تفسير سورة الأعراف

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة الأعراف مكية وهي مائتان وست آيات

﴿ كِتَابٌ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي هو كتاب. و ﴿ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ صفة له. والمراد بالكتاب السورة ﴿ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ ﴾ أي شك منه، كقوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ [ يونس : ٩٤ ] وسمى الشك حرجاً، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أي لا تشكّ في أنه منزل من الله، ولا تحرج من تبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمّنه الله ونهاه عن المبالاة بهم. فإن قلت : بم تعلق قوله :﴿ لّتُنذِرَ ﴾ ؟ قلت : بأنزل، أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار ؛ لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه، متكل على عصمته، فإن قلت ؛ فما محل ذكرى ؟ قلت : يحتمل الحركات الثلات. النصب بإضمار فعلها. كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيراً لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفاً على كتاب، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف. والجر للعطف على محل أن تنذر، أي للإنذار وللذكرى. فإن قلت : النهي في قوله :﴿ فَلاَ يَكُن ﴾ متوجه إلى الحرج فما وجهه ؟ قلت : هو من قولهم : لا أرينك ههنا.
﴿ اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ﴾ من القرآن والسنّة ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ ﴾ من دون الله ﴿ أَوْلِيَاء ﴾ أي ولا تتلوا من دونه من شياطين الجنّ والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم، وأمركم باتباعه. وعن الحسن : يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنّة محمد صلى الله عليه وسلم. والله ما نزلت آية إلاّ وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها. وقرأ مالك بن دينار :«ولا تبتغوا » من الابتغاء ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ]. ويجوز أن يكون الضمير في ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ لما أنزل، على : ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. وقرئ :«تذكرون »، بحذف التاء. «ويتذكرون » بالياء. و ﴿ قَلِيلاً ﴾ : نصب يتذكرون، أي تذكرون تذكراً قليلاً. و ﴿ مَآ ﴾ مزيدة لتوكيد القلة.
﴿ فَجَاءهَا ﴾ فجاء أهلها ﴿ بَيَاتًا ﴾ مصدر واقع موقع الحال، بمعنى بائتين. يقال : بات بياتاً حسناً، وبيتة حسنة، وقوله :﴿ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ حال معطوفة على «بياتاً »، كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين. فإن قلت : هل يقدر حذف المضاف الذي هو الأهل قبل ﴿ قَرْيَةٌ ﴾ أو قبل الضمير في ﴿ أهلكناها ﴾ ؟ قلت : إنما يقدّر المضاف للحاجة ولا حاجة، فإنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها. وإنما قدّرناه قبل الضمير في ﴿ فَجَاءهَا ﴾ لقوله ﴿ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ فإن قلت : لا يقال : جاءني زيد هو فارس، بغير واو، فما بال قوله :﴿ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ ؟ قلت : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال : لو قلت جاءني زيد راجلاً، أو هو فارس. أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً. لاجتماع حرفي عطف، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك : جاءني زيد راجلاً أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حده وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث. فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا ﴾ والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس ؟ قلت : معناه أردنا إهلاكها، كقوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ [ المائدة : ٦ ] وإنما خصّ هذان الوقتان وقت البيات ووقت القيلولة، لأنهما وقت الغفلة والدعة، فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ وأفظع، وقوم لوط أهلكوا بالليل وقت السحر، وقوم شعيب وقت القيلولة.
﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ﴾ ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلاّ اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم :﴿ إِنَّا كُنَّا ظالمين ﴾ فيما كنا عليه. ويجوز : فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره، ومن قولهم دعواهم : يا لكعب. ويجوز، فما كان دعواهم ربهم إلاّ اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم، و ﴿ دَعْوَاهُمْ ﴾ نصب خبر لكان، و ﴿ أَن قَالُواْ ﴾ رفع اسم له، ويجوز العكس.
﴿ فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ ﴿ أُرْسِلَ ﴾ مسند إلى الجار والمجرور وهو ﴿ إِلَيْهِمْ ﴾ ومعناه : فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم، كما قال :﴿ وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين ﴾ [ القصص : ٦٥ ] ويسأل المرسلين عما أجيبوا به، كما قال :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ].
﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم ﴾ على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم ﴿ بِعِلْمٍ ﴾ عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم ﴿ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ عنهم وعما وجد منهم، فإن قلت : فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم، فما معنى سؤالهم ؟ قلت : معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.
﴿ والوزن يَوْمَئِذٍ الحق ﴾ يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها. ورفعه على الابتداء. وخبره ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾. و ﴿ الحق ﴾ صفته أي : والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحق، أي العدل. وقرئ :«القسط ». واختلف في كيفية الوزن فقيل : توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان، تنظر إليه الخلائق، تأكيداً للحجة، وإظهاراً للنصفة، وقطعاً للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والإشهاد، وكما تثبت في صحائفهم فيقرؤونها في موقف الحساب. وقيل : هي عبارة عن القضاء السويّ والحكم العادل ﴿ فَمَن ثَقُلَتْ موازينه ﴾ جمع ميزان أو موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن : وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل. وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف.
﴿ بآياتنا يَظْلِمُونَ ﴾ يكذبون بها ظلماً : كقوله :﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ].
﴿ مكناكم فِى الأرض ﴾ جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش ﴾ جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أوما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء. وعن ابن عامر : أنه همز، على التشبيه بصحائف.
﴿ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم ﴾ يعني خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك. ألا ترى إلى قوله :﴿ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ ﴾ الآية ﴿ مّنَ الساجدين ﴾ ممن سجد لآدم.
﴿ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾ «لا » في ﴿ أَن لا تَسْجُدَ ﴾ صلة بدليل قوله :﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ] ومثلها ﴿ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ] بمعنى ليعلم : فإن قلت : ما فائدة زيادتها ؟ قلت : توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك ؟ ﴿ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ لأن أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً وأحتمه عليك حتماً لا بدّ منه، فإن قلت : لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه ؟ قلت : للتوبيخ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب. فإن قلت : كيف يكون قوله :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ﴾ جواباً لما منعك، وإنما الجواب أن يقول : منعني كذا ؟ قلت : قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم، وبعلة فضله عليه، وهو أنّ أصله من نار وأصل آدم من طين، فعلم منه الجواب وزيادة عليه، وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، كأنه يقول : من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به.
﴿ فاهبط مِنْهَا ﴾ من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين ﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ ﴾ فما يصحّ لك ﴿ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ وتعصي ﴿ فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين ﴾ من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أولياؤه لتكبرك، كما تقول للرجل : قم صاغراً، إذا أهنته. وفي ضدّه : قم راشداً. وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. وعن عمر رضي الله عنه : من تواضع لله رفع الله حَكَمَتَهُ وقال : انتعش أنعشك الله. ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض.
فإن قلت : لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم قلت : لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى ﴾ فبسبب إغوائك إياي لأقعدنّ لهم. وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي ولم يثبت كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفساً ومناصب، وعن الأصم : أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى : فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. فإن قلت : بم تعلقت الباء، فإن تعلقها بلأقعدنّ يصدّ عنه لام القسم، لا تقول : والله بزيد لأمرّنّ ؟ قلت : تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ، أي فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم، أي : فأقسم بإغوائك لأقعدن، وإنما أقسم بالإغواء ؛ لأنه كان تكليفاً، والتكليف من أحسن أفعال الله، لكونه تعريضاً لسعادة الأبد، فكان جديراً بأن يقسم به. ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاوس : أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس : تقوم أو تقام، فقام الرجل، فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه ؟ فقال : إبليس أفقه منه، قال رب بما أغويتني، وهذا يقول : أنا أغوي نفسي، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين. وقيل :﴿ مَا ﴾ للاستفهام، كأنه قيل : بأي شيء أغويتني، ثم ابتدئ لأقعدنّ. وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما » الاستفهامية، قليل شاذ. وأصل الغيّ الفساد. ومنه : غوى الفصيل، إذا بشم. والبشم : فساد في المعدة ﴿ لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ﴾ لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدوّ على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف، كقوله :
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ ***
وشبهه الزجاج بقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان قعد لابن آدم بأَطرُقِهِ : قعد له بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرب، فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل ".
﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم ﴾ من الجهات الأربع التي يأتي منها العدوّ في الغالب. وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله :﴿ واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾ [ الإسراء : ٦٤ ]. فإن قلت : كيف قيل :﴿ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ بحرف الابتداء ﴿ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ ﴾ بحرف المجاوزة ؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به. فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس. وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا : معنى «على يمينه » أنه تمكن من جهة اليمين تمكُّن المستعلي من المستعلى عليه.
ومعنى «عن يمينه » أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له. ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، كما ذكرنا في «تعال ». ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس، وعلى القوس، ومن القوس ؛ لأن السهم يبعد عنها، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه ؛ لأنهما ظرفان للفعل. ومن بين يديه ومن خلفه : لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، كما تقول : جئته من الليل، تريد بعض الليل، وعن شقيق : ما من صباح إلاّ قعد لي الشيطان على أربع مراصد : من بين يديّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي : أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف، فإن الله غفور رحيم، فأقرأ :﴿ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صالحا ﴾ [ طه : ٨٢ ] وأمّا من خلفي، فيخوّفني الضيعة على مخلفي فأقرأ :﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ] وأمّا من قبل يميني، فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ :﴿ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ] وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [ سبأ : ٥٤ ]. ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين ﴾ قاله تظنيناً، بدليل قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ] وقيل : سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم.
﴿ مَذْءُومًا ﴾ من ذأمه إذا ذمّه. وقرأ الزهري :«مذوما »، بالتخفيف، مثل مسول في مسئول. واللام في ﴿ لَّمَن تَبِعَكَ ﴾ موطئه للقسم. و ﴿ لأَمْلاَنَّ ﴾ جوابه، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ﴿ مّنكُمْ ﴾ منك ومنهم، فغلب ضمير المخاطب، كما في قوله :﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ]. وروى عصمة عن عاصم :«لمن تبعك » بكسر اللام، بمعنى : لمن تبعك منهم هذا الوعيد، وهو قوله :﴿ لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، على أن ﴿ لأَمْلاَنَّ ﴾ في محل الابتداء، و ﴿ لَّمَن تَبِعَكَ ﴾ خبره.
﴿ وَعَلَّمَ ءادَمَ ﴾ وقلنا : يا آدم. وقرئ :«هذي الشجرة » والأصل الياء، والهاء بدل منها.
ويقال : وسوس، إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره. ومنه وسوس الحليّ، وهو فعل غير متعدّ، كولولت المرأة ووعوع الذئب، ورجل موسوس- بكسر الواو- ولا يقال موسوس بالفتح، ولكن موسوس له، وموسوس إليه، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى وسوس له : فعل الوسوسة لأجله، ووسوس إليه : ألقاها إليه ﴿ لِيُبْدِيَ ﴾ جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره، وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول. فإن قلت : ما للواو المضمومة في ﴿ وُورِيَ ﴾ لم تقلب همزة كما قلبت في أو يصل ؟ قلت : لأن الثانية مدّة كألف وارى. وقد جاء في قراءة عبد الله :«أورى » بالقلب ﴿ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ إلاّ كراهة أن تكونا ملكين. وفيه دليل على أن الملكية بالمنظر الأعلى، وأن البشرية تلمح مرتبتها كلا ولا. وقرئ :«ملكين » بكسر اللام، كقوله ﴿ وَمُلْكٍ لاَّ يبلى ﴾ [ طه : ١٢٠ ]. ﴿ مِنَ الخالدين ﴾ من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين. وقرئ :«من سوأتهما »، بالتوحيد، «وسوَّاتهما »، بالواو المشددة.
﴿ وَقَاسَمَهُمَا ﴾ وأقسم لهما ﴿ إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾. فإن قلت : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك تقول : قاسمت فلاناً حالفته، وتقاسما تحالفا. ومنه قوله تعالى :﴿ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيّتَنَّهُ ﴾ [ النمل : ٤٩ ]. قلت : كأنه قال لهما : أقسم لكما إني لمن الناصحين، وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمة بينهم. أو أقسم لهما بالنصحية وأقسما له بقبولها. أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم.
﴿ فدلاهما ﴾ فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة ﴿ بِغُرُورٍ ﴾ بما غرّهما به من القسم بالله. وعن قتادة : وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق، فقيل له : إنهم يخدعونك، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة ﴾ وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل : الشجرة هي السنبلة. وقيل : شجرة الكرم ﴿ بَدَتْ لَهُمَا سوءاتهما ﴾ أي تهافت عنهما اللباس فظهرت لهما عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضي الله عنها : ما رأيت منه ولا رأى مني. وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار. وعن وهب : كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر. ويقال : طفق يفعل كذا، بمعنى جعل يفعل كذا. وقرأ أبو السَّمَّال :«وطفقا » بالفتح ﴿ يَخْصِفَانِ ﴾ ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بها، كما يخصف النعل، بأن تجعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور.
وقرأ الحسن :«يخصفان » بكسر الخاء وتشديد الصاد، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري :«يُخصفان »، من أخصف، وهو منقول من خصف أي يخصفان أنفسهما وقرىء :«يخصفان » من خصف بالتشديد ﴿ مِن وَرَقِ الجنة ﴾ قيل : كان ورق التين ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا ﴾ عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس وروي : أنه قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة ؟ فقال : بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً. قال : فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلاّ كدّاً. فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.
وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً لأنفسهما، وقالا :﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين ﴾ على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات، واستصغارهم العظيم من الحسنات.
﴿ اهبطوا ﴾ الخطاب لآدم وحواء وإبليس. و ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ في موضع الحال، أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه ﴿ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ استقرار، أو موضع استقرار ﴿ ومتاع إلى حِينٍ ﴾ وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابت البناني : لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة، فجعلت حواء تدور حولهم، فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك، فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً، وحنطته وكفنته في وتر من الثياب، وحفروا له ولحدوا، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند، وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده.
جعل ما في الأرض منزلاً من السماء، لأنه قضى ثم وكتب. ومنه ﴿ وأَنَزلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج ﴾ [ الزمر : ٦ ] والريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين : لباساً يواري سوآتكم، ولباساً يزينكم ؛ لأن الزينة غرض صحيح، كما قال :﴿ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾. ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ [ النحل : ٦ ] وقرأ عثمان رضي الله عنه :«ورياشاً » جمع ريش، كشعب وشعاب ﴿ وَلِبَاسُ التقوى ﴾ ولباس الورع والخشية من الله تعالى، وارتفاعه عن الابتداء وخبره إمّا الجملة التي هي ﴿ ذلك خَيْرٌ ﴾ كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وأمّا المفرد الذي هو خير وذلك صفة للمبتدأ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تخلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى، أو أن تكون إشارة إلى اللباس المواري للسوأة، لأنّ مواراة السوأة من التقوى، تفضيلاً له على لباس الزينة. وقيل : لباس التقوى خبر مبتدأ محذوف، أي وهو لباس التقوى، ثم قيل : ذلك خير. وفي قراءة عبد الله وأبيّ :«ولباس التقوى خير » وقيل : المراد بلباس التقوى : ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقى به في الحروب وقرئ :«ولباس التقوى »، بالنصب عطفاً على لباساً وريشاً ﴿ ذلك مِنْ ءايات الله ﴾ الدالة على فضله ورحمته على عباده. يعني إنزال اللباس ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ فيعرفوا عظيم النعمة فيه وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
﴿ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان ﴾ لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها ﴿ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾ حال، أي أخرجهما نازعاً لباسهما، بأن كان سبباً في أن نزع عنهما ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ ﴾ تعليل للنهي وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. وعن مالك بن دينار : إنّ عدواً يراك ولا تراه، لشديد المؤنة إلاَّ من عصم الله ﴿ وَقَبِيلُهُ ﴾ وجنوده من الشياطين، وفيه دليل بَيِّنٌ أن الجنّ لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن أظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرقة ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي خلينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول. فإن قلت : علام عطف وقبيله ؟ قلت : على الضمير في يراكم المؤكد بهو، والضمير في إنه للشأن والحديث، وقرأ اليزيدي :«وقبيله » بالنصب وفيه وجهان : أن يعطفه على اسم إنّ، وأن تكون الواو بمعنى مع، وإذا عطفه على اسم إن وهو الضمير في إنه، كان راجعاً إلى إبليس.
الفاحشة : ما تبالغ في قبحه من الذنوب، أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم، وبأن الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها. وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق للعلم. والثاني : افتراء على الله وإلحاد في صفاته، كانوا يقولون : لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه. وعن الحسن : إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى :﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء ﴾ لأن فعل القبح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط. وقيل : المراد بالفاحشة : طوافهم بالبيت عراة.
﴿ بالقسط ﴾ بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل : بالتوحيد ﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ وقل : أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها ﴿ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ﴾ في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة ﴿ وادعوه ﴾ واعبدوه ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصاً ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، احتج عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى : أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.
