تفسير سورة الأعراف

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله تعالى :﴿ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾ مخرجه مخرج النهي ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج.
ورُوي عن الحسن في الحرج أنه الضيق، وذلك أصله، ومعناه : فلا يَضِقْ صدرُك خوفاً أن لا تقوم بحقه، فإنما عليك الإنذار به. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي :" الحرج هنا الشكّ، يعني لا تشكَّ في لزوم الإنذار به ".
وقيل : معناه لا يضق صدرك بتكذيبهم إياك، كقوله تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ].
قوله تعالى :﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ؛ هو أن يكون تصرفه مقصوراً على مراد أمره ؛ وهو نظير الائتمام، وهو أن يأتم به في اتباع مراده وفي فعله غير خارج عن تدبيره.
فإن قيل : هل يكون فاعل المباح متَّبعاً لأمر الله عز وجل ؟ قيل له : قد يكون متبعاً إذا قصد به اتباع أمره في اعتقاد إباحته وإن لم يكن وقوع الفعل مراداً منه، وأما فاعل الواجب فإنه قد يكون الاتّباع في وجهين، أحدهما : اعتقاد وجوبه، والثاني : إيقاع فعله على الوجه المأمور به، فلما ضارع المباح الواجب في الاعتقاد إذ كان على كل واحد منهما وجوب الاعتقاد بحكم الشيء على ترتيبه ونظامه في إباحة أو إيجاب جاز أن يشتمل قوله :﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ على المباح والواجب.
مطلب : لا يجوز الاعتراض على حكم القرآن بأخبار الآحاد
وقوله :﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ دليل على وجوب اتباع القرآن في كل حال وأنه غير جائز الاعتراض على حكمه بأخبار الآحاد ؛ لأن الأمر باتباعه قد ثبت بنصّ التنزيل، وقبول خبر الواحد غير ثابت بنص التنزيل، فغير جائز تركه ؛ لأن لزوم اتّباع القرآن قد ثبت من طريق يوجب العلم وخبر الواحد يوجب العمل فلا يجوز تركه ولا الاعتراض به عليه. وهذا يدلّ على صحة قول أصحابنا في أن قول من خالف القرآن في أخبار الآحاد غير مقبول ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَا جَاءَكُمْ مِنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ الله، فما وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَهُوَ عَنِّي وَما خَالَفَ كِتَابَ الله فَلَيْسَ عَنِّي ". فهذا عندنا فيما كان وروده من طريق الآحاد، فأما ما ثبت من طريق التواتر فجائز تخصيص القرآن به وكذلك نسخه قوله :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ الحشر : ٧ ] فما تيقّنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاله فإنه في إيجاب الحكم بمنزلة القرآن، فجائز تخصيص بعضه ببعض وكذلك نسخه.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ﴾. رُوي عن الحسن :﴿ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ يعني به آدم ؛ لأنه قال :﴿ ثُمَّ قُلْنَا للمَلاَئِكَةِ ﴾ وإنما قال ذلك بعد خلق آدم وتصويره، وذلك كقوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ﴾ [ البقرة : ٦٣ ] أي ميثاق آبائكم ورفعنا فوقهم الطور، نحو قوله تعالى :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ﴾ [ البقرة : ٩١ ] والمخاطبون بذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا الأنبياء. وقيل :﴿ ثُمَّ ﴾ راجع إلى صلة المخاطبة، كأنه قال : ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة. وحُكي عن الأخفش :﴿ ثم ﴾ ههنا بمعنى الواو. وذكر الزجاج أن ذلك خطأ عند النحويين. قال أبو بكر : ونظيره قوله تعالى :﴿ ثم الله شهيد على ما يفعلون ﴾ [ يونس : ٤٦ ] ومعناه : والله شهيد.
قوله تعالى :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾، يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب بنفس وروده غير محتاج إلى قرينة في إيجابه ؛ لأنه علق الذم بتركه الامر المطلق. وقيل في قوله تعالى :﴿ أَنْ لا تَسْجُدَ ﴾ أنّ ﴿ لا ﴾ههنا صلة مؤكدة. وقيل إن معناه : ما دعاك إلى أن لا تسجد وما أحوجك ؟ وقيل في السجود لآدم وجهان، أحدهما : التكرمة لأن الله قد امتنّ به على عباده وذكر بالنعمة فيه، والثاني : أنه كان قِبْلَةً لهم كالكعبة.
قوله تعالى :﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾. قيل فيه : خيَّبْتَنِي، كقول الشاعر :
* ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِماً *
يعني : من يَخبْ. وحكى لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال : يقال غَوَى الرجل يَغْوي غَيّاً إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه، ومنه قوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغَوَى ﴾ [ طه : ١٢١ ] أي فسد عليه عيشه في الجنة ؛ قال : ويقال غَوَى الفصيل إذا لم يَرْوَ من لبن أمه. وقيل في ﴿ أَغْوَيْتَني ﴾ : أي حكمت بغوايتي، كقولك أضللتني أي حكمت بضلالتي. وقيل :﴿ أَغْوَيْتَني ﴾ أي أهلكتني. فهذه الوجوه الثلاثة محتملة في إبليس. وقوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ يحتمل فساد أمره في الجنة، وهو يرجع إلى معنى الخيبة، ولا يحتمل الهلاك ولا الحكم بالغواية التي هي ضلال ؛ لأن أنبياء الله لا يجوز ذلك عليهم.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾. رُوي عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة والحكم والسدي :﴿ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ " من قِبَلِ دنياهم وآخرتهم، من جهة حسناتهم وسيئاتهم ". وقال مجاهد :" من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون ". وقيل :" من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم ". ولم يقل من فوقهم، قال ابن عباس : لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم، ولم يقل من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه ممتنع إذا أُريد به الحقيقة.
قوله تعالى :﴿ ولا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾. قرن قربهما الشجرة، إلا أنه معلوم شرط الذكر فيه وتعمّد الأكل مع العلم به ؛ لأنه لا يؤاخذ بالنسيان والخطأ فيما لم يقم عليه دليل قاطع. ولم يكن أكْلُهما للشجرة معصية كبير بل كانت صغيرة من وجهين، أحدهما : أنهما نسيا الوعيد وظنّا أنه نَهْيُ استحباب لا إيجاب، ولهذا قال :﴿ فنسي ولم نجد له عزماً ﴾ [ طه : ١١٥ ]. والثاني : أنه أشير لهما إلى شجرة بعينها وظنَّا المراد العين وكان المراد الجنس، كقوله صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهباً وحريراً فقال :" هَذَانِ مُهْلِكَا أُمَّتِي " وإنما أراد الجنس لا العين دون غيرها.
