تفسير سورة الأعراف

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة الأعراف
وهي مائتان وست آيات مكية قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
المص قال ابن عباس يعني: أنا الله أعلم وأفصل معناه: أعلم بأمور الخلق وأفصل الأحكام والأمور والمقادير، وليس لي شريك في تدبير الخلق: ويقال: معناه أنا الله المصور.
ويقال: أنا الله الناصر. ويقال: أنا الله الصادق.
وروى معمر بن قتادة قال: إنه اسم من أسماء القرآن ويقال هو قسم كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني: أن هذا الكتاب أُنزل إليك يا محمد فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي: فلا يقعن في قلبك شك منه من القرآن أنه من الله عز وجل. فالخطاب للنبي ﷺ والمراد به غيره. كقوله:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: ٩٤]. ويقال:
فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبهم إياك. كقوله عز وجل:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٣٠] والحرج في اللغة هو الضيق.
ثم قال: لِتُنْذِرَ بِهِ على معنى التقديم يعني: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به أي لتخوف بالقرآن أهل مكة وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي. وعظة للمؤمنين الذين يتبعونك.
ثم قال: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي صدقوا، واعملُوا بما أنزل على نبيكم محمد ﷺ من القرآن ويقرءوه عليكم وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: ولا تتّخذوا من دون الله أرباباً، ولا تعبدوا غيره.
ثم أخبر عنهم فقال: قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ما: صلة في الكلام ومعناه: قليلاً تتعظون.
يعني: إنهم لا يتعظون به شَيْئاً. قرأ ابن عامر يَتَذَكَّرُونَ على لفظ المغايبة بالياء. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر تَذَكَّرُونَ بالتاء على معنى المخاطبة بتشديد الذال والكاف لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص تذكرون بتخفيف الذال، فأسقط التشديد للتخفيف.
ثم خوفهم فقال: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها معناه: وكم من أهل قرية وعظناهم فلم يتعظوا فأهلكناهم فَجاءَها بَأْسُنا أي جاءها عذابنا بعد التكذيب بَياتاً أي ليلاً. سمي الليل بياتاً لأنه يبات فيه أَوْ هُمْ قائِلُونَ عند القيلولة. فإن لم تتّعظوا أنتم يأتيكم العذاب ليلاً أو نهاراً كما أتاهم.
ثم أخبر عن حال من أتاهم العذاب فقال: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا أي لم يكن قولهم حين جاءهم العذاب ولم تكن لهم حيلة إلا أنهم تضرعوا قَالُواْ: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي ظلمنا أنفسنا بترك طاعة ربنا من التوحيد يعني: إن قولهم بعد ما جاءهم العذاب يعني: الهلاك لم ينفعهم فاعتبروا بهم. فإنكم إذا جاءكم العذاب لا ينفعكم التضرع.
ثم أخبر عن حال يوم القيامة فقال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: الأمم لنسألنهم هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم وماذا أجبتم الرسل؟ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عن تبليغ الرسالة. وهذا كقوله عز وجل: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: ٨] ثم قال تعالى:
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أي: فلنخبرنّهم بما عملوا في الدنيا ببيان وعلم منا وَما كُنَّا غائِبِينَ عَمّا بلغت الرسل وعما ردَّ عليهم قومهم. ومعناه: وما كنا نسألهم لنعلم ذلك ولكن نسألهم حجةً عليهم.
قوله:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ أَيّ وزن الأعمال يومئذ بالعدل فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي رجحت حسناته على سيئاته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الناجون. وتكلموا في وزن الأعمال. قال بعضهم: توزن الصحائف التي كتبها الحفظة في الدنيا. وقال بعضهم: يجعل للأعمال صورة وتوضع في الميزان. وقال بعضهم: هذا على وجه المثل وهو كناية عن التعديل، وهو قول المعتزلة. وقال بعضهم: قد ذكر الله تعالى الوزن فنؤمن به ولا نعرف كيفيته.
وروى بلال الحبشي عن حذيفة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ زِنْ بَيْنَهُمْ فَرَدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلا دِرْهَمَ يَوْمَئذٍ، وَلا فِضَّةَ، وَلا دِينَارَ، فَيَرُدُّ الظَّالِمُ عَلَى المَظْلُومِ مَا وَجَدَ لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ. فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ لَهُ حَسَنَةٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ المَظْلُومِ فَتُرَدُّ عَلَى الظَّالِمِ فَيَرْجِعُ الظَّالِمُ وَعَلَيْهِ سَيِّئاتٌ مِثْلُ الجَبَلِ».
وروي عن ابن عباس أنه قال: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان. فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، وتثقل حسناته على سيئاته. وأما الكافر فيؤتى بعمله في أقبح صورة، وتثقل سيئاته على حسناته. وقال بعضهم: لا يوزن عمل الكافر، وإنما توزن الأعمال التي بإزائها الحسنات.
ثم قال تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي رجحت سيئاته على حسناته فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي غبنوا حظ أنفسهم بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ بما كانوا بآياتنا يجحدون، بأنه ليس من الله تعالى. وقد ذكر الموازين بلفظ الجمع. قال بعضهم: لأن المراد بها جميع الموزون. وقال بعضهم: أراد به الميزان لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين والخيوط.
