تفسير سورة الأعراف

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الأعراف
عدد آياتها خمس ومائتان، وهي مكية، قال القرطبي: كلها مكية إلا ثمان آيات وهو قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ.
نزلت بعد سورة (ص) وهي كالأنعام بينت أصول العقائد وأسس الدين، وفيها قصص الرسل. وأحوال قومهم بالتفصيل، مع بعض الآيات والحكم القرآنية.
القرآن وعاقبة المكذبين في الدنيا والآخرة [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
693
المفردات:
المص: هذه حروف تكتب كأنها كلمة، وعند القراءة تقرأ هكذا: ألف.
لام. ميم. صاد، وهي كغيرها مما افتتح به، كسورة البقرة وآل عمران.
حَرَجٌ: ضيق وألم. وَذِكْرى: تذكر نافع وموعظة حسنة. كم:
كلمة وضعت للتكثير. قَرْيَةٍ: هي مكان اجتماع الناس، وقيل تطلق على الناس أنفسهم. بَياتاً: ليلا، والمراد الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرة.
بَأْسُنا: عذابنا وهلاكنا. قائِلُونَ: من القيلولة، وهي: استراحة وسط النهار، والمراد: نائمون في الظهيرة. دَعْواهُمْ: دعاؤهم وقولهم. فَلَنَقُصَّنَّ القص: تتبع الأثر بالعمل أو القول.
المعنى:
هكذا يبدأ الله- سبحانه وتعالى- السور التي فيها إثبات الوحدانية والبعث، والنبوة والوحى، بهذا البدء العجيب لمعنى، الله أعلم به، وهو سر بين الله ورسوله أشبه شيء بالشفرة في العصر الحديث.
هذا كتاب عظيم الشأن، جليل الخطر، أنزل إليك يا محمد من عند ربك، فيه ما فيه من الخير والهداية، لتبشر به وتنذر، ولكن ستلقى إيذاء وشدة، ومقاومة وطعنا، وإعراضا وصدّا، وتلك أمور يضيق لها الصدر، وتحتاج إلى أعلى نوع في الصبر، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكن في صدرك حرج من الإنذار به ومن تبليغه:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ وعليك بالصبر والمثابرة: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ والمراد بهذا النهى الاجتهاد: في مقاومة الشدائد، والتسلي عنها بوعد الله، والتأسى بالرسل أولى العزم السابقين.
كتاب أنزل إليك لتنذر به الناس أجمعين، وتذكر به القوم الذين قدر لهم أن يكونوا مؤمنين، تذكرهم ذكرى نافعة مؤثرة.
قل لهم يا أيها الرسول: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم، ومتولى شئونكم بالعناية والرعاية، فإنه لا ينزل عليكم إلا الخير والسداد، والهدى والرشاد، ولا تتبعوا
694
من دون الله أولياء من أنفسكم وشياطينكم، الذين يوسوسون لكم بكل ضرر وخطر وضلال في العقيدة، وبدع في الدين، ويوهمونكم أن الأصنام شفعاء لله وشركاء، وما هي إلا أحجار لا تضر ولا تنفع، إنكم قليلا ما تتذكرون الواجب عليكم نحو الله سبحانه وتعالى.
كثير من القرى التي أرسلنا إليها رسلنا مبشرين ومنذرين، فعصوا رسلهم وخالفوا أمرهم، أردنا إهلاكهم، فجاءهم بأسنا وهلاكنا وهم في الليل آمنون، أو هم قائلون في القيلولة، أتاهم العذاب على غرة منهم، وهم آمنون مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
فما كان دعاؤهم وقولهم حين جاءهم البأس والهلاك، إلا إقرارهم بالذنب وقولهم: إنا كنا ظالمين، ولكن هل ينفع الندم يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر آية ٥٢].
وفي هذه الآية عبرة وعظة لمن يعتبر.
عقاب الأفراد المذنبين قد يؤجله الله إلى أجل مسمى عنده، بمعنى أنه يمهل ولا يهمل حتى يكون انتقامه مرة واحدة، هذا إذا تمادى الشخص وأمعن في السوء والعصيان، وبالغ في الفسوق والخروج عن حدود الدين، والشخص قلما يعتبر بالحوادث وبما يصيبه من مصائب فيرعوى عن غيه ويدرك حقيقة نفسه، ويتوب إلى ربه.
وأما الأمم التي تفسد فعقابها سريع، وجزاؤها قريب ورادع، ولنا في عرش الملك السابق عبرة وعظة!! ولنا في العروش التي تلت والأمم التي أبيدت وأذلت أكبر شاهد ودليل.
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد ١١]. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء ١٦].
فاعتبروا يا أولى الأبصار، فإنما يتذكر أولوا الألباب!! إن ليوم القيامة مواقف تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، منها أن الله- سبحانه وتعالى- يسأل الذين أرسل إليهم الرسل ويقول لهم: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص ٦٥] ؟.
695
امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
؟. [سورة الأنعام آية ١٣٠] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الحجر الآيتان ٩٢ و ٩٣].
ومنها موقف لا يسأل فيه أحد عن ذنبه: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [سورة الرحمن آية ٣٩].
والله- سبحانه وتعالى- كما يسأل الناس يسأل الأنبياء والمرسلين: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ يسألهم عن تبليغهم الدعوة وعن إجابة أقوامهم لهم.
فلنقصن عليهم جميعا كل ما وقع وحصل للرسل منهم، وما حصل من الناس لهم، فلنقصن عليهم بعلم وإحاطة، إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة، وإن تكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
وما كان الحق- جل شأنه- غائبا في وقت من الأوقات، وفي هذا إشارة إلى أن السؤال لم يكن عن جهل أو خفاء، بل عن علم وبينة وحضور، ولكنه للتوبيخ والتأنيب.
والوزن الحق والقسطاس العدل يومئذ، يوم تعرف الحقائق وتكشف الستائر ويحصّل ما في الصدور، وتبرز الأعمال كالغرض للسهام، فمن ثقلت موازينه وكثرت حسناته عن سيئاته فأولئك هم أصحاب الجنة وأولئك هم المفلحون.
ومن خفت موازينه وكثرت سيئاته عن حسناته فأولئك هم أصحاب النار، الذين خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى وأحبوا العمى والكفر، عن الرشاد والخير.
والخلاصة: أن المؤمن وإن عصى يدخل الجنة بعد ما يأخذ عذابه على سيئاته، والكافر الذي كذب بالآيات والرسل مهما فعل مأواه جهنم وبئس القرار.
وهل هناك ميزان حقيقة؟ ورد بذلك آثار كثيرة، أو هذا كناية عن تمام العلم والعدل والإحاطة والقدرة.
والأولى عند الإخبار بالمغيبات أن نؤمن بها كما جاء الكتاب أو الحديث الصحيح، ثم نكل أمرها وشكلها إلى الله، والله أعلم بذلك كله، على أن العلم الحديث جعل موازين لكل شيء في الكون، أفيكون كثيرا أن يضع الله ميزانا للأعمال والنوايا؟ وهو القادر على كل شيء.
696
نعم الله على بنى آدم، وتكريمه [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠ الى ١٨]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
المفردات:
مَكَّنَّاكُمْ: من التمكين، أى: التمليك، وقيل: جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها، وتتمكنون من الإقامة بها. مَعايِشَ: جمع معيشة، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب. خَلَقْناكُمْ: أوجدنا أباكم بتقدير موافق للحكمة. فَاهْبِطْ الهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، وهو إما حسّىّ أو معنوي. أَنْ تَتَكَبَّرَ: أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه.
697
الصَّاغِرِينَ الصغار: الذلة والهوان. أَنْظِرْنِي: أمهلنى. فَبِما أَغْوَيْتَنِي: فبما أوقعتنى في الغواية وهي ضد الرشاد. مَذْؤُماً: معيبا أو مطرودا، من: ذأم الشيء: عابه. مَدْحُوراً: مطرودا مبعدا.
بعد أن أبان الله حقيقة الدين وكتابه، وأنه واجب الاتباع دون غيره من الأولياء والشركاء والأهواء، مع ذكر عقاب الدنيا والآخرة.
أردف ذلك بذكر نعم الله على بنى آدم الموجبة للشكر ترغيبا في الامتثال، وبيانا لمكانة الإنسان.
ذكرهم ربهم بنعمه العظيمة على آدم وذريته وهذه نعم أخرى تبين مكانتهم بالنسبة لغيرهم، وخاصة الملائكة، وهي موجبة لعبادة الله وشكره.
المعنى:
يقسم الله- سبحانه وتعالى- لقد مكن لكم في الأرض، وخلق لكم ما فيها جميعا، إذ جعل أمكنة تقرون عليها وتستقرون بها في الدنيا، وجعل فيها المعايش التي تقوم عليها حياتكم من نبات وزرع، وفاكهة وثمر، وماء وسمك وجواهر، وحيوان، بل كل ما في الأرض وما عليها مذلل لكم، وهذه المخترعات التي مكنت لكم في الأرض حتى تغلبتم على كل ما فيها، فلم يعد هناك حاجز من بحار وجبال وصحارى وسهول، بل طار الإنسان حتى كاد يصل إلى القمر والكواكب.
كل ذلك يقتضى الشكر، ولكن الشكر من العباد قليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ولذا اختتمت الآية بهذا المعنى.
وشكر النعم يكون بمعرفة الله معرفة تامة، وحمده، والثناء عليه بما هو أهله، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت له، بهذا يتحقق الخير، وتتحقق السعادة في الدارين.
ولقد خلقنا أباكم آدم من الصلصال والحمأ المسنون، أى: من الماء والطين اللازب، ثم جعلنا من تلك المادة بشرا مستويا على أتم صورة، وللعلماء آراء في تخريج الآية والأحسن كما قال القرطبي: إن آدم خلق من طين، ثم صور وأكرم بالسجود، وذريته صوروا في الأرحام بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء.
698
ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال وتكريم لآدم وذريته حتى يعرفوا نعم الله عليهم، فيقابلوها بالشكران وليقفوا على ما فعله إبليس قديما ليكونوا على حذر منه.
فسجدوا جميعا إلا إبليس اللعين أبى واستكبر، ولم يكن من الساجدين، وكان إبليس من الجن ففسق عن أمر ربه، وعلى ذلك قيل: إنه ليس من جنس الملائكة، وخوطب معهم لأنه مخالطهم، وقيل: هو من الملائكة، كما هو ظاهر الآيات.
ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ؟ وفي سورة (ص) آية ٧٥ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فدل هذا على أن (لا) في هذه الآية صلة (زائدة) للتأكيد، وقيل: المعنى ما حملك ودعاك إلى عدم السجود؟.
قال إبليس معتذرا متعللا: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين، والنار عند إبليس خير من الطين لعلوها وخفتها وصعودها ونورها.
والذي هو خير لا يسجد لمن هو أقل منه وإن خالف أمر ربه: هذا قياس إبليس، وهو أول قياس، لكنه باطل، إذ كيف يستدل على الخيرية بمواد الأشياء؟! الخيرية إنما تكون بالمعاني والخصائص لا بالجنس والمادة: إذ أصل المسك دم الغزال وأصل العسل براز النحل، وأصل الماس كربون، وكيف يجهل إبليس ما حبا الله آدم به من العلوم والمعارف وتكريم الله له؟! ويرى بعض العلماء أن هذه القصة تبين غرائز البشر، وطبائع الملائكة، وموقف الجن منا، ولم يكن سؤال هناك ولا جواب، ولكن هذا يخالف ظاهر الكتاب، على أن ذلك أمر غيبي يجب الإيمان به، وندع معرفة الحقيقة لله وحده، ولا نشغل أنفسنا بأمور لا تدخل تحت طاقتنا، وليس فيها جدوى.
قال تعالى: إذا كان الأمر كذلك فاهبط يا إبليس من الجنة، فهي مكان المخلصين المتواضعين، فما يكون لك، ولا ينبغي منك أن تتكبر فيها، إذ هي المعدة للكرامة والتعظيم لا للتكبر والعصيان.
فاخرج إنك من الصاغرين الذليلين المهانين،
وجاء في بعض الآثار: «إن الله تعالى
699
يحشر المتكبرين في أحقر الصور إذ يطؤهم الناس بأرجلهم، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو وفي أنفسهم».
قال إبليس: يا رب أمهلنى وذريتي إلى يوم يبعث آدم وذريته، فأشهد حياتهم وانقراضهم وبعثهم لأجد الفسحة الطويلة لإغوائهم، فأجابه الله إلى طلبه حيث قال:
إنك من المنظرين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق.
قال إبليس: فبسبب إغوائك إياى من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، فأصدّنّهم عنه وأقطعنّه عليهم، بأن أزين لهم طرقا أخرى كلها ضلال واعوجاج، ثم لأغوينهم ولآتينهم من الجهات الأربع مترصدا لهم كما يقعد قطاع الطريق للسابلة.
ولا تجد أكثرهم شاكرين وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... [سورة سبأ آية ٢٠] قال: اخرج من الجنة مذموما مهينا مطرودا مبعدا.
أقسم لمن يتبعك منهم ليكونن معك في جهنم: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص آية ٨٥].
قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
700
المفردات:
فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفى المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي:
وسوسة، والمراد هنا ما يجدونه من الخواطر التي تزين ما يضر. ما وُورِيَ: ما ستر وغطى. مِنْ سَوْآتِهِما السوءة: ما يسوء الإنسان ويؤلمه، فإذا قيل: سوأة الإنسان كان المراد عورته لأنه يسوؤه ظهورها. وَقاسَمَهُما: أقسم لهما بجد ونشاط. فَدَلَّاهُما: حطهما عن منزلتهما من الجنة. ذاقَا الشَّجَرَةَ: أكلا منها. وَطَفِقا: أخذا وشرعا. بِغُرُورٍ الغرور: الخداع بالباطل.
يَخْصِفانِ: يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة.
المعنى:
قال الله- سبحانه وتعالى-: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وهل هي المعدة للجزاء يوم القيامة أم غيرها؟ الله أعلم بذلك، وإن كان الظاهر أنها ليست دار الجزاء، لأنها ليست دار تكليف ولا عصيان، ولا يدخل فيها إبليس.
وخاطب آدم أولا لأنه الأصل في تلقى الوحى، وتعاطى الأمور، ثم خاطبهما معا لتساويهما في الأكل، فكلا منها أكلا رغدا، لا تعب فيه ولا مشقة، أكلا كثيرا هنيئا.
من أى مكان شئتما، ومن أى ثمر أردتما، ولا تقربا هذه الشجرة الخاصة (والله أعلم
701
بها) ولو كان في معرفتها خير لعرفها لنا، وانظر كيف يوسع الله على عباده في الحلال وفي الأكل ثم يحرم عليهم القليل الضار، اختبارا لهم وامتحانا.
فإنكما إن قربتما منها، وأكلتما من ثمرها تكونا من الظالمين لأنفسكما الخارجين عن حدود الله.
أما الشيطان إبليس العدو المبين فلم يترك آدم وزوجه يتمتعان بالنعيم، بل وسوس وزين لهما الأكل المحرم من الشجرة.
فوسوس لهما الشيطان ليكون عاقبة تلك أن يبدي لهما ما ورى عنهما وستر من عورتهما، وهل هذه كناية عن شهوتهما التي ظهرت فجأة بعد استتارها. أو هي العورة الحقيقية؟
فكان عمل إبليس عمل من يثير الغرائز، ويظهر الدفائن المكنونة في الإنسان من عوامل الفساد.
وقال إبليس: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، لكما من الخصائص ما للملائكة في القوة والبطش وطول الأجل، أو تكونا من الخالدين فيها.
ثم أقسم لهما قسما مغلظا: إنى لكما لمن الناصحين المخلصين، ثم بعد هذا ما زال يخدعهما بالترغيب، وبالوعد، وبالقسم، حتى نسيا موقفهما من الله وأمره إليهما، وأسقطهما عما كانا فيه من مكانة ومنزلة وطبيعة. وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه آية ١١٥].
فلما ذاقا الشجرة، وأكلا منها، بدت لهما عوراتهما، وكانت مستورة، وأحسا بالغريزة الجنسية.
ونادهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة؟ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فاحذروه، واجتنبوه: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [سورة طه آية ١١٧].
قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفتك وطاعة الشيطان عدونا وعدوك وإن لم تغفر لنا وتستر ذنبنا، لنكونن من الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية ٣٧].
702
قال: اهبطوا- والخطاب لآدم وحواء وإبليس- اهبطوا بعضكم لبعض عدو في الدنيا، ولكم فيها استقرار وسكون إلى أجل مسمى عند الله. ولكم فيها متاع إلى أجل محدود.
قال الله- سبحانه وتعالى- وحكم: في هذه الأرض تحيون وفيها تموتون. ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [سورة طه آية ٥٥].
الغرض من القصة: ذكر في الجزء الأول ص ٣٣.
من نعم الله وفضله علينا [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
المفردات:
رِيشاً ريش الطائر: ما ستره الله به، والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. لا يَفْتِنَنَّكُمُ الفتنة: الابتلاء والاختبار، من قولهم: فتن الصائغ الذهب أو الفضة في البوتقة ليعرف الجيد من الرديء. قَبِيلُهُ: جماعته كالقبيلة.
703
المعنى:
يا بنى آدم: تذكروا نعم الله عليكم وعلى أبيكم من قبل، وإياكم والمعاصي، وعليكم بتقواه في السر والعلن، فهو قد أنزل عليكم من السماء مطرا أنشأ منه نبات القطن والكتان، والصوف والوبر، وغير ذلك مما يتخذ لباسا للضرورة كستر العورة أو لباسا لستر البدن أو للزينة والتجمل، يا سبحان الله! دين الإسلام ودين الفطرة والطبيعة، لا يمنع من اتخاذ اللباس للزينة والتجمل إلا الحرير الذي يكسر قلوب الفقراء ويكون لبسه إرضاء للنفس وغرائزها.
ولباس التقوى ذلك خير وأجدى وهو لباس معنوي، لباس العمل الصالح والإيمان الخالص، ولا شك أنه خير من الرياش واللباس.
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وذلك اللباس من آيات قدرة الله ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم وهذه النعم تؤهل بنى آدم لتذكر ذلك الفضل، والقيام بما يجب عليهم من الشكر، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات.
يا بنى آدم: لا تغفلوا عن أنفسكم، ولا تتركوها غير محصنة بالتقوى، واجلوها بذكر الله دائما فإن القلب ليصدأ كما يصدأ الحديد، حتى تقوى النفس على مقاومة الشيطان وغروره، وتنجح في ابتلائه واختباره، واحذروه فإنه أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما.
احذروه إنه يراكم هو وجماعته وبنو جنسه وأنتم لا ترونه، ولا شك أن العدو المباغت الذي لا يرى أشد من العدو المبارز الظاهر.
والوقاية منه تكون بتقوية الروح والصلة بالله، وبمعالجة الوساوس بعد طروئها، والاستعاذة بالله منه.
احذروه لأن الله جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [سورة الحجر آية ٤٢] وهذا تحذير شديد.
704
شبهات المشركين وأعذارهم الواهية [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
المفردات:
فاحِشَةً: هي الفعلة المتناهية في القبح، والمراد بها طوافهم بالبيت عرايا، أو شركهم. بِالْقِسْطِ: بالعدل والتوسط. وُجُوهَكُمْ: جمع وجه، وهو العضو المعروف، أو هو كناية عن توجه القلب وصحة القصد.
المعنى:
هذا أثر من آثار ولاية الشيطان للذين لا يؤمنون.
وإذا فعلوا فعلة قبيحة ينكرها الشرع، ويأباها العقل والطبع السليم، كطوافهم عرايا بالبيت، قالوا معتذرين عن ذلك العمل: إنا وجدنا آباءنا هكذا يفعلون، وإنا على آثارهم مقتدون، وإن الله أمرنا بها.
عجبا لكم وأى عجب!! قل لهم: إن الله لا يأمر بالفحشاء أصلا، وإنما الذي
705
يأمركم بهذا هو الشيطان، ويدعوكم إليه: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [سورة البقرة آية ٢٦٨].
وكيف تعتذرون باتباعكم آباءكم؟ وهل آباؤكم حجة في التشريع؟ وهل عملوا بوحي من الله وإرشاد؟ أم كانت أعمالهم بوسوسة الشيطان وزخرفته؟!! أم أنتم تقولون على الله ما لا تعلمون؟
أما تشريع الله فلا يكون إلا بوحي منه إلى رسوله.
فإذا: هم فعلوا بوحي الشيطان فقط، وافتروا الكذب على الله.
قل لهم: أمر ربي بالقسط والعدل وعدم تجاوز الحد. ومن هنا كان الإسلام وسطا بين الإفراط والتفريط: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [سورة النحل آية ٩٠].