قوله تعالى :﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ورِيشاً ولِبَاسُ التَّقْوَى ﴾. هذا خطاب عام لسائر المكلفين من الآدميين كما كان قوله تعالى :﴿ يا أيُّها النَّاسُ اتّقوا ربكم ﴾ [ النساء : ١ ] خطاباً لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده من المكلفين من أهل سائر الأعصار، إلا أنه لمن كان غير موجود على شرط الوجود وبلوغ كمال العقل.
وقوله تعالى :﴿ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ ﴾ يدل على فرض ستر العورة، لإخباره أنه أنزل علينا لباساً لنواري سوآتنا به. وإنما قال :﴿ أَنْزَلْنَا ﴾ لأن اللباس إنما يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوان وأصوافها، وقَوَامُ جميعها بالمطر النازل من السماء. وقيل إنه وصفه بالإنزال لأن البركات تنسب إلى أنها تأتي من السماء، كما قال تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ [ الحديد : ٢٥ ]. وقوله :﴿ رِيشاً ﴾ قيل إنه الأثاث من مناع البيت نحو الفرش والدثار. وقيل : الريش ما فيه الجمال، ومنه ريش الطائر. وقوله :﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ﴾ قيل فيه إنه العمل الصالح، عن ابن عباس ؛ وسماه لباساً لأنه يقي العقاب كما يقي اللباس من الثياب الحر والبرد. وقال قتادة والسدي :" هو الإيمان ".
وقال الحسن :" هو الحياء الذي يكسبهم التّقوى ". وقال بعض أهل العلم :" هو لباس الصوف والخشن من الثياب التي تلبس للتواضع والنسك في العبادة ".
وقد اتفقت الأمة على معنى ما دلت عليه الآية من لزوم فرض ستر العورة، ووردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت : يا رسول الله عورتنا ما نأتي منها وما نَذَرُ ؟ قال :" احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ". قلت : يا رسول الله فإذا كان أحدنا خالياً ؟ قال :" فإنَّ الله أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ ". وروى أبو سعيد الخدري عنه عليه السلام أنه قال :" لا يَنْظُر الرَّجُلُ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ ولا المَرْأَةُ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ ". وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلى سَوْأَةِ أَخِيهِ " قال الله تعالى :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ﴾ [ النور : ٣٠ ] ﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ﴾ [ النور : ٣١ ] يعني عن العورات، إذْ لا خلاف في جواز النظر إلى غير العورة.
قال الله تعالى :﴿ يا بَنِى آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ ﴾. قيل في الفتنة إنها المحنة بالدعاء إلى المعصية من جهة الشهوة أو الشبهة، والخطاب توجه إلى الإنسان بالنهي عن فتنة الشيطان وإنما معناه التحذير من فتنة الشيطان وإلزام التحرّز منه. وقوله تعالى :﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ ﴾ فأضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان فإنه أغواهما حتى فعلا ما استحقّا به الإخراج منها، كقوله تعالى حاكياً عن فرعون :﴿ يذبح أبناءهم ﴾ [ القصص : ٤ ] وإنما أمر به ولم يتولّه بنفسه. وعلى هذا المعنى أضاف نزع لباسهما إليه بقوله :﴿ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾. وهذا يحتج به فيمن حلف لا يخيط قميصه أو لا يضرب عبده وهو ممن لا يتولى الضرب بنفسه أنه إن أمر به غيره ففعله حنث، وكذلك إذا حلف لا يبني داره فأمر غيره فبناها. وقيل في اللباس الذي كان عليهما إنه كان ثياباً من ثياب الجنّة ؛ وقال ابن عباس : كان لباسهما الظفر، وقال وهب بن منبه : كان لباسهما نوراً.
قوله تعالى :﴿ وأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾. رُوي عن مجاهد والسدي :" توجَّهُوا إلى قِبْلة كل مسجد في الصلاة على استقامة ". وقال الربيع بن أنس :" توجهوا بالإخلاص لله تعالى لا لوثن ولا غيره ".
مطلب : في وجوب فعل المكتوبات في جماعة
قال أبو بكر : قد حوى ذلك معنيين، أحدهما : التوجه إلى القبلة المأمور بها على استقامة غير عادل عنها، والثاني : فعل الصلاة في المسجد، وذلك يدل على وجوب فعل المكتوبات في جماعة لأن المساجد مبنية للجماعات. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار في وعيد تارك الصلاة في جماعة وأخبار أُخَرُ في الترغيب فيها، فمما رُوي ما يقتضي النهي عن تركها قوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فلا صَلاةَ لَهُ "، وقوله لابن أم مكتوم حين قال له إن منزلي شاسع فقال :" هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ " فقال : نعم، فقال :" لا أَجِدُ لَكَ عُذْراً ". وقوله :" لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّي بالنَّاسِ ثمَّ آمُرَ بِحَطَبٍ فيُحْرَقَ على المُتَخَلِّفِينَ عَن الجَمَاعَةِ بُيُوتُهُمْ " في أخبار نحوها. ومما رُوي من الترغيب أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، وأن الملائكة ليصلّون على الذين يصلّون في الصف المقدم، وقوله :" بَشِّرِ المَشَّائِينَ في ظَلامِ اللَّيْلِ إلى المَسَاجِدِ بالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ ". وكان شيخنا أبو الحسن الكرخيّ يقول : هو عندي فرض على الكفاية كغسل الموتى ودفنهم والصلاة عليهم، متى قام بها بعضهم سقط عن الباقين.
مطلب : في ستر العورة في الصلاة
قوله تعالى :﴿ يا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ قال أبو بكر : هذه الآية تدل على فرض ستر العورة في الصلاة. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد :" هي فرض في الصلاة إن تركه مع الإمكان فسدت صلاته "، وهو قول الشافعي. وقال مالك والليث :" الصلاة مجزية مع كشف العورة ويوجبان الإعادة في الوقت " والإعادة في الوقت عندهما استحباب. ودلالة هذه الآية على فرض سَتْرِ العورة في الصلاة من وجوه، أحدها : أنه لما قال :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ فعلّق الأمْرَ بالمسجد، عَلِمْنا أن المراد الستر للصلاة لولا ذلك لم يكن لذكر المسجد فائدة، فصار تقديرها : خذوا زينتكم في الصلاة، ولو كان المراد سترها عن الناس لما خصّ المسجد بالذكر إذْ كان الناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد، فأفاد بذكر المسجد وجوبه في الصلاة إذْ كانت المساجد مخصوصة بالصلاة. وأيضاً لما أوجبه في المسجد وجب بظاهر الآية فرض الستر في الصلاة إذا فعلها في المسجد، وإذا وجب في الصلاة المفعولة في المسجد وجب في غيرها من الصلوات حيث فعلت ؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما. وأيضاً فإن المسجد يجوز أن يكون عبارة عن السجود نفسه كما قال الله تعالى :﴿ وأن المساجد لله ﴾ [ الجن : ١٨ ] والمراد السجود، وإذا كان كذلك اقتضت الآية لزوم الستر عند السجود، وإذا لزم ذلك في السجود لزم في سائر أفعال الصلاة إذْ لم يفرق أحد بينهما ؛ رُوي عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وطاوس والزهري : أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله تعالى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾. قال أبو بكر : وقيل إنهم إنما كانوا يطوفون بالبيت عراة لأن الثياب قد دنّستها المعاصي في زعمهم فيتجردون منها. وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تفاؤلاً بالتّعرِّي من الذنوب.
وقال بعض من يحتج لمالك بن أنس : إن هؤلاء السلف لما ذكروا سبب نزول الآية وهو طواف العريان وجب أن يكون حكمها مقصوراً عليه. وليس هذا عندنا كذلك ؛ لأن نزول الآية عندنا على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه، لأن الحكم عندنا لعموم اللفظ لا للسبب. وعلى أنه لو كان كما ذكر لا يمنع ذلك وجوبه في الصلاة ؛ لأنه إذا وجب الستر في الطواف فهو في الصلاة أوْجَبُ إذْ لم يفرق أحد بينهما.
فإن قال قائل : فينبغي أن لا يمنع ترك الستر صحة الصلاة كما لم يمنع صحة الطواف الذي فيه نزلت الآية وإن وقع ناقصاً. قيل له : ظاهره يقتضي بطلان الجميع عند عدم الستر، ولكن الدلالة قد قامت على جواز الطواف مع النهي كما يجوز الإحرام مع الستر وإن كان منهيّاً عنه، ولم تقم الدلالة على جواز الصلاة عرياناً ؛ ولأن تَرْكَ بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الطهارة واستقبال القبلة، وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده، لأنه لو ترك الإحرام في الوقت ثم أحرم صَحَّ إحرامه، وكذلك لو أحرم وهو مُجَامِعٌ لامرأته وقع إحرامه، فصار الإحرام آكد في بقائه من الصلاة والطواف من موجبات الإحرام فوجب أن لا يفسده ترك الستر ولا يمنع وقوعه.
ويدل على أن حكم الآية غير مقصور على الطواف وأن المراد بها الصلاة قوله تعالى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ والطواف مخصوص بمسجد واحد ولا يفعل في غيره، فدل على أن مراده الصلاة التي تصح في كل مسجد. ويدل عليه من جهة السنّة حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ على فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ". وروى محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ حَائِضٍ إِلاّ بِخِمَارٍ " فنفى قبولها لمن بلغت الحيض فصلّتها مكشوفة الرأس، كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله عليه السلام :" لا يَقْبَلُ الله صَلاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ " فثبت بذلك أن ستر العورة من فروضها. وأيضاً قد اتفق الجميع على أنه مأمور بستر العورة في الصلاة ؛ ولذلك يأمره مخالفنا بإعادتها في الوقت، فإذا كان مأموراً بالستر ومنهيّاً عن تركه وجب أن يكون من فروض الصلاة من وجهين، أحدهما : أن ذلك يدل على أن هذا الحكم مأخوذ عن الآية وأن الآية قد أُريد بها الستر في الصلاة، والثاني : أن النهي يقتضي فساد الفعل إلا أن تقوم الدلالة على الجواز.
فإن قال قائل : لو كان الستر من فروض الصلاة لما جازت الصلاة مع عدمه عند الضرورة إلا ببدل يقوم مقامه مثل الطهارة، فلما جازت صلاة العريان إذا لم يجد ثوباً من غير بدل عن الستر دلَّ على أنه ليس من فرضه. قيل له : هذا سؤال ساقط لاتفاق الجميع على جواز صلاة الأُميّ والأخرس مع عدم القراءة من غير بدل عنها، ولم يخرجها ذلك من أن تكون فرضاً.
وزعم بعض من يحتجّ لمالك أنه لو كان الثوب من عمل الصلاة ومن فرضها لوجب على الإنسان أن ينوب بلبس الثوب أنه للصلاة كما ينوي بالافتتاح أنه لتلك الصلاة. وهذا كلام واه جدّاً فاسدُ العبارة مع ضعف المعنى ؛ وذلك لأن الثوب لا يكون من عمل الصلاة ولا من فروضها ولكن ستر العورة من شروطها التي لا تصح إلا به كالطهارة، كما أن استقبال القبلة من شروطها، ولا يحتاج الاستقبال إلى نية، والطهارة من شروطها ولا تحتاج عندنا إلى نية، والقيام في حال الافتتاح من فروضها لمن قدر عليه ولا يحتاج إلى نية، والقيام والقراءة والركوع والسجود بعد الافتتاح من فروضها ولا يحتاج لشيء من ذلك إلى نية.
فإن قيل : لأن نية الصلاة قد أغْنَتْ عن تجديد النية لهذه الأفعال. قيل له : وكذلك نية الصلاة قد أغنت عن تجديد نية للستر.
وقوله تعالى :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ يدل على أنه مندوب في حضور المسجد إلى أخْذِ ثوب نظيف مما يتزين به ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" نُدِبَ إلى ذَلِكَ في الجُمَعِ والأَعْيَادِ "، كما أمر بالاغتسال للعيدين والجمعة وأن يمسَّ من طِيبِ أهله.
قوله تعالى :﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا ﴾ الآية. ظاهره يوجب الأكل والشرب من غير إسراف ؛ وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال والإيجاب في بعضها، فالحال التي يجب فيها الأكل والشرب هي الحال التي يخاف أن يلحقه ضرر بكون ترك الأكل والشرب يتلف نفسه أو بعض أعضائه أو يضعفه عن أداء الواجبات، فواجب عليه في هذه الحال أن يأكل ما يزول معه خوف الضرر ؛ والحال التي هما مباحان فيها هي الحال التي لا يخاف فيها ضرراً بتركها. وظاهره يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر الأشربة مما لا يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفاً فيما يأتيه من ذلك ؛ لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة أن لا يكون مسرفاً فيهما. والإسرافُ هو مجاوزة حدِّ الاستواء، فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام وتارة يكون بمجاوزة الحدّ في الإنفاق فيكون ممن قال الله تعالى :﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ [ الإسراء : ٢٧ ]. والإسراف وضدّه من الإقتار مذمومان، والاستواء هو التوسط ؛ ولذلك قيل : دين الله بين المقصور والغالي، قال الله تعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر، فذلك محرم أيضاً.
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾. رُوي عن الحسن وقتادة :" أن العرب كانت تحرم السوائب والبحائر، فأنزل الله تعالى ذلك ". وقال السدي :" كانوا يحرمون في الإحرام أكْلَ السمن والأدهان، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّاً لقولهم "، وفيه تأكيد لما قدم إباحته في قوله :﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الآية. والطيبات من الرزق قيل فيه وجهان، أحدهما : ما استطابه الإنسان واستلذّه من المأكول والمشروب، وهو يقتضي إباحة سائر المأكول والمشروب إلا ما قامت دلالة تحريمه. والثاني : الحلال من الرزق.
قوله تعالى :﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ﴾. يعني أن الله تعالى أباحها وهي خالصة يوم القيامة لهم من شوائب التنغيص والتكدير. وقيل : هي خالصة لهم دون المشركين.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإِثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ ﴾. قال مجاهد :" الفواحش الزنا وهو الذي بَطَنَ، والتعرِّي في الطواف وهو الذي ظهر ". وقيل : القبائح كلها فواحش، أجمل ذكرها بدياً ثم فصّل وجوهها فذكر أن منها الإثم والبغي والإشراك بالله، والبغي هو طلب الترأس على الناس بالقهر والاستطالة عليهم بغير حق. وقوله :﴿ والإِثْمَ ﴾ مع وصفه الخمر والميسر بأن فيهما إثم، وقوله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] يقتضي تحريم الخمر والميسر أيضاً.
قوله تعالى :﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً ﴾. فيه الأمر بالإخفاء للدعاء. قال الحسن في هذه الآية : علّمكم كيف تدعون ربكم، وقال لعبد صالح رضي دعاءه :﴿ إذ نادى ربه نداء خفيّاً ﴾ [ مريم : ٣ ]. وروى مبارك عن الحسن قال :" كانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع إلا همساً ". وروى أبو موسى الأشعري قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال :" يا أيّها النّاسُ إنّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِباً ". وروى سعد بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ وخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي ". وروى بكر بن خنيس عن ضرار عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عَمَلُ البِرِّ كُلّه نِصْفُ العِبَادَةِ والدُّعَاءُ نِصْفُ العِبَادَةِ ". وروى سالم عن أبيه عن عمر قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لا يردّهما حتى يمسح بهما وجهه ".
قال أبو بكر : في هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليلٌ على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره ؛ لأن الخفية هي السرّ، رُوي ذلك عن ابن عباس والحسن. وفي ذلك دليل على أن إخفاء " آمين " بعد قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أفضل من إظهاره لأنه دعاء، والدليل عليه ما رُوي في تأويل قوله تعالى :﴿ قد أجيبت دعوتكما ﴾ [ يونس : ٨٩ ] قال : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن، فسمّاهما الله داعيين. وقال بعض أهل العلم : إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يَشُوبُهُ رياءٌ.
وأما التضرع فإنه قد قيل إنه المَيْلُ في الجهات، يقال ضَرَعَ الرجل يَضْرَعُ ضَرَعاً إذا مال بأصبعيه يميناً وشمالاً خوفاً وذلاّ، قال : ومنه ضَرْعُ الشاة لأن اللبن يميل إليه، والمضارعة المشابهة لأنها تميل إلى شبه نحو المقاربة. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه كان يدعو ويشير بالسبابة ". وقال ابن عباس :" لقد رُئي النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة رافعاً يديه يدعو حتى إنه ليُرَى ما تحت إبطيه ". وقال أنس :" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه ". وفيما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رَفْعِ اليدين في الدعاء والإشارة بالسّبابة دليل على صحة تأويل من تأوّل التضرُّعَ على تحويل الأصبع يميناً وشمالاً.
قوله تعالى :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾. قال أبو بكر : إنما قال تعالى :﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ لأنه لما قال :﴿ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ جاز أن يسبق إلى وهم بعض السامعين أنه كان عشرين ليلة ثم أتمّها بعشر فصار ثلاثين ليلة، فأزال هذا التوهم والتجوز وأخبر أنه أتم الثلاثين بعشر غيرها زيادة عليها.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾. قيل إنه سأل الرؤية على جهة استخراج الجواب لقومه لما قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جَهْرَةً، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ﴾. وقيل : إنه سأله الرؤية التي هي علم الضرورة، فبيَّن الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا.
فإن قيل : فلم جاز أن يسأل الرؤية وهي غير جائزة على الله تعالى ؟ وهل يجوز على هذا أن يسأله ما لا يجوز على الله تعالى من الظلم ؟. قيل له : لأنه لا شبهة في فعل الظلم أنه صفة نقص وذم فلا يجوز سؤال مثله، وليس كذلك ما فيه شبهة ولا يظهر حكمه إلا بالدلالة، وهذا إن كان سأل الرؤية من غير تشبيه على ما رُوي عن الحسن والربيع بن أنس والسدي وإن كان إنما سأل الرؤية التي هي علم الضرورة أو استخراج الجواب لقومه، فهذا السؤال ساقط. وقيل إن توبة موسى إنما كانت من التقدم بالمسألة قبل الإذن فيها، ويحتمل أن يكون ذكر التوبة على وجه التسبيح على ما جرت عادة المسلمين بمثله عند ظهور دلائل الآيات الداعية إلى التعظيم.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للجَبَلِ ﴾ ؛ فإن التجلِّي على وجهين : ظهور بالرؤية أو الدلالة ؛ والرؤية مستحيلة في الله تعالى فهو ظهور آياته التي أحدثها لحاضري الجبل. وقيل : إنه أبرز من ملكوته للجبل ما يدكدك به ؛ لأن في حكمه تعالى أن الدنيا لا تقوم لما يبرز من الملكوت الذي في السماء، كما رُوي أنه أبرز قدر الخنصر من العرش.
قوله تعالى :﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾ قيل : بأحسن ما كتب فيه، وهو الفرائض والنوافل دون المباح الذي لا حَمْدَ فيه ولا ثواب، وكذلك قوله :﴿ فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ﴾ [ الزمر : ١٨ ]. وقال بعض أهل العلم : أحسنها الناسخ دون المنسوخ المنهيّ عنه. وقد قيل إن هذا لا يجوز ؛ لأن فعل المنسوخ المنهيّ عنه قبيح، فلا يقال الحسن أحسن من القبيح.
قوله تعالى :﴿ سَأَصْرِف عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ ﴾ قيل إن معناه : عن آياتي من العز والكرامة بالدلالة التي تكسب الرفعة في الدنيا والآخرة ؛ ويحتمل : صرفهم عن الاعتراض على آياتي بالإبطال أو بالمنع من الإظهار للناس. ولا يجوز أن يكون معناه : سأصرف عن الإيمان بآياتي ؛ لأنه لا يجوز أن يأمر بالإيمان ثم يمنع منه إذ كان ذلك سفهاً وعبثاً.
قوله تعالى :﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾. قد قيل إن العجلة التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة عمله في أول أوقاته ؛ ولذلك صارت العجلة مذمومة. وقد يكون تعجيل الشيء في وقته، كما رُوي :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجل الظهر في الشتاء ويبرد بها في الصيف ".
وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾، كان على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة ؛ ولأن مثل هذه الأفعال تختلف أحكامها بالعادة، فلم تكن للعادة حينئذ فعله على وجه الإهانة. وقيل : إنه بمنزلة قَبْضِ الرجل منّا عند غضبه على لحيته وعضّه على شفته وإبهامه.
قوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾. قيل إن الأغلب في " خَلْف " بتسكين العين أنه للذم ؛ وقال لبيد :
* وبقيت في خَلْفٍ كجِلْدِ الأجْرَابِ *
وقد جاء بالتسكين في المدح أيضاً، قال حسان :
* لنا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وخَلْفُنَا * لأَوَّلِنَا في طاعة الله تَابِعُ *
قوله تعالى :﴿ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى ﴾ قيل إن العَرَضَ ما يقل لَبْثُه، يقال : عَرَضَ هذا الأَمْرُ فهو عارض خلاف اللازم، قال تعالى :﴿ هذا عارض ممطرنا ﴾ [ الأحقاف : ٢٤ ] يعني السحاب لقلة لبثه. ورُوي في قوله :﴿ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى ﴾ أن معناه الرشوة على الحكم.
قوله تعالى :﴿ وإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾. قال مجاهد وقتادة والسدي :" أهل إصرار على الذنوب ". وقال الحسن :" معناه أنه لا يشبعهم شيء ".
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُوِرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾. قيل إنه أخرج الذرية قرناً بعد قرن وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم وفطرهم من المنازعة لكي تقتضي الإقرار بالربوبية، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى. وقيل : إنه قال لهم ألست بربكم على لسان بعض أنبيائه.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ ﴾ هذه لام العاقبة، كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ﴾ [ القصص : ٨ ] ولم يكن غرضهم ذلك في التقاطه، ولكنه لما كان ذلك عاقبه أمره أطلق ذلك فيهم ؛ ومنه قول الشاعر :
* لِدُوا لِلمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ *
وقال أيضاً :
* وأمّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي * فلِلْمَوْتِ ما غَذَتِ الوَالِدَهْ *
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ ﴾ فيه حَثٌّ على النظر والاستدلال والتفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره، فإنه يدل عليه وعلى حكمته وجُودُه وعدلُه، وأخبر أن في جميع ما خلقه دليلاً عليه وداع إليه، وحذّرهم التفريط بترك النظر إلى وقت حلول الموت وفوات ما كان يمكنه الاستدلال به على معرفة الله تعالى وتوحيده، وذلك قوله تعالى :﴿ وأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فبأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾ الآية. قوله :﴿ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾ قال قتادة والسدي :" قيامها ". وأيان بمعنى متى ؛ وهو سؤال عن الزمان على جهة الظرف للفعل، فلم يخبرهم الله تعالى عن وقتها ليكون العباد على حذر منه فيكون ذلك أدْعَى إلى الطاعة وأَزْجَرَ عن المعصية. والمُرْسَى مُستقرُّ الشيء الثقيل، ومنه الجبال الراسيات يعني الثابتات، ورَسِيَت السفينة إذا ثبتت في مستقرها، وأرساها غيرها أثبتها. قال ابن عباس :" كان السائلون عن الساعة قوم من اليهود ". وقال الحسن وقتادة :" سألت عنها قريش ".
قوله تعالى :﴿ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ قال قتادة : غفلة، وذلك أشدّها.
وقوله تعالى :﴿ ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ﴾، قال السدي وغيره :" ثَقُلَ عِلْمُها على أهل السموات والأرض فلم يطيقوه إدراكاً له "، وقال الحسن :" عظم وَصْفُها على أهل السموات والأرض من انتثار النجوم وتكوير السموات وتسيير الجبال ". وقال قتادة :" ثقلت على السموات فلا تطيقها لعظمها ".
وقوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ خَفِيٌّ عَنْهَا ﴾. قال مجاهد والضحاك ومعمر :" كأنك عالم بها "، وعن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي :" يسألونك عنها كأنك حَفِيٌّ بهم على التقديم والتأخير، أي كأنك لطيف ببرّك إياهم، من قوله :﴿ إنه كان بي حفيّاً ﴾ [ مريم : ٤٧ ]. ويقال إن أصل الحَفَا الإلحاح في الأمرِ، يقال : أَحْفَى فلان فلاناً إذا ألحّ في الطلب منه، وأَحْفَى السؤال إذا ألحّ فيه، ومنه أحْفَى الشارب إذا استأصله واستقصى في أخذه، ومنه الحَفَا وهو أن يتسحّج قدمه لإلحاح المشي بغير نعل، والحَفِيُّ اللطيف تبرك لإلحاحه بالبرِّ لك، و ﴿ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ بمعنى عالم بها لإلحاحه بطلب علمها.
مطلب : في بطلان قول من يدعي العلم ببقاء مدة الدنيا
وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من يدّعي العلم ببقاء مدة الدنيا، ويستدلّ بما رُوي أن الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن الباقي منها من وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان وقت قيام الساعة معلوماً، وقد أخبر الله تعالى أن علمها عنده وأنه لا يجلّيها لوقتها إلا هو، وأنها تأتي بغتة لم يتقدم لهم علم بها قبل كونها لأن ذلك معنى البغتة. وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبار في بقاء مدة الدنيا وليس فيها تحديد للوقت، مثل قوله :" بُعِثْتُ والسَّاعَة كَهَاتَيْنِ " وأشار بالسبابة والوسطى، ونحو قوله فيما رواه شعبة وغيره عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بعد العصر إلى مغيب الشمس قال :" ألا إنّه لم يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فيما مَضَى إِلاّ كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْس إلى أَنْ تَغِيبَ ". وما رَوَى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَجَلُكُمْ في أَجَلِ مَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ كَما بَيْنَ صَلاةِ العَصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ " ونحوها من الأخبار ليس فيها تحديد وقت قيام الساعة وإنما فيه تقريب الوقت. وقد رُوي في تأويل قوله تعالى :﴿ فقد جاء أشراطها ﴾ [ محمد : ١٨ ] أن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أَشراطها، وقال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا عَلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ ثم قال :﴿ قُلْ إِنَّمَا عَلْمُهَا عِنْدَ الله ﴾ فإنه قيل إنه أراد بالأول علم وقتها وبالآخر علم كُنْهِهَا.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ قيل فيه : جعل من كل نفس زوجها، كأنه قال : جعل من النفس زوجها ويريد به الجنس وأضمر ذلك، وقيل : من آدم وحواء.
قوله تعالى :﴿ لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً ﴾ قال الحسن :" غلاماً سويّاً ". وقال ابن عباس :" بشراً سويّاً " لأنهما يشفقان أن يكون بهيمة.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ﴾. قال الحسن وقتادة : الضمير في جعلا عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم لا إلى آدم وحواء. وقال غيرهما : راجع إلى الولد الصالح، بمعنى أنه كان معافًى في بدنه وذلك صلاح في خلقه لا في دينه، ورد الضمير إلى اثنين لأن حواء كانت تلد في بطن واحد ذكراً وأنثى.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادْعُوهُمْ ﴾. عَنَى بالدعاء الأول تسميتهم الأصنام آلهة، والدعاء الثاني طلب المنافع وكشف المضارّ من جهتهم، وذلك مأيوس منهم. وقوله :﴿ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ قيل : إنما سماها عباداً لأنها مملوكة لله تعالى، وقيل : لأنهم توهموا أنها تضرّ وتنفع، فأخبر أنه ليس يخرج بذلك عن حكم العباد المخلوقين. وقال الحسن :" إن الذين يدعون هذه الأوثان مخلوقة أمثالكم ".
قوله تعالى :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ﴾، تقريع لهم على عبادتهم من هذه صفته، إذ لا شبهة على أحد في الناس أن من تبع من هذه صفته فهو أَلْوَمُ ممن عبد من له جارحة يمكن أن ينفع بها أو يضرّ. وقيل : إنه قدرهم أنهم أفضل منها ؛ لأن لهم جوارح يتصرفون بها والأصنام لا تصرُّف لها، فكيف يعبدون من هم أفضل منه ! والعجب من أَنَفَتِهِمْ من اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم مع ما أيّده الله به من الآيات المعجزة والدلائل الباهرة لأنه بشر مثلهم، ولم يأنفوا من عبادة حجر لا قدرة له ولا تصرف وهم أفضل منه في القدرة على النفع والضر والحياة والعلم.
مطلب : في العفو والأمر بالمعروف
قوله تعالى :﴿ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ ﴾. رَوَى هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير في قوله عز وجل :﴿ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ قال : والله ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَثْقَلُ شَيْءٍ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ الخُلُقُ الحَسَنُ ". ورَوَى عطاء عن ابن عمر أنه قال : سأل رجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أي المؤمنين أفضل ؟ قال :" أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان الثوري عن عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بأَمْوَالِكُمْ ولَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ وحُسْنُ الخُلُقِ ". ورُوي عن الحسن ومجاهد قالا :" أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقبل العفو من أخلاق الناس ". والعفو هو التسهيل والتيسير، فالمعنى استعمال العفو وقبول ما سهل من أخلاق الناس وترك الاستقصاء عليهم في المعاملات وقبول العذر ونحوه. ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ خُذِ العَفْوَ ﴾ قال :" هو العفو من الأموال قبل أن ينزل فرض الزكاة "، وكذلك رُوي عن الضحاك والسدي. وقيل : إن أصل العفو الترك، ومنه قوله تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] يعني : ترك له ؛ والعفو عن الذنب تَرْك العقوبة عليه. وقوله تعالى :﴿ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ ﴾ قال قتادة وعروة :" العُرْفُ المعروف ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال : حدثنا سهل بن بكار قال : حدثنا عبدالسلام بن الخليل عن عبيدة الهجيمي قال : قال أبو جُرَيّ جابر بن سليم : ركبت قَعُودي ثم انطلقت إلى مكة فطلبته، فأنَخْتُ قَعُودي بباب المسجد، فإذا هو جالس عليه بُرْدٌ من صوف فيه طرائق حُمْرٌ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله، قال :" وَعَلَيْكَ السَّلامُ " قلت : إنّا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء فعلّمني كلمات ينفعني الله بها ! قال :" ادْنُ " ثلاثاً. فدنوت، فقال :" أَعِدْ عَليَّ " فأعدت، قال :" اتَّقِ الله ولا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً، وأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ، وأَنْ تُفْرِغَ مِنْ فَضْلِ دَلْوِكَ في إِنَاءِ المَسْتَسْقِي، وإن امْرُؤٌ سَبَّك بما يَعْلَمُ مِنْكَ فلا تَسُبَّهُ بما تَعْلَمُ مِنْهُ فإِنَّ الله جَاعِلٌ لَكَ أَجْراً وعَلَيْهِ وِزْراً، ولا تَسُبَّنَّ شيئاً مما خَوَّلَكَ الله تَعَالَى "، قال أبو جُريّ : فوالذي ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئاً لا شاة وبعيراً. والمعروف هو ما حسن في العقل فِعْلُهُ ولم يكن منكراً عند ذوي العقول الصحيحة.
قوله تعالى :﴿ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ أَمَرَ بترك مقابلة الجهّالِ والسفهاء على سفههم وصيانة النفس عنهم. وهذا والله أعلم يشبه أن يكون قبل الأمْرِ بالقتال ؛ لأن الفرض كان حينئذ على الرسول إبلاغهم وإقامة الحجة عليهم، وهو مثل قوله :﴿ فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ [ النجم : ٢٩ ]، وأما بعد الأمْرِ بالقتال فقد تقرّر أمْرُ المبطلين والمفسدين على وجوه معلومة من إنكار فِعْلِهم تارةً بالسيف وتارةً بالسوط وتارةً بالإهانة والحبس.
قوله تعالى :﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. قيل في نزغ الشيطان إنه الإغواء بالوسوسة. وأكثر ما يكون عند الغضب. وقيل إن أصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، ويقال : هذه نَزْغَةٌ من الشيطان، للخصلة الداعية إليه. فلما علم الله تعالى نَزْغَ الشيطان إيّانا إلى الشرّ علّمنا كيف الخلاص من كيده وشره بالفزع إليه والاستعاذة به من نزغ الشيطان وكيده، وبيَّن بالآية التي بعدها أنه متى لجأ العبدُ إلى الله واستعاذ من نزغِ الشيطان حرسه منه وقَوَّى بصيرته بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقُوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ قال ابن عباس :" الطَّيْفُ هو النزغ ". وقال غيره :" الوسوسة ". وهما متقاربان ؛ وذلك يقتضي أنه متى استعاذ بالله من شر الشيطان أعاذه منه وازداد بصيرة في ردِّ وَسْوَاسِهِ والتباعد مما دعاه إليه، ورآه في أخَسِّ منزلة وأقبح صورة لما يعلم من سوء عاقبته إن وافقه وهَوَّن عنده دواعي شهوته.
قوله تعالى :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ﴾. قال الحسن وقتادة والسدي :" إخوان الشياطين في الضلال يَمدّهم الشيطان ". وقال مجاهد :" إخوان المشركين من الشيطان ". وسمّاهم إخواناً لاجتماعهم على الضلالة، كالإِخْوَةِ من النسب في التعاطف به وحَنِين بعضهم إلى بعض لأجله، كما سَمَّى المؤمنين إخواناً بقوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] لتعاطفهم وتواصُلهم بالدين ؛ فأخبر عن حال من استعاذ بالله من نَزْغِ الشيطان ووساوسه في بصيرته ومعرفته بقبح ما يدعوه إليه وتباعده منه ومن دواعي شهواته برجوعه إلى الله وإلى ذكره. وهذه الاستعاذة تجوز أن تكون بقوله :" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وجائز أن تكون بالفكر في نِعَمِ الله تعالى عليه وفي أوامره ونواهيه وما يؤول به إليه الحال من دوام النعيم فيهون عنده دواعي هواه وحوادث شهواته ونزغات الشيطان بها. ثم أخبر تعالى عن حال من أعرض عن ذكر الله والاستعاذة به فقال :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الغَيّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ﴾، فكلما تباعدوا عن الذكر مَضَوْا مع وساوس الشيطان وغَيِّه غير مقصرين عنه، وهو نظير قوله تعالى :﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ﴾ [ طه : ١٢٤ ]، وقوله تعالى :﴿ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ]، وبالله التوفيق.

باب القراءة خلف الإمام


قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾. قال أبو بكر : رُوي عن ابن عباس أنه قال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وقرأ معه أصحابه فخلطوا عليه، فنزل القرآن :﴿ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾. وروى ثابت بن عجلان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾ قال :" المؤمن في سَعَةٍ من الاستماع إليه إلا في صلاة مفروضة أو يوم جمعة أو فطر أو أضحى ". وروى المهاجر أبو مخلد عن أبي العالية قال :" كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزلت :﴿ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾ فسكت القوم وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وروى الشعبي وعطاء قالا :" في الصلاة ". وروى إبراهيم بن أبي حرة عن مجاهد مثله. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد :" أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قراءة فتى من الأنصار وهو في الصلاة يقرأ، فنزلت هذه الآية ". ورُوي عن سعيد بن المسيب أنه قرأ في الصلاة، ورُوي عن مجاهد : أنه في الصلاة والخطبة. والخطبة لا معنى لها في هذا الموضع ؛ لأن موضع القرآن في الخطبة كغيره في وجوب الاستماع والإنصات. ورُوي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية. وهذا أيضاً تأويل بعيد لا يلائم معنى الآية ؛ لأن الذي في الآية إنما هو أمْرٌ بالاستماع والإنصات. ورُوي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية. وهذا أيضاً تأويل بعيد لا يلائم معنى الآية ؛ لأن الذي في الآية إنما هو أمْرٌ بالاستماع والإنصات لقراءة غيره، لاستحالة أن يكون مأموراً بالاستماع والإنصات لقراءة نفسه، إلا أن يكون معنى الحديث أنهم كانوا يتكلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنزلت الآية، فإن كان كذلك فهو في معنى تأويل الآخرين له على تَرْكِ القراءة خلف الإمام ؛ فقد حصل من اتفاق الجميع أنه قد أُريد ترك القراءة خلف الإمام والاستماع والإنصات لقراءته. ولو لم يثبت عن السلف اتفاقهم على نزولها في وجوب تَرْكِ القراءة خلف الإمام لكانت الآية كافية في ظهور معناها وعموم لفظها ووضوح دلالتها على وجوب الاستماع والإنصات لقراءة الإمام ؛ وذلك لأن قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾ يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وفي غيرها، فإن قامت دلالة على جواز ترك الاستماع والإنصات في غيرها لم يبطل حكم دلالته في إيجابه ذلك فيها. وكما دلّت الآية على النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به فهي دالّةٌ على النهي فيما يُخْفَى ؛ لأنه أوجب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن ولم يشترط فيه حال الجهر من الإخفاء، فإذا جهر فعلينا الاستماع والإنصات وإذا أَخْفَى فعلينا الإنصات بحكم اللفظ لعلمنا بأنه قارىء للقرآن.
وقد اختلف الفقهاءُ في القراءة خلف الإمام، فقال أصحابنا وابن سيرين وابن أبي ليلى والثوري والحَسَن بن صالح :" لا يقرأ فيما جهر ". وقال الشافعي :" يقرأ فيما جهر وفيما أَسَرَّ ". وقال مالك :" يقرأ فيما أسرّ ولا يقرأ فيما جهر ". وقال الشافعي :" يقرأ فيما جهر وفيما أسَرّ " في رواية المزني، وفي البويطي :" أنه يقرأ فيما أسرّ بأمّ القرآن وسورة في الأوليين وأم القرآن في الأخريين وفيما جهر فيه الإمام لا يقرأ من خلفه إلا بأمّ القرآن "، قال البويطي : وكذلك يقول الليث والأوزاعي. قال أبو بكر : قد بيّنا دلالة الآية على وجوب الإنصات عند قراءة الإمام في حال الجهر والإخفاء، وقال أهل اللغة : الإنصات الإمساك عن الكلام والسكوت لاستماع القراءة، ولا يكون القارىء مُنْصِتاً ولا ساكتاً بحال ؛ وذلك لأن السكوت ضد الكلام، وهو تسكين الآلة عن التحريك بالكلام الذي هو حروف مقطعة منظومة ضرباً من النظام، فهما يتضادان على المتكلم بآلة اللسان وتحريك الشفة، ألا ترى أنه لا يقال ساكت متكلم كما لا يقال ساكن متحرك ؟ فمن سكت فهو غير متكلم ومن تكلم فهو غير ساكت.
فإن قال قائل : قد يسمَّى مُخْفي القراءة ساكتاً إذا لم تكن قراءته مسموعة ؛ كما رَوَى عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبّر سكت بين التكبير والقراءة " فقلت له : بأبي أنت وأمي أرأيت سكتاتك بين التكبير والقراءة أخبرني ما تقول ؟ قال :" أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْني وبَيْنَ خَطَايَايَ كما بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ " وذكر الحديث، فسماه ساكتاً وهو يدعو خفيّاً، فدل ذلك على أن السكوت إنما هو إخفاء القول وليس بتركه رأساً. قيل له : إنما سميناه ساكتاً مجازاً ؛ لأن من لا يسمعه يظنه ساكتاً، فلما أشبه الساكت في هذا الوجه سماه باسمه لقرب حاله من حال الساكت، كما قال تعالى :﴿ صم بكم عمي ﴾ [ البقرة : ١٨ ] تشبيهاً بمن هذه حاله، وكما قال في الأصنام :﴿ وتراهم ينظرون إليك ﴾ [ الأعراف : ١٩٨ ] تشبيهاً لهم بمن ينظر وليس هو بناظر في الحقيقة. فإن قيل : لا يقرأ المأموم في حال قراءة الإمام وإنما يقرأ في حال سكوته، وذلك لما رَوَى الحسن عن سَمُرَةَ بن جندب قال :" كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان في صلاته إحداهما قبل القراءة والأخرى بعدها "، فينبغي للإمام أن تكون له سَكْتَةٌ قبل القراءة ليقرأ الذين أدركوا أول الصلاة فاتحة الكتاب ثم ينصت لقراءة الإمام، فإذا فرغ سكت سكتة أخرى ليقرأ من لم يدرك أول الصلاة فاتحة الكتاب. قيل له : أما حديث السكتتين فهو غير ثابت ولو ثبت لم يدلّ على ما ذكرت ؛ لأن السكتة الأولى إنما هي لذكر الاستفتاح، والثانية إن ثبتت فلا دلالة فيها على أنها بمقدار ما يقرأ فاتحة الكتاب وإنما هي فصل بين القراءة وبين تكبير الركوع لئلا يظن من لا يعلم أن التكبير من القراءة إذا كان موصولاً بها، ولو كانت السكتتان كل واحدة منهما بمقدار قراءة فاتحة الكتاب لكان ذلك مستفيضاً ونقله شائعاً ظاهراً، فلما لم ينقل ذلك من طريق الاستفاضة مع عموم الحاجة إليه إذْ كانت مفعولة لأداء فرض القراءة من المأموم ثبت أنهما غير ثابتتين. وأيضاً فإن سبيل المأموم أن يتبع الإمام، ولا يجوز أن يكون الإمام تابعاً للمأموم، فعلى قول هذا القائل يسكت الإمام بعد القراءة حتى يقرأ المأموم، وهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم :" إنّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " ثم مع ذلك يكون الأمر على عكس ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله :" وَإِذَا قُرَأَ فأَنْصِتُوا " فأمر المأموم بالإنصات للإمام، وهو يأمر الإمام بالإنصات للمأموم ويجعله تابعاً له، وذلك خُلْفٌ من القول ؛ ألا ترى أن الإمام لو قام في الثنتين من الظهر ساهياً لكان على المأموم اتباعه، ولو قام المأموم ساهياً لم يكن على الإمام اتباعه، ولو سها المأموم لم يسجد هو ولا إمامه للسهو، ولو سها الإمام ولم يَسْهَ المأموم لكان على المأموم اتباعه ؟ فكيف يجوز أن يكون الإمام مأموراً بالقيام ساكتاً ليقرأ المأموم.
وقد رُوي في النهي عن القراءة خلف الإمام آثارٌ مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنحاء مختلفة، فمنها حديث قتادة عن أبي غلاب يونس بن جبير عن حِطّان بن عبدالله عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إِذَا قَرَأَ الإِمَامُ فَأَنْصِتُوا "، وحديث ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ". فهذان الخبران يوجبان الإنصاتَ عند قراءة الإمام. وقوله :" إنَّما جُعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فأنصتوا " إخبارٌ منه أن من الائتمام بالإمام الإنصات لقراءته، وهذا يدل على أنه غير جائز أن ينصت الإمام لقراءة المأموم ؛ لأنه لو كان مأموراً بالإنصات له لكان مأموراً بالائتمام به، فيصير الإمام مأموماً والمأموم إماماً في حالة واحدة، وهذا فاسد.
ومنها حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإمَامِ لَهُ قِرَاءةٌ " رواه جماعة عن جابر، وفي بعض الألفاظ :" إِذَا كَانَ لَكَ إِمَامٌ فَقِرَاءَتُهُ لَكَ قِرَاءَةٌ ". ومنها حديث عمران بن حُصَيْن :" أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن القراءة خلف الإمام "، رواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين. وقد ذكرنا أسانيد هذه الأخبار في شرح مختصر الطحاوي.
ومنها حديث مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبدالله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاجٌ " وفي بعضها :" لم يُصَلِّ إِلاّ وَرَاءَ الإمَامِ "، فأخبر أن ترك قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام لا يوجب نقصاناً في الصلاة، ولو جاز أن يقرأ لكان تركها يوجب نقصاً فيها كالمنفرد. ورَوَى مالك عن ابن شهاب عن ابن أُكيمة الليثي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال :" هَلْ قَرَأَ مَعي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفاً ؟ " قالوا : نعم يا رسول الله، قال :" إِنّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآن " قال : فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله لما قال صلى الله عليه وسلم :" هل قرأ معي أحد منكم " ؛ دل ذلك على أن القارىء خلفه أَخْفَى قراءته ولم يجهر بها ؛ لأنه لو كان جهر بها لما قال :" هل قرأ معي أحد منكم " ثم قال :" إني أقول ما لي أنازع القرآن "، وفي ذلك دليل على استواء حكم الصلاة التي يجهر فيها والتي تخافت لإخباره أن قراءة المأموم هي الموجبة لمنازعة القرآن. وأما قوله :" فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله " فلا حجة فيه لمن أجاز القراءة خلف الإمام فيما يُسِرُّ فيه، مِنْ قِبَلِ أن ذلك قول الراوي وتأويل منه، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين حال الجهر والإخفاء.
ومنها حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي الأحْوَصِ عن عبدالله قال : كنا نقرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" خَلَّطْتُمْ عَليَّ القُرْآنَ ". وهذا أيضاً يدل على التسوية بين حال الجهر والإخفاء إذ لم يذكر فرقاً بينهما. وروى الزهري عن عبدالرّحمن بن هرمز عن ابن بحينة وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ آنِفاً في الصَّلاةِ ؟ " قالوا : نعم، قال :" فإِنّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآن "، قال : فانتهى الناس عن القراءة معه منذ قال ذلك، فأخبر في هذا الحديث عن تركهم القراءة خلفه ولم يفرق بين الجهر والإخفاء ؛ فهذه الأخبار كلها توجب النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يسرّ. ومما يدل على ذلك ما رُوي عن جُلّة الصحابة من النهي عن القراءة خلف الإمام وإظهار النكير على
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ﴾. قال أبو بكر : الذكر على وجهين، أحدهما : الفكر في عظمة الله وجلاله ودلائل قدرته وآياته، وهذا أفضل الأذكار إذْ به يستحق الثواب على سائر الأذكار سواه، وبه يتوصل إليه. والذكر الآخر : القول، وقد يكون ذلك الذكر دعاء وقد يكون ثناء على الله تعالى ويكون قراءة للقرآن ويكون دعاء للناس إلى الله ؛ وجائز أن يكون المراد الذكرين جميعاً من الفكر والقول فيكون قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ ﴾ هو الفكر في دلائل الله وآياته.
وقوله تعالى :﴿ ودون الجهر من القول ﴾ فيه نصّ على الذكر باللسان، وهذا الذكر يجوز أن يريد به قراءة القرآن وجائز أن يريد الدعاء، فيكون الأفضل في الدعاء الإخفاء، على نحو قوله تعالى :﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ وإن أراد به قراءة القرآن كان في معنى قوله :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ]. وقيل : إنما كان إخفاءُ الدعاء أفضل لأنه أبعد من الرياء وأقرب من الإخلاص وأجدر بالاستجابة، إذ كانت هذه صفته. وقيل : إن ذلك خطاب للمستمع للقرآن لأنه معطوف على قوله :﴿ وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾. وقيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى عام لسائر المكلفين كقوله عز وعلا :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ [ الطلاق : ١ ]. وقال قتادة :" الآصال العَشِيَّاتُ ".
Icon