وقد ذكر باسم الجماعة.
قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي مكناكم في الأرض وعمرناكم، فذكر لهم التهديد، ثم ذكر لهم النعم ليستحيوا من ربهم ولا يعصوه وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ يعني:
الرزق وهو ما يخرج من الأرض من الكروم والثمار والحبوب.
وروى خارجة عن نافع أنه قرأ معائش بالهمز لأنه على ميزان فعائل مثل الكبائر والصغائر. وقرأ الباقون بغير همز، لأنّ الياء أصلية وكان على ميزان مفاعل. ثم قال: قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ يعني: إنكم لا تشكرون هذه النعمة.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١ الى ١٨]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
504
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي: خلقنا آدم وأنتم من ذريته، ثُمَّ صورناكم يعني:
ذريته. ويقال: خَلَقْناكُمْ يعني: آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعني: آدم صوره بعد ما خلقه من طين. ويقال: خَلَقْناكُمْ نطفاً في أصلاب الآباء ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في أرحام الأمهات.
ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ على وجه التقديم أي: وقلنا للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ ثُمَّ بمعنى الواو. ويقال: معناه خلقناكم وصورناكم وقلنا للملائكة: اسجدوا لادم وهي سجدة التحية لا سجدة الطاعة فالعبادة لله تعالى، والتحية لآدم عليه السلام فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي لم يسجد مع الملائكة لآدم عليه السلام قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يعني: أن تسجد ولا زيادة. ومعناه: ما منعك عن السجود إذ أمرتك بالسجود لآدم قالَ إبليس عليه اللعنة: إنما لم أسجد لأنّي أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي هذا الذي منعني عن السجود. فاشتغل اللعين بالقياس والقياس في موضع النص باطل، لأنه لما أقرّ بأنه هو الذي خلقه. فقد أقرّ بأن عليه واجب وعليه أن يأتمر بأمره. ومع ذلك لو كان القياس جائزاً في موضع النص، فإن قياسه فاسداً، لأنّ الطين أفضل من النار، لأنّ عامة الثمار والفواكه والحبوب تخرج من الطين، ولأن العمارة من الطين والنار للخراب.
ثم قال له عز وجل: فَاهْبِطْ مِنْها قال مقاتل: أي اهبط من الجنة فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي في الجنة. وقال الكلبي: فاهبط منها أي اخرج من الأرض والحق بجزائر البحور، ولا تدخل الأرض إلا كهيئة السارق وعليه ذل الخوف وهو يروغ فيها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، لا ينبغي لك أن تتكبر في هذه الأرض على بني آدم فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني: من المهانين المذلين قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني: أجلني إلى يوم البعث، اليوم الذي يخرج الناس من قبورهم. قال ابن عباس: أراد الخبيث ألا يذوق الموت، فأبى الله تعالى أن يعطيه ذلك. ف قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلى النفخة الأولى، فحينئذٍ يذوق
505
الموت وتصيبه المرارة بعدد الأولين والآخرين. قوله تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي قال الكلبي:
أي فكما أضللتني. وقال مقاتل: يعني أما إذا أضللتني. وقال بعضهم: فبما أغويتني يعني:
فبما دعوتني إلى شيء غويت به. لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يعني: لأقعدن لهم على طريقك المستقيم، وهو دين الإسلام فأصدّ الناس عن ذلك. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ روى أسباط عن السدي قال: من بين أيديهم الدنيا أدعوهم إليها وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة أشككهم فيها وَعَنْ أَيْمانِهِمْ قال الحق: أشككهم فيه وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال: الباطل أخففه عليهم وأرغبهم فيه.
وقال في رواية الكلبي: ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أيديهم من أمر الآخرة، فأزيّن لهم التكذيب بالبعث بأنه لا جنة ولا نار، ومن خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا فأزينها في أعينهم وأرغبهم فيها، فلا يعطون حقاً عن أيمانهم أي: من قبل دينهم فإن كانوا على الضلالة زيّنتها لهم، وإن كانوا على الهدى شبّهته عليهم حتى يشكوا فيه وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل اللذات والشهوات. ويقال:
معناه لآتينهم بالإضلال من جميع جهاتهم ويقال: عَنْ أَيْمانِهِمْ فيما أمروا به وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فيما نهوا عنه. ويقال: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي: فيما يعملون لأنه يقال عملت بذلك وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يعني ذرية آدم لا يكونون شاكرين لنعمتك، ويقال شاكرين مؤمنين وقال في آية أخرى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: ٢٠] قوله: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً قال الكلبي ومقاتل: يعني اخرج من الجنة مذءوما أي معيباً مدحوراً أي: مطرودا. وقال الزجاج: مذءوما أي مذموماً.
يقال: دأمت الرجل وذممته إذا عبته مدحوراً أي: مبعداً من رحمة الله تعالى. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي: مَنْ أطاعك فيما دعوته إليه. واللام زيادة للتأكيد لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي: ممن أطاعك منهم من الجن والإنس، ويكون هذا اللفظ بمعنى القسم والتأكيد وأنه يفعل ذلك لا محالة.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
506
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ يعني: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما أي: من حيث أحببتما موسعاً عليكما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يعني: لا تأكلا من هذه الشجرة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فتصيرا من الضارين بأنفسكما.
قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي: زيّن لهما الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما يعني: أراد إبليس لعنه الله بالوسوسة ليظهر ما سترا من عوراتهما، والسوأة كناية عن العورة. وذلك أن إبليس لما رأى محسوده في الجنة ورأى نفسه طريداً لم يصبر، واحتال لإخراجهما فأتاهما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ يعني: أنكما لو أكلتما تصيران كالملكين تموتان أبداً أو تكونا كالملائكة وتعلمان الخير والشر. أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ يعني: إن لم تكونا مَلَكَيْنِ فتكونا من الخالدين لا تموتان.
وقرأ بعضهم مَلِكَيْنِ بالكسر كما قال: في آية أخرى وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلى [طه: ١٢٠] وهي قراءة يحيى بن كثير وهي قراءة شاذة.
قوله: وَقاسَمَهُما أي حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ بأنها شَجَرَةِ الخلد من أكل منها لم يمت. وكان آدم لم يعلم أن أحداً يحلف بالله كاذباً فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي: غرّهما بباطل ويقال: زَيَّنَ لهما. وأصله في اللغة من التقريب يعني: قربهما إلى الشجرة فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ يقول: فلما أكلا من الشجرة ووصل إلى بطونهما تهافت لباسهما عنهما بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهرت عوراتهما، وإنما سميت العورة سوأة لأن كشف العورة قبيح.
قال الفقيه: حدّثنا أبو جعفر. قال: حدثنا أبو القاسم أحمد بن حم قد ذكر بإسناده عن أبَيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ آدَمَ كَانَ رَجُلاً طَوِيلاً كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا وَقَعَ في الخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ سَوْأَتهُ، وَكَانَ لاَ يَرَاها قَبْلَ ذلك، فَانْطَلَقَ هَارِباً فِي الجَنَّةِ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الجَنَّةِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا آدَمُ أَتَفِرُّ مِنِّي؟ قَالَ: يَا رَبّ إِنِّي أَسْتَحِي». وفيه دليل أن ستر العورة كان واجباً من وقت آدم لأنه لما كشف عنهما سترا عوراتهما بالأوراق فذلك قوله:
وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي أقبلا وعمدا يلصقان عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة
507
يعني: من ورق التين يطبقان على أبدانهما ورقة ورقة منه. يقال: خصف نعله وهو إطباق طاق على طاق وأصل الخصف الضم والجمع. والخصف إنما هو إلصاق الشيء بالشيء ولهذا قيل:
خصاف. وقرأ بعضهم وطفَقَا بالنصب وهما لغتان طَفِقَ يَطْفَقُ وطَفَق يَطْفِقُ وَناداهُما رَبُّهُما أي قال: لهما ربهما: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي عن أكل تلك الشجرة وَأَقُلْ لَكُما يعني: ألم أقل لكما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
قوله عز وجل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بأكلنا الشجرة فاغفر لنا وتجاوز عن معصيتنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا يعني: إن لم تتجاوز عن ذنوبنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بالعقوبة فهذه لام القسم كأنهما قالا: والله لنكونن من الخاسرين إن لم تغفر لنا وترحمنا. وقد ذكر الله تعالى قبول توبتهما في سورة البقرة. وهو قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ [البقرة: ٣٧] أي قبل توبته.
وفي الآية دليل أن الله تعالى يعذب عباده إذا أصروا على الذنوب ويتجاوز عنهم إذا تابوا، لأن إبليس لم يتب، وسأل النظرة، فجعل مأواه جهنم. وتاب آدم ورجع عن ذنبه فقبل توبته.
قوله: قالَ اهْبِطُوا يعني: آدم وحواء عليهما السلام وإبليس لعنه الله بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني: إبليس عدوّ لآدم وحواء وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي: منزل وموضع القرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: معاش إلى وقت الموت.
قوله تعالى: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ أي: في الأرض تعيشون وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ من الأرض من قبوركم يوم القيامة. قرأ الكسائي وابن عامر يَخْرُجُونَ بنصب الياء وضم الراء وقرأ الباقون بضم الياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
508
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يقول خلقنا لكم الثياب يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعني يستر عوراتكم، ويقال معناه أنزلنا عليكم المطر ينبت لكم القطن والكتَّان لباساً لكم وَرِيشاً قرأ الحسن البصري ورياشاً بالألف. وقرأ غيره وريشاً بغير ألف وقال القتبي: الريش والرياش ما ظهر من اللباس، وريش الطائر ما ستره الله به. ويقال: الرياش: المال والمعاش. قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل. قال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي أمامة عن عوف بن أبي جميلة عن معبد الجهني في قوله: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً قال:
هو ما تلبسون ورياشاً قال المعاش وَلِباسُ التَّقْوى هو الحياء ذلِكَ خَيْرٌ أي لباس التقوى وهو الحياء خير من الثياب، لأن الفاجر إنْ كان حسن الثياب فإنه بادي العورة ألا ترى إلى قول الشاعر حيث يقول:
إني كأني أرى من لا حياء له ولا أمانة وسط القوم عريانا
وقال القتبي: لِباسُ التَّقْوى أي ما ظهر عليه من السكينة والوقار والعمل الصالح كما قال: لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: ١١٢] أي ما ظهر عليهم من سوء آثارهم وتغيُّر حالهم.