وأقيموا وجوهكم، وأحسنوا وجهتكم: وأخلصوا عملكم لله عند كل مسجد تدخلونه للصلاة، أو الذكر أو الطواف والمعنى: اجعلوا توجهكم وقصدكم لله فقط. وهذا يظهر في الوجه، إذ هو المرآة التي تطل منها الروح، وادعوه دعاء أو عبادة مخلصين له الدين.
واذكروا دائما أنكم كما بدأكم وخلقكم أول مرة ستعودون إليه يوم الجزاء والحساب وأنتم بين فريقين: فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإخلاص، وفريق حقت عليه كلمة العذاب، لاتباعه الشيطان وتركه القرآن، وكل فريق سيموت على ما عاش عليه، وسيبعث على ما مات عليه.
ولا غرابة في ضلال الفريق الثاني، لأنهم اتخذوا الشياطين قادة وأولياء من دون الله، وهم الأخسرون أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ومن خطل الرأى وضعف العقل أن ينغمس الشخص في الضلال، ثم لا يلبث بغروره وحماقته أن يدّعى أنه على حق وأنه في عداد المهديين.
706
توجيهات في الملبس والمطعم [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
المفردات:
زِينَتَكُمْ: والمراد هنا الثياب الحسنة، وأخذها: التزين بها. مَسْجِدٍ:
مكان السجود، والمراد به الصلاة أو نفس السجود.
سبب النزول:
كانت العرب تطوف ليلا بالبيت عراة إلا الخمس (وهم قريش وما ولدت) ويقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على فرجها وقالت:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
وكانت بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل ذلك، فنزلت الآيات.
المعنى:
يا بنى آدم خذوا زينتكم، والبسوا ثيابكم إذا صليتم أو طفتم، وأقل هذه الزينة ما به يستر المرء عورته، وهل العورة ما بين السرة والركبة، أو هي القبل والدبر؟ أقوال عند
707
الفقهاء منصوصة، وستر العورة واجب في الصلاة والطواف، وما بعد العورة فستره سنة لا واجب.
وعلى العموم فالزينة تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والعمل، وهذا الحكم من محاسن الدين الإسلامى التي بها نقل كثيرا من القبائل المتوحشة العريانة إلى حظيرة المدنية والحضارة، على أنه سبب في تقدم الصناعة والتجارة والزراعة.
وكلوا واشربوا ما لذ وطاب من أنواع المآكل والمشارب ولا تسرفوا، بل عليكم بالعدل والتوسط فلا تقتير ولا إسراف، والإسراف يشمل الزيادة في البخل، والزيادة في الإنفاق، وتجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب إن الله لا يحب المسرفين.
روى أحمد والنسائي وابن ماجة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»
، فالزينة لا بأس بها بشرط عدم الإسراف وعدم المخيلة.
والإسراف في الأكل والشرب إلى ما فوق الطاقة الجسمية ضرر، وإلى ما فوق الطاقة الاقتصادية خطر، وإلى ما فوق الحدود الشرعية حرام وهلاك.. قل لهم: من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده؟! فالله قد خلق موادها، وهدى إلى تعليمها وطرق صنعها، وغرز حب الزينة والتمتع بالطيب في نفوس البشر.
ألست معى في أن الدين الإسلامى يدعوا إلى الكمال الروحي، والسمو الخلقي، مع العناية بالجسم وبالنفس وما تميل إليه ما دام في حدود الحلال؟
لم يجعل التقشف ولا الزهد المبالغ فيه أساسا له، وها هو ذا القرآن ينكر على من يحرم على نفسه الزينة، ويقول: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولغيرهم من الناس وإن كانوا هم الأصل: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة البقرة آية ١٢٩] وفي الآخرة هي خالصة للذين آمنوا.
مثل هذا التفصيل الدقيق الكامل في مسائل تخص الأفراد والأمم في حياتهما الاجتماعية نفصل الآيات الدالة على كمال ديننا وصدق رسولنا وتمام شريعتنا ولكن لقوم يعلمون لا لقوم يجهلون.
708
ما حرّمه الله على عباده [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
المفردات:
الْفَواحِشَ: الأعمال المفرطة في القبح. وَالْإِثْمَ: اسم لجميع المعاصي.
الْبَغْيَ: الظلم وتجاوز الحقوق. أَجَلٌ: وقت مضروب الله أعلم به.
ساعَةً: أقل وقت يمكن فيه قضاء عمل من الأعمال.
المعنى:
لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك فقال الله: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرموا ما أحل الله من الطيبات والرزق واللباس: ما حرم ربي هذا!! وإنما حرم الفواحش، وما قبح جرمها كالزنا ما ظهر منه وما بطن، وإذاعة السوء، وخيانة الوطن، والخروج على الجماعة. وهكذا كل ذنب يكون خطره جسيما، وكذا حرم الإثم الذي يوجب الذنب، وحرم البغي وتجاوز الحقوق، وقيد البغي بغير الحق لأن التجاوز إذا كان لمصلحة ومع التراضي فلا شيء فيه.
وحرم الإشراك بالله غيره من صنم أو وثن لم ينزل به سلطانا وحجة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة المؤمنون آية ١١٧].
وحرم كذلك أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، أى: بغير علم ولا حجة، والقول على الله وعلى دينه يكون بتحليل حلال أو تحريم حرام، بلا سند ولا حجة، وهو القول
709
بالرأى، وهذا منشأ تحريف الأديان، واتباع الهوى والشيطان، كما فعل أهل الكتاب.
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ «١» بل علينا ألا نتخطى أصول الدين، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذه الأصول لم تترك شيئا.
بعد ما ذكر الله- سبحانه وتعالى- جماع المحرمات والمفاسد التي تقضى على المجتمع وتبيد الأمم ذكر هنا حال الأمم الممتثلة وغيرها.
فبين أن لكل أمة أجلا محدودا، ووقتا مضروبا يعلمه الله- سبحانه وتعالى- وتنتهي عنده كما أن لكل شيء في الوجود أجلا، كذلك فلكل أمة زمان معلوم تكون فيه سعيدة عزيزة، أو شقية ذليلة.
وعزة الأمم وسعادتها تكون بامتثال الشرع وذيوع الفضيلة، والتمسك بأهداب الدين والمثل العليا، ولها في ذلك أجل محدود.
وشقاء الأمم وذلها يكون ببعدها عن الفضيلة، وذيوع الرذيلة، وشيوع الغش والرشوة والفساد، والإسراف والظلم، والإثم والبغي، ولها في ذلك أجل محدود.
أما فناء الأمم وهلاكها بالإبادة لمخالفتها الشرع فانتهى ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «٢».
وقد جرت سنته- تعالى- بذلك مع جميع الأمم فنرى في أمم الغرب أمة قوية عزيزة لأنها تتمسك بالفضيلة والاعتدال وعدم الإسراف ولها أجل محدود ما دامت متمسكة بالحق، وبجانبها أمة ذليلة مهينة لأنها تتمسك بالرذيلة والإسراف.
والأمة الإسلامية أولى بالتمسك بالمثل العليا وعدم الإسراف ومجاوزة الحد في شيء، خاصة وأن دينها يأمرها بهذا.
والله- سبحانه وتعالى- إذا قضى على أمة بالفناء في ساعة فإنها لا تتقدم ولا تتأخر أصلا، فهذا تهديد ووعيد لمن يخالف الأمر، ويسير على غير هدى.
(١) سورة النحل آية ١١٦.
(٢) سورة الأنبياء آية ١٠٧.
710
مهمة الرسل وعاقبة العمل [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
المعنى:
يا بنى آدم إن تأتكم رسل منكم تعرفونهم، ويمكنكم الحكم على أعمالهم يقصون عليكم آياتي ويتابعونها آية بعد آية، مبشرين ومنذرين داعين إلى الفضيلة ناهين عن الرذيلة فاستجيبوا لهم، وهذه هي مهمة الرسل قديما وحديثا، فمن اتقى وأصلح نفسه بالعمل والنية الصادقة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا ورفضوا كبرا وعنادا واستكبارا عن الحق وعتوا كما فعل زعماء قريش، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
عاقبة الكذب على الله مع ذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
711
المفردات:
ادَّارَكُوا: تلاحقوا، وادّارك بعضهم بعضا: اجتمعوا. ضِعْفاً: هو المثل الزائد على مثله مرة أو مرات.
المعنى:
لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، واختلق زورا وبهتانا بأن حرم حلالا أو حلل حراما، أو نسب إليه ولدا أو شريكا، أو كذب بآياته، واستكبر عنها واستهزأ بها، أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب المكتوب، والقدر المقدور في الرزق والعمر والمتاع والحظ في الدنيا، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت متوفين لهم، قابضين لأرواحهم. قالوا لهم تأنيبا وتوبيخا: أين ما كنتم تدعونهم من دون الله من الشركاء والشفعاء؟ قالوا:
ضلوا عنا وغابوا، ولا ندري مكانهم، ولا نرى أثرهم، فنحن لا نرجو منهم خيرا ولا نفعا، وشهدوا على أنفسهم، واعترفوا عليها بأنهم كانوا بعبادتهم ودعائهم لهم كافرين.
وهذا تحذير للكافرين الموجودين من عواقب الكفر والضلال.
ويقول الله- تعالى- يوم القيامة لأولئك الظالمين المكذبين بآيات الله وهم كفار العرب: ادخلوا مع أمم قد سبقتكم في الكفر وفي دخول النار، وهم أولياؤكم من الجن والإنس.
كلما دخلت جماعة ورأت ما حل بها من الخزي والنكال لعنت أختها في الدين
712
والملة إذ هي قد ضلت باتباعها، والاقتداء بكفرها حتى إذا تداركوا في النار جميعا واجتمعوا، قالت أخراهم في الدخول- وهم الأتباع والسفلة- لأولاهم، أى: في شأنهم وحقهم وهم السادة والزعماء قالوا مخاطبين الله: ربنا هؤلاء- أى السادة- أضلونا وأثروا علينا فآتهم ضعفنا من عذاب النار لإضلالهم لنا، زيادة على عذاب ضلالهم في أنفسهم.
قال الله لهم: لكل منكم ضعف من العذاب- بإضلاله- فوق العذاب على ضلاله ولكنكم لا تعلمون عذابهم.
وقالت أولاهم لأخراهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا من أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا، فيقول الله لهم: ذوقوا جميعا العذاب كاملا بما كنتم تكسبون.
جزاء الكافرين [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
المفردات:
الْجَمَلُ: البعير الذي طلع نابه. سَمِّ الْخِياطِ: ثقب الإبرة.
الْمُجْرِمِينَ أجرم: قطع الثمرة من الشجر، ثم استعمل في كل إفساد.
مِهادٌ: فراش. غَواشٍ: جمع غاشية، وهي ما يغشى الشيء، أى: يغطيه كاللحاف.
المعنى:
إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والبعث، وعلى صدق الرسول مع بيانها للأحكام ولأصول الدين، إن الذين كذبوا بها واستكبروا عنها لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ولا تصعد إليها أعمالهم، فإنها هباء منثور لا خير فيه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ولا يدخلون الجنة أبدا فهم مطرودون من رحمة الله، ومثل ذلك الجزاء يجزى به كل من أجرم في حق الله وفي حق نفسه، وفي حق إخوانه من المسلمين.
لهؤلاء من نار جهنم فراش يفترشونه، ولحاف يلتحفون به، فهم- والعياذ بالله- بين طبقات جهنم ماكثون، وهي محيطة بهم، والله محيط بأعمالهم، وبئس المصير مصيرهم، لا غرابة في ذلك فكذلك نجزى الظالمين.
جزاء المؤمنين [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
المفردات:
وُسْعَها: طاقتها وما تقدر عليه حال السعة والسهولة. نَزَعْنا: قلعنا.
غِلٍّ: حقد وحسد. أُورِثْتُمُوها: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى صاحبه.
714
المعنى:
هذا وعد ربك للمؤمنين بالجنة بعد ما أوعد الكافرين بنار جهنم، وهكذا نظام القرآن: وعد ووعيد ليتميز الحق من الباطل والمؤمن من الكافر.
والذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا العمل الصالح الذي ارتضاه ربهم لهم، أولئك الموصوفون بما ذكر من معاني الكمال والصدق، المشار إليهم، المتميزون لعلو درجتهم، هم أصحاب الجنة الملازمون لها، وهم فيها خالدون، وقد جاء قوله تعالى:
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بين العمل وجزائه على سبيل الاعتراض، للإشارة إلى أن هذا العمل الصالح الذي يستحق صاحبه دخول الجنة ليس شاقا ولا فوق طاقة البشر، بل هو عمل سهل في متناول اليد متى حل في قلب الإنسان نور الإيمان وهدى القرآن.
هم في الجنة خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يكدرهم كدر، ولا يؤلمهم ألم، وليس بينهم شر، لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وعداوة، وغل وحقد.
وهكذا نعيم الجنة: أكلها دائم وظلها كذلك، وفيها الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها تفيض بالماء وهم في غرفاتهم آمنون، فيزدادون حبورا وسرورا.
وقالوا شاكرين نعمه: الحمد لله الذي هدانا لهذا العمل حتى أخذنا ذلك الثواب، وما كان من شأننا ولا من مقتضى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله ووفقنا لاتباع الرسل.
وقالوا لما رأوا كل شيء يجرى على حسب ما أخبر به الرسل: لقد جاءت الرسل بالحق وصدقنا الله وعده في الدنيا، وهذه الملائكة تناديهم: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، فهذه هي الجنة التي أورثتموها وصارت لكم كما يصير الميراث لأصحابه، جزاء أعمالكم.
وفي الآية دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله،
وفي الحديث: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته»
والمخرج من هذا أن عمل الإنسان مهما كان لا يستحق به ذلك النعيم الواسع العريض لولا رحمة الله وفضله، ومن ثم قيل
في الحديث: «فسددوا وقاربوا»
أى: لا تبالغوا. والله أعلم.
715
حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
المفردات:
فَأَذَّنَ الأذان والتأذين: رفع الصوت بالإعلام. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعن: الطرد من الرحمة مع الإهانة. عِوَجاً: ذات عوج، أى: غير مستقيمة ولا مستوية.
حِجابٌ: سور بين الجنة والنار. الْأَعْرافِ: جمع عرف، مأخوذة من (عرف الديك والفرس) ويطلق على أعلى الشيء وكل مرتفع. بِسِيماهُمْ السيما والسيمياء: العلامة. صُرِفَتْ: حولت.
المعنى:
هذا فريق في الجنة وهذا فريق في النار، وقد حصل بينهما حوار حكاه القرآن إظهارا للحق، وإعلانا عن خطر الكفر والإيمان وبيانا لعاقبة كل.
وما نراه الآن من مخترعات يغنينا عن الكلام في كيفية سماع الكلام ورؤية الأشخاص مع البعد في المكان، فالله على كل شيء قدير.
ونادى أصحاب الجنة قائلين: يا أصحاب النار يا أهل الكفر والفسوق والعصيان والضلال والبهتان، إن الحال والشأن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، وصدق الله وعده. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العذاب والألم؟ هل وجدتموه حقا؟ قالوا: نعم وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر، فهذه هي النار تتميز غيظا وتقول: هل من مزيد؟
فأذّن مؤذن بينهم بحيث سمع صوته أصحاب النار وأصحاب الجنة، أذن قائلا: ألا لعنة الله على الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم بعد الإيمان، وهم الذين يصدون عن سبيل الله بغيا وعدوانا، ويطلبونها معوجة غير مستقيمة، حتى ينفر الناس منها، ويبتعدون عنها وهم بالآخرة كافرون.
وبين أهل الجنة وأهل النار سور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار، ويعرفون كلا بعلامته:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس الآيات ٣٨- ٤٢] هؤلاء الذين على الأعراف رجال موحدون قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم.
ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة: أن سلام عليكم طبتم فنعم أجر العاملين، وهم لم يدخلوا الجنة ولكنهم يطمعون فيها فهم بين الخوف والرجاء.
وإذا صرفت أعين أصحاب الأعراف من النظر إلى أهل الجنة إلى النظر إلى أهل النار من غير قصد قالوا: ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين!
حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
المعنى:
ذلك منظر آخر فيه سؤال وتوبيخ وتأنيب للكفار المغرورين بما أوتوا في الدنيا.
ونادى بعض أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة، وعلاماتهم التي كانوا عليها في الدنيا، وقالوا لهم: أى شيء أغناه عنكم جمعكم للمال، واستكباركم على المستضعفين والفقراء من المسلمين، لم يمنع عنكم عقابا، ولا أفادكم شيئا من ثواب، وقالوا لهم، مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين المضطهدين في الدنيا كصهيب وبلال وآل ياسر:
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته أبدا إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم فلو كانوا على خير لأعطاهم؟! أشاروا لهم وهم يتمتعون في الجنة والكفار يتلظون في السعير.
وقيل لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون بعد هذا، وهذا حوار له مغزى عميق، وهذه الآية تشير إلى أن كل إنسان يستحق جزاء عمله بالضبط لا زيادة ولا نقصان فالسابق ليس كالمقصر ولا كالمتوسط، ولذا رأينا أصحاب الجنة وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف كل له مكان.
من مناظر يوم القيامة [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
المفردات:
أَفِيضُوا عَلَيْنا أفاض الماء: صبه، ثم استعمل في الشيء الكثير، وقيل: أعطاه غيضا من فيض، أى: قليلا من كثير.
روى أن أهل النار لما رأوا دخول أهل الأعراف الجنة طمعوا في الفرج عنهم
وروى أنهم يستغيثون بأقاربهم من أهل الجنة فيقول الواحد منهم: يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين.
وقد طلبوا هذا الطلب مع يقينهم بأنهم لا يجابون أبدا، للإشارة إلى الحاجة القصوى للماء والشراب، وهكذا يفعل المضطر المحتاج.
وهؤلاء الكفار قد حرم الله عليهم نعيم الجنة ورزقها، كما حرم عليهم دخولها، لأنهم اتخذوا دينهم الذي ساروا عليه في الدنيا أعمالا لا تزكى نفسا، بل تدنسها، فهم بين عمل لهو يشغل الإنسان عن العمل النافع، وبين عمل لعب لا يفيد فائدة صحيحة كلعب الأطفال، وقد غرتهم الحياة الدنيا، وشغلتهم بزخارفها عن الآخرة، أما أهل الجنة فقد شغلوا أنفسهم بالعمل النافع المجدي الذي يزكى النفوس ويطهرها، أولئك سعوا لها سعيا، وكان سعيهم مشكورا.
فاليوم نعامل هؤلاء الكفار معاملة من ينساهم، ولا يجيب دعاءهم، والمراد يتركهم في العذاب وينساهم فيه، وذلك لأنهم نسوا لقاءنا ولم يعملوا له، وكانوا بآياتنا يجحدون، ولها منكرين.
الكفار وما يلاقونه وأمانيهم [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
719
المفردات:
بِكِتابٍ: المراد القرآن. فَصَّلْناهُ: بيناه أتم بيان. تَأْوِيلَهُ: ما يئول إليه أمره، أى: عاقبته.
المعنى:
تالله لقد جئنا أهل مكة بكتاب لا يحتاج إلى تعريف ولا بيان. هو الكامل في كل شيء، ذلك الكتاب فصلنا آياته تفصيلا بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ.
ألم يوضح القرآن أصول الدين وأسس الأحكام؟ ألم يرسم الخطوط العريضة للأمة الإسلامية في جميع النواحي: سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية!! ألم يحث على النظر ويذم التقليد؟! فهو بحق الكتاب الكامل الذي فصله رب العالمين على علم ومعرفة بأسرار الكون والخلق وطبائعهم، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون، أما غيرهم فلا ينتفعون منه بشيء.
هل ينظر هؤلاء الكفار إلى عاقبة أمره، وما يئول إليه من صدق وعده ووعيده وظهور آياته، روى عن ابن الربيع أنه قال: لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية ٥٣].
أما هؤلاء الكفار الذين نسوه ولم يهتدوا بهديه، فيقولون يوم القيامة عند ما يظهر صدقه وصدق كل ما جاء به: نعم قد جاءت رسل ربنا بالحق وصدقوا في كل ما قالوا وهم يتمنون أحد أمرين: إما شفاعة الشافعين، وإما أن يردوا إلى الدنيا فيعملوا غير ما كانوا يعملون، نعم يتمنون الخلاص ولات حين مناص!! وهل لهم شفعاء كما كانوا يفهمون؟ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء الآيتان ١٠٠ و ١٠١]
720
هؤلاء قد خسروا أنفسهم، حيث اشتروا الضلالة بالهدى، والدنيا بالآخرة، وأى خسارة أفدح من هذا؟ هؤلاء قد خسروا كل شيء وضل عنهم ما كانوا يفترون وتختلقون كذبا من الشركاء والشفعاء!!
وحدانية الله ودعاؤه [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
المفردات:
رَبَّكُمُ الرب: السيد المالك والمربى. الله: علم على الذات الأقدس، والإله هو المعبود الذي منه النفع والضر، ويتقرب إليه بالعبادة والدعاء، وليس للموحدين إله إلا الله. أَيَّامٍ: جمع يوم، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها. اسْتَوى: في اللغة بمعنى استقر. ومنه: استوى على الكرسي، وعلى ظهر الدابة، أى: استقر واستوى بمعنى قصد، واستوى بمعنى استولى وظهر.