﴿ فَرِيقًا هدى ﴾ وهم الذين أسلموا، أي وفقهم للإيمان ﴿ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة ﴾ أي كلمة الضلالة، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون. وانتصاب قوله :﴿ وَفَرِيقًا ﴾ بفعل مضمر يفسره ما بعده، كأنه قيل : وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة ﴿ إِنَّهُمُ ﴾ إن الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة :﴿ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء ﴾ أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله.
﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾ أي ريشكم ولباس زينتكم ﴿ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ﴾ كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس، لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل : تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. وقيل : الزينة المشط. وقيل : الطيب. والسنّة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلاّ قوتاً، ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم : كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وعن ابن عباس رضي الله عنه :" كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة. " ويحكى : أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى :﴿ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾ فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب ؟ فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال : وما هي ؟ قال قوله :«المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عوّدته » فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
﴿ زِينَةَ الله ﴾ من الثياب وكل ما يتجمل به ﴿ والطيبات مِنَ الرزق ﴾ المستلذات من المآكل والمشارب. ومعنى الاستفهام في من : إنكار تحريم هذه الأشياء. قيل : كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها ﴿ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الحياة الدنيا ﴾ غير خالصة لهم ؛ لأنّ المشركين شركاؤهم فيها ﴿ خَالِصَةٌ ﴾ لهم ﴿ يَوْمُ القيامة ﴾ لا يشركهم فيها أحد. فإن قلت : هلا قيل : هي للذين آمنوا ولغيرهم. قلت : لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] وقرئ :«خالصةً » بالنصب على الحال، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر.
﴿ الفواحش ﴾ ما تفاحش قبحه أي تزايد. وقيل : هي ما يتعلق بالفروج ﴿ والإثم ﴾ عام لكل ذنب. وقيل : شرب الخمر ﴿ والبغى ﴾ الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال :﴿ وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغى ﴾. ﴿ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا ﴾ فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله ﴾ وأن تتقوّلوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره.
﴿ وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرئ :«فإذا جاء آجالهم ». وقال :﴿ سَاعَةً ﴾ لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس. يقول المستعجل لصاحبه : في ساعة، يريد أقصر وقت وأقربه.
﴿ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ هي «إن » الشرطية ضمت إليها «ما » مؤكدة لمعنى الشرط. ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة. فإن قلت : فما جزاء هذا الشرط ؟ قلت : الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى : فمن اتقى وأصلح منكم، والذين كذبوا منكم. وقرئ :«تأتينكم »، بالتاء.
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ فمن أشنع ظلماً ممن تقول على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله :﴿ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب ﴾ أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار ﴿ حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا ﴾ حتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، أي إلى وقت وفاتهم، وهي «حتى » التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام ههنا الجملة الشرطية، وهي إذا جاءتهم رسلنا قالوا. و ﴿ يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾ حال من الرسل، أي متوفيهم. والرسل ملك الموت وأعوانه. «وما » وقعت موصولة بأين في خط المصحف، وكان حقها أن تفصل ؛ لأنها موصولة بمعنى : أين الآلهة الذين تدعون ﴿ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافاً منهم بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.
﴿ قَالَ ادخلوا ﴾ أي يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته ﴾ وهم كفار العرب ﴿ فِى أُمَمٍ ﴾ في موضع الحال، أي كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، أي ادخلوا في النار مع أمم ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ وتقدّم زمانهم زمانكم ﴿ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ التي ضلت بالاقتداء بها ﴿ حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا ﴾ أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار ﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ﴾ منزلة وهي الأتباع والسفلة ﴿ لأولاهم ﴾ منزلة وهي القادة والرؤس. ومعنى لأولاهم : لأجل أولاهم ؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم ﴿ عَذَاباً ضِعْفاً ﴾ مضاعفاً ﴿ لِكُلّ ضِعْفٌ ﴾ لأنّ كلا من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين ﴿ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ قرئ الياء والتاء.
﴿ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة ﴿ لِكُلّ ضِعْفٌ ﴾ أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، وأنا متساوون في استحقاق الضعف ﴿ فَذُوقُواْ العذاب ﴾ من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعاً.
﴿ لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء ﴾ لا يصعد لهم عمل صالح ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب ﴾ [ فاطر : ١٠ ]، ﴿ كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ ﴾ [ المطففين : ١٨ ] وقيل : إنّ الجنة في السماء، فالمعنى لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرّق لهم إليها ليدخلوا الجنة. وقيل : لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين. وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، ففتحنا أبواب السماء. وقرئ :«لا تفتح »، بالتشديد. «ولا يفتح » بالياء. «ولا تفتح » بالتاء والبناء للفاعل ونصب الأبواب على أنّ الفعل للآيات. وبالياء على أن الفعل لله عزّ وجلّ. وقرأ ابن عباس :«الجمل »، بوزن القمل. وسعيد بن جبير :«الجمل » بوزن النغر. وقرئ :«الجمل » بوزن القفل. «والجمل » بوزن النصب. «والجمل ». بوزن الحبل. ومعناها القلس الغليظ لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة، وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنّ الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة، والبعير لا يناسبه ؛ إلاّ أن قراءة العامّة أوقع لأنّ سم الإبرة مثل في ضيق المسلك. يقال : أضيق من خرت الإبرة. وقالوا للدليل الماهر : خِرِّيت، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر. والجمل : مثل في عظم الجرم. قال :
جِسْمُ الْجِمَالِ وَأَحْلاَمُ الْعَصَافِير ِ***
إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل : لا يدخلون الجنة، حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلاّ في باب واسع، في ثقب الإبرة، وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل، فقال : زوج الناقة، استجهالاً للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. وقرئ ؛ «في سم » بالحركات الثلاث : وقرأ عبد الله :«في سم المهيط » والخياط ؛ والمخيط كالحزام والمحزم : ما يخاط به وهو الإبرة ﴿ وكذلك ﴾ ومثل ذلك الجزاء الفظيع ﴿ نَجْزِى المجرمين ﴾ ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب، وقد كرره فقال :﴿ وكذلك نَجْزِى الظالمين ﴾ لأنّ كلّ مجرم ظالم لنفسه.
﴿ مِهَادٌ ﴾ فراش ﴿ غَوَاشٍ ﴾ أغطية. وقرئ :«غواش » بالرفع، كقوله تعالى :﴿ وَلَهُ الجوار المنشآت ﴾ [ الرحمن : ٢٤ ] في قراءة عبد الله.
﴿ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ جملة معترضة بين المبتدإ والخبر، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل والصالح. وقرأ الأعمش :«لا تكلف نفس ».
من كان في قلبه غلّ على أخيه في الدنيا نزع منه، فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلاّ التوادّ والتعاطف. وعن عليّ رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ﴿ هَدَانَا لهذا ﴾ أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ ﴾ اللام لتوكيد النفي ويعنون : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه. وفي مصاحف أهل الشام : ما كنا لنهتدي بغير واو، على أنها جملة موضحة للأولى ﴿ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق ﴾ فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به لا تقرّباً وتعبداً، كما نرى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة :﴿ ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة ﴾ أن مخففة من الثقيلة تقديره : ونودوا بأنه تلكم الجنة ﴿ أُورِثْتُمُوهَا ﴾ والضمير ضمير الشأن والحديث أو تكون بمعنى أي ؛ لأنّ المناداة من القول، كأنه قيل : وقيل لهم أي تلكم الجنة أورثتموها. ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ بسبب أعمالكم لا بالتفضل، كما تقول المبطلة.
«أن » في ﴿ أَن قَدْ وَجَدْنَا ﴾ يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت آنفاً، وكذلك ﴿ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وزيادة في غمهم، لتكون حكايته لطفاً لمن سمعها، وكذلك قول المؤذن بينهم : لعنة الله على الظالمين. وهو ملك يأمره الله فينادي بينهم نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. وقرئ :«أن لعنة الله » بالتشديد والنصب. وقرأ الأعمش :«إن لعنة الله » بكسر إن على إرادة القول، أو على إجراء ﴿ أَذِنَ ﴾ مجرى قال. فإن قلت : هلا قيل : ما وعدكم ربكم، كما قيل : ما وعدنا ربنا ؟ قلت : حذف ذلك تخفيفاً لدلالة وعدنا عليه. ولقائل أن يقول : أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة ؛ لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم وما نعيم أهل الجنة إلاّ عذاب لهم فأطلق لذلك.
﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾ يعني بين الجنة والنار. أو بين الفريقين، وهو السور المذكور في قوله تعالى :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور ﴾ [ الحديد : ١٣ ] ﴿ وَعَلَى الأعراف ﴾ وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه، جمع عرف استعير من عرف الفرس وعرف الديك ﴿ رِجَالٌ ﴾ من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم، كأنهم المرجون لأمر الله، يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة ﴿ يَعْرِفُونَ كُلاًّ ﴾ من زمر السعداء والأشقياء ﴿ بسيماهم ﴾ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها، يلهمهم الله ذلك : أو تعرّفهم الملائكة.
إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار ﴾ ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم :﴿ أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ﴾ إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة﴿ ادخلوا الجنة ﴾ يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفونهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملاً. قوله :﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم ﴾ فيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش :«وإذا قلبت أبصارهم ».
وقرئ :«ادخلوا الجنة » على البناء للمفعول. وقرأ عكرمة :«دخلوا الجنة »، فإن قلت : كيف لاءم هاتين القراءتين قوله :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ ؟ قلت : تأويله : ادخلوا، أو دخلوا الجنة مقولاً لهم : لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فإن قلت : ما محل قوله : لم يدخلوها وهم يطمعون ؟ قلت : لا محل له لأنه استئناف ؛ كأن سائلاً سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون، يعني حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لرجال ﴿ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ﴾ المال أو كثرتكم واجتماعكم ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ :«تستكثرون » من الكثرة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار ﴾ ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم :﴿ أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ﴾ إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة﴿ ادخلوا الجنة ﴾ يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفونهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملاً. قوله :﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم ﴾ فيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش :«وإذا قلبت أبصارهم ».
وقرئ :«ادخلوا الجنة » على البناء للمفعول. وقرأ عكرمة :«دخلوا الجنة »، فإن قلت : كيف لاءم هاتين القراءتين قوله :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ ؟ قلت : تأويله : ادخلوا، أو دخلوا الجنة مقولاً لهم : لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فإن قلت : ما محل قوله : لم يدخلوها وهم يطمعون ؟ قلت : لا محل له لأنه استئناف ؛ كأن سائلاً سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون، يعني حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لرجال ﴿ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ﴾ المال أو كثرتكم واجتماعكم ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ :«تستكثرون » من الكثرة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار ﴾ ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم :﴿ أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ﴾ إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة﴿ ادخلوا الجنة ﴾ يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفونهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملاً. قوله :﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم ﴾ فيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش :«وإذا قلبت أبصارهم ».
وقرئ :«ادخلوا الجنة » على البناء للمفعول. وقرأ عكرمة :«دخلوا الجنة »، فإن قلت : كيف لاءم هاتين القراءتين قوله :﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ ؟ قلت : تأويله : ادخلوا، أو دخلوا الجنة مقولاً لهم : لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فإن قلت : ما محل قوله : لم يدخلوها وهم يطمعون ؟ قلت : لا محل له لأنه استئناف ؛ كأن سائلاً سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون، يعني حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لرجال ﴿ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ﴾ المال أو كثرتكم واجتماعكم ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ :«تستكثرون » من الكثرة.

﴿ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا ﴾ فيه دليل على أن الجنة فوق النار ﴿ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله ﴾ من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة، ويجوز أن يراد : أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة. كقوله :
عَلَفْتُهَا تِبْنَاً ومَاءً بَارِداً ***
وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم، كما يفعل المضطر الممتحن. ﴿ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين ﴾ منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرّم عليه ويحظر، كقوله :
حَرَامٌ عَلَى عَيْنِيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى ***
﴿ فاليوم ننساهم ﴾ نفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به ﴿ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا ﴾ كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به.
﴿ فصلناه على عِلْمٍ ﴾ عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء حكيماً قيماً غير ذي عوج قرأ ابن محيصن فضلتاه بالضاد المعجمة بمعنى فضلناه على جميع الكتب، عالمين أنه أهل للتفضيل عليها، و ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً ﴾ حال من منصوب فصلناه، كما أن على علم حال من مرفوعه.
﴿ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ إلاّ عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد ﴿ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق ﴾ أي تبين وصحّ أنهم جاؤوا بالحق ﴿ نُرَدُّ ﴾ جملة معطوفة على الجملة قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل : هل لنا من شفعاء ؟ أو هل نردّ ؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم، كما تقول ابتداء : هل يضرب زيد ؟ ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه. فلا يقدّر : هل يشفع لنا شافع أو نردّ ؟ وقرأ ابن أبي إسحاق :«أو نردّ » بالنصب عطفاً على «فيشفعوا لنا » أو تكون «أو » بمعنى «حتى أنّ » أي يشفعوا لنا حتى نردّ فنعمل وقرأ الحسن بنصب «نردّ » ورفع ﴿ فَنَعْمَلَ ﴾ بمعنى : فنحن نعمل.
﴿ يُغْشِى الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ وقرئ :«يغشى » بالتشديد، أي يلحق الليل النهار، أو النهار بالليل يحتملهما جميعاً. والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس : يغشى الليل النهار، بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار، أي يدرك النهار الليل ويطلبه حثيثاً، حسن الملاءمة لقراءة حميد ﴿ بِأَمْرِهِ ﴾ بمشيئته وتصريفه، وهو متعلق بمسخرات، أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره، وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمراً على التشبيه، كأنهن مأمورات بذلك. وقرئ :«والشمس والقمر والنجوم مسخرات »، بالرفع. لما ذكر أنه خلقهنّ مسخرات بأمره قال :﴿ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر ﴾ أي هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته.
﴿ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ نصب على الحال، أي ذوي تضرع وخفية. وكذلك خوفاً وطمعاً. والتضرع تفعُّل من الضراعة وهو الذل، أي تذللاً وتملقاً. وقرئ :«وخِفْيَة » وعن الحسن رضي الله عنه : إنّ الله يعلم القلب التقي والدعاء الخفي، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبداً. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلاّ همساً بينهم وبين ربهم. وذلك أنّ الله تعالى يقول :﴿ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ وقد أثنى على زكريا فقال :﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ﴾ [ مريم : ٣ ] وبين دعوة السرّ ودعوة العلانية سبعون ضعفاً. ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾ أي المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره. وعن ابن جريج ؛ هو رفع الصوت بالدعاء. وعنه : الصياح في الدعاء مكروه وبدعة. وقيل : هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول : اللَّهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل " ثم قرأ قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾.
﴿ إِنَّ رحمت الله قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ كقوله :﴿ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا ﴾ [ طه : ٨٢ ]. وإنما ذكر ﴿ قَرِيبٌ ﴾ على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي شيء قريب. أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول كما شبه ذاك به، فقيل قتلاء وأسراء، أو على أنه بزنة المصدر، الذي هو النقيض والضغيب. أو لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي.
قرئ :«نشراً وهو مصدر نشر. وانتصابه إمّا لأن أرسل ونشر متقاربان، فكأنه قيل : نشرها نشراً : وإمّا على الحال بمعنى منتشرات. ونشراً جمع نشور. ونشراً تخفيف نشر، كرسل ورسل. وقرأ مسروق :«نشراً »، بمعنى منشورات، فعل بمعنى مفعول، كنقض وحسب. ومنه قولهم «ضم نشره » وبشراً جمع بشير. وبشراً بتخفيفه. وبشراً - بفتح الباء - مصدر من بشره بمعنى بشره، أي باشرات، وبشرى ﴿ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ﴾ أمام رحمته، وهي الغيث الذي هو من أتمّ النعم وأجلّها وأحسنها أثراً ﴿ أَقَلَّتْ ﴾ حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلاً ﴿ سَحَابًا ثِقَالاً ﴾ سحائب ثقالاً بالماء جمع سحابة ﴿ سقناه ﴾ الضمير للسحاب على اللفظ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً ﴿ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ ﴾ لأجل بلد ليس فيه حياً ولسقيه. وقرئ :«مَيْتٍ » ﴿ فَأَنزَلْنَا بِهِ ﴾ بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق. وكذلك ﴿ فأخرجنا به... كذلك ﴾ مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات ﴿ نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين. إذ كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه.