ويقال: لِباسُ التَّقْوى الإيمان. ويقال: العفة. قرأ نافع والكسائي وابن عامر لِباسُ التَّقْوى بالنصب يعني: أنزل لباس التقوى ومعناه: ستر العورة. وقرأ الباقون بالضم لِبَاسُ على معنى الابتداء. ويقال: فيه مضموم يعني: هو لِباسُ التَّقْوى ومعناه: ستر العورة أي لباسُ المتقين. وقرأ عبد الله بن مسعود وَلِباسُ التَّقْوى خير. وقال مجاهد: كان أناس من العرب يطوفون حول البيت عراة فنزل قوله تعالى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً يعني: من المال. ويقال: معنى قوله: ذلِكَ خَيْرٌ يعني: اللباس خير من تركه لأنهم كانوا يطوفون عراة.
قوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي من نعم الله على الناس، ويقال: من عجائب الله ودلائله. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: يتّعظون.
قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ يقول: لا يضلّنّكم الشيطان عن طاعتي فيمنعكم من الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ حين تركا طاعتي وعصيا أمري يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما يعني: لا يفتنّنكم الشيطان عن دينكم في أمر الثياب فينزعها عنكم، فتبدو عوراتكم، كما فعل بأبويكم، نزع عنهما لباسهما وأظهر عورتهما. وقال بعض الحكماء:
509
إنّ المعصية شؤم تضر بصاحبها فتجعله عرياناً كما فعلت بآدم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني: كونوا بالحذار منه، فإنه يراكم هو أي إبليس وجنوده من الشياطين من حيث لا ترونهم. يعني: كونوا على حذر لأنه يجري من بني آدم مجرى الدم وذكر أن إبليس لما لعن قال رب: إنّك باعث إلى بني آدم رسلاً وكتباً، فما رسلي؟ قال: الكهنة. قال: فما كتابي؟
قال: الوشم. قال: فما قراءتي قال: الشعر قال: فما مسجدي؟ قال: السوق. قال: فما مؤذني؟ قال: المزامير. قال: فما بيتي؟ قال: الحمام. قال: فما مصائدي؟ قال النساء. قال:
فما طعامي؟ قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما شرابي؟ قال: كل سكر.
قوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يعني: قرناء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي لا يصدقون بالآخرة وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني: المشركين حرموا على أنفسهم أشياء قد أحل الله لهم، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، قالوا: لا نطوف في ثياب قد أذنبنا فيها وكان رجالهم يطوفون بالنهار ونساؤهم بالليل وإذا طافت المرأة بالنهار اتخذت إزاراً من سير وكانت تبدو عورتها إذا مشت وكانت تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
وإذا قيل لهم لم فعلتم هكذا قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها يعني: بتحريم هذه الأشياء وبالطواف عراة قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي المعاصي أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أي أتكذبون على الله وتقولون بغير علم؟
ثم بيّن لهم ما أمرهم الله تعالى به. فقال عز وجل: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالعدل والصواب. وكلمة التوحيد وهي شهادة ألاّ إله إلاّ الله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وقل: أقيموا وجوهكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي حوّلوا وجوهكم إلى الكعبة عند كل صلاة. وقال الكلبي: يعني إذا حضرت الصلاة وأنتم في مسجد فصلوا فيه، فلا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي. وإذا لم يكن في مسجد فليأت أي مسجد شاء. قال مقاتل: يعني: حوّلوا وجوهكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يقول: وحدوه واعبْدُوه بالإخلاص. ويقال: أن أهل الجاهلية كانوا يشركون في تلبيتهم، ويقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فأمرهم الله أن يوحّدوه في التلبية مخلصين له الدين.
ثم قال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي ليس كما تشركون. فاحتج عليهم بالبعث متصلاً بقوله: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي ليس بعثكم بأشد من ابتدائكم. وقال الحسن: كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة. ويقال: كَما بَدَأَكُمْ يوم الميثاق من التصديق والتكذيب تَعُودُونَ إلى
510
ذلك. حيث قال: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي». ويقال: كَما بَدَأَكُمْ فخلقكم من التراب تَعُودُونَ تراباً بعد الموت. وقال ابن عباس: كَما بَدَأَكُمْ مؤمناً وكافراً وشقياً وسعيداً كذلك تموتون عليه وتبعثون عليه.
ثم قال: فَرِيقاً هَدى وهم المؤمنون فعلم الله تعالى منهم الطاعة ويكرمهم بالمعرفة وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي وجب عليهم الضلالة، فخذلهم ولم يكرمهم بالتوحيد حيث علم منهم المعصية والكفر إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ يعني: لأنهم اتخذوا الشياطين أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: اتخذوهم أولياء وأطاعوهم بالمعصية وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي يظنون أنهم على الهدى. قال الزجاج: فيه دليل أن من لا يعلم أنه كافر وهو كافر يكون كافراً لأن بعضهم قال: لا يكون كافراً وهو لا يعلم. وذلك القول باطل لأن الله تعالى قال: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: ٢٧] وقال: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي البسوا ثيابكم واستروا عوراتكم عند كل صلاة. قال السدي: كان هؤلاء والذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون الودك. فقال الله تعالى:
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا في التحريم. ويقال: الإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله أو يأكل مما يحل له أكله فوق القصد ومقدار الحاجة. وقيل لبعض الأطباء: هل وجدت الطب في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم قد جمع الله الطب كله في هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ثم قال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي لا تحرموا ما أحل الله لكم، فإنَّ المحرم ما أحل الله كالمحل ما حرم الله تعالى.
قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وهو أنه لما نزل قوله: خُذُوا
زِينَتَكُمْ
لبسوا الثياب وطافوا بالبيت مع الثياب فعيرهم المشركون، فنزل قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ يعني: لبس الثياب الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي خلقها لهم لعباده أي أوجد. وقيل: أظهر وقيل على حقيقته كان في السماء أو في الأرض فأخرجه. وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ يعني:
الحلال وهو اللحم والشحم والدسم قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا قال مقاتل: في الآية تقديم.
ومعناه: قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قرأ نافع: خَالِصَةٌ بضم التاء وقرأ الباقون بالنصب خَالِصَةً فمن قرأ بالضم فهو خبر بعد خبر يعني: هي ثابتة لهم خالصة أي ثابتة. معناه: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشترك فيها المؤمن والكافر وهي خالصة للمؤمنين يوم القيامة وقال القتبي: هذا من الاختصار ومعناه: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وفي الآخرة خالصة ثم قال: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني: العلامات ويقال: نبيّن الآيات من أمره ونهيه وما يكون في الدنيا والآخرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون أمر الله تعالى.
ثم أخبرهم بما حرّم عليهم فقال: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ يعني: المعاصي. ويقال الإثم يعني: الخمر كما قال القائل:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
وَالْبَغْيَ يعني: حرم الاستطالة وظلم الناس بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ يقول:
وحرّم أن تشركوا بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يقول: ما لم ينزل به كتاباً فيه عذركم وحجة لكم وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي وحرم عليكم أن تقولوا على الله ما لاَ تَعْلَمُونَ أنه حرم عليكم.
ثم خوفهم فقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعني: لكل أهل دين مُهلة للعذاب فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ بالعذاب لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً بعد الأجل وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ساعة قبل الأجل.
ثم قال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
512
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ وأصله إنْ ما ومعناه متى ما يأتيكم رُسُلٌ مِنْكُمْ أي: من جنسكم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي أي يقرءون عليكم، ويعرضون عليكم كتابي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ أي: اتقى الشرك وأطاع الرسول وأصلح العمل، يعني: فمن اتقى عما نهى الله عنه وأصلح أي: عمل بما أمر الله تعالى به فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني: لا خوف عليهم من العذاب وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات الثواب. ويقال: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من الدنيا ويقال معناه إمَّا يأتينَّكم رسل منكم وأيقنتم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلكم، فذكر الله ثواب من اتقى وأصلح.
ثم بيّن عقوبة من لم يتق فقال عز وجل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي تعظموا عن الإيمان، فلم يؤمنوا بالرسل وتكبروا عن الإيمان أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: دائمون.
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ قال الكلبي: فمن أكفر. وقال بعضهم: هذا التفسير خطأ لأنه لا يصح أن يقال هذا أكفر من هذا. ولكن معناه: ومن أشد في كفره. ويقال: فلا أحد أظلم.
ويقال: أي ظلم أشنع وأقبح مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: من اختلق على الله كذباً أي:
شركا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ جحد بالقرآن أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي: حظهم من العذاب. ويقال نَصِيبُهُمْ حظهم مما أوعدهم اللَّه في الكتاب الإهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: هو ما ذكر في موضع آخر وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. ويقال: نَصِيبُهُمْ أي ما قضي وقدر عليهم في اللوح المحفوظ من السعادة والشقاوة. ويقال: نَصِيبُهُمْ رزقهم وأجلهم في الدنيا حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يعني: أمهلهم حتى يأتيهم ملك الموت وأعوانه عند قبض أرواحهم. ويقال: يقول لهم خزنة جهنم قبل دخولها قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ يعني: أن الملائكة يقولون ذلك عند قبض أرواحهم مِنْ دُونِ اللَّهِ يمنعونكم من النار قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي اشتغلوا عنا بأنفسهم
513
وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ في الدنيا، وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم.
ثم قال: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: قالت لهم خزنة النار: ادخلوا النار مع أمم قد مضت على مذهبكم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ يعني: النار أُمَّةٌ جماعة لَعَنَتْ أُخْتَها أي: على الأمة التي دخلت قبلها في النار. قال مقاتل: يعني لعنوا أهل ملتهم يلعن المشركون المشركين والنصارى النصارى. وقال الكلبي: تدعو على الأمم التي قبلهم في النار يبدأ بالأمم الأولى فالأولى، ويبدأ أولاً بقابيل وولده. ويقال: يبدأ بالأكابر فالأكابر مثل فرعون كما قال في آية أخرى ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مريم: ٦٩].
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً يعني: اجتمعوا في النار وأصله تداركوا فيها يعني:
اجتمع القادة والأتباع في النار وقرأ بعضهم حَتَّى إذَا أَدْرَكُوا فيه أي دخلوا في إدراكها، كما يقال أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وهي قراءة شاذة قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ أي: قال أواخر الأمم لأولّهم. ويقال: قالت الأتباع للقادة والرؤساء رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا عن الهدى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي: أعظم زيادة من العذاب قالَ الله تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ أي: على القادة زيادة من العذاب ولكن لا تعلمون ما عليهم. قرأ عاصم في رواية أبي بكر وَلكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ بالياء أي: لا يعلم فريق منهم عذاب فريق آخر وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ أي: أولهم دخولاً لآخرهم دخولاً. ويقال: القادة للأتباع فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في شيء كفرتم كما كفرنا، فنحن وأنتم سواء في الكفر ضللتم كما ضللنا.
قال الله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ ويقال: يقول الخزنة فذوقوا العذاب. ويقال: هذا قول بعضهم لبعض فَذُوقُواْ العذاب بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: تكفرون في الدنيا بترككم الإيمان.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
514
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بمحمد ﷺ والقرآن وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها يعني: استكبروا عن قبولها. ويقال: عن النظر فيها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لأعمال الكفار أي: ليس لهم عمل صالح يفتح لهم أبواب السماء ويقال: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا ماتوا. وقال بعضهم: أبواب السماء أي أبواب الجنة وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الجمل. فقال: زوج الناقة. وقال الضحاك:
الجمل الذي له أربع قوائم. وقال بعض الناس: الجمل هو أشتر بالفارسية وقال الحسن: هو ولد الناقة وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قرأ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة الغليظ. وسئل عكرمة عن قوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ قيل:
وما الجمل؟ قال: الحبل الذي يصعد به النخل. قال سعيد بن جبير هو حبل السفينة الغليظ.
قرأ أبو عمرو لا تُفْتَحْ بالياء بلفظ التذكير بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتاء المشددة. فمن قرأ بالتأنيث فلأنها من جماعة الأبواب. ومن قرأ بالتذكير فلأن الفعل مقدم. ومن قرأ بالتشديد أراد به تكثير الفتح. ومن قرأ بالتخفيف فتفتح مرة واحدة وقرأ بعضهم في سُمِّ بضم السين وهي قراءة شاذة وهما لغتان قال أبو عبيدة: كل ثقب فهو سم.
ثم قال عز وجل: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي هكذا نعاقب المشركين. ثم ذكر ما أوعدهم في النار فقال عز وجل: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي: فراش من النار وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي يغشاهم النار من فوق رؤوسهم ومعناه: أن من تحتهم ناراً ومن فوقهم ناراً.
كقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: ١٦] ويقال: لهم من جهنم مهاد أي حظهم من جهنم كالمهاد، فأخبر عن ضيق مكانهم في النار وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ نعاقب الكافرين.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وذلك أن الله تعالى لما أخبر عن حال الذين كذبوا بآياته واستكبروا عن قبولها أخبر عن حال الذين آمنوا بآياته. فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: صدقوا وعملوا الصالحات أي الطاعات والأعمال الصالحة لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: لا نكلف نفساً بعد الإيمان من العمل إلا بقدر طاقتها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني: دائمون.
ثم قال عز وجل: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قال بعضهم: أي في الدنيا أخرج الله تعالى الغل والحسد من قلوبهم، وألف بين قلوبهم كما قال الله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
515
بَيْنَهُمْ
[الأنفال: ٦٣] ويقال: هذا في الجنة يخرج الغل والحسد من قلوبهم. قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعليّ ونحوهم من أصحاب رسول الله ﷺ ومن تابعهم على سنتهم ومنهاجهم إلى يوم القيامة. وقال علي بن أبي طالب لعمران بن طلحة بن عبيد الله: أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى فيهم:
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فأنكر عليه بعضهم. فقال عليّ:
إن لم نكن نحن فمن هم؟ يعني: إن الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ لم يكن في قلوبهم من الغل حتى ينزع عنهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي من تحت غرفهم وقصورهم وأشجارهم الانهار وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي أكرمنا بهذه الكرامة. ويقال: إن الذي وفقنا للأمر الذي أوجب لنا هذا الثواب وهو الإسلام. ويقال: هدانا لهاتين العينين.
وذلك أن أهل الجنة لما انتهوا إلى باب الجنة، فإذا هم بشجرة تنبع من ساقها عينان، فيعمدون إلى إحداهما، فيشربون منها، فيخرج الله تعالى ما كان في أجوافهم من غل وقذر فذلك قوله تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: ٢١] ثم يعمدون إلى الأخرى فيغتسلون فيها فيطيب الله تعالى أجسادهم من كل درن وحسد وجرت عليهم نضرة ولا تشعث رؤوسهم، ولا تغبر وجوههم، ولا تشحب أجسادهم أبداً، تتلقاهم خزنة الجنة فينادون في التقديم أي: قبل أن يدخلوها أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
فقالوا بعد ما اغتسلوا من العينين الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي: وفقنا حتى اغتسلنا من هاتين العينين. ويقال: لما دخلوا الجنة ونظروا إلى كراماتها قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا يعني: لهذا الثواب وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي: ما كنا لولا أن وفقنا الله. ذلك أنهم علموا أن الله تعالى له عليهم المن والفضل فيما أعطاهم. قرأ ابن عامر مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بغير واو على الاستئناف. وقرأ الباقون والواو وعلى معنى العطف.
لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ يعني: جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فصدقناهم وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ قال بعضهم: قبل أن يدخلوها قال لهم خزنة الجنة تلكم الجنة التي وعدتم.
ويقال بعد ما دخلوا بها يقال لهم: تلك الجنة أي: هذه الجنة التى أُورِثْتُمُوها يعني:
أنزلتموها بإيمانكم واقتبستموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا. وهذا كما روي في الخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: «جُوزُوا الصِّراطَ بِعَفْوِي وَادْخُلُوا الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوها بِأَعْمَالِكُمْ».
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
516
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا أي: ما وعدنا يعني: في الدنيا من الثواب وجدناه صدقاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا أي صدقاً قالُوا نَعَمْ فاعترفوا على أنفسهم في وقت لا ينفعهم الاعتراف. قرأ الكسائي قالوا: نَعِمْ بكسر العين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالنصب. وروي عن عمر أنه سمع رجلاً يقول: نَعَمْ بالنصب فقال له عمر: النَّعَم المال، وقل: نَعِمْ يعني: بكسر العين وروى الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال: ما كانت أشياخ قريش إلا يقولون: نَعِمْ فماتت يعني: اللغة فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وذلك أنه ينادي منادٍ بين الجنة والنار تسمعه الخلائق كلهم إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المحسنين ولعنة الله على الظالمين أي: كرامة الله وفضله وإحسانه على المؤمنين وعذاب الله مع عقابه على الكافرين.
ثم قال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الناس عن دين الله، وهو الإسلام وهم الرؤساء منهم منعوا أتباعهم عن الإيمان وَيَبْغُونَها عِوَجاً يقول يريدون بملة الإسلام غيراً وزيفاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ يعني: أنهم كانوا جاحدون بالبعث. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي أنَّ لَعْنَةَ الله بالتشديد ونصب الهاء. وقرأ الباقون أنَّ لَعْنَةُ بتخفيف أَنْ وضم الهاء.
قوله: وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين أهل الجنة وأهل النار سور وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ.
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الأعراف سور كعرف الديك. وقال القتبي: الأعراف سور بين الجنة والنار، وسمي بذلك لارتفاعه، وكل مرتفع عند العرب أعراف. وقال السدي: إنما سمّي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس. روي عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: «هُمْ قَوْمٌ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله فِي مَعْصِيةِ آبائِهِمْ فَمَنَعَهُمْ مِنَ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَنَعَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ مَعْصِيَتُهُمْ آبَاءَهُمْ». وعن حذيفة بن اليمان أنه قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يكن لهم حسنات فاضلة يدخلون بها الجنة ولا سيئات فاضلة يدخلون بها النار.
وهذا القول أيضاً روي عن ابن عباس مثل هذا. وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: هم أولاد الزنى. وروي عن أبي مجلز أنه قال: هم الملائكة. فبلغ ذلك مجاهداً فقال: كذب أبو مجلز يقول الله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ فقال أبو مجلز: لأن الملائكة ليسوا بإناث ولكنهم عباد الرحمن. قال الله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩].
يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ يعني: أن أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة إذا مروا بهم ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم والسيما هي العلامة وَنادَوْا أَصْحابَ
517
الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
يعني: فإذا مرّ بهم زمرة من أهل الجنة قالوا: أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني: إن أهل الأعراف يسلّمون على أهل الجنة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ يعني: أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أنْ يَدخلوها. وقال الحسن: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدهم بها. ويقال: لم يدخلوها يعني: أهل الجنة لم يدخلوها حتى يسلم عليهم أهل الأعراف وهم يطمعون في دخولها. ويقال: أهل النار لم يدخلوها أبداً وهم يطمعون وطمعهم أن أفيضوا علينا من الماء.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٧ الى ٥٣]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قال: من سرعة ما انصرفوا كأنهم صرفوا، تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ يعني: أنهم إذا نظروا قِبَلَ أصحاب النار أي تلقاء أصحاب النار قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: مع الكافرين في النار وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني: في النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ في الدنيا وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي ما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان. وقرأ بعضهم وما كنتم تستكثرون. يعني تجمعون المال الكثير. وهي قراءة شاذة.
518
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يعني: أنّ أهل الأعراف يقولون: يا وليد ويا أبا جهل: أهؤلاء؟ يعني: صهيباً وبلالاً والضعفة من المسلمين الذين كنتم تحلفون لا ينالهم الله برحمة. يعني: إنَّهم لا يدخلون الجنة.
ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. وعن أبي مجلز أنه قال: وعلى الأعراف رجال من الملائكة، نادوا أصحاب الجنة قبل أن يدخلوها سلام عليكم لم يدخلوها. وهم يطمعون دخولها يعني: في الجنة. وإذا نظروا إلى أصحاب النار حين مروا بهم قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من المشركين يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يعني: لأهل الجنة. قال مقاتل: فأقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم. فقالت الملائكة لأهل النار:
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟. ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة. ويقال: إن أهل النار يقولون لأهل الأعراف: ما أغنى عنكم جمعكم وعملكم وأنتم والله تكونون معنا في النار ولا تدخلون الجنة؟. فيقول الملائكة لأهل النار: أهؤلاء الذين أقسمتم يعني، أصحاب الأعراف لا ينالهم الله برحمته. ثم يقال: لأصحاب الأعراف:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
قوله عز وجل: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي اسقونا من الماء أو شيئاً من الفواكه وثمار الجنة فإنّ فينا من معارفكم. فعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب. فأجابهم أهل الجنة: قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ يعني: الماء والثمار. وروي في الخبر أنَّ أبا جهل بن هشام بعث إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يستهزئ به: أطعمني من عنب جنتك أو شيئاً من الفواكه.
فقال لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه-: «قُلْ لَهُ: إنَّ الله حَرَّمَهُما عَلَى الكَافِرِينَ».
ثم وصفهم عز وجل فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً أي: اتخذوا الإسلام باطلاً ودخلوا في غير دين الإسلام. ويقال: اتخذوا عبداً لهواً وفرحاً. وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي:
غرّهم ما أصابهم من زينة الدنيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم في النار كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي: كما تركوا العمل ليومهم هذا. ويقال: كما تركوا الإيمان ليومهم هذا يعني: أنكروا البعث وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعني: بجحدهم بآياتنا بأنها ليست من عند الله تعالى- قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ أي: أكرمناهم بالقرآن فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ يعني: بيّنا فيه الآيات، الحلال والحرام عَلى عِلْمٍ أي: بعلم منا هُدىً يعني: بياناً من الضلالة.
ويقال: جعلناه هادياً. وَرَحْمَةً أي: نعمة ونجاة من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: لمن
519
آمن وصدق به. يعني: أكرمناهم بهذا الكتاب فلم يؤمنوا ولم يصدقوا. وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين يهتدون به ويستوجبون به الرحمة. ثم قال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ عاقبة ما وعدهم الله. وهو يوم القيامة.
يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ يقول: الذين تركوا العمل والإيمان مِنْ قَبْلُ يعني: في الدنيا قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وذلك أنهم حين عاينوا العذاب، وذكروا قول الرسل، وندموا على تكذيبهم إياهم. يقولون: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. أي بأمر البعث فكذبناهم فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا لأنهم يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين، فيقال لهم: ليس لكم شفيع. فيقولون: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي: هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل ونعمل غير الشرك فَنَعْمَلَ صار نصباً لأنه جواب الاستفهام، وجواب الاستفهام إذا كان بالفاء فهو نصب. وكذلك جواب الأمر والنهي. يقول الله تعالى: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي:
قد غبنوا حظ أنفسهم وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يكذبون بأن الآلهة شفعاؤهم عند الله.
قوله:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وذلك أن النبي ﷺ لما عيّر المشركين بعبادة آلهتهم، ونزل قوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: ٧٣] وقوله: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: ٤١] سألوا رسول الله ﷺ فقالوا: من ربك الذي تدعونا إليه؟
وأرادوا أن يجحدوا في اسمه طعناً أو في شيء من أفعاله فنزلت هذه الآية. فتحيروا وعجزوا عن الجواب. فقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ أي خالقكم ورازقكم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. قال ابن عباس أي من أيام الآخرة. طول كل يوم ألف سنة. وقال الحسن البصري: من أيام الدنيا. ويقال: يعني في ست ساعات من ستة أيام من أطول أيام الدنيا، ولو شاء أن يخلقها في ساعة واحدة لخلقها، ولكن علَّم عباده التأني والرفق والتدبير في الأمور.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال بعضهم: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله.
وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله: الإيمان به. وذكر أن رجلاً دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] فقال: الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً.
520
فأخرجوه. وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا. وقد تأوله بعضهم وقال ثُمَّ بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف، لا على معنى التراخي والترتيب. ومعنى قوله: اسْتَوى أي استولى، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني: استولى عليه فكذلك هذا. معناه:
خالق السموات والأرض، ومالك العرش. ويقال: ثم صعد أمره إلى العرش. وهذا معنى قول ابن عباس. قال صعد على العرش. يعني: أمره، ويقال قال له: كن فكان، ويقال: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، ويكون عَلَى بمعنى العلو والارتفاع، ويقال استوى يعني استولى. وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح. فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلق ما شاء. ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض. وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم، كما خلق الكعبة علماً لعبادتهم، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة. فكذلك خلق العرش علماً لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم.
ثم قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يعني: إن الليل يأتي على النهار فيغطيه ولم يقل يغشي النهار الليل لأن في الكلام دليلