِقُ هَذَا وَمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِ كُلِّ رَسُولٍ كَانَ يُخَوِّفُ قَوْمَهُ وَيُنْذِرُهُمُ السَّاعَةَ وَالدَّجَّالَ قَبْلَهَا؟ وَكَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْهُمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْوَاقِعُ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ؟ وَهَلْ كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ بِالْإِخْبَارِ بِهَا تَأْمِينَ النَّاسِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ مُدَّةَ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ هَذِهِ الْأَشْرَاطُ؟ أَمْ كَانَ يَتَوَقَّعُ ظُهُورَهَا بَعْدَهُ فِي قَرْنِهِ أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ تَجْوِيزِهِ ظُهُورَ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ، وَتَصْدِيقِهِ مَا حَكَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ مِنْ خَبَرِ الْجَسَّاسَةِ، وَكَوْنِ الدَّجَّالِ مَحْبُوسًا فِي جَزِيرَةٍ؟.
الْإِشْكَالُ وَالِاشْتِبَاهُ فِي رِوَايَاتِ الدَّجَّالِ:
قَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوَازِيِّ مِنْ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَدِّرُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَقْدِيرًا ; إِذْ لَمْ يُوحِ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَخْبَارَهَا تَفْصِيلًا، وَعَدَّ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي احْتِمَالِ ظُهُورِ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ أَحَادِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقِصَّتُهُ مُشْكِلَةٌ وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ... وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَلَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ وَكَانَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمَلَةٌ ; فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ لِعُمَرَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ " اهـ. وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ مِنَ الْإِشْكَالِ وَالِاشْتِبَاهِ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ.
إِنَّ أَحَادِيثَ الدَّجَّالِ مُشْكِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحُدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ مُنَافَاتِهَا لِحِكْمَةِ إِنْذَارِ الْقُرْآنِ النَّاسَ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَإِتْيَانِهَا بَغْتَةً.
ثَانِيهَا: مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْخَوَارِجِ الَّتِي تُضَاهِي أَكْبَرَ الْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَوْ تَفُوقُهَا، وَتُعَدُّ شُبْهَةً عَلَيْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَعَدَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ ذَلِكَ مِنْ بِدْعَتِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللهَ مَا آتَاهُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ لِغَضَبِهِ، فَكَيْفَ يُؤْتِي الدَّجَّالَ أَكْبَرَ الْخَوَارِقِ لِفِتْنَةِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ فِتْنَةِ
408
الدَّجَّالِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ. وَهَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَرْسَلَهُ ; وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ اهـ. وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي.
ثَالِثُهَا: وَهُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ مَا قَبْلُهُ، أَنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْوِيلَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُضْطَرِبَةُ الْمُتَعَارِضَةُ لَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَلَا لِمُعَارَضَتِهَا.
رَابِعُهَا: اشْتِمَالُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مُخَالَفَةِ بَعْضِ الْقَطْعِيَّاتِ الْأُخْرَى مِنَ الدِّينِ كَتَخَلُّفِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ أَوْ كَوْنِهَا عَبَثًا وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ.
خَامِسُهَا: أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ تَعَارُضًا كَثِيرًا يُوجِبُ تَسَاقُطَهَا كَمَا تَرَى فِيمَا يَلِي. فَمِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضِ أَنَّ بَعْضَهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى مِنَ الْمُحْتَمَلِ ظُهُورَ الدَّجَّالِ فِي زَمَنِهِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ شَرَّهُ، وَبَعْضُهَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ الرُّومِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ (وَمِنْهُ) أَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مَنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ هَلْ هُوَ الدَّجَّالُ أَمْ لَا؟ وَأَنَّهُ وَصَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ بِصِفَاتٍ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ كَمَا قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وَمِنَ التَّعَارُضِ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَرِّحُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ (أَيِ الدَّجَّالِ) جَبَلٌ أَوْ جِبَالٌ مَنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ أَوْ أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ وَعَسَلٍ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بِسَنَدِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ مَعَ
مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: " مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهْرَ مَاءٍ. قَالَ: " بَلْ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ " وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ " يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جِبَالَ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَهْرًا مِنْ مَاءٍ " وَقَدْ أَوَّلُوا هَذَا لِتَصْحِيحٍ ذَاكَ، وَيُتَأَمَّلُ قَوْلُ جَابِرٍ: " يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّكَ قُلْتَ هَذَا.
وَمِنَ التَّعَارُضِ أَيْضًا مَا وَرَدَ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ فَفِي بَعْضِ الرِّوَيَاتِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ عَلَى الْإِبْهَامِ. وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَفِي حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْرٍ أَوْ قَصْرٍ فِي جَزِيرَةِ بَحْرِ الشَّامِ - أَيِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ وَهُوَ فِي الشَّمَالِ - أَوْ بَحْرِ الْيَمِينِ وَهُوَ فِي الْجَنُوبِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَقَدْ حَاوَلَ شُرَّاحُ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَجَاءُوا بِأَجْوِبَةٍ مُتَكَلَّفَةٍ رَدَّهَا الْمُحِقُّونَ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، وَفِيهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ
409
غَيْرُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا الرِّوَايَاتُ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلِفِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ، وَإِقْرَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمُتَابَعَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى هَذَا الْحَلِفِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ.
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ قَدْ نَقَضَهُ التَّصْرِيحُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرٍ بِخِلَافِهِ حِينَ قَالَ لَهُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ رَدَّ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بَعْضَ تَأْوِيلَاتِ الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ فِي مَوْلِدِ ابْنِ صَيَّادٍ وَصِفَاتِهِ وَفِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ عَلَى حَلِفِهِ، وَعَدَّ قِصَّةَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مُرَجِّحَةً لِكَوْنِهِ غَيْرَ ابْنِ صَيَّادٍ، وَكَوْنِ عُمَرَ كَانَ يَحْلِفُ حَلِفَهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ - لِهَذَا أُخُصُّ هَذَا الْحَدِيثَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ فَأَقُولُ إِنَّ فِيهِ عِدَّةَ مَبَاحِثٍ.
(١) كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ مَنْ عَرَبِ فِلَسْطِينَ (سُورِيَّةَ) وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ كَانَ رَاهِبَ زَمَانِهِ، وَقَدْ جَاءَ هُوَ وَأَخُوهُ نُعَيْمٌ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَأَسْلَمَا، وَحَدَّثَ هُوَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِكَايَةِ الْجَسَّاسَةِ الْغَرِيبَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ
بَعْدَ إِسْلَامِهِ مِنَ الْعُبَّادِ وَمِنَ الْقَصَّاصِينَ، وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَحَدٍ شُبْهَةٌ فِيهِ بَلْ عَدُّوا مِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَى عَنْهُ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ.
(٢) رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِطُولِهِ وَمُشْكِلَاتِهِ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَقَالَتْ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَحَدَّثَهُمْ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ تَمِيمٍ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ " وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا الشَّعْبِيُّ وَحْدَهُ، وَهُوَ عَلَى جَلَالَتِهِ قَدْ رَوَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَرَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْمُحَدِّثِينَ أَثْنَوْا عَلَى مَرَاسِيلِهِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي مَنْ رَوَاهُ غَيْرُهَا وَغَيْرُهُ.
(٣) مِنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ إِذًا أَنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ لِغَرَابَةِ مَوْضُوعِهِ وَلِاهْتِمَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ وَجَمْعِهِ النَّاسَ لَهُ وَتَحْدِيثِهِ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاسْتِشْهَادِهِ بِقَوْلِ تَمِيمٍ عَلَى مَا كَانَ حَدَّثَهُمْ بِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَلِسَمَاعِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ غَيْرِ الْمَعْقُولِ أَلَّا يُرْوَى إِلَّا آحَادِيًّا، وَيُؤَيِّدُهُ امْتِنَاعُ الْبُخَارِيِّ عَنْ إِخْرَاجِهِ فِي صَحِيحِهِ لِشِدَّةِ تَحَرِّيهِ، وَقَدْ أَجَابَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي ابْنِ صَيَّادٍ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ عَنْ هَذَا الْإِعْلَالِ بِقَوْلِهِ: وَلِشِدَّةِ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. أَيْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ - سَلَكَ الْبُخَارِيُّ مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَلَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَرْدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَجَابِرٌ أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ بِطُولِهِ وَأَخْرَجَهُ
410
أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا وَابْنُ مَاجَهْ عَقِبَ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَقِيتُ الْمُحْرِزَ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي كَمَا حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ لَفْظَهُ.
أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ لَا يَنْفِي كَوْنَ الْحَدِيثِ مِنَ الْآحَادِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّوَاتُرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَسْبَابِ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي، وَلَا يَنْفِي أَيْضًا كَوْنَهُ غَرِيبًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْدًا فَقَدِ انْحَصَرَتِ الْأَسَانِيدُ لِرِوَايَتِهِ فِي الشَّعْبِيِّ وَفِي فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ، فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الصَّحِيحِ - مُخْتَصَرٌ، وَلَيْسَ فِيهِ إِسْنَادُ الْحِكَايَةِ إِلَى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ بَلْ لَا يَزِيدُ لَفْظُ الْمَرْفُوعِ فِيهِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ " بَيْنَمَا أُنَاسٌ يَسِيرُونَ فِي الْبَحْرِ فَنَفِدَ طَعَامُهُمْ فَرُفِعَتْ لَهُمْ جَزِيرَةٌ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْخُبْزَ فَلَقِيَتْهُمُ الْجَسَّاسَةُ " قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَقُلْتُ لِأَبِي سَلَمَةَ وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَ امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَ جِلْدِهَا وَرَأْسِهَا قَالَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَسَأَلَ عَنْ نَخْلِ بِيسَانَ وَعَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالَ: هُوَ الْمَسِيحُ. فَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ، قَالَ شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ صَائِدٍ وَفِي نُسْخَةٍ - ابْنُ صَيَّادٍ - فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ قَالَ وَإِنْ مَاتَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ. قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَالَ وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ انْتَهَى سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ بِحُرُوفِهِ.
أَقُولُ: وَهُوَ لَا يُقَوِّي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُشْكِلَاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ وَغَرَائِبِهَا، بَلْ قَوَّاهُ الْحَافِظُ بِهَا فَجَعَلَهُ حَسَنًا لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُمَيْعٍ (بِالتَّصْغِيرِ) الزُّهْرِيَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ فَقَدْ قَالَ هُوَ نَفْسُهُ (أَيِ الْحَافِظُ) فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِيمَا زَادَهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاءِ، وَقَالَ إِنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ الْإِثْبَاتِ بِمَا لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ، فَلَمَّا فَحُشَ ذَلِكَ مِنْهُ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَذُكِرَ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ مُسْلِمٌ لَكَانَ أَوْلَى اهـ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ فَاطِمَةَ مُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا غَرَضَ لَنَا فِي ذِكْرِهِ ; إِذْ لَا نُرِيدُ اسْتِقْصَاءَ كُلِّ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالْخِلَافِ.
(٤، ٥) مِنَ الْإِشْكَالِ الْمَعْنَوِيِّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنَّ تَمِيمًا وَأَصْحَابَهُ الثَّلَاثِينَ كَانُوا مِنْ عَرَبِ الشَّامِ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهُمْ رَكِبُوا سَفِينَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ ثُغُورِهِمْ فِي الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ، وَقَدْ ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ أَنْ سَرَدَ لِلنَّاسِ الْحِكَايَةَ " فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْهُ - أَيِ الدَّجَّالِ - وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ
411
الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ - لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ. مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ؟ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ. قَالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذِهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. ".
فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ رِوَايَةً فَهَذَا التَّرَدُّدُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَانِ الْجَزِيرَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فِي أَيِّ الْبَحْرَيْنِ هِيَ؟ ثُمَّ إِضْرَابِهِ عَنْهُمَا وَجَزْمِهِ بِأَنَّهُ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ إِلَخْ. إِشْكَالٌ آخَرُ فِي مَتْنِهِ يُنْظَرُ إِلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى فِي مَكَانِ الدَّجَّالِ بِعَيْنٍ وَيُنْظَرُ إِلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ابْنِ صَيَّادٍ بِالْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَيُنْظَرُ بِالْعَيْنَيْنِ كِلْتَيْهِمَا إِلَى سَبَبِ هَذَا التَّرَدُّدِ وَمُنَافَاتِهِ; لِأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَسَأَتَكَلَّمُ فِي سَبَبِهِ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ.
ثُمَّ أَيْنَ هَذِهِ الْجَزِيرَةُ الَّتِي رَفَأَ إِلَيْهَا تَمِيمٌ وَأَصْحَابُهُ فِي سَفِينَتِهِمْ؟ إِنَّهَا فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْمَرْفُوعِ - إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ - أَيِ الْجِهَةِ الْمُقَابَلَةِ لِسَوَاحِلَ سُورِيَّةَ مِنَ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ، أَوِ الْجِهَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِشَوَاطِئِ الْيَمَنِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَحْرَيْنِ قَدْ مَسَحَهُ الْبَحَّارَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مَسْحًا، وَجَابُوا سَطْحَهُمَا طُولًا وَعَرْضًا، وَقَاسُوا مِيَاهَهُمَا عُمْقًا، وَعَرَفُوا جَزَائِرَهُمَا فَرْدًا فَرْدًا، فَلَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا جَزِيرَةٌ فِيهَا دَيْرٌ أَوْ قَصْرٌ حُبِسَ فِيهِ الدَّجَّالُ وَلَهُ جَسَّاسَةٌ فِيهَا تُقَابِلُ النَّاسَ، وَتَنْقُلُ إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ، لَعَرَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ كُلُّ النَّاسِ وَمَا قَالَهُ شَارِحُ الْمَشَارِقِ مِنْ تَنَقُّلِ الدَّجَّالِ فِي الْبَحْرَيْنِ أَوْ مِنَ الْجَانِبِ الشَّامِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الْيَمَنِيِّ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْبَحْرَ وَاحِدٌ - وَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ مِنَ انْتِقَالِهِ إِلَى أَصْفَهَانَ ; لِيَخْرُجَ مِنْهَا مَعَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِهَا - كِلَاهُمَا مِنَ الدَّعَاوَى الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا مِنَ النَّقْلِ، وَلَا مِنَ الْمَقْبُولِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يَسْتَنْبِطُونَهَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرْجِعُوهَا إِلَى قَاعِدَتِهِمْ، تَعَارَضَتْ فَتَسَاقَطَتْ، حَتَّى إِنَّ الْحَافِظَ رَضِيَ لِنَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ أَنْ يُقِرَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ ابْنَ صَيَّادٍ شَيْطَانٌ تَبَدَّى فِي صُورَةِ الدَّجَّالِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ إِلَى أَصْفَهَانَ إِلَخْ. وَهُوَ يَحْفَظُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي وِلَادَتِهِ بِالْمَدِينَةِ وَنُشُوئِهِ فِيهَا ثُمَّ إِسْلَامِهِ وَحَجِّهِ ثُمَّ مَوْتِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّهُ يَحْفَظُ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِهَذَا.
(٦) فِي الْأَلْفَاظِ الْمَرْفُوعَةِ مِنْ حِكَايَةِ الْجَسَّاسَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُقِرَّ تَمِيمًا عَلَى كُلِّ مَا حَكَاهُ، بَلْ عَلَى بَعْضِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْهُ (أَيْ عَنِ الدَّجَّالِ) وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ " أَيْ، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُمَا. وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: " إِلَّا أَنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ " إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ
آنِفًا، وَتَرْجِيحُ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ رِوَايَاتِ جِهَةِ الْمَشْرِقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَحْرِ الشَّامِ، وَلَا بَحْرِ الْيَمَنِ ; لِأَنَّ الشَّامَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالْيَمَنَ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مِنْهَا، فَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا
412
بِمَشْرِقٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا تَيَقَّنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ نَفَى الْأَوَّلَيْنِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَّقَ تَمِيمًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: " أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ " بِالتَّأْكِيدِ بِـ " إِنَّ " وَالْبَدْءِ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ " أَلَا " ثُمَّ كُوشِفَ فِي مَوْقِفِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ، بَلْ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ.
(٧) هَاهُنَا يَجِيءُ إِشْكَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ نَفْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ قَوْلِ تَمِيمٍ يُبْطِلُ الثِّقَةَ بِهِ كُلِّهِ، وَيَحْصُرُ عَجَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ إِخْبَارُهُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ظُهُورِ الدَّجَّالِ وَكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَلَا الْمَدِينَةَ. وَإِنْ بَقِيَ الْإِعْجَابُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ يَتَفَصُّونَ مِنْ هَذَا بِأَنَّ الدَّجَّالَ كَانَ قَبْلَ إِسْلَامِ تَمِيمٍ، وَحَدِيثُهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الَّتِي رَآهُ فِيهَا فَذَهَبَ إِلَى أَصْبَهَانَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ تَمِيمٌ صَرِيحًا فِيمَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ وِثَاقَهُ الشَّدِيدَ إِنَّمَا يُحَلُّ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ صَارَ قَرِيبًا بَعْدَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَالَ: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرَجُ فَأَسِيرُ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، إِلَّا مَكَّةَ وَطِيبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ إِلَخْ. فَعَطَفَ الْخُرُوجَ عَلَى الْإِذْنِ بِـ " الْفَاءِ " وَالسَّيْرَ عَلَى الْخُرُوجِ بِـ " الْفَاءِ " نَصٌّ فِي أَنَّهُمَا عَلَى التَّعْقِيبِ لَا فَاصِلَ بَيْنَ هَذِهِ وَتِلْكَ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مَصْنُوعَةً.
(٨) نَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ إِلَى مَبْحَثٍ قَوِيِّ الصِّلَةِ بِهِ، وَهُوَ إِذَا لَمْ نَعُدَّ مَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا أَثْبَتَهُ تَمِيمٌ مِنْ وُجُودِ الدَّجَّالِ فِي أَحَدِ الْبَحْرَيْنِ وِفَاقًا لِلْعَلَّامَةِ الطِّيبِيِّ الشَّهِيرِ - فَهَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا حَدَّثَهُ بِهِ تَمِيمٌ تَصْدِيقًا لَهُ؟ وَهَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومًا مِنْ تَصْدِيقِ كُلِّ كَاذِبٍ فِي خَبَرٍ فَيُعَدُّ تَصْدِيقُهُ لِحِكَايَةِ تَمِيمٍ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِيهَا؟ وَيُعَدُّ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ إِشْكَالٍ وَارِدًا عَلَى حَدِيثٍ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِقْرَارُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ عَلَى حَلِفِهِ بِأَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ كَمَا تَقَدَّمَ.
إِنَّ مَا قَالُوهُ فِي الْعِصْمَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا ; فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ هُوَ الْعِصْمَةُ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ
اللهِ تَعَالَى، وَعَنْ تَعَمُّدِ عِصْيَانِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. قَالَ الْسَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ: قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: وَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُؤَدُّونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسُوا مَعْصُومِينَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ: إِنَّهُمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يُعْصَمُوا فِي الْأَفْعَالِ بَلْ فِي نَفْسِ الْأَدَاءِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ فِي الْأَقْوَالِ فِيمَا يُؤَدُّونَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ مِنْ تَعَمُّدِ الذَّنْبِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ بَعْضِ الْخَوَارِجِ وَالْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ تَجْوِيزُ ذَلِكَ إِلَخْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَتَصْدِيقُ الْكَاذِبِ لَا يُعَدُّ ذَنْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَدِّقُ
413
بَعْضَ مَا يَفْتَرِي بِهِ الْمُنَافِقُونَ حَتَّى يُخْبِرَهُ اللهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِخْبَارُهُ بِهِ مِنْهُ، كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَغَيْرِهَا، وَصَدَّقَ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ فِي الْقِصَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَبِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ إِلَيْهَا الْحَدِيثَ أَفْشَتْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٦٦: ٣) وَتَرَدَّدَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَضَاقَ صَدْرُهُ زَمَنًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْبَرَاءَةِ الْمُكَذِّبَةُ لَهُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقِصَّةِ تَمِيمٍ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي يَقُولُهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا أَنَّ مَا يَقُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيهِ وَظَنِّهِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا هُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، وَهُوَ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَلْقِيحِ النَّخْلِ: " إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثَتْكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ " وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي مَسْأَلَةِ تَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَائِلِ شَرْحِ الْإِلْمَامِ إِذَا أُخْبِرَ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلًا عَلَى مُطَابَقَةِ مَا فِي الْوَاقِعِ، كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ فِي حَلِفِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَدَمُ إِنْكَارِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ كَمَا فَهِمَهُ جَابِرٌ حَتَّى صَارَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدُ إِلَى حَلِفِ عُمَرَ، أَوْ لَا يَدُلُّ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ ; لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا هُوَ الْعِصْمَةُ مِنَ التَّقْرِيرِ عَلَى
بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْقِيقِ الْبُطْلَانِ وَلَا يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ تَحْقِيقِ الصِّحَّةِ إِلَخْ. نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مُلَخَّصًا.
(٩) إِنَّ فِي رِوَايَاتِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ اخْتِلَافَاتٌ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ فِي أَطْوَلِهَا عَنْ تَمِيمٍ: " إِنَّهُ رَكِبَ سَفِينَةً بَحْرِيَّةً مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ثُمَّ أُرْفِؤُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَجَلَسُوا فِي أَقْرَبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ " وَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " حَدَّثَنِي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ قَوْمِهِ كَانُوا فِي الْبَحْرِ فِي سَفِينَةٍ لَهُمْ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ فَرَكِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَخَرَجُوا إِلَى سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّ بَنِي عَمِّ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ " وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَةٌ فَسَقَطَ إِلَى جَزِيرَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعْرَهُ " وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالِاخْتِلَافَاتُ فِيهَا مُتَعَدِّدَةٌ كَمَا تَرَى، وَفِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْإِشْكَالِ مِنْ عِدَّةِ
414
وُجُوهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْنُوعٌ، وَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَيْسَ لَهُ كُلُّهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي انْتَقَدَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ أُصُولِ الْحَدِيثِ وَتَعَارُضِ الْمُتُونِ أَوْ مُخَالَفَتِهَا لِلْوَاقِعِ. وَعَدَّ مِنْ عِلَلِ بَعْضِهَا احْتِمَالَ كَوْنِهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا أَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَشُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالُوا جَمِيعًا: " الدَّجَّالُ لَيْسَ هُوَ بِإِنْسَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ مُوثَّقٌ بِسَبْعِينَ حَلْقَةً فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْيَمَنِ لَا يُعْلَمُ مَنْ أَوْثَقَهُ سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِذَا آنَ ظُهُورُهُ فَكَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ عَامٍ حَلْقَةً، فَإِذَا بَرَزَ أَتَتْهُ أَتَانٌ، عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا فَيَضَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْبَرًا مِنْ نُحَاسٍ، وَيَقْعُدُ عَلَيْهِ وَيَتْبَعُهُ قَبَائِلُ الْجِنِّ يُخْرِجُونَ لَهُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ ".
قَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا: (قُلْتُ) وَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ كَوْنُ ابْنِ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِمْ ثِقَاتٍ تَلَقُّوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ نُعَيْمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الدَّجَّالَ تَلِدُهُ أُمُّهُ بِقُوصٍ مِنْ أَرْضِ
مِصْرَ. (قَالَ) وَبَيْنَ مَوْلِدِهِ وَمَخْرَجِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً. (قَالَ) وَلَمْ يَنْزِلْ خَبَرُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ اهـ، وَأَخْلَقُ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَكَوْنُهُ يُولَدُ قَبْلَ مَخْرَجِهِ بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ مُخَالِفٌ لِكَوْنِهِ ابْنَ صَيَّادٍ، وَلِكَوْنِهِ مُوثَقًا فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْحَافِظِ. وَهُوَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنَ الْفَتْحِ.
وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ضَرْبِ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ الْمُتَعَارِضَةِ الْمُتَنَافِرَةِ بِبَعْضٍ، وَبِأَنَّهُ يَعُدُّ احْتِمَالَ الْأَخْذِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عِلَّةً صَحِيحَةً لِرَدِّ رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ، وَلَوْ فِيمَا لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ وَلَا لِلرَّأْي فِيهِ، خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الزُّرْقَانِيُّ بِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ أَنْصَارِ الْخُرَافَاتِ فَعَدُّوهُ مِمَّا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ.
وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ يَدَ بَطَلِ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْأَكْبَرِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَدْ لَعِبَتْ لَعِبَهَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّجَّالِ (فِي كُلِّ وَادٍ أَثَرٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ) وَقَوْلُ كَعْبٍ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وِلَادَةِ الدَّجَّالِ بِقُوصٍ فِي كُتُبِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ.
وَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْهُ مِنْهَا مَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْفِتَنِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ فِي كِتَابَةِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ قَالَ (أَيْ كَعْبٌ) : يَتَوَجَّهُ الدَّجَّالُ فَيَنْزِلُ عِنْدَ بَابِ دِمَشْقَ الشَّرْقِيِّ، ثُمَّ يُلْتَمَسُ فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُرَى عِنْدَ الْمِيَاهِ الَّتِي عِنْدَ نَهْرِ الْكُسْوَةِ ثُمَّ يُطْلَبُ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ تَوَجَّهَ، ثُمَّ يَظْهَرُ بِالْمَشْرِقِ فَيُعْطَى الْخِلَافَةَ، ثُمَّ يُظْهِرُ السِّحْرَ، ثُمَّ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَتَتَفَرَّقُ النَّاسُ عَنْهُ، فَيَأْتِي النَّهْرَ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيلَ فَيَسِيلُ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْجِعُ
415
ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَيْبَسَ فَيَيْبَسُ، وَيَأْمُرُ جَبَلَ طُورٍ وَجَبَلَ زِيتَا أَنْ يَنْتَطِحَا فَيَنْتَطِحَا، وَيَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تُثِيرَ سَحَابًا مِنَ الْبَحْرِ فَتُمْطِرُ الْأَرْضَ، وَيَخُوضُ الْبَحْرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ خَوْضَاتٍ فَلَا يَبْلُغُ حَقْوَيْهِ، وَإِحْدَى يَدَيْهِ أَطْوَلُ مِنَ الْأُخْرَى فَيَمُدُّ الطَّوِيلَةَ فِي الْبَحْرِ فَتَبْلُغُ قَعْرَهُ فَيُخْرِجُ مِنَ الْحِيتَانِ مَا يُرِيدُ اهـ.
بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ كَانَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ; لِيُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَسُنَّتَهُمْ، وَخُدِعَ بِهِ النَّاسُ لِإِظْهَارِ التَّقْوَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَجُمْلَةُ أَخْبَارِ الدَّجَّالِ قَالُوا: إِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، يَعْنُونَ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ شَيْءٌ مِنْ رِوَايَاتِهَا. وَيَدُلُّ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنْهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كُشِفَ لَهُ وَتَمَثَّلَ لَهُ ظُهُورُ دَجَّالٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ خَوَارِقَ كَثِيرَةً وَغَرَائِبَ يَفْتَتِنُ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَنَّهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَهُ وَيُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كُشِفَ لَهُ ذَلِكَ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ وَلَا بِوَحْيٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى - كَمَا كُشِفَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ - فَذَكَرَهُ فَتَنَاقَلَهُ الرُّوَاةُ بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَتَعَمَّدَ الَّذِينَ كَانُوا يُثْبِتُونَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الدَّسَّ فِي رِوَايَاتِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُومَ طُلَّابُ الْمُلْكِ مِنَ الْيَهُودِ الصُّهْيُونِيِّينَ بِتَدْبِيرِ فِتْنَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَعِينُونَ عَلَيْهَا بِخَوَارِقِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَصْرِيَّةِ كَالْكَهْرَبَاءِ وَالْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ.
(التَّعَارُضُ وَالْإِشْكَالَاتُ فِي أَحَادِيثِ الْمَهْدِيِّ)
وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي أَحَادِيثِ الْمَهْدِيِّ فَهُوَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ ; وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ أَعْسَرُ، وَالْمُنْكِرُونَ لَهَا أَكْثَرُ، وَالشُّبْهَةُ فِيهَا أَظْهَرُ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَدَّ الشَّيْخَانِ بِشَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِهَا فِي صَحِيحَيْهِمَا. وَقَدْ كَانَتْ أَكْبَرَ مَثَارَاتِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ فِي الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; إِذْ تَصَدَّى كَثِيرٌ مِنْ مُحِبِّي الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَمِنْ أَدْعِيَاءِ الْوِلَايَةِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، لِدَعْوَى الْمَهْدَوِيَّةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَتَأْيِيدِ دَعْوَاهُمْ بِالْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، وَبِالْبِدَعِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجَ أُلُوفُ الْأُلُوفِ عَنْ هِدَايَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ حَقِّ تَصْدِيقِ الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِخُرُوجِ مَهْدِيٍّ يُجَدِّدُ الْإِسْلَامَ وَيَنْشُرُ الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ الْأَنَامِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِظُهُورِهِ بِتَأْلِيفِ عُصْبَةٍ قَوِيَّةٍ تَنْهَضُ بِزَعَامَتِهِ، وَتُسَاعِدُهُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْكَانِ إِمَامَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، بَلْ تَرَكُوا مَا يَجِبُ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَحِفْظِ سُلْطَانِ الْمِلَّةِ بِجَمْعِ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ، وَبِإِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ فَاتَّكَلُوا وَتَوَاكَلُوا، وَتَنَازَعُوا وَتَخَاذَلُوا، وَلَمْ يَعِظْهُمْ مَا نُزِعَ مَنْ مُلْكِهِمْ، وَمَا سُلِبَ مِنْ مَجْدِهِمْ، اتِّكَالًا عَلَى قُرْبِ الْمَهْدِيِّ، كَأَنَّهُ هُوَ الْمُعِيدُ الْمُبْدِئُ، فَهُوَ الَّذِي سَيَرُدُّ إِلَيْهِمْ
416
مُلْكَهُمْ، وَيُجَدِّدُ لَهُمْ مَجْدَهُمْ، وَيُعِيدُ لَهُمْ عَدْلَ شَرْعِهِمْ، وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْكَرَامَاتِ، وَمَا يُؤَيَّدُ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَا بِالْبَوَارِيدِ أَوِ الْبُنْدُقِيَّاتِ الصَّارِخَاتِ وَلَا بِالْمَدَافِعِ الصَّاخَّاتِ، وَلَا بِالدَّبَّابَاتِ الْمُدَمِّرَاتِ، وَلَا بِأَسَاطِيلِ الْبِحَارِ
السَّابِحَاتِ وَالْغَوَّاصَاتِ وَلَا أَسَاطِيلِ الْمَنَاطِيدِ وَالطَّيَّارَاتِ، وَلَا بِالْغَازَاتِ الْخَانِقَاتِ. وَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ سِجَالًا، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَنْفِرُونَ مِنْهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، فَهَلْ يَكُونُ الْمَهْدِيُّ أَهْدَى مِنْهُ أَعْمَالًا وَأَحْسَنُ حَالًا وَمَآلًا؟ كَلَّا.