﴿ والبلد الطيب ﴾ الأرض العذاة الكريمة التربة ﴿ والذى خَبُثَ ﴾ الأرض السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به ﴿ بِإِذْنِ رَبّهِ ﴾ بتيسيره وهو في موضع الحال، كأنه قيل : يخرج نباته حسناً وافياً لأنه واقع في مقابلة ﴿ نَكِدًا ﴾ والنكد الذي لا خير فيه. وقرئ :«يخرج نباته » أن يخرجه البلد وينبته وقوله :﴿ والذى خَبُثَ ﴾ صفة للبلد ومعناه : والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى البلد مقامه ؛ إلاّ أنه كان مجروراً بارزاً، فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدّر : ونبات الذي خبث. وقرئ :«نكداً » بفتح الكاف على المصدر. أي ذا نكد. ونكداً، بإسكانها للتخفيف، كقوله : نزه عن الريب، بمعنى نزه. وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر شيء من ذلك. وعن مجاهد : آدم وذرّيته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك التصريف ﴿ نُصَرّفُ الآيات ﴾ نردِّدها ونكرّرها ﴿ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ نعمة الله وهم المؤمنون، ليفكروا فيها ويعتبروا بها. وقرئ :«يصرف » بالياء أي يصرفها الله.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا ﴾ جواب قسم محذوف. فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام، إلاّ مع «قد » وقلّ عنهم، نحو قوله :
حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حِلْفَةَ فَاجِر لَنَامُوا............
قلت : إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلاّ تأكيداً للجملة المقسم عليها، التي هي جوابها، فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى «قد » عند استماع المخاطب كلمة القسم. قيل : أرسل نوحاً عليه السلام وهو ابن خمسين سنة، وكان نجاراً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام. وقرئ :«غيره » بالحركات الثلاث، فالرفع على المحل، كأنه قيل : ما لكم إله غيره. والجرّ على اللفظ والنصب على الاستثناء بمعنى : ما لكم من إله إلاّ إياه، كقولك : ما في الدار من أحد إلاّ زيد أو غير زيد. فإن قلت : فما موقع الجملتين بعد قوله :﴿ اعبدوا الله ﴾ ؟ قلت : الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية : بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله واليوم العظيم يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.
﴿ الملأ ﴾ الأشراف والسادة : وقيل : الرجال ليس معهم النساء ﴿ فِى ضلال ﴾ في ذهاب عن طريق الصواب والحق. ومعنى الرؤية : رؤية القلب.
فإن قلت : لم قال :﴿ لَيْسَ بِى ضلالة ﴾ ولم يقل ضلال كما قالوا ؟ قلت : الضلالة أخصّ من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل لك : ألك تمر، فقلت : ما لي تمرة فإن قلت : كيف وقع قوله :﴿ وَلَكِنّي رَسُولٌ ﴾ استدراكاً للانتفاء عن الضلالة ؟ قلت : كونه رسولاً من الله مبلغاً رسالاته ناصحاً، في معنى كونه على الصراط المستقيم، فصحّ لذلك أن يكون استدراكاً للانتفاء عن الضلالة.
وقرئ :«أبلغكم » بالتخفيف. فإن قلت : كيف موقع قوله :﴿ أُبَلّغُكُمْ ﴾ ؟ قلت : فيه وجهان. أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً بياناً لكونه رسول رب العالمين. والثاني : أن يكون صفة لرسول. فإن قلت : كيف جاز أن يكون صفة والرسول لفظه لفظ الغائب ؟ قلت : جاز ذلك لأن الرسول وقع خبراً عن ضمير المخاطب وكان معناه، كما قال :
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنيِ أُمِّي حَيْدَرَهْ ***
﴿ رسالات رَبّى ﴾ ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جدّه إدريس، وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة ﴿ وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾ يقال نصحته ونصحت له. وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعاً ولا نصحية أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من صفات الله وأحواله، يعني قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين. وقيل : لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح بوحي الله إليه، أو أراد : وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحى إليّ بها.
﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ ﴾ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم ﴿ أَن جَاءكُمْ ﴾ من أن جاءكم ﴿ ذِكْرٌ ﴾ موعظة ﴿ مّن رَّبّكُمْ على رَجُلٍ مّنْكُمْ ﴾ على لسان رجل منكم، كقوله :﴿ مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] وذلك أنهم يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، يعنون إرسال البشر، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ﴿ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ ﴾ ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
﴿ والذين مَعَهُ ﴾ قيل : كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. وقيل : تسعة، بنوه سام وحام ويافث، وستة ممن آمن به. فإن قلت :﴿ فِى الفلك ﴾ بم يتعلق ؟ قلت : هو متعلق بمعه، كأنه قيل : والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء، أي أنجيناهم في السفينة من الطوفان ﴿ عَمِينَ ﴾ عمى القلوب غير مستبصرين. وقرئ :«عامين ». والفرق بين العمى والعاميّ : أن العمى يدلّ على عمى ثابت، والعاميّ على حادث. ونحوه قوله :﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ].
﴿ أخاهم ﴾ واحداً منهم من قولك : يا أخا العرب للواحد منهم. وإنما جعل واحداً منهم، لأنهم أفهم عن رجل منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وأخاهم : عطف على نوحاً. و ﴿ هُودًا ﴾ عطف بيان له. فإن قلت : لم حذف العاطف من قوله :﴿ قَالَ ياقوم ﴾ ولم يقل «فقال » كما في قصة نوح ؟ قلت : هو على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود ؟ فقيل : قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك ﴿ قَالَ الملا ﴾.
﴿ قَالَ الملا ﴾ فإن قلت : لم وصف الملأ [ ب ] ﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ دون الملأ من قوم نوح ؟ قلت : كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة ﴾ [ المؤمنون : ٣٣ ] ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير ﴿ فِي سَفَاهَةٍ ﴾ في خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز : أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها.
وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام - من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم - أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عزّ وجلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم.
﴿ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فما حقي أن أُتهم. أو أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه.
﴿ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ أي [ خلفتموهم ] في الأرض، أو جعلكم ملوكاً في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم ﴿ فِى الخلق بَسْطَةً ﴾ فيما خلق من أجرامكم ذهاباً في الطول والبدانة. قيل : كان أقصرهم ستين ذراعاً، وأطولهم مائة ذراع ﴿ فاذكروا ءالآء الله ﴾ في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه. وواحد الآلاء «إلى » نحو إني وإناء، وضلع وأضلاع، وعنب وأعناب. فإن قلت :«إذ » في قوله :﴿ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء ﴾ ما وجه انتصابه ؟ قلت : هو مفعول به وليس بظرف، أي اذكروا وقت استخلافكم.
﴿ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ ﴾ أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء. في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حباً لما نشأوا عليه، وألفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت : ما معنى المجيء في قوله :﴿ أَجِئْتَنَا ﴾ قلت : فيه أوجه : أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلاّ الملائكة، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك، وأن لا يريدوا حقيقة المجيء، ولكن التعرّض بذلك والقصد، كما يقال : ذهب يشمتني، ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا : أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك ؟ ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ استعجال منهم للعذاب.
﴿ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم ﴾ أي حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع. ونحوه قولك لمن طلب إليك بعض المطالب قد كان ذلك. وعن حسان ؛ أنّ ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل، فجاء يبكي. فقال له يا بنيّ مالك ؟ قال : لسعني طوير كأنه ملتف في بردى حبرة، فضمه إلى صدره وقال له : يا بني، قد قلت الشعر. والرجس : العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب ﴿ فِى أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ في أشياء ما هي إلاّ أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة. ومعنى الإلهية فيها معدوم محال وجوده. وهذا كقوله تعالى :﴿ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء ﴾ ومعنى ﴿ سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ سميتم بها من : سميته زيداً.
وقطعُ دابرهم : استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم. وقصتهم أن «عاداً » قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها. صداء. وصمود، والهباء، فبعث الله إليهم هوداً نبياً، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً، فكذبوه وازدادوا عتوّاً وتجبراً، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية ابن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً، منهم قيل بن عنز، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه. فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان. - قينتان كانتا لمعاوية - فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك، وقال : قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا : قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية :
أَلاَ يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامَا
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَادا قَدْ امْسَوْا مَا يُبَينُونَ الْكَلاَمَا
فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم وأظهر إسلامه، فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل اللَّهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء. ياقيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماء فخرجت على عاد من وادٍ لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. فإن قلت : ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله :﴿ وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ مع إثبات التكذيب بآيات الله ؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد ابن سعد، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين، ونجى الله المؤمنين.
قرئ :﴿ وإلى ثَمُودَ ﴾ بمنع الصرف بتأويل القبيلة، وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحيّ ؛ أو باعتبار الأصل ؛ لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل : سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادي القرى ﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ ﴾ آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوّتي. وكأنه قيل : ما هذه البينة ؟ فقال :﴿ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً ﴾ وآية نصب على الحال، والعامل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل : أشير إليها آية. ولكم : بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود ؛ لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال : لكم خصوصاً، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحل وطروقة آية من آياته، كما تقول : آية الله. وروى أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً، حتى أن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام، وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً، فدعاهم إلى الله تعالى فلم يتبعه إلاّ قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، فقال : أية آية تريدون ؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعوا إلهك، وندعوا آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح : نعم، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم - جندع ابن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة - أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء - والمخترجة التي شاكلت [ البخت ] - فإن فعلت صدّقناك وأجبناك. فأخذ صالح عليه السلام عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ، قالوا : نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء. كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاّ الله تعالى، وعظماؤهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه، ومنع أعقابهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غباً، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كلّ ماء فيها، ثم تتفحج فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون. قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً. وكانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشقّ ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان : عنيزة أمّ غنم، وصدقة بنت المختار - لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي - فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى رقي جبلاً اسمه قارة فرغى ثلاثاً وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها. فقال لهم صالح : تصبحون غداً ووجوهكم مصفرَّة، وبعد ذلك غدٍ ووجوهكم محمرّة، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة، ثم يصحبكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه. فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا ﴿ تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله ﴾ أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من أنباتكم ﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء ﴾ لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيء من الأذى إكراماً لآية الله. ويروى : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه ؛ " «لا يدخلنّ أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلاّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم » " وقال صلى الله عليه وسلم : " يا علي، أتدري من أشقى الأوّلين » ؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال :«عاقر ناقة صالح، أتدري من أشقى الآخرين » ؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال :«قاتلك » " وقرأ أبو جعفر في رواية :«تأكل في أرض الله » وهو في موضع الحال بمعنى آكلة.
﴿ وَبَوَّأَكُمْ ﴾ وترلكم. والمباءة : المنزل ﴿ فِى الارض ﴾ في أرض الحجر بين الحجاز والشام ﴿ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا ﴾ أي تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر. وقرأ الحسن :«وتنحتون » بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة، كقوله :
يَنْبَاعُ مِنْ ذَفْرَى أَسِيلٍ حُرَّةٍ ***
فإن قلت : علام انتصب ﴿ بُيُوتًا ﴾ ؟ قلت : على الحال، كما تقول : خِطْ هذا الثوب قميصاً وابْرِ هذه القصبة قلما، وهي من الحال المقدّرة، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلماً في حال الخياطة والبري. وقيل : كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء.
﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا ﴾ للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، و ﴿ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ﴾ بدل من الذين استضعفوا. فإن قلت : الضمير في منهم راجع إلى ماذا ؟ قلت : إلى ﴿ قَوْمِهِ ﴾ أو إلى ﴿ الذين استضعفوا ﴾. فإن قلت : هل لاختلاف المرجعين أثر في اختلاف المعنى ؟ قلت : نعم وذلك أن الراجع إذا رجع إلى قومه فقد جعل ﴿ مَنْ ءامَنَ ﴾ مفسراً لمن استضعف منهم، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين، وإذا رجع إلى الذين استضعفوا لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين :﴿ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ ﴾ شيء قالوه على سبيل الطنز والسخرية، كما تقول للمجسمة : أتعلمون أن الله فوق العرش. فإن قلت : كيف صحّ قولهم :﴿ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ جواباً عنه ؟ قلت : سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة :﴿ إِنَّا بالذى ءَامَنْتُمْ بِهِ كافرون ﴾ فوضعوا ﴿ ءَامَنتُم بِهِ ﴾ موضع ﴿ أُرْسِلَ بِهِ ﴾ رداً لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا ﴾ للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، و ﴿ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ﴾ بدل من الذين استضعفوا. فإن قلت : الضمير في منهم راجع إلى ماذا ؟ قلت : إلى ﴿ قَوْمِهِ ﴾ أو إلى ﴿ الذين استضعفوا ﴾. فإن قلت : هل لاختلاف المرجعين أثر في اختلاف المعنى ؟ قلت : نعم وذلك أن الراجع إذا رجع إلى قومه فقد جعل ﴿ مَنْ ءامَنَ ﴾ مفسراً لمن استضعف منهم، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين، وإذا رجع إلى الذين استضعفوا لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين :﴿ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ ﴾ شيء قالوه على سبيل الطنز والسخرية، كما تقول للمجسمة : أتعلمون أن الله فوق العرش. فإن قلت : كيف صحّ قولهم :﴿ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ جواباً عنه ؟ قلت : سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة :﴿ إِنَّا بالذى ءَامَنْتُمْ بِهِ كافرون ﴾ فوضعوا ﴿ ءَامَنتُم بِهِ ﴾ موضع ﴿ أُرْسِلَ بِهِ ﴾ رداً لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً.
﴿ فَعَقَرُواْ الناقة ﴾ أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلاّ بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة : أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلاّ واحداً منهم ﴿ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ﴾ وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، وأمر ربهم : ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله :﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ] أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى : وصدر عتوّهم عن أمر ربهم، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم. ونحو عن هذه ما في قوله :﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ﴾ [ الكهف : ٨٢ ]، ﴿ ائتنا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ أرادوا من العذاب. وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوماً. واستعجالهم له لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين.
﴿ الرجفة ﴾ الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها ﴿ فِي دَارِهِمْ ﴾ في بلادهم أو في مساكنهم ﴿ جاثمين ﴾ هامدين لا يتحركون موتى. يقال : الناس جثم، أي قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة. ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى. وعن جابر : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالحجر قال :«لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلاّ رجل واحد كان في حرم الله. قالوا من هو ؟ قال : ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه »، وروى : أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروى : أنه عليه السلام مرّ بقبر أبي رغال فقال :" «أتدرون من هذا » ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال، وأنه دفن ههنا ودفن معه غصن من ذهب، فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن.
" ﴿ فتولى عَنْهُمْ ﴾ الظاهر أنه كان مشاهداً لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعدما أبصرهم جاثمين، تولى مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم يتحزن لهم ويقول يا قوم لقد بذلت فيكم وسعي ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم ولكنكم ﴿ لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين ﴾ ويجوز أن يتولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وروى : أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروى أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفاً وخمسمائة دار. وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم. فإن قلت : كيف صحّ خطاب الموتى وقوله :﴿ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين ﴾ ؟ قلت : قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة : يا أخي، كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني ؟ وقوله :﴿ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين ﴾ حكاية حال ماضية.
﴿ وَلُوطًا ﴾ وأرسلنا لوطاً. و ﴿ إِذْ ﴾ ظرف لأرسلنا. واذكر لوطاً، وإذ بدل منه، بمعنى : واذكر وقت :﴿ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة ﴾ أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ﴿ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا ﴾ ما عملها قبلكم، والباء للتعدية من قولك : سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه [ الصلاة و ] السلام : " سبقك بها عكاشة " ﴿ مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين ﴾ «من » الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. فإن قلت : ما موقع هذه الجملة ؟ قلت : هي جملة مستأنفة، أنكر عليهم أوّلاً بقوله :﴿ أَتَأْتُونَ الفاحشة ﴾ ثم وبخهم عليها فقال : أنتم أوّل من عملها. أو على أنه جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا : لما لا نأتيها ؟ فقال : ما سبقكم بها أحد، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به.
﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال ﴾ بيان لقوله : أتأتون الفاحشة. والهمزة مثلها في ﴿ أَتَأْتُونَ ﴾ للإنكار والتعظيم. وقرئ :«إنكم » على الإخبار المستأنف لتأتون الرجال، من أتى المرأة إذا غشيها ﴿ شَهْوَةً ﴾ مفعول له، أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلاّ مجرّد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذمّ أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، [ و ] أنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماجة ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴾ أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتباع الشهوات وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في بعض قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٦ ].
﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ ﴾ يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام، من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشرّ كله، لكنهم جاؤا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم. وقولهم :﴿ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخاراً بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد.
﴿ وَأَهْلَهُ ﴾ ومن يختصّ به من ذويه أو من المؤمنين ﴿ مِنَ الغابرين ﴾ من الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فهلكوا. والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. وروي : أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. وقيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل : كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار.
وقيل : خسف بالمقيمين منهم، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي : أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. فإن قلت : أي فرق بين مطر وأمطر ؟ قلت : يقال مطرتهم السماء وواد ممطور. وفي نوابغ الكلم : حرى غير ممطور. وحرى أن يكون غير ممطور ومعنى مطرتهم : أصابتهم المطر، كقولهم : غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال : أمطرت عليهم كذا، بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر ﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ]، ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ﴾ [ هود : ٨٢ ]. ومعنى ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا ﴾ وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً يعني الحجارة. ألا ترى إلى قوله :﴿ فَسَاء مَطَرُ المنذرين ﴾ [ الأعراف : ٨٤ ].
كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين ﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ ﴾ معجزة شاهدة بصحة نبوّتي أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا. فإن قلت : ما كانت معجزته ؟ قلت : قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة، لقوله :﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ ﴾ ولأنّه لا بدّ لمدعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلاّ لم تصحّ دعواه، وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه. ومن معجزات شعيب عليه السلام : ما روي من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه. وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات ؛ لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزات لشعيب. فإن قلت : كيف قيل :﴿ الكيل والميزان ﴾ وهلا قيل : المكيال والميزان، كما في سورة هود عليه السلام ؟ قلت : أريد بالكيل : آلة الكيل وهو المكيال، أو سمي ما يكال به الكيل، كما قيل : العيش، لما يعاش به. أو أريد : فأوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر، ويقال : بخسته حقه : إذا نقصته إياه. ومنه، قيل للمكس : البخس، وفي أمثالهم : تحسبها حمقاء وهي باخس. وقيل :﴿ أَشْيَاءهُمْ ﴾ لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلاّ مكسوه كما يفعل أمراء الحرمين. وروى : أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعاً، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفاً ﴿ بَعْدَ إصلاحها ﴾ بعد الإصلاح فيها، أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم. وإضافته كإضافة قوله :﴿ بَلْ مَكْرُ الليل والنهار ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] بمعنى بل مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض، أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى :﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ يعني في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم.
﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط ﴾ ولا تقتدوا بالشيطان في قوله :﴿ لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ] فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين.
والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله :﴿ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ ومحل ﴿ تُوعَدُونَ ﴾ وما عطف عليه : النصب على الحال أي : ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً. فإن قلت : صراط الحق واحد، ﴿ وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] فكيف قيل : بكل صراط ؟ قلت : صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها أوعدوه وصدّوه. فإن قلت ؛ إلام يرجع الضمير في ﴿ ءَامَنَ بِهِ ﴾ ؟ قلت : إلى كل صراط. تقديره : توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه. وقيل : كانوا يجلسون على الطرق والمراصد فيقولون لمن مر بهم إنَّ شعيباً كذاب فلا يفتنكم عن دينكم كما كان يفعل قريش بمكة. وقيل : كانوا يقطعون الطرق. وقيل : كانوا عَشَّارين ﴿ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ وتطلبون لسبيل الله عوجاً، أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها : أو يكون تهكماً بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأن طريق الحق لا يعوج ﴿ واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً ﴾ إذ مفعول به غير ظرف. أي : واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم ﴿ فَكَثَّرَكُمْ ﴾ الله ووفر عددكم. قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا. ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم : فجعلكم مكثرين موسرين. أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد ﴿ عاقبة المفسدين ﴾ آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة.
﴿ فاصبروا ﴾ فتربصوا وانتظروا ﴿ حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا ﴾ أي بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله :﴿ فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٢ ] أو هو عظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين، أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾ لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.
أي ليكوننّ أحد الأمرين : إمّا إخراجكم ؛ وإمّا عودكم في الكفر. فإن قلت : كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم :﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾ وكيف أجابهم بقوله :﴿ إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا ﴾ والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلاّ ما ليس فيه تنفير، فضلاً عن الكبائر، فضلاً عن الكفر ؟
قلت : لما قالوا :﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ ﴾ فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا :﴿ لَتَعُودُنَّ ﴾ فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراءً للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال :﴿ إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ وهو يريد عود قومه، إلاّ أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب. فإن قلت : فما معنى قوله ﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله ﴾ والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر ؟ قلت : معناه إلاّ أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله :﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ﴾ أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ﴿ عَلَى الله تَوَكَّلْنَا ﴾ في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله :
﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء الله ﴾ حسماً لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة.
﴿ أَوَلوْ كُنَّا كارهين ﴾ الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين.
وما يكون لنا، وما ينبغي لنا، وما يصحّ لنا. ﴿ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا ﴾ احكم بيننا، والفتاحة : الحكومة. أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا ﴿ وَبَيْنَ قَوْمِنَا ﴾ وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين ﴾ كقوله :﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾ [ يونس : ١٥٩ ]. فإن قلت : كيف أسلوب قوله :﴿ قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ ﴾ ؟ قلت : هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام. لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب ؛ حيث يزعم أن لله نداً ولا ندّ له. والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل. والثاني : أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام، بمعنى : والله لقد افترينا على الله كذباً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:أي ليكوننّ أحد الأمرين : إمّا إخراجكم ؛ وإمّا عودكم في الكفر. فإن قلت : كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم :﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾ وكيف أجابهم بقوله :﴿ إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا ﴾ والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلاّ ما ليس فيه تنفير، فضلاً عن الكبائر، فضلاً عن الكفر ؟
قلت : لما قالوا :﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ ﴾ فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا :﴿ لَتَعُودُنَّ ﴾ فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراءً للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال :﴿ إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ وهو يريد عود قومه، إلاّ أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب. فإن قلت : فما معنى قوله ﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله ﴾ والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر ؟ قلت : معناه إلاّ أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله :﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ﴾ أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ﴿ عَلَى الله تَوَكَّلْنَا ﴾ في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله :
﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء الله ﴾ حسماً لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة.
﴿ أَوَلوْ كُنَّا كارهين ﴾ الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين.
وما يكون لنا، وما ينبغي لنا، وما يصحّ لنا. ﴿ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا ﴾ احكم بيننا، والفتاحة : الحكومة. أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا ﴿ وَبَيْنَ قَوْمِنَا ﴾ وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين ﴾ كقوله :﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾ [ يونس : ١٥٩ ]. فإن قلت : كيف أسلوب قوله :﴿ قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ ﴾ ؟ قلت : هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام. لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب ؛ حيث يزعم أن لله نداً ولا ندّ له. والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل. والثاني : أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام، بمعنى : والله لقد افترينا على الله كذباً.

﴿ وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ أي أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان ﴿ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون ﴾ لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَت تجارتهم ﴾ [ البقرة : ١٦ ] وقيل : تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية، فإن قلت : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في ﴿ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا ﴾ وجواب الشرط ؟ قلت : قوله :﴿ إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون ﴾ سادّ مسدّ الجوابين ﴿ الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا ﴾ مبتدأ خبره.
﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾ وكذلك ﴿ كَانُواْ هُمُ الخاسرين ﴾ وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم ؛ لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير : مبالغة في ردّ مقالة الملإ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.
الأسى : شدّة الحزن. قال العَجَّاجُ :
وانحلبت عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى ***
اشتدّ حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال : فكيف يشتدّ حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ويجوز أن يريد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حلّ بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدّقوني فكيف آسي عليكم يعني أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى. وقرأ يحيى ابن وَثَّاب :«فكيف إيسى »، بكسر الهمزة.
﴿ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء ﴾ بالبؤس والفقر ﴿ والضراء ﴾ بالضرّ والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه ﴿ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾ ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة.
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة ﴾ أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة كقوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] ﴿ حتى عَفَواْ ﴾ كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم : عفا النبات وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«واعفوا عن اللحى »، وقال الحطيئة :
بِمُسْتَأْسِدِ القِرْيَان عَافَ نَبَاتُهُ ***
وقال :
وَلَكِنَّا نَعُضُّ السَّيْفَ مِنْهَا بِأَسْوَقَ عَافِيَاتِ الشّحْمِ كُومِ
﴿ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء ﴾ يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا : هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء. وقد مسّ آباؤنا نحو ذلك، وما هو بابتلاء من الله لعباده، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلاّ أن نأخذهم بالعذاب ﴿ فأخذناهم ﴾ أشدّ الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم.
اللام في القرى : إشارة إلى القرى التي دلّ عليها قوله :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ ﴾ [ الأعراف : ٩٤ ] كأنه قال : ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا ﴿ ءامَنُواْ ﴾ بدل كفرهم ﴿ واتقوا ﴾ المعاصي مكان ارتكابها ﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض ﴾ لآتيناهم بالخير من كل وجه. وقيل : أراد المطر والنبات ﴿ ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم ﴾ بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس. فإن قلت : ما معنى فتح البركات عليهم ؟ قلت : تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم : فتحت على القارىء إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.
البيات يكون بمعنى البيتوتة. يقال : بات بياتاً. ومنه قوله تعالى :﴿ فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ] وقد يكون بمعنى : التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. يقال : بيته العدو بياتاً، فيجوز أن يراد : أن يأتيهم بأسنا بائتين، أو وقت بيات، أو مبيتاً، أو مبيتين، أو يكون بمعنى تبييتاً، كأنه قيل : أن يبيتهم بأسنا بياتاً.
و ﴿ ضُحًى ﴾ نصب على الظرف. يقال : أتانا ضحى، وضحيا، وضحاء والضحى - في الأصل - اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. والفاء والواو في ﴿ أَفَأَمِنَ ﴾ و ﴿ أَوَ أَمِنَ ﴾ حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار. فإن قلت : ما المعطوف عليه ؟ ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو ؟ قلت : المعطوف عليه قوله :﴿ فأخذناهم بَغْتَةً ﴾ وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] إلى ﴿ يَكْسِبُونَ ﴾ وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما عطف بالفاء، لأنّ المعنى : فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى ؟ وقرئ : أو أمن على العطف بأو ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ يشتغلون بما لا يجدي عليهم كأنهم يلعبون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٧:البيات يكون بمعنى البيتوتة. يقال : بات بياتاً. ومنه قوله تعالى :﴿ فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ] وقد يكون بمعنى : التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. يقال : بيته العدو بياتاً، فيجوز أن يراد : أن يأتيهم بأسنا بائتين، أو وقت بيات، أو مبيتاً، أو مبيتين، أو يكون بمعنى تبييتاً، كأنه قيل : أن يبيتهم بأسنا بياتاً.
و ﴿ ضُحًى ﴾ نصب على الظرف. يقال : أتانا ضحى، وضحيا، وضحاء والضحى - في الأصل - اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. والفاء والواو في ﴿ أَفَأَمِنَ ﴾ و ﴿ أَوَ أَمِنَ ﴾ حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار. فإن قلت : ما المعطوف عليه ؟ ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو ؟ قلت : المعطوف عليه قوله :﴿ فأخذناهم بَغْتَةً ﴾ وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] إلى ﴿ يَكْسِبُونَ ﴾ وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما عطف بالفاء، لأنّ المعنى : فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى ؟ وقرئ : أو أمن على العطف بأو ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ يشتغلون بما لا يجدي عليهم كأنهم يلعبون.

فإن قلت : فلم رجع فعطف بالفاء قوله :﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله ﴾ ؟ قلت : هو تكرير لقوله :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٧ ] ومكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر، ولاستدراجه. فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثيم : أن ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام، فقال : يا بنتاه، إنّ أباك يخاف البيات، أراد قوله :﴿ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا ﴾.
إذا قرئ :«أو لم يهد » بالياء كان ﴿ أَن لَّوْ نَشَاء ﴾ مرفوعاً بأنه فاعله بمعنى : أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أنّا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين. وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل : أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن بمعنى : أو لم نبين لهم أنا ﴿ لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ ﴾ كما أصبنا من قبلهم. وإنما عدّى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين. فإن قلت بم تعلق قوله تعالى :﴿ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ ﴾ ؟ قلت : فيه أوجه، أن يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى ﴿ أَوَ لَمْ يَهْدِ ﴾ كأنه قيل : يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم. أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى : ونحن نطبع على قلوبهم. فإن قلت : هل يجوز أن يكون ﴿ وَنَطْبَعُ ﴾ بمعنى وطبعنا، كما [ كان ] ﴿ لَّوْ نَشَاء ﴾ بمعنى : لو شئنا، ويعطف على أصبناهم ؟ قلت : لا يساعد عليه المعنى ؟ لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها. وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة، وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها.
﴿ تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ﴾ كقوله :﴿ هذا بَعْلِى شَيْخًا ﴾ [ هود : ٧٢ ] في أنه مبتدأ وخبر وحال ويجوز أن يكون ﴿ القرى ﴾ صفة لتلك و ﴿ نَقُصُّ ﴾ خبراً، وأن يكون ﴿ القرى نَقُصُّ ﴾ خبر بعد خبر. فإن قلت : ما معنى :﴿ تِلْكَ القرى ﴾ حتى يكون كلاماً مفيداً ؟ قلت : هو مفيد، ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم. فإن قلت : ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها ؟ قلت : معناه : أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلاً حين جاءتهم الرسل، أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ومعنى اللام تأكيد النفي وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر. وعن مجاهد : هو كقوله :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]. ﴿ كَذَلِكَ ﴾ مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ﴾ الضمير للناس على الإطلاق، أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد يعني أنّ أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى ﴿ وَإِن وَجَدْنَا ﴾ وإنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين، خارجين عن الطاعة مارقين. والآية اعتراض. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضرّ ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمننّ، ثم نجّاهم نكثوا كما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام :﴿ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾ إلى قوله :﴿ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٥ ] والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدت زيداً ذا الحفاظ، بدليل دخول «إن » المخففة واللام الفارقة. ولا يسوغ ذلك إلاّ في المبتدإ والخبر. والأفعال الداخلة عليهما.
﴿ مّن بَعْدِهِمْ ﴾ الضمير للرسل في قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم ﴾ [ الأعراف : ١٠١ ] أو للأمم ﴿ فَظَلَمُواْ بها ﴾ فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد ﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] أو فظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً، فلذلك قيل : فظلموا بها، أي : كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان.
يقال : لملوك مصر : الفراعنة، كما يقال لملوك فارس : الأكاسرة، فكأنه قال : يا ملك مصر وكان اسمه قابوس. وقيل : الوليد بن مصعب بن الريان.
﴿ حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ ا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق ﴾ فيه أربع قراآت، المشهورة :«وحقيق عليّ أن لا أقول »، وهي قراءة نافع :«وحقيق أن لا أقول » وهي قراءة عبد الله :«وحقيق بأن لا أقول » وهي قراءة أبيّ وفي المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوه، أحدها : أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس، كقوله :
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ ***
ومعناه : وتشقى الضياطرة بالرماح «وحقيق عليّ أن لا أقول » وهي قراءة نافع. والثاني : أنّ ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق، أي لازماً له. والثالث : أن يضمن ﴿ حَقِيقٌ ﴾ معنى حريص، كما ضمن «هيجني » معنى ذكرني في بيت الكتاب. والرابع :- وهو الأوجه - الأدخل في نكت القرآن : أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدو الله فرعون قال له - لما قال :﴿ إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ العالمين ﴾ كذبت، فيقول : أنا حقيق عليَّ قول الحق أي واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلاّ بمثلي ناطقاً به ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسرائيل ﴾ فخلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدّسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
فإن قلت : كيف قال له :﴿ فَأْتِ بِهَا ﴾ بعد قوله :﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بآية ﴾ ؟ قلت : معناه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتني بها وأحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك.
﴿ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان. وروى أنه كان ثعباناً ذكراً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحية الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، ودخل فرعون البيت وصاح : يا موسى، خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصى.
فإن قلت : بم يتعلق ﴿ للناظرين ﴾ ؟ قلت : يتعلق ببيضاء. والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلاّ إذا كان بياضا عجيباً خارجاً عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب، وذلك ما يروى : أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه ؟ قال : يدك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها، فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.
﴿ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ ﴾ أي عالم بالسحر ماهر فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه، حتى خيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض. فإن قلت : قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملأ وعُزي ههنا إليهم قلت قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم ههنا : أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم :﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ ﴾. وقرئ :«سحار »، أي يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة : أو بخير منه. وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ من أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل : قال فماذا تأمرون ؟ من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل [ قال ] : فماذا تأمرون ؟ قالوا : أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه : أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل : احبسهما. وقرئ : أرجئه، بالهمزة :«وأرجه »، من أرجاءه وأرجاه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٩:﴿ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ ﴾ أي عالم بالسحر ماهر فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه، حتى خيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض. فإن قلت : قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملأ وعُزي ههنا إليهم قلت قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم ههنا : أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم :﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ ﴾. وقرئ :«سحار »، أي يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة : أو بخير منه. وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ من أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل : قال فماذا تأمرون ؟ من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل [ قال ] : فماذا تأمرون ؟ قالوا : أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه : أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل : احبسهما. وقرئ : أرجئه، بالهمزة :«وأرجه »، من أرجاءه وأرجاه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٩:﴿ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ ﴾ أي عالم بالسحر ماهر فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه، حتى خيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض. فإن قلت : قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملأ وعُزي ههنا إليهم قلت قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم ههنا : أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم :﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ ﴾. وقرئ :«سحار »، أي يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة : أو بخير منه. وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ من أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل : قال فماذا تأمرون ؟ من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل [ قال ] : فماذا تأمرون ؟ قالوا : أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه : أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل : احبسهما. وقرئ : أرجئه، بالهمزة :«وأرجه »، من أرجاءه وأرجاه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٩:﴿ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ ﴾ أي عالم بالسحر ماهر فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه، حتى خيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض. فإن قلت : قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملأ وعُزي ههنا إليهم قلت قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم ههنا : أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم :﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ ﴾. وقرئ :«سحار »، أي يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة : أو بخير منه. وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ من أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل : قال فماذا تأمرون ؟ من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل [ قال ] : فماذا تأمرون ؟ قالوا : أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه : أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل : احبسهما. وقرئ : أرجئه، بالهمزة :«وأرجه »، من أرجاءه وأرجاه.