الْعَرْشِ قال الجوهري: هو سرير الملك: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها والعرش: سقف البيت، وهودج المرأة، وقيل: العرش: الملك والسلطان، ومنه:
ثلّ عرشه إذا ذهب ملكه. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ: يجعل الليل كالغشاء، أى:
يذهب نور النهار. حَثِيثاً الحث والحض بمعنى واحد: وهو الإعجال والسرعة،
721
والمعنى: يطلبه من غير فتور. تَضَرُّعاً التضرع: التذلل وإظهار الخضوع.
خُفْيَةً الخفية: ضد العلانية. خَوْفاً: هو توقع الشر والمكروه.
طَمَعاً: هو توقع الخير.
المعنى:
إن ربكم ومالك أمركم، ومتولى شئونكم هو الله لا إله إلا هو فاعبدوه وحده واستعينوا به وحده، فهو الذي خلق السموات وعوالمها، وقدرها وأحكم نظامها، وخلق الأرض وجعل فيها رواسى من فوقها، وبارك فيها وقدر أقواتها، كل ذلك في ستة أيام الله أعلم بمقدارها وحدودها: إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «١» ولو أراد خلقها في لحظة لخلقها إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٢» ولكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور، وأن خلق السموات والأرض ليس بالشيء الهين: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «٣».
وما ورد من أن هذه الأيام الستة هي كأيام الدنيا، وأنه بدئ الخلق يوم الأحد فروايات الله أعلم بها، وأنها إسرائيليات إن ربكم أيها الناس جميعا الله، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ودبر أمورها وحده، فيجب عليكم أن تعبدوه وحده.
ثم إنه تعالى قد استوى على عرشه، واستقام أمره واستقر على هيئة الله أعلم بها مع البعد عن مشابهة الحوادث في شيء، ولقد سئل مالك- رضى الله عنه- في ذلك فقال: الاستواء معلوم، أى: في اللغة، والكيف- أى: كيفية الاستواء- مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وهذا القدر كاف، وهذا رأى الصحابة- رضى الله عنهم- ورأى السلف: قبول ما جاء من غير تكيف ولا تشبيه، وترك معرفة حقيقتها إلى الله، وأما الخلف فيؤولون ويقولون: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه، على معنى أنه يدبر أمره، ويصرف نظامه، على حسب تقديره وحكمته إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «٤». وإلى رأى السلف أميل، إذ هو رأى الصحابة والتابعين جميعا.
(١) سورة الحج آية ٤٧.
(٢) سورة يس آية ٨٢.
(٣) سورة غافر آية ٥٧.
(٤) سورة يونس آية ٣.
722
والله- سبحانه- جعل الليل يغشى النهار بظلمته. ويستره بلباسه حتى يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة، فالليل للسكون، والنهار للمعاش، والليل يطلب النهار دائما من غير فتور مع الإعجال والسرعة.
وخلق الشمس والقمر والنجوم التي لا يعلمها إلا الله حالة كونها مسخرات ومذللات بأمره، كلّ يدور في فلكه إلى أجل مسمى عنده، ألا له الخلق، أى:
المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها فلا دخل لهذه الكواكب في شيء. وله الأمر والنهى والتصريف والتدبير، ليس لأحد دخل في شيء، سبحانه وتعالى عما يصفون، وتبارك الله رب العالمين.
ادعوا ربكم الذي تعهدكم وأنعم عليكم نعمه التي لا تحصى، وبخاصة ما مضى في الآية السابقة، ادعوه متضرعين، مبتهلين مخلصين، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه مخفين الدعاء متسترين، فالإخفاء حسن مندوب إن لم يكن واجبا، إذا هو أبعد عن الرياء والسمعة، وأنت لا تدعو غائبا أو ناسيا، فالله أقرب إلينا من جبل الوريد، وهو السميع البصير، على أن الله مدح العبد الصالح زكريا فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «١» وقد كان دعاء الصحابة وعملهم في الخفاء، إنه لا يحب المعتدين المتجاوزين الحدود المرسومة، خاصة في الدعاء، فمن رفع صوته للرياء أو بالغ في الصيغة، أو طلب غير المشروع. كل هذا تجاوز في حدود الدعاء يجب ألا يكون. أما دعاء غير الله فشرك.
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بما خلق فيها، وما هداكم إلى الانتفاع بها وتسخيرها.
والإفساد في الأرض شامل لإفساد النفوس بالقتل والاعتداء، وإفساد المال بالسرقة والنصب، وإفساد الدين بالكفر والمعاصي، وإفساد العقل بالمسكرات.
ادعوه خائفين من عقابه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وادعوه طامعين في ثوابه، مؤملين في جزائه، إن رحمة الله قريب من المحسنين:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «٢».
(١) سورة مريم آية ٣.
(٢) سورة النجم آية ٣١.
723
من أدلة البعث [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
المفردات:
الرِّياحَ: جميع ريح، ولها أسماء عند العرب، وإذا جمعت كانت في معنى الخير، وإذا أفردت كانت في معنى الشر، كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. بُشْراً: مبشرات. أَقَلَّتْ: حملت.
الْبَلَدُ: الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء. الثَّمَراتِ: واحده ثمرة:
وهي الحمل تخرجه الشجرة. نَكِداً: لا خير فيه. نُصَرِّفُ: نغير ونبدل.
المعنى:
هذا أثر من آثار رحمة الله بالخلق، ودليل على قدرته على البعث.
إن ربكم هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته بقدوم المطر رحمة من الله بالخلق، حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء سقناه إلى بلد ميت فأخرجنا به ثمرات مختلفة في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها. مثل هذا الإخراج وإيجاد أنواع النبات والثمار من الأرض الميتة بعد نزول المطر، نخرج الموتى ونبعثهم، فالله قادر على كل
شيء، يخرج الحي من الميت والميت من الحي، فانتبهوا رجاء أن تتذكروا وتتعظوا، فتؤمنوا بالبعث والحياة الآخرة.
ومع هذا فهناك من ينكر البعث بعد ظهور أمارته، ولا غرابة في ذلك، فالناس في الفهم والإدراك كالأرض، منها طيبة ظاهرة المعدن تخرج نباتا حسنا، ومنها خبيثة التربة كالأرض السبخة أو الحجرية لا تخرج نباتا حسنا، بل نباتها لا خير فيه، مثل ذلك التصريف البديع، يصرف الله الآيات لقوم يشكرون.
قصة نوح عليه السلام [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
المفردات:
عَذابَ يَوْمٍ المراد به يوم القيامة. الْمَلَأُ: أشراف القوم ورؤساؤهم، لأنهم يملؤون العيون بهجة ورواء. ضَلالٍ الضلالة والضلال: العدول عن طريق الحق والذهاب عنه.
725
وَأَنْصَحُ: أرشد إلى المصلحة مع حسن النية. ذِكْرٌ أى: وعظ من ربكم.
الْفُلْكِ السفينة. عَمِينَ: واحده عم، وهو ذو العمى. قيل: المراد عمى البصيرة، وقيل: هو عام.
أنهى الله- سبحانه وتعالى- في الآيات السابقة الكلام عن مظاهر القدرة والوحدانية، ثم ختم الكلام بذكر البعث وأنه كالخلق الأول.
ثم قفى على ذلك بذكر قصص الأنبياء السابقين، وكيف لاقوا من أممهم العنت والتكذيب، وكيف آل أمر هذه الأمم، وفي هذا عبرة وعظة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتسلية للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود آية ١٢٠] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سورة يوسف آية ١١١].
المعنى:
أقسم الله- سبحانه وتعالى- لأهل مكة بأنه أرسل نوحا إلى قومه، ونوح هو النبي الأول الذي أرسل إلى قومه كما
ثبت في حديث الشفاعة، فقال: يا قومي ويا أهلى وعشيرتي: اعبدوا الله ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم على أتم صورة وأكمل نظام، هو الذي خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه- سبحانه وتعالى- هو المعبود بحق، لا إله إلا هو، ما لكم من إله غيره، تدعونه وتتضرعون إليه، آمركم بهذا لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقعه، شديد هوله.
قال الملأ من قومه- وهكذا أشراف الأمم ورؤساؤهم، دائما أعداء للهداة والمرشدين- قالوا: إنا لنراك في غمرة من الضلال، أحاطت بك، إذ كيف تنهانا عن عبادة آلهتنا: ود، سواع، يغوث، يعوق، ونسر، إن هذا لضلال بين ظاهر!! قال نوع مجيبا لهم: يا قوم ليس بي ضلالة، وليس بي خروج عن الحق والرشاد إذ أمرتكم بتوحيد الله، وعبادته وحده دون الآلهة، ولكني رسول من رب العالمين أهديكم إلى سبيل الرشاد، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، أبلغكم
726
رسالات ربي من التوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وما فيه من جنة ونار، وثواب وعقاب، وأبلغكم الأحكام العامة، من عبادات ومعاملات..
وأنصح لكم وأحذركم عقاب الله، وأذكركم به.
وأعلم من الله ما لا تعلمون، فوعظى لم يكن عن جهل، وأنذركم عاقبة الشرك، كل ذلك عن علم.. أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم، على لسان رجل منكم؟ وذلك أنهم يتعجبون من نبوة نوح- عليه السلام- ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وكيف يكون الرسول بشرا! ولو شاء ربك لأنزل ملائكة؟ ومهمتى لكم أنى أحذركم عاقبة الكفر وأنذركم بين يدي عذاب شديد، لينذركم، ولتتقوا عذاب يوم عظيم.
أما هؤلاء الكفار فقد كذبوه وأصروا على تكذيبه وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون، ولم يؤمن معه إلا قليل، وكان عاقبتهم أنه نجى نوحا والذين آمنوا معه برحمة منه، فركبوا في السفينة ونجوا من الغرق.
وأغرق الذين كذبوا بآيات الله، وكفروا بها، ولا غرابة في ذلك فهم قوم عمون عن الهدى والرشاد، قد طمس الله على قلوبهم وختم عليها.
فإياكم يا أمة الدعوة أن تكونوا مثلهم، حذار ثم حذرا أن تسيروا على منوالهم، وفي سورة هود تفصيل أوسع لهذه القصة.
قصة هود عليه السلام [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
727
المفردات:
أَخاهُمْ المراد: واحد من أشرافهم، كما قالوا: يا أخا العرب. فِي سَفاهَةٍ السفاهة: خفة حلم وسخافة عقل. خُلَفاءَ المراد: خلفتموهم في الأرض. آلاءَ واحدها: إلى، وهي النعمة. رِجْسٌ
: عذاب، من الارتجاس: وهو الاضطراب. وَقَعَ عَلَيْكُمْ: حق عليكم ووجب.
غَضَبٌ: انتقام. أَتُجادِلُونَنِي المجادلة: المماراة والمخاصمة. دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا: آخرهم، والمراد استئصالهم جميعا.
عاد: قبيلة كبيرة كانت تسكن الأحقاف: (الرمل) فيما بين عمان إلى حضر موت باليمن وكانت لهم أصنام يعبدونها، وكانوا ذوى قوة وشدة، قالوا مَنْ
728
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
؟ وقد بعث الله إليهم هودا، وكان من أوسطهم نسبا، وأشرفهم حسبا، وقد دعاهم إلى عبادة الله، فكفروا وعصوا وأفسدوا في الأرض، فأمسك الله عنهم القطر، وأرسل إليهم ريحا فيها عذاب أليم. تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف آية ٢٥].
المعنى:
وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وهو واحد من أنفسهم! ليفهموه، ويفهم منهم، ويعرفوا شمائله وأخلاقه، فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه.
ماذا قال لهم؟ قال: يا قوم اعبدوا الله وحده، لا تعبدوا غيره، فما لكم من إله غيره، أعميتم فلا تتقون ربكم؟ وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي، ولعله قال في مرة أخرى: أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ كما في سورة هود.
وماذا قالوا له؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه خاصة: إنا لنراك في سفاهة وحماقة، خفة وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، مهما كان ذلك الدين، عجبا لهم!! حيث جعلوا السفاهة ظرفا له للإشارة إلى تمكنه فيها، كما قال قوم نوح: إنا لنراك في ضلال مبين، وقالوا له: إنا لنظنك ونعلم أنك واحد من الكاذبين الذين يكذبون على الله!! ماذا أجابهم هود؟ قال: يا قومي ويا أهلى، ليس بي سفاهة ولا حماقة، حيث دعوتكم إلى دين التوحيد الخالص، والعبادة الصادقة، ولكني رسول من رب العالمين، قد اختارني الله لأداء هذه المهمة واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ١٢٤] وفي إجابته- عليه السلام- لهم، حيث نفى عن نفسه السفاهة فقط ولم ينسبها لهم- مع أنهم أضل الناس، وأسفه الناس، بل وأحقر الناس- أدب حسن، وخلق عظيم، صنعه الله على عينه، ليكون مثلا أعلى يحتذيه عباده الصالحون، يا قوم أنا رسول رب العالمين، مهمتى أبلغكم رسالات ربي، في التكاليف وأمور الدين، وأنا لكم ناصح أمين كما عرفتموني من قبل، ما كذبتكم في شيء فكيف أكذب على الله؟
729
أكذبتم وعجبتم لأن جاءكم ذكر من ربكم ووعظ على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه؟! واذكروا فضل الله عليكم ونعمه، إذ جعلكم ورثة نوح، وزادكم بسطة في أجسامكم، وقوة في أبدانكم-
روى أنهم كانوا طوالا أقوياء- اذكروا هذا واتقوا الله واحذروا أن يقع عليكم العذاب، مثل ما وقع على قوم نوح فأهلكهم.
فاذكروا نعمة الله واشكروه واعبدوه وحده، واهجروا الأوثان والأصنام لعلكم تفلحون.
ماذا ردوا عليه؟ قالوا: أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد آباؤنا؟
إن هذا لشيء عجاب!! فجئنا بما تعدنا من العذاب- فنحن مستعجلون- إن كنت من الصادقين في دعواك، وهذا منتهى الغرور، فأجابهم هود بقوله:
قد قضى عليكم ربكم بعذاب شديد، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تنزع الناس وترميهم صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «١».
عجبا لكم!! أتخاصمونني في أشماء لا مسميات لها ولا حقائق، وضعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا حجة لكم فيها ولا برهان، وتتركون عبادة الرحيم الرحمن؟
وإذا سرتم على هذا المنوال ولم تغيروا طريقكم فانتظروا عذابا من الله شديدا إنى معكم من المنتظرين، وقد نزل بهم كما مر، ونجاه الله والذين معه برحمة منه، واستأصل الكافرين وقطع دابرهم: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ.
(١) سورة القمر آية ٢٠.
730
قصة صالح مع قومه عليه السلام [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٩]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
731
المفردات:
ثَمُودَ: قبيلة من العرب كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى قرب تبوك وهم من ولد سام بن نوح، وصالح نبيهم، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ: أنزلكم فيها وجعل لكم فيها منازل.
وَتَنْحِتُونَ النحت: النحر في الشيء الصلب. وَلا تَعْثَوْا العثى والعثو:
الفساد. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ: نحروها بالذبح، وأصل العقر: الجرح. وَعَتَوْا:
تمردوا واستكبروا، ومنه نخلة عاتية إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها.
الرَّجْفَةُ: المرة من الرجف، وهو الحركة والاضطراب. جاثِمِينَ جثم الناس: قعدوا لا حراك بهم، والمراد أنهم جثث هامدة ميتة لا حراك بها.
كانت قبيلة ثمود من قبائل العرب البائدة، وقد كانوا خلفاء لقوم عاد بعد أن أهلكهم الله، فورثوا أرضهم وديارهم. وآتاهم الله نعما كثيرة، وأرسل إليهم صالحا نبيا فيهم يهديهم إلى الصراط السوى، ولكنهم عصوا وتكبروا وكفروا وطالبوا صالحا بآية، فبعث الله إليهم ناقة تصديقا له، ولكنهم عقروها وعتوا عن أمر ربهم، فقال لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، بعدها نزل عذاب الله ووعده، ونجى الله صالحا والذين آمنوا معه، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا أثرا بعد عين، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وتلك عقبى الظالمين ومآل الفاسقين.
المعنى:
ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، وجعلكم خلفاء لعاد فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي قريب مجيب.
يا قوم قد جاءتكم حجة من ربكم وآية منه دالة على صدقى، وكأنهم قالوا له ما هذه البينة؟ فقال: هذه ناقة الله لكم آية، وإنما أضاف الناقة إلى الله تعظيما لشأنها وتكريما، ولأنها جاءت من عنده مكونة من غير فحل وناقة، بل من صخرة صلبة، والله على كل شيء قدير، هذه الناقة آية لكم يا بنى ثمود خاصة، لأنكم المشاهدون لها
732
وحدكم، هذه الناقة من الله، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تحولوا بينها وبين ما تطلب، ولا تتعرضوا لها بسوء، وكانت هذه الناقة تشرب جميع مياههم، ثم تحيلها لبنا لهم: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [سورة الشعراء آية ١٥٥].
ثم ذكرهم بنعم الله التي توجب الشكر والعبادة لله وحده، وبخاصة بعد ما قامت الحجج على صدق رسالته فقال: واذكروا نعم الله عليكم إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد، في الحضارة والعمران، وأورثكم أرضهم، وأنزلكم منازلهم تجعلون بدل سهولها قصورا زاهية. ودورا عالية، بما ألهمكم من صناعة اللّبن والآجر (الطوب الأخضر والأحمر) وتنحتون من الجبال بيوتا، فقد علمكم صناعة النحت وآتاكم القوة والصبر.
روى أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء، والسهول في باقى الفصول، فاذكروا هذه النعم الجليلة، واشكروا الله واعبدوه حق العبادة، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
قال الملأ الذين استكبروا من قومه، وكفروا بالله ورسوله، قالوا للمستضعفين الذين آمنوا منهم: أتعلمون أن صالحا مرسل من عند ربه؟ وهكذا جرت سنة الله مع أنبيائه، يتبعهم الضعفاء، ويكفر بهم الرؤساء.
قال المستضعفون المؤمنون: نعلم أنه مرسل من عند ربنا علما لا يحتاج إلى بيان، وإنا بما أرسل به مؤمنون ومصدقون.
قال الذين استكبروا: إنا بما آمنتم به كافرون، ولم يقولوا: إنا بما أرسل به صالح كافرون، خوفا من أن يقروا له بالرسالة ولو ظاهرا.
أما أفعالهم الدالة على الكفر: فقد عقروا الناقة: نعم أجمعوا أمرهم ونادوا صاحبهم، فتعاطى هذا الفعل الشنيع، فعقر الناقة، وصاحبهم هذا هو قدار بن سالف، أشقى القبيلة، وإنما نسب العقر إليهم جميعا لأنهم بين راض عن هذا الفعل، وبين آمر به.
فعقروا الناقة وتمردوا واستكبروا عن امتثال أمر ربهم الذي أمرهم به على لسان نبيه صالح، من قوله: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الأعراف ٧٣].
وقالوا يا صالح: ائتنا بما تعدنا به من العذاب، إن كنت رسولا من عند الله،
733
وتدعى أن وعيدك تبليغ عنه، وأن الله ناصرك على أعدائه، إن كان هذا صحيحا فعجل ذلك لنا!! فأخذتهم الرجفة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ كما في سورة هود فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ كما في سورة السجدة، والمراد أنه نزلت بهم صيحة شديدة القوة، ارتجفت لها الأفئدة واضطربت من حولها الأرض، وتصدع ما فيها من بنيان: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فأصبحوا في دارهم جثثا هامدة لا حراك بها، وسقطوا صرعى الصاعقة.
قال لهم صالح- بعد أن جرى ما جرى-: لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولم أدخر وسعا في ذلك، ولكنكم لا تحبون الناصحين، فحقت عليكم كلمة العذاب.
ونداؤه لهم بعد الموت، كنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم لقتلى بدر بعد أن دفنوا في القليب:
«هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟».
قصة لوط عليه السلام [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
734
المفردات:
لوط: هو ابن أخى إبراهيم عليه السلام. وكان يسكن قرب البحر الميت بشرق الأردن في قرية من قرى خمس اسمها (سدوم) كانت تعمل الخبائث التي حكاها القرآن. لَتَأْتُونَ الرِّجالَ: مأخوذ من قولهم: أتى الرجل المرأة: إذا غشيها. مِنَ الْغابِرِينَ أى: الباقين في عذاب الله، يقال: غبر الشيء: إذا مضى، وغبر: إذا بقي.
المعنى:
واذكر لوطا حين قال لقومه بعد أن دعاهم إلى عبادة الله: أتأتون الفعلة التي بلغت الغاية في الفحش والقبح، هذه الفعلة ما عملها قبلكم أحد من الناس فأنتم قادة لغيركم في هذا الجرم الشنيع، إنكم لتأتون الرجال لقصد الشهوة فقط وسفح الماء، فقد نزلتم عن مستوى الحيوان، فإن ذكره يأتى أنثاه بقصد الشهوة وبقاء النسل، أما أنتم فقد أعماكم الضلال وأصبح لا غرض لكم إلا إرضاء شهواتكم، وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم شديد!! وفي قوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ إشارة إلى أنهم تركوهن وهن محل الشهوة عند الفطر السليمة.
بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحد عادون، قد تجاوزتم حدود العقل والطبع السليم والصحة والأدب.
وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وذلك النصح شيئا من الحجج المقنعة، أو رجوعا عن ذلك الغي، أو اعتذارا يخفف حدة الغضب، لم يكن شيء من هذا، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم الظالم أهلها، وقالوا لهم مفتخرين متعللين على سبيل السخرية والتهكم: إنهم أناس يتطهرون.
وكان من نبأ لوط أن أرسل الله إليه ملائكة الرحمة به، ورسل العذاب إلى قومه، استجابة لدعائه عليهم، بعد أن ضاق صدره وعيل صبره. وقالت الملائكة يا لوط: إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك ودفع العدوان عنك، فأصبح لوط وقد كشف الله عنه الغمة وأنجاه الله وأهله المؤمنين معه إلا امرأته، فإنها كانت موالية للكفار، فكانت من الباقين في عذاب الله.
735
خرج لوط وأهله وفارق تلك القرية، حتى إذا صار بعيدا عنها جاءها أمر الله وزلزلت الأرض زلزالها، فصار عاليها سافلها. وأمطر عليهم نوعا من المطر عظيما يقال: هو حجارة من سجيل.
فانظر كيف كان عاقبة المجرمين، في حق أنفسهم وفي حق مجتمعهم، وفي حق ربهم؟ وهذا هو العقاب الطبيعي للترف والفسق الذي يفسد الخلق، ويبيد الأمم، وهذه سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا.
عقاب هذه الفعلة:
قال الإمام مالك- رضى الله عنه-: يرجم، أحصن أو لم يحصن، وكذلك يرجم المفعول به إن كان بالغا، وروى عنه أيضا: يرجم إن كان محصنا «متزوجا» ويحبس ويؤدب إن كان لم يتزوج، وعند أبى حنيفة: يعزّر وعند الشافعى: يحد حد الزنا قياسا عليه، إلى آخر ما هو مذكور في كتاب القرطبي عند تفسير هذه الآية.
قصة شعيب عليه السلام [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)
736
المفردات:
مَدْيَنَ: قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان من أطراف الشام، وكانوا يكفرون بالله، وقد عبدوا الأيكة من دونه، وكانوا يبخسون الناس أشياءهم، في الكيل والوزن، وقد بعث الله فيهم شعيبا. وَلا تَبْخَسُوا بخسه حقه: نقصه.
تُوعِدُونَ: تخوفون الناس. تَبْغُونَها عِوَجاً: تطلبون اعوجاجها.
فَكَثَّرَكُمْ: بارك الله فيكم.
المعنى:
ولقد أرسلنا إلى قبيلة مدين شعيبا نبيا فيهم، وهو من أشرفهم، فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، ما لكم من إله غيره، هو الذي خلقكم وخلق كل شيء لكم. قد جاءتكم بينة من ربكم، وآية دالة على صدقى.
فأوفوا الكيل إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تنقصوا الناس شيئا من حقوقهم، في بيع أو شراء أو حق مادى أو معنوي، وقد أمرهم شعيب بالوفاء في الكيل والوزن، ونهاهم عن نقص الناس شيئا من حقوقهم بعد الأمر بعبادة الله مباشرة وذلك لأن هذه الخصلة كانت فاشية فيهم، كما فشا في قوم لوط الفاحشة، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس وأخذوا حقهم يستوفون، وإذا كالوهم وباعوا إليهم شيئا ينقصون ويبخسون، وهذا مرض نفسي وداء إذا تفشى في أمة قضى عليها وأزال ملكها وعزها.
737
وقال شعيب: يا قوم لا تفسدوا في الأرض بأى نوع من أنواع الفساد، كالظلم والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وارتكاب الإثم والفواحش، وإفساد المجتمع بشيوع الانحلال الخلقي.
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وقد أصلحها، وقد أصلحها الله بما فطر الناس على حب الخير، وبما أودع فيهم من الميل إلى الرشاد، وبما أرسل فيهم من الرسل والهداة والمرشدين.
فعليكم ألا تفسدوا فيها بالبغي والعدوان على الأنفس والمال والعقول والأعراض.
ذلكم الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم في الدنيا والآخرة، وهو مجلبة للسعادة في الدارين إن كنتم مؤمنين حقا بي وبرسالتي، وهكذا العلم وحده لا ينفع في قمع النفس وردها عن الشر بل لا بد معه من إيمان قلبي وتصديق روحي خالص، ومخالفة للنفس والهوى. وقال شعيب لهم: لا تقعدوا يا قوم في الطرقات تنهون الناس عن الإيمان وتخوفونهم عاقبته، وتعدونهم بالشر إن آمنوا- وقد كانت قريش تفعل ذلك، كما ورد في حديث ابن عباس- ولا تصدوا عن سبيل الله من آمن به من الناس.
ولا تطلبوا اعوجاجا لسبيل الله ودينه، بما تصفون وبما تكذبون وبما تشوهون الحقائق، وتفترون على الله الكذب.
واذكروا نعم الله عليكم وقت أن كنتم قلة في المال والرجال والسطوة فبارك فيكم، وزاد مالكم ونما، وكثر عددكم وربا، مع الجاه والقوة، وانظروا نظرة عبرة وعظة كيف كان عاقبة المفسدين الظالمين من قوم عاد وثمود وقوم لوط.
وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وصدقوا، وكانت هناك طائفة لم يؤمنوا، وهذا شأن الناس قديما وحديثا.
إن كان هذا فاصبروا أيها المؤمنون حتى يحكم الله ويقضى بيننا، وهو الحكم العدل، وقد حكم بنصرة عباده المؤمنين وهلاك الظالمين المفسدين، وهو خير الحاكمين.
738
شعيب عليه السلام وقومه [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
المفردات:
افْتَحْ: احكم، والفاتح: الحاكم على المبالغة.
المعنى:
أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده، والوفاء بالكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، فما كان من أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان بالله ورسله وعاثوا في الأرض الفساد، إلا أن قالوا: تالله لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من بلادنا حتى تسكن الفتنة، وتهدأ الثورة التي أثرتموها باتخاذكم دينا غير دين الآباء والأجداد.
ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجكم من القرية، وإما عودتكم في ملتنا، ودخولكم في زمرتنا وجماعتنا.
قال شعيب: عجبا لكم!! إذ تأمروننا أن نعود في ملتكم، أنعود ولو كنا كارهين؟! إنكم تجهلون موقفنا، وتأثير العقيدة في نفوسنا، فطلبتم منا هذا الطلب..
رد شعيب عليهم في الأمر الثاني المهم فقال: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم ملة الكفر والضلال، إذ الكافر يختلق على الله الكذب حيث يدعى أن له شريكا وولدا بل المرتد أعظم جرما، وأكثر كذبا حيث يوهم غيره أنه رجع بعد معرفة الحقيقة والواقع.
أنعود إلى ديانتكم بعد أن نجانا الله منها؟ إن هذا لشيء عجيب!! ما أعظم كذبنا وكفرنا إن عدنا فيها بعد أن نجى الله أصحابى منها وأنا معهم، وما ينبغي أن نعود فيها أبدا، ولا يقدر أحد على تحويلنا إليها في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة ربنا إذ هو المتصرف في أمرنا، وهذا رفض أبلغ.
والله واسع العلم كثير الفضل، أعلم بخلقه، لا يشاء إلا الخير لهم، هذا اعتقادهم في الله، على أنهم قوم مؤمنون حقا لا يهمهم تهديد ولا يخوفهم وعيد، ويقولون: على الله وحده توكلنا، وإليه أنبنا وما عداه فشيء لا يعبأ به أبدا، وهذا رفض آخر بالدليل.
ثم دعا عليهم لما يئس منهم فقال: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، بل وبين كل محق ومبطل، وأنت خير الحاكمين عدلا وإحاطة ونزاهة، سبحانك أنت الحكم العدل..
مآل الكافرين [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٥]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)
740
المفردات:
الرَّجْفَةُ: الحركة والاضطراب، والمراد: الزلزلة والعذاب. يَغْنَوْا غنى بالمكان: أقام به. آسى الأسى: الحزن الشديد. قَرْيَةٍ: مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة. بِالْبَأْساءِ: الشدة والمشقة من حرب أو فقر أو غيره.
الضَّرَّاءِ: ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته. يَضَّرَّعُونَ: يظهرون الضراعة والخضوع. عَفَوْا: كثروا ونموا، من قولهم: عفا النبات: إذا كثر.
المعنى:
وقال الملأ الذين كفروا- وهم عيون مدين وأشرافهم- قالوا للمستضعفين المؤمنين: تالله لئن اتبعتم شعيبا وآمنتم به إنكم إذا لخاسرون شرفكم حيث تركتم دين آبائكم إلى دين لم تعرفوه ولم تألفوه، وخاسرون دنياكم حيث تركتم ما به ينمو مالكم ويزيد من التطفيف في الكيل، وأكل أموال الناس.
ولقد كان وصفهم بالاستكبار أولا لمناسبة التهديد بالإخراج من الديار، ووصفهم هنا بالكفر يناسب الضلال والصد عن سبيل الله، أما جزاؤهم فأخذتهم الرجفة وعمتهم الصيحة، وزلزلوا زلزالا شديدا، حتى أصبحوا جثثا هامدة، جاثمين في مكانهم لا حراك بهم.
وكان قوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا بمعنى أنهم حرموا من ديارهم، وأخرجوا من أوطانهم كأن لم يقيموا فيها: ردّا عليهم في قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك.
741
وكان قوله تعالى: الذين كذبوا هم الخاسرون على سبيل الحصر ردّا عليهم في قولهم:
لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ «١» وحقا الكافرون هم الذين خسروا في الدنيا والآخرة دون سواهم.
وأما شعيب فقد تولى عنهم وأعرض قائلا: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي، وبلغتكم ما فيه صلاحكم في المعاش والمعاد، ونصحت لكم، ومن بشر وأنذر فقد أعذر، ومن أعذر فكيف يحزن على قوم عصوه ولم يؤمنوا؟ وكانوا كافرين!! وما أرسلنا في قرية من القرى ولا مدينة من المدن، ما أرسلنا فيها رسولا ثم كذب أهلها وعصوا إلا أخذناهم بالشدة والمكروه وأصابتهم سنين عجاف، لعلهم بهذا يتضرعون، ويلتجئون إلى ربهم وهكذا سنة الله في الخلق، ولن تجد لسنة الله تبديلا، يرسل الشدائد لعلها ترجع الإنسان إلى ربه، وترده عن غيه، ولكن كثيرا من الناس لا تردعهم الروادع، فهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «٢».
ثم أعطيناهم بدل الشدة سعة، ومكان الفقر والضيق غنى وفضلا، حتى عفوا وكثروا في المال والعدد، فالله- سبحانه- يريهم الحالتين ويمكن لهم في الجهتين لعلهم يعتبرون، ولكن العصاة يقولون: هؤلاء آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء، وحل بهم الضيق والفرج والعسر واليسر. وما نحن إلا مثلهم، وهذا قول من لم يعتبر ويتعظ بأحداث الزمن، أليس ما هم فيه ابتلاء واستدراجا؟ ألم يعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ وهم مع ذلك قد أعرضوا ونأوا، واستكبروا وبغوا فكان جزاؤهم ما يأتى:
فأخذناهم بغتة وحل بهم العذاب فجأة، وهم في غيهم سادرون، وفي عمايتهم لاهون فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «٣».
فاعتبروا يا أولى الأبصار، واتعظوا بما حل بغيركم فتلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا!!!
(١) سورة الأعراف آية ٩٠.
(٢) سورة الأنعام آية ٤٣.
(٣) سورة الأنعام آية ٤٤.
742
من سنة الله مع الأمم [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٦ الى ١٠٢]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
المفردات:
لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ: لسهلنا عليهم. بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ: المراد خيرى السماء والأرض المعنوي والمادي كالعلوم والمطر والنبات. ضُحًى: وقت ارتفاع الشمس وامتلاء الكون بالضوء. أَوَلَمْ يَهْدِ: أو لم يبين. عَهْدٍ:
743
العهد: الوصية، وقد يكون بين طرفين كالمعاهدة أو طرف واحد. بأن يعهد إليك بشيء، أو تلتزم به، والميثاق: العهد المؤكد.
المعنى:
هكذا نظام الله في الكون، وتلك سنته مع الخلق قديما وحديثا فاعتبروا واتعظوا أيها الناس خاصة أنتم يا زعماء الشرك من العرب، ولو أن أهل القرى التي كذبت رسلها، ولم تؤمن بربها. لو أنهم بدل الكفر آمنوا ومكان العصيان اتقوا لفتح الله عليهم أنواع الخير من السماء والأرض كالعلوم والهداية والوحى والإلهام، وكذا المطر والسحاب وسهل عليهم خير الأرض من نبات ومعادن، وخصب وكنوز. والمعنى: أنهم لو آمنوا ليسر الله لهم كل خير من كل جانب.
ولكن كذبوا وكفروا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر بما كانوا يكسبون... فعلوا ما فعلوا فأخذهم الله بغتة، وعلى غرة منهم، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا، وينزل بهم عذابنا وهم بائتون ونائمون؟!! أو أمن أهل القرى أن يأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون، فإن من يأتى من الأعمال ما لا فائدة فيه فهو لاعب ولاه!!!
والمعنى:
إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر.
أفأمنوا مكر الله؟ وقد كرر الاستفهام الإنكارى لزيادة التوبيخ، وهو معطوف على قوله: أفأمن أهل القرى، ولذا كان بالفاء، ومكر الله عبارة عن جزائه، وأخذه العبد إذا طغى من حيث لا يشعر مع استدراجه والإملاء له، فعلى العاقل ألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه في الجنة، ومعنى الآية: أيأخذهم ربك بغتة في الليل أو الضحى فأمنوا مكر الله؟! إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
أجهل هؤلاء الناس (خاصة قريشا) الذين يرثون الأرض من بعد أهلها- بعد هذا البيان الكامل- أن سنة الله في الخلق لا تتغير؟ أكان ما ذكر ولم يتبين لهم أن شأننا معهم
744
كشأننا مع من سبقهم؟! فلو نشاء أصبناهم بذنوبهم، وعذبناهم على أعمالهم، كما أصبنا أمثالهم من قبل بغتة وهم لا يشعرون.
ونحن نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع قبول وتدبر وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يونس آية ١٠١].
تلك القرى التي مر عليك ذكرها نقص عليك بعض أنبائها وأخبارها، مما فيه عبرة وعظة وتسلية، ولقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات، والمعجزات الخارقات ولكنهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل مجيء المعجزات، أى: في بدء الدعوة، فهم قد ظلوا على حالهم، ولم تنفعهم الآيات الدالة على صدق الرسل.
مثل ذلك الطبع الذي طبعه الله على قلوب الكافرين من تلك الأمم يطبع الله على قلوب الكافرين من أمة الدعوة، إن هذا الجمود والعناد الذي تراه عند كفار مكة قد سبقوا بمثله عند الأمم السابقة، فلا تأس عليهم، ولا تحزن على كفرهم.
وما وجدنا لأكثرهم عهدا وفوا به، سواء كان عهد فطرة أو عهد شرع أو عرف، وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد، وفي التعبير (بأكثرهم) إيماء إلى أن البعض قد آمن ووفى بعهده.
قصة موسى عليه السلام [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١١٦]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
745
المفردات:
مُوسى: هو موسى بن عمران نبي بنى إسرائيل. فِرْعَوْنَ: لقب كل ملك لمصر في العهد القديم، وقيل: كان اسمه منفتاح. حَقِيقٌ: جدير وخليق.
تَأْمُرُونَ: تشيرون علىّ، من قولهم: مرني بكذا، أى: أشر على به. أَرْجِهْ وفي قراءة أرجئ بمعنى: أخر ولا تفصل في شأنه. حاشِرِينَ جامعين لك السحرة.
أفردت قصة موسى- عليه السلام- عن قصص الأنبياء السابقين، لأن قصصهم جميعا طبع على غرار واحد إذ كلهم أرسل لأمته وقد كذبته وحل بها العذاب، وأما موسى فقد أرسل لغير قومه، وكانت معجزته ظاهرة واضحة، وآمن به أكثر قومه، وشريعته أقرب الشرائع لشريعة محمد- عليه الصلاة والسلام- لاشتمالها على أمور دينية
746
ودنيوية وأسس أمة لها حضارة ونظام، ولذا تراها ذكرت مفصلة وكررت في القرآن وذكر اسمه أكثر من مائة مرة.
المعنى:
ثم بعثنا بعد هؤلاء الرسل موسى بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقه ورسالته، بعثناه إلى فرعون وملئه فظلموا بها وكفروا، ولا شك أن الظلم والكفر من واد واحد إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١» على أنهم ظلموا بها أنفسهم، وظلموا غيرهم بما صدوا عنها وآذوا في سبيلها.. وإنما ذكر أن موسى بعث إلى فرعون وملئه دون قومه لأنه أرسل لإنقاذ بنى إسرائيل من فرعون وكيده، والذين استعبدهم هو فرعون وأشرافه وبطانته، أما الشعب فكانوا مستعبدين كذلك على أن فرعون وملأه لو آمنوا لآمن الشعب كله.
فانظر كيف كان عاقبة المفسدين؟ هذه جملة القصة وخلاصتها والعبرة منها، مع إفادة التنبيه والتفات إلى القصة، وهاك التفصيل:
وقال موسى: يا فرعون إنى رسول من رب العالمين، الذي بيده كل شيء، وأنا حقيق بأنى لا أقول على الله إلا الحق، وكيف يكون غير ذلك؟ وأنا رسول رب العالمين، فتراه بإيجاز أثبت الرسالة له من قبل المولى- جل شأنه- وأنه معصوم من الكذب وقد أيد بالمعجزات، وقد جئتكم يا قوم ببينة وحجة من ربكم، لا من وضعي أنا بل من الله- سبحانه- الواحد الأحد رب السماء والأرض ورب فرعون وهامان، فهذا فرعون مخلوق ضعيف لا رب معبود.
وإذا كان الأمر كذلك فأرسل معنا يا فرعون بنى إسرائيل، ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى.
قال فرعون: إن كنت جئت بآية- كما تدعى- فأت بها إن كنت من الصادقين في دعواك، فأجابه موسى بالفعل لا بالقول.
فألقى موسى عصاه، فإذا هي ثعبان ظاهر حقيقى يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان وأخرج يده من جيب قميصه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض، تتلألأ لكل من ينظر إليها.
(١) سورة لقمان آية ١٣.
747
وهناك ذكرت روايات في كتب التفسير حول الثعبان والعصا، واليد، والله أعلم.
إنها إسرائيليات مدسوسة من خيال وهب بن منبه وكتب الأحبار وأمثالهم.
وماذا حصل بعد هذا وما قالوا؟
قال الملأ من قوم فرعون، وهم أشراف القوم وبطانة الملك: إن هذا لساحر عليم بفنون السحر وضروبه، وقد وجه همه لسلب ملككم، وإخراجكم من أرضكم، ونزع الملك من أيديكم بطرق سحرية قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [سورة يونس آية ٧٨].
قال فرعون لهم: فماذا تأمرون؟ وبأى شيء تشيرون؟
قالوا: أخر الفصل في أمره وأمر أخيه، وأرسل في المدائن جندك وعيونك، جامعين لك السحرة، وسائقيهم إليك، حتى يأتوك بكل ساحر عليم فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه ٥٨- ٦٠].
وجاء السحرة من كل حدب وصوب وقالوا لفرعون: أئن لنا لأجرا كاملا يكافئ ما نقوم به من عمل عظيم يتم به الغلب على موسى وسحره؟
وقال فرعون: نعم لكم أجركم كما تطلبون، وإنكم لمن المقربين إلى مجلسنا، فيكون السحرة جمعوا بين المركزين المالى والأدبى.
ولما اجتمعوا قال السحرة- في اليوم الموعود لموسى-: إما أن تلقى بسحرك، وإما أن نكون نحن الملقين، وهذا كلام الواثق من نفسه.
قال موسى: ألقوا ما أنتم ملقون قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة يونس آية ٨١].
فلما ألقوا سحروا أعين الناس من النظارة، واسترهبوهم وملئوا قلوبهم خوفا وجاءوا بسحر عظيم في الظاهر.
سحروا أعين الناس بخفة الأيدى والحركة السريعة، أو باستخدام الزئبق في العصى أو البخور المؤثر على العيون.
ومن تعبير القرآن بقوله: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ. وقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ
748
سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى
أن السحر له تأثير على خيال الشخص فقط ولا تأثير له على حقيقة الأشياء، ومن هنا كان الفرق بين السحر والمعجزة، إذ إن المعجزة تظهر على يد مدعى النبوة، والسحر على يد رجل فاسق، والسحر كان يعلم عند قدماء المصريين، وله ضروب وأنواع شتى، على أنه خيال، والمعجزة لها حقيقة واقعة، وتأتى بلا تعليم.
السحرة مع موسى وفرعون [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٧ الى ١٢٦]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
المفردات:
تَلْقَفُ لقف الشيء وتلقفه: تناوله بحذق وسرعة. ما يَأْفِكُونَ الإفك في الأصل: قلب الشيء عن وجهه الأصلى، ولذا قيل للكذاب: أفاك لقلبه الكلام عن وجهه، وكل أمر صرف عن وجهه فهو مأفوك، فالإفك يكون في القول بالكذب ويكون في العمل بالسحر. انْقَلَبُوا: عادوا. لَمَكْرٌ المكر: صرف الغير
749
عما يقصده بحيلة. مِنْ خِلافٍ المراد: يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس. تَنْقِمُ: تكره. أَفْرِغْ عَلَيْنا: صب علينا صبا يغمرنا.
المعنى:
أوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك فكانت ثعبانا ظاهرا، وكان على أثر ذلك أن دعا فرعون السحرة، وأوحى إليه مرة ثانية أن ألق عصاك لما حضر السحرة وسحروا أعين الناس فألقاها فإذا هي تأتى على فعل السحرة فتبطله، وتلقف ما يأفكون، قال ابن عباس: فجعلت العصا لا تمر بشيء من حبالهم وعصيهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء وليس بسحر فخرّوا ساجدين.
وقيل المعنى: تبطل سحرهم، وتبين حقيقته للناس وتبطل عمله المصروف من وجهة الحق إلى الباطل.
ولما كان هذا شأنهم، وقد عرف السحرة حقيقتها، وأنها ليست كالسحر الذي يعرفونه ظهر الحق وثبت أن موسى رسول وليس ساحرا، وبطل ما كانوا يعملون.
فغلب موسى فرعون وجموعه المجموعة في اليوم المشهود بأمر الله وقوته، وانقلبوا صاغرين أذلة، يجرون ثياب الخزي والعار، وخر السحرة ساجدين كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم، إذ الحق بهرهم والنور دفعهم فلم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا، وقالوا:
آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، سبحانه وتعالى عما يصفون!! ولما ظهر الحق وزهق الباطل، وألقى السحرة ساجدين مؤمنين وفي هذا خطر شديد على فرعون وملئه، قال فرعون: أآمنتم بموسى قبل أن آذن لكم؟ إن هذا العمل الذي عملتموه وهو أن تتظاهروا أولا بالعداوة، والاعتداد بالسحر، وإرادة الغلبة لموسى مع إصراركم على أنكم ستنحازون إليه بعد التجربة، إن هذا لمكر، وأى مكر كهذا، دبرتم العمل بالمدينة وأحكمتم الرواية فيها ثم أمامنا وأمام الشعب مثلتموها، وما دفعكم إلى هذا إلا حبكم في أن تخرجوا من البلد أهلها ثم تستقلوا بها مع بنى إسرائيل إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ «١» فسوف تعلمون ما أنا فاعل بكم.
(١) سورة طه آية ٧١. [.....]
750
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف كل يد مع رجل تنكيلا بكم وتعذيبا، ثم لأصلبنكم على الخشب جميعا حتى تموتوا، وتكونوا عبرة وعظة لغيركم.
ولكنهم ردوا رد المؤمن الواثق قائلين: لا ضير علينا في هذا إن الأمر لله والمرجع إليه مهما طال العمر أو قصر، وإن الجسد فان، وإنا إلى ربنا منقلبون حتما، وما تفعلون بنا إلا تعجيل اللقاء المحتوم.
وما تكرهون منا؟ إنكم لا تكرهون منا إلا إيماننا بالله ورسوله لما جاءتنا البينات.
وظهرت أمامنا المعجزات، ونحن أدرى بمعرفة السحر وأثره، وقالوا: ربنا صب علينا صبرا يفيض كالماء، وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم، وتوفنا مسلمين، فإنك أنت العزيز الحكيم.
ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
751
المفردات:
وَيَذَرَكَ: يتركك. نَسْتَحْيِي: نبقيهم أحياء.
المعنى:
ولما كان أمر السحرة ومن تبعهم من الناس حينما انضموا إلى موسى وآمنوا به على مشهد من الجموع المحتشدة، لما كان هذا يقض مضاجع فرعون وملئه قالوا لفرعون:
أتذر موسى وقومه أحرارا في الأرض يدعون لدينهم، ويكثر سوادهم ويتركك موسى مع آلهتك فلا يعبدونك ولا يعبدونها وفي هذا فساد للأرض، وذهاب للملك؟!! قال فرعون: سنقتل أبناءهم، ونستبقى نساءهم أحياء فلا يكثرون كما كنا نفعل قبل ولادة موسى ليعلموا أنا على هذا قادرون، وأنا فوقهم قاهرون وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ «١».
ولما سمع بنو إسرائيل خافوا فطمأنهم موسى وقال: استعينوا بالله وحده فهو القادر على كل شيء، واصبروا فالصبر سلاح المؤمن، واعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، واعلموا أن العاقبة للمتقين، والنصر للمؤمنين فليس كما يظن فرعون وقومه.
ولكن هذه الوصية لم تهدئ من روعهم فقالوا والأسى يحز في نفوسهم: أوذينا من قبل مجيئك، ومن بعد إرسالك، فقد كنا نسأم الخسف، ونذوق المر، وتقتل أولادنا ويسوموننا سوء العذاب، وها أنت ذا ترى اليوم ما نحن فيه!! قال موسى لهم: رجائي من الله- والله محققه إذا شاء- أن يهلك عدوكم ويجعلكم خلفاء في الأرض وسادة، وينظر كيف تعملون؟؟!
(١) سورة غافر آية ٢٦.
752
جزاء العصاة في الدنيا [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٣]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
المفردات:
بِالسِّنِينَ: جمع سنة، وهي بمعنى الحول، إلا أنه كثر استعمالها في السنة المجدبة كما هنا. الْحَسَنَةُ: المراد: الخصب والنماء. سَيِّئَةٌ المراد بها:
ما يسوءهم من جدب وقحط، أو ما يصيبهم في البدن أو المال. يَطَّيَّرُوا:
يتطايروا ويتشاءموا، ولعل السر في إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تعقد الأمل في الخير على الطائر إذا طار يمينا وتتوقع الشر إذا طار جهة اليسار.
طائِرُهُمْ: المراد: ما قضى لهم وقدر. الطُّوفانَ: ما يطوف بالإنسان ويغشاه، وغلب في طوفان الماء. الْجَرادَ: حيوان طائر يأكل النبات.
الْقُمَّلَ: هو السوس الذي يظهر في القمح. وقيل هو الدود الذي يأكل الزرع.
753
المعنى:
أقسم الله- سبحانه وتعالى- إظهارا لكمال العناية بمضمون المقسم عليه لما له من الأثر في تربية النفوس، أقسم أنه أخذ آل فرعون بالقحط والجدب والسنين العجاف، وقد شاع استعمال القرآن كلمة (أخذ) في العذاب والشدة وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [سورة هود آية ١٠٢].
ولقد أخذناهم بهذا كله لعلهم يتذكرون ويتعظون، وذلك أن من سنته تعالى أن يرسل الزواجر من المصائب والآفات والنقص في الثمرات تنبيهات لعل أصحابها ترجع وتثوب، فإن ثابت واهتدت كان الخير، إلا فالهلاك المحتوم، والقضاء المعلوم، وقد كان آل فرعون من النوع الأخير ومثلهم كل شخص أو أمة لم تنتبه للزواجر، ولم تتعظ بالحوادث في كل زمان إلى يوم القيامة.
فإذا جاءت أمة فرعون الحسنة من الخير والنماء، والزيادة في الثمرات قالوا: إنما أوتينا هذا على علم ومعرفة، وهذا لنا نستحقه بعملنا، وإن أصابتهم سيئة الجدب وقلة الثمر وهلاك الزرع تشاءموا واطّيّروا بموسى ومن معه يا سبحان الله!! أهكذا يكون ضيق العقل وفساد الرأى وعدم التوفيق؟ فهم يقولون عند حلول المصائب بهم: ما هذا إلا بشؤم موسى وقومه، وغفلوا عن سيئات أعمالهم، وشرور أنفسهم إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة النساء آية ٧٨].
ألا إن كل ما يصيبهم من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، والله قد قضى أن يكون الخير ابتلاء أيشكر صاحبه أم يكفر؟ وقضى أن يكون الشر ابتلاء كذلك هل يرجع صاحبه عن الغي والفساد أم يظل سادرا في الطغيان والضلال؟!! والله قد قضى كذلك أن تكون أعمال العباد سببا فيما ينزل بهم من خير وشر غالبا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحكمة الإلهية في تصريف الكون، ولا يعلمون كيف ربطت الأسباب بمسبباتها، وأن كل شيء عنده بمقدار، فليس هناك شيء بشؤم موسى أو غيره، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون.
ومع ذلك كله فقد قالوا: مهما تأتنا به من آية تستدل بها على صدقك وأنك محق في
754
دعوتك- وسموا ما يأتى به موسى آية كما يقول فقط لا عن اعتقاد- مهما تأتنا به من الآيات لتسحرنا بها وتصرفنا عما نحن فيه بلطف ورقة فما نحن لك بمصدقين أبدا، هذا ما كان منهم.
أما جزاؤهم عليه فقد أرسل الله عليهم الطوفان والسيل فأغرقهم، وأتلف زراعتهم كما ورد في التوراة وأرسل عليهم الجراد الذي يأكل ما اخضر من ثمارهم وزرعهم، وأرسل عليهم القمل وهي صغار الذر (كالدودة) التي تأتي عندنا اليوم فتأكل البرسيم وباقى الزرع في لحظة وأرسل عليهم الضفادع وجعل ماءهم كالدم.
كل ذلك آيات مفصلات واضحات، لا تخفى على عاقل أنها من عند الله وأنها عبرة ونقمة لهم، وهذه آيات دالة على صدق موسى إذ قد توعدهم بوقوعها على وجه التفصيل لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل التآويل، وهذا معنى آياتٍ مُفَصَّلاتٍ.
أما هم فاستكبروا وعاندوا ولم يعتبروا بعد هذا كله، وكانوا قوما مجرمين.
وهذه الآيات تشير أولا إلى ربط الأسباب بالمسببات على حسب مشيئته تعالى.
وثانيا إلى أن الآفات التي تصيب الزرع فتهلكه والثمر فتنقصه هذا كله بسبب أعمال الناس فمن أعمالنا سلط علينا، وما الآفات التي يرسلها الله كل عام علينا ببعيدة، وحذار أن تقولوا: نحن لا نستحق هذا، فاعتبروا يا أولى الأبصار، وفقنا الله للخير.
عاقبة الكفر وخلف الوعد [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٦]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
755
المفردات:
الرِّجْزُ: العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس. يَنْكُثُونَ: ينقضون العهد، والنكث في الأصل، نقض الغزل، ثم استعمل في نقض العهد. الْيَمِّ:
البحر، سمى بذلك لأنه مقصود، والتيمم: القصد.
المعنى:
ولما وقع عليهم ذلك العذاب الشديد الشامل لكل نقمة من النقم الخمس السابقة قالوا يا موسى: ادع لنا ربك بسبب ما عهده عندك من النبوة والرسالة والكرامة والمحبة، ونحن نقسم لك لئن كشفت عنا ذلك الرجز لنؤمنن لك ولنصدقن بك وبرسالتك ولنرسلن معك بنى إسرائيل إلى أرض الميعاد.
فلما كشفنا عنهم العذاب وأزلنا عنهم هذا العقاب، إلى أجل محدود هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلول ذلك اليوم.. إذ هم ينكثون، وينقضون العهد من بعد ميثاقه.
وقد ورد أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد إلخ أسبوعا ثم يسألون موسى الدعاء برفعه، ويعدونه بالإيمان وإرسال بنى إسرائيل ثم ينكثون العهد وينقضونه.
ولما حان الأجل المضروب انتقمنا منهم فأغرقناهم في البحر، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات كلها التي نزلت عليهم، وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة.
هذا لأكثرهم، وبعضهم آمن، وبعضهم كان يكتم إيمانه.
756
من نعم الله على بنى إسرائيل [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
المفردات:
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا المراد: جميع جهاتها، والأرض هي أرض الشام ومصر. كَلِمَتُ رَبِّكَ: وعده لهم. دَمَّرْنا الدمار: الهلاك والخراب.
يَعْرِشُونَ: يبنون.
ما تقدم كان جزاء فرعون وملئه وهكذا جزاء الظالمين!! وما هنا عاقبة المؤمنين الصابرين من بنى إسرائيل.
المعنى:
وأورثنا القوم من بنى إسرائيل الذين كانوا يستضعفون بقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، وإسامتهم سوء العذاب، أورث الله هؤلاء المستضعفين الأرض التي باركنا فيها بالخصب والنماء، وكثرة الخيرات والأمطار. أورثناهم مشارقها من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر، وتمت كلمة ربك الحسنى، وتحقق وعده الأسمى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «١» وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وهكذا نتيجة الصبر، وحسن تلقى الأمر، أما من يخلعه جزعه، ويهلكه هلعه فتكون عاقبة أمره خسرا.
(١) سورة القصص الآيتان ٥ و ٦.
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور، والعمارات والدور، وما كانوا يقيمون من العرائش والسقف في الجنات والبساتين، وهكذا من يقوم وقلبه عامر بالإيمان، وروحه مليئة باليقين والإسلام، يقوم ضد عدو الله ولو كان فرعون مصر صاحب الحول والطول والجند والحشم والمال والخدم، يقوم لله ولإزالة الفساد والطغيان فالله معه وناصره ومؤيده.
وقد كان موسى وهارون ومن معهما كذلك إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وما حوادث الانقلاب التي مرت بنا ببعيدة!!.
نعم الله على بنى إسرائيل وما قابلوها به [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
المفردات:
وَجاوَزْنا جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه: عداه وانتقل عنه. يَعْكُفُونَ عكف يعكف على الشيء: أقبل عليه ولازمه تعظيما له. أَصْنامٍ جمع صنم، وهو
758
ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن أو عجوة رمزا لشيء حقيقى أو خيالي ليعظم تعظيم العبادة، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقى، فإن عبد فهو صنم.
مُتَبَّرٌ التبار: الهلاك. باطِلٌ: هالك وزائل لا بقاء له.
المعنى:
أنعم الله على بنى إسرائيل نعما لا تحصى حيث نجاهم من فرعون وملئه، وأهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وجاوز بهم البحر آمنين، وأغرق فرعون وقومه، ومع هذا لم يقابلوا النعم بما يجب من الشكر والطاعة، بل قابلوها بالكفر والعصيان، وهكذا كان اليهود قديما وحديثا، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، أى: تجاوزوه بعناية الله ورعايته حتى كأن الله معهم بذاته، فلما انتقلوا عنه ورأوا قوما «قيل: من العرب، وقيل: من غيرهم» عاكفين على أصنام لهم ومقبلين عليها ومعظمين لها تعظيم العبادة والتقديس.
قالوا يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وهذا الطلب منهم دليل على أن تقديس الأصنام وعبادة غير الله كانت متأصلة في نفوسهم وفيهم حنين لها، وهذا شأن من دخل في دين الله حديثا.
ولقد رد موسى على من طلب منه هذا الطلب بقوله:
إنكم قوم تجهلون ما يجب لله- سبحانه- من صفات التقديس والكمال، وتجهلون حقيقة التوحيد الخالص له سبحانه، وأنه ليس في حاجة إلى شفيع أو واسطة، بل هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وتجهلون حقيقة الرسالة بدليل طلبكم منى هذا!! إن هؤلاء القوم العاكفين على أصنامهم مقضىّ على ما هم فيه بالهلاك والتبار، إذ إنها لا تنفع أبدا ولا تضر، وباطل عملهم في الدنيا والآخرة، وفي تعبير القرآن إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم هذا إلى زوال، أو في هذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض، قل لهم يا موسى: أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أأطلب لكم إلها غيره؟!! إن هذا لشيء عجيب.
وكيف تطلبون هذا وهو فضلكم على عالمي زمانكم.
759
واذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون، وأنقذناكم من ذل العبودية ونار الاستعمار، وأنهم كانوا يسومونكم العذاب السيئ: يقتلون أبناءكم الذكور ويتركون نساءكم أحياء، وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء واختبار من ربكم عظيم، والمراد بذكر الوقت ذكر ما حصل فيه حتى يشكروا الله- سبحانه- ويخصوه وحده بالعبادة والتقديس.
رؤية الله ونزول التوراة [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٥]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
760
المفردات:
مِيقاتُ رَبِّهِ: الوقت المحدد لعمل من الأعمال كمواقيت الصلاة والصوم.
اخْلُفْنِي: كن خليفتي فيهم. تَجَلَّى رَبُّهُ: انكشف وظهر نوره.
دَكًّا: مدكوكا. صَعِقاً: مصعوقا مغشيا عليه. أَفاقَ: رجع إليه عقله. بِقُوَّةٍ: بعزيمة ونشاط.
المعنى:
ذكر المفسرون أن موسى- عليه السلام- وعد بنى إسرائيل إذا أهلك الله عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون، وما يذرون، فلما أهلك فرعون سأل موسى ربه أن ينزل الكتاب الموعود فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه فاستاك، فأمره الله أن يصوم عشرا وأن يلقى الله صائما فتلك هي الأربعون ليلة التي ذكرت في البقرة مجملة وذكرت هنا مفصلة.
ضرب الله- تعالى- موعدا لموسى لمكالمته فيه، وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة، وقال موسى لأخيه هارون: كن خليفتي في القوم مدة غيابى عنهم، وعليك بإصلاح نفسك وخاصتك، وأهل مشورتك، وعملك وحكمك لتكون من الصالحين للخلافة، وإياك أن تتبع رأى أهل الفساد والضلال، هذه هي سبل النجاة للحكام.
ولما جاء موسى للوقت المحدود، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة استشرفت نفسه للجمع بين فضيلة الكلام والرؤية، فقال: رب أرنى ذاتك المقدسة، واجعلنى متمكنا منها بأن تتجلى لي فأنظر إليك. قال الله: لن تراني الآن ولا في المستقبل إذ ليس لبشر ما أن يطيق النظر إلى في الدنيا
«حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه» حديث شريف.
ثم أراد المولى أن يخفف عليه الأمر، وأنه لا يطيقها فقال مستدركا: ولكن انظر إلى الجبل الذي يرجف بك، ويضطرب كيف أفعل به؟ وكيف أجعله مدكوكا... ، فإن
761
استقر مكانه وثبت عند التجلي الأعظم عليه فسوف تراني إذ هو مشارك لك في الوجود، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يقو على الثبات فكيف بك يا موسى؟
فلما تجلى ربه للجبل، وانكشفت بعض آياته له جعله دكا مدكوكا، وخر موسى من هول ما رأى مصعوقا، فلما أفاق من غفوته، وصحا من رقدته قال: سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا، إنى تبت إليك من سؤالى، وقيل: تبت إليك من الجرأة والإقدام على السؤال بلا إذن، وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك.
ثم أراد المولى أن يطيب خاطره ويبين له مكانته فقال:
يا موسى إنى اصطفيتك على الناس الموجودين معك برسالتي ونبوتي، وخصصتك بكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين القانعين، ولا تطلب ما ليس لك.
وكتبنا له في الألواح من كل شيء مما يحتاجون له من أمور دينهم، موعظة مؤثرة وهداية نافعة، وتفصيلا لأحكام الشريعة.
وهل هذه الألواح هي كل ما أوتيه أو بعضه؟ وهل كان عددها عشرا أو أقل؟ الله أعلم بذلك.
فخذها بقوة، واقبلها بجد ونشاط، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها فلكل درجات ومراتب، فمثلا هناك عفو وقصاص وصبر وانتصار... إلخ فليأخذوا بالعفو والصبر وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كعاد وثمود، أو قوم فرعون، وقيل: سترون عاقبة من يخرج من طاعتي!!! ورؤيا الله- سبحانه وتعالى- كانت ولا تزال مثار خلاف وجدل لتعارض النصوص فيها. مثلا لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، لَنْ تَرانِي مع قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ والأحاديث الصحيحة الكثيرة.
ولذا قال بعضهم: إن الرؤية محال، وبعضهم قال: إنها جائزة، وينبنى على هذا طلب موسى للرؤية. هل كان للرد على من طلب من قومه بالدليل لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وعلى هذا فطلبه خارج، ولذا تاب وأناب، وقيل: إنها جائزة، والتوبة من التعجل بالسؤال، وعلى العموم فهذا بحث مبسوط في كتب التوحيد وكتب التفسير المطولة.
762
وجمهرة العلماء على أن رؤيا العباد لربهم في الآخرة حق والله أعلم بكتابه.
وتشير الآية إلى أن الواجب على أصحاب الشرائع أن يأخذوها بجد ونشاط وينفذوا أحكامها كلها متبعين أحسن السبل وأفضلها، وأن الأمة تكون عزيزة الجانب ما دامت متمسكة بدينها، عادلة في أحكامها، حتى إذا خرجت من دينها وظلمت في أحكامها انهارت وضاعت، انظروا إلى بنى إسرائيل كيف كانوا وما آل إليه أمرهم!!
السبب الحقيقي للكفر غالبا [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
المفردات:
يَتَكَبَّرُونَ الكبر: غمط الحقوق وعدم الخضوع لها، ويصحبه احتقار الناس غالبا. الرُّشْدِ الرشد والرشاد: الصلاح والاستقامة، وضده الغي والفساد.
المعنى:
يبين الله- سبحانه وتعالى- سبب الطغيان والكفر، والظلم والفساد، فيقول ما معناه: سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي، وعن اتباع رسلي، المتعالين على غيرهم بغير حق، سأصرفهم عن الإيمان بآياتى، وأمنعهم من فهم الأدلة والحجج الدالة على
عظمتي، وما في شرعي من الهدى والنور، فالتكبر والكبر مرض نفسي خطير ينشأ من مركب النقص عند ضعفاء العقول والأفهام، ويجعل صاحبه في صندوق محكم لا يصل إليه نور أبدا ولا خير أبدا لأنه يفهم في نفسه أنه كبير، وأنه لا يحتاج إلى شيء، وهذا معنى صرفهم عن الآيات، أى: يطبع الله على قلوب المتكبرين بحيث لا يفكرون في الآيات ولا يعتبرون بها لإصرارهم على التكبر فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «١» وقد منع الله قوم فرعون عن فهم الآيات لأنهم متعالون ظالمون متكبرون وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا
«٢» وهكذا يا محمد كفار قريش صرفهم الكبر والغرور عن النظر في الآيات، ألم يقولوا:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «٣» فلا تأس عليهم ولا تحزن لهم، هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بأى آية تدل على الحق وتثبته إذ الآيات تفيد من نفس مستعدة للفهم وتقبل الحق، وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد، ولا يختارون إلا الغي والفساد، بل إن يروا سبيل الغي سارعوا إليه وانغمسوا فيه. وما ذلك كله إلا لأنهم كذبوا بآياتنا، وكانوا عنها غافلين.
والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى فلم يؤمنوا ولم يهتدوا، وكذبوا بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب، أولئك تحبط أعمالهم وتذهب سدى، لأنهم اتبعوا أنفسهم وشياطينهم، وتركوا أمر الله وراءهم ظهريا فكانت أعمالهم هباء منثورا، وهل يجزون إلا بما كانوا يعملون!!!
قصة عبادتهم العجل وموقف موسى [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٤]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
(١) سورة الصف آية ٥.
(٢) سورة النمل آية ١٤.
(٣) سورة الزخرف آية ٣١.
764
المفردات:
حُلِيِّهِمْ مفردة: حلى، وهو ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة.
عِجْلًا: هو ولد البقرة. خُوارٌ: صوت البقر، كالرغاء للإبل. أَسِفاً الأسف: الغضب الشديد، أو الحزن، والأسيف: الشديد الغضب. أَعَجِلْتُمْ عجل عن الأمر: تركه غير تام، وأعجله عنه غيره: حمله على تركه ناقصا.
الْأَلْواحَ مفردة لوح، وهو ما كتب في التوراة.
765
غضب المراد: ما أمروا به من قتل أنفسهم. وَذِلَّةٌ: خروجهم من ديارهم وهوانهم على الناس. نُسْخَتِها: ما نسخ وكتب منها. يَرْهَبُونَ الرهبة: الخوف الشديد.
المعنى:
داء التقليد يسرى في الأمة كما يسرى في الفرد من حيث لا يشعر، وبنو إسرائيل عاشوا مع المصريين دهرا طويلا وهم يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها ولذلك كلما سنحت فرصة خاطفة عادوا إلى ما كانوا عليه، فمرة يقولون: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وقد مضى ذلك. وهنا عند ما فارقهم موسى لمناجاة ربه اتخذوا من حلى القبط التي استعاروها منهم. اتخذوا عجلا ذا جسد، وله خوار، اتخذوه إلها لهم، والذي اتخذه واحد منهم هو السامري، وإنما نسب إليهم جميعا لأنه عمل برأى جمهورهم، ولم يحصل منهم إنكار عملي فكأنهم مجمعون عليه.
وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل، هل له لحم ودم وخوار حقيقة؟ أم هو تمثال من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر. الرأى الأول لقتادة والحسن البصري وغيره، وتعليله أن السامري أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فنبذها في جوف التمثال فحلت فيه الحياة وأصبح جسدا ذا روح وله خوار، ويؤيد هذا ظاهر القرآن الكريم.
والرأى الثاني أنه تمثال خواره بسبب الريح الذي يدخل فيه بكيفية فنية عملها السامري.
وهاك الرد على من اتخذ العجل إلها: ألم يروا أن هذا الإله لا ينطق، ولا يكلمهم بواسطة رسول كموسى، ولا هو يهديهم إلى خير أبدا؟ فهل يعقل أن يكون هذا إلها؟!! والإله الحق هو الله- سبحانه وتعالى- لو كان البحر مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الهادي إلى الخير والرشاد بما ركب من العقول، وبما أرسل من رسل.
اتخذوه بلا دليل ولا برهان، بل عن جهل وتقليد وهكذا كانوا ظالمين في كل أعمالهم.
ولما تبين لهم وجه الحق ندموا ندما شديدا، وازدادت حسرتهم لما فرطوا في جنب الله
766
وسقط في أيديهم، وهذا تعبير لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب قبل هذا، وهو كناية عن الندم والحسرة، وذكرت اليد، وإن كان الندم في القلب لأن أثره يظهر فيها بعضّها أو بالضرب بها على أختها فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف ٤٢].
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا: لن يسعنا بعد هذا إلا رحمة ربنا ومغفرته، فقد وسعت كل شيء، وإن لم يغفر لنا ربنا لنكونن من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
هذا ما حصل من موسى بعد رجوعه إثر بيان ما حصل من قومه في غيابه.
ولما رجع موسى إلى قومه بعد غيابه في الطور للمناجاة، ورجع غضبان شديد الأسف والحزن قال: بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري، وتركتم عبادة الله، فالخطاب للسامري وأشياعه، ويجوز أن يكون الخطاب للكل، والمعنى: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، فقد كان موسى في خلافته شديد الشكيمة قوى العزيمة، لقنهم التوحيد الخالص، وردهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.
أما هارون فقد رأى موسى منه أنه لين العريكة غير حازم في أمره فظن به الظنون.
قال موسى: أعجلتم أمر ربكم؟ قال الزمخشري: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظاري حافظين للعهد، ولما وصيتكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره عند تمام الثلاثين ليلة، ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم وغيرتم عقائدكم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها. وكان من أمر موسى أن ألقى الألواح، وطرحها من يده وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه ظنا منه أنه قصر في خلافته له، ولم يكن مثله مع أن حق الخليفة أن يتتبع سيرة سلفه قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ [سورة طه الآيتان ٩٢ و ٩٣].
قال هارون: يا ابن أمّ إن القوم استضعفوني ولم يسمعوا لكلامي وهموا بقتلى، فيا ابن أمّ لا تجعلهم يشمتون بي من كثرة اللوم والتقريع، ولا تجعلني في عداد الظالمين.
قال موسى: رب اغفر لي ما عساه فرط منى من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة
767
لأخى، واغفر لأخى ما عساه أن يكون قد فرط في خلافته لي ومؤاخذته القوم حين ضلوا.
وأدخلنا في رحمتك الواسعة وأنت أرحم الراحمين، وقد دعا موسى بهذا ليظهر لمن شمت في أخيه أنه راض عنه، وليرضى أخوه عنه ويزيل ما في نفسه إن كان...
والآية صريحة في أن هارون برىء من اتخاذ العجل إلها، وأنه لم يقصر في وعظهم، وقد غفر الله له، وهذا بخلاف ما في التوراة من أن هارون هو الذي صنع العجل لهم واتخذه إلها.
إن الذين اتخذوا العجل بعد ما غاب عنهم رسولهم موسى- عليه السلام- من بنى إسرائيل كالسامرى وأشياعه. سيصيبهم غضب شديد من ربهم فلا تقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة آية ٥٤] هذا في الدنيا، وأما الغضب في الآخرة فلا يعلمه إلا هو.
وسينالهم ذلة في الحياة الدنيا بخروجهم من أوطانهم، وتهالكهم على حب الدنيا، وهوانهم على الناس، إذ هم الماديون الأنانيون المطرودون في كل أمة، أليست هذه هي الذلة في الدنيا بأعظم معانيها؟! ولا يغرنكم ما هم فيه في فلسطين الجريحة فإن ذلك سحابة صيف عن قريب ستنقشع غيومها، فالله صادق في قوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة آية ٦١] بكل معانيها القريبة والبعيدة.
وأملنا في الله- سبحانه وتعالى- أن يهيّئ للمسلمين جميعا وللعرب خاصة الظروف التي بها يطردون اليهود المغتصبين لفلسطين حتى لا تقوم لهم دولة.
ومثل ذلك الجزاء الذي نزل على الظالمين من بنى إسرائيل نجزى القوم المفترين الظالمين.
وهاكم القانون العام السمح حتى لا ييأس مذنب أسرف على نفسه فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها توبة نصوحا خالصة لوجه الله مع العمل
768
الصالح والإيمان الكامل فأولئك يتوب الله عليهم. إن ربك من بعدها هو الغفور الرحيم.
يقول الكشاف في قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف ١٥٠] وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك، ولمه على ما فعل في جفوة، ثم ترك الغضب النطق بذلك وقطع الإغراء، وفي هذا من البلاغة ما فيه حيث شبه الغضب برجل وجعل دليل ذلك قوله سَكَتَ وهذه من عيون الاستعارات القرآنية.
ولما سكت عن موسى الغضب وهدأت ثائرته أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة، وفيها هدى لكل حائر، ورحمة لكل مذنب من الذين يرهبون ربهم، ويخشون عذابه وحسابه.
ما حصل لموسى أثناء المناجاة [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٦]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
769
المفردات:
الرَّجْفَةُ: الصاعقة التي تزلزل القلوب والأبدان. حَسَنَةً المراد: صحة وعافية، وغنى عن الناس، واستقلالا في الدولة. هُدْنا: رجعنا وتبنا.
المعنى:
ذكر المفسرون أن الله قد أوحى إلى موسى أن يختار سبعين رجلا من بنى إسرائيل ويصطفيهم، ويأتى بهم إليه وقد اختلفوا هل كان هذا عقب عبادتهم العجل ليتوبوا؟
أو كان هذا عقب طلب موسى للرؤية.
فاختار موسى سبعين رجلا لميقاتنا، وأمرهم أن يصوموا، وأن يتطهروا ثم خرج بهم إلى طور سيناء، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، وسمعوا المولى- جل شأنه- وهو يكلم موسى بأمره ونهيه: افعل ولا تفعل، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا على موسى وطلبوا منه الرؤية، قيل: لم يصدقوا أن الذي أمرهم بقتل أنفسهم هو الله حتى يروه، فوعظهم موسى وزجرهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، قال: لن تراني، وبعض العلماء يقول: طلب موسى الرؤية مع علمه بعدم إمكانها ليسمعوا الرد فيكون هذا أبلغ من الرد عليهم، ولذا أجيب بلن تراني. ورجف بهم الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية، ولما أخذتهم الرجفة قال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل هذا حينما عبدوا العجل، وقيل:
حين طلب الرؤية وأهلكتنى معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت!! قال موسى: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ حيث طلبوا الرؤية لك جهارا قياسا منهم على سماع كلامك وهو قياس فاسد.. وقيل: ما فعله السفهاء هو عبادة العجل.
ما هي إلا فتنتك وابتلاؤك حين كلمتنى فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية، تضل بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، ولست ظالما لهم أبدا بل هذا موافق لطبعهم، وتهدى بها من تشاء من عبادك الثابتين المؤمنين، وهذا موافق لطبعهم والله أعلم بعباده، فلو تركوا وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه، وما قدر له، أنت ولينا يا رب فاغفر لنا
770
وارحمنا، واستر عيوبنا برحمتك، يا أرحم الراحمين، وأنت خير الغافرين، تغفر الذنوب وتعفو عن السيئات بلا سبب ولا علة، لأن رحمتك وسعت كل شيء واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة هي نعمة الصحة والعافية والرزق الحسن والتوفيق في العمل والاستقلال في الدولة، واكتب لنا في الآخرة حسنة هي نعمة الثواب الجزيل والعطاء الكثير.
إنا عدنا إليك، وتبنا، ورجعنا إلى حظيرة الإيمان بالعمل لا بالقول فقط.
قال الله: إن رحمتي سبقت غضبى، وإن عذابي أصيب به من أشاء من عبادي المسيئين لأنفسهم بالعمل الفاسد. وفي قراءة: إن عذابي أصيب به من أشاء.
وأما رحمتي ونعمتي وفضلي فقد وسعت كل شيء في الكون، وسعت الكافر والعاصي، والمسلم واليهودي وعابد العجل... إلخ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ «١» فسمائى تظلهم، وأرضى تقلهم، وبرزقي يعيشون، وبخيرى يتمتعون، وأنا أدعوهم دائما إلى الصراط المستقيم، ومع ذلك كله فبعضهم خارجون عن ديني.
فإذا كان الأمر كذلك من إصابة عذابي من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها كما دعوت يا موسى، أى: أثبتها خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي للذين يتقون الله في كل شيء ويؤتون الزكاة، وخصت بالذكر لأنه يخاطب قوما ماديين نفعيين مانعين للزكاة، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون.
محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته، والمؤمنون به [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٧ الى ١٥٨]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
(١) سورة النحل آية ٦١.
771
المفردات:
الْأُمِّيَّ: الذي لا يقرأ ولا يكتب. إِصْرَهُمْ الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى: يحبسه عن الحركة لثقله. الْأَغْلالَ: جمع غلّ وهو الحديد الذي يجمع بين يد الأسير وعنقه، والمراد: التكاليف الشاقة.
المعنى:
سأكتب رحمتي الواسعة للذين يتقون ويؤتون الزكاة، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى، وهذه الأوصاف تنطبق على محمد المفرد العلم فهو رسول ونبي أمى، وقد كان أهل الكتاب يصفون العرب بأنهم أميون لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران آية ٧٥].
وقد وصفه القرآن الكريم ووصف رسالته بأوصاف:
١- النبي الأمى، وفي هذا الوصف إشارة إلى كمال صدقه حيث أتى بالقرآن المعجز
772
في أخباره وقصصه وحكمه وأصوله العامة في السياسة والاجتماع والدين، مع أن من نزل عليه أمى بين أميين!! يا سبحان الله!!! ٢- وهو محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فبشارته وصفته وزمانه في التوراة والإنجيل، وقد عرفوا ذلك كله كما يعرفون أبناءهم أو أكثر، وآمن به بعض علمائهم الأحرار من اليهود كعبد الله بن سلام، ومن النصارى كتميم الداري- رضى الله عنهم جميعا- وفي كتاب (إظهار الحق) لعالم هندي تحقيق لهذا الموضوع لمن أراد الزيادة.
٣، ٤- أنه يأمرهم بالمعروف شرعا، وهو ما تعرفه العقول الرشيدة، ولا تنكره الطباع السليمة وهو ينهاهم عن المنكر شرعا وهو ما تنكره النفوس الأبية الكاملة في العقل والسمو الروحي: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ. [سورة النحل آية ٣٦].
٥- يحل لهم الطيبات التي تستطيبها الأذواق السليمة من الأطعمة الحلال كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [سورة الأعراف آية ١٦٠].
٦- ويحرم عليهم الخبائث مما تأباه النفوس السليمة كالميتة والدم المسفوح، ويأباه العقل الراجح كالخنزير خصوصا عند ما عرّفنا الطب أنه يولد الدودة الوحيدة في جسم من يأكله.
٧- وقد وضع عنهم التكاليف الشاقة التي تأصرهم وتثقل عليهم والأغلال التي كانت في أعناقهم كقتل النفس عند التوبة وقطع مكان النجاسة... إلخ، فدينه اليسر، وشريعته السمحة السهلة، والحنيفية البيضاء.
فالذين آمنوا به وبرسالته وحموه ونصروه مع الإجلال والإكبار واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك البعيدون في درجات الكمال المتميزون على غيرهم هم المفلحون حقا، ويدخل في ذلك دخولا أوليا قوم موسى- عليه السلام- الذين ينطبق عليهم هذا الوصف العام.
ذكر العلامة أبو السعود أنه لما حكى ما في الكتابين التوراة والإنجيل من نعوت المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وشرف من يتبعه من أهلها ونيلهم السعادة في الدارين، أمر صلّى الله عليه وسلّم ببيان
773
أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من يكون وذلك ببيان عموم رسالته.
قل يا محمد لجميع البشر من كل جنس ولون، وفي كل وقت وزمن: إنى رسول الله إليكم جميعا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «١»، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «٢»،
ولقد ثبت في الصحيحين في حديث خصوصياته، «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»
صلّى الله عليه وسلّم.
إنى رسول الله الذي له الملك التام، والتصريف الكامل في السموات وعوالمها، والأرضين وما فيها يدل على وحدة الصانع؟ وكمال قدرته وتمام علمه وحكمته.
هو الله، لا معبود بحق في الوجود إلا هو، أما غيره فوهم وخيال، وخرافات لا تليق بعاقل، إذ هو الذي يحيى كل حي، ويميت كل ميت، بيده الحياة والموت، وله الأمر كله- سبحانه وتعالى- وأنت ترى أن الله وصف نفسه بثلاث: هو المالك المتصرف في الملكوت، والمعبود بحق في الوجود، خالق الحياة والموت.
ومن كان كذلك وقد أرسل رسولا ومعه البرهان على رسالته وصدقه. فيجب أن تؤمنوا به أيها الناس فهو الرب الواحد القهار الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآمنوا برسوله حيث قامت الأدلة على صدقه، الرسول النبي الأمى، آمنوا به يؤتكم كفلين (نصيبين) من رحمته، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، فهو النبي الذي يعلمكم الكتاب والحكمة ويرشدكم إلى الخير والفلاح، ويطهركم من الخرافات والرجس والأوثان والشرك والضلال، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، المبشر به كل الكتب، دينه الإسلام السمح السهل الصالح لكل زمان ومكان.
وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يؤمن بالله إيمانا كاملا لا شبهة فيه أبدا، ويؤمن بكلماته المنزلة على رسله جميعا التي هي مظهر قدرته وحكمته- سبحانه وتعالى- واتبعوه كذلك في كل ما يأتى ويذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم وتوفيقكم.
فيا أيها المسلمون: هذه هي نصيحة القرآن وكلمته اتبعوه لعلكم تهتدون، والله لا هدى إلا في القرآن، ولا خير إلا في الدين، وعلى قدر قربنا منه واتباعنا له يكون فلاحنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة.
(١) سورة الأنعام آية ١٩.
(٢) سورة سبأ آية ٢٨.
774
من نعم الله على بنى إسرائيل [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٢]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
المفردات:
يَهْدُونَ: يرشدون ويدلون. يَعْدِلُونَ: يحكمون بين الناس بالعدل.
قَطَّعْناهُمُ: صيرناهم قطعا وفرقا. أَسْباطاً: جمع سبط، وهو عندهم
775
كالقبيلة في ولد إسماعيل، والسبط: ولد الولد، وجعله ولد البنت أمر عرفي.
فَانْبَجَسَتْ: انفجرت، بمعنى انفتحت بسعة وكثرة. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ: جعلنا الغمام يظللهم في التيه، والغمام: سحاب رقيق. الْمَنَّ: شيء أبيض حلو كالعسل، والسَّلْوى: طير سماني.
المعنى:
هذه شهادة الحق- سبحانه وتعالى- الذي أمرنا بالقسط، وقد شهد لقوم موسى بأن منهم جماعة عظيمة تهدى بالحق، وترشد إلى الخير، وتوصل إلى سواء السبيل، وتحكم بين الناس بالعدل الذي أمر الله به.
وهاكم بعض النعم التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل ولم يقابلها بعضهم بالشكر وصيرناهم، أى: قوم موسى الذين منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، صيرناهم قطعا وفرقناهم اثنتي عشرة فرقة، كل فرقة لها ميزة خاصة، ونظام خاص بها وتسمى جماعة.
وأوحينا إلى موسى وقت أن طلب من قومه السقيا وقد لحقهم العطش في التيه، أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه مع السرعة والسعة والكثرة اثنتا عشرة عينا بقدر أسباطهم، كل سبط له عين خاصة به، وقد علم كل جماعة منهم مشربهم.
وإذا أصابهم الحر الشديد في الصحراء المحرقة جعلنا الغمام يظلهم بظله الظليل رحمة منا وشفقة عليهم.
وأنزلنا عليهم طعاما شهيا بلا تعب ولا مشقة، يقيهم شدة الجوع وغائلته، هذا الطعام هو المن والسلوى.
ثم قيل لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، وما متعناكم به، ولكنهم جاروا واعتدوا، ولم يقوموا بواجب الشكر، وما ظلمونا بهذا أبدا، ولكن أنفسهم فقط كانوا يظلمون، ومن ظلم نفسه وإن لم يعرف فظلمه لغيره أكثر،
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي:
إنى حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعي فتنفعونى»
776
تقدم مثل هاتين الآيتين في البقرة آية ٥٨، ٥٩، فالموضوع واحد والصياغة مختلفة اختلافا يدل على كمال الإعجاز الذي حير الألباب وزلزل العقول، إذ البلاغة: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، فهنا قال: اسكنوا بدل ادخلوا وكلوا بدل فكلوا، وحذف هنا رغدا، وعكس الترتيب قُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وهناك قال: خَطاياكُمْ بدل خَطِيئاتِكُمْ وهنا قال: سَنَزِيدُ وحذف الواو، كل هذا لنسق الكلام ولكمال التعبير، والله أعلم بأسرار كلامه.
فالسكنى أخص من الدخول ولا عكس، فمن يسكن يدخل قطعا وليس كل من يدخل يسكن، والدخول لأجل الأكل يعقبه الأكل فجاء هناك بالفاء، والأكل عقب الدخول مباشرة له لذة، ولذا أتى هناك بكلمة رغدا. أما من يسكن فقد تقل لذة أكله بل قد تنعدم لمرض أو ألم.
وفي الترتيب لا شيء إذ الواو لا تقتضي ترتيبا، والمهم أنهم أمروا بالدعاء مع الخضوع والانحناء فسواء تقدم هذا أو تأخر فلا ضرر.
وحذفت الواو هنا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ دليل على أن الموعود به شيئان: المغفرة وزيادة الحسنة، على معنى أنه قيل: ماذا حصل بعد المغفرة؟ قيل:
سنزيد المحسنين، والإرسال كما هنا كالإنزال في المعنى العام وإن أفاد الإرسال كثرة وزيادة، والظلم والفسق شيء واحد وإن أفاد الأول الاعتداء على الغير والثاني الخروج عن الدين، وتشير الآيتان إلى أنهما جمعا بين النقيصتين.
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، والتبديل: التغيير في القول والفعل فهم لم يعملوا بظاهر القول ولا بحقيقته بل تركوه كله، هذا هو التبديل، وبعض العلماء يرى أنهم غيروا لفظا بدل لفظ فقالوا: حبة في شعرة، أى: حنطة في زكائب من شعر، بدل قوله تعالى لهم قولوا: حطة.
أيها المسلمون العبرة من هذا القصص أن يفهم جيدا أن الله مع خلقه سنة لا تتغير ولا تتبدل، فالأمة التي تفسق وتظلم نفسها وغيرها وتبتعد عن دستورها وكتابها مآلها أن ينزل الله عليها عذابا أليما يضطرب له كل قلب، وهذا الرجز من السماء قد يختلف ويأتى بأشكال متباينة على حسب الأزمنة والأمكنة.
777
عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
المفردات:
حاضِرَةَ الْبَحْرِ: قرية قريبة منه. يَعْدُونَ: يعتدون. حِيتانُهُمْ:
سمكهم. شُرَّعاً المراد: ظاهرة على وجه الماء. مَعْذِرَةً: هي العذر، وهو التنصل من الذنب. بَئِيسٍ: شديد. خاسِئِينَ: صاغرين.
المعنى:
واسألهم يا محمد عن حال أهل القرية التي اعتدى بعضهم يوم السبت ووقف بعضهم موقف الواعظ ووقف فريق آخر موقفا خاصا، وهكذا الحال في كل أمة شاع فيها الفساد.
778
أما القرية فالله أعلم بها، وإن قيل: إنها أبلة.
وتلك قصة أخرى ما كان يعرفها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا قومه ولكنه علمها عن طريق الوحى، وهذا سؤال تقرير، أى: قروا بهذا، والمراد التقريع والتوبيخ على أعمالهم السابقة، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا بل هو موروث.
واسألهم يا محمد عن أهل القرية القريبة من البحر وقت أن اعتدوا على حدود الله، وتجاوزوها يوم السبت- وهو يوم يعظمونه بترك العمل فيه وجعله للعبادة- إذ تأتيهم أسماكهم يوم السبت ظاهرة على وجه الماء، قريبة لا تحتاج في الصيد إلى عناء، وفي غير يوم السبت تختفى ولا تظهر.
مثل ذلك البلاء المذكور نبلو السابقين والمعاصرين، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم ليجازى كلا على عمله، كل ذلك بسبب ما كانوا يفسقون ويخرجون عن طاعة الله.
ظهرت المعاصي جهارا فكان منهم من أنكر عليهم ذلك: واذكر إذ قالت جماعة منهم عظيمة لمن يعظهم وينكر عليهم عصيانهم، قالت: لم تعظون قوما كهؤلاء قد قضى الله عليهم بالهلاك والفناء أو بالعذاب الشديد؟
قال الوعاظ للائمين: نعظهم حتى نعذر أمام ربكم عن السكوت على المنكر، ولعلهم يتقون فإذا نوقشنا الحساب يوم القيامة ماذا كان موقفكم عند شيوع المنكرات؟
نقول: قد فعلنا ما أمرتنا به فنكون بذلك معذورين، فلما نسى المرتكبون للذنب ما ذكروا به، وتركوا العمل بالمواعظ حتى كأنهم نسوها، أنجينا الذين ينهون عن السوء وهما الفريقان فريق الواعظين وفريق اللائمين، الظاهر- كما قال ابن عباس- أن بعضهم كان ينكر قولا وفعلا وهم الوعاظ، وبعضهم كان ينكر بقلبه وهم اللائمون.
وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم منهم بالمعاصي أخذناهم بعذاب شديد.
والرأى- والله أعلم- أن العذاب للفريقين فريق العصاة وفريق اللائمين وإن يكن عذاب الآخرين خفيفا بظاهر الآية ولتعليل النجاة بالنهى عن السوء والنهى كان للواعظين فقط.
أما من يسكت بل ويلوم الوعاظ على العمل والوعظ فهذا ذنب كبير، اللهم إلا إذا قلنا: إنه ينكر بقلبه ويائس من نصحهم، والله أعلم.
779
فلما عتوا وبغوا، وتمردوا وتكبروا، ولم يصغوا لوعظ الواعظين، قلنا لهم: كونوا قردة صاغرين أذلاء فهذا عذابهم في الدنيا كما نرى، وفي الآخرة عذاب شديد، وهل صاروا قردة حقيقة، أم أصبحوا كالقردة في الطباع والفساد وعدم التوفيق إلى الخير؟!
هكذا اليهود في الدنيا [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٧١]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
المفردات:
تَأَذَّنَ بمعنى آذن، أى: أعلم، وهو يفيد العزم على الشيء، وإيجابه على
780
النفس لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه به، ويوجبه عليها، وأجرى مجرى القسم.
دُونَ ذلِكَ: منحطون عنهم في الدرجة. خَلْفٌ الخلف والخلف: من يخلف غيره مطلقا، وقيل الخلف للصالح والخلف للصالح. عَرَضَ المراد: المال لأنه عرضة للزوال. دَرَسُوا: قرءوا وفهموا. نَتَقْنَا الْجَبَلَ: رفعناه من أصله. ظُلَّةٌ: كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر.
المعنى:
واذكر يا محمد إذ أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه كتب عليهم وأوجب على نفسه ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، يفرض عليهم الجزية، ويعطونها عن يد وهم صاغرون ويحاربهم، ويبدد ملكهم ويفرق شملهم، حتى يكونوا أذلة مساكين.. والتاريخ يحدثنا أن اليهود ذاقوا الأمرّين بسبب أعمالهم مع الله ذاقوا من البابليين ثم من النصارى ثم من المسلمين وفي العصر الحديث لا تنس (هتلر) زعيم ألمانيا الذي أذاقهم سوء العذاب وشردهم في البلاد، انظر إلى قوله تعالى:
لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. والبعث يفيد القيام فجأة، ولم يعين مما يبعث؟
ولا في أى وقت يكون؟ ولا بأى كيفية يحصل. ولا تغتروا بهم في فلسطين فملكهم عرض زائل قريبا إن شاء الله، فنحن واثقون بكلام الله، قد بدت تباشير الخلاص!! إن ربك لسريع العقاب شديد العذاب وإنه لغفار رحيم بمن عصى ثم تاب من قريب، فلا يغرنكم بالله الغرور، ولا تقنطوا من رحمة الله.
أما اليهود فقد كانوا في الدنيا على أسوأ حال عصاة مذنبين دائما، ولذا حكم الله عليهم بهذا، وفرقناهم في الأرض كلها أمما لا تجمعهم جامعة، ولا تربطهم رابطة، منهم الصالحون الذين آثروا الآخرة على الدنيا، ولم يعتدوا يوم السبت بل ونهوا غيرهم عن ارتكاب الذنوب، ومنهم دون ذلك، من هؤلاء غلاة الكفر والفسوق والعصيان والله- سبحانه- يعاملهم كما يعامل غيرهم، يبلوهم بالحسنات علّهم يشكرون، وبالسيئات علهم يرجعون وينتبهون، وكان فيهم الخير والشر... فخلف من بعدهم خلف، ورثوا كتابهم وهو التوراة والظاهر أنهم هم المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء يأخذون عرض هذه الدنيا وحطامها الفاني وظلها الزائل من غير طريق شرعي، ومع
781
هذا فقد غرهم بالله الغرور، وقالوا: لن تصيبنا النار إلا أياما معدودات إذ نحن أبناء الله وأحباؤه.
وإن مكن لهم وصادفهم مال من طريق غير شرعي كالربا أو الرشوة أو ببيع أحكام الله أخذوه ولم يتعظوا ولم يتوبوا، إن تعجب فعجب هذا! ثم رد الله عليهم قولهم سيغفر لنا وهم مقيمون على المعاصي فقال:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب؟! وفيه أن الكذب على الله من أكبر الكبائر، وهم قد درسوه وفهموه، وفيه أن أكل مال الغير حرام، وأن الاعتداء على الغير بأى لون حرام، ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها خير من الدنيا وما فيها، وأن الدار الآخرة خير للذين يتقون الله ويخافون عذابه، أعميتم فلا تعقلون أن الآخرة خير وأبقى؟! وليس القرآن متحديا أو متعصبا، بل الذين يتمسكون بالكتاب وما فيه من أحكام ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة سواء كانوا من اليهود أو من غيرهم فسيجازيهم ربهم أحسن الجزاء إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف آية ٣٠].
واذكر وقت أن رفعنا عليهم الجبل لما أبوا أن يقبلوا التوراة، فلما رفعناه فوقهم حتى أظلهم، واضطربت قلوبهم منه، خروا ساجدين على حواجبهم اليسرى، وقيل لهم:
خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واذكروا ما فيه دائما واعملوا به دائما رجاء أن تملأ قلوبكم بالتقوى فتصدر أعمالكم موافقة للدين وفي هذا فلاح لكم وخير...
الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
782
المفردات:
أَخَذَ: أخرج، وإنما عبر به لأنه يدل على الاصطفاء والتمييز. مِنْ ظُهُورِهِمْ الظهر: الجزء المهم في جسم الإنسان وهو ما فيه العمود الفقرى.
هذا كلام جديد، سيق لإلزام اليهود مع غيرهم بالميثاق العام، بعد أن ألزمهم بالميثاق الخاص، وللاحتجاج عليهم بالحجج العقلية والسمعية، ولقطع أعذارهم في التقليد.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن أخذ ربك من ظهور بنى آدم ذريتهم، والأخذ من ظهور بنى آدم يلزمه الأخذ من ظهر آدم نفسه، وفي هذه الآية الكريمة رأيان: رأى للسلف ورأى للخلف- رضى الله عنهم- جميعا، أما السلف فيقولون: إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة، أما الخلف فيقولون: هذا من باب التمثيل والتصوير، فلا سؤال ولا جواب، وإنما الله- سبحانه- بما ركب في بنى آدم من العقول والإدراك وبما نصب من الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله. كأنه قال للخلق: قروا بأنى ربكم، ولا إله غيرى، وكأنهم قالوا بلسان الحال: نعم أنت ربنا، ولا إله غيرك، فنزل تمكينهم من العلم، وتمكينهم منه منزلة الشهادة والاعتراف، وهذا أسلوب في القرآن والسنة وكلام العرب كثير: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت آية ١١].
وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا تبديل لخلقه
«كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» حديث شريف.
فعل الله بكم هذا مخافة أن تقولوا يوم القيامة، عند سؤالكم عن أعمالكم: إنا فعلنا هذا لأنا كنا غافلين عن التوحيد، ولم ينبهنا أحد إليه، فلا عذر لكم بالجهل بعد نصب الأدلة، ووجود العقل والفطرة.
ومخافة أن تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، ونحن خلف لهم، قلدناهم في
783
أعمالهم، مع حسن الظن بهم، ولم نهتد إلى التوحيد، أفتؤاخذنا بالعذاب وتهلكنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم في هذا أبدا.
ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل للناس الآيات البينات، ولعلهم بهذا يرجعون ويتوبون إلى الله.
والآية الكريمة تفيد أنه لا عذر في الشرك بالله أبدا، أما الأحكام التفصيلية للدين، والأمور الغيبية كالسمعيات فلا أحد مطالب بها، إلا بعد إرسال الرسل وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «١».
مثل المكذبين الضالين [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
المفردات:
نَبَأَ النبأ: الخبر المهم. فَانْسَلَخَ المراد: خرج منها وكفر بها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
(١) سورة الإسراء آية ١٥.
784
أدركه ولحقه. أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ: ركن إليها ومال. يَلْهَثْ اللهث: التنفس بشدة مع إخراج اللسان. مَثَلُ المثل: الصفة الغريبة...
ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد أخذ الميثاق العام عليهم وعلى الناس وبعد أن أرسلت لهم الرسل فكذبوا بها.
المعنى:
واتل يا محمد على اليهود وعلى غيرهم الخبر المهم الخاص بالذي آتيناه آياتنا، وأوقفناه عليها وعلمناها له، ولكنه لم يعمل بها، وتركها وراءه ظهريا، عازما على عدم العودة لها أبدا، وقد سبق شيطانه في الفساد سبقا ملحوظا فكان من الغاوين الضالين المفسدين، يا سبحان الله! يسبق الشيطان في الفساد والضلال! يقول الله: ولو شئنا لرفعناه بالآيات وجعلناه في عداد الأبرار والصالحين، ولكنه أخلد إلى الأرض، وجعل كل همه التمتع بلذائذها الفانية، واتبع هواه، وران على قلبه ما كان يكسب، حتى صار حيوانيا شهوانيا، ظلمانيا.
وهذه الآية تفيد أن مشيئة الله متلازمة مع عمل الشخص وتابعة له.
وذلك أن الله جعل للعبد اختيارا وجعل اختياره مناط الثواب والعقاب، وخلقه في الدنيا وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوه أيمتثل أم لا؟
وقد جعل من يختار الخير له سبل ميسرة، وعنده قدرة على ذلك، ومن يختار الشر له سبل ميسرة، وله قدرة على ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ [سورة الإسراء آية ١٨]. وكانت مشيئة الله تابعة لما يعلمه من اتجاه العبد في الحياة.
هذا الذي أوتى علما بالكتاب ولم يعمل به، بل صارت روحه مدنسة، وقلبه مظلما، صفته العجيبة التي كالمثل في الغرابة، كصفة الكلب يلهث دائما سواء حملت عليه وكلفته أم لا؟
وهكذا الذي يركن إلى الدنيا ويكفر بآيات الله دائما في عمل ونصب ومهما أعطى فهو في هم وتعب، وتراه كلما بسط له الرزق زاد طمعه وألمه، ذلك المثل الذي
785
ضربناه لبعض الأفراد مثل للقوم الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها، ولم تنفعهم الموعظة.
فاقصص هذا القصص ونحوه رجاء أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتفكروا في أنفسهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سورة الرعد آية ٣].
ساء مثلا مثل الذين كذبوا بآياتنا، وقبح عملهم الذي أضحى كالمثل في الغرابة، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم فقط.
وقد ذكر اسم الشخص صاحب النبأ بعض المفسرين ولكن يظهر- والله أعلم- أن المراد الوصف لا الشخص.
صفة أهل النار [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
المفردات:
ذَرَأْنا: خلقنا وأوجدنا. الْجِنِّ: خلق مستتر الله أعلم به. قُلُوبٌ القلب: يطلق على العضو الصنوبري الواقع في الصدر إلى الجهة اليسرى، ويطلق كذلك على العقل، والوجدان والضمير. لا يَفْقَهُونَ الفقه: الفهم الدقيق.
بعد أن ضرب الله المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه قفّى على ذلك ببيان حقيقة المهتدى والضال، ومن هم أهل النار؟
786
المعنى:
من يهديه ويوفقه للخير ولاتباع الشرع، والاهتداء بالقرآن فهو المهتدى حقيقة لا غير، ومن يضله الله، ولا يوفقه ولا يهديه إلى الخير وإلى نور القرآن فأولئك البعيدون عن الهداية هم الخاسرون، وأى خسارة أكثر من هذا!!؟
والهداية الإلهية نوع واحد (فهو المهتدى) وأنواع الضلال لا حصر لها، ولذا قال سبحانه: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
وهذا بيان لما أجمل.
يقسم الله إنا قد خلقنا خلقا كثيرا من الجن والإنس، خلقناهم مستعدين لعمل مآله جهنم، وخلقنا كذلك خلقا مستعدين لعمل مآله الجنة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، [سورة هود ١٠٥] فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [سورة الشورى آية ٧].
أما حقيقة أهل النار فهم قوم ليس لهم قلوب يفهمون بها الأوضاع الصحيحة التي بها تزكو نفوسهم، وتطهر أرواحهم، فهم لا يفقهون الحياة الروحية ولذتها الموصلة للسعادة الدنيوية والأخروية، ولكنهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «١». ولا يفقهون أن الخير فيما أمر به الدين، وأن الشر فيما نهى عنه الدين، وليس لهم عيون يبصرون بها آيات الله الكونية وآياته القرآنية، وليس لهم آذان يسمعون بها آيات الله المنزلة على رسله ولا يسمعون بها أخبار التاريخ والأمم السابقة، وكيف كانت سنة الله معهم؟
أولئك كالأنعام لهم حواس مادية فقط، همهم الأكل والشرب والتمتع باللذات، بل الحيوان يأكل بلا إسراف وهم مسرفون فهم أضل سبيلا وأسوأ قيلا، أولئك هم الغافلون عن آيات الله وغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما خلقت لأجله، بل هم غافلون عن ضرورات الحياة الشخصية والقومية والدينية.
فالخلاصة أن أهل النار هم الأغبياء الغافلون حيث لم ينظروا إلى الحياة الباقية بل شغلوا أنفسهم بالحياة الفانية فقط: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [سورة يوسف آية ١٠٥].
(١) سورة الروم آية ٧.
787
وأهل الجنة هم الأذكياء عرفوا الدنيا على حقيقتها فعملوا للآخرة الباقية ولم يهملوها.
وحذار أن يكون المسلمون من الغافلين.
أسماء الله الحسنى [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
المفردات:
الْحُسْنى: مؤنث الأحسن. يُلْحِدُونَ الإلحاد: هو الميل عن الطريق الحق.
المعنى:
روى أن بعض المسلمين دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال المشركون: محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية.
ولله- سبحانه وتعالى- الأسماء الحسنى فادعوه بها،
وقد روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر: الله الذي لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك.
القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ.
المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط.
الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف.
الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ. المقيت.
الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد.
الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى.
المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد.
الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن.
الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور.
الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور».
والذي عليه أهل العلم أنها جمعت من القرآن والسنة فهي توقيفية ولكنها لا تنحصر في تسع وتسعين بدليل
حديث ابن مسعود عن رسول الله أنه قال: «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن فقال: اللهم إنى عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزنى، وذهاب همي. إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا»
. وذروا الذين يكذبون في أسمائه ويسمونه بما لم يتسمّ به ولم ينطق به في كتاب الله ولا سنة رسوله هؤلاء سيجزون بما كانوا يعملون.
ومعنى أن أسماءه توقيفية أنه لا يسمى (سخيا) وإن سمى (جوادا) ويسمى (رحيما) ولا يسمى (رفيقا) ويسمى (عالما) ولا يسمى (عاقلا) وفي القرآن يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
«١» أفتسمى الله مخادعا؟ حاش لله، أفتحسبه مكارا؟
حاش لله؟ بل يدعى بأسمائه ولا نلحد فيها أبدا.
المهتدون والضالون [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨١ الى ١٨٦]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
(١) سورة النساء آية ١٤٢.
789
المفردات:
يَهْدُونَ: يرشدون الناس إلى الحق والخير. يَعْدِلُونَ: يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان على ما ينبغي. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج: من الدرجة، وهي المرقاة، بمعنى الصعود والنزول درجة بعد درجة، والمراد سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا. وَأُمْلِي لَهُمْ: من الإملاء، وهو الإمهال. كَيْدِي الكيد والمكر: هو التدبير الخفى الذي يقصد به غير ظاهره حتى ينخدع المكيد، والمتين: القوى، من المتن وهو الظهر. يَعْمَهُونَ:
يترددون في حيرة وعمى.
بعد أن ذكر الله أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لا قلوب لهم ولا أعين ولا آذان يصلون بها إلى الخير، ثم ذكر بعد ذلك ما يجعل الإنسان قوى الإيمان... ذكر هنا أن في أمة الدعوة المحمدية فريقين: مهديين وضالين، مع ذكر وجوب الفكر والنظر في ملكوت السماء والأرض علّنا نصل إلى الخير.
المعنى:
وبعض من خلقنا أرسلنا لهم الرسل خاصة أمة الدعوة المحمدية أمة يهدون بالخير، ويرشدون إليه، وبه يحكمون فيما يعرض لهم حتى تكون أمورهم متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان ويكونوا أمة وسطا عدولا كما أخبر عنهم القرآن،
وروى عن على بن أبى طالب قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، يقول الله: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة.
790
والذين كذبوا بآياتنا ندعهم في الضلال تائهين، ونستدرجهم من حيث لا يعلمون، ونملي لهم بإعطاء النعم تلو النعم استدراجا حتى لا يرعووا عن غيهم مع أنا نمهلهم فلا نرسل لهم المخدرات والمنبهات، وما علموا أن سنة الله في الخلق لا تتغير، وأن الله يملى لهم ويمدهم بالمال والنعم حتى يغتروا ولا ينتبهوا كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ «١» نعم. إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
وها هم أولاء المشركون ظلوا مغرورين بأن الحرب يومان يوم لنا ويوم علينا، معتزين بقوتهم وكثرة عددهم، وبقلة عدد المسلمين، وما علموا أن هذا مكر بهم وكيد لهم.
ولقد كان فتح مكة آية على ذلك.. أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في شأنه وشأن دعوته؟ إنهم إن تفكروا في ذلك أوشكوا- لا بد- أن يعرفوا الحق وأن صاحبهم ليس به جنة، ولقد حكى القرآن عنهم أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ «٢». يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «٣» كذبوا وضلوا إن هو إلا نذير مبين بين يدي عذاب شديد، وهو منذر ناصح، ومبلغ أمين وكيف لا تعرفون هذا وهو صاحبكم وأنتم أدرى الناس به؟!! أكذبوا الرسول ولم ينظروا في هذه العوالم المحكمة الدقيقة، المنظمة البديعة؟ فإن هذا دليل على الوحدانية الكاملة والعلم التام والقدرة القادرة، ولو نظروا بعين البصيرة لاهتدوا إلى الخير، أو لم ينظروا في كل ما خلقه الله وأن الحال والشأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، وحان وقت قدومهم على ربهم بالأعمال، لو نظروا لاحتاطوا وعملوا لذلك اليوم حتى ينالوا الجزاء الأوفى.
لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى التصديق والإيمان بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل فوات الفرصة، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأى حديث بعده يؤمنون؟! هؤلاء فقدوا الاستعداد للخير والهدى والإيمان بالنبي والعمل بالقرآن فكانوا هم الضالين. ومن يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يترددون. وفي باطلهم
(١) سورة المؤمنون الآيتان ٥٥ و ٥٦.
(٢) سورة المؤمنون آية ٧٠.
(٣) سورة الحجر آية ٦. [.....]
791
ينغمسون!! ألا تعلم أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وأن العمل الفاسد يجعل على القلب حاجزا سميكا حتى لا يهتدى إلى الخير أبدا كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.
علم الساعة عند ربي [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
المفردات:
السَّاعَةِ هي في اللغة: جزء معين من الزمن، وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرون من اليوم، والمراد بها هنا الوقت الذي يموت فيه كل حي، ويضطرب نظام العالم، أى: عند النفخة الأولى للصور. أَيَّانَ مُرْساها: متى إرساؤها واستقرارها؟ لا يُجَلِّيها: لا يظهرها ولا يكشفها. حَفِيٌّ: مبالغ في السؤال عنها.
قد تكلم القرآن عن أجل الفرد في قوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فناسب بعده أن يتكلم عن الساعة العامة التي فيها نهاية الدنيا كلها.
المعنى:
يسألونك يا محمد عن الساعة متى تكون؟!: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ «١». وفي التعبير بالإرساء إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لهذه الحركة الدائبة في السموات والأرض.
(١) سورة الشورى آية ١٨.
قل لهم: إنما علمها عند ربي وحده، وإليه يرجع الأمر كله لا يجليها لوقتها، ولا يظهر أمرها، ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده، فلا يطلع أحد من خلقه على وقتها ولو كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا عظم أمرها عند الملائكة والثقلين في السماء والأرض لخفاء وقتها ولهول أمرها وشدة وقعها، فهم مضطربون خائفون، لا تأتيكم أيها الناس إلا بغتة وفجأة، أى: وأنتم منهمكون في الدنيا وتعميرها.
عجبا لهم يسألونك ملحين عنها كأنك حفى عنها، ومبالغ في السؤال عنها!!! قل لهم: إنما علمها عند الله عالم الغيب والشهادة.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون السر في إخفائها، فلو علمت لاضطرب نظام الكون واختل العمران، وهكذا يخفى الله ليلة القدر، وساعة الإجابة لحكم هو يعلمها ولينشط الناس في طلبها وليكون العمل لها في وقت أكثر، وللساعة علامات وأشراط وردت في الصحيح من السنة، ويقال لها علامات صغرى وكبرى.
الرسول إنسان لا يملك شيئا بل هو نذير وبشير [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
المفردات:
الْغَيْبَ: هو ما غاب عنا، وهو حقيقى لا يعلمه أحد، وإضافى يعلمه بعض الخلق كالأنبياء والرسل. الْخَيْرِ: ما يرغب فيه سواء كان ماديا كالمال أو معنويا كالعلم. السُّوءُ: ما يرغب عنه.
سألوا النبي وألحفوا في السؤال فناسب أن يبين القرآن حقيقة الرسالة.
المعنى:
هذا هو القول الفصل، الذي ليس بالهزل، مفخرة من مفاخر الإسلام وأسس من أسسه السليمة، حارب القرآن بهذه الآية وأمثالها أفكارا جاهلية وعقائد وثنية، وانظر إلى هنا، وإلى ما يفهمه المسيحيون عن عيسى- عليه السلام- نعم إن الدين عند الله الإسلام.
قل يا محمد: أنا بشر شرفت بالرسالة وحملت تلك الأمانة، فلا أملك لنفسي أى نفع كان، ولا أدفع عن نفسي أى ضرر كان، إلا ما شاء الله، وأنا بشر لا أعلم الغيب وإنما الغيب عند الله وحده، فكيف تسألونى عن الساعة كأنى حفى بها؟ أما لو كنت أعلم الغيب حقيقة لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء أبدا والواقع غير هذا. إذ أنا بشر كبقية الناس شرفني الله بالرسالة فقط، وما أنا إلا نذير لكم وبشير لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «١» والخلاصة أن الرسل خلق من خلقه وعباد مكرمون لا يشاركون الله في صفاته، ولا سلطان لهم على علمه وتدبيره، شرفهم الله بالرسالة، وهم القدوة الصالحة للعباد في الدنيا..
هكذا الإنسان [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٣]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
(١) سورة مريم آية ٩٧.
794
المفردات:
لِيَسْكُنَ إِلَيْها: ليطمئن ويسكن من الاضطراب النفسي. تَغَشَّاها:
أتاها لقضاء ما تطلبه الغريزة الجنسية. حَمَلَتْ: علقت منه، والحمل: ما كان في بطن أو على شجرة، والحمل ما كان على ظهر. فَمَرَّتْ: استمرت إلى وقت ميلاده من غير سقوط. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ: حان وقت ثقلها وقرب وضعها.
صالِحاً المراد: نسلا صالحا في الجسم والفطرة.
هذه سورة بدئت بالكلام على القرآن والتوحيد، ثم تبع ذلك كلام على النشأة الأولى وما تبع ذلك، ثم الكلام على قصص الأنبياء خصوصا موسى، وها هو ذا يختمها بالكلام على التوحيد وعلى القرآن.
هو الذي خلقكم يا بنى آدم من جنس واحد وطبيعة واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، ويطمئن بها، فإن الجنس إلى جنسه ميال، وجعل منها زوجها حتى إذا بلغا سن الحلم وهي السن التي معها تظهر الغريزة الجنسية في الرجل والمرأة. وجدا أنفسهما- خاصة الرجل- مضطربا ومحتاجا إلى الزوجة لتهدأ نفسه وتسكن من اضطرابها، وبهذا وحده يتحقق بقاء النوع الإنسانى.
فلما تغشاها واتصل بها الاتصال الجنسي المعروف حملت منه حملا كان خفيفا في أول الأمر لم تشعر به، فلما أثقلت وصارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها، وحان وقت الوضع. دعوا الله ربهما مقسمين لئن آتيتنا ولدا صالحا تام الخلقة قوى البنية سليم الفطرة لنكونن لك يا رب من الشاكرين.
وقد آتاهما الله ذلك، وكانت الفطرة لكل مخلوق الميل إلى الإسلام والتوحيد.
فلما آتاهما النسل الصالح جعلا، أى: بعض بنى آدم من الذكور والإناث له شركاء فيما آتاهما، واتجها إلى غير الله الذي أعطاهما، تعالى الله عما يشركون!!
795
وقد رأى بعض المفسرين في هذه الآية أن المراد: خلقكم يا بنى آدم من نفس واحدة هي آدم وجعل منها زوجها وهي حواء، وأن الشرك كان من بعض أولادهما ككفار مكة واليهود والنصارى وقد نسب إليهما، والمراد أولادهما بدليل: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وفي الكشاف أن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان.
ثم أخذ القرآن في نقاش هؤلاء المشركين، أيشركون بالله شيئا لا يخلق أبدا أى شيء؟ بل إنه لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لغيره، والحال أن ما يشركون به من صنم أو وثن هو مخلوق ضعيف إن يسلبه الذباب شيئا لا يستطيع إنقاذه منه ولا يستطيع لهؤلاء المشركين نصرا في أى ميدان، وإن تدعوهم إلى هدايتكم لا يستجيبون لكم وكيف يستجيبون؟
وكيف يداوى القلب... من لا له قلب
يستوي عندهم دعاؤكم وبقاؤكم صامتين، والإله المعبود، والرب الموجود لا يكون بهذا الوضع أبدا فهو السميع البصير، العليم الخبير الناصر القادر- سبحانه وتعالى-!!
حقيقة الأصنام والأوثان [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٤ الى ١٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
796
المفردات:
تَدْعُونَ الدعاء: النداء، وغالبا يكون لدفع ضر أو جلب خير، والمراد:
تعبدون. يَبْطِشُونَ: يصولون بها. فَلا تُنْظِرُونِ أى: تمهلون.
هذا تمام للكلام السابق وهكذا شأن القرآن في إثبات التوحيد ونفى الشرك.
المعنى:
هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله هم مخلوقون مثلكم، فلا يصح أن يكون المخلوق محل عبادة وتقديس من مخلوق مثله.
وإن تعجبوا فعجب حالكم تستكثرون الرسالة على بشر منكم خصه الله بالعلم والمعرفة، وقوة اليقين ونور البصيرة ثم تعبدون من دون الله حجارة!! وإن كنتم صادقين فادعوهم، وإن كانوا كذلك فليستجيبوا لكم، ولكن كيف يكون ذلك؟
وهم أحط درجة ممن يعبدونهم، فليس لهم أرجل يمشون بها، وليس لهم أيد يصولون بها، وليس لهم أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها إذ هم حجارة صماء، أو صنيع من طين وماء، أو من عجوة أو حلاوة كصنم بنى حنيفة.
أكلت حنيفة ربها... عام التقحم والمجاعة
على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بأن يتحداهم ويدعوهم لأمر عملي فقيل له: قل لهم يا محمد:
ادعوا شركاءكم وآلهتكم من دون الله ثم تعاونوا معهم على أن يكيدوا لي ويوقعوا بي المكروه بأى شيء كان، ولا تمهلون، ومع هذا لم يعملوا شيئا فيه.
وهذا رد عليهم في قولهم: إنا نخاف عليك من آلهتنا!!
797
والرسول يعلل ذلك بقوله: إن متولّى أمرى هو الله ولينا، وهو ربنا الذي أنزل الكتاب الذي يدعو إلى التوحيد والبر والصدق، وهو الذي يتولى الصالحين من عباده، أما أنتم أيها المشركون فوليّكم الشيطان: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [سورة البقرة آية ٢٥٧].
والذين تدعونهم من دون الله، وتخصونهم بالعبادة والتقديس لا يستطيعون لكم نصرا حتى ولا أنفسهم ينصرون. بل وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرون شيئا!!! أفيليق بكم إن كنتم عقلاء أن تتخذوا هؤلاء آلهة؟!!
من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٢]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
المفردات:
الْعَفْوَ: ما أتى عفوا وسهلا من غير كلفة ولا مشقة. يَنْزَغَنَّكَ النزغ كالنخس والوكز: هو إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة والمهماز، والمراد: وسوسة الشيطان. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ المراد: الجأ إليه وتذكره. طائِفٌ: لمة منه، وطاف: أى ألم. يَمُدُّونَهُمْ: يكونون مدادا لهم.
798
المعنى:
هذه هي أسس المعاملة الحسنة، ودعائم الخلق الكامل الذي به يرضى الناس عن الإنسان، ورضا الناس من رضا الله فألسنة الخلق أقلام الحق، وبهذه الأمور تجتمع القلوب النافرة، والنفوس الهائمة: خذ ما أتى من الناس عفوا، لا تكلفهم بما يشق عليهم ويستعصى من الأفعال بل كن سمحا سهلا
«يسروا ولا تعسروا» حديث شريف.
خذي العفو منى تستديمى مودتي ولا تنطقى في سورتي حين أغضب
ولله در معاوية يقول: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها».
وأمر بالمعروف الذي تعارف عليه المسلمون من كل ما أمر به الشرع، فالمعروف:
اسم جامع لكل خير من طاعة وإحسان... وأعرض عن الجاهلين، نعم أعرض عن الجاهل الأحمق واجعل كأنك لم تسمع ولم يقل، وعلى العموم لكل صنف من الناس معاملة، ولا تنس قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة البقرة آية ٢٣٧].
هذا جوامع الكلم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وجوامع الخلق، ولقد صدقت السيدة عائشة حيث تقول: «كان خلقه القرآن».
أما معاملة الشيطان العدو اللدود فإما ينزغنك منه نزغ أو يثر فيك داعية من دواعي الشر كالغضب والشهوة حتى يجعلك ثائرا متأثرا كتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز (المنخاز).
فاعلم أن العلاج هو اللجوء إلى الله، والتوجه إليه بالقلب، والاستعاذة بالله من شر الشيطان ووسوسته، والانتقال من هذا الجو وتغييره بقدر الاستطاعة، فالله سميع لكل دعاء، عليم بكل قصد ونية، واعلم أن الشيطان أقسم ليغوينهم جميعا إلا العباد المخلصين فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه: «ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن.
قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم»

. إن الذين اتقوا الله وخافوا منه إذا مسهم طائف من الشيطان، وألمت بهم لمة منه تذكروا الله وما أعده
799
للمتقين الأبرار، وما أعد للعصاة الفجار فإذا هم مبصرون طريق الحق والخير، فالمؤمن الكامل قوى الإيمان كالجسم الصحيح لا تدخله جراثيم المرض وإن دخلت ماتت، كذلك المؤمن لا تدخله الوساوس وإن دخلت تذكر وطردها.
وكل إنسان يشعر بدوافع للخير ودوافع للشر، فالأولى لمة الملك، والثانية لمة الشيطان،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمة وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك منكم فليعلم أنه من الله وليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا «١»
. وإخوانهم وهم الجهلاء غير المتقين الله، الشياطين يمدونهم وينصرونهم ويتعاونون معهم على الإثم والعدوان ثم هم لا يقصرون أبدا في ذلك.
القرآن من عند الله [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
المفردات:
لَوْلا اجْتَبَيْتَها: هلا جمعتها من تلقاء نفسك واختلقتها؟
المعنى:
كانوا طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم آيات كونية خاصة فلما لم يجابوا إلى طلبهم قالوا على سبيل التعنت: هل اختلقت آية وجمعتها من عندك؟ يقصدون أن كل ما ينزل من القرآن إنما هو من عند محمد.
(١) سورة البقرة آية ٢٦٨.
قل لهم يا محمد: إنما أتبع ما يوحى إلى من ربي فقط وليس لي أن أخترع أو آتى بشيء من عندي، إنما أنا رسول ولست قادرا على إيجاد الآيات التي طلبتموها.
وما لكم تطلبون غير هذا القرآن وهو بصائر من ربكم وحجج وآيات واضحة دالة على صدقى وأنه من عند الله وهو كالبصائر للقلوب التي تنير طريق الفلاح وهو هدى ورحمة، ولكن لقوم يؤمنون بالله وبالحياة الآخرة، فمن آمن به وحافظ عليه وحكم به فأولئك هم المفلحون دون سواهم.
من أدب استماع القرآن والذكر [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
المفردات:
فَاسْتَمِعُوا: الاستماع يزيد عن السمع بالإنصات والقصد والنية.
تَضَرُّعاً: من الضراعة والذلة والخضوع. وَخِيفَةً: خائفين. بِالْغُدُوِّ الغدو: جمع غدوة، وهي ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وَالْآصالِ:
جمع أصيل، وهو ما بعد العصر إلى الغروب.
المعنى:
إذا قرئ القرآن الكريم فاستمعوا له بإنصات وأدب، وقصد مع السكون والخشوع
801
رجاء أن ترحموا من الله فإنه لا يستمع لكلامه بأدب وحسن استماع إلا المخلصون الذين في قلوبهم نور الإيمان وبرد اليقين.
أما من أهمتهم الدنيا وأقضّت مضاجعهم حتى أصبحت قلوبهم خلوا من نور الإيمان تراهم عند سماع القرآن لا ينصتون أبدا بل ويتكلمون في توافه الأمور.
والآية عامة في سماع القرآن في الصلاة والخطبة وغيرهما. أيليق بالمسلم أن يتكلم الله فلا يستمع ويتكلم جاره فيستمع؟! واذكر ربك في نفسك وذلك بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره، والمهم التذكر بالقلب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «١».
اذكره ضارعا متذللا خاضعا خائفا راجيا ثوابه، مع إتمام الاسم وعدم استعمال ما يخل. اذكره بلسانك وقلبك ذكرا دون الجهر وفوق السر، أى: اذكره وسطا بين هذا وذاك وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «٢».
وأنسب الأوقات للذكر وقت الصباح والمساء، وبقية النهار للعمل وتحصيل الرزق.
وإياك أيها المسلم أن تكون من الغافلين عن ذكر الله بقلبك، واعلم أن الذين عند ربك من الملائكة والمقربين لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه في الليل والنهار، وله وحده يسجدون!! فكيف بك؟! سجود التلاوة: يكون عند ما يسمع المسلم هذه الآية وأمثالها التي ستأتى، وقد شرعه الله لنا إرغاما لمن أبى السجود من المشركين واقتداء بالملائكة المقربين.
وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في سجوده: «اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني» «٣»
وروى أيضا «إذا قرأ ابن آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى فيقول: يا ويله: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» «٤»
ولسجود التلاوة أحكام في كتب الفقه.
(١) سورة الرعد آية ٢٨.
(٢) سورة الإسراء آية ١٠.
(٣) أخرجه ابن أبى شيبة ج ٢ ص ٢٠.
(٤) أخرجه مسلم في كتاب الايمان حديث رقم ١٣٣.
802
Icon