وَقَدْ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ، ابْنُ خَلْدُونَ الشَّهِيرُ، فَصَاحَ فِيهِمْ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ وَالْعُمْرَانِ، مُطَّرِدَةً فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ الْقُرْآنِ، وَصُحُفِ الْأَكْوَانِ، وَمِنْهَا أَنَّ الدُّوَلَ لَا تَقُومُ إِلَّا بِعَصَبِيَّةٍ، وَأَنَّ الْأَعَاجِمَ قَدْ سَلَبُوا الْعَصَبِيَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعِتْرَةَ النَّبَوِيَّةَ، فَإِنْ صَحَّتْ أَخْبَارُ هَذَا الْمَهْدِيِّ فَلَنْ يَظْهَرَ إِلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ عَصَبِيَّةٍ هَاشِمِيَّةٍ عَلَوِيَّةٍ، وَلَوْ سَمِعُوا وَعَقَلُوا، لَسَعَوْا وَعَمِلُوا، وَلَكَانَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ بِالِاهْتِدَاءِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى رَحْمَةً لَهُمْ، تِجَاهَ مَا كَانَ فِي أَخْبَارِهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالنِّقَمِ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَغْنَاهُمْ عَنْ بَعْضِ مَا يَرْجُونَ مِنْ زَعَامَتِهِ إِنْ لَمْ يُغْنِهِمْ عَنْهُ كُلَّهُ.
كَانَتِ الْيَهُودُ اغْتَرَّتْ مِثْلنَا بِظَوَاهِرِ مَا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ بِظُهُورِ مَسِيحٍ فِيهِمْ يُعِيدُ لَهُمْ مَا فَقَدُوا مِنْ مُلْكِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، فَاتَّكَلُوا عَلَى مَا فَهِمَ أَحْبَارُهُمْ مِنْهَا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ، الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ، وَمَضَتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ وَهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا تَفَرُّقًا وَضَعْفًا، فَلَمَّا عَرَفَتْ أَجْيَالُهُمُ الْأَخِيرَةُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْعُمْرَانِ طَفِقُوا يَسْتَعِدُّونَ لِاسْتِعَادَةِ ذَلِكَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، بِالسَّعْيِ إِلَى إِنْشَاءِ وَطَنٍ يَهُودِيٍّ خَاصٍّ بِهِمْ يُقِيمُونَ فِيهِ قَوَاعِدَ الْعُمْرَانِ، بِإِرْشَادِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَصْرِيَّةِ، الَّتِي يَتَعَلَّمُونَهَا بِمَا يُحْيُونَ مِنْ لُغَتِهِمُ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ أَنْشَؤُوا لِذَلِكَ مَصْرَفًا مَالِيًّا خَاصًّا، وَمَا زَالُوا يَجْمَعُونَ لِأَجْلِهِ الْإِعَانَاتِ بِالْأُلُوفِ وَأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، حَتَّى إِنَّهُمُ اسْتَمَالُوا لِمُسَاعَدَتِهِمْ فِي هَذَا الْعَهْدِ، أَقْوَى دُوَلِ الْأَرْضِ.
هَذَا - وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَزَالُونَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَيَزْعُمُ دَهْمَاؤُهُمْ أَنَّهُ سَيَنْقُضُ لَهُمْ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى أَوْ يُبَدِّلُهَا تَبْدِيلًا، وَهُمْ يَتْلُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (٣٥: ٤٣) فَإِذَا كَانَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ آيَاتٌ، وَكَانَ زَمَنُهَا زَمَنَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَهَلْ يَضُرُّهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَإِقَامَةٍ لِشَرْعِهِمْ وَعِزَّةٍ وَسُلْطَانٍ فِي أَرْضِهِمْ؟.
عَلَى أَنَّهُمْ أَنْشَؤُوا فِي الْعُصُورِ الْأُولَى عَصَبِيَّاتٍ لِأَجْلِ الْمَهْدِيِّ، وَلَكِنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ بَلْ أَنْشَؤُوا الْمَهْدِيَّ الْمُتَنَظَرَ (عَجَّ) نَفْسَهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَصَبِيَّاتِ الْمَجُوسِيَّةِ، الَّتِي كَانَتْ تَسْعَى
417
لِإِزَالَةِ مُلْكِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِفْسَادِ دِينِهِمُ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي اسْمِ الْمَهْدِيِّ وَنَسَبِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَكَانَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ جَوْلَةٌ وَاسِعَةٌ فِي تَلْفِيقِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ.
الِاخْتِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ فِي أَحَادِيثِ الْمَهْدِيِّ:
(مِنْهَا) أَنَّ أَشْهَرَ الرِّوَايَاتِ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَالشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ وَهُمَا الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْمَعْصُومِينَ، وَيُلَقِّبُونَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْقَائِمِ وَالْمُنْتَظَرِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ دَخَلَ السِّرْدَابَ فِي دَارِ أَبِيهِ فِي مَدِينَةِ (سُرَّ مَنْ رَأَى) الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ " سَامِرَّا " سَنَةَ ٢٦٥ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعُ سِنِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي السِّرْدَابِ حَيًّا، وَقَدْ رَفَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَسْئِلَةً شَرْعِيَّةً فِي رِقَاعٍ كَانُوا يُلْقُونَهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ فَتَاوَاهُ مُدَوَّنَةً فِيهَا، وَمَسَائِلُ هَذِهِ الرِّقَاعِ عِنْدَهُمْ أَصَحُّ الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَهُمْ كُلَّمَا ذَكَرُوهُ يُقْرِنُونَ اسْمَهُ بِحَرْفَيِ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ هَكَذَا (عَجَّ) وَهُمَا مُقْتَطَفَتَانِ مِنْ جُمْلَةِ: عَجَّلَ اللهُ خَلَاصَهُ.
وَزَعَمَتِ الْكَيْسَانِيَّةُ أَنَّ الْمَهْدِيَّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنَّهُ حَيٌّ مُقِيمٌ بِجَبَلِ رَضْوَى بَيْنَ أَسَدَيْنِ يَحْفَظَانِهِ، وَعِنْدَهُ عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ يُفِيضَانِ مَاءً وَعَسَلًا وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَوْلُهُمْ فِيهِ كَقَوْلِ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْمَهْدِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ، ورَضْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ جَبَلُ جُهَيْنَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْ يَنْبُعَ، وَسَبْعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَيُقَالُ: إِنَّ السُّنُوسِيَّةَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْخَهُمُ الْمَهْدِيَّ السُّنُوسِيَّ هُوَ الْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ اخْتَفَى، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنْ مَوْتِهِ يَقُولُونَ الْحَيُّ يَمُوتُ. وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ قَدْ مَاتَ.
وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْمَهْدِيِّ ; لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَسَيُخْرِجُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا أَنْطَاكِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ إِنَّمَا سُمِّي الْمَهْدِيَّ: لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ فَيُسْتَخْرِجُهَا مِنْ جِبَالِ الشَّامِ، وَيَدْعُو
إِلَيْهَا الْيَهُودُ فَتُسْلِمُ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، رَوَاهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَضْلِيلَاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي نَسَبِهِ: أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَاطِمِيٌّ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَدِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ، وَهُنَالِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ. (مِنْهَا) مَا رَوَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْعَبَّاسِ: " أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا عَمِّ؟ إِنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ الْأَصْفِيَاءَ، وَمِنْ عَتْرَتِكِ الْخُلَفَاءَ، وَمِنْكَ الْمَهْدِيُّ فِي آخِرِ
418
الزَّمَانِ، بِهِ يَنْشُرُ اللهُ الْهُدَى وَيُطْفِئُ نِيرَانَ الضَّلَالَةِ، إِنَّ اللهَ فَتَحَ بِنَا هَذَا الْأَمْرَ وَبِذُرِّيَّتِكَ يُخْتَمُ " وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا " اللهُمَّ انْصُرِ الْعَبَّاسَ وَوَلَدَ الْعَبَّاسِ (ثَلَاثًا) يَا عَمُّ أَمْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ وَلَدِكَ مُوَفَّقًا مَرْضِيًا " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَعَلِيٍّ، وَفِي حَدِيثِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَهْدِيِّ ثَالِثُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ.
وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِحَدِيثِ الرَّايَاتِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ خَلْدُونَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي بَلَاءً وَتَشْرِيدًا حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ إِلَخْ. وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ مِنْ شِيعَةِ الْكُوفَةِ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ شُعْبَةُ فِيهِ: كَانَ رَفَّاعًا، أَيْ يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحَادِيثَ الَّتِي لَا تُعْرَفُ مَرْفُوعَةً، وَصَرَّحُوا بِضَعْفِ حَدِيثِهِ هَذَا. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي نِسْبَةِ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْعَبَّاسِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ رِوَايَاتٌ فِي التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمُنْتَظَرَ هُوَ الْعَبَّاسِيُّ، وَذَكَرَ قَبْلَهُ السَّفَّاحَ وَالْمَنْصُورَ. وَأَهْلُ الرِّوَايَةِ يَتَكَلَّفُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَمَا يُعَارِضُهَا بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِنَ الْعَبَّاسِ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فِيهِ وِلَادَةٌ بَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَبَعْضُهَا جِهَةِ الْأُمِّ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْقَوْلِ الْمُخْتَصَرِ، وَتَبِعَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ أَلْفَاظَ الْأَحَادِيثِ لَا تَتَّفِقُ مَعَ هَذَا الْجَمْعِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي أُمِّ الْمَهْدِيِّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى كَثْرَتِهَا.
وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الشِّيعَةَ كَانُوا يَسْعَوْنَ لِجَعْلِ الْخِلَافَةِ فِي آلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِنْ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَضَعُونَ الْأَحَادِيثَ تَمْهِيدًا لِذَلِكَ فَفَطِنَ لِهَذَا الْأَمْرِ الْعَبَّاسِيُّونَ فَاسْتَمَالُوا بَعْضَهُمْ، وَرَأَى أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ وَعَصَبِيَّتُهُ أَنَّ آلَ عَلِيٍّ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الزُّهْدُ، وَأَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ كَبَنِي أُمَيَّةَ فِي الطَّمَعِ فِي الْمُلْكِ فَعَمِلَ لَهُمْ تَوَسُّلًا بِهِمْ إِلَى تَحْوِيلِ عَصَبِيَّةِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْفُرْسِ، تَمْهِيدًا لِإِعَادَةِ الْمُلْكِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَحِينَئِذٍ وُضِعَتْ أَحَادِيثُ الْمَهْدِيِّ مُشِيرَةً إِلَى الْعَبَّاسِيِّينَ مُصَرِّحَةً بِشَارَتِهِمْ (السَّوَادِ) وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ الْمَرْفُوعُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ هَذَا ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمُ ابْنُ خَلِيفَةَ، ثُمَّ لَا تَصِيرُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَيَقْتُلُونَهُمْ قَتْلًا لَمْ يَقْتُلْهُ قَوْمٌ - ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا لَا أَحْفَظُهُ - فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللهِ الْمَهْدِيُّ قَالَ السِّنْدِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ مَاجَهْ، وَفِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى
419
شَرِيطِ الشَّيْخَيْنِ اهـ. فَهُوَ مِثَالٌ لِأَصَحِّ مَا رَوَوْهُ فِي الْمَهْدِيِّ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّازِقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ الشَّهِيرُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالتَّشَيُّعِ، وَعَمِّي فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَخَلَطَ، وَكَانَ مِنْ مَشَايِخِهِ عَمُّهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَنَاهِيكَ بِهِ - وَفِي سَنَدِهِ إِلَى ثَوْبَانَ أَبُو قِلَابَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَهُمَا مُدَلِّسَانِ، وَقَدْ عَنْعَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَقُولَا إِنَّهُمَا سَمِعَاهُ فَإِذَا أَضَفْتَ إِلَى هَذَا طَعْنَ الطَّاعِنِينَ فِي عَبْدِ الرَّازِقِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَدِيٍّ الْقَائِلُ: إِنَّهُ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ رَمْيِ بَعْضِهِمْ إِيَّاهُ بِالْكَذِبِ عَلَى مَكَانَتِهِ مِنْ هَذَا الْفَنِّ. - وَإِذَا تَذَكَّرْتَ مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْفِتَنِ وَالسَّاعَةِ عَامَّةٌ، وَأَحَادِيثَ الْمَهْدِيِّ خَاصَّةٌ، وَأَنَّهَا كَانَتْ مَهَبَّ رِيَاحِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَمَيْدَانَ فُرْسَانِ الْأَحْزَابِ وَالشِّيَعِ، - تَبَيَّنَ لَكَ أَيْنَ تَضَعُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْهَا.
وَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَتِ الْأَحَادِيثُ قَدْ دُوِّنَتْ، لَمْ يَسَعِ الْقَائِلِينَ بِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الرَّايَاتِ السُّودَ الْمَرْوِيَّةَ فِيهَا غَيْرُ رَايَاتِ بَنِي الْعَبَّاسِ، عَلَى أَنَّ خُصُومَهُمْ كَانُوا قَدْ رَوَوْا فِي مُعَارَضَتِهَا رِوَايَاتٍ نَاطِقَةً بِأَنَّ رَايَاتِ الْمَهْدِيِّ تَكُونُ صُفْرًا، وَرِوَايَاتٍ فِي أَنَّ ظُهُورَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ لَا مِنَ الْمَشْرِقِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّامِتِ: قُلْتُ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَمَا مِنْ عَلَامَةٍ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْأَمْرِ؟ - يَعْنِي ظُهُورَ الْمَهْدِيِّ - قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: هَلَاكُ بَنِي
الْعَبَّاسِ وَخُرُوجُ السُّفْيَانِيِّ وَالْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ. قُلْتُ: جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، أَخَافُ أَنْ يَطُولَ هَذَا الْأَمْرُ. فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ كَنِظَامِ سِلْكٍ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَرَوَوْا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ قَالَ: تَكُونُ فِي الشَّامِ رَجْفَةٌ يَهْلَكُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ يَجْعَلُهَا اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَذَابًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَانْظُرُوا إِلَى أَصْحَابِ الْبَرَاذِينِ الشُّهُبِ وَالرَّايَاتِ الصُّفْرِ تُقْبِلُ مِنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَحِلَّ بِالشَّامِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُوعِ الْأَكْبَرِ، وَالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَانْظُرُوا خَسْفَ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا (حَرَسْتَا) فَإِذَا كَانَ خَرَجَ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَانْظُرُوا خُرُوجَ الْمَهْدِيِّ. انْتَهَى الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ لَقَبُ مُعَاوِيَةَ ; لِأَنَّ أُمَّهُ أَخْرَجَتْ قَلْبَ حَمْزَةَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ. رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ يَوْمَ قُتِلَ فِي أُحُدٍ فَمَضَغَتْهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْ وُضِعَتْ فِيمَا يَظْهَرُ بَعْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; لِلتَّبْشِيرِ بِانْتِقَامِ الْمَهْدِيِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ ; ثُمَّ حَمَلُوهَا عَلَى السُّفْيَانِيِّ الَّذِي كَثُرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي خُرُوجِهِ قَبْلَ الْمَهْدِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنَّهُ أَحَدُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَهُ بَلْ شَرُّهُمْ، وَالْآخَرُونَ هُمُ الْمُلَقَّبُونَ بِالْأَبْقَعِ وَالْأَصْهَبِ وَالْأَعْرَجِ وَالْكِنْدِيِّ وَالْجُرْهُمِيِّ وَالْقَحْطَانِيِّ، وَلِفَارِسِ مَيْدَانِ الْخُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ تَفْصِيلَاتٌ لِخُرُوجِ هَؤُلَاءِ، هِيَ كَالتَّفْسِيرِ لِلْأَثَرِ الْعُلْوِيِّ الْمَوْضُوعِ، تُرَاجَعُ فِي فَوَائِدِ الْفِكْرِ لِلشَّيْخِ مَرْعِي، وَعَقَائِدِ الْسَّفَارِينِيِّ وَغَيْرِهَا.
420
فَهَذَا نَمُوذَجٌ مِنْ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ وَتَهَافُتِهَا فِي الْمَهْدِيِّ، وَلَوْ ذَكَرْنَا مَا فِي كُتُبِ الشِّيعَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ فِي ذَلِكَ لَجِئْنَا بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَتَمْحِيصُ الْقَوْلِ فِيهَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِسِفْرٍ مُسْتَقِلٍّ.
خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَحَادِيثِ الْفِتَنِ، وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَأَمَارَاتِهَا وَسَبَبِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ فِيمَا يُخْتَصَرُ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ: (١) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِبَعْضِ الْغُيُوبِ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ قِسْمَانِ: صَرِيحٌ كَأَخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ وَالسَّاعَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمُسْتَنْبَطٌ مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمَنْصُوصَةِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ
خَاصَّةً (٨: ٢٥) وَقَوْلِهِ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٧: ١٦) فَكَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا يَفْهَمُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي آيَةِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً أَنَّهُمْ قَرَؤُوها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَقَعُ مِنْهُمْ حَيْثُ وَقَعَتْ فِي فِتْنَةِ قَتْلِ عُثْمَانَ وَفِي يَوْمِ الْجَمَلِ، وَالرِّوَايَاتُ عَنِ الزُّبَيْرِ أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ كِتَابِ الْفِتَنِ مِنَ الْبُخَارِيِّ.
(٢) إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِبَعْضِ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْوَحْيِ، كَسُؤَالِهِ لِرَبِّهِ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهَا، فَلَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ لَا تَتَبَدَّلُ، أَيْ وَأَنَّ هَذَا مِنْهَا، رَاجِعْ تَفْسِيرَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (٦: ٦٥) إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى قَبْلَ إِعْلَامِهِ لَهُ.
(٣) أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُ أُمُورِ الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، كَمَا تَمَثَّلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ، وَكَمَا تَمَثَّلَ لَهُ فِي أَثْنَاءِ حَفْرِ الْخَنْدَقِ مَا يَفْتَحُ اللهُ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ، وَكَمَا تَمَثَّلَتْ لَهُ الْفِتَنُ وَهُوَ مُشْرِفٌ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَوُقُوعِ الْقَطْرِ " وَظَهَرَ هَذَا فِي فِتْنَةِ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْفِتَنِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَكَشْفُهُ هَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ: نُبُوءَاتٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ كَالشَّمْسِ.
(٤) أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُخْبِرُ أَصْحَابَهُ بِكُلِّ مَا يُطْلِعُهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بِمَا كَانَ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِخْبَارِهِمْ بِهِ مَوْعِظَةً وَتَحْذِيرًا، وَكَانَ يَخُصُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِبَعْضِهَا كَمَا رُوِيَ فِي مَنَاقِبِ حُذَيْفَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمَا كَانَ كُلُّ مَنْ سَمْعِ مِنْهُ شَيْئًا مِنْهَا يَفْهَمُ مُرَادَهُ كُلَّهُ، وَإِذَا كَانُوا لَمْ يَفْهَمُوا تَأْوِيلَ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي سُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ حَقَّ الْفَهْمِ التَّفْصِيلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا
421
عَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَإِذَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ بَعْضَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (٢: ١٨٧) فَلَأَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ تَأْوِيلُ مَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْأَفْرَادِ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً - ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ - أَوْلَى. وَخَفَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ
بَعْدَهُمْ أَوْلَى، إِلَّا مَنْ يَقَعُ تَأْوِيلُهُ فِي عَهْدِهِمْ كَوَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ الْمُتَهَتِّكَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ إِلَخْ.
(٥) لَا شَكَّ فِي أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ قَدْ رُوِيَ بِالْمَعْنَى كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ رُوَاةِ الصِّحَاحِ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ حَتَّى الْمُخْتَصَرِ مِنْهَا، وَمَا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنَ الْمُدْرَجَاتِ، وَهِيَ مَا يُدْرَجُ فِي اللَّفْظِ الْمَرْفُوعِ مِنْ كَلَامِ الرُّوَاةِ. فَعَلَى هَذَا كَانَ يَرْوِي كُلُّ أَحَدٍ مَا فَهِمَهُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي فَهْمِهِ الْخَطَأُ; لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ غَيْبِيَّةٌ، وَرُبَّمَا فَسَّرَ بَعْضَ مَا فَهِمَهُ بِأَلْفَاظٍ يَزِيدُهَا، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُطْلِعْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ بِالتَّفْصِيلِ، وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي بَعْضِهَا وَيُقَدِّرُ وَيَأْخُذُ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ ابْنُ صَيَّادٍ الْيَهُودِيُّ الْمُعَاصِرُ لَهُ هُوَ الدَّجَّالُ الْمَنْتَظَرُ، وَكَذَا تَجْوِيزِهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي زَمَنِهِ وَهُوَ حَيٌّ، فَهَلْ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ يَقَعَ الْخَلْطُ وَالتَّعَارُضُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى بِقَدْرِ فَهْمِ الرُّوَاةِ.
(٦) أَنَّ الْعَابِثِينَ بِالْإِسْلَامِ وَمُحَاوِلِي إِفْسَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِزَالَةِ مُلْكِهِمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ وَأَهْلِ الْعَصَبِيَّاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ قَدْ وَضَعُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً افْتَرَوْهَا، وَزَادُوا فِي بَعْضِ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ دَسَائِسَ دَسُّوهَا، وَرَاجَ كَثِيرٌ مِنْهَا بِإِظْهَارِ رُوَاتِهَا لِلصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَلَمْ يُعْرَفْ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ إِلَّا بِاعْتِرَافِ مَنْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ وَاضِعِيهَا، وَلَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ الصَّحِيحَ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفِتَنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَثِقُ إِلَّا بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ مِمَّا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ.
(٧) إِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَرْوُونَ عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَا كَلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ، وَمَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ فِي الْأَدَاءِ بَيْنَ مَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ بِمِثْلِ: سَمِعْتُ وَحَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي، وَمِثْلِ: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ، أَوْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا فَعَلَ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ بَعْدُ عِنْدَ وَضْعِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَعَنِ التَّابِعِينَ حَتَّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ فَلَا يُخِلُّ جَهْلُ اسْمِ رَاوٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ السَّنَدِ، وَهِيَ قَاعِدَةُ أَغْلَبِيَّةٌ لَا مُطَّرِدَةٌ فَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَافِقُونَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (٩: ١٠١) مَرَدُوا عَلَيْهِ: أَحْكَمُوهُ وَصَقَلُوهُ أَوْ صَقَلُوا فِيهِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَظْهَرُ فِي سِيمَاهُمْ
422
وَفَحْوَى كَلَامِهِمْ، كَالَّذِينِ قَالَ اللهُ فِيهِمْ مِنْهُمْ: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٤٧: ٣٠).
وَلَكِنَّ الْبَلِيَّةَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعْظَمُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مَأْخُوذٌ عَنْهُ وَعَنْ تَلَامِيذِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُدَلِّسُونَ كَقَتَادَةَ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ جُرَيْجٍ.
فَكُلُّ حَدِيثٍ مُشْكِلِ الْمَتْنِ أَوْ مُضْطَرِبِ الرِّوَايَةِ، أَوْ مُخَالِفٍ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، أَوْ لِأُصُولِ الدِّينِ أَوْ نُصُوصِهِ الْقَطْعِيَّةِ، أَوْ لِلْحِسِّيَّاتِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْقَضَايَا الْيَقِينِيَّةِ، فَهُوَ مَظَنَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ، وَسَبَقَ لَنَا بَيَانُ أَكْثَرِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فِي تَفْسِيرِ (٦: ١٥٨) مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ص ١٨٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ، فَمَنْ صَدَّقَ رِوَايَةً مِمَّا ذُكِرَ، وَلَمْ يَجِدْ فِيهَا إِشْكَالًا فَالْأَصْلُ فِيهَا الصِّدْقُ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ أَوِ الْمُشَكِّكِينَ إِشْكَالًا فِي مُتُونِهَا، فَلْيَحْمِلْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مِنْ دَسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَوْ خَطَأِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا ثَابِتًا بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ، فَلَا يَصِحُ أَنْ يُجْعَلَ شُبْهَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ، وَلَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ، وَلَعَلَّ اللهَ تَعَالَى يُبَارِكُ لَنَا فِي الْعُمْرِ، وَيُوَفِّقُنَا لِصَرْفِ مُعْظَمِهِ فِي خِدْمَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَنَضَعُ لِأَحَادِيثِ الْفِتَنِ وَآيَاتِ السَّاعَةِ مُصَنَّفًا خَاصًّا بِهَا، وَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ عَقَائِدِهِ بِبَيَانِهَا لِحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ
وَالْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَهَدْمِهَا لِقَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمَبَانِي الْوَثَنِيَّةِ مِنْ أَسَاسِهَا، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ فِيمَا قَبْلَهَا أَنْ يُجِيبَ السَّائِلِينَ لَهُ عَنِ السَّاعَةِ بِأَنَّ عِلْمَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَمْرَهَا بِيَدِهِ وَحْدَهُ - وَأَمَرَهُ فِي هَذِهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ الْأُمُورِ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ كُلَّهُ عِنْدَهُ، وَأَنْ يَنْفِيَ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا
423
يَسْأَلُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ قَدْ يَقْتَضِي عِلْمَ السَّاعَةِ وَغَيْرَهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَظُنُّ بَعْضُ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَمَنْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ يُحِبُّ أَوْ يَشَاءُ، أَوْ مَنْعِ النَّفْعِ وَإِحْدَاثِ الضُّرِّ بِمَنْ يَكْرَهُ أَوْ بِمَنْ يَشَاءُ. فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الرَّسُولِ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، لَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ بِوَحْيهِ، وَأَنَّهُ فِيمَا عَدَا تَبْلِيغِ الْوَحْيِ عَنِ اللهِ تَعَالَى بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (١٨: ١١٠) قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ: إِنَّنِي لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي - أَيْ وَلَا لِغَيْرِي بِالْأَوْلَى - جَلْبَ نَفْعٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا، وَلَا دَفْعَ ضَرَرٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا، فَوُقُوعُ كَلِمَتَيِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ نَكِرَتَيْنِ مَنْفِيَّتَيْنِ يُفِيدُ الْعُمُومَ حَسَبِ الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَنَفْيُ عُمُومِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَفْيَ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لَهُ. وَلَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُشْكِلٌ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ تَمَكُّنِ كُلِّ إِنْسَانٍ سَلِيمِ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَفْعِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَدَفْعِ بَعْضِ الضَّرَرِ عَنْهَا ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا مُسْتَقِلًّا بِقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِتَمْلِيكِ الرَّبِّ الْخَالِقِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَا أَمْلِكُ مِنْهُمَا (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) مِنْ نَفْعٍ أَقْدَرَنِي عَلَى جَلْبِهِ، وَضُرٍّ أَقْدَرَنِي عَلَى مَنْعِهِ، وَسَخَّرَ لِي أَسْبَابَهُمَا، أَوْ إِلَّا وَقْتَ
مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ عَلَى هَذَا هُوَ بَيَانُ عَجْزِ الْمَخْلُوقِ الذَّاتِيِّ، وَكَوْنُ كُلِّ شَيْءٍ أُوتِيَهُ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، لَا يَسْتَقِلُّ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنْهُ اسْتِقْلَالًا مُطْلَقًا، وَلَا هُوَ يَمْلِكُهُ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، بَلْ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهِ مُقَيِّدٌ لِإِطْلَاقِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ بِمُقْتَضَى مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا لِنَفْسِهِ بِمَنْطُوقِ الْجُمْلَةِ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِمَفْهُومِهَا الْأَوْلَى، مِمَّا يَعْجَزُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى بَشَرِيَّتِهِ، وَمَا أَقْدَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ مُؤَكِّدٌ لِعُمُومِهِ، أَيْ لَكِنَّ مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كَانَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (٨٧: ٦، ٧) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا (٦: ٨٠) وَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ كَلِيمِهِ
424
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [٠٢٧ ٠١١] إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ (٢٧: ١٠، ١١) الْآيَةَ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ فُتِنُوا مُنْذُ قَوْمِ نُوحٍ بِمَنِ اصْطَفَاهُمُ اللهُ وَوَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَرْجُوهُ عِبَادُهُ مِنْ نَفْعٍ يَسُوقُهُ إِلَيْهِمْ، وَمَا يَخْشَوْنَهُ مِنْ شَرٍّ يَمَسُّهُمْ، فَيَدْعُونَهُ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَصَارُوا يَدْعُونَهُمْ كَمَا يَدْعُونَهُ لِذَلِكَ إِمَّا اسْتِقْلَالًا، وَإِمَّا إِشْرَاكًا ; إِذْ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا اللهُ تَعَالَى لِسَائِرِ النَّاسِ، فَصَارُوا يَسْتَقِلُّونَ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ مَنْحًا وَمَنْعًا، وَإِيجَابًا وَسَلْبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ التَّصَرُّفَ الْغَيْبِيَّ الْأَعْلَى الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ الْمَمْنُوحَةِ لِلْبَشَرِ خَاصٌّ بِرَبِّهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَظُنُّونَ مَعَ هَذَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَوُزَرَاءِ الْمُلُوكِ وَحُجَّابِهِمْ وَبِطَانَتِهِمْ، وُسَطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى رُتْبَتِهِمْ، فَالْمَلِكُ الْمُسْتَبِدُّ بِسُلْطَانِهِ يُعْطِي هَذَا، وَيَعْفُو عَنْ ذَنْبِ هَذَا بِوَسَاطَةِ هَؤُلَاءِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ وَيَنْتَقِمُ بِوَسَاطَةِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِزَعْمِهِمْ، فَهُمْ شُفَعَاءُ لِلنَّاسِ عِنْدَهُ تَعَالَى
يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْوَثَنِيِّ، وَتَمْثِيلِ تَصَرُّفِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الْغَنِيِّ عَنْ عِبَادِهِ بِتَصَرُّفِ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى وُزَرَائِهِمْ وَبِطَانَتِهِمْ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُ فِيهِمْ - قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ (١٦: ٧٤) وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ رُسُلَ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ صَفْوَةُ خَلْقِهِ لَا يُشَارِكُونَ اللهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي عِلْمِهِ، وَلَا فِي مَشِيئَتِهِ ; لِأَنَّهَا كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا تَغَيُّرٌ، وَأَنَّ الرِّسَالَةَ الَّتِي اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا إِقْدَارُهُمْ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَا مَنْحُهُمْ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى وَبَيَانُهُ لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحُكْمِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ مَدَارَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى تَوَجُّهِ الْعِبَادِ إِلَى الْمَعْبُودِ فِيمَا يَرْجُونَ مِنْ نَفْعٍ وَيَخَافُونَ مِنْ ضُرٍّ، فَاسْتُعْمِلَ اللَّفْظَانِ فِي التَّنْزِيلِ فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّبَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، غَيْرَ خَاضِعٍ وَلَا مُقَيَّدٍ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٥: ٧٦) وَقَوْلِهِ فِي عِجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٢٠: ٨٩) وَقَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا (٤٨: ١١) وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
425
(١٣: ١٦) وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٢٥: ٣) الْآيَةَ.