فإن قلت : هلا قيل : وجاء السحرة فرعون فقالوا : قلت : هو على تقدير سائل سأل : ما قالوا إذ جاءوه ؟ فأجيب بقوله :﴿ قَالُواْ أإنّ لَنَا لأجْرًا ﴾ أي جعلا على الغلبة : وقرئ :«إن لنا لأجراً » على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه : كأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، كقول العرب : إنّ له لإبلاً، وإنّ له لغنما، يقصدون الكثرة.
فإن قلت :﴿ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين ﴾ ما الذي عطف عليه ؟ قلت : هو معطوف على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، كأنه قال إيجاباً لقولهم : إن لنا لأجراً : نعم إنّ لكم لأجراً، وإنكم لمن المقرّبين، أراد : إني لأقتصر بكم على الثواب وحده، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة. وروي أنه قال لهم : تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج. وروى : أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم : ما صنعتم ؟ قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلاّ أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وقيل : سبعين ألفاً وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر. وقيل : كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى. وقيل : قال فرعون : لا نغالب موسى إلاّ بما هو منه، يعني السحر.
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين، قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم :﴿ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين ﴾ فيه ما يدلّ على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل.
وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم. وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً ﴿ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس ﴾ أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى :﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾ [ طه : ٦٦ ]. روي : أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً، فإذا هي أمثال الحيات، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً ﴿ واسترهبوهم ﴾ وأرهبوهم إرهاباً شديداً، كأنهم استدعوا رهبتهم ﴿ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ في باب السحر. روي أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة.
قيل : جعلوا فيها الزئبق ﴿ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ ما موصولة أو مصدرية، بمعنى : ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه تسمية للمأفوك بالإفك روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال رفعها موسى. أو إفكهم فرجعت عصى كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرّقها أجزاء لطيفة قالت للسحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
﴿ فَوَقَعَ الحق ﴾ فحصل وثبت. ومن بدع التفاسير : فوقع قلوبهم، أي فأثر فيها من قولهم. قاس وقيع.
﴿ وانقلبوا صاغرين ﴾ وصاروا أذلاء مبهوتين.
﴿ وَأُلْقِىَ السحرة ﴾ وخرّوا سجداً : كأنما ألقاهم ملق لشدّة خرورهم. وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا، فكأنهم ألقوا. وعن قتادة : كانوا أول النهار كفاراً سحرة ؛ وفي آخره شهداء بررة. وعن الحسن : تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا، وكذا، وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر، بذلوا أنفسهم لله.
﴿ ءَامَنْتُمْ بِهِ ﴾ على الإخبار، أي فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخاً لهم وتقريعاً. وقرئ :«أآمنتم »، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد ﴿ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة ﴾ إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل، وكان هذا لكلام من فرعون تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. وروي أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر : أتؤمن بي إن غلبتك ؟ قال : لآتين بسحر لا يغلبه سحر. وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع، فلذلك قال ما قال :﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وعيد أجمله ثم فصله.
بقوله :﴿ لأُقَطّعَنَّ ﴾ وقرئ :«لأقطعن » بالتخفيف، وكذلك ﴿ ثُمَّ لأُصَلّبَنَّكُمْ ﴾ ﴿ مّنْ خلاف ﴾ من كل شقّ طرفاً. وقيل : إن أوّل من قطع من خلاف وصلب لفرعون.
﴿ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ فيه أوجه، أن يريدوا : إنا لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا، أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله، فما تقدر أن تفعل بنا إلاّ ما لا بدّ لنا منه.
﴿ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا ﴾ وما تعيب منا إلاّ الإيمان بآيات الله، أرادوا : وما تعيب منا إلاّ ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها، وهو الإيمان. ومنه قوله :
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ... ﴿ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾ هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغاً، وعن بعض السلف : إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوباً ثم يقول : قد مازحتك، أي يغمره بالحياء، والخجل. أو صبّ علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرة لهم ﴿ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ ثابتين على الإسلام.
﴿ وَيَذَرَكَ ﴾ عطف على ﴿ لِيُفْسِدُوا ﴾ لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، وكان ذلك مؤدّياً إلى ما دعوه فساداً وإلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. أو هو جواب للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء، نحو قول الحطيئة :
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَيكُمُ المْمَوَدَّةُ وَالإخَاءُ
والنصب بإضمار «أن » تقديره : أيكون منك ترك موسى، ويكون تركه إياك وآلهتك. وقرىء :( ويذرك وآلهتك ) بالرفع عطفاً على أتذر موسى، بمعنى : أتذره وأيذرك، يعني : تطلق له ذلك. أو يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى : أتذره وهو يذرك وآلهتك. وقرأ الحسن :( ويذرك ) بالجزم، كأنه قيل : يفسدوا، كما قرىء :﴿ وَأَكُن مّنَ الصالحين ﴾ [ المنافقون : ١٠ ] كأنه قيل :«أصدّق ». وقرأ أنس رضي الله عنه :«ونذرك »، بالنون والنصب، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها. وقرئ :«ويذرك وإلاهتك »، أي عبادتك. وروي : أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك وخافوا أن يغلبوا على الملك، وقيل : صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام، ويقولون : ليقربونا إلى الله زلفى، ولذلك قال : أنا ربكم الأعلى ﴿ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ ﴾ يعني سنعيد عليهم ما كنا محناهم به من قتل الأبناء، ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي أخبر المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده، فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه، وأنه منتظر بعد.
﴿ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله ﴾ قال لهم ذلك - حين قال فرعون : سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا - يسكنهم ويسلبهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويذكر لهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم. فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على التي قبلها ؟ قلت : هي جملة مبتدأة مستأنفة. وأمّا ﴿ وَقَالَ الملا ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ] فمعطوفة على ما سبقها من قوله :﴿ قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ وقوله :﴿ إِنَّ الأرض للَّهِ ﴾ يجوز أن تكون اللام للعهد ويراد أرض مصر خاصة، كقوله :﴿ وَأَوْرَثَنَا الأرض ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] وأن تكون للجنس فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض، كما قال ضمرة : إنما المرء بأصغريه، فأراد بالمرء الجنس، وغرضه أن يتناوله تناولاً أولياً ﴿ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولة لهم. وقرأ :«والعاقبة للمتقين » بالنصب : أبيّ وابن مسعود، عطفاً على الأرض.
﴿ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئى، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسون به من العذاب ﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾ تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل. وكشف عنه، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر ﴿ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان، فطلب زيادة لعمرو فلم توجد، فقرأ عمرو هذه الآية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي فينظر كيف تعملون.
﴿ بالسنين ﴾ بسني القحط. و «السنة » من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك، وقد اشتقوا منها فقالوا : أسنت القوم بمعنى : أقحطوا. وقال ابن عباس رضي الله عنه : أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم. وأمّا نقص الثمرات فكان في أمصارهم. وعن كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلاّ تمرة ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم لآيات الله، ولأن الناس في حال الشدّة أضرع خدوداً وألين أعطافاً وأرق أفئدة. وقيل : عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية.
﴿ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة ﴾ من الخصب والرخاء ﴿ قَالُواْ لَنَا هذه ﴾ أي هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها ولم نزل في النعمة والرفاهية، واللام مثلها في قولك. الجل للفرس ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ ﴾ من ضيقة وجدب ﴿ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ﴾ يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا : هذه بشؤمهم، ولولا مكانهم لما أصابتنا، كما قالت الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك. فإن قلت : كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة، وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة ؟ قلت : لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه. وأمّا السيئة فلا تقع إلاّ في الندرة، ولا يقع إلاّ شيء منها. ومنه قول بعضهم : قد عددت أيام البلاء، فهل عددت أيام الرخاء ﴿ طَائِرُهُمْ عِندَ الله ﴾ أي سبب خيرهم وشرهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله تعالى :﴿ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله ﴾ [ النساء : ٧٨ ] ويجوز أن يكون معناه : ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله، ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه :﴿ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ﴾ [ غافر : ٤٦ ] الآية. ولا طائر أشأم من هذا. وقرأ الحسن :«إنما طيركم عند الله »، وهو اسم لجمع طائر غير تكسير، ونظيره : التجر، والركب. وعند أبي الحسن : هو تكسير.
﴿ مَهْمَا ﴾ هي «ما » المضمنة معنى الجزاء، ضمت إليها «ما » المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك : متى ما تخرج أخرج، ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت ﴾ [ النساء : ٧٨ ]، ﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ﴾ [ الزخرف : ٤١ ] إلاّ أنّ الألف قلبت هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري، ومن الناس من زعم أن «مه » هي الصوت الذي يصوت به الكاف، و ﴿ مَا ﴾ للجزاء، كأنه قيل : كف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فإن قلت : ما محل مهما ؟ قلت : الرفع بمعنى : أيما شيء تأتنا به. أو النصب، بمعنى : أيما شيء تحضرنا تأتنا به. ومن آية : تبيين لمهما. والضميران في ﴿ بِهِ ﴾ و ﴿ بِهَا ﴾ راجعان إلى مهما، إلاّ أنّ أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أنث على المعنى، لأنه في معنى الآية. ونحوه قول زهير :
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِيءٍ مِنْ خَلِيقَة وَإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب مهما بمعنى متى ما، ويقول مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية في شيء، ثم يذهب فيفسر ﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ ﴾ بمعنى الوقت، فَيُلْحِدْ في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. فإن قلت : كيف سموها آية، ثم قالوا لتسحرنا بها ؟ قلت : ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية، وإنما سموها اعتباراً لتسمية موسى وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي.
﴿ الطوفان ﴾ ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل. قيل : طغى الماء فوق حروثهم، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره. وقيل : أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، فمن جلس غرق، ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف، ودام عليهم سبعة أيام. وعن أبي قلابة : الطوفان الجدري، وهو أوّل عذاب وقع فيهم، فبقي في الأرض. وقيل : هو المُوتان وقيل : الطاعون، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع عنهم، فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله، فأقاموا شهراً، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام : خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها، فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا، فأقاموا شهراً، فسلَّط الله عليهم القمل وهو الحمنان في قول أبي عبيدة كبار القردان.
وقيل : الدبا، وهو أولاد الجراد. وقبل نبات أجنحتها. وقيل : البراغيث. وعن سعيد بن جبير : السوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصُّه، وكان يأكل أحدهم طعاماً فيمتلئ قملاً، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا يسيراً. وعن سعيد بن جبير، أنه كان إلى جنبهم كثيب أعفر، فضربه موسى بعصاه فصار قملاً، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم، فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، ولا يكشف أحد شيئاً من ثوب ولا طعام ولا شراب إلاّ وجد فيه الضفادع، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدرو وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى وقالوا : ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلاّ أن نتوب التبة النصوح ولا نعود، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً، فشكوا إلى فرعون فقال : إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً، ويستقيان من ماء واحد فيخرج للقبطي الدم وللإسرائيلي الماء حتى إن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية إجعلي الماء في فيك ثم مجيه في فيَّ فيصير الماء في فيها دماً. وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك، فكان يمصّ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً. وعن سعيد بن المسيب : سال عليهم النيل دماً. وقيل : سلط الله عليهم الرعاف وروي : أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات، وروي : أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال : يا رب، إنّ عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية. فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان، ثم الجراد، ثم ما بعده من النقم. وقرأ الحسن :«والقمل »، بفتح القاف وسكون الميم، يريد القمل المعروف ﴿ ءايات مفصلات ﴾ نصب على الحال. ومعنى مفصلات : مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم. أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم، أم ينكثون إلزاماً للحجة عليهم ؟.
﴿ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ ما مصدرية. والمعنى بعهده عندك وهو النبوّة والباء إمّا أن تتعلق بقوله :﴿ ادع لَنَا رَبَّكَ ﴾ على وجهين : أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوّة. أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك. وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بلنؤمنن، أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك.
﴿ إلى أَجَلٍ هُم بالغوه ﴾ إلى حدّ من الزمن هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله ﴿ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ جواب لما، يعني : فلما كشفناه عنهم فاجأوا النكث وبادروا لم يؤخروه ولكن كما كشف عنهم نكثوا.
﴿ فانتقمنا مِنْهُمْ ﴾ فأردنا الانتقام منهم ﴿ فأغرقناهم ﴾. واليم : البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه ﴿ بأنهم كذبوا بآياتنا ﴾ أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها.
﴿ القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾ هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. والأرض : أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاؤا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية ﴿ بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ بالخصب وسعة الأرزاق ﴿ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى ﴾ قوله :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ﴾ [ القصص : ٦ ] والحسنى : تأنيث الأحسن صفة للكلمة. ومعنى تمت على بني إسرائيل : مضت عليهم واستمرت من قولك : تمَّ على الأمر إذا مضى عليه ﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ بسبب صبرهم، وحسبك به حاثاً على الصبر، ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر. وانتظار النصر ضمن الله له الفرج. وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف، وقد سمع قوله. وتلا الآية. ومعنى خف : طاش جزعاً وقلة صبر، ولم يرزن رزانة أولي الصبر. وقرأ عاصم في رواية :«وتمت كلمات ربك الحسنى » ونظيره ﴿ مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى ﴾ [ النجم : ١٨ ]. ﴿ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور ﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ﴾ من الجنات ﴿ هُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] أو وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. كصرح هامان وغيره وقرئ :«يعرشون » بالكسر والضم. وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح. وبلغني أنه قرأ بعض الناس :«يغرسون » من غرس الأشجار. وما أحسبه إلاّ تصحيفاً منه.
وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه - بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر - من عبادة البقر وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفهم ظلوم كفار جهول كنود، إلاّ من عصمة الله ﴿ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ] وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة. وروي : أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وقومه، فصاموه شكراً لله تعالى :﴿ فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ ﴾ فمرّوا عليهم ﴿ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ ﴾ يواظبون على عبادتها ويلازمونها. قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر. وذلك أوّل شأن العجل وقيل : كانوا قوماً من لخم. وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم وقرئ :«وجوّزنا » بمعنى أجزنا. يقال : أجاز المكان وجوزه وجاوزه بمعنى جازه، كقولك : أعلاه وعلاه وعالاه. وقرئ :«يعكفون » بضم الكاف وكسرها ﴿ اجعل لَّنَا إلها ﴾ صنماً نعكف عليه ﴿ كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ ﴾ أصنام يعكفون عليها. «وما » كافة للكاف، ولذلك وقعت الجملة بعدها وعن علي رضي الله عنه أنّ يهودياً قال له : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه. فقال : قلتم اجعل لنا إلها قبل أن تجفّ أقدامكم ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع.
﴿ إِنَّ هَؤُلآء ﴾ يعني عبدة تلك التماثيل ﴿ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ مدمّر مكسر ما هم فيه، من قولهم إناء متبر، إذا كان فضاضاً. ويقال لكسار الذهب : التبر، أي يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يديّ، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضاً ﴿ وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي ما عملوا شيئاً من عبادتها فيما سلف إلاّ وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به وإن كان زعمهم تقرباً إلى الله كما قال تعالى ﴿ وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ] وفي إيقاع ﴿ هؤلاء ﴾ اسماً لإن، وتقديم خبر المبتدإ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا.
﴿ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها ﴾ أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً، وهو فعل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحد غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره. ومعنى الهمزة : الإنكار والتعجب من طلبتهم - مع كونهم مغمورين في نعمة الله - عبادة غير الله.
﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب ﴾ يبغونكم شدّة العذاب، من سام السلعة إذا طلبها. فإن قلت : ما محل يسومونكم ؟ قلت : هو استئناف لا محلّ له. ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين أو من آل فرعون. و ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى الإنجاء أو إلى العذاب. والبلاء : النعمة أو المحنة. وقرئ :«يقتلون » بالتخفيف.
وروي : أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوّهم، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة، فلما أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة : كنا نشمّ من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل : أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك. وقيل : أمره الله أن يصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، وفصلها ههنا. و ﴿ ميقات رَبّهِ ﴾ ما وقته له من الوقت وضربه له. و ﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ نصب على الحال أي تمَّ بالغاً هذا العدد. و ﴿ هارون ﴾ عطف بيان لأخيه. وقرئ بالضم على النداء ﴿ اخلفنى فِى قَوْمِى ﴾ كن خليفتي فيهم ﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ وكن مصلحاً. أو وأصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى [ الفساد ] فلا تتبعه ولا تطعه.
﴿ لميقاتنا ﴾ لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدناه. ومعنى اللام الاختصاص فكأنه قيل : واختصّ مجيئه بميقاتنا، كما تقول : أتيته لعشر خلون من الشهر ﴿ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ من غير واسطة كما يكلم الملك، وتكليمه : أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح وروي : أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : كلمه أربعين يوماً وأربعين ليلة، وكتب له الألواح. وقيل : إنما كلمه في أوّل الأربعين ﴿ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ ثاني مفعولي أرني محذوف أي أرني نفسك أنظر إليك، فإن قلت : الرؤية عين النظر، فكيف قيل : أرني أنظر إليك ؟ قلت : معنى أرني نفسك، اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك، فإن قلت : فكيف قال :﴿ لَن تَرَانِى ﴾ ولم يقل : لن تنظر إليّ لقوله :﴿ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ ؟ قلت : لما قال :﴿ أَرِنِى ﴾ بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك، علم أن الطِّلْبَة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه، فقيل : لن تراني، ولم يقل لن تنظر إليّ. فإن قلت : كيف طلب موسى عليه السلام ذلك -وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة. وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة. ومنعُ المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال- حين أخذت الرجفة الذين قالوا أرنا الله جهرة - ﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] إلى قوله :﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً ؟ قلت : ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً، وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا : لا بدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله :﴿ لَن تَرَانِى ﴾ ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال :﴿ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾. فإن قلت : فهلا قال : أرهم ينظروا إليك ؟ قلت : لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسمعون، فلما سمعوا كلام رب العزّة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادة مبنية على قياس فاسد، فلذلك قال موسى : أرني أنظر إليك، ولأنه إذا زجر عما طلب، وأنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له : لن يكون ذلك : كان غيره أولى بالإنكار، لأنّ الرسول إمام أمته، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعاً إليهم. وقوله :﴿ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليل على أنه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه، مقابلاً بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام، وأبي الهذيل والشيخين، وجميع المتكلمين ؟ فإن قلت : ما معنى ﴿ لَن ﴾ ؟ قلت : تأكيداً النفي الذي تعطيه «لا » وذلك أن «لا » تنفي المستقبل. تقول : لا أفعل غداً، فإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً. والمعنى : أنّ فعله ينافي حالي، كقوله :﴿ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ] فقوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] نفي للرؤية فيما يستقبل. و ﴿ لَن تَرَانِى ﴾ تأكيد وبيان، لأنّ المنفي مناف لصفاته. فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله :﴿ ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ بما قبله ؟ قلت : اتصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر : وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم، كيف أفعل به وكيف أجعله دكاً بسبب طلبك الرؤية ؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه عزّ وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله :﴿ وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً ﴾ [ مريم : ٩١ ]. ﴿ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ﴾ كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهاته ﴿ فَسَوْفَ تَرَانِى ﴾ تعليق لوجود الرؤية موجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكاً ويسويه بالأرض، وهذا كلام مدبج بعضه في بعض، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع. ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك ؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية ؟ أعني قوله :﴿ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ﴾. ﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته ﴿ جَعَلَهُ دَكّا ﴾ أي مدكوكاً مصدر بمعنى مفعول كضرب الأمير. والدكّ والدقُّ أخوان كالشك والشقِّ وقرئ :«دكاء » والدكاء اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكّة أو أرضاً دكاء مستوية. ومنه قولهم : ناقة دكاء متواضعة السنام، وعن الشعبي : قال لي الربيع بن خثيم : ابسط يدك دكاء، أي مدّها مستوية. وقرأ يحيى بن وثاب :«دكاً » أي قطعاً دكا جمع دكاء ﴿ وَخَرَّ موسى صَعِقًا ﴾ من هول ما رأى. وصعق من باب : فعلته ففعل. يقال صعقته فصعقت. وأصله من الصاعقة. ويقال لها الصاقعة. من صقعه إذا ضربه على رأسه ومعناه : خرّ مغشياً عليه غشية كالموت. وروي : أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة ؟ ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ ﴾ من صعقته ﴿ قَالَ سبحانك ﴾ أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها ﴿ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ من طلب الرؤية ﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴾ بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس.
فإن قلت : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته، فممّ تاب ؟ قلت : من إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه، من غير إذن فيه من الله تعالى، فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبها وجعله دكاً، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر، وكيف سبح ربه ملتجئاً إليه، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال أنا أول المؤمنين، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنّة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً. ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهما والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
لَجَمَاعَةٌ سَموْا هَواهُمْ سُنَّة وَجَمَاعَةٌ حُمْرٌ لَعَمْرِي مُوكَفَه
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا شَنْعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالبَلْكَفَهْ.
وتفسير آخر : وهو أن يريد بقوله :﴿ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ عرّفني نفسك تعريفاً واضحاً جلياً، كأنها إراءة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك ﴿ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ أعرفك معرفة اضطرار، كأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث :«سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » بمعنى : ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى ﴿ قَالَ لَن تَرَانِى ﴾ أي لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل قوّتك تلك الآية المضطرة ولكن انظر إلى الجبل. فإني أورد عليه وأظهر له آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطيقها، ﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته ﴿ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسى صَعِقًا ﴾ لعظم ما رأى ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ مما اقترحت وتجاسرت ﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴾ بعظمتك وجلالك، وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك.
﴿ اصطفيتك عَلَى الناس ﴾ اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم ﴿ برسالاتي ﴾ وهي أسفار التوراة ﴿ وبكلامي ﴾ وبتكليمي إياك ﴿ فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ ﴾ ما أعطيتك من شرف النبوّة والحكمة ﴿ وَكُنْ مّنَ الشاكرين ﴾ على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل : خرّ موسى صعقاً يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم النحر. فإن قلت : كيف قيل ؛ اصطفيتك على الناس وكان هارون مصطفى مثله نبياً ؟ قلت : أجل، ولكنه كان تابعاً له وردءاً وزيراً. والكليم : هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.
ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح وقيل : سبعة. وقيل ؛ لوحين، وأنها كانت من زمرّد جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل : من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء. وقيل : أمر الله موسى بقطعها من صخرة صماء لينها له، فقطعها بيده وشقها بأصابعه. وعن الحسن كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة، وأن طولها كان عشرة أذرع. وقوله :﴿ مِن كُلّ شَىْء ﴾ في محل النصب مفعول كتبنا. و ﴿ مَّوْعِظَةٌ ﴾ وتفصيلاً بدل منه. والمعنى : كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. وقيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزأ منه في سنة لم يقرأها إلاّ أربعة نفر : موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى عليهم السلام. وعن مقاتل : كتب في الألواح : إني أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئاً، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا بإسمي كاذبين ؛ فإن من حلف بإسمي كاذباً فلا أزكيه، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين ﴿ فَخُذْهَا ﴾ فقلنا له : خذها، عطفاً على كتبنا، ويجوز أن يكون بدلاً من قوله :﴿ فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٤ ] والضمير في ﴿ خُذْهَا ﴾ للألواح، أو لكل شيء، لأنه في معنى الأشياء، أو [ للرسالات ]، أو للتوراة. ومعنى ﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ بجدّ وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل ﴿ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾ أي فيها ما هو حسن وأحسن، كالاقتصاص، والعفو، والانتصار، والصبر. فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله تعالى :﴿ واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ ﴾ [ الزمر : ٥٥ ] وقيل : يأخذوا بما هو واجب أو ندب، لأنه أحسن من المباح. ويجوز أن يراد : يأخذوا بما أمروا به، دون ما نهوا عنه، على قولك : الصيف أحرّ من الشتاء ﴿ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين ﴾ يريد دار فرعون وقومه وهي مصر، كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم، لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. وقيل : منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم. وقيل : دار الفاسقين : نار جهنم. وقرأ الحسن :«سأوريكم » وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال : أورني كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من أوريت الزند كأنَّ المعنى بيّنه لي وأنره لأستبينه وقرئ :«سأورثكم » قراءة حسنة يصححها قوله :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].
﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي ﴾ بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم. وعن الفضيل بن عياض : ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي " وقيل : سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى، بأن جمع لها السحرة، فأبى الله إلاَّ علو الحقّ وانتكاس الباطل. ويجوز : سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها. وتسميتها سحراً بإهلاكهم. وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم ﴿ بِغَيْرِ الحق ﴾ فيه وجهان : أن يكون حالاً بمعنى يتكبرون غير محقين، لأن التكبر بالحقّ لله وحده. وأن يكون صلة لفعل التكبر، أي يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم ﴿ وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ ﴾ من الآيات المنزلة عليهم ﴿ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ وقرأ مالك بن دينار :«وإن يروا » بضم الياء. وقرئ :«سبيل الرشد » و «الرشد » و «الرشاد »، كقولهم : السقم والسقم والسقام. وما أسفه من ركب المفازة، فإن رأى طريقاً مستقيماً أعرض عنه وتركه، وإن رأى معتسفاً مردياً أخذ فيه وسلكه، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه ﴿ ذلك ﴾ في محل الرفع أو النصب على معنى : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو صرفهم الله ذلك الصرف بسبب.
﴿ وَلِقَاء الآخرة ﴾ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به. أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة.
﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ من بعد فراقه إياهم إلى الطور، فإن قلت : لم قيل : واتخذ قوم موسى عجلاً، والمتخذ هو السامري ؟ قلت : فيه وجهان، أحدهما : أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلاً منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه. والثاني : أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه. وقرئ :«من حليهم » بضم الحاء والتشديد، جمع حلي، كثدي وثديّ، ومن حليهم - بالكسر - للإتباع كدلى. ومن حليهم، على التوحيد، والحلي : اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. فإن قلت : لم قال : من حليهم، ولم يكن الحليّ لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم ؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا :﴿ فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأورثناها بَنِى إسرائيل ﴾ [ الشعراء : ٥٧-٥٩ ]، ﴿ جَسَداً ﴾ بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد. والخوار : صوت البقر، قال الحسن : إنّ السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذفه في فيِّ العجل، فكان عجلاً له خوار. وقرأ علي رضي الله عنه :«جؤار » بالجيم والهمزة، ومن جأر إذا صاح. وانتصاب جسداً على البدل من ﴿ عِجْلاً ﴾ ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحقّ ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه. ثم ابتدأ فقال :﴿ اتخذوه ﴾ أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر ﴿ وَكَانُواْ ظالمين ﴾ واضعين كل شيء في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أوّل مناكيرهم.
﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ ﴾ ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعض يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. و ﴿ سُقِطَ ﴾ مسند إلى ﴿ فَى أَيْدِيهِمْ ﴾ وهو من باب الكناية. وقرأ أبو السميفع :«سقط في أيديهم »، على تسمية الفاعل، أي وقع العض فيها، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم، أي في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال : حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد ويرى بالعين ﴿ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ ﴾ وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم. وقرئ :«لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا »، بالتاء. وربنا، بالنصب على النداء، وهذا كلام التائبين، كما قال آدم وحواء عليهما السلام : وإن لم تغفر لنا وترحمنا.
الأسِف : الشديد الغضب ﴿ فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٥٥ ] وقيل : هو الحزين ﴿ خَلَفْتُمُونِى ﴾ قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي. وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدلّ عليه قوله :﴿ اخلفنى فِى قَوْمِى ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ] والمعنى : بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله. فإن قلت : أين ما تقتضيه بئس من الفاعل والمخصوص بالذم ؟ قلت : الفاعل مضمر يفسره ما خلفتموني. والمخصوص بالذم محذوف تقديره : بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم. فإن قلت : أي معنى لقوله :﴿ مِن بَعْدِى ﴾ بعد قوله :﴿ خلفتموني ﴾ ؟ قلت : معناه من بعد ما رأيتم مني، من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد. وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا :﴿ اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ] ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه. ونحوه :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ [ الأعراف : ١٦٩ ] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى سبق فيتعدّى تعديته، فيقال عجلت الأمر، والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولن أرجع إليكم فحدَّثتم أنفسكم بموتي، فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي : أنّ السامري قال لهم - حين أخرج لهم العجل وقال هذا إلهكم وإله موسى - : إنَّ موسى لن يرجع، وإنه قد مات وروي : أنهم عدّوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين، ثم أحدثوا ما أحدثوا ﴿ وَأَلْقَى الالواح ﴾ وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضباً لله وحمية لدينه، وكان في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى. وروي : أنّ التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة ﴿ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ﴾ أي بشعر رأسه ﴿ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾ بذؤابته وذلك لشدّة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته، وظناً بأخيه أنه فرط في الكف ﴿ ابن أُمَّ ﴾ قرىء بالفتح تشبيهاً بخمسة عشر، وبالكسر على طرح ياء الإضافة. «وابن أمي »، وبالياء. «وابن إمِّ »، بكسر الهمزة والميم. وقيل : كان أخاه لأبيه وأمّه، فإن صحّ فإنما أضافه إلى الأم، إشارة إلى أنهما من بطن واحد.
وذلك أدعى إلى العطف والرقة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتدّ بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ﴿ إِنَّ القوم استضعفوني ﴾ يعني أنه لم يأل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار. وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادّتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلاّ أن يقتلوه ﴿ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء ﴾ فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إليّ، وقرىء :«فلا يشمت بي الأعداء »، على نهي الأعداء عن الشماتة. والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله ﴿ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين ﴾ ولا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي قريناً لهم وصاحباً. أو ولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم. لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء.
﴿ قَالَ رَبّ اغفر لِى وَلاخِى ﴾ ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة. وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.
﴿ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ ﴾ الغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم. والذلة : خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب. وقيل : هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير، من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية ﴿ المفترين ﴾ المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري : هذا إلهكم وإله موسى. ويجوز أن يتعلق في الحياة الدنيا بالذلة وحدها ويراد : سينالهم غضب في الآخرة، وذلة في الحياة الدنيا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.
﴿ والذين عَمِلُواْ السيئات ﴾ من الكفر والمعاصي كلها ﴿ ثُمَّ تَابُواْ ﴾ ثم رجعوا ﴿ مِن بَعْدِهَا ﴾ إلى الله واعتذروا إليه ﴿ وَءامَنُواْ ﴾ وأخلصوا الإيمان ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾ من بعد تلك العظائم ﴿ لَغَفُورٌ ﴾ لستور عليهم محاء لما كان منهم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظَّم جنايتهم أو لا ثم أردفها تعظيم رحمته، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجلّ، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة : وهي وجوب التوبة والإنابة، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة، لا يلتفت إليها حازم.
﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب ﴾ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا وألقي الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاّ لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلاّ فما لقراءة معاوية بن قرة :«ولما سكن عن موسى الغضب »، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة، وطرفاً من تلك الروعة. وقرئ :«ولما سكت » و «أسكت » أي أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى : ولما طفئ غضبه ﴿ أَخَذَ الألواح ﴾ التي ألقاها ﴿ وَفِى نُسْخَتِهَا ﴾ وفيما نسخ منها، أي كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة ﴿ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً. ونحوه ﴿ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٣ ] وتقول : لك ضربت.
﴿ واختار موسى قَوْمَهُ ﴾ أي من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله :
وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ***
قيل : اختار من اثني عشر سبطاً، من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين، فقال : ليتخلف منكم رجلان : فتشاحوا، فقال : إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع. وروي : أنه لم يصب إلا ستين شيخاً، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً. وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا، لميقات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل، ولا تفعل. ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا : يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال : رب أرني أنظر إليك، يريد : أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجفة ﴿ قَالَ ﴾ موسى ﴿ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى ﴾ وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة : لو شاء الله لأهلكني قبل هذا ﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا ﴾ يعني أتهلكنا جميعاً، يعني نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفهاً وجهلاً ﴿ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ أي محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا ﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ﴾ تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالاً من الله وهدى منه، لأن محنته لما كانت سبباً لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام ﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا ﴾ مولانا القائم بأمورنا.
﴿ واكتب لَنَا ﴾ وأثبت لنا وأقسم ﴿ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾ عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة ﴿ وَفِي الآخرة ﴾ الجنة ﴿ هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ تبنا إليك. وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب. والهود : جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم :
يَا رَاكِبَ الذّنْبِ هُدْهُد واسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُد
وقرأ أبو وجرة السعدي :«هدنا إليك » بكسر الهاء، من هاده يهيده إما حرّكه وأماله. ويحتمل أمرين، أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حرّكنا إليك وأملنا على تقدير : فعلنا، كقولك : عدت يا مريض بكسر العين، فعلت من العيادة.