فَلَمَّا كَانَ مِلْكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ خَاصًّا بِرَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، وَكَانَ طَلَبُ النَّفْعِ أَوْ كَشْفُ الضُّرِّ عِبَادَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ فَضْلُهُ تَعَالَى عَظِيمًا عَلَيْهِمْ - أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَرِّحَ بِالْبَلَاغِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْأَمْرُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ مُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ وَتَوْكِيدِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ
اللهُ (١٠: ٤٩) الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٧٢: ٢١) وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغُ وَأَشْمَلُ مِمَّا فِي مَعْنَاهَا بِمَا فِيهَا مِنْ إِيجَازٍ وَاحْتِبَاكٍ بِحَذْفِ مَا يُقَابِلُ الضُّرَّ وَالرُّشْدَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا ضِدَّاهُمَا بِدَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا رُشْدًا وَلَا غِوَايَةً، وَهَذِهِ الْآيَاتُ بِمَعْنَى مَا هُنَا تُؤَيِّدُ اخْتِيَارَنَا.
ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِانْتِفَاءٍ أَظْهَرِ مَنَافِعِهِ الْقَرِيبَةِ فَقَالَ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَالسُّوءُ مَا يَرْغَبُونَ عَنْهُ مِمَّا يَسُوءُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَيُرَادُ بِهِمَا هُنَا الْجِنْسُ الَّذِي يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَحْصِيلُهُ، وَالسُّوءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِعْدَادُ لِدَفْعِهِ بِعِلْمِ مَا يَأْتِي بِهِ الْغَدُ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَيْبَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ - وَأَقْرَبَهُ مَا يَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِي فِي الدُّنْيَا - لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ كَالْمَالِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ عُسْرَةٍ وَغَلَاءٍ مَثَلًا وَتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، وَلَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ لِدَفْعِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، كَشِدَّةِ الْحَاجَةِ مَثَلًا، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْعِبَادَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسَتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا - يَعْنِي لَوْ أَنَّهُ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَحْصُلُ مِنَ انْفِرَادِهِ دُونَ أَصْحَابِهِ بِسَوْقِهِ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ مِنْ مَشَقَّةِ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى عُمْرَةٍ دُونَهُ ; إِذْ لَا يُبَاحُ الْفَسْخُ وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ لِمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، لَمَا سَاقَ الْهَدْيَ لِيُوَافِقَ الْجُمْهُورَ فِي تَمَتُّعِهِمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْإِدَارَةِ وَسِيَاسَةِ الْحَرْبِ مَا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى وَالتَّصَدِّي لِلْأَغْنِيَاءِ، وَمِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمِنَ الْإِذْنِ بِتَخَلُّفِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ سَنَةَ الْعُسْرَةِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
426
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَمَا مَسَّنِيَ الْجُنُونُ كَمَا زَعَمَ الْجَاهِلُونَ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيَ رَفْعِهِ إِلَى رُتْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي افْتُتِنَ بِمِثْلِهِ الْغُلَاةُ، وَنَفْيَ وَضْعِهِ فِي أَدْنَى مَرْتَبَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّذِي زَعَمَتْهُ الْغُوَاةُ الْعُتَاةُ.
وَبَيَانَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَمَا رَفَعَ اللهُ تَعَالَى مِنْ قَدْرِهِ، بِجَعْلِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْبَشَرِ بِوَحْيِهِ، وَوَسَاطَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، لَكِنْ فِي التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ، لَا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَلَا فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ الْعِبَادِ ; فَإِنَّ هَذَا شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي أَعْلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْقُرْآنِ بِتَقْدِيمِ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ فِي آيَةٍ وَتَأْخِيرِهِ فِي أُخْرَى: تَقْدِيمُ النَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الضُّرِّ عَلَيْهِ فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَالْفَرْقُ الْمُحَسِّنُ لِذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْأَعْرَافِ جَاءَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ وَأَكْبَرُ فَوَائِدِ الْعِلْمِ بِالسَّاعَةِ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ - الِاسْتِعْدَادُ لَهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاتِّقَاءُ أَسْبَابِ الْعِقَابِ فِيهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْبَدْءَ بِنَفْيِ مِلْكِ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْدَادِ، وَتَأْخِيرُ مِلْكِ الضُّرِّ الْمُرَادُ بِهِ مِلْكُ دَفْعِهِ وَاتِّقَاءِ وُقُوعِهِ، وَأَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى فِيمَا دُونَ السَّاعَةِ زَمَنًا وَعَظُمَ شَأْنُهُ لَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَاتَّقَى أَسْبَابَ مَا يَمَسُّهُ مِنَ السُّوءِ فِيهِ كَالْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ يُونُسَ، فَقَدْ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَمَارِي الْكُفَّارِ فِيمَا أَوْعَدَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاسْتِعْجَالِهِمْ إِيَّاهُ تَهَكُّمًا وَمُبَالَغَةً فِي الْجُحُودِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي جَوَابِهِمْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لَهُمْ ضُرًّا كَتَعْجِيلِ الْعَذَابِ الَّذِي يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلَا نَفْعًا كَالنَّصْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُمْ أَنَّ أَمْرَ عَذَابِهِمْ تَعْجِيلًا أَوْ تَأْخِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ مِنْ تَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ فِي مَكَّةَ، وَإِيجَادِ جَنَّةٍ تَتَفَجَّرُ الْأَنْهَارُ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ إِسْقَاطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا - وَهُوَ مِنَ الْعَذَابِ - إِلَخْ. وَمِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (١٧: ٩٣) وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٧: ٥٤) أَيْ مُوَكَّلًا بِأَمْرِ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ مُنَفِّذًا لَهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (١٣: ٤٠).
وَهَاكَ مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ عَنْ تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ قَالَ: " أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْمُسْتَقْبَلَ
427
وَلَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٧٢: ٢٦) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَعَمِلْتُ عَمَلًا صَالِحًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مِثْلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ; لِأَنَّ عَمَلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ دِيمَةً، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، فَجَمِيعُ عَمَلِهِ كَانَ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، اللهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُرْشِدَ غَيْرَهُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ. " وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الضَّحَاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ: مِنَ الْمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَعَلِمْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا إِلَّا رَبِحْتُ فِيهِ وَلَا يُصِيبُنِي الْفَقْرُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَعْدَدْتُ لِلسَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ مِنَ الْمُخْصِبَةِ، وَلِوَقْتِ الْغَلَاءِ مِنَ الرُّخْصِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَأَتَّقِيهِ. " اهـ. وَمَا قُلْنَاهُ أَعَمُّ وَأَصَحُّ.
هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (٦: ٥٠) أَنَّ الْغَيْبَ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَإِضَافِيٌّ يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنْفِي قُدْرَةَ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِ اللهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ الْبَشَرِ، وَتَنْفِي عَنْهُ عِلْمَ الْغَيْبِ بِهَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بِوَحْيهِ لِتَعَلُّقِهِ بِوَظِيفَةِ الرِّسَالَةِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ - وَأَنَّ مَا يُطْلِعُ اللهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ عِلْمِهِمُ الْكَسْبِيِّ، بَلْ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرَ مُكْتَسَبَةٍ.
وَأَوْرَدْنَا هُنَالِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ إِلَى قَوْلِهِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ (٧٢: ٢٦ - ٢٨) الْآيَةَ، وَاسْتَطْرَدْنَا إِلَى تَفْنِيدِ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ مَشَايِخِ طُرُقِ الصُّوفِيَّةِ أَوْ يُدَّعَى لَهُمْ، مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِ اللهِ أَحْيَاءً أَوْ أَمْوَاتًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا ثُمَّ أَطَلْنَا الْبَحْثَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ فِي تَفْسِيرِ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (٦: ٥٩) الْآيَةَ، وَتَكَلَّمْنَا فِيهِ عَنِ الْكَشْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَةِ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ أَوِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى غَيْبًا; لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا فِطْرِيَّةً. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّذِي مَرَّ بِكَ قَرِيبًا بَحْثٌ فِيمَا أَطْلَعَ اللهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ بِمَا دُونَ الْوَحْيِ
428
مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، كَتَمَثُّلِ الْأَشْيَاءِ لَهُ تَمَثُّلًا مُتَفَاوِتًا فِي الْوُضُوحِ. وَهُوَ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا عَلِمْتُ.
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِتَعْلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَفْيِ امْتِيَازِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَشَرِ بِمِلْكِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مِنْ غَيْرِ طُرُقِ الْأَسْبَابِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ - وَنَفْيِ امْتِيَازِهِ عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، عَلَّلَهَا بِبَيَانِ حَصْرِ امْتِيَازِهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالتَّبْلِيغُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّخْوِيفِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَهُوَ الْإِنْذَارُ، وَقَسْمٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّرْغِيبِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَهُوَ الْبِشَارَةُ أَوِ التَّبْشِيرُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوَجَّهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْآيَاتُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، وَيُوَجَّهُ أَيْضًا إِلَى مَنْ يُؤْمِنَ، وَإِلَى مَنْ يُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ وَإِجْرَامِهِ مُطْلَقًا، وَإِذَا ذُكِرَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ يُخَصُّ الْكَافِرُونَ بِالْإِنْذَارِ وَالْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ بِالتَّبْشِيرِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ الْإِنْذَارُ الْمُطْلَقُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ تَبْشِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَإِنْذَارُ مُتَّخِذِي الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَافِرِينَ. وَمِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرَ سُورَةِ مَرْيَمَ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (١٩: ٩٧) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى فِي الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَرَى فِي أَوَائِلِ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْإِسْرَاءِ، وَلَكِنْ بِدُونُ ذِكْرِ لَفْظِ الْإِنْذَارِ. وَالتَّبْشِيرُ لَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ بِلَقَبِهِمْ إِلَّا بِأُسْلُوبِ التَّهَكُّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣: ٢١) عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا الْإِنْذَارُ فَقَدْ يُوَجَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ (٣٥: ١٨) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (٣٦: ١١).
بِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصْفَيْنِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِإِنْذَارِهِ فَيُزِيدُهُمْ خَشْيَةً لِلَّهِ وَاتِّقَاءً لِمَا يُسْخِطُهُ، وَبِتَبْشِيرِهِ فَيَزْدَادُونَ شُكْرًا لَهُ بِعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهمْ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّانِي الْمُتَّصِلِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى حَذْفِ مُقَابِلِهِ فِيمَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّبْلِيغِ، وَهُنَالِكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْبِشَارَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً لِاتِّصَالِهَا بِهِمْ، وَالْإِنْذَارُ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ عُرِفَ وَجْهُهُ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ.
429
وَقَدْ وَرَدَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ حَصْرِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ بِلَفْظَيْهِمَا مَعًا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَبِلَفْظِ التَّبْلِيغِ الْجَامِعِ لَهُمَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ كَمَا هُنَا وَبَعْضُهَا بِإِنَّمَا، وَالْحَصْرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْوَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ، وَمَعَ هَذَا التَّكْرَارِ وَالتَّوْكِيدِ كُلِّهِ يَأْبَى غُلَاةُ الْإِطْرَاءِ لِلرُّسُلِ وَلِمَنْ دُونَ الرُّسُلِ مِنَ الصَّالِحِينَ حَقِيقَةً أَوْ تَوَّهُّمًا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوهُمْ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤: ٢٨) وَقَالَ فِي سُورَتَيِ الْإِسْرَاءِ وَالْفَرْقَانِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقَالَ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٦: ٣٥) وَفِي سُورَةِ يس حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٦: ١٧) وَفِي سُورَتَيِ النُّورِ وَالْعَنْكَبُوتِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا إِضَافِيٌّ ; فَإِنَّ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ بَيَانَ الْوَحْيِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ (٤: ١٠٥) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤) وَالْبَيَانُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ كَالْأَقْوَالِ، بَلِ الْأَفْعَالُ أَقْوَى دَلَالَةً وَأَعْصَى عَلَى تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ. وَكَمَا قَدْ
أَمَرَ تَعَالَى بِتَحْكِيمِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُضُوعِ لِحُكْمِهِ، أَمَرَ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (٣٣: ٢١).
قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي الْحَصْرَ الْحَقِيقِيَّ ; لِأَنَّ التَّبْلِيغَ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ بِهِ وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْوَحْيِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَبِيدُ اللهِ تَعَالَى مُكَرَّمُونَ، لَا يُشَارِكُونَهُ فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي عِلْمِهِ وَلَا فِي تَدْبِيرِهِ، وَهُمْ بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ لَا يَمْتَازُونَ عَلَى الْبَشَرِ فِي خَلْقِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُونَ بِاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِوَحْيهِ، وَاصْطِفَائِهِمْ لِتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ لِعِبَادِهِ، وَبِمَا زَكَّاهُمْ وَعَصَمَهُمْ فَأَهَّلَهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا أُسْوَةً حَسَنَةً وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِلنَّاسِ فِي الْعَمَلِ بِمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
430
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ إِلَى دِينِ التَّوْحِيدِ، وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزِلَ اللهُ، وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ، وَتَلَاهُ التَّذْكِيرُ بِنَشْأَةِ الْإِنْسَانِ الْأُولَى فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ اخْتُتِمَتْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى. وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ، وَاتِّبَاعِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَيْ: خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، صَوَّرَهَا بَشَرًا سَوِيًّا وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا سُكُونًا زَوْجِيًّا، أَيْ: جَعَلَ لَهَا زَوْجًا مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَا زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (٤٩: ١٣) كَمَا أَنَّهُ خَلَقَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ وَكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥١: ٤٩) وَإِنَّنَا نُشَاهِدُ أَنَّ كُلَّ خَلِيَّةٍ مِنَ الْخَلَايَا الَّتِي يُنَمَّى بِهَا الْجِسْمُ الْحَيُّ تَنْطَوِي عَلَى نُوَيَّتَيْنِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، يَقْتَرِنَانِ فَيُوَلَّدُ بَيْنَهُمَا خَلِيَّةٌ أُخْرَى، وَهَلُمَّ جَرَّا، وَنَعْلَمُ أَيْضًا كَيْفَ يَتَكَوَّنُ فِي الْأَرْحَامِ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٥٣: ٤٥، ٤٦) وَلَكِنَّنَا لَا نَدْرِي كَيْفَ ازْدَوَجَتِ النَّفْسُ الْأُولَى بَعْدَ وَحْدَتِهَا فَكَانَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ (١٨: ٥١) وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَ أَهْلِ
431
الْكِتَابِ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، وَقَدْ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ، أَيْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِ، فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشُّرَّاحُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهَا مِنْهُ أَنَّهَا ذَاتُ اعْوِجَاجٍ وَشُذُوذٍ تُخَالِفُ بِهِ الرَّجُلَ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ " فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ (٢١: ٣٧) وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ، وَقِيلَ مِنْ ضِلْعِهِ الْقَصِيرِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَادَ الْيُسْرَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ لَحْمٌ، وَمَعْنَى خُلِقَتْ أَيْ أُخْرِجَتْ كَمَا تَخْرُجُ النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ اهـ. فَتَأَمَّلْ جَعْلَ الْحَافِظِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ بَابِ الْإِشَارَةِ، وَحِكَايَتَهُ لَهَا بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَفْسِيرِهَا الْغَرِيبِ بِتَشْبِيهِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ - عَلَى سِعَةِ حِفْظِهِ - عَلَى قَوْلٍ لِمَنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَقْوَالِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْخَلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ فِي عَصْرِ
التَّنْزِيلِ بِمِثْلِ مَا حَكَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ نَشْأَةِ جِنْسِهِمْ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى خَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ فِي بَيَانِ آيَاتِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١) فَهَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ لَا خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ.
عَبَّرَ التَّنْزِيلُ عَنْ مَيْلِ الزَّوْجِ الْجِنْسِيِّ إِلَى جِنْسِهِ هُنَا، وَفِي سُورَةِ الرُّومِ بِالسُّكُونِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا بَلَغَ سِنَّ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا خَاصًّا، لَا يَسْكُنُ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِزَوْجٍ مِنْ جِنْسِهِ وَاتَّحَدَا، ذَلِكَ الِاقْتِرَانُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ حَيَاتُهُمَا الْجِنْسِيَّةُ الْمُنْتِجَةُ إِلَّا بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا إِلَخْ. الْغِشَاءُ غِطَاءُ الشَّيْءِ الَّذِي يَسْتُرُهُ مِنْ فَوْقِهِ، وَالْغَاشِيَةُ الظُّلَّةُ تُظِلُّهُ مِنْ سَحَابَةٍ وَغَيْرِهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (٩٢: ١) أَيْ يَحْجُبُ الْأَشْيَاءَ وَيَسْتُرُهَا بِظَلَامِهِ، وَتَغَشَّاهَا أَتَاهَا كَغَشِيَهَا وَيَزِيدُ مَا تُعْطِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ مِنْ جُهْدٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ نَزِيهَةٌ عَنْ أَدَاءِ وَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَأَدَبَ الشَّرِيعَةِ فِيهَا السِّتْرُ، وَلَفْظُ النَّفْسِ مُؤَنَّثٌ فَأُنِّثَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَلَفْظُ الزَّوْجِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِهَذَا ذُكِرَ هُنَا فَاعِلُ التَّغَشِّي وَأُنِّثَ مَفْعُولُهُ. أَيْ فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الزَّوْجَ الَّتِي هِيَ الْأُنْثَى حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا أَيْ عَلِقَتْ مِنْهُ وَهُوَ الْحَبَلُ، وَالْحَمْلُ بِالْفَتْحِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَعَلَى الْمَحْمُولِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ، وَأَنَّ مَا حُمِلَ عَلَى ظَهْرٍ وَنَحْوِهِ يُسَمَّى حِمْلًا بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَالْحَمْلُ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ خَفِيفًا
432
لَا تَكَادُ الْمَرْأَةُ تَشْعُرُ بِهِ. وَقَدْ تَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ حَيْضَتِهَا فَمَرَّتْ بِهِ أَيْ فَمَضَتْ بِهِ إِلَى وَقْتِ مِيلَادِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْدَاجٍ وَلَا إِزْلَاقٍ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوِ اسْتَمَرَّتْ فِي أَعْمَالِهَا وَقَضَاءِ حَاجَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا اسْتِثْقَالٍ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ حَانَ وَقْتُ ثِقَلِ حَمْلِهَا وَقَرُبَ وَضْعُهَا دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ: تَوَجَّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى رَبِّهُمَا يَدْعُوَانِهِ فِيمَا انْحَصَرَ هَمُّهُمَا فِيهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَمْلِ عَلَى سَلَامَةٍ بِأَنْ يُعْطِيَهُمَا وَلَدًا صَالِحًا، أَيْ سَوِيًّا تَامَّ الْخَلْقِ يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ النَّافِعَةِ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ غَيْرَ
رَبِّهِ، فِيمَا لَا يَمْلِكُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْعَبِيدِ أَسْبَابَهُ، دَعَوَاهُ مُخْلِصَيْنِ مُقْسِمَيْنِ لَهُ عَلَى مَا وَطَّنَا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمَا مِنَ الشُّكْرِ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، قَائِلَيْنِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا لَنَكُونُنَّ مِنَ الْقَائِمِينَ لَكَ بِحَقِّ الشُّكْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا وَإِخْلَاصًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمُعَرَّفُ.
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أَيْ: فَلَمَّا أَعْطَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا لَا نَقْصَ فِي خَلْقِهِ، وَلَا فَسَادَ فِي تَرْكِيبِهِ، جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِي إِعْطَائِهِ أَوْ فِيمَا أَعْطَاهُ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا، أَوْ ظُهُورِ مَا هُوَ رَاسِخٌ فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَسَنُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ (جَعَلَا لَهُ شِرْكًا) أَيْ شَرِكَةً أَوْ ذَوِي شِرْكٍ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَعَالَى شَأْنُهُ عَنْ شِرْكِهِمْ ; فَإِنَّهُ هُوَ مُعْطِي النَّسْلِ بِمَا خَلَقَهُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْضَاءٍ، وَقَدَّرَ لَهُمَا فِي الْعُلُوقِ وَالْوَضْعِ مِنْ أَسْبَابٍ، لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ هُنَا بَعْدَ تَثْنِيَتِهِ الْأَفْعَالَ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ بِالزَّوْجَيْنِ الْجِنْسُ لَا فَرْدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي (آتَيْتَنَا) وَ (لَنَكُونَنَّ) لَهُمَا وَلِكُلِّ مَنْ يَتَنَاسَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. وَالْآيَةُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ لِحَالِ الْبَشَرِ فِيمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَزَغَاتِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَمْثَالِهِ، وَالْجِنْسُ يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَبِبَعْضِ أَفْرَادِهِ.
فَمِثَالُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ فِي إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالنَّسْلِ، مَا يُسْنِدُونَهُ إِلَى الْأَسْبَابِ فِي سَلَامَةِ الْحَامِلِ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْلِ أَوْ فِي حَالَةِ الْوَضْعِ، وَفِي سَلَامَةِ الطِّفْلِ عِنْدَ الْوَضْعِ وَعَقِبِهِ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ التَّشْوِيهِ أَوِ الْأَمْرَاضِ، كَقَوْلِهِمْ: لَوْلَا أَنْ فَعَلْنَا كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ مِنْ طَبِيبٍ أَوْ مُرْشِدٍ أَوْ قَابِلَةٍ لَهَلَكَ الْوَلَدُ أَوْ لَأُجْهِضَتْ أُمُّهُ إِجْهَاضًا أَوْ جَاءَتْ بِسَقْطٍ لَمْ يَسْتَهِلَّ، أَوْ لَمَاتَ عَقِبَ إِسْقَاطِهِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحَيَاةِ، وَيَنْسَوْنَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَضْلَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا مَنَّ بِهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَذْكُرُونَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا - ذَلِكَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَمَسُّهُمْ، أَوْ نِقْمَةٍ يَدْفَعُهَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهَذَا الشِّرْكُ لَيْسَ خُرُوجًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ نَقْصٌ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشِّرْكِ هُنَا تَرْجِيحَ حُبِّ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى، وَشُغْلِهِمْ لِلْوَالِدَيْنِ عَنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَإِيثَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى
طَاعَتِهِ وَالْتِزَامِ مَا شَرَعَهُ مِنْ
433
أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ لَا نَقْضٌ لَهُ، وَغَفْلَةٌ عَنْهُ لَا جَحْدٌ بِهِ.
وَمِثَالُ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ: إِسْنَادُ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِمَّنْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْ مَعَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ، أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَوْ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ أَوْ بِمِثْلِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ أَوِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ، يَقُولُونَ: لَوْلَا سَيِّدِي فَلَانٌ وَلَوْلَا مَوْلَانَا عِلَّانٌ لَمَا كَانَ كَذَا مِمَّا نُحِبُّ، أَوْ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا نَكْرَهُ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ فِيمَا كَانَ مِنْ نَفْعٍ وَمَنْعِ ضَرَرٍ تَأْثِيرًا غَيْبِيًّا يَسْتَقِلُّونَ بِهِ، هُوَ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِرَارًا، أَقْرَبُهَا مَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: وَارْتَفَعَ مَجْدُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، تَنَزُّهًا عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءِ أَوْ عَنْ شُرَكَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي خَلْقِهِ، أَوْ تَأْثِيرٌ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
كُنْتُ قَرَأْتُ مُنْذُ سِنِينَ جُلَّ مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ مَأْثُورٍ وَغَيْرِهِ، وَمَا أَوْرَدُوهُ فِيهَا مِنَ الْإِشْكَالِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الْجَوَابِ عَنْهُ وَالتَّفَصِّي مِنْهُ مِنْ أَقْوَالٍ، وَلَمَّا أَرَدْتُ كِتَابَةَ تَفْسِيرِهَا الْآنَ لَمْ أَجِدْ مِمَّا فِي ذِهْنِي مِنْهُ شَيْئًا مُرْضِيًا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبِي، فَتَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفَكَّرْتُ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي يُعْطِيهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَفِي بَيَانِ كِتَابِهِ لِحَقَائِقِ أَحْوَالِهِمْ، فَكَّرْتُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَا فِي فِرَاشِي، ثُمَّ كَتَبْتُ مَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ النَّهَارِ، ثُمَّ بَحَثْتُ فِيمَا عِنْدِي مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ; لِأَكْتُبَ خُلَاصَةَ مَا قِيلَ فِيهَا، وَأَنْظُرَ فِيمَا عَسَاهُ يُؤَيِّدُهُ، وَأُجِيبُ عَمَّا رُبَّمَا يُفَنِّدُهُ، فَإِذَا أَنَا بِصَاحِبِ الِانْتِصَافِ يَقُولُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَلِمَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ضَمِيرَيِ الْجَمْعِ مَا نَصُّهُ: وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا يُقْصَدُ فِيهِ إِلَى مُعَيَّنٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَاللهُ أَعْلَمُ: خَلَقَكُمْ جِنْسًا وَاحِدًا وَجَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ مِنْكُمْ أَيْضًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهِنَّ، فَلَمَّا تَغَشَّى الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الذَّكَرُ الْجِنْسَ الْآخَرَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ الْمُوَحِّدُونَ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (١٩: ٦٦) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (٨٠: ١٧) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (١٠٣: ٢) اهـ.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ عَلَى كَثْرَةِ مُخْرِجِيهِ
434
غَرِيبٌ وَضَعِيفٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُفَصَّلَةً وَمُطَوَّلَةً وَفِيهَا زِيَادَاتٌ خُرَافِيَّةٌ، تَشْهَدُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مِنَ الدَّسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآثَارُ يَعُدُّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ; لِأَنَّهَا لَا تُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ وَجَرْينَا عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنْهَا مَظِنَّةٌ لِلْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَهِيَ لَا يُوثَقُ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا يُنْكِرُهُ الدِّينُ أَوِ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ قَطَعْنَا بِبُطْلَانِهَا وَكَوْنِهَا دَسِيسَةً إِسْرَائِيلِيَّةً، وَمِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّ فِيهِ طَعْنًا صَرِيحًا فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَرَمْيًا لَهُمَا بِالشِّرْكِ، وَلِذَلِكَ رَفَضَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَكَلَّفَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا تُنْكِرُهُ اللُّغَةُ. وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَصَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ، وَصَاحِبِ رُوحِ الْمَعَانِي الْأَخْذَ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ دُونَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، الَّتِي فِيهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ رَمْيِ آدَمَ بِالشِّرْكِ الصَّرِيحِ، وَظَنَّا أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَوَصَفَاهُ تَبَعًا لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ بِالْحَسَنِ وَالصَّحِيحِ، وَمَا هُوَ بِحَسَنٍ وَلَا صَحِيحٍ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ كَتِلْكَ الْآثَارِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ فِيهَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ جَدُّهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَنَّهَا قُرَشِيَّةٌ أَوْ عَرَبِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا مِنْ خُزَاعَةَ لَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِشِرْكِهِمَا تَسْمِيَةُ أَبْنَائِهِمَا الْأَرْبَعَةِ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ الدَّارِ - يَعْنِي دَارَ النَّدْوَةِ - وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِذِكْرِهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ بُطْلَانُهُ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الَّتِي انْخَدَعَ بِهَا وَلَا يَزَالُ يَنْخَدِعُ بِهَا الْكَثِيرُونَ، وَعُمْدَتُنَا فِي تَمْحِيصِهَا وَبَيَانِ عِلَلِهَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فَقَدْ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا آثَارًا وَأَحَادِيثَ سَأُورِدُهَا وَأُبَيِّنُ مَا فِيهَا، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ
بِبَيَانِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ وَبِهِ الثِّقَةُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ " وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ مَرْفُوعًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ عَنْ هِلَالِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ شَاذِ بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
435
بِهِ مَرْفُوعًا. (قُلْتُ) وَشَاذُّ هُوَ هِلَالٌ وَشَاذٌّ لَقَبُهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ الْمِصْرِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ بْنُ مَعِينٍ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا فَاللهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ سَمُرَةَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: سَمَّى آدَمُ ابْنَهُ عَبْدَ الْحَارِثِ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْحَسَنَ نَفْسَهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِغَيْرِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو وَعَنِ الْحَسَنِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: عَنَى بِهَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ، وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدُ. يَعْنِي جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، وَحَدَّثَنَا
بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا. وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعِهِ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلُ كَعْبٍ أَوْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ، أَلَّا أَنَّنَا بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ الْمَرْفُوعِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
" فَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَادًا فَيُعَبِّدُهُمْ لِلَّهِ وَيُسَمِّيهِمْ عَبْدَ اللهِ وَعُبَيْدَ اللهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُصِيبُهُمُ الْمَوْتُ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَوْ سَمَّيْتُمَاهُ بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ بِهِ لَعَاشَ، قَالَ: فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ فِي آدَمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَرَّتْ بِهِ شَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا؟، أَمْ هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يَكُونُ؟، أَبَهِيمَةٌ أَمْ لَا؟ وَزَيَّنَّ لَهُمَا الْبَاطِلَ إِنَّهُ غَوِيٌّ مُبِينٌ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا وَمَاتَ كَمَا مَاتَ الْأَوَّلُ فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ
436
فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا الْآيَةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا (آدَمُ) حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا الَّذِي أَخْرَجْتُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ لَتُطِيعَانِي أَوْ لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَيْ أَيِّلٍ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكِ فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ - يُخَوِّفُهُمَا - فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّانِيَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَقَالَ:
أَنَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ - يُخَوِّفُهُمَا - فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَا فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَأَتَاهُمَا أَيْضًا فَذَكَرَ لَهُمَا فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
" وَقَدْ تَلْقَّى هَذَا الْأَثَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ، وَمِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَلَفِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَاتٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَأَنَّهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَصْلَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ بَشِيرٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينِي وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَلَمْ تَفْعَلْ فَوَلَدَتْ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا فَقَالَ: إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا.
" وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهَ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ: " فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَهَذَا الْأَثَرُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثُمَّ قَالَ: فَذِكْرُهُ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْرِ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (٦٧: ٥) الْآيَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَصَابِيحَ وَهِيَ النُّجُومُ الَّتِي زُيِّنَتْ بِهَا السَّمَاءُ
لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا،
437
وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَخْصِ الْمَصَابِيحِ إِلَى جِنْسِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. سِيَاقُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَدْ أَصَابَ كُنْهَ الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ طَعْنًا فِي عَقِيدَةِ أَبَوَيْنَا آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَا تُبْطِلُهُ عَقَائِدُ الْإِسْلَامِ، وَجَبَ الْجَزْمُ بِبُطْلَانِهَا وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى سَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَأَفَنَ آرَائِهِمْ بِهَذَا الشِّرْكِ فَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّجْهِيلِ، أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ وَلِكُلِّ شَيْءٍ، مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ مَهْمَا يَكُنْ حَقِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ (٢٢: ٧٣) وَلَيْسَ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَلَا يَلِيقُ بِسَلِيمِ الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَخْلُوقَ الْعَاجِزَ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ! وَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا حِكَايَةٌ لِشِرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ كَافَّةً، وَمِنْهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِهِمْ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، فَقَوْلُهُ: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا يُرَادُ بِهِ أَصْنَامُهُمْ ; لِأَنَّ " مَا " لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي " يَخْلُقُ " مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ فِي " يُخْلَقُونَ " مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، وَجَعْلُهُ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضَارِع " يُخْلَقُونَ " لِتَصْوِيرِ حُدُوثِ خَلْقِهِمْ، وَكَوْنِ مِثْلِهِ مِمَّا يَتَجَدَّدُونَ فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا أَسْوَأُ فَضَائِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ.
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ: وَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ غَيْرَ خَالِقِينَ لِشَيْءٍ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِعَابِدِيهِمْ نَصْرًا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا عَلَى مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا بِإِهَانَةٍ لَهَا، أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ طِيبِهَا أَوْ حُلِيِّهَا، كَمَا قَالَ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٢٢: ٧٣) أَيْ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكُمْ فِي تَكْرِيمِهِمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَدْفَعُونَ عَنْهُمْ وَتَنْصُرُونَهُمْ بِالنِّضَالِ دُونَهُمْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ قَرَأَ نَافِعٌ (لَا يَتْبَعُوكُمْ) بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى
مَا هُوَ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتْبَعُوكُمْ، فَلَا هُمْ يَنْفَعُونَكُمْ، وَلَا هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى إِفَادَتِكُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ أَيْ: مُسْتَوٍ عِنْدَكُمْ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَبَقَاؤُكُمْ عَلَى صَمْتِكُمْ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ: صَمَتُّمْ، أَوْ تَصْمُتُونَ ; لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِهِمْ كَانَ قَدْ وَهَنَ بِحَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَكَوَارِثِ الْخُطُوبِ بَلْ يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِتَقَالِيدِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ فِيهِمْ وَالرَّجَاءِ بِشَفَاعَتِهِمْ
438
فِي أَوْقَاتِ الرَّخَاءِ، الَّتِي لَا يَشْعُرُ فِيهَا الْإِنْسَانُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٢٩: ٦٥) وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ عِنْدَ قُرْبِ وَضْعِ الْحَامِلِ، وَالشِّرْكُ بَعْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْوَصْفِ (صَامِتُونَ) لِإِفَادَةِ كَوْنِ إِحْدَاثِ الدُّعَاءِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الثَّابِتَةِ قَبْلَهُ وَاسْتِمْرَارِهَا سَوَاءٌ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ بِنَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى دُعَائِهِمْ، وَعَدَمِ خُطُورِهِمْ بِالْبَالِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَالشُّعُورِ بِحَاجَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ، وَلَوْ قَالَ: " أَمْ صَمَتُّمْ " أَوْ " أَمْ أَنْتُمْ تَصْمُتُونَ " لَمَّا كَانَتِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَإِيجَابٍ وَسَلْبٍ ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِتَكَلُّفِ الصَّمْتِ، وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْ دُعَائِهِمْ وَلَوْ لِلتَّجْرِبَةِ مَعَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي الْمُرَادِ مِنْ كَوْنِ وُجُودِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ، وَمِنْ كَوْنِ دُعَائِهَا مُسَاوِيًا لِتَرْكِ الدُّعَاءِ، وَلَوْ مَعَ انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَسَائِلُ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا كَانَ يَقُولُ أُولُو الْوَثَنِيَّةِ الْكَاسِيَةِ الْحَالِيَّةِ، أَوْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَا أَعْطَاهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِاسْتِقْلَالِهَا، كَمَا يَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْوَثَنِيَّةِ الْعَارِيَةِ الْعَاطِلَةِ - لَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ دُعَائِهَا ضَارًّا بِهِمْ، أَوْ مُضَيِّعًا بَعْضَ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ أَشْرَكَ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ أَنَّ هَذَا التَّوْبِيخَ لَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَدْعُونَ جَمَادًا أَوْ شَجَرًا لَا يَعْقِلُ، وَهُمْ يَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ وَصُلَحَاءَ، لِأَمْوَاتِهِمْ حُكْمُ الشُّهَدَاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ قُبُورَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهَا ; لِأَنَّ لِأَرْوَاحِهِمُ اتِّصَالًا بِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ مِنْ جَهْلِهِمْ بِأَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ لَمْ تُنْصَبْ إِلَّا لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ الَّتِي انْتَقَلَتْ
إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَتِ اللَّاتُ صَخْرَةً لِرَجُلٍ يَلُتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقَ وَيُطْعِمُهُ لِلنَّاسِ، فَالْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ وَالْقُبُورُ الَّتِي تُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهَا وُضِعَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ عُرِفُوا بِالصَّلَاحِ، وَكَانُوا هُمُ الْمَقْصُودِينَ بِالدُّعَاءِ، لِمَا تَخَيَّلُوا فِيهِمْ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَةِ اللهِ، أَوِ التَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ فِي مُلْكِ اللهِ، وَهُوَ أَفْحَشُ الشِّرْكِ بِاللهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ إِشْرَاكِ الصَّنَمِ وَالْوَثَنِ، وَإِشْرَاكِ الْوَلِيِّ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْمَلَكِ، فَاقْرَأِ الْآيَاتِ فِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لِلَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (٢١: ٢٦ - ٢٩)
439
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ مُقَرِّرَةٌ وَمُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِهَا ; لِأَنَّ تَوْحِيدَ الْعِبَادَةِ وَنَفْيَ الشِّرْكِ فِيهَا هُوَ أُسُّ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْأَذْهَانِ، وَيَثْبُتُ فِي الْجِنَانِ، وَيَكْمُلُ بِالْوِجْدَانِ، إِلَّا بِتَكْرَارِ الْآيَاتِ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لِمَضْمُونِ كَلِمَةِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، وَرُكْنُهَا الْأَعْظَمُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْحِيدُ أَحَدٍ لِلَّهِ إِلَّا بِدُعَائِهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمِ دُعَاءِ أَحَدٍ مَعَهُ. كَمَا قَالَ: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (٧٢: ١٨) وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنَاهُ الْعِبَادَةُ، مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ " تَدْعُونَ " يَتَعَبَّدُونَ، فَضَلَّ بَعْضُ الْعَوَامِّ مِنَ الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ عَابِدًا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ يُصَلِّي لَهُ الصَّلَاةَ الْمَعْرُوفَةَ وَيَصُومُ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّهُ
لَا يُنَافِي تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ مَعَهُ، أَوْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ لَدَيْهِ، إِذَا كَانَ لَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الدُّعَاءَ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ فِيهِ خَاصًّا بِتَسْمِيَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ آلِهَةً، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاحْتِمَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ جَاهِلًا بِمَعْنَى الشِّرْكِ، مِمَّنْ يَدْعُونَ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ; لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ أَوْ جَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَنَاوُلِ كَسْبِهِمْ وَسَعْيِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُمْ
440
آلِهَةً، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ الَّذِي نُعِيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لَا مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ بِدُونِهِ صَحِيحَةً.
وَالْحُقُّ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا هُوَ النِّدَاءُ لِدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، الْمُوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ الدَّاعِي أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا يُمْكِنُهُ بِهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ بِذَاتِهِ، أَوْ بِحَمْلِهِ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ عَلَى ذَلِكَ، بِحَيْثُ يُجِيبُ دُعَاءَ الدَّاعِي لِأَجْلِهِ.
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ هُمْ عِبَادُ اللهِ أَمْثَالُكُمْ فِي كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ لِلَّهِ تَعَالَى خَاضِعِينَ لِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِذَا كَانُوا أَمْثَالَكُمُ امْتُنِعَ عَقْلًا أَنْ تَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لَا تَسْتَطِيعُونَ نَيْلَهُ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا بِمُسَاعَدَةِ أَمْثَالِكُمْ لَكُمْ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعَاوُنِ فِي اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ لَهُ، وَإِنَّمَا يُدْعَى لِمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، الرَّبُّ الْخَالِقُ الْمُسَخِّرُ لِلْأَسْبَابِ، الَّذِي تَخْضَعُ لِإِرَادَتِهِ الْأَسْبَابُ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَلَا لِإِرَادَةِ أَحَدٍ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا لَا يَشَاؤُهُ مِنْهَا.
وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الصُّلَحَاءِ، دُونَ مَا اتُّخِذَ لَهُمْ تَذْكِيرًا بِهِمْ مِنَ التَّمَاثِيلِ أَوِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَقَدْ صَارَ بَعْضُ هَذِهِ الْمُذَكِّرَاتِ يُقْصَدُ لِذَاتِهِ، جَهْلًا بِمَا كَانَتِ اتُّخِذَتْ لِأَجْلِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْخُلُ فِي الْمُمَاثَلَةِ بِطَرِيقَةِ تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ مَا وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ قُصَارَى أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ أَمْثَالِكُمْ، فَكَيْفَ تَرْفَعُونَهَا عَنْ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ، إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ !.
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِقُوَاكُمُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ
بِذَوَاتِهِمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِيَحْمِلُوا الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى إِعْطَائِكُمْ مَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ (١٠: ١٨) وَقَوْلِكُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (٣٩: ٣) ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُمْ لَا أَمْثَالًا لَهُمْ، فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ هَذَا تَقْرِيعٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْوِجْدَانِ، فِي إِثْرِ احْتِجَاجٍ وُجِّهَ قَبْلَهُ إِلَى الْجِنَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لِفَقْدِهِمْ لِجَوَارِحِ الْكَسْبِ، الَّتِي يُنَاطُ بِهَا فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، قَدْ هَبَطُوا عَنْ دَرَجَةِ مُمَاثَلَتِكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَسْعَوْنَ بِهَا إِلَى دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا فِيمَا تَرْجُونَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ تَخَافُونَ مِنْ شَرٍّ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا حَالَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا أَقْوَالَكُمْ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا مَطَالِبَكُمْ، فَأَنْتُمْ تَفْضُلُونَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْقُوَى الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي الْخَلْقِ، فَلِمَاذَا تَرْفَعُونَهُمْ عَنْ مُمَاثَلَتِكُمْ، وَهُمْ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ دُونَكُمْ، وَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِ
441
الْهُدَى وَالرَّشَادِ مِنَ الرَّسُولِ، وَتُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٣، ٣٤) أَفَتَأْبَوْنَ قَبُولَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مِنْ مِثْلِكُمْ، وَقَدْ فَضَّلَهُ اللهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى عَلَيْكُمْ، وَهُوَ لَا يَسْتَذِلُّكُمْ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ رَبُّكُمْ أَوْ إِلَهُكُمْ، ثُمَّ تَرْفَعُونَ مَا دُونَهُ وَدُونَكُمْ إِلَى مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ، مَعَ انْحِطَاطِهِ وَتَسَفُّلِهِ عَنْ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ؟ !.
قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمَرْزُوئِينَ بِعُقُولِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، نَادُوا شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُفَعَاءً، ثُمَّ تَعَاوَنُوا عَلَى كَيْدِي جَمِيعًا، وَأَجْمِعُوا مَكْرَكُمُ الْخَفِيَّ لِإِيقَاعِ الضُّرِّ بِي سَرِيعًا، فَلَا تُنْظِرُونَ، أَيْ لَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، بَعْدَ إِحْكَامِ الْمَكْرِ الْكُبَّارِ. وَحِكْمَةُ مُطَالَبَتِهِمْ بِهَذَا أَنَّ الْعَقَائِدَ وَالتَّقَالِيدَ الْمَوْرُوثَةَ تَتَغَلْغَلُ فِي أَعْمَالِ الْوِجْدَانِ، حَتَّى يَتَضَاءَلَ دُونَهَا كُلُّ بُرْهَانٍ، وَيَظَلُّ صَاحِبُهَا مَعَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى
بُطْلَانِهَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَتُقَرِّبُ مِنَ اللهِ وَتَشْفَعُ، فَطَالَبَهُمْ بِأَمْرٍ عَمَلِيٍّ يَسْتَلُّ هَذَا الْوَهْمَ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ، وَيَمْتَلِخُ الشُّعُورَ بِهِ مِنْ خَبَايَا صُدُورِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُنَادُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ نِدَاءَ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِنْجَادٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ بِهَا، وَإِثْبَاتِهِ الْعَجْزَ لَهَا، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِيمَا يَنْسِبُونَ إِلَيْهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْبَاطِنِ، وَالتَّدْبِيرِ الْكَامِنِ، الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ، يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ الْخَفِيِّ. فَإِنْ كَانَ لَهَا شَيْءٌ مَا مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ فِي أَنْفُسِهَا أَوْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَهَذَا وَقْتُ ظُهُورِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِإِبْطَالِ عِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا، وَنَصْرِ عَابِدِيهَا وَمُعَظِّمِي شَأْنِهَا، فَمَتَى يَظْهَرُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ؟ وَهُمْ مُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ، وَكُلُّ مَا يَرْجُونَهُ أَوْ يَخَافُونَهُ مِنْهَا فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؟.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ هَذَا تَعْلِيلٌ لِجَزْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذُكِرَ مِنْ عَجْزِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ، وَتَحْقِيرِ أَمْرِهَا وَأَمْرِ عَابِدِيهَا، عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَعْفِهِ بِمَكَّةَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. يَقُولُ: إِنَّ نَاصِرِيِّ وَمُتَوَلِّي أَمْرِي هُوَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ النَّاطِقَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ فِي الْمُهِمَّاتِ وَالْمُلِمَّاتِ وَحْدَهُ، وَبِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ دُعَاءَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ هُزُؤٌ بَاطِلٌ، وَسُخْفٌ لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ إِلَّا جَاهِلٌ سَافِلٌ، وَهُوَ يَتَوَلَّى نَصْرَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ السَّالِمَةِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا الْأَفْرَادُ وَشُئُونُ الْجَمَاعَاتِ، فَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الْخُرَافِيِّينَ الْفَاسِدِي الْعَقَائِدِ، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَعْمَالِ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ (١٣: ١٧).
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ: وَأَمَّا الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ لِنَصْرِكُمْ وَلِغَيْرِ النَّصْرِ مِنْ مَنَافِعِكُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، فَهُمْ عَاجِزُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ
أَنْ يَنْصُرُونَكُمْ، وَلَا أَنْ يَنْصُرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَنْ يُحَقِّرُ أَمْرَهُمْ، أَوْ يَسْلُبُهُمْ شَيْئًا مِمَّا وُضِعَ مِنَ الطِّيبِ أَوِ الْحُلِيِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَسَّرَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا أَنْ
يَنْتَفِعُوا مِنْهُ لَهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَا شَابَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ " أَنَّهُمَا كَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حَطَبًا لِلْأَرَامِلِ لِيَعْتَبِرَ قَوْمُهُمَا بِذَلِكَ، وَكَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ - وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ - صَنَمٌ يَعْبُدُهُ فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُلَطِّخَانِهِ بِالْعُذْرَةِ، فَيَجِيءُ فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصِرْ. حَتَّى أَخَذَاهُ مَرَّةً فَقَرَنَاهُ مَعَ كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ بِحَبْلٍ فِي بِئْرٍ. فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ عَلِمَ بُطْلَانَ عِبَادَتِهِ وَأَسْلَمَ، فِيهِ يَقُولُ:
تَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ
وَبَعْدَ أَنْ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى النَّصْرِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِنَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِرْشَادِ إِلَيْهِ فَقَالَ:.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ إِلَى مَا تَنْتَصِرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ أَوْ جَلِيَّةٍ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ؟ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا لَمَا اسْتَجَابُوا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْفِعْلِ، كَفَقْدِهِمْ لِلسَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ: وَهُمْ فَاقِدُونَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ كَفَقْدِهِمْ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطِبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِمَا وُضِعَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْيُنِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَالْحَدَقِ الزُّجَاجِيَّةِ أَوِ الْجَوْهَرِيَّةِ، وَجَعْلُهَا مُوَجَّهَةً إِلَى الدَّاخِلِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا; لِأَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ بِالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً مِنْ عَابِدِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُبْصِرُونَ حَالَهُ وَحَالَ خَصْمِهِ، فَأَنَّى يُرْجَى مِنْهُمْ نَصْرُهُ وَشَدُّ أَزْرِهِ؟.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولِ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَصْنَامِ قَدْ تَمَّ فِيمَا قَبْلَهَا وَعَادَ الْكَلَامُ فِي عَابِدِيهَا، أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا هَذِهِ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، إِلَى هُدَى اللهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِسْلَامُ وَلَا يَسْمَعُوا دَعْوَتَكُمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا أُوتِيتَ مِنْ سَمْتِ الْجَلَالِ وَالْوَقَارِ، الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ بَيْنَ أُولِي الْجِدِّ وَالْعَزْمِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَيْنَ
أَهْلِ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ. وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَعْرِفُ مِنْ شَمَائِلِهِ وَسِيمَاهُ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ حُرٌّ صَادِقٌ، غَيْرُ مُخَادِعٍ وَلَا مُمَاذِقٍ، فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْوَجْهُ وَجْهُ كَاذِبٍ، وَمَا زَالَ مِنَ الْمَعْهُودِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الْبَصِيرَةِ وَالْفَضِيلَةِ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ
443
بَعْضًا بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالتَّلَاقِي، بِمَا يَتَوَسَّمُونَ مِنْ مَلَامِحِ الْوَجْهِ وَمَعَارِفِهِ، ثُمَّ مِنْ مَوْضُوعِ الْحَدِيثِ وَتَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ، ثُمَّ يَكْمُلُ ذَلِكَ بِالْمُعَاشَرَةِ. كَمَا يَعْرِفُونَ حَالَ الْأَشْرَارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِذَلِكَ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (٤٧: ٣٠) بِهَذِهِ الْبَصِيرَةِ النَّيِّرَةِ عَرَفَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ فُضْلَى عَقَائِلِ قُرَيْشٍ فَضَائِلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ، فَاسْتَمَالَتْهُ وَخَطَبَتْهُ لِنَفْسِهَا عَلَى غِنَاهَا وَفَقْرِهِ، بَعْدَ أَنْ رَفَضَتْ أُنَاسًا مِنْ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ خَطَبُوهَا بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ جَزَمَ بِرِسَالَتِهِ عِنْدَمَا حَدَّثَهَا بِأَوَّلِ مَا رَآهُ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَوَّلَ رَجُلٍ دَعَاهُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ فَرَاسَتِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ وَلَمْ يَتَمَكَّثْ وَلَمْ يَتَرَيَّثْ أَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ قَرِيرَ الْعَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا وَحَقِيقَةِ مَنْ دَعَا إِلَيْهَا. وَأَمْثِلَةُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَكَانَ أَظْهَرُهَا فِي قَرْنِنَا هَذَا تَعَلُّقُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدُهُ بِالسَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ الْأَفْغَانِيِّ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ رَآهُ فِيهَا. وَلِزَامُهُ إِلَى أَنْ فَارَقَ هَذِهِ الدِّيَارَ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ غَيْرُهُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُكْبِرِينَ لَهُ وَالْمُعْجَبِينَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَزْهَرِ يَفِرُّونَ مِنْهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ، فَأَيْنَ هُمْ وَأَيْنَ آثَارُهُمْ فِي الْعِلْمِ أَوِ الدِّينِ؟ فَبِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَرِ الْوَاقِعَةِ تَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا، لَا بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَةِ هَذَا التَّعْبِيرِ اسْتِعَارَةً شَبَّهَ فِيهَا كَذَا بِكَذَا. ثُمَّ اقْرَأْ فِي مَعْنَاهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (١٠: ٤٢، ٤٣).
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِأُصُولِ الْفَضَائِلِ الْأَدَبِيَّةِ وَأَسَاسِ التَّشْرِيعِ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي فِي
الْمَرْتَبَةِ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، الَّذِي تَقَرَّرَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ، بِأَبْلَغِ التَّوْكِيدِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ يَأْمُرُ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، هِيَ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآدَابِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ. الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْعَفْوُ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى خَالِصِ الشَّيْءِ وَجَيِّدِهِ، وَعَلَى الْفَضْلِ الزَّائِدِ فِيهِ أَوْ مِنْهُ، وَعَلَى السَّهْلِ الَّذِي لَا كُلْفَةَ فِيهِ، وَعَلَى مَا يَأْتِي بِدُونِ طَلَبٍ أَوْ بِدُونِ إِخْفَاءٍ وَمُبَالَغَةٍ فِي الطَّلَبِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ وَهِيَ وُجُودِيَّةٌ، وَمِنْ مَعَانِيهِ السَّلْبِيَّةِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ كَعَفَتِ الرِّيَاحُ الدِّيَارَ وَالْآثَارَ. أَوْ إِزَالَةُ أَثَرِهِ كَالْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ مَنْعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَمَعَانِي الْعَفْوِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْعَدَمِيَّةِ أَوِ الْمُوجَبَةِ
444
وَالسَّالِبَةِ كُلُّهَا إِحْسَانٌ، وَرِفْقٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْعَفْوِ هُنَا أَقْوَالٌ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي، فَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ خُذِ الْعَفْوَ خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ - أَيْ مَا فَضَلَ وَمَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ. وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ وَزَعَمَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الزَّكَاةِ - وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ: أَنْفِقِ الْفَضْلَ، وَمِثْلُهَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَفِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَعْنَاهَا: خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِهِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْعَفْوَ هُنَا الصَّفْحُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ عَشْرَ سِنِينَ فَنُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ; لِأَنَّ الْعَفْوَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْذِ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ هُوَ بِالْإِعْطَاءِ أَشْبَهُ، وَلَا بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلَبْ. وَأَحْسَنَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا شَاءَ فِي تَصْوِيرِهِ مَعْنَى الْعَفْوِ بِمَا تُعْطِيهِ اللُّغَةُ، فَقَالَ: وَالْعَفْوُ ضِدُّ الْجُهْدِ، أَيْ خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا أَتَى مِنْهُمْ وَتَسَهَّلَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَلَا تُدَاقَّهُمْ وَلَا تَطْلُبْ مِنْهُمُ الْجُهْدَ وَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفِرُوا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا قَالَ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وَقِيلَ: خُذِ الْفَضْلَ وَمَا تَسَهَّلَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الزَّكَاةِ. فَلَمَّا نَزَّلَتْ أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. اهـ. نَقُولُ: وَبَقِيَتِ الْآيَةُ مُحْكَمَةً فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَفْوَ يَشْمَلُ هَذَا وَذَاكَ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مِنْ أُصُولِ آدَابِ هَذَا الدِّينِ وَقَوَاعِدِ شَرْعِهِ الْيُسْرَ وَتَجَنُّبَ الْحَرَجِ وَمَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ أَهْلُ الْفِقْهِ الْمَقْلُوبِ، فَجَعَلُوا الْعُسْرَ وَالْحَرَجَ مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ الشَّرْعِ فِعْلًا لَا تَسْمِيَةً، وَقَدْ صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا " وَتَرَى هَؤُلَاءِ لَا يُخَيَّرُ أَحَدُهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَعَسْرَهُمَا، وَلَا سِيَّمَا الْعُسْرُ عَلَى الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا، وَأَمَّا فَتَاوَى الْأَفْرَادِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ فِيهَا قَوْلَانِ مُصَحَّحَانِ: نَحْنُ مَعَ الدَّرَاهِمِ قِلَّةً وَكَثْرَةً! يَعْنِي: فِي الْفَتْوَى بِأَحَدِهِمَا.
الْأَصْل الثَّانِي: الْأَمْرُ بِالْعُرْفِ وَهُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنَ الْخَيْرِ وَفَسَّرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَفِي اللِّسَانِ: الْمَعْرُوفُ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، وَالْعُرْفُ ضِدُّ النُّكْرِ قَالَ: وَالْعُرْفُ وَالْعَارِفَةُ وَالْمَعْرُوفُ وَاحِدٌ ضِدُّ النُّكْرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَعْرِفُهُ النَّفْسُ مِنَ الْخَيْرِ وَتَبْسَأُ بِهِ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ (قَالَ) وَقَدْ تَكَرَّرَ
445
ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ وَنُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُحْسِنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِيَةِ، أَيْ أَمْرٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ إِذْ رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ، وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ اهـ.
وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْمَعْرُوفَ عَلَى ضِدِّ الْمُنْكَرِ وَعَلَى ضِدِّ الْمَجْهُولِ، وَالْمُنْكَرُ هُوَ الْمُسْتَقْبَحُ عِنْدَ النَّاسِ الَّذِي يَنْفِرُونَ مِنْهُ لِقُبْحِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، وَيَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ. وَالْأَمْرُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ، يُثْبِتُ لَنَا أَنَّ الْعُرْفَ أَوِ الْمَعْرُوفَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ لِلْآدَابِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ عَادَاتِ الْأُمَّةِ الْحَسَنَةِ، وَمَا تَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ النَّافِعَةِ فِي مَصَالِحِهَا، حَتَّى إِنَّ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَيَّدَ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْرُوفِ فِي عَقْدِ مُبَايَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ
فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٠: ١٢) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَقْدَ الْمُبَايَعَةِ أَعْظَمُ الْعُقُودِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، فَتَقْيِيدُ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ وَشَرْعِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي السُّنَّةِ أَنَّ مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرِّجَالِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى أَصْلِ مُبَايَعَتِهِ لِلنِّسَاءِ الْمَنْصُوصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الصَّحِيحِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَصْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِشَارَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ (٧: ١٥٧) وَوَرَدَ فِي ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كَالْأَعْرَافِ، ثُمَّ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي عَشَرَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ، بَعْضُهَا فِي صِفَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَحُكُومَاتِهَا، وَأَكْثَرُهَا فِي الْأَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. فَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ بِهِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢: ٤١) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣: ١٠٤) وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (٣: ١١٠)
446
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (٩: ٧١) الْآيَةَ. ثُمَّ قَوْلُهُ فِي صِفَاتِهِمْ، مِنْهَا: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٩: ١١٢) فَهَذِهِ الْآيَاتُ أُصُولٌ لَا مَنْدُوحَةَ لِلْأُمَّةِ عَنِ الْتِزَامِهَا فِي آدَابِهَا وَتَشْرِيعِهَا.
وَمِنِ النَّوْعِ الثَّانِي وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (٢: ٢٢٨) وَهَذِهِ الْآيَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ يَفْضُلُ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ
فِي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ تَنَلِ النِّسَاءُ مِثْلَهُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي أَحْكَامِ الطَّلَاقِ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (٢٢٩) وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (٢٣١) - وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ - وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ، فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (٢٣٢) وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا فِيهِنَّ إِذَا كُنَّ مُرْضِعَاتٍ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٢٣٣) إِلَى قَوْلِهِ: فِيهِنَّ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجَانِ الْفِصَالَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ (٢: ٢٣٣) وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي مُعْتَدَّاتِ الْوَفَاةِ: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٢٣٤) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَلَّقَاتِ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَقَوْلُهُ بَعْدَ أَرْبَعِ آيَاتٍ أُخْرَى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) وَكَقَوْلِهِ فِي مُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (٤: ١٩) وَهُنَالِكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَفِي أَكْلِ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قُيِّدَتْ بِالْمَعْرُوفِ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُهِمَّةِ، وَأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِيهَا هُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّعُوبِ وَالْبُيُوتِ وَالْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ، فَتَحْدِيدُهُ وَتَعْيِينُهُ بِاجْتِهَادِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ عُرْفِ النَّاسِ " مُخَالِفٌ لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالْحَنَابِلَةِ أَقْوَالٌ حَكِيمَةٌ فِي الْمَعْرُوفِ، مِنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبَيْتِ وَالْأُسْرَةِ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْرُوفِ عَنْ بَعْضِ الْبُيُوتِ أَنَّهُنَّ لَا يُزَوِّجْنَ
447
بَنَاتَهُنَّ لِمَنْ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِنَّ وَيُضَارُّهُنَّ، كَانَ هَذَا كَالشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُنَّ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ فِي الْآيَاتِ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الشَّرْعِ، كَقَوْلِ صَاحِبِ لُبَابِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأْمُرْ بِكُلِّ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ وَعَرَفْتَهُ بِالْوَحْيِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفٌ لِمَا
ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ، وَلَا مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنْهَا كَآيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَدَنِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِيهَا عَامًّا يَشْمَلُ الْمَعْرُوفَ فِي الشَّرْعِ وَفِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهَا الْأُولَى فِي الْمَوْضُوعِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ قَبْلَهَا أَحْكَامٌ يُفَسَّرُ بِهَا الْعُرْفُ وَيُحَالُ عَلَيْهَا فِيهِ - فَمَا قَالَهُ صَاحِبُ لُبَابِ التَّأْوِيلِ هُوَ مِنْ قِشْرِهِ لَا مِنْ لُبَابِهِ، وَأَوَّلُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعُرْفِ الْمَعْرُوفَ بِالْوَحْيِ، يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ مَعْرُوفًا، وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ صَارَ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.
نَعَمْ إِنَّ مَا يَتَقَرَّرُ بِنَصِّ الشَّرْعِ يَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمَجْهُولِ، كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ. وَيَبْقَى تَحْكِيمُ الْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ مُعْتَبِرًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَلِلْأُمَّةِ فِيهِ عُرْفٌ غَيْرُ مُعَارَضٍ بِنَصٍّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْأُمَّةِ عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ إِذَا كَانَ أَمْرُ الْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ فِيهَا فَوْضَى وَغَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأُصُولٍ وَأَحْكَامٍ وَفَضَائِلَ ثَابِتَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ ثَابِتٍ، وَهُوَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَنَافِعُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَأَحْوَالِ الْمَعِيشَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يَحْكُمُ فِيهِ الْعُرْفُ وَهُوَ مَا يُقَابِلُهُ ; وَلِذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ بِهِمَا مَعًا، وَلَا يَضُرُّ مَعَ هَذَا اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيمَا يَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، فَلْيَكُنِ الْمَعْرُوفُ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ: مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَقْلِ فِعْلُهُ وَلَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَيَكْفِي الْمُسْلِمِينَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنْكِرَ الْمُؤْمِنُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ نَصًّا حَتْمًا لَا اجْتِهَادَ فِيهِ، وَلْيَكُنْ لِلْجَمَاعَةِ بَعْدَهُ رَأْيٌ فِيمَا يَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، وَيَسْتَحْسِنُونَ وَيَسْتَهْجِنُونَ، يَكُونُ عُمْدَتُهُمْ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، بِتَرْكِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَعَدَمِ مُمَارَاتِهِمْ، وَلَا عِلَاجَ أَوْقَى لِأَذَاهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَشَرُّهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُرْتَزِقَةُ صُحُفِ الْأَخْبَارِ الْمُنْتَشِرَةِ، فَإِنَّ سُفَهَاءَهَا هُمْ شَرٌّ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ قَلَّ سَفَهُ الشُّعَرَاءِ فِي عَصْرِنَا هَذَا فَلَا أَعْرِفُ لِشَاعِرٍ مَشْهُورٍ
مِنَ الْقَذْعِ وَالْبَذَاءِ فِي الْهَجْوِ شَيْئًا مِمَّا نَعْهَدُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالسَّاقِطَةِ، وَكَمْ مِنْ صَحِيفَةٍ قَائِمَةٍ نَاهِضَةٍ بِالثَّرْوَةِ، شَرٌّ مِنْ سَاقِطَةٍ بِالْقِلَّةِ.