ويجوز : عدت بالإشمام. وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال : عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون ﴿ هُدْنَا ﴾ بالضم فعلنا من هاده يهيده ﴿ عَذَابِى ﴾ من حاله وصفته أني ﴿ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء ﴾ أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا ﴿ رَّحْمَتِى ﴾ فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلاّ وهو متقلب في نعمتي. وقرأ الحسن :«من أساء » من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبه خاصة منكم يا بني إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيء منها.
﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول ﴾ الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن ﴿ النبى ﴾ صاحب المعجزات ﴿ الذي يَجِدُونَهُ ﴾ يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل ﴿ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات ﴾ ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلي كسبه من السحت، ويحرّم عليهم الخبائث ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة. الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم، وكذلك الأغلال. مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو : بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت. وعن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ :«آصارهم » على الجمع ﴿ وَعَزَّرُوهُ ﴾ ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ. وقرئ بالتخفيف. وأصل العزر : المنع. ومنه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنه منع عن معاودة القبيح. ألا ترى إلى تسميته الحدّ، والحدّ هو المنع. و ﴿ النور ﴾ القرآن. فإن قلت : ما معنى قوله ﴿ أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ وإنما أنزل مع جبريل ؟ قلت : معناه أنزل مع نبوّته، لأنّ استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يعلق باتبعوا. أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهي عنه، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه.
فإن قلت : كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه ؟ قلت : لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل، أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعرّض بذلك في قوله :﴿ والذين هُم بآياتنا يُؤْمِنُونَ ﴾ وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين لطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرّق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله التي وسعت كل شيء.
﴿ إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ قيل : بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجنّ. وجميعاً : نصب على الحال من إليكم. فإن قلت :﴿ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ ما محله ؟ قلت : الأحسن أن يكون منتصباً بإضمار أعني، وهو الذي يسمى النصب على المدح. ويجوز أن يكون جراً على الوصف، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم. ﴿ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ وقوله :﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ بدل من الصلة التي هي له ملك السموات والأرض، وكذلك ﴿ يُحْييِ وَيُمِيتُ ﴾ وفي ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ بيان للجملة قبلها، لأنّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة. وفي يحيي ويميت : بيان لاختصاصه بالإلهية، لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره ﴿ وكلماته ﴾ وما أنزل عليه وعلى من تقدّمه من الرسل من كتبه ووحيه. وقرىء :«وكلمته » على الإفراد وهي القرآن. أو أراد جنس ما كلم به. وعن مجاهد : أراد عيسى ابن مريم. وقيل : هي الكلمة التي تكوّن [ عنها ] عيسى وجميع خلقه، وهي قوله :﴿ كُنَّ ﴾ وإنما قيل إن عيسى كلمة الله، فخصّ بهذا الاسم، لأنه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة، ولم يكن من نطفة تمنى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ إرادة أن تهتدوا. فإن قلت : هلا قيل : فآمنوا بالله وبي، بعد قوله :﴿ إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ﴾ ؟ قلت : عدل من المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيري، إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه.
﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ ﴾ هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم. وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون، أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم. وقيل : إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا. قال : هذا محمد النبي الأميّ، فآمنوا به وقالوا : يا رسول الله، إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه مني السلام فردّ محمد على موسى عليهما السلام السلام، ثم أقرؤهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت » وعن مسروق. قرئ : بين يدي عبد الله فقال رجل : إني منهم، فقال : عبد الله : يعني لمن كان في مجلسه من المؤمنين : وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئاً من يهدي بالحق وبه يعدل، وقيل : لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين. وهذا من باب الفرض والتقدير وإلاّ فقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق، وتغلغل في كل نفق، ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا برّ ولا بحر في مشارق الأرض ومغاربها، وإلاّ وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائلهم عنه يوم القيامة.
﴿ وقطعناهم ﴾ وصيرناهم قطعاً، أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض لقلة الألفة بينهم. وقرئ :«وقطعناهم » بالتخفيف ﴿ اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا ﴾ كقولك : اثنتي عشرة قبيلة. والأسباط : أولاد الولد، جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام. فإن قلت : مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعاً ؟ وهلاّ قيل : اثني عشر سبطاً ؟ قلت : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد : وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيره :
بينَ رِمَاحِيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ ***
و ﴿ أُمَمًا ﴾ بدل من اثنتي عشرة بمعنى : وقطعناهم أمماً لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمّه الأخرى، لا تكاد تأتلف. وقرئ :«اثنتي عشرة » بكسر الشين ﴿ فانبجست ﴾ فانفجرت. والمعنى واحد، وهو الانفتاح بسعة وكثرة : قال العجاج :
وَكَيْفَ غَرْبِيّ دَالِجٍ تَبَجَّسَا ***
فإن قلت : فهلا قيل : فضرب فانبجست ؟ قلت : لعدم الإلباس، وليجعل الإنبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر للدلالة على أنّ الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشكّ عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. من قوله :﴿ كُلَّ أُنَاسٍ ﴾ نظير قوله : اثنتي عشرة أسباطاً، يريد كل أمّة من تلك الأمم الثنتي عشرة، والأناس، اسم جمع غير تكسير، نحو. رخال وتناء وتؤام وأخوات لها. ويجوز أن يقال : إن الأصل الكسر والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، كما أبدلت في نحو. سكارى وغيارى من الفتحة ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام ﴾ وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه، و ﴿ كُلُواْ ﴾ على إرادة القول ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم، ولكن كانوا يضرون أنفسهم. ويرجع وبال ظلمهم إليهم.
﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ﴾ واذكر إذ قيل لهم. والقرية : بيت المقدس. فإن قلت : كيف اختلفت العبارة ههنا وفي سورة البقرة ؟ قلت : لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض. ولا تناقض بين قوله، اسكنوا هذه القرية وكلوا منها، وبين قوله : فكلوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدّموا الحطة على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته، وقوله :﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم سَنَزِيدُ المحسنين ﴾ موعد بشيئين : بالغفران، وبالزيادة، وطرح الواو لا يخلّ بذلك، لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : وماذا بعد الغفران ؟ فقيل له : سنزيد المحسنين، وكذلك زيادة.
﴿ مِنْهُمْ ﴾ زيادة بيان، وأرسلنا، وأنزلنا. و ﴿ يَظْلِمُونَ ﴾ ويفسقون من واد واحد. وقرئ :«يغفر لكم خطيئاتكم » «وتغفر لكم خطاياكم ». و «خطيئاتكم »، و«خطيئتكم »، على البناء للمفعول.
﴿ وسلهم ﴾ وسل اليهود. وقرئ :«واسألهم ». وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلاّ بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك : أعدوتم في السبت ؟ والقرية أيلة. وقيل : مدين. وقيل : طبرية. والعرب تسمي المدينة قرية. وعن أبي عمرو بن العلاء. ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني رجلين من أهل المدن ﴿ كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر ﴾ قريبة منه راكبة لشاطئه ﴿ إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت ﴾ إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ :«يعدّون » بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويُعدّون من الإعداد، وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. والسبت : مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه : يعدّون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله :﴿ يَوْمَ سَبْتِهِمْ ﴾ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت. ويدل عليه قوله :﴿ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ﴾ [ و ] قراءة عمر بن عبد العزيز :«يوم إسباتهم »، وقرئ :«لا يسبتون »، بضم الباء. وقرأ علي :«لا يسبتون » بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن :«لا يسبتون » على البناء للمفعول، أي لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا، فإن قلت : إذ يعدون، وإذ تأتيهم، ما محلهما من الإعراب ؟ قلت : أمّا الأوّل فمجرور بدل من القرية، والمراد بالقرية أهلها، كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون منصوباً بكانت، أو بحاضرة. وأمّا الثاني فمنصوب بيعدون. ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل. والحيتان السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة ﴿ شُرَّعًا ﴾ ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن : تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. يقال شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا ﴿ كذلك نَبْلُوهُم ﴾ أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم.
﴿ وَإِذْ قَالَتِ ﴾ معطوف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب ﴿ أُمَّةٌ مّنْهُمْ ﴾ جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ ﴾ أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم ﴿ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا ﴾ لتماديهم في الشرّ. وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم ﴿ قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ ﴾ أي : موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء. وقرئ :«معذرة » بالنصب، أي وعظناهم معذرة إلى ربكم، أو اعتذرنا معذرة.
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ ﴾ يعني أهل القرية، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه ﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا ﴾ الظالمين الراكبين للمنكر. فإن قلت : الأمة الذين قالوا ﴿ لِمَ تَعِظُونَ ﴾ من أي الفريقين هم أمن فريق الناجين أم المعذبين قلت من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين. وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه، سقط عنه النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث. ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه، كان ذلك عبثاً منك، ولم يكن إلاّ سبباً للتلهي بك. وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إمّا لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم، أو لفرط حرصهم وجدّهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله :﴿ فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ ﴾ [ الكهف : ٦ ] وقيل : الأمة هم الموعوظون، لما وعظوا قالوا للواعظين : لم تعظون منا قوما تزعمون أنّ الله مهلكهم أو معذبهم ؟ وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا : لم تعظون قوماً ؟ قال عكرمة : فقلت : جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم، فلم أزل به حتى عَرَّفْته أنهم قد نجوا. وعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان. وروي : أنّ اليهود أُمروا باليوم الذي أُمرنا به وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها. وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له : إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحواً من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً، ثلث نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلث قالوا : لم تعظون قوماً ؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة.
فلما لم ينتهوا قال المسلمون : إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار : للمسلمين باب، وللمعتدين باب. ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا : إنّ للناس شأناً، فعلوا الجدار فنطروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الأنس، والأنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي، فيقول : ألم ننهك فيقول برأسه : بلى، وقيل : صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير. وعن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة، هاه وايم الله، ما حوتٌ أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم. ولكن الله جعل موعداً، والساعة أدهى وأمرّ ﴿ بَئِيسٍ ﴾ شديد. يقال : بؤس يبؤس بأساً، إذا اشتدّ، فهو بئيس. وقرئ :«بئس »، بوزن حَذِر. وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء. كما يقال : كبد في كبد. وبيس على قلب الهمزة ياء، كذيب في ذئب، وبيئس على فيعل، بكسر الهمزة وفتحها، وبيس بوزن ريس، على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها، وبيس على تخفيف بيس، كهين في هين. وبائس على فاعل.
﴿ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله :﴿ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ]، ﴿ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً ﴾ عبارة عن مسخهم قردة، كقوله :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ] والمعنى : أنّ الله تعالى عذبهم أوّلاً بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل : فلما عتوا، تكرير لقوله :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ ﴾ والعذاب البئيس : هو المسخ.
﴿ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ﴾ عزم ربك، وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام ؛ لأنّ العازم على الأمر يحدّت نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجرى مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله :﴿ لَيَبْعَثَنَّ ﴾ والمعنى : وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود ﴿ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب ﴾ فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى ليبعثن عليهم ليسلطنّ عليهم، كقوله :﴿ بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ﴾ [ الإسراء : ٥ ]
﴿ وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا ﴾ وفرّقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم ﴿ مّنْهُمُ الصالحون ﴾ الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين ﴿ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك ﴾ ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة. فإن قلت : ما محل دون ذلك ؟ قلت : الرفع، وهو صفة لموصوف محذوف، معناه : ومنهم ناس منحطون عن الصلاح، ونحوه ﴿ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الصافات : ٦٤ ] بمعنى : وما منا أحد إلاّ له مقام ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴾ بالنعم والنقم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ فينيبون.
﴿ فَخَلَفَ ﴾ من بعد المذكورين ﴿ خَلْفٌ ﴾ وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَرِثُواْ الكتاب ﴾ التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها ﴿ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى ﴾ أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله :﴿ هذا الأدنى ﴾ تخسيس وتحقير. والأدنى : إما من الدنوّ بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد : ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة ﴿ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾ لا يؤاخذنا الله بما أخذنا. وفاعل ﴿ سَيُغْفَرُ ﴾ الجار والمجرور، وهو ﴿ لَنَا ﴾ ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون ﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾ الواو للحال، أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين. وغفران الذنوب لا يصحّ إلاّ بالتوبة، والمصر لا غفران له ﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب ﴾ يعني قوله في التوراة : من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلاّ بالتوبة ﴿ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ ﴾ في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى. وعن مالك بن دينار رحمه الله، يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به، قالوا : سيغفر لنا، لأنا لم نشرك بالله شيئاً، كل أمرهم إلى الطمع، خيارهم فيهم المداهنة، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الذين ذكرهم الله، وتلا الآية ﴿ والدار الآخرة خَيْرٌ ﴾ من ذلك العرض الخسيس ﴿ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ الرشا ومحارم الله. وقرئ :««ورثوا الكتاب »، ( وإلاّ تقولوا )، بالتاء. وادّارسوا، بمعنى تدارسوا. وأفلا تعقلون، بالياء والتاء. فإن قلت : ما موقع قوله :﴿ أَلا يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق ﴾ ؟ قلت : هو عطف بيان لميثاق الكتاب. ومعنى ميثاق الكتاب. الميثاق المذكور في الكتاب. وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله. وتقوّل عليه ما ليس بحق. وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان ﴿ أَن لاَّ يِقُولُواْ ﴾ مفعولاً له. ومعناه : لئلا يقولوا. ويجوز أن تكون ﴿ أَن ﴾ مفسرة، و ﴿ لاَ تَقُولُواْ ﴾ نهياً، كأنه قيل : ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلاّ الحق ؟ فإن قلت : علام عطف قوله :﴿ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ ﴾ ؟ قلت : على ﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم ﴾، لأنه تقرير، فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه.
﴿ والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب ﴾ فيه وجهان، أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره ﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين ﴾ والمعنى : إنا لا نضيع أجرهم ؛ لأنّ المصلحين في معنى الذين يمسكون بالكتاب، كقوله :﴿ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٣٠ ] والثاني : أن يكون مجروراً عطفاً على الذين يتقون، ويكون قوله :﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ ﴾ اعتراضاً. وقرئ :«يمسكون » بالتشديد. وتنصره قراءة أبيّ :«والذين مسكوا بالكتاب »، فإن قلت : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة. ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت ؟ قلت : إظهار لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقه بين الكفر والإيمان. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه :«والذين استمسكوا بالكتاب ».
﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ ﴾ قلعناه ورفعناه، كقوله :﴿ ورفعنا فوقهم الطور ﴾. ومنه : نتق السقاء، إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. والظلة : كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أطل عليه إذا أشرف ﴿ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة. لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤؤسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ. وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلاّ على حاجبه الأيسر، ويقولون : هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله. لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلاّ اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه ﴿ خُذُواْ مَا ءاتيناكم ﴾ على إرادة القول. أي : وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين : خذوا ما آتيناكم من الكتاب ﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه ﴿ واذكروا مَا فِيهِ ﴾ من الأوامر والنواهي ولا تنسوه، أو اذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد : خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه، كقوله :﴿ إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض ﴾ [ الرحمن : ٣٣ ] فانفذوا. ﴿ واذكروا مَا فِيهِ ﴾ من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود :«وتذكروا » وقرئ :«واذّكروا »، بمعنى وتذكروا.
﴿ مِن ظُهُورِهِمْ ﴾ بدل من بني آدم بدل البعض من الكل. ومعنى أخذ ذرّياتهم من ظهورهم : إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم. قوله :﴿ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا ﴾ من باب التمثيل والتخييل ! ا ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم ؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه [ الصلاة و ] السلام، وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ]، ﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ] وقوله :
إِذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ ***
قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا قَرْقَار ِ***
ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى ﴿ وأَن تَقُولُواْ ﴾ مفعول له، أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة ﴿ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين ﴾ لم ننبه عليه.
﴿ أو ﴾ كراهة ﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذرية من بعدهم ﴾ فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. كما لا عذر لآبائهم في الشرك - وأدلة التوحيد منصوبة لهم - فإن قلت : بنو آدم وذرّياتهم من هم ؟ قلت : عنى ببني آدم : أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا : عزير ابن الله. وبذرياتهم : الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم. والدليل على أنها من المشركين وأولادهم : قوله :﴿ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾ والدليل على أنها في اليهود : الآيات التي عطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله :﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القرية ﴾ [ الأعراف : ١٦٣ ]، ﴿ وإِذْ قَالَتِ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٤ ]، ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٧ ]، ﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٧١ ]. ﴿ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا ﴾ [ الأعراف : ١٧٥ ]. ﴿ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون ﴾ أي كانوا السبب في شركنا ؛ لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنة لنا.
﴿ وكذلك ﴾ ومثل ذلك التفصيل البليغ ﴿ نُفَصّلُ الآيات ﴾ لهم ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها. وقرئ :«ذريتهم » على التوحيد. وأن يقولوا : بالياء.
﴿ واتل عَلَيْهِمْ ﴾ على اليهود ﴿ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا ﴾ هو عالم من علماء بني إسرائيل. وقيل : من الكنعانيين، اسمه بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله ﴿ فانسلخ مِنْهَا ﴾ من الآيات، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ﴿ فَأَتْبَعَهُ الشيطان ﴾ فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له. أو فأتبعه خطواته. وقرىء :«فاتبعه » بمعنى فتبعه ﴿ فَكَانَ مِنَ الغاوين ﴾ فصار من الضالين الكافرين. روي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا ﴾ لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات ﴿ ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض ﴾ مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل : مال إلى السفالة. فإن قلت : كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع قلت المعنى. ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها. وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد : ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله :﴿ ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض ﴾ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون ﴿ وَلَوْ شِئْنَا ﴾ في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب ﴾ فصفته التي هي مثل في الخسّة والضعة كصفة الكلب في أخسّ أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حمل عليه - أي شدّ عليه وهيج فطرد - أو ترك غير متعرّض له بالحمل عليه. وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلاّ إذا هيج منه وحرّك، وإلاّ لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً، وكان حق الكلام أن يقال : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب ﴾ موضع حططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه، الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه. وقيل : معناه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث. فإن قلت : ما محل الجملة الشرطية ؟ قلت : النصب على الحال، كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين. وقيل : لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب ﴿ ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا ﴾ من اليهود بعد ما قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستفتحون به ﴿ فاقصص ﴾ قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيحذرون مثل عاقبته، إذا ساروا نحو سيرته، وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي فيزدادوا إيقاناً بك وتزداد الحجة لزوماً لهم.
﴿ سَاء مَثَلاً القوم ﴾ أي مثل القوم. أو ساء أصحاب مثل القوم. وقرأ الجحدري :«ساء مثل القوم ». ﴿ وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ إما أن يكون معطوفاً على كذبوا، فيدخل في حيز الصلة بمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب، بآيات الله وظلم أنفسهم. وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة، بمعنى : وما ظلموا إلاّ أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل : وخصّوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.
﴿ فَهُوَ المهتدى ﴾ حمل على اللفظ. و ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون ﴾ حمل على المعنى.
﴿ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس ﴾ هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم. وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحقّ، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب، وإبصار العيون واستماع الآذان. وجعلهم - لإعراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتي منهم إلاّ أفعال أهل النار - مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد : بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دَلُوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار. ويقال لمن كان عريقاً في بعض الأمور : ما خلق فلان إلاّ لكذا. والمراد وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع علمهم أنه النبي الموعود. وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم، كأنهم خلقوا للنار ﴿ أُوْلَئِكَ كالانعام ﴾ في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون ﴾ الكاملون في الغفلة. وقيل : الأنعام تبصر منافعها ومضارّها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار.
﴿ وَللَّهِ الاسماء الحسنى ﴾ التي هي أحسن الأسماء ؛ لأنها تدلّ على معان حسنة من تمجيد وتقديس وغيرذلك ﴿ فادعوه بِهَا ﴾ فسموه بتلك الأسماء ﴿ وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ﴾ واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحقّ والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم : يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يانخي. أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى. نحو أن يقولوا : يا ألله، ولا يقولوا : يا رحمن وقد قال الله تعالى :﴿ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيَّامًا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] ويجوز أن يراد : ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق فصفوه بها، وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها، وقيل : إلحادهم في أسمائه : تسميتهم الأصنام آلهة، واشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز.
لما قال :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار، أتبعه قوله :﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق ﴾ وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول إذا قرأها : " هذه لكم " وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها، ﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] وعنه صلى الله عليه وسلم :«إنّ من أمّتي قوماً على الحقّ حتى ينزل عيسى عليه السلام » وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين.
الاستدراج : استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة. قال الأعشى :
فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً وَرَقِيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّم
لَيَسْتَدرِجَنَّكَ الْقَوْلُ حَتَّى تَهَرَّه وَتَعْلَمَ أَنِي عَنْكُمْ غَيْرَ مُفْحَمِ
ومنه : درج الصبي إذا قارب بين خطاه. وأدرج الكتاب : طواه شيئاً بعد شيء. ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم ﴾ سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم ﴿ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ما يراد بهم، وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع أنهماكهم في الغيّ. فكلّما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أنّ مواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى، نعوذ بالله منه.
﴿ وَأُمْلِى لَهُمْ ﴾ عطف على ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم ﴾ وهو داخل في حكم السين ﴿ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ﴾ سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد، من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.
﴿ مَا بِصَاحِبِهِم ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مّن جِنَّةٍ ﴾ من جنون، وكانوا يقولون شاعر مجنون. وعن قتادة :
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوِّت إلى الصباح.
﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ ﴾ نظر استدلال ﴿ فِى مَلَكُوتِ السماوات والأرض ﴾ فيما تدلاّن عليه من عظم الملك. والملكوت : الملك العظيم ﴿ وَمَا خَلَقَ الله مِن شَىْء ﴾ وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ومن أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف ﴿ وَأَنْ عسى ﴾ أن مخففة من الثقيلة، والأصل : أنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن. والمعنى : أو لم ينظروا في أنّ الشأن والحديث عسى ﴿ أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ ﴾ ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم. قبل مغافصة الأجل وحلول العقاب ويجوز أن يراد باقتراب الأجل : اقتراب الساعة، ويكون من «كان » التي فيها ضمير الشأن. فإن قلت : بم يتعلق قوله :﴿ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ قلت : بقوله :﴿ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ ﴾ كأنه قيل : لعلّ أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ، وبأيّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا.
قرئ :«ويذرهم » بالياء والنون، والرفع على الاستئناف، ويذرهم، بالياء والجزم عطفاً على محل ﴿ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم.
﴿ يَسْئَلُونَكَ ﴾ قيل : إن قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً، فإنا نعلم متى هي، وكان ذلك امتحاناً منهم، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل : السائلون قريش. و ﴿ الساعة ﴾ من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. ﴿ أَيَّانَ ﴾ بمعنى متى. وقيل ؛ اشتقاقه من أيّ فعلان منه، لأنّ معناه أيّ وقت وأيّ فعل، من أويت إليه، لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه، قاله ابن جني، وأبى أن يكون من «أين » لأنّه زمان، «وأين » مكان. وقرأ السلمي «إيان » بكسر الهمزة ﴿ مرساها ﴾ إرساؤها، أو وقت إرسائها ؛ أي إثباتها وإقرارها. وكل شيء ثقيل رسّوه ثباته واستقراره. ومنه رسي الجبل وأرسي السفينة. والمرسى : الأنجر الذي ترسى به، ولا أثقل من الساعة، بدليل قوله ﴿ ثَقُلَتْ فِى السماوات والأرض ﴾ والمعنى حتى يرسيها الله ﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا ﴾ أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به، ولم يخبر به أحداً من ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، يكاد يخفيها من نفسه، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك ﴿ لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا تزال خفية، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلاّ هو وحده إذا جاء في وقتها بغتة، لا يجليها بالخبر عنها قبل مجيئها أحد من خلقه، لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها ﴿ ثَقُلَتْ فِى السماوات والأرض ﴾ أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة، وبودّه أن يتجلى له علمها وشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه. أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها. أو لأنّ كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها ﴿ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ إلاّ فجأة على غفلة منكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوّم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه " ﴿ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا ﴾ كأنك عالم بها. وحقيقته : كأنك بليغ في السؤال عنها، لأنّ من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم فيه ورصن وهذا التركيب معناه المبالغة. ومنه إحفاء الشارب. إحتفاء البقل : استئصاله. وأحفى في المسألة، إذا ألحف وحفي بفلان وتحفى به : بالغ في البرّ به. وعن مجاهد : استحفيت عنها السؤال حتى علمت. وقرأ ابن مسعود :«كأنك حفيّ بها » أي عالم بها بليغ في العلم بها. وقيل :﴿ عَنْهَا ﴾ متعلق بيسألونك : أي يسألونك عنها كأنك حفيّ أي عالم بها.
وقيل : إن قريشاً قالوا له إن بيننا وبينك قرابة، فقل لنا متى الساعة ؟ فقيل : يسألونك عنها كأنك حفيّ تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوي علمها عن غيرهم، ولو أخبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في إخبارك به، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص، كسائر ما أوحي إليك. وقيل : كأنك حفيّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره، يعني أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً من خلقه. فإن قلت : لم كرر يسألونك وإنما علمها عند الله ؟ قلت : للتأكيد، ولما جاء به من زيادة قوله :﴿ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا ﴾ وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة، منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنه العالم بها، وأنه المختص بالعلم بها.
﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ﴾ هو إظهار للعبودية والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب : أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرركما المماليك والعبيد ﴿ إِلاَّ مَا شَاء ﴾ ربي ومالكي من النفع لي والدفع عني ﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب ﴾ لكانت حالي على خلاف ما هي عليه، من استكثار الخير، واستغزار المنافع، واجتناب السوء والمضارّ، حتى لا يمسني شيء منها. ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب. ورابحاً وخاسراً في التجارات، ومصيباً [ و ] مخطئاً في التدابير ﴿ إِنْ أَنَا إِلاَّ ﴾ عبد أرسلت نذيراً وبشيراً، وما من شأني أني أعلم الغيب ﴿ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ يجوز أن يتعلق بالنذير والبشير جميعاً، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم. أو يتعلق بالتبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير محذوفاً أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون.
﴿ مّن نَّفْسٍ واحدة ﴾ وهي نفس آدم عليه السلام ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ وهي حواء، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه. أو من جنسها كقوله :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ [ النمل : ٧٢ ] ﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر ؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وقال :﴿ لِيَسْكُنَ ﴾ فذكر بعد ما أنث في قوله :«واحدة » «منها زوجها »، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم. ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى. والتغشي : كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان ﴿ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا ﴾ خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالي من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه. وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها : ما كان أخفه على كبدي حين حملته ﴿ فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق وقيل :﴿ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا ﴾ يعني النطفة ﴿ فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباس رضي الله عنه :«فاستمرت به » وقرأ يحيى بن يعمر «فمرت به » بالتخفيف. وقرأ غيره «فمارت به » من المرية، كقوله :﴿ أفتمارونه ﴾ وأفتمرونه. ومعناه : فوقع في نفسها ظن الحمل، فارتابت به. ﴿ فَلَمَّا أَثْقَلَت ﴾ حان وقت ثقل حملها كقولك : أقربت. وقرئ «أُثقلت »، على البناء للمفعول : أي أثقلها الحمل ﴿ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا ﴾ دعا آدم وحواء رَبَّهما ومالِكَ أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا :﴿ لَئِنْ ءاتَيْتَنَا ﴾ لئن وهبت لنا ﴿ صالحا ﴾ ولداً سوياً قد صلح بدنه وبريء. وقيل : ولداً ذكراً، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في ﴿ ءَاتَيْتَنَا ﴾ و ﴿ لَّنَكُونَنَّ ﴾. لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما.
﴿ فَلَمَّا ءاتاهما ﴾ ما طلباه من الولد الصالح السويّ ﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ﴾ أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك ﴿ فِيمَا ءاتاهما ﴾ أي آتى أولادهما، وقد دلّ على ذلك بقوله :﴿ فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ حيث جمع الضمير. وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة، وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم. ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد.
فَيَا لَقُصَيّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُم بِهِ مِنْ فَخَارٍ لاَ يُبَارَى وَسُودَدِ
ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصيّ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصيّ وعبد الدار، وجعل الضمير في ﴿ يُشْرِكُونَ ﴾ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه. وقرئ «شركا »، أي ذوي شرك وهم الشركاء، أو أحدثا لله شركاً في الولد.
أجريت الأصنام مجرى أولي العلم في قوله :﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى : أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله، وهم يخلقون ؟ لأن الله عز وجل خالقهم. أو لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يخلقون ؛ لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم.
﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ ﴾ لعبدتهم ﴿ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾ فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذي يدفعون عنهم ويحامون عليهم.
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ ﴾ وإن تدعوا هذه الأصنام ﴿ إِلَى الهدى ﴾ أي إلى ما هو هدى ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى : وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. ويدل عليه قوله :﴿ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين ﴾ ﴿ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ ﴾ أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم. فإن قلت : هلا قيل : أم صمتم ؟ ولم وضعت الجملة الإسمية موضع الفعلية ؟ قلت : لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم، كقوله :﴿ وإذا مس الناس ضرّ ﴾ [ الروم : ٣٣ ] فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل : إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.
﴿ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله ﴿ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ وقوله :﴿ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ استهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم.
ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ﴾ وقيل : عباد أمثالكم مملوكون أمثالكم. وقرأ سعيد بن جبير :«إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم » بتخفيف إن ونصب عباداً أمثالكم، والمعنى : ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، على إعمال «إن » النافية عمل «ما » الحجازية ﴿ قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ﴾ واستعينوا بهم في عداوتي ﴿ ثُمَّ كِيدُونِ ﴾ جميعاً أنتم وشركاؤكم ﴿ فَلاَ تُنظِرُونِ ﴾ فإني لا أبالي بكم، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هود له :﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ﴾ [ هود : ٥٤ ] قال لهم :﴿ إِنّى بريء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ [ هود : ٥٥ ].
﴿ إِنَّ وَلِيّىَ الله ﴾ أي ناصري عليكم الله ﴿ الذي نَزَّلَ الكتاب ﴾ الذي أوحى إلي كتابه وأعزني برسالته ﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين ﴾ ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.
﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه ﴿ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ وهم لا يدركون المرئيّ.
﴿ العفو ﴾ ضد الجهد : أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا " قال :
خذِي الْعَفْوَ مِني تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلاَ تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وقيل : خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً. والعرف : المعروف والجميل من الأفعال ﴿ وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين ﴾ ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم. وقيل : لما نزلت الآية سأل جبريل ( ما هذا ) فقال : لا أدري حتى أسأل [ العالم ]، ثم رجع فقال :«يا محمد » إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك ». وعن جعفر الصادق : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
﴿ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ ﴾ وإما ينخسنّك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به ﴿ فاستعذ بالله ﴾ ولا تطعه. النزغ والنسغ : الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغاً، كما قيل جدّ جدّه. وروي : أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يا رب والغضب فنزل ﴿ وإما ينزعنَّك من الشيطان نزع ﴾ ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب، كقول أبي بكر رضي الله عنه : إنّ لي شيطاناً يعتريني.
﴿ طائف مِنَ الشيطان ﴾ لمة منه مصدر، من قولهم : طاف به الخيال يطيف طيفاً قال :
أنَّي ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ يِطيفُ ***
أو هو تخفيف طيف فيعل، من طاف يطيف كلين أو من طاف يطوف كهين. وقرئ :«طائف »، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم : إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته ﴿ تَذَكَّرُواْ ﴾ ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم.
وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يمدونهم في الغيِّ، أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ :«يُمدّونهم » من الإِمداد. ويمادّونهم، بمعنى يعاونونهم ﴿ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. قوله :﴿ وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ ﴾ كقوله :
قَوْم إذَا الْخَيْلُ جَالُوا في كَوَاثِبِهَا ***
في أنّ الخبر جار على ما هو له. ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جارياً على ما هو له، والأوّل أوجه، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. فإن قلت : لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد ؟ قلت : المراد به الجنس، كقوله :﴿ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ].
اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه : أي جمعه، كقولك : اجتمعه، أو جبي إليه فاجتباه : أي أخذه، كقولك : جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى ﴿ لَوْلاَ اجتبيتها ﴾ هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك ؛ لأنهم كانوا يقولون :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ ﴾ [ سبأ : ٤٣ ] أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة ؟ ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ مّن رَّبّى ﴾ ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها ﴿ هذا بصائر ﴾ هذا القرآن بصائر ﴿ مّن رَّبّكُمْ ﴾ أي حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.
﴿ وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ ﴾ ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه : وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل : معنى فاستمعوا له : فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.
﴿ واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك ﴿ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ﴾ متضرعاً وخائفاً ﴿ وَدُونَ الجهر ﴾ ومتكلماً كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر ﴿ بالغدو والأصال ﴾ لفضل هذين الوقتين. أو أراد الدوام. ومعنى بالغدوّ : بأوقات الغدو، وهي الغدوات. وقرئ :«والإيصال »، من آصل إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم وهو مطابق للغدوّ ﴿ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين ﴾ من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.
﴿ إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ ﴾ هم الملائكة صلوات الله عليهم. ومعنى ﴿ عِندَ ﴾ دنوّ الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته ﴿ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين.
Icon