448
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنِ السُّفَهَاءِ; لِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ الْحَقَّ إِذَا فَقَدُوهُ، وَلَا يَأْخُذُونَ فِيمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ إِذَا وَجَدُوهُ، وَلَا يَرْعَوْنَ عَهْدًا، وَلَا يَحْفَظُونَ وُدًّا، وَلَا يَشْكُرُونَ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَّا مَا اتَّصَلَ مَدَدُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ عَادَ الشُّكْرُ كُفْرًا، وَاسْتَحَالَ الْمَدْحُ ذَمًّا.
أَكْثَرُ مَا كَتَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ، وَأَقَلُّهُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ جَدِّنَا الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْأَخْلَاقَ ثَلَاثَةٌ بِحَسَبِ الْقُوَى الْإِنْسَانِيَّةِ، عَقْلِيَّةٌ، وَشَهْوِيَّةٌ، وَغَضَبِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ الْحِكْمَةُ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالشَّهْوِيَّةُ الْعِفَّةُ وَمِنْهَا أَخْذُ الْعَفْوِ، وَالْغَضَبِيَّةُ الشَّجَاعَةُ وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مُرْسَلًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ لَمَّا نَزَلَتْ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنْهَا فَقَالَ: " لَا أَعْلَمُ حَتَّى أَسْأَلَ. ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ " اهـ. مِنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَمُرَادُ الْإِمَامِ أَعْلَى وَأَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَهْمُهُ أَبْعَدُ وَأَوْسَعُ مِنْ فَهْمِ مَنْ عَلَّلَهُ أَوْ فَسَّرَهُ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ تَفْسِيرِهَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى فَسَبَكَهُ فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ فَقَالَ:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِعُرْفٍ كَمَا أُمِرْتَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
وَلِنْ فِي الْكَلَامِ لِكُلِّ الْأَنَامِ فَمُسْتَحْسَنٌ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينَ
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، قَدْ تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا حَسَنَةٌ إِلَّا أَوْعَتْهَا، وَلَا فَضِيلَةٌ إِلَّا شَرَحَتْهَا، وَلَا أُكْرُومَةٌ إِلَّا افْتَتَحَتْهَا، وَأَخَذَتِ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ أَقْسَامَ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثَةِ: فَقَوْلُهُ: خُذِ الْعَفْوَ تَوَلَّى بِالْبَيَانِ جَانِبَ اللِّينِ، وَنَفْيَ الْحَرَجِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالتَّكْلِيفِ، وَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَأَنَّهُمَا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ، وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعُهُ، وَاتَّفَقَتِ الْقُلُوبُ عَلَى عِلْمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ تَنَاوَلَ
جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ بِهِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا. اهـ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ مِنَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ هُوَ مِنْ إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، الَّذِي لَا مَطْمَعَ فِي مِثْلِهِ لِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ وَاللهُ أَعْلَمُ.
449
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ أَفْضَلَ مَا يُعَامِلُ الْبَشَرُ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْوَصَايَا الثَّلَاثِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ شَرْحُ التَّعَامُلِ بِهَا تَفْصِيلًا إِلَّا بِسِفْرٍ كَبِيرٍ، وَلَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِهَذِهِ الْوَصَايَا لَصَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَلَمْ يَجِدِ الْفَسَادُ إِلَيْهِمْ سَبِيلًا، ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ فِي الْوَصِيَّةِ بِاتِّقَاءِ إِفْسَادِ الشَّيْطَانِ، أَيْ جِنْسِهِ لِجِنْسِ الْبَشَرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا شَيَاطِينُ الْجِنِّ الْمُسْتَتِرَةُ، فَالتَّنَاسُبُ الْقَرِيبُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُنَّ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ مُعَامَلَةِ الْبَشَرٍ وَمُعَامَلَةِ الْجِنِّ، وَمِنْ فُرُوعِهِ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْجَاهِلِينَ، أَيِ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ أَمَرَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِمْ، وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ الَّتِي أَمَرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنْهُمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِمْ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى، اتِّقَاءُ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الشِّرِّيرُ الْمُفْسِدُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمَنْ فَسَّرَ آيَاتِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (٧: ١٨٩) إِلَخْ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ شِرْكَ الْأَبَوَيْنِ فِيمَا أَتَاهُمَا اللهُ مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ كَانَ بِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ لَنَا أَنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ لِأَبَوَيْنَا كَانَتْ سَبَبَ مَا وَقَعَ لَهُمَا مِنَ الشِّرْكِ فِيمَا آتَاهُمَا مِنَ الْوَلَدِ - وَالْأَوْلَى إِرْجَاعُ التَّنَاسُبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مَا بُيِّنَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ مِنْ خَلْقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمَا - وَمَا بُيِّنَ فِي خَوَاتِيمِهَا مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى إِتَّقَاءِ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي بَدْءِ سِيَاقِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ قَالَ الرَّاغِبُ: النَّزْغُ دُخُولٌ فِي أَمْرٍ لِإِفْسَادِهِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (١٢: ١٠٠) وَفِي الْأَسَاسِ: نَزَغَهُ مِثْلُ نَسَفَهُ إِذَا طَعَنَهُ وَنَخَسَهُ. وَمِنَ " الْمَجَازِ " نَزَغَهُ الشَّيْطَانُ: كَأَنَّهُ يَنْخُسُهُ لِيَحُثَّهُ عَلَى الْمَعَاصِي. وَنَزَغَ بَيْنَ النَّاسِ: أَفْسَدَ بَيْنَهُمْ بِالْحَثِّ عَلَى الشَّرِّ اهـ. فَالنَّزْغُ كَالنَّسْغِ وَالنَّخْسِ وَالنَّخْزِ وَالنَّغْزِ وَالنَّكْزِ وَالْوَكْزِ وَالْهَمْزِ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَأَصْلُهُ إِصَابَةُ الْجَسَدِ بِرَأْسِ شَيْءٍ مُحَدَّدٍ كَالْإِبْرَةِ وَالْمِهْمَازِ وَالرُّمْحِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْمُحَدَّدَ كَالْإِصْبَعِ، وَالْمُرَادُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ إِثَارَتُهُ دَاعِيَةَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فِي غَضَبٍ أَوْ شَهْوَةٍ حَيَوَانِيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، بِحَيْثُ تُقْحِمُ صَاحِبَهَا إِلَى الْعَمَلِ بِتَأْثِيرِهَا، كَمَا تُنْخَسُ الدَّابَّةُ بِالْمِهْمَازِ لِتُسْرِعَ.
450
وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قَالَ " يَنْزَغَنَّكَ نَزْغٌ " وَالْمُرَادُ نَازِغٌ ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أَبْلَغُ، وَالشَّيْطَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي الْجِنِّ مِرَارًا، أَوْسَعُهَا مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ (٦: ٦٨) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ (٦: ٧١) الْآيَةَ. وَكِلْتَاهُمَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ آدَمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّذِي يُنَاسِبُ مِنْهَا مَا هُنَا، وَهُوَ إِغْوَاءُ النَّاسِ بِالْوَسْوَسَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي (٧: ١٦) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ (٧: ٢٧) إِلَخْ.
وَمُلَخَّصُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي وَحْيِ اللهِ تَعَالَى إِلَى رُسُلِهِ أَنَّ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ خَلْقًا خَفِيًّا اسْمُهُ الشَّيْطَانُ لَا تُدْرِكُهُ حَوَاسُّنَا، لَهُ أَثَرٌ فِي أَنْفُسِنَا، فَهُوَ يَتَّصِلُ بِهَا، وَيُقَوِّي دَاعِيَةَ الشَّرِّ فِيهَا بِمَا سَمَّاهُ الْوَحْيُ وَسْوَاسًا وَنَزْغًا وَمَسًّا، وَنَحْنُ نَجِدُ أَثَرَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِنَا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ مَصْدَرَهُ، وَقَدْ شَبَّهْنَا تَأْثِيرَ هَذِهِ الشَّيَاطِينِ الْخَفِيَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ بِتَأْثِيرِ النَّسَمِ الْخَفِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَكْتِرْيَا أَوْ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ فِي الْأَجْسَادِ، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالنَّاسُ يَجْهَلُونَ هَذِهِ النَّسَمَ الْخَفِيَّةَ، وَيَجْهَلُونَ فِعْلَهَا لِعَجْزِ الْأَبْصَارِ عَنْ إِدْرَاكِهَا بِنَفْسِهَا، وَعَنْ رُؤْيَةِ فِعْلِهَا لِدِقَّتِهَا وَتَنَاهِيهَا فِي اللُّطْفِ وَالصِّغَرِ، إِلَى أَنِ اخْتُرِعَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمَرَايَا أَوِ النَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ الَّتِي تَرَى الْجِسْمَ أَضْعَافَ
أَضْعَافِ جِرْمِهِ، فَبِهَا رُؤِيَتْ وَعُلِمَ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِهَا فِي الْمَوَادِّ السَّائِلَةِ وَالرَّخْوَةِ، وَكُلِّ ذَاتِ رُطُوبَةٍ مِنَ التَّحَوُّلِ وَالتَّغْيِيرِ، كَالِاخْتِمَارِ وَالْفَسَادِ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَحِكْمَةُ إِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّانَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذَا الْعَالَمِ الْغَيْبِيِّ الْمُعَادِي لَنَا، الضَّارِّ بِأَرْوَاحِنَا كَضَرَرِ نَسَمِ الْأَمْرَاضِ بِأَجْسَادِنَا، أَنْ نُرَاقِبَ أَفْكَارَنَا وَخَوَاطِرَنَا وَلَا نَعْقِلَ عَنْهَا، كَمَا نُرَاقِبُ مَا يَحْدُثُ فِي أَجْسَادِنَا مِنْ تَغَيُّرٍ فِي الْمِزَاجِ، وَخُرُوجِ الصِّحَّةِ مِنَ الِاعْتِدَالِ، فَنُبَادِرُ إِلَى عِلَاجِهِ - فَمَتَى فَطِنَّا بِمَيْلٍ مِنْ أَنْفُسِنَا إِلَى الشَّرِّ أَوِ الْبَاطِلِ عَالَجْنَاهُ بِمَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنَ الْعِلَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: فَالْجَأْ إِلَى اللهِ وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ; لِيُعِيذَكَ مِنْ شَرِّ هَذَا النَّزْغِ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى مَا يُزْعِجُكَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، الْجَأْ إِلَى اللهِ بِقَلْبِكَ، وَعَبِّرْ عَنْ ذَلِكَ بِلِسَانِكَ، فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُ، عَلِيمٌ بِمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْكَ تَأْثِيرَ نَزْغِهِ بِتَزْيِينِ الشَّرِّ. وَمِنَ الْمُجَرَّبِ أَنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، يَصْرِفُ عَنِ الْقَلْبِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ،
451
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (١٦: ٩٨، ٩٩) إِلَخْ.
وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ آيَاتِ التَّشْرِيعِ وَالتَّأْدِيبِ مُوَجَّهٌ إِلَى كُلِّ مَا مُكَلَّفٍ يَبْلُغُهُ وَأَوَّلُهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ هُنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ (٦: ٦٨) الْآيَةَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُوهَا فِي تَرْجِيحِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ فِيهَا. وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ آيَةَ الْأَعْرَافِ هَذِهِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ فِيهَا أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي فِيهِ الْوُجُوهُ الْأُخْرَى فِي مِثْلِهَا، وَلَكِنَّ نَزْغَ الشَّيْطَانِ أَقْوَى مِنْ إِنْسَائِهِ وَمِنْ مَسِّهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، فَالْمُخْتَارُ عِنْدِي الْآنَ عِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ هُنَالِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَهُوَ سِيَاقٌ طَوِيلٌ يُرَاجَعُ هُنَالِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ آيَةٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَكِنْ بِتَعْرِيفِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ (٤١: ٣٦) وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرَّةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٧: ٢٠٠) وَقَالَ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤١: ٣٦) لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: لِأَيِّ مَعْنًى جَاءَ فِي الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " عَلَى لَفْظِ النَّكِرَةِ، وَفِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ مُعَرَّفَتَيْنِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مُؤَكَّدَتَيْنِ بِـ " هُوَ "؟ (وَالْجَوَابُ) أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ فِي فَاصِلَةٍ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْفَوَاصِلِ أَفْعَالُ جَمَاعَةٍ أَوْ أَسْمَاءٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (٧: ١٩) وَبَعْدَهُ يُخْلَقُونَ، وَيُنْصَرُونَ، وَيُبْصِرُونَ، وَالْجَاهِلِينَ، فَأُخْرِجَتْ هَذِهِ الْفَاصِلَةُ بِأَقْرَبِ أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَدِّيَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ أَعْنِي النَّكِرَةَ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: اسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ اسْتِعَاذَتَكَ وَيَعْلَمُ اسْتَجَارَتَكَ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ قَبْلَهَا فَوَاصِلُ يُسْلَكُ بِهَا طَرِيقُ الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٤١: ٣٤، ٣٥) فَقَوْلُهُ: وَلِيٌّ حَمِيمٌ لَيْسَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْأَفْعَالُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ لَيْسَ فِي الْحَظِّ مَعْنَى فِعْلٍ، فَأَخْرَجَ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " بَعْدَ الْفَوَاصِلِ الَّتِي هِيَ عَلَى سُنَنِ الْأَسْمَاءِ عَلَى لَفْظٍ يَبْعُدُ عَنِ اللَّفْظِ الَّذِي يُؤَدِّي مَعْنَى الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ
452
مَسْمُوعٌ وَلَا مَعْلُومٌ، فَلَيْسَ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْفِعْلِ كَمَا كَانَ فِي الْأُولَى أَنَّهُ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَيَعْلَمُ الْإِخْلَاصَ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ اهـ. فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ جِدًّا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى وَجْهَ سَلَامَةِ مَنْ يَسْتَعِيذُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، لِإِزَالَةِ جَهْلِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ مَنْ لَمْ يَفْقَهْهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ الطَّوْفُ وَالطَّوَافُ وَالطَّيْفُ بِالشَّيْءِ الِاسْتِدَارَةُ بِهِ أَوْ حَوْلَهُ، فَهُوَ وَاوِيٌّ يَأْتِي يُقَالُ: طَافَ يَطُوفُ وَيَطِيفُ بِالشَّيْءِ، كَـ " قَالَ وَبَاعَ " وَطَافَ الْخَيَالُ بِطَيْفٍ طَيْفًا: جَاءَ فِي النَّوْمِ، وَطَيْفُ الْخَيَالِ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ مِنْ مِثَالِ الشَّخْصِ، وَأَصْلُهُ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ كَمَيِّتٍ،
وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عُمَرَ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ هُنَا " إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ " وَالْبَاقُونَ " إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ " وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَرَسْمُهُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ (طَفٌ) كَرَسْمِ (مَلِكِ) فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَتُؤَدَّى قِرَاءَةُ وَزْنِ فَاعِلٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ بِمَدِّ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ، وَالْمَسُّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَاللَّمْسِ وَمِمَّا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ أَنَّ الْمَسَّ يُقَالُ فِي كُلِّ مَا يَنَالُ الْإِنْسَانَ مِنْ شَرٍّ وَأَذًى بِخِلَافِ اللَّمْسِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّنْزِيلِ مَسُّ الضُّرِّ وَالضَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ وَالسُّوءِ وَالشَّرِّ وَالْعَذَابِ وَالْكِبَرِ وَالْقَرْحِ وَاللُّغُوبِ وَالشَّيْطَانِ وَطَائِفِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مَسُّ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٧٠: ١٩ - ٢٢) فَقَدْ ذُكِرَ الْخَيْرُ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الشَّرِّ، وَلَكِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَنْعِ الْخَيْرِ لَا فِعْلِهِ، وَاسْتُعْمِلَ الْمَسُّ وَالْمَسِيسُ بِمَعْنَى الْوِقَاعِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ كَاسْتِعْمَالِهِ فِي الْجُنُونِ مَجَازًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَهْمُ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُصِفُوا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِذَا مَسَّهُمْ أَيْ أَلَمَّ أَوِ اتَّصَلَ بِهِمْ طَيْفٌ أَوْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْمِلَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ يَنْزَغَ بَيْنَهُمْ لِإِيقَاعِ الْبَغْضَاءِ وَالتَّفْرِقَةِ (تَذَكَّرُوا) أَنَّ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِمُ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ فِي الْحِفْظِ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَذَكَّرُوا مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: تَذَكَّرُوا عِقَابَ اللهِ لِمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَعَصَى الرَّحْمَنَ، وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ لِمَنْ عَصَى الشَّيْطَانَ وَأَطَاعَ الرَّحْمَنَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَذَكَّرُوا وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ - وَمَآلُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ يَعُمُّهَا - كَمَا تُقَيِّدُهُ قَاعِدَةُ حَذْفِ الْمَفْعُولِ - فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ أَيْ: فَإِذَا هُمْ أُولُو بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ يَرْبَأُ بِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تُطِيعَ الشَّيْطَانَ، فَهُوَ إِنَّمَا تَأْخُذُ وَسْوَسَتُهُ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يُحَاسِبُونَهَا عَلَى خَوَاطِرِهَا، الْغَافِلِينَ عَنْ رَبِّهِمْ لَا يُرَاقِبُونَهُ فِي أَهْوَائِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَلَا شَيْءَ أَقْوَى عَلَى طَرْدِ الشَّيْطَانِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ يُقَوِّي فِي النَّفْسِ حُبَّ الْحَقِّ وَدَوَاعِيَ الْخَيْرِ، وَيُضْعِفُ فِيهَا الْمَيْلَ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ مُدْخَلٌ إِلَيْهَا، فَهُوَ إِنَّمَا يُزَيِّنُ لَهَا بِالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهَا لِأَيِّ نَوْعٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ وَجَدَ
453
بِالْغَفْلَةِ مُدْخَلًا إِلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي، لَا يَلْبَثُ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ; لِأَنَّهُ غَرِيبٌ
عَنْ نَفْسِهِ، وَمَتَى شَعَرَ ذَكَرَ فَأَبْصَرَ فَخَنَسَ الشَّيْطَانُ وَابْتَعَدَ عَنْهُ، وَإِنْ أَصَابَ مِنْهُ غِرَّةً قَبْلَ تَذَكُّرِهِ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ.
فَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ فِي عَدَمِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْ إِغْوَائِهِ، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَسِّهِ، كَمَثَلِ الْمَرْءِ الصَّحِيحِ الْمِزَاجِ الْقَوِيِّ الْجِسْمِ النَّظِيفِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ، لَا تَجِدُ الْأَمْرَاضُ الْمُفْسِدَةُ لِلصِّحَّةِ; اسْتِعْدَادًا لِإِفْسَادِ مِزَاجِهِ وَإِصَابَتِهِ بِالْأَمْرَاضِ، فَهِيَ تَظَلُّ بَعِيدَةً عَنْهُ، فَإِنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِدُخُولِهِ فِي مَعِدَتِهِ أَوْ دَمِهِ فَتَكَتْ بِهَا نَسَمُ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ فَحَالَتْ دُونَ فَتْكِهَا بِهِ - وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الطِّبِّ الْمَنَاعَةَ - وَكَذَلِكَ يَكُونُ قَوِيَّ الرُّوحِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى غَيْرَ مُسْتَعِدٍّ لِتَأْثِيرِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ يَطُوفُ بِهَا يُرَاقِبُ غَفْلَتَهَا وَعُرُوضَ بَعْضِ الْأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ لَهَا مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ دَاعِيَةِ حَسَدٍ أَوِ انْتِقَامٍ، فَمَتَى عَرَضَتِ افْتَرَصَهَا، فَلَابَسَ النَّفْسَ وَقَوَّاهَا فِيهَا، كَمَا تُلَابِسُ الْحَشَرَاتُ الْقَذِرَةُ أَوْ جِنَّةُ الْأَمْرَاضِ الْخَفِيَّةِ مَا يَعْرِضُ مِنَ الْقَذَرِ لِلنَّظِيفِ وَالضَّعْفِ لِلْقَوِيِّ، فَإِذَا أَهْمَلَهَا بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا فَعَلَتْ فِعْلَهَا، وَإِذَا تَدَارَكَهَا نَجَا مِنْ ضَرَرِهَا، وَيَحْسُنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِالْحَصَانَةِ، فَيُقَالُ: مَنَاعَةٌ جَسَدِيَّةٌ وَحَصَانَةٌ نَفْسِيَّةٌ أَوْ رُوحِيَّةٌ.
ذَكَرْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْعُرُ بِقَدْرِ عِلْمِهِ بِتَنَازُعِ دَوَاعِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ لِدَاعِيَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَلَكًا يُقَوِّيهَا، وَلِدَاعِيَةِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ شَيْطَانًا يُقَوِّيهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً: فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ. وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَرَأَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (٢: ٢٦٨) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ السَّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ بَعْضَ كَلَامِ الْإِمَامِ الْغَزَّالِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ كِتَابٌ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ اسْمُهُ: (إِغَاثَةُ اللهْفَانِ فِي مَصَايِدِ الشَّيْطَانِ) فَمَنْ قَرَأَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكُتُبِ، كَانَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَذَرٍ.
وَمَا زَالَ الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ يُرَاقِبُونَ خَوَاطِرَهُمْ، وَيُجَاهِدُونَ الْوَسْوَاسَ الَّذِي يُلِمُّ بِهَا، وَلَهُمْ حِكَايَاتٌ فِي ذَلِكَ غَرِيبَةٌ. حَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الرَّافِعِيُّ الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ، أَنَّهُ دَخَلَ فِي أَيَّامِ سُلُوكِهِ وَهُوَ فِي مَيْعَةِ شَبَابِهِ بُسْتَانًا فِي طَرَابُلُسَ يَعْمَلُ فِيهِ نِسَاءٌ مِنْ نَصَارَى لُبْنَانَ، فَإِذَا بِشَابَّةٍ جَمِيلَةٍ مِنْهُنَّ فِي مَكَانٍ خُلُوٍّ، فَنَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى هَمَّ بِمُبَاشَرَتِهَا فَتَذَكَّرَ
454
قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (١٧: ٣٢) فَتَرَدَّدَ وَانْكَمَشَ ثُمَّ سَاوَرَتْهُ ثَوْرَةُ الْغُلْمَةِ تُهَوِّنُ لَهُ الْأَمْرَ، وَلَجَّ بِهِ الْوَسْوَاسُ: هَلُمَّ هَلُمَّ، فَقَوِيَ سُلْطَانُ الْآيَةِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى صَارَ قَلْبُهُ يَتْلُو بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ بِأُذُنَيْهِ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (١٧: ٣٢) قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ بِيَدِي فَوْقَ صَدْرِي هَكَذَا - يَعْنِي يَمْسَحُهُ كَمَنْ يُنَحِّي عَنْهُ شَيْئًا - أُحَاوِلُ أُسْكِتُ قَلْبِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ إِسْكَاتَهُ، فَتَوَلَّيْتُ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَحَفِظَنِي اللهُ بِذِكْرِ الْآيَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَلَهُ الْحَمْدُ.
وَأَقُولُ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَبْلُغْ مِنِّي غِرَّةً يَدْعُونِي فِيهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ قَطُّ، فَمَا ذَكَرْتُهُ فِي مَقْصُورَتِي فِي سِيَاقِ حَادِثَةِ امْتِحَانٍ امْتَحَنَنِي اللهُ تَعَالَى بِهَا، قَدِ اسْتَمَرَّ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى مِنْ سِنِّ الشَّبَابِ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، وَأَسْأَلُهُ بِفَضْلِهِ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. وَذَلِكَ قَوْلِي فِي فَتَاةٍ بَارِعَةِ الْجَمَالِ طَلَبَتْ مِنِّي أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَى صَدْرِهَا أَرْقِيهِ:
وَرُبَّ مَلْدَاءَ خَمِيصَةُ الْحَشَا بَهْنَانَةٌ تَرْنُو بِأَلْحَاظِ اللَّأَى
رَقْرَاقَةٌ شَفَّ زُجَاجُ وَجْهِهَا عَنْ ذَوْبِ يَاقُوتٍ وَرَاءَهُ جَرَى
خَاشِعَةُ اللِّحَاظِ وَالطَّرْفِ أَتَتْ تَلْتَمِسُ الدُّعَاءَ مِنِّي وَالرُّقَى
أَوَّاهُ يَا مَوْلَايَ صَدْرِي ضَاقَ عَنْ قَلْبِي وَمَا يَفِيضُ عَنْهُ مِنْ جَوَى
فَضَعْ عَلَيْهِ يَدَكَ الَّتِي بِمَا بَارَكَ فِيهَا اللهُ تُبْرِئُ الضَّنَى
أَنْتَ فَتًى خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ مَا زَالَ يَنْهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى
لَمْ يَقْتَرِفْ فَاحِشَةً قَطُّ وَلَمْ يَعْزِمْ وَلَا هَمَّ بِهَا وَلَا نَوَى
بِغُرَّةٍ مِنْهَا وَحُسْنِ نِيَّةٍ فِي مَعْزِلِ تَشَهِّيهِ أَقْصَى مَا اشْتَهَى
مِمَّا يُمَنِّيهِ بِهِ شَيْطَانُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَطْمَعُ مِنْهُ فِي خَنَا
لَكِنَّهُ اسْتَعْصَمَ رَاوِيًا لَهَا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَمَا نَهَى
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي (١٢: ٥٣) مِمَّا دُونَ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَهُوَ اللَّمَمُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢: ٥٣) وَلَا أَعُدُّ مِنَ اللَّمَمِ حُضُورَ الْمَرَاقِصِ النِّسَائِيَّةِ وَمَلَاهِيهَا، فَأَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّ نَفْسِي لَمْ تُطَالِبْنِي بِحُضُورِهَا يَوْمًا مَا، وَلَمْ يَجِدْ شَيْطَانُ الْجِنِّ مِنْ نَفْسِي مَيْلًا إِلَيْهَا فَيُزَيِّنُهَا لِي بِوَسْوَسَتِهِ، وَلَكِنْ دَعَانِي إِلَيْهَا بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ; لِأَجْلِ اخْتِبَارِهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا عَلَى مَعْرِفَةٍ، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ لِلدَّاعِي: حَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، عَلَى أَنَّنِي رَأَيْتُ نَمُوذَجًا مِنْ أَهْوَنِهَا عَرَضًا لَا قَصْدًا إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ مَلَاهِي تَمْثِيلِ الْقِصَصِ التَّارِيخِيَّةِ أَوِ الْوَصْفِيَّةِ فِي لَيْلَةٍ خَيْرِيَّةٍ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ بِاسْتِحْدَاثِ ذَلِكَ فِيهَا، وَأَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّنِي مَقَتُّهَا عَلَى غَرَابَةِ الصَّنْعَةِ وَالزِّينَةِ فِيهَا، وَخَرَجْتُ مِنَ الْمَكَانِ وَآلَيْتُ أَلَّا أَعُودَ إِلَيْهِ،
455
فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَاكِنُ بُؤَرَ فَسَادٍ، وَكَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَدَبِ وَالْعِبْرَةِ، وَتَمْرِينِ الْعَوَامِّ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْفَصِيحَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرَى النَّاسُ فِيهَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الزِّيِّ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَى فِي الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ، فَأَصْبَحَتْ كَالْخَمْرِ، إِثْمُهَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهَا.
قَدْ يَقُولُ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِالْفَاحِشَةِ: إِنَّكَ قَدْ فَضَّلْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ بِزَعْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَهُمَّ وَهُوَ قَدْ هَمَّ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ اخْتَلَفَتِ الْحَالُ وَالدَّاعِيَةُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَهُمَّ بِالْفَاحِشَةِ، وَإِنَّمَا هَمَّتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَهَمَّ هُوَ بِالِانْتِقَامِ، وَهُوَ بَطْشُهَا بِهِ بِالْقَتْلِ أَوِ الضَّرْبِ، وَدِفَاعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ، وَشَوَاهِدُهُ تَقَعُ دَائِمًا، وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ هَمَّ بِالشَّخْصِ فِي مَقَامِ الْخِلَافِ وَالْمُغَاضَبَةِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ الْهَمُّ بِالضَّرْبِ أَوْ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الْمَرْأَةَ هَمَّتْ بِالرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْهَمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ دُونَ الشَّخْصِ، وَهِيَ فِي الْمُبَاشَرَةِ مُوَاتِيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا، وَمَا اسْتَبَقَا الْبَابَ إِلَّا وَهُوَ فَارٌّ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبِهَا، وَهِيَ مُوَاثِبَةٌ لَهُ تُرِيدُ الْبَطْشَ بِهِ لِإِهَانَتِهِ إِيَّاهَا بِمُخَالَفَتِهَا وَهُوَ غُلَامُهَا، بَعْدَ أَنْ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا بِبَذْلِهَا لَهُ. وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ (١٢: ٢٤) إِلَّا عِصْمَتُهُ مِنَ الْبَطْشِ بِهَا دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ السُّوءُ، وَعِصْمَتُهُ مِمَّا دَعَتْهُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفَحْشَاءُ، وَلَوْلَا الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ فِي الْقِصَّةِ لَمَا خَطَرَ بِبَالِ الْمُفَسِّرِينَ الرَّاسِخِينَ فِي ذَوْقِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ
هَذَا الْمَعْنَى، وَكَمْ لَفَتَتْهُمْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ عَمَّا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهَا، فَتَأَوَّلُوا وَتَكَلَّفُوا; لِتَصْحِيحِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا؟ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ وَقَرِيبٌ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآرَائِهِ الَّتِي تَرَبَّى عَلَيْهَا، وَمُنَاسِبٌ لِحَالِهِ وَشُعُورِهِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ فِي حَالِ نُعَاسٍ أَوْ فُتُورٍ زَيَّنَ لَهُ النَّوْمَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ إِلَى وَقْتِ الْيَقَظَةِ وَالنَّشَاطِ; لِأَجْلِ إِقَامَتِهَا كَمَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى! ! فَإِذَا خَالَفَهُ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ زَيَّنَ لَهُ بِوَسْوَسَتِهِ الْعَجَلَةَ وَالِاخْتِصَارَ، وَقِرَاءَةَ السُّوَرِ الْقِصَارِ، أَوْ قِرَاءَةَ السُّورَةِ مِنْ مُتَوَسِّطِ الْمُفَصَّلِ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا وَجَدَ مِنْهُ جِدًّا وَنَشَاطًا فِيهَا فَقَدْ يُزَيِّنُ لَهُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّطْوِيلِ; لِيُسْرِعَ إِلَيْهِ الْمَلَلُ، وَ " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَإِذَا كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ الدِّينِيَّةُ مُنَفِّرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، أَغْرَاهُ بِمُقَدِّمَاتِهَا وَوَسَائِلِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَرُبَّمَا أَفْتَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٤: ٣١) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَنْ يَحْتَقِرَ الْإِنْسَانُ الصَّغَائِرَ وَيَتَعَمَّدَهَا وَيُوَاظِبَ عَلَيْهَا كَالْمُسْتَحِلِّ لَهَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنَ التَّدَرُّجِ مِنْهَا إِلَى الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّمَمُ، وَهُوَ مِمَّا يُلِمُّ بِهِ الْمَرْءُ إِذَا مَا عَرَضَ لَهُ، وَلَا يَتَعَمَّقُ فِيهِ وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَتُوبُ مِنْهُ، (وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا الْمَعْنَى
456
فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ - ج ٤) فَإِذَا تَابَ تَنْتَقِلُ نَفْسُهُ بِهِ مِنْ دَرَكَةِ (النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ) إِلَى دَرَجَةِ (النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) وَلَا يَزَالُ يُجَاهِدُهَا فِي مِثْلِهِ إِلَى أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى دَرَجَةِ (النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ) فَإِذَا هُوَ أَطَاعَ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فَإِنَّهَا تَهْبِطُ بِهِ إِلَى دَرَكَةِ الْفُحْشِ وَالْفُجُورِ، وَرُبَّمَا تَهْوِي بِهِ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَنْ يُدْمِنُ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى بَعْضِ الْحِسَانِ فَيَنْتَقِلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمُغَازَلَةِ، وَمِنَ الْمُغَازَلَةِ إِلَى الْمُهَازَلَةِ، وَمِنَ الْمُهَازَلَةِ إِلَى الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاعَلَةِ، وَمِنْهَا إِلَى الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ:
فَلَمَّا رَأَتْنِي رَأْرَأَتْ ثُمَّ أَقْبَلَتْ تُهَازِلُنِي وَالْهَزْلُ دَاعِيَةُ الْعُهْرِ
وَقَالَ شَاعِرٌ مُصِرٌّ فِي التَّنَقُّلِ مِنْ كُلِّ حَالَةٍ إِلَى مَا بَعْدَهَا:
نَظْرَةٌ فَابْتِسَامَةٌ فَسَلَامٌ فَكَلَامٌ فَمَوْعِدٌ فَلِقَاءٌ
وَقَدِ اسْتَفْتَانِي شَابٌّ مِصْرِيٌّ افْتُتِنَ بِفَتَاةٍ شَغَفَتْهُ حُبًّا، فَكَانَ يَخْلُو بِهَا - لِمَا فِي مِصْرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَثِيرِينَ - فَيَتَدَاعَبَانِ حَتَّى يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْفَضِيحَةَ الْكُبْرَى، ثُمَّ يَتَفَارَقَانِ فَيَنْدَمُ وَيَتُوبُ، وَيَعْزِمُ أَلَّا يَعُودَ، حَتَّى إِذَا مَا زَارَتْهُ نَقَضَ الْعَزْمَ، ثُمَّ يُفَارِقُهَا فَيُبْرِمُهُ وَيُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ تَغْلِبُهُ عَلَى أَمْرِهِ فَيَنْكُثُ مَا أَبْرَمَ، وَيَحْنَثُ بِمَا أَقْسَمَ، حَتَّى قَالَ أَخِيرًا: لَئِنْ عُدْتُ لَأَكُونَنَّ بَرِيئًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ عَادَ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، لَا يَمْلِكُ تِجَاهَ سِحْرِ فَاتِنَتِهِ شَيْئًا مِنْ قُوَّةِ إِرَادَتِهِ، فَعَظُمَ هَذَا الْحِنْثُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِ، وَجَاءَنِي مُسْتَفْتِيًا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَوَعَظْتُهُ وَأَرْشَدْتُهُ بِمَا أَلْهَمَنِي اللهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ انْتَهَتْ فِتْنَتُهُ، وَقَدْ حَدَثَ هَذَا مُنْذُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً هَبَطَتْ بِهَا الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ إِلَى الدَّرَكَاتِ السُّفْلَى مِنَ الْإِبَاحَةِ.
الرَّاجِحُ أَنَّ هَذَا الشَّابَّ مِنْ أَحَدِ الْبُيُوتِ الَّتِي لَا تَزَالُ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ، وَأَخْلَاقِ الْعِفَّةِ وَالْحَيَاءِ الْمَوْرُوثَةِ، وَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ وَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ الَّتِي كَانَ بِهَا الشَّعْبُ ذَا وُجُودٍ مُمْتَازٍ مُسْتَقِلٍّ فِي نَفْسِهِ، فَطَفِقَ دُعَاةُ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَإِبَاحَةِ الشَّهَوَاتِ يَهْدِمُونَهَا بِاسْمِ التَّجْدِيدِ الْمَدَنِيِّ، وَالتَّقْلِيدِ الْأُورُبِّيِّ، وَمِنْهُ وُجُوبُ السُّفُورِ الَّذِي يَعْنُونَ بِهِ إِبَاحَةَ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَمُعَاشَرَةِ الْفِتْيَانِ لِلْفَتَيَاتِ بِحُجَّةِ التَّمْهِيدِ لِلزَّوَاجِ عَنْ تَعَارُفٍ وَحُبٍّ وَاخْتِبَارٍ... وَقَدْ تَفَاقَمَتِ اسْتِبَاحَةُ التَّهَتُّكِ وَالْفُجُورِ فِي هَذِهِ السِّنِينَ إِلَى حَدٍّ يُنْذِرُ بِهَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَالنِّسَاءُ يَرْقُصْنَ مَعَ الرِّجَالِ كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ، وَيَسْبَحْنَ مَعَهُنَّ فِي شَوَاطِئِ الْبِحَارِ، وَقَلَّمَا تُعَاشِرُ الْفَتَاةُ الْعَذْرَاءُ شَابًّا، وَلَوْ بِقَصْدِ الزَّوَاجِ عَنْ تَعَرُّفٍ وَحُبٍّ وَاخْتِبَارٍ، إِلَّا وَيَنْتَهِي هَذَا الِاخْتِبَارُ بِفَضِيحَةِ الِافْتِرَاقِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ الزَّوَاجُ مَضْمُونًا، وَإِذَا وَقَعَ لَا يَكُونُ الْوِفَاقُ غَالِبًا، وَلَا حُبُّ شَهْوَةِ الصِّبَا دَائِمًا، بَلْ يَصِيرُ الِاخْتِبَارُ لِكُلِّ مِنْهُمَا عَادَةً مِنَ الْعَادَاتِ، وَالتَّنَقُّلُ مِنْ حَبِيبٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَفْتَنِ اللَّذَّاتِ، وَإِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ.
457
وَقَدِ اسْتَفْتَانِي رَجُلٌ فِي امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ تَخْتَلِفُ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَلَا وَطَنِيٍّ، تَزُورُهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْأُسْبُوعِ، فَتَمْكُثُ مَعَهُ إِلَى قُرْبِ الْمَغْرِبِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِيذَانُ بَعْلِهَا بِذَلِكَ؟، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ افْتِتَانِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْخَبِيثَةِ بِهَذَا الرَّجُلِ الْخَبِيثِ أَنَّهَا عَرَفَتْهُ عَامِلًا فِي صَيْدَلِيَّةٍ
قَصَدَتْهَا مَرَّةً لِشِرَاءِ دَوَاءٍ مِنْهَا، فَتَصَبَّاهَا حَتَّى صَارَتْ تَخْتَلِفُ إِلَى الصَّيْدَلِيَّةِ لِأَدْنَى حَاجَةٍ ثُمَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَخْ.
فَسَدَتِ الْعَقَائِدُ وَالْأَخْلَاقُ وَتُرِكَتِ الْعِبَادَاتُ، وَأُبِيحَتِ الْأَعْرَاضُ وَاسْتُبِيحَتِ الْمُحَرَّمَاتُ وَعُبِدَ الشَّيْطَانُ فِي مَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ، وَتُوجَدُ جَمْعِيَّاتٌ مِنَ الرِّجَالِ وَمِنَ النِّسَاءِ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ كُلَّ هَذِهِ الْفَضَائِحِ وَالْقَبَائِحِ بِاسْمِ التَّجْدِيدِ وَالتَّمَدُّنِ، وَلَهُمْ جَرَائِدُ تَنْشُرُ دِعَايَةَ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَالْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، إِلَّا مِنْ بَعْضِ قُيُودِ قَانُونِ الْعُقُوبَاتِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ مُنْذِرٌ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ مُحَذِّرٌ، قَالُوا: وَمَا الشَّيْطَانُ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الشَّيْطَانِ؟ فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ أَطِبَّاءَ الْأَرْوَاحِ وَأَسَاتِذَةَ أَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِ، قَدْ حَذَّرُونَا بِأَمْرِ اللهِ خَالِقِ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ لِلْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُحَذِّرُنَا أَطِبَّاءُ الْأَجْسَادِ مِنْ " مَيُكْرُوبَاتِ " الْأَمْرَاضِ، فَهَلْ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ نَرُدَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاءِ بِحُجَّةِ أَنَّنَا لَمْ نَرَ تِلْكَ الْمَيُكْرُوبَاتِ الْمَرَضِيَّةَ، وَأَلَّا نَقْبَلَ كَلَامَهُمْ، وَلَا نَسْتَعْمِلَ أَدْوِيَتَهُمْ إِلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ مَا رَأَوْا، وَاخْتِبَارِ مَا اخْتَبَرُوا؟ أَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ وَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ بَلَى وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ صَحَّتْ عَقَائِدُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَصَلُحَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَحُفِظَتْ صِحَّتُهُمْ وَأَعْرَاضُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَتَجْرِبَةُ مُعَالَجَتِهِمْ لِأَمْرَاضِ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ، أَثْبَتُ مِنْ تَجْرِبَةِ مُعَالَجَةِ الْأَطِبَّاءِ لِأَمْرَاضِ الْأَجْسَادِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ أَيْضًا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الشَّيَاطِينِ هُمْ أَشَدُّ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، وَمِنْهُمْ: سِكِّيرُونَ مُقَامِرُونَ، زُنَاةٌ لُوطِيُّونَ، كَذَّابُونَ مُنَافِقُونَ، مُرْتَشُونَ سَرَّاقُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (٦: ١١٢، ١١٣).
وَفِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ الْغَيُّ: الْفَسَادُ. وَالْمَدُّ وَالْإِمْدَادُ الزِّيَادَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ يُمِدُّونَهُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْإِمْدَادِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ
الْمِيمِ مِنَ الْمَدِّ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ يُمَادُّونَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُشَارَكَةِ، وَالْمَدُّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ (١٣: ٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (٢٥: ٤٥) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ (٣١: ٢٧) وَفِي مَدِّ النَّاسِ فِيمَا يُذَمُّ وَيَضُرُّ كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا (١٩: ٧٥)
وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (١٩: ٧٩) وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٢: ١٥) وَأَمَّا الْإِمْدَادُ فَفِيمَا يُحْمَدُ وَيَنْفَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (٢٦: ١٣٣) وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (١٧: ٦) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ (١٧: ٢٠) وَمِنْهُ إِمْدَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَحُمِلَتْ قِرَاءَةُ نَافِعٍ هُنَا عَلَى التَّهَكُّمِ. وَالْإِقْصَارُ: التَّقْصِيرُ، وَأَقْصَرَ عَنِ الْأَمْرِ تَرَكَهُ وَكَفَّ عَنْهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى مَعَ سَابِقِهِ: أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. لِحَمْلِهِمْ عَلَى مُحَاكَاةِ الْجَاهِلِينَ وَالْخَوْضِ مَعَهُمْ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ، تَذَكَّرُوا فَأَبْصَرُوا فَحَذِرُوا وَسَلِمُوا، وَإِنْ زَلُّوا تَابُوا وَأَنَابُوا، وَأَنَّ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْجَاهِلُونَ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ يَتَمَكَّنُ الشَّيَاطِينُ مِنْ أَهْوَائِهِمْ، فَيَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ; لِأَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى إِذَا شَعَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بِالنُّزُوعِ إِلَى الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَسْتَعِيذُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ فَيُبْصِرُوا وَيَتَّقُوا - إِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ شَيْطَانًا مِنَ الْجِنِّ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ وَيُغْرِيهِ بِالشَّرِّ - ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ وَلَا يَكُفُّونَ عَنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ ; فَلِذَلِكَ يُصِرُّونَ عَلَى الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ لِفَقْدِ الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ وَالْوَاعِظِ الْقَلْبِيِّ، وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الشَّيْطَانِ بِالْجَمْعِ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ لَا الشَّخْصُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (٢: ٢٥٧) وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْجَاهِلِينَ، أَيْ وَإِخْوَانُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ، فَيَكُونُونَ أَعْوَانًا لِشَيَاطِينِ الْجِنِّ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا الِاجْتِبَاءُ: افْتِعَالٌ وَاخْتِصَاصٌ مِنَ الْجِبَايَةِ. يُقَالُ. جَبَى الْعَامِلُ الْمَالَ يَجْبِيهِ وَجَبَاهُ يَجْبُوهُ، إِذَا جَمَعَهُ لِلسُّلْطَانِ الْقَيِّمِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْأُمَّةِ. وَاجْتَبَاهُ إِذَا جَمَعَهُ وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ أَوِ احْتَازَهُ لَهَا، وَفِي الْكَشَّافِ: اجْتَبَى الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَبَاهُ لِنَفْسِهِ أَيْ جَمَعَهُ كَقَوْلِكَ اجْتَمَعَهُ - أَوْ جُبِيَ إِلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ أَيْ أَخَذَهُ، كَقَوْلِكَ جَلَيْتُ إِلَيْهِ الْعَرُوسَ فَاجْتَلَاهَا اهـ. وَالْآيَةُ هُنَا آيَةُ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمُعْجِزَةُ الْمُقْتَرَحَةُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ.
وَالْمَعْنَى: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ، بِأَنْ تَرَاخَى نُزُولُ الْوَحْيِ زَمَنًا مَا، قَالُوا:
459
لَوْلَا افْتَعَلْتَ نَظْمَهَا وَتَأْلِيفَهَا وَاخْتَرَعْتَهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ؟ أَوْ إِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْكَ قَالُوا: هَلَّا جَبَاهَا اللهُ لَكَ بِأَنْ مَكَّنَكَ مِنْهَا فَاجْتَبَيْتَهَا وَأَبْرَزْتَهَا لَنَا؟ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فَمَا أَنَا بِمُبْتَدِعٍ، وَلَا مُجْتَبٍ لِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِعِلْمِي وَبَلَاغَتِي، بَلْ أَنَا عَاجِزٌ عَنْ مِثْلِهِ كَعَجْزِكُمْ وَعَجْزِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَفِي مَعْنَاهُ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (١٠: ١٥) - أَوْ مَا أَنَا بِقَادِرٍ عَلَى إِيجَادِ الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَلَا بِمُفْتَاتٍ عَلَى اللهِ فِي طَلَبِهَا، وَإِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ لِمَا يُوحَى إِلَيَّ فَضْلًا مِنْ رَبِّي عَلَيَّ أَنْ جَعَلَنِي الْمُبَلِّغَ عَنْهُ - وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيَّ بَصَائِرُ وَحُجَجُ نَاهِضَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعُودُ مَنْ تَأَمَّلَهَا وَعَقِلَهَا بَصِيرَ الْعَقْلِ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ ; إِذْ هِيَ أَدَلُّ عَلَيْهِ مِمَّا تَطْلُبُونَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةً. وَقَدْ سَبَقَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٦: ١٠٤) فَيُرَاجَعُ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: وَهُوَ هُدًى كَامِلٌ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَرَحْمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ: كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَيْضًا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (٦: ١٥٥ - ١٥٧) الْآيَةَ، قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: بِالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ; لِأَنَّ الْبَصِيرَةَ قَدْ يَتَأَمَّلُهَا الْعَاقِلُ فَيُؤْمِنُ.
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
460
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُوصِّلَةِ لِنَيْلِ الرَّحْمَةِ بِالْقُرْآنِ، وَالْحَصَانَةِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ الِاسْتِمَاعُ لَهُ إِذَا قُرِئَ، وَالْإِنْصَاتُ مُدَّةَ الْقِرَاءَةِ، وَالِاسْتِمَاعُ أَبْلَغُ مِنَ السَّمْعِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَصْدٍ وَنِيَّةٍ وَتَوْجِيهِ الْحَاسَّةِ إِلَى الْكَلَامِ لِإِدْرَاكِهِ، وَالسَّمْعُ مَا يَحْصُلُ وَلَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَالْإِنْصَاتُ: السُّكُوتُ لِأَجْلِ الِاسْتِمَاعِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَاغِلًا عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَا يُقْرَأُ. فَمَنِ اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَفْهَمَ وَيَتَدَبَّرَ، وَهُوَ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يُرْحَمَ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِلْقُرْآنِ إِذَا قُرِئَ، قِيلَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَخَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِقِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِهِ، وَبِقِرَاءَةِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ شُرِعَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَحُرِّمَ بِنُزُولِهَا الْكَلَامُ فِيهَا.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ إِيجَابَهُمَا عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَحَدًا يَقْرَأُ، فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَتْرُكَ لَهُ الْمُشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ عِلْمَهُ، وَالْمُشْتَغِلُ بِالْحُكْمِ حُكْمَهُ، وَالْمُبْتَاعَانِ مُسَاوَمَتَهُمَا وَتَعَاقُدَهُمَا
وَكُلُّ ذِي شُغْلٍ شَغْلَهُ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَعْضُهَا تَبْلِيغًا لِلتَّنْزِيلِ وَبَعْضُهَا وَعْظًا وَإِرْشَادًا، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْمَعُهُ يَقْرَأُ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَشْغَلُهُ أَوْ يَشْغَلُ غَيْرَهُ عَنْهُ. وَهَذَا شَأْنُ الْمُصَلِّي مَعَ إِمَامِهِ وَخَطِيبِهِ ; إِذْ هُوَ مَوْضُوعُ الصَّلَاةِ وَالْوَاجِبُ فِيهَا ; وَلِهَذَا اسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى امْتِنَاعِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الْفَاتِحَةَ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ بِدُونِهَا جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ. وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ سُكُوتُ الْإِمَامِ بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ آيَةً آيَةً لَا يُعَدُّ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ لِلْقُرْآنِ، وَلَا غَيْرَ مُنْصِتٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْمَأْمُومِ كَغَيْرِهِ فِي مُتَمِّمَاتِ تَفْسِيرِهَا مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ.
وَمِنْ فُرُوعِ طَلَبِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ أَنَّ الْقَارِئَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ تَرْكُ قِرَاءَتِهِ لِلِاسْتِمَاعِ لِقَارِئٍ آخَرَ، بَلْ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ مَا يَرَاهُ خَيْرًا لَهَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَقَدْ يَخْشَعُ بَعْضُ النَّاسِ بِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، وَيَخْشَعُ آخَرُ بِالِاسْتِمَاعِ مَنْ غَيْرِهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الْقُرَّاءُ فِي مَكَانٍ اسْتَمَعَ كُلُّ حَاضِرٍ لِمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ أَوْ لِمَنْ يَرَى قِرَاءَتَهُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِهِ. وَمَا يَفْعَلُهُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ الَّتِي يُقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنُ بِمِصْرَ كَالْمَآتِمِ وَغَيْرِهَا مِنْ تَرْكِ الِاسْتِمَاعِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَتَكُونُ عَلَى أَشَدِّهَا لِمَنْ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ التَّالِي، وَأَمَّا تَعَمُّدُ الْإِعْرَاضِ عَنِ السَّمَاعِ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَكَادُ يَفْعَلُهُ مُؤْمِنٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ
461
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ عَلَى صَوْتِ الْقَارِئِ عَمْدًا، فَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَدَّبَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٤٩: ٢) فَرَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ عَلَى صَوْتِ التَّالِي لِكَلَامِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى بِأَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَالْأَدَبُ مَعَهُ فَوْقَ الْأَدَبِ مَعَ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ يُعَبِّرُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ كَذَا. وَلَا يَجُوزُ لِقَارِئٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَمِعُونَ وَيُنْصِتُونَ، فَشَذَّ بَعْضُهُمْ بِمُنَاجَاةِ صَاحِبِهِ بِالْجَنْبِ مِنْ غَيْرِ تَهْوِيشٍ
عَلَى الْقَارِئِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، كَانَ الْخَطْبُ فِي هَذَا هَيِّنًا لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْقِرَاءَةِ وَلَا يُنَافِي الِاسْتِمَاعَ.
وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى اسْتِمَاعِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ كَمَا يَحْرِصَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَأَنْ يَتَأَدَّبَ فِي مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ، وَمِلَاكُ هَذَا الْأَدَبِ لِلْقَارِئِ، أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا مِنْ حَالِ الْمَكَانِ، مَا يُعَدُّ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِي عُرْفِ النَّاسِ مُنَافِيًا لِلْأَدَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ آدَابًا وَأَحْكَامًا قَدْ يَخْتَلِفُ بَعْضُهَا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِقَادِ وَالْعُرْفِ، وَصَرَّحُوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَاضْطِجَاعٍ وَمَشْيٍ وَرُكُوبٍ فَلَا تُكْرَهُ فِي الطَّرِيقِ نَصًّا، وَلَا مَعَ حَدَثٍ أَصْغَرَ وَنَجَاسَةِ بَدَنٍ وَثَوْبٍ، وَلَكِنْ يُمْسَكُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي حَالِ الْحَدَثِ، وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لَهَا اسْتِحْبَابًا، وَلَا سِيَّمَا لِلْقَارِئِ فِي الْمُصْحَفِ، وَتُكْرَهُ مَعَ الْجِنَازَةِ جَهْرًا; لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَفِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ بِأَنْ يُجْلَسَ فِيهَا لِلْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا مَنْ مَرَّ بِمَكَانٍ مِنْهَا وَهُوَ يَقْرَأُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ الْجُلُوسُ فِي بَعْضِ الْمَلَاهِي غَيْرِ الْمُبَاحَةِ لَا يُكْرَهُ لَهُ التِّلَاوَةُ سِرًّا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتْلُوَ فِي بَيْتِهِ إِذَا كَانَتْ زَوْجُهُ غَيْرَ مَسْتُورَةِ عَوْرَةِ الصَّلَاةِ.
وَتُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّغَنِّي بِالنَّغَمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ وَالْخُشُوعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ صِنَاعِيٍّ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ، حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ - زَادَ غَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ - يَجْهَرُ بِهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَأَذِنَ هُنَا بِمَعْنَى اسْتَمَعَ أَوْ سَمِعَ. وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا لِلرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ وَالْقَيْنَةُ الْأَمَةُ الْمُغَنِّيَةُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَالْخُشُوعِ، وَإِلَّا فَالتَّبَاكِي وَالتَّخَشُّعِ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللهِ قَبْلَهَا، وَيَدْعُوَ اللهَ فِي أَثْنَائِهَا بِحَسَبِ مَعَانِي الْآيَاتِ، كَسُؤَالِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَكَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَجْمَعُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَاسْتَحَبُّوا الِاقْتِدَاءَ بِهِ.
462
وَاعْلَمْ أَنَّ قُوَّةَ الدِّينِ وَكَمَالَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَاسْتِمَاعِهِ، مَعَ التَّدَبُّرِ بِنِيَّةِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. فَالْإِيمَانُ الْإِذْعَانِيُّ الصَّحِيحُ يَزْدَادُ وَيَقْوَى وَيَنْمَى وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ بِقَدْرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَيَنْقُصُ وَيَضْعُفُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ مَنْ تَرَكَ تَدَبُّرَهُ، وَمَا آمَنَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ إِلَّا بِسَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، وَلَا فَتَحُوا الْأَقْطَارَ، وَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ، وَاتَّسَعَ عُمْرَانُهُمْ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُمْ، إِلَّا بِتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَانَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ زُعَمَاءِ مَكَّةَ يُجَاهِدُونَ النَّبِيَّ وَيَصُدُّونَهُ عَنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ إِلَّا بِمَنْعِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٤١: ٢٦) وَمَا ضَعُفَ الْإِسْلَامُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى زَالَ أَكْثَرُ مُلْكِهِ إِلَّا بِهَجْرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَجَعْلِهِ كَالرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِشِفَاءِ أَمْرَاضِ الْأَبْدَانِ، وَجُلُّ فَائِدَةِ الصَّلَاةِ - وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ - بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّخَشُّعِ، فَإِذَا زَالَ مِنْهَا هَذَا صَارَتْ عَادَةً قَلِيلَةَ الْفَائِدَةِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمِنَ التَّطْوِيلِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إِيرَادُ شَيْءٍ مِنْهَا هُنَا.
وَإِنَّنِي أَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِأَوَّلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا الطَّوِيلِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ رِوَايَةِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ سَمَاعِ الْقُرْآنِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: " لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ.
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ، فَطَافَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدُّغُنَّةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدُّغُنَّةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلِيَقْرَأَ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ
463
وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدُّغُنَّةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرُكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدُّغُنَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " اهـ الْمُرَادُ مِنْهُ.
بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فِي سِيَاقِ حَصَانَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، أَمَرَنَا تَعَالَى بِالذِّكْرِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِلْقُرْآنِ تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا وَلِغَيْرِهِ، فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ ذِكْرِهِ تَعَالَى حِصْنٌ لِلنَّفْسِ وَتَزْكِيَةٌ لَهَا فَقَالَ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ أُمِرَ بِأَنْ يَتَدَبَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يَسْمَعُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا الدُّعَاءُ - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَامٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ. وَالتَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةَ، وَهِيَ الذِّلَّةُ وَالضَّعْفُ وَالْخُضُوعُ بِكَثْرَةٍ وَشِدَّةِ عِنَايَةٍ. وَالْخِيفَةُ حَالَةُ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ - أَيْ وَاذْكُرْ رَبَّكَ الَّذِي خَلَقَكَ وَرَبَّاكَ بِنِعَمِهِ فِي نَفْسِكَ بِأَنْ تَسْتَحْضِرَ مَعْنَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَآلَائِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْكَ وَحَاجَتَكَ إِلَيْهِ مُتَضَرِّعًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ، رَاجِيًا نِعَمَهُ - وَاذْكُرْهُ بِلِسَانِكَ مَعَ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِكَ ذِكْرًا دُونَ الْجَهْرِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَفَوْقَ التَّخَافُتِ وَالسِّرِّ، بَلْ ذِكْرًا قَصْدًا وَسَطًا - كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٧: ١١٠) وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَةُ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ مُلَاحَظَةُ مَعَانِي الْقَوْلِ، وَكَأَيٍّ مِنْ ذِي وِرْدٍ يَذْكُرُ اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا يَعُدُّ بِالسِّبْحَةِ مِنْهُ الْمِئِينَ أَوِ الْأُلُوفَ ثُمَّ لَا يُفِيدُهُ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرِفَةً بِاللهِ وَلَا مُرَاقَبَةً لَهُ، بَلْ هُوَ عَادَةٌ تُقَارِنُهَا عَادَاتٌ أُخْرَى مُنْكَرَةٌ شَرْعًا. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ ذِكْرٌ لِسَانِيٌّ مَحْضٌ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْقَلْبِ. ذِكْرُ النَّفْسِ وَحْدَهُ يَنْفَعُ دَائِمًا، وَذِكْرُ اللِّسَانِ وَحْدَهُ قَلَّمَا يَنْفَعُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ذَنْبًا. وَالْأَكْمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ.
464
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى صِفَةَ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ بَيَّنَ وَقْتَهُ فَقَالَ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْغُدُوُّ مَصْدَرُ غَدَا يَغْدُو - كَعَلَا يَعْلُو عُلُوًّا - أَيْ ذَهَبَ غُدْوَةً وَهُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تُوسِّعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الذَّهَابِ مُطْلَقًا - وَيُقَابِلُهُ الرَّوَاحُ وَهُوَ الرُّجُوعُ - وَمِنْهُ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ (٣٤: ١٢) وَالْآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٣٣: ٤١، ٤٢) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدَّهْرِ أَوِ الْإِنْسَانِ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٧٦: ٢٥) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٣: ٤١) وَخُصَّ هَذَانِ الْوَقْتَانِ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّهُمَا طَرَفَا النَّهَارِ، وَمَنِ افْتَتَحَ نَهَارَهُ بِذِكْرِ اللهِ، وَاخْتَتَمَهُ بِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُرَاقِبَهُ تَعَالَى
وَلَا يَنْسَاهُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَأَهَمُّ الذِّكْرِ فِيهِمَا صَلَاتَا الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ اللَّتَانِ تَحْضُرُهُمَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَيَشْهَدَانِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا وَجَدَا عَلَيْهِ الْعَبْدَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ.
وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا يُتَسَامَحُ بِقِلَّةِ الذِّكْرِ فِيمَا بَيْنَ الْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ; لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَمَلِ لِلْمَعَاشِ، فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى مَرِضَ قَلْبُهُ، وَضَعُفَ إِيمَانُهُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ
إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوَيْنَا بِذِكْرِكُمْ وَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ
ثُمَّ عَزَّزَ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا النَّهْيَ بِمَا يُعَدُّ خَيْرَ أُسْوَةٍ لِلْإِنْسَانِ، وَهُوَ التَّشَبُّهُ وَالْمُشَارَكَةُ لِمَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ أَيْ: إِنَّ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُ كَحَمْلَةِ عَرْشِهِ وَالْحَافِّينَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا سِوَاهُ، وَهُمْ أَعْلَى مَقَامًا مِنَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَتَدْبِيرِ نِظَامِهَا كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ الْعَالِينَ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَمَا يَسْتَكْبِرُ عَنْهَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، الَّذِينَ عَدَّ بَعْضُهُمُ السُّجُودَ لِلَّهِ تَعَالَى حِطَّةً وَضِعَةً لَا تُحْتَمَلُ وَيُسَبِّحُونَهُ أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنِ اتِّخَاذِ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ وَالظَّهِيرِ وَالْمُسَاعِدِ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، كَمَا يَفْعَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ شُفَعَاءَ أَنْدَادًا لِلَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَيَعْبُدُونَهُمْ مَعَ اللهِ وَلَهُ يَسْجُدُونَ أَيْ: وَلَهُ وَحْدَهُ يُصَلُّونَ وَيَسْجُدُونَ، فَلَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِخَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ، وَأَقْرَبِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ.
وَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَنَا السُّجُودَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ سَمَاعِهَا إِرْغَامًا لِلْمُشْرِكِينَ وَاقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ الْعَالِمِينَ، وَمِثْلُهَا آيَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذِهِ هِيَ الْأُولَى فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ. وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خَيْرِ الذَّاكِرِينَ لَهُ، الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ الْمُسَبِّحِينَ بِحَمْدِهِ، السَّاجِدِينَ لَهُ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
465
خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ
وَهِيَ تَدْخُلُ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ
(أَوَّلُهَا) تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى إِيمَانًا وَعِبَادَةً وَتَشْرِيعًا، وَصِفَاتُهُ وَشُئُونُ رُبُوبِيَّتِهِ.
(ثَانِيهَا) الْوَحْيُ وَالْكُتُبُ وَالرِّسَالَةُ وَالرُّسُلُ. (ثَالِثُهَا) الْآخِرَةُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ. (رَابِعُهَا) أُصُولُ التَّشْرِيعِ وَبَعْضُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ. (خَامِسُهَا) آيَاتُ اللهِ وَسُنَنُهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ. (سَادِسُهَا) سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ وَشُئُونِ الْأُمَمِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي عُرْفِ عَصْرِنَا بِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ
تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى إِيمَانًا وَعِبَادَةً وَتَشْرِيعًا وَصِفَاتُهُ وَشُئُونُ رُبُوبِيَّتِهِ
(وَفِيهِ ١٢ أَصْلًا)
(١) دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَتَخْصِيصُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَكَوْنُ الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ شِرْكًا وَكُفْرًا بِاللهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ٢٩: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيْ: بِأَلَّا تَشُوبُهُ أَدْنَى شَائِبَةٍ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ دِينِكُمْ، كَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ كَقُبُورِهِمْ، فَذَلِكَ شِرْكٌ يُنَافِي خُلُوصَهُ لَهُ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، سُمِّيَ شِرْكًا أَوْ سُمِّيَ تَوَسُّلًا وَتَبَرُّكًا (رَاجِعْ ٣٣٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ مِنَ الْآيَةِ ٣٧: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٦٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) مِنْهُ، وَأَمَرنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ ٥٥ بِأَنْ نَدْعُوَهُ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً - وَنَهَانَا عَنِ الِاعْتِدَاءِ
فِي الدُّعَاءِ، وَفِي آيَةِ ٥٦ بِأَنْ نَدْعُوَهُ خَوْفًا وَطَمَعًا، وَفِي الْأَوَّلِ صِفَةُ دُعَاءِ الْإِخْلَاصِ اللِّسَانِيَّةُ، وَفِي الثَّانِيَةِ صِفَتُهُ الْقَلْبِيَّةُ (رَاجِعْ ٤٠٥ و٤١٠ وَمَا بَعْدَهُمَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
وَمِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَا حَكَاهُ عَنْ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِمْ،...... عَلَى أَنَّهُ أَصْلُ دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ. قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكَمَ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (٥٩)
466
وَمِثْلُهُ عَنْ رَسُولِهِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَةِ ٦٥ مَعَ حِكَايَةِ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (٧٠) وَمِثْلُهُ مَا حَكَاهُ عَنْ رَسُولِهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَةِ ٧٣ وَمَا حَكَاهُ عَنْ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَةِ ٨٥.
وَمِنْ بَيَانِ بُطْلَانِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَنَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ اتِّخَاذًا مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ ١٣٨ - ١٤٠ مِنْ طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَالْقَوْمِ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، وَرَدَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي ص ٩١ - ١٠٢ ج ٩ ط الْهَيْئَةِ. وَفِيهِ بَيَانُ خَطَأِ الرَّازِيِّ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْإِلَهِ لِجَرْيِهِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
(٢) إِنْكَارُ الشِّرْكِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَكَوْنُهُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ فِي الْآيَاتِ ١٧٢ و١٧٣ فِي أَخْذِ الرَّبِّ الْمِيثَاقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَنِي آدَمَ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي هَذَا الْجُزْءِ.
(٣) بَيَانُ أَنَّ شَارِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فِي الْعَقَائِدِ وَلَا الْعِبَادَاتِ، وَلَا التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَ التَّشْرِيعَ لَكُمْ بِمَا ذُكِرَ كَالَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (٩: ٣١) يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ كَمَا فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، وَلَا أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَكُمْ فِيمَا عَدَا مَا سَخَّرَهُ اللهُ لَكُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا عَيْنُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَاتِّبَاعُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ هُنَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي الْآيَةِ ١٥٨ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ فِيمَا أَرْسَلَهُ بِهِ وَحْيًا وَبَيَانًا لِلْوَحْيِ عَيْنَ طَاعَتِهِ كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا مِنْ دُونِهِ بَلْ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ
فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (يُرَاجَعُ ص٢٧٢ - ٢٧٥ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
(٤) حَظْرُ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِتَشْرِيعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآيَةِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَفَاسِدَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الشِّرْكِيَّةِ ص٣٥٤ - ٣٥٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ خَطَأُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَالَّذِينَ حَكَّمُوا الْعَقْلَ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ.
(٥) كَوْنُ جَمِيعِ مَا يَشْرَعُهُ اللهُ تَعَالَى حَسَنًا فِي نَفْسِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْقَبِيحِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ٢٨ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ ٣٣ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ إِلَخْ فَإِنَّ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ، وَالْإِثْمُ مَا يَضُرُّ، وَالْبَغْيُ تَجَاوَزُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ
467
وَالشَّرَكُ بِاللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، أَيْ بُرْهَانٍ جَهْلٌ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ جَهْلٌ وَتَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ قَبِيحٌ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَبَعْضُهُ قَبِيحٌ فِي الْحِسِّ أَيْضًا، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّ خَفِيَ حُسْنُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضِ ضُعَفَاءِ النَّاظِرِينَ، وَكُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ جَهِلَ قُبْحَهُ بَعْضُ الْغَاوِينَ، وَلَكِنَّ الْعَقْلَ عَلَى إِدْرَاكِهِ لِذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ كُلِّ حَسَنٍ وَكُلِّ قَبِيحٍ بِالْإِحَاطَةِ وَالتَّحْدِيدِ، بَلْ تَصُدُّهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْقَبَائِحِ التَّقَالِيدُ وَالْعَادَاتُ وَضَعْفُ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ.
(٦) اسْتِوَاءُ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ وَعُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ ٥٤ وَفِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقُ الْحَقِّ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَهُوَ فِي ٤٠١ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ.
(٧و ٨) تَكْلِيمُ الرَّبِّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَسْأَلَةُ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي (١٤٣) إِلَخْ وَتَفْسِيرُهَا ص١٠٧ - ١٦٨ ج ٩ ط الْهَيْئَةِ. وَفِيهِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْحُكْمِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَا لَا نَجِدُ لَهُ نَظِيرًا فِي كِتَابٍ، لَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَا فِي مُتَعَلَّقَاتِهِمَا، كَتَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَالْحُجُبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَتَجَلِّيهِ
فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمَسَائِلِ الْأَرْوَاحِ وَالْكَشْفِ وَالرُّؤْيَا وَالْعَمَلِ النَّوْمِيِّ وَالتَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ، وَأَنْوَاعِ مُدْرَكَاتِ النَّفْسِ، وَمَادَّةِ الْكَوْنِ الْأُولَى وَالنُّورِ وَالْكَهْرَبَاءِ، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ، وَالْخِلَافِ فِي إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ كُنْهِ الْخَالِقِ وَأَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْهَا مَسَائِلُ الْكَلَامِ وَمَرَاتِبُهُ، وَمِنْ ذِكْرِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى. وَتَحْقِيقِ رُجْحَانِ مَذْهَبِ السَّلَفِ عَلَى جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَفَلْسَفَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَشُئُونِهِ.
(٩) هِدَايَةُ اللهِ وَإِضْلَالُهُ فِي آيَةِ ١٧٨ مِنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَخْ. وَآيَةُ ١٨٦ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ (١٨٦) إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقُ أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ لَا يَقْتَضِي الْإِجْبَارَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ مِنْ أَعْمَالِهِ بِالْأَسْبَابِ، فَلَيْسَ حُجَّةً لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ شَايَعَهُمْ، وَلَا لِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (١٤٦) وَكَذَلِكَ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ فِي آيَتَيْ ١٠٠ و١٠١ كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ.
(١٠) الْكَلَامُ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَغْفِرَتِهِ، وَمِنْهُ قُرْبُ رَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي آيَةِ ٥٦ وَكَوْنُهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ فِي الْآيَةِ ١٥١ وَرَحْمَتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ لِلتَّائِبِينَ فِي الْآيَةِ ١٥٣ وَكَوْنُهُ خَيْرَ الْغَافِرِينَ ١٥٥ وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ وَمَنْ يَكْتُبُهَا أَيْ يُوجِبُهَا لَهُمْ ١٥٦.
(١١) أَسْمَاءُ اللهِ الْحُسْنَى وَدُعَاؤُهُ بِهَا وَالْإِلْحَادُ فِيهَا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ ١٨٠ وَفِي تَفْسِيرِهَا
468
تَحْقِيقُ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا إِلَخْ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ).
(١٢) الْأَمْرُ بِذِكْرِ اللهِ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً سِرًّا وَجَهْرًا وَكَوْنُهُ غِذَاءَ الْإِيمَانِ، وَبِعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ خَتَمَ اللهُ بِهِمَا السُّورَةَ ٢٠٥ و٢٠٦.
الْبَابُ الثَّانِي
الْوَحْيُ وَالْكُتُبُ وَالرِّسَالَةُ وَفِيهِ ٣ فُصُولٌ فِيهَا ٢٤ أَصْلًا أَوْ مَسْأَلَةً
(مَا جَاءَ فِيهَا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ)
(١) إِنْزَالُ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِنْذَارِ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ، وَفِيهَا نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ فِي صَدْرِهِ حَرَجٌ مِنْهُ.
(٢) أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاتِّبَاعِ الْمَنَزَّلِ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَهُوَ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَلَا يُرْجَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِكِتَابٍ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ ١٨٥: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
(٣) وَصْفُهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ فَصَّلَهُ عَلَى عِلْمٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ ٥٢.
(٤) بَيَانُهُ تَعَالَى لِمَا سَيَكُونُ عِنْدَ إِتْيَانِ الْقُرْآنِ، أَيْ ظُهُورِ صِدْقِهِ بِوُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ نَسُوهُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا يُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ، وَيَشْهَدُونَ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِالْحَقِّ، وَيَتَمَنَّوْنَ الشُّفَعَاءَ أَوِ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَهُوَ فِي الْآيَةِ ٥٣.
(٥) وِلَايَةُ اللهِ لِرَسُولِهِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ١٩٦ (٦) الْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْإِنْصَاتِ لَهُ رَجَاءَ الرَّحْمَةِ بِسَمَاعِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ.
(مَا جَاءَ فِيهَا خَاصًّا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (٧) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أَيْ: الْكِتَابِ، هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِيقِ الصَّدْرِ بِعَظَمَةِ الْقُرْآنِ، وَجَلَالِ الْأَمْرِ الَّذِي أُنْزِلُ لِأَجْلِهِ، وَشِدَّةِ وَقْعِ سُلْطَانِهِ فِي الْقَلْبِ، أَوْ عَنْ ضِيقِهِ بِمَشَقَّةِ الْإِنْذَارِ بِهِ، وَالتَّصَدِّي لِهِدَايَةِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ وَالضَّلَالُ، أَوْ بِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ شِدَّةِ مُعَارَضَةِ الْكُفَّارِ وَعُدْوَانِهِمْ - وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ، وَقِيلَ: هُوَ حُكْمٌ مِنْهُ تَعَالَى بِمَضْمُونِهِ (رَاجِعْ ص ٢٦٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨
ط الْهَيْئَةِ)
469
(٨) أَمْرُهُ تَعَالَى لَهُ بِأَنْ يَعْتَزَّ بِأَنَّهُ هُوَ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَلَا خَوْفَ عَلَى أَتْبَاعِهِ مِنِ اضْطِهَادِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ ١٩٦ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى.
(٩) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ١٨: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الْآيَةَ. وَهِيَ تَفْنِيدٌ لِرَمْيِ بَعْضِ مُشْرِكِي مَكَّةَ إِيَّاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُنُونِ، يَعْنِي أَنَّ التَّفَكُّرَ الصَّحِيحَ فِي حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى يَنْفِي أَنْ يَكُونَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْنَى مَسٍّ مِنَ الْجُنُونِ كَمَا زَعَمُوا، فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَفَكَّرُوا (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ)
(١٠) بَيَانُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، وَمَتَى تَقُومُ، بَلْ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الْخَاصِّ بِاللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ ١٨٧.
(١١) بَيَانُ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ - أَيْ وَلَا لِغَيْرِهِ بِالْأَوْلَى - نَفْعًا وَلَا ضَرًّا - إِلَّا مَا مَكَّنَهُ اللهُ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مُؤَيِّدًا بِالدَّلِيلِ الْحِسِّيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.
(١٢) بَيَانُ عُمُومِ بَعْثَتِهِ، وَشُمُولِ رِسَالَتِهِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالشَّهَادَةُ لَهُ فِي كُتُبِهِمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ حَذْفُ مَفْعُولِ لِتُنْذِرَ بِهِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ الْعَامُّ بَعْدَهُ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ. وَالنَّصُّ فِي إِرْسَالِهِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ رَحْمَتَهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (١٥٧) إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا نُصُوصَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِيهَا (ص ١٩٩ - ٢٥٥ ج ٩ ط. الْهَيْئَةِ).
وَأَمَّا النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي عُمُومِ الرِّسَالَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (١٥٨) الْآيَةَ، وَكَذَا كُلُّ خِطَابٍ خُوطِبَ بِهِ بَنُو آدَمَ فِي الْآيَاتِ
٢٦ و٢٧ و٣١ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ آيَاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أُمَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَأُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي الِاشْتِرَاكِ الْعَامِّ مَا تَرَى فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ.
مَا وَرَدَ فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالرُّسُلِ
(١٣) بِعْثَةُ الرُّسُلِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي (٣٥) إِلَخْ. وَيَدُلُّ عَلَى إِرْسَالِهِمْ إِلَى الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا (٤) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْكَثِيرَةِ أُمَمُ الرُّسُلُ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.
470
(١٤) سُؤَالُهُ الرُّسُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ التَّبْلِيغِ وَسُؤَالُ الْأُمَمِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
(١٥) جَزَاءُ بَنِي آدَمَ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَطَاعَتِهِمْ، وَعَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ ٣٥ و٣٦.
(١٦) وَظِيفَةُ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ: بِشَارَةً وَإِنْذَارًا، قَوْلًا وَعَمَلًا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْآيَاتِ: ٢ و٦٢ و٩٣ و١٨٨.
(١٧) أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الرُّسُلُ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَنَفْيِ عِبَادَةِ إِلَهٍ غَيْرِهِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْآيَاتِ ٥٩ و٦٥ و٧٠ و٧٣ و٨٥.
(١٨) مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَشْمَلُ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَالْحُجَجَ الْعَقْلِيَّةَ كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ ١٣ و٨٥ و١٠٣ و١٠٥ و١٠٧ و١٠٨.
(١٩) الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رُسُلَهُ هِيَ حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ، وَهِيَ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْإِيمَانِ اقْتِضَاءً عَقْلِيًّا، وَلَا مُلْجِئَةٍ إِلَيْهِ طَبْعًا، وَلَوْ كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لَهُ قَطْعًا أَوْ مُلْجِئَةً إِلَيْهِ طَبْعًا لَمَا تَخَلَّفَ عَنْهَا، وَلَكَانَ خِلَافَ مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَالْمُلْجَأُ لَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءً. وَنَحْنُ نَرَى فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ السَّحَرَةَ قَدْ آمَنُوا يَقِينًا عَلَى عِلْمٍ، وَأَنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنْ قَوْمِهِ ظَلُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الْآيَةُ
الْكُبْرَى قَالُوا إِنَّهَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (٢٧: ١٤) أَيْ: عَانَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنَادًا بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ بِهَا فِي الظَّاهِرِ مَعَ اسْتِيقَانِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْجُحُودِ هُوَ الظُّلْمُ وَالْعُلُوُّ وَالْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا وَصْفُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أَيْ كِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَائِرَ الشَّعْبِ كَانَ مُسْتَذَلًّا. وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِلرُّؤَسَاءِ لِجَهْلِهِ، وَقَدْ صَدَّقَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُوسَى سَاحِرٌ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا مُتَوَاطِئِينَ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِهِ; لِأَجْلِ إِخْرَاجِ فِرْعَوْنَ وَرِجَالِ دَوْلَتِهِ مِنْ مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِكِبْرِيَاءِ الْمُلْكِ بَدَلًا مِنْهُمْ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى، وَلَوْ فَهِمَ جُمْهُورُ الشَّعْبِ مِنَ الْآيَاتِ مَا فَهِمُوا لَآمَنَ كَمَا آمَنُوا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ مِنْ عُتُوِّ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا أَكْرَمَ مَنْزِلَةً فِي الدَّوْلَةِ مِنْ سَائِرِ الشَّعْبِ، وَلَكِنَّ كَرَامَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ بَالِغَةً دَرَجَةَ الْعَظَمَةِ وَالْعُلُوِّ الْمَانِعَةِ لِصَاحِبِهَا مِنْ تَرْكِهَا لِأَجْلِ الْحَقِّ، وَقَدِ امْتَازَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جَعَلَ اللهُ آيَةَ نُبُوَّتِهِ الْكُبْرَى عِلْمِيَّةً لَا صُعُوبَةَ فِي فَهْمِ دَلَالَتِهَا عَلَى عَامِّيٍّ وَلَا خَاصِّيٍّ، عَلَى أَنَّهُ أَيَّدَهُ فِي زَمَنِهِ بِعِدَّةِ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ.
471
(٢٠) نَصِيحَةُ الرُّسُلِ لِلْأُمَمِ وَأَمْرُهُمْ بِالْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ وَنَهْيُهُمْ عَنْ ضِدِّهِمَا كَمَا فِي الْآيَاتِ ٦٢ و٦٣ و٦٨ و٧٤ و٧٩ و٨٠ و٨٥ و٨٦ و٩٣.
(٢١) شُبْهَةُ الْأُمَمِ عَلَى الرُّسُلِ الَّتِي أَثَارَتْ تَعَجُّبَهُمْ وَاسْتِنْكَارَهُمْ هِيَ كَوْنُ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ رَجُلًا مِثْلَهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ ٦٣ و٦٩.
(٢٢) اتِّهَامُ الْكُفَّارِ رُسُلَ اللهِ بِالسِّحْرِ كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَالْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ بِاتِّهَامِ مُوسَى فِي الْآيَةِ ١٠٩ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ الْمِصْرِيِّينَ مَعَ مُوسَى. وَهِيَ شُبْهَةُ جَمِيعِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ عَلَى آيَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا أَمْرٌ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَهُ، وَمِنْ خَطَأِ الْمُتَكَلِّمِينَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْأَشْخَاصِ، وَقَدْ عَقَدْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فَصْلًا فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ لَا يَجِدُ الْقَارِئُ مِثْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ تَفَاسِيرِنَا وَكُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ وَهُوَ فِي ص٤١ - ٥٢ ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
(٢٣) عِقَابُ الْأُمَمِ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَهُوَ فِي الْآيَاتِ ٦٤ و٧٢ و٧٨ و٨٤ و٩١ و٩٢ و١٣٣ و١٣٦ و١٣٧.
(٢٤) قِصَصُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ. وَهِيَ مِنْ آيَةِ ٥٩ إِلَى ٩٣،
وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَسَحَرَتِهِ مِنْ آيَةِ ١٠٣ إِلَى ١٣٧، وَقِصَّتِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَحْدَهُمْ مِنْ ١٣٨ - ١٧١ وَفِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ مَا ذُكِرَ بَعْضُهُ فِي أَبْوَابٍ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَبَقِيَ مَا سَبَّبَ إِنْزَالَهَا وَإِنْزَالَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُصَرَّحِ بِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَكَوْنِهَا مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (١١: ٤٩) وَكَوْنِهَا تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُلَاقِي مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمْ، وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ فِي النُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (١١: ١٢٠) - وَكَوْنِهَا مَوْعِظَةً وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَوْعِظَةً وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَكَوْنِهَا عِبْرَةً عَامَّةً لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٢: ١١١) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ. فَقَدْ طَالَ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ جِدًّا.
472
الْبَابُ الثَّالِثُ عَالَمُ الْآخِرَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
(وَفِيهِ ١٢ أَصْلًا).
(الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) الْبَعْثُ وَالْإِعَادَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ٢٥: وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ وَفِي ٢٩: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ ; لِأَنَّهُ كَالْبَدْءِ أَوْ أَهْوَنُ عَلَى الْمُبْدِئِ بَدَاهَةً، فَكَيْفَ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بَدْءًا وَإِعَادَةً عَلَى سَوَاءٍ - وَفِي الْآيَةِ ٥٧ تَشْبِيهُ إِخْرَاجِ الْمَوْتَى بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ إِنْزَالِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا. وَهَذَا التَّشْبِيهُ يَتَضَمَّنُ الْبُرْهَانَ الْوَاضِحَ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بَعْدَ فَنَاءِ أَجْسَادِهِمْ، وَقَدْ أَطَلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ
مِنَ الْجِهَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ (فَتُرَاجَعُ فِي ٤١٨ - ٤٢٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
(الْأَصْلُ الثَّانِي) وَزْنُ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَى ثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) سُؤَالُ الرُّسُلِ فِي الْآخِرَةِ عَنِ التَّبْلِيغِ وَأَثَرِهِ، وَسُؤَالُ الْأُمَمِ عَنْ إِجَابَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) كَوْنُ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ، وَجَزَاءُ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ، وَدُخُولُ الْأُمَمِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي النَّارِ، وَلَعْنُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَشَكْوَى بَعْضِهِمْ مِنْ إِضْلَالِ بَعْضٍ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ، وَتَحَاوُرُهُمْ فِي ذَلِكَ، رَاجِعِ الْآيَاتِ ٣٦ - ٤١ و١٤٧ و١٧٩.
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ فِي الْآيَةِ ٣٥، وَجَزَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وِإِيرَاثُهُمُ الْجَنَّةَ وَحَالُهُمْ وَمَقَالُهُمْ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ ٤٢ و٤٣، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ مِنَ الْآيَةِ ٣٢: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) إِقَامَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ (٤٤) إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِهَا بَيَانٌ لِمَا فِي صِنَاعَاتِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ إِزَالَةِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِغْرَابِ مِنْ تَحَاوُرِ النَّاسِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَاتِ بَيْنَهُمْ رَاجِعْ ٣٧٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) الْحِجَابُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ الْأَعْرَافُ وَأَهْلُهُ وَتَسْلِيمُهُمْ
473
عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخِطَابُهُمْ لِأُنَاسٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي النَّارِ بِمَا يُذَكِّرُهُمْ بِضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَغُرُورِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ إِلَخْ. وَهُوَ فِي الْآيَاتِ ٤٦ - ٤٩.
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) نِدَاءُ أَصْحَابِ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَجَوَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ (٥٠) (الْأَصْلُ التَّاسِعُ) اعْتِرَافُ أَهْلِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَتَمَنِّيهِمُ الشُّفَعَاءَ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ، أَوِ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَحُكْمُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ كَانُوا
يَدْعُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا سَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ (٥٣) (الْأَصْلُ الْعَاشِرُ) الدُّعَاءُ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ مَعَ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ (١٥٦) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ تَشْرِيعًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَغَايَةُ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي السُّنَّةِ ٤ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ.
(الْأَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ) صِفَةُ أَهْلِ جَهَنَّمَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (١٧٩) إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِنَا لَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرٍ، وَلَا فِي كِتَابٍ آخَرَ - فَرَاجِعْهُ بِمَوْضِعِهِ فِي هَذَا الْجُزْءِ.
(الْأَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ) مَسْأَلَةُ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِهَا تَأْتِي بَغْتَةً وَهِيَ فِي الْآيَةِ ١٨٧ وَفِي تَفْسِيرِهَا مَبَاحِثُ مَسَائِلَ مُبْتَكَرَةٍ فِي أَشْرَاطِهَا.
الْبَابُ الرَّابِعُ
أُصُولُ التَّشْرِيعِ وَفِيهِ ٩ أُصُولٍ
(الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) بَيَانُ أَنَّ شَارِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَهُنَاكَ قَدْ ذُكِرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَقُّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُذْكَرُ هُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِشَرْعِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ: مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وُجُوبًا دِينِيًّا عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ يُثَابُ فَاعِلُهُ، وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا التَّشْرِيعُ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَدْ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لِلرَّسُولِ، وَلِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ الْوَاسِعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٤: ٥٩)
474
وَاشْتَرَطَ فِي هَذَا الْإِذْنِ أَنْ يُرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ، وَإِلَى الرَّسُولِ فِي عَهْدِهِ، وَإِلَى سُنَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ مَعَ بَيَانِ عِلَّتِهِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص١٤٦ - ١٨٠ ج ٥
ط الْهَيْئَةِ).
(الْأَصْلُ الثَّانِي) تَحْرِيمُ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ، وَالْأَخْذِ فِيهِ بِآرَاءِ الْبَشَرِ، وَهُوَ نَصُّ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَى النَّاسِ مِنْ رَبِّهِمْ وَهُوَ: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ (٧: ٣) وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ. وَمِنَ النُّصُوصِ فِي بُطْلَانِهِ الْإِنْكَارُ عَلَى احْتِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي الْآيَةِ ٢٨: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا الْآيَةَ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٣٣٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآيَةِ ١٧٣.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) تَعْظِيمُ شَأْنِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ ; لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ ٣٣: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا السُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ، فَتَقْيِيدُ تَحْرِيمِ الشِّرْكِ بِانْتِفَائِهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ ١٦٩: أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَسَيُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الرَّابِعِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ مِنْ آيَةِ ١٧٦: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ ١٨٤: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ وَفِي الْآيَةِ ١٨٥: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِلَخْ. - وَالْآيَةُ الْجَامِعَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ، وَلِكُلِّ مَا كَانَ مَصْدَرُهُ الرُّؤْيَةَ وَالسَّمَاعَ، وَهُمَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ مَصَادِرِ الْعِلْمِ.
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْعِلْمِ الشَّامِلِ لِلْعِلْمِ النَّقْلِيِّ وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَا بَيَّنَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُنَّةٍ، وَالْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْمَعْلُومَاتُ، فَفَارَقَ مَا قَبْلَهُ. وَمِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ ٢٨: أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ ٣٢: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهِيَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَبِالزِّينَةِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حَرَّمَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمَصَالِحِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، رَاجِعْ ص ٣٣٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ ٣٣ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَامَّةِ: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى
فِي آخِرِ آيَةِ ١٣١: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَهُوَ فِي زَعْمِ آلِ فِرْعَوْنَ وَخُرَافَاتِهِمْ أَنَّ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ
475
وَالْخَيْرَاتِ فَهُوَ حَقٌّ لَهُمْ، وَأَنَّ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَهُوَ بِشُؤْمِ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَتَطَيُّرِهِمْ بِهِمْ. وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَالْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِي الْعَالَمِ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ تَوْبِيخِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَآلِهَةِ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ آخِرِ الْآيَةِ ١٣٨ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، فَهَذِهِ جَامِعَةٌ لِبَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ، وَذَمِّ الْجَهْلِ بِهِمَا مَعًا، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّلَ تَجْهِيلَهُمْ أَوَّلًا بِعِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَثَانِيًا بِعِلَّةٍ دِينِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي (ص٩١ - ١٠١ ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ١٦٩: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَهُوَ مِنَ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ، وَلَكِنَّهُ أُيِّدَ بِالْعَقْلِيِّ فِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
فَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا قَبْلَهُ الْمُؤَيَّدَةُ بِأَضْعَافِهَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، تُثْبِتُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ لِشَأْنِ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ; لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِاللهِ وَشَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ - وَتَعْظِيمَ شَأْنِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مِنْ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى نَقْصِ أَهْلِ الْجَهْلِ بِهَا.
(الْأَصْلَانِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ) أَمْرُ النَّاسِ بِأَخْذِ زِينَتِهِمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَبِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الرِّزْقِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ بِقَيْدِ عَدَمِ الِاعْتِدَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِعُمُومِ فَضْلِ اللهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَأَنَّهَا تَكُونُ خَالِصَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ ٣١ و٣٢ وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَقُومُ عَلَيْهِمَا بِنَاءُ الْحَضَارَةِ بِعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَصِنَاعَاتِهَا، وَإِظْهَارِهَا لِمَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى عِبَادِهِ - وَهُمَا الْمُبْطِلَانِ لِأَسَاسِ الدِّيَانَةِ الْبِرَهْمِيَّةِ مِنْ جَعْلِ مَقْصِدِ الدِّينِ تَعْذِيبَ النَّفْسِ، وَحِرْمَانَهَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّةِ، وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّصَارَى، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ تَقْلِيدِهِمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى
زَعَمُوا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ خَالِيَةٌ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ تَصْرِيحَاتِ الْإِنْجِيلِ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَكَوْنِ الصَّائِمِينَ وَالْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ يَشْبَعُونَ هُنَالِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الْبَشَرِ يَقْوَى الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مَنْ كُلِّ أُمَّةٍ، بَدَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِتَرْكِ أَكَلِ اللُّحُومِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِالِاخْتِصَاءِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (٥: ٨٧) الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.
476
وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ كُلُّهُ بَعْضَ مُسْلِمِي الْمُتَصَوِّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي تَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَصَارَ الْجَاهِلُونَ بِكُنْهِ الْإِسْلَامِ يَعُدُّونَ الْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالَ فِي الدِّينِ، وَأَهْلَهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ خُرَافِيِّينَ. وَيُرَاجَعُ مَا فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَتَيْنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْ مُفَسِّرِينَا الْمُتَقَدِّمِينَ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى (ص٣٣٨ - ٣٥٠ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) هِدَايَةُ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ بِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ خِيَارَ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آيَةِ ١٥٩، وَخِيَارَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ ١٨١، فَهَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِهِ. وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ فِي الشَّرْعِ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا، وَفِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، وَالْعَدْلُ مَا تُحِرِّيَ بِهِ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوِ الْأَطْرَافِ الْمُتَنَازِعَةِ فِيهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّضْحِيَةُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ (٢٩) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْعَامُّ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ النَّاسِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ إِذْ صَارَ لِلْأُمَّةِ حُكْمٌ وَدَوْلَةٌ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨) وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي وُجُوبِ عُمُومِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَ تَفْسِيرِهَا. فَمَنْ تَحَرَّى الْعَدْلَ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ وَعَرَفَ مَكَانَهُ فَحَكَمَ بِهِ، كَانَ حَاكِمًا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى
نَصٍّ خَاصٍّ فِي الشَّرِيعَةِ بِهِ، فَإِنْ وَجَدَ النَّصَّ كَانَتِ الثِّقَةُ بِالْعَدْلِ أَتَمَّ بَلْ لَا حَاجَةَ مَعَ النَّصِّ إِلَى الِاجْتِهَادِ، كَمَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ الْخَاصِّ أَوْ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ بَاطِلٌ.
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) حَصْرُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣) يُرَاجَعُ بَيَانُ وَجْهِ الْحَصْرِ فِي تَفْسِيرِهَا (ص٣٥١ - ٣٥٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
(الْأَصْلُ التَّاسِعُ) بَيَانُ أُصُولِ الْفَضَائِلِ الْأَدَبِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الْجَامِعَةِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ مُعْجِزَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.
477
الْبَابُ الْخَامِسِ
فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ
(وَفِيهِ ١٤ أَصْلًا)
(١) خَلْقُ اللهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَنِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ بِأَمْرِهِ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ لَهُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ ٥٤ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي عِلْمَيِ الْفَلَكِ وَالْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ دُونَ عِلْمِ التَّنْجِيمِ الْخُرَافِيِّ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ الْغَرْبِ مِنَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَوْ ذُكِرَ أَبْسَطُهُ وَأَبْعَدُهُ عَنِ الْغَرَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْعَصْرِ لَقَالَ فِيهِ أَذْكَى الْعُقَلَاءِ إِنَّهُ مِنْ هَذَيَانِ الْمَجَانِينِ، أَوْ تَخَيُّلِ الْحَشَّاشِينَ، وَلَا يُوجَدُ عِلْمٌ أَدَلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَدِقَّةِ حِكْمَتِهِ مِنْ عِلْمِ الْفَلَكِ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا الْعَرَبُ فِي عَهْدِ حَضَارَتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ أَعْلَمَ الْبَشَرِ بِهِ، فَصَارُوا أَجْهَلَهُمْ بِهِ.
(٢) خَلْقُ اللهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَ وَإِحْيَاؤُهُ الْأَرْضَ بِهِ، وَإِخْرَاجُهُ الثَّمَرَاتِ وَالْخِصْبَ وَضِدَّهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ ٥٧ و٥٨ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قُلْنَاهُ فِيمَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَعْرِفَةِ آيَاتِ اللهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ مَا يُعْطِي مُتَأَمِّلَهُ الْيَقِينَ فِي الْإِيمَانِ إِذَا قَصَدَهُ، وَيُغْدِقُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ الَّتِي مَنَّ
عَلَيْهِ بِهَا، وَيُعِدُّهُ لِشُكْرِهَا فَتَجْتَمِعُ لَهُ بِذَلِكَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ عُلُومُ بَعْضِ الْبَشَرِ بِذَلِكَ فَاسْتَحْوَذُوا عَلَى أَكْثَرِ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ فِي بِلَادِهِمْ، وَبِلَادِ الْجَاهِلِينَ بِهَا، الَّذِينَ أَضَاعَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهَا.
(٣) خَلْقُ اللهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وَإِعْدَادُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِلتَّنَاسُلِ كَمَا فِي الْآيَةِ ١٨٩ وَفِي قِصَّةِ جَنَّةِ آدَمَ وَمَعْصِيَتِهِ وَتَوْبَتِهِ مِنَ الْآيَاتِ ١٩ - ٢٥ بَعْضُ صِفَاتِ النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَاسْتِعْدَادِهَا وَحَالِهَا فِي سُكْنَى الْأَرْضِ.
(٤) تَفْضِيلُ اللهِ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) وَبَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّهَا أَوْسَعُ تَفْصِيلًا لِمَا تَقْتَضِيهِ قِصَّةُ آدَمَ الْمُطَوَّلَةُ فِيهَا، وَالتَّصْرِيحُ فِيهَا بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَفِي بَابِ التَّأْوِيلِ هُنَالِكَ سَبْحٌ طَوِيلٌ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ. فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
(٥) خَلْقُ بَنِي آدَمَ مُسْتَعِدِّينَ لِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، وَإِشْهَادُ الرَّبِّ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَشَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ، وَمَا مُنِحُوهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَحُجَّتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ ١٧٢ و١٧٣ فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. وَكَذَا خَلْقُهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلشِّرْكِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ كَمَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَالْآيَةِ ١٩٠.
478
(٦) ضَرْبُ الْمَثَلِ لِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَعَلَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِمْ، وَكَوْنُهُمْ يُعَرَّفُونَ بِثِمَارِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا (٥٨)، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِأَثَرِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَثَرِ بِمَصْدَرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ خَبِيثًا وَطَيِّبًا، وَجَيِّدًا وَرَدِيئًا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَخْ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا.
(٧) الْكَلَامُ فِي إِبْلِيسَ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَعَدَاوَتِهِ لِآدَمَ، وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَوَسْوَسَتِهِ لَهُ وَلِزَوْجِهِ بِالْإِغْرَاءِ بِالْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَعَاقِبَةِ ذَلِكَ. وَهُوَ فِي الْآيَاتِ ٢٠ - ٢٥ وَكَوْنِهِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(٨) عَدَاوَةُ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينِ مِنْ نَسْلِهِ لِبَنِي آدَمَ، وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمُ الشَّرَّ وَالْبَاطِلَ،
وَإِغْرَاؤُهُمْ بِالْفَسَادِ وَالْمَعَاصِي وَحِكْمَةُ ذَلِكَ، وَهِيَ فِي الْآيَاتِ ١٦ و١٧ و٢٠ - ٢٢ و٢٧ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْهُ فِي الْآيَةِ ٢٧ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ يَرَاهُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ.
(٩) نَزْغُ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، وَمُقَاوَمَتُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَكَوْنُ الْمُتَّقِينَ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْهُ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ لَا تَطُولُ غَفْلَتُهُمْ فَيَغُرُّهُمْ وَسْوَاسُهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ ٢٠٠ - ٢٠٢.
(١٠) بَيَانُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءُ لِلْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ ٢٧ وَبَيَانُ أَنَّ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ مِنْ بَنِي آدَمَ يُمَكِّنُونَ الشَّيَاطِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ تَقْوَاهُمْ، فَهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ وَلَا يُقْصِرُونَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ ٢٠٢.
قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا عَلَى مَبَاحِثِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ قَدْ أَحَلْنَا عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَعْرَافِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ عَقْدَ فَصْلٍ اسْتِطْرَادِيٍّ فِي حِكْمَةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى الْخَلْقَ، وَاسْتِعْدَادِ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ. فَيُرَاجَعُ (فِي ص٣٠٢ - ٣٠٦ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
(١١) مِنَّةُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَسْهِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَايِشِ لَهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ ١٠، وَمِنَ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ لَهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ طَلَبُ سَعَةِ الْعِلْمِ بِاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَوَسَائِلِ الْمَعَايِشِ.
(١٢) مِنَّةُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِاللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ ٢٦ وَرَاجِعْ فِي ذَلِكَ الْأَصْلَيْنِ ٥ و٦ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.
(١٣) صِفَاتُ شِرَارِ الْبَشَرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِجَهَنَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَ عُقُولِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنِ اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ ١٧٩ وَذُكِرَتْ فِي أَصْلِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ (وَهُوَ ١١ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ) وَفِي تَعْظِيمِ شَأْنِ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ (وَهُوَ الْأَصْلُ ٣ مِنَ الْبَابِ ٤).
(١٤) آيَاتُهُ تَعَالَى وَنِعَمُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتُرَاجَعُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ.
479
الْبَابُ السَّادِسُ
فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ
(وَفِيهِ ٧ أُصُولٍ)
(١) إِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِظُلْمِهَا لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا، كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ ٤ و٥ وَمِصْدَاقُهُ فِي خَلْقِ آدَمَ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَعْلُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ فِي الْآيَةِ ١٩ وَاعْتِرَافُ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي دُعَاءِ تَوْبَتِهِمَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا (٢٣) وَبِأَنَّ شَأْنَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ تُغْفَرَ بِالتَّوْبَةِ فَيُعْفَى عَنْ عِقَابِهَا، وَهُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِمَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَأَمَّا خَسَارَةُ الْأُمَمِ فَهِيَ إِضَاعَةُ اسْتِقْلَالِهَا، وَسُلْطَانُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَأَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا ظُلْمُ الْأَفْرَادِ وَعِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُرَاجَعُ فِي الْأَصْلِ ٤ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ.
(٢) بَيَانُ أَنَّ لِلْأُمَمِ آجَالًا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي اقْتَضَتْهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ ٣٤، وَكَوْنُهَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهَذِهِ السُّنَنِ تُؤْخَذُ بَغْتَةً، وَعَلَى غَفْلَةٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَاتِ ٩٤ - ١٠٠ وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ، وَكَانَ عِقَابُهَا وَضْعِيًّا لَا اجْتِمَاعِيًّا - وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعِقَابُ بِمَا تَوَعَّدَ تَعَالَى بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَمُعَانَدَتِهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عِقَابِ الْحُكَّامِ لِرَعَايَاهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرَائِعِ أُمَّتِهِمْ وَقَوَانِينِهَا وَنُظُمِهَا. (وَثَانِيهِمَا) الْعِقَابُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْجَرَائِمِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمَرِيضُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ طَبِيبِهِ فِي مُعَالَجَتِهِ لَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى كَذَا مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْتِزَامِ كَذَا مِنَ الدَّوَاءِ. (رَاجِعْ ص٢٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ).
(٣) ابْتِلَاءُ اللهِ الْأُمَمَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ تَارَةً، وَبِضِدِّهَا مِنَ الرَّخَاءِ وَالنَّعْمَاءِ تَارَةً أُخْرَى. فَإِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ فَيَكُونَ تَرْبِيَةً لَهَا، وَإِمَّا أَنْ تَغْبَى وَتَغْفُلَ فَيَكُونَ مَهْلَكَةً لَهَا كَمَا فِي الْآيَاتِ ٩٤ وَمَا بَعْدَهَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
(٤) بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا دَعَا اللهُ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى فِي الْعَمَلِ بِشَرْعِهِ فِعْلًا وَتَرَكًا، سَبَبٌ اجْتِمَاعِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِسَعَةِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَيْرَاتِهَا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (٩٦) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى (مِنْهَا) الْآيَةُ ٥٢ مِنْ سُورَةِ هُودٍ (١١)، وَالْآيَاتُ ١٢٣ - ١٢٧ مِنْ سِيَاقِ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ سُورَةِ طه، وَمِثْلُهُ فِي الْآيَاتِ ١٠ - ١٢ مِنْ سُورَةِ نُوحٍ، وَالْآيَتَيْنِ ١٦ و١٧ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ بَعْدَهَا وَغَيْرِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.
480
وَمِنْهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّقْوَى وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي مَقَالَةٍ، عُنْوَانُهَا (عَاقِبَةُ الْحَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ) نُشِرَتْ فِي (ج ٧ م ٢١ مِنَ الْمَنَارِ).
(٥) اسْتِدْرَاجُهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْمُجْرِمِينَ وَإِمْلَاؤُهُ لَهُمْ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ ١٨٢: ١٨٣ وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا سَبَقَهُ مِنْ سُنَّةِ أَخْذِ اللهِ لِلْأُمَمِ بِذُنُوبِهَا، وَمِنْ سُنَّةِ ابْتِلَائِهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَرَبَّى يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ، وَذُنُوبُ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا - رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. فَفِيهِ بَيَانُ هَذِهِ السُّنَّةِ مُوَضَّحًا.
(٦) سُنَّةُ اللهِ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ وَاسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ فِيهَا، وَالِاسْتِيلَاءِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ. فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ أَنَّ وَطْأَةَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ اشْتَدَّتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَرَّحَ بِوُجُوبِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَقْتِيلِ أَبْنَائِهِمْ، وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ; لِأَجْلِ أَنْ تَنْقَرِضَ الْأُمَّةُ بَعْدَ اسْتِذْلَالِ مَنْ يَبْقَى مِنَ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الرِّجَالُ، وَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ذُلًّا وَخُنُوعًا - وَهُمْ مِئَاتُ الْأُلُوفِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الشُّعُوبِ الْجَاهِلَةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ مُوسَى أَنْ يَمْتَلِخَ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) أَيْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ رَهْنَ تَصَرُّفِ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ بِقُدْرَتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ فَتَدُومُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ، وَلَهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى سُنَّةٌ فِي سَلْبِهَا مِنْ قَوْمٍ، وَجَعْلِهَا إِرْثًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَمَدَارُ هَذِهِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي التَّنَازُعِ بَيْنَ الْأُمَمِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا أَوْ تَسْتَعْمِرُهَا لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَسْبَابَ
الضَّعْفِ وَالْخِذْلَانِ وَالْهَلَاكِ، كَالْيَأْسِ مِنْ رُوحِ اللهِ وَالتَّخَاذُلِ وَالتَّنَازُعِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَيَتَلَبَّسُونَ بِضِدِّهَا، وَبِسَائِرِ مَا تَقْوَى بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَعْلَاهَا الِاسْتِعَانَةُ بِاللهِ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ مَهْمَا عَظُمَتْ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا أَعْظَمُ مَا تَتَفَاضَلُ بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمِلِّيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحُرُوبِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (٢١: ١٠٥) وَإِنَّمَا الصَّالِحُونَ هُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَسَائِرِ شَرَائِعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْعُمْرَانِ، وَهِيَ بِمَعْنَى مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ " بَقَاءَ الْأَصْلَحِ أَوِ الْأَمْثَلِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ " وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (١٣: ١٧).
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ تَرَى بَعْضَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِسِيَادَةِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا يَائِسَةً مِنِ اسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، بَلْ مِنْ حَيَاتِهَا الْمِلِّيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ بِمَا تَرَى مِنْ خِفَّةِ مَوَازِينِهَا
481
وَرُجْحَانِ مَوَازِينِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا فِي الْقُوَى الْمَادِّيَّةِ وَالْآلِيَّةِ، وَاسْتِذْلَالِ هَؤُلَاءِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا لَهَا، جَهْلًا مِنْهَا بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي بَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَغَفْلَتَهَا عَنْ كَوْنِ رُجْحَانِ قُوَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَهْرِهِ لَهُمْ كَانَا فَوْقَ رُجْحَانِ قُوَى سَائِدِيهَا عَلَيْهَا وَقَهْرِهِمْ إِيَّاهَا، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْعِبَرِ التَّارِيخِيَّةِ بِسُقُوطِ بَعْضِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مَا لَا يَقِلُّ عَنِ الْعِبْرَةِ بِأَحْدَاثِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِتِلْكَ الْآيَةِ (١٢٩) أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَكَا لَهُ قَوْمُهُ إِيذَاءَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى سَوَاءٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِإِهْلَاكِ رَبِّهِمْ لِعَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودِينَ بِهَا; لِيَخْتَبِرَهُمْ فَيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، وَيَكُونُ ثَبَاتُ مُلْكِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِمُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْأَرْضُ وَأَهْلُهَا أَوْ تَفْسُدُ. وَهُوَ مَا فَصَّلَهُ تَعَالَى لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا فِي إِفْسَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ (١٧: ٤) إِلَى تَتِمَّةِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ ١٣٧ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ الْحُسْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا صَبَرُوا، أَيْ لَا بِمُجَرَّدِ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى، وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُسْتَضْعَفَةَ مَهْمَا يَكُنْ عَدُوُّهَا الظَّالِمُ لَهَا قَوِيًّا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِرَجَاءِ مُوسَى هُنَا، وَلِوَعْدِ اللهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (٢٨: ٥، ٦) الْآيَةَ.
تَرَى شُعُوبَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ، وَمَا ضَاعَ مُلْكُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا بِجَهْلِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي الْعَمَلِ، وَمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الْجَهْلِ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَدَعْوَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هِدَايَتِهِ بِمَا كَتَبَهُ لَهُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَمَا كَتَبَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الْكَبِيرَةُ الْقَدْرِ وَالْفَوَائِدِ (الْأَعْرَافُ) خَالِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، وَمِنْ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعَقَائِدِ وَتَقْرِيرِهِمْ لَهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. فَهَلْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّوَرَ كُلَّهَا لِلتَّعَبُّدِ بِتَجْوِيدِ أَلْفَاظِهَا بِدُونِ فَهْمٍ، أَوْ لِاتِّخَاذِهَا رُقًى وَتَمَائِمَ، وَكَسْبًا لِقُرَّاءِ الْمَآتِمِ؟.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْجَهْلَ بَلَغَ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فَرِيقٌ خَصْمٌ لِهَذَا الْفَرِيقِ الْمُقَلِّدِ الْمُحَافِظِ عَلَى كُتُبِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى دُونَ هَدْيِ السَّلَفِ، خَصْمٌ يَقُولُ: إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّبَبُ فِي جَهْلِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، وَلَا حَيَاةَ لَنَا إِلَّا بِاقْتِبَاسِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ الْعُمْرَانِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَادَتْنَا بِهَذِهِ الْعُلُومِ، وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، وَهَؤُلَاءِ
482
أَجْهَلُ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أُولَئِكَ، فَكِتَابُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَصَّرُوا فِي طَوْرِ حَيَاتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ عَنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِالتَّدْوِينِ لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَانَ حَقُّهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَكُونُوا أَوْسَعَ النَّاسِ بِهِ عِلْمًا; لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ مُؤَيِّدٌ لِلْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهِ.
(٧) إِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَرِثُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا الْأُصَلَاءِ هِيَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِهَا، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ غُلِبُوا عَلَيْهَا; بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَعَمَى قُلُوبِهِمْ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُ الْوَارِثِينَ لَهَا مِنْ بَعْدِهِمْ إِذَا صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي
ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) وَكُنَّا نَرَى الَّذِينَ وَرِثُوا مَمَالِكَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّعِظِينَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَهُمْ عَلَى كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ بِالظُّلْمِ وَإِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ يَتَحَرَّوْنَ أَنْ يَكُونَ ظُلْمُهُمْ دُونَ ظُلْمِ حُكَّامِ أَهْلِ الْبِلَادِ الَّذِينَ أَضَاعُوهَا، وَعُقُولُهُمْ تَبْحَثُ دَائِمًا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي يُخْشَى أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَلْبِهَا مِنْهُمْ; لِأَجْلِ اتِّقَائِهَا، وَآذَانُهُمْ مُرْهَفَةٌ مُصِيخَةٌ لِاسْتِمَاعِ كُلِّ خَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِهَا وَأَمْرِ أَهْلِهَا وَشُئُونِ الطَّامِعِينَ فِيهَا حَذَرًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْلُبُوهُمْ إِيَّاهَا.
وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِاتِّقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا تَرَاهُ فِي ٢٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ أُصُولِ وَأُمَّهَاتِ هِدَايَةِ السُّورَةِ الْجَلِيلَةِ بِمُرَاجَعَتِهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، مُرُورًا عَلَى الْآيَاتِ بِالنَّظَرِ، وَلَوْ أَعَدْنَا قِرَاءَتَهَا مَعَ قِرَاءَةِ تَفْسِيرِهَا بِالتَّدَبُّرِ لَظَهَرَ لَنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا التَّلْخِيصَ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا هِيَ وَسَائِرَ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا، وَيُوَفِّقَ أُمَّتَنَا لِلرُّجُوعِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا تَابَ أَبُوهُمْ وَأُمُّهُمْ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
483
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
(وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ فِي الْعَدَدِ، وَوُضِعَتْ مَوْضِعَ السَّابِعَةِ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْمَثَانِي، وَهِيَ دُونَ الْمِئِينَ الَّتِي تَلِي الطِّوَالَ، لِمَا سَيَأْتِي. وَعَدَدُ آيَاتِهَا ٧٥ آيَةً)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ، وَفِي لَفْظٍ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةَ ٦٤ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا وُضِعَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقُرِئَتْ مَعَ آيَاتِهَا الَّتِي نَزَلَتْ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِمُنَاسَبَتِهَا لِلْمَقَامِ. وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٣٠) الْآيَةَ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ، بَلْ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَصْدِ الْهِجْرَةِ، وَبَاتَا فِي الْغَارِ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَفْسَهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ اسْتِثْنَاءَ خَمْسِ آيَاتٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَى الْآيَةِ ٣٥ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَهُوَ أَنَّ مَوْضُوعَهَا حَالُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي نُزُولَهَا فِي مَكَّةَ، بَلْ ذَكَّرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَكُلُّ مَا نَزَلَ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا فَهُوَ مَدَنِيٌّ.
وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِسُورَةِ الْأَعْرَافِ: أَنَّهَا فِي بَيَانِ حَالِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ، وَسُورَةُ الْأَعْرَافِ مُبَيِّنَةٌ لِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، هَذَا هُوَ الْعُمْدَةُ. وَهُنَاكَ تَنَاسُبٌ خَاصٌّ بَيْنَ عِدَّةِ آيَاتٍ مِنَ السُّورَتَيْنِ يُقَوِّي هَذَا التَّنَاسُبَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءُ مِنْهُ سَبَبًا لِلْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي بَعْضِ
الْمَعَانِي مُكَرَّرٌ فِي أَكْثَرِ السُّوَرِ الْكَبِيرَةِ، وَأَنْقُلُ هُنَا عَنْ رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَقَلَهُ عَنِ السَّيُوطِيَّ فِي وَضْعِ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَا وَمَا تَعَقَّبَهُ بِهِ وَهُوَ: " وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَضْعَهَا هُنَا تَوْقِيفِيٌّ، وَكَذَا وَضْعُ بَرَاءَةَ بَعْدَهَا، وَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَسَائِرِ السُّوَرِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَذَكَرَ الْجَلَالُ السَّيُوطِيُّ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَا لَيْسَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، بَلْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ إِيلَاءُ الْأَعْرَافِ بِيُونُسَ وَهُودٍ; لِاشْتِرَاكِ كُلٍّ فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهَا مَكِّيَّةُ النُّزُولِ خُصُوصًا أَنَّ الْحَدِيثَ
484
وَرَدَ فِي فَضْلِ السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَعَدُّوا السَّابِعَةَ يُونُسَ وَكَانَتْ تُسَمَّى بِذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، فَفِي فَصْلِهَا مِنَ الْأَعْرَافِ بِسُورَتَيْنِ فَصْلٌ لِلنَّظِيرِ مِنْ سَائِرِ نَظَائِرِهِ، هَذَا مَعَ قِصَرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْرَافِ وَبَرَاءَةَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ قَدِيمًا حَبْرُ الْأُمَّةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا الْبَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْخَبَرَ بِطُولِهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا ثُمَّ قَالَ: وَأَقُولُ: يَنِمُّ مَقْصِدُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ بِأُمُورٍ فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهَا: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ جَعَلَ الْأَنْفَالَ قَبْلَ بَرَاءَةَ مَعَ قِصَرِهَا؛ لِكَوْنِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبَسْمَلَةِ، فَقَدَّمَهَا لِتَكُونَ كَقِطْعَةٍ مِنْهَا وَمُفْتَتَحَهَا، وَتَكُونُ بَرَاءَةُ - لِخُلُوِّهَا مِنَ الْبَسْمَلَةِ - كَتَتِمَّتِهَا وَبَقِيَّتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ.
(الثَّانِي) وَضْعُ بَرَاءَةَ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ الطُّولِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ السِّتِّ السَّابِقَةِ سُورَةٌ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْمُنَاسَبَةِ.
(الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ خَلَّلَ بِالسُّورَتَيْنِ أَثْنَاءَ السَّبْعِ الطِّوَالِ الْمَعْلُومِ تَرْتِيبُهَا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ صَادِرٌ لَا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَإِلَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ كِلْتَيْهِمَا، فَوُضِعَا هُنَا كَالْوَضْعِ الْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُضِعَا بَعْدَ السَّبْعِ الطِّوَالِ فَإِنَّهُ كَانَ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّهُمَا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يُتَوَهَّمُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَضْعِ، لِلْعِلْمِ بِتَرْتِيبِ
السَّبْعِ، فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهَا، وَلَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إِلَّا غَوَّاصٌ.
(الرَّابِعُ) أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُمَا وَقَدَّمَ يُونُسَ، وَأَتَى بَعْدَ " بَرَاءَةٌ " بِهُودٍ كَمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ; لِمُرَاعَاةِ مُنَاسَبَةِ السَّبْعِ، وَإِيلَاءِ بَعْضِهَا بَعْضًا لَفَاتَ مَعَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ آكُدُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْأَوْلَى بِسُورَةِ يُونُسَ أَنْ يُؤْتَى بِالسُّوَرِ الْخَمْسِ الَّتِي بَعْدَهَا لِمَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ مِنَ الْقِصَصِ، وَالِافْتِتَاحِ بِـ " الر "، وَبِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَمِنْ كَوْنِهَا مَكِّيَّاتٍ، وَمِنْ تَنَاسُبٍ مَا عَدَا الْحِجْرَ فِي الْمِقْدَارِ، وَمِنَ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ نَبِيٍّ، وَالرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَهَذِهِ عِدَّةُ مُنَاسَبَاتٍ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ يُونُسَ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ آكَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْوَاحِدِ فِي تَقْدِيمِ يُونُسَ بَعْدَ الْأَعْرَافِ. وَلِبَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ قُدِّمَتْ سُورَةُ الْحِجْرِ عَلَى النَّحْلِ مَعَ كَوْنِهَا أَقْصَرَ مِنْهَا، وَلَوْ أُخِّرَتْ بَرَاءَةُ عَنْ هَذِهِ السُّوَرِ السِّتِّ لَبَعُدَتِ الْمُنَاسَبَةُ جِدًّا لِطُولِهَا بَعْدَ عِدَّةِ سُوَرٍ أَقْصَرَ مِنْهَا بِخِلَافِ وَضْعِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَ الْحِجْرِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كَبَرَاءَةَ فِي الطُّولِ.
" وَيَشْهَدُ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاتِحِ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَضْعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْحِجْرِ عَلَى النَّحْلِ لِمُنَاسَبَةِ (الر) قَبْلَهَا، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْصَرَ مِنْهَا لِمُنَاسَبَتِهَا الْبَقَرَةَ فِي الِافْتِتَاحِ بِـ " الم " وَتَوَالِي الطَّوَاسِينِ وَالْحَوَامِيمِ، وَتَوَالِي الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَلُقْمَانَ وَالسَّجْدَةِ
485
لِافْتِتَاحِ كُلٍّ: " الم " وَلِهَذَا قُدِّمَتِ السَّجْدَةُ عَلَى الْأَحْزَابِ الَّتِي هِيَ أَطْوَلُ مِنْهَا. هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ.
" ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدَّمَ فِي مُصْحَفِهِ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالْأَعْرَافَ وَالْأَنْعَامَ وَالْمَائِدَةَ وَيُونُسَ، رَاعَى السَّبْعَ الطِّوَالَ فَقَدَّمَ الْأَطْوَلَ مِنْهَا فَالْأَطْوَلَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمِئِينَ، فَقَدَّمَ بَرَاءَةَ ثُمَّ النَّحْلَ ثُمَّ هُودًا ثُمَّ يُوسُفَ ثُمَّ الْكَهْفَ وَهَكَذَا الْأَطْوَلُ فَالْأَطْوَلُ، وَجَعَلَ الْأَنْفَالَ بَعْدَ النُّورِ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلًّا مَدَنِيَّةٌ وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَحْكَامٍ، وَأَنَّ فِي النُّورِ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (٢٤: ٥٥) الْآيَةَ، وَفِي الْأَنْفَالِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ (٨: ٢٦) إِلَخْ. وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، فَالْأُولَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ بِمَا حَصَلَ، وَذَكَّرَ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَتَأَمَّلْ. انْتَهَى كَلَامُ السَّيُوطِيِّ.
(الْآلُوسِيُّ) " وَأَقُولُ: قَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْحَقِيرِ، بِمَا لَمْ يَمُنَّ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَوْلَى الْجَلِيلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ أَوْقَفَنِي سُبْحَانَهُ عَلَى وَجْهِ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّوْقِيفِ فِي هَذَا الْوَضْعِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَسُؤَالُ الْحَبْرِ وَجَوَابُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَيْسَا نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي أَوَّلِ الْأُمُورِ الَّتِي فَتَحَ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُلَائِمٍ بِظَاهِرِهِ ظَاهِرَ سُؤَالِ الْحَبْرِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، حَيْثُ أَفَادَ أَنَّ إِسْقَاطَ الْبَسْمَلَةِ مِنْ بَرَاءَةَ اجْتِهَادِيٌّ أَيْضًا، وَيُسْتَفَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ خِلَافُهُ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ يُونُسَ سَابِعَةُ السَّبْعِ الطِّوَالِ لَيْسَ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهَا الْكَهْفُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ - كَمَا قَالَ فِي إِتْقَانِهِ - إِلَى أَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ أَوَّلُهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةُ وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى هَذَا.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّابِعَةَ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفَيْرُوزَأَبَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَمْرِ الثَّانِي يَعْنِي عَنْهُ مَا عَلَّلَ بِهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ يُدْعَيَانِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرِينَتَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ جَعَلْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْفَوَاتِحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَإِنَّ الْجِنَّ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ مُفْتَتَحَاتٌ بِـ " قُلْ " مَعَ الْفَصْلِ بِعِدَّةِ سُوَرٍ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْفَصْلِ بِسُورَتَيْنِ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَخْلُو مَا ذَكَرَهُ عَنْ نَظَرٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فَتَأَمَّلْ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
486
وَأَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ عُثْمَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا هُوَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا مَنْ كَانَ يَكْتُبُ يَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا. فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ
بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ " اه.
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَهَبَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَ جَمِيعِ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَوَافَقَهُ السَّيُوطِيُّ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُرَتِّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ السُّوَرِ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَارَضَهُ بِالْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، فَأَيْنَ كَانَ يَضَعُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِ؟ التَّحْقِيقُ أَنَّ وَضْعَهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا تَوْقِيفِيٌّ وَإِنْ فَاتَ عُثْمَانَ أَوْ نَسِيَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ الْجُمْهُورُ أَوْ نَاقَشُوهُ فِيهِ عِنْدَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ جَمْعِهِ وَنَشْرِهِ فِي الْأَقْطَارِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ هَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ أَوْ غَيْرُهُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَكَانَ كَاتِبَهُ، وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فِي أَمْرِ الْمَصَاحِفِ، وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ.
فَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ.
487
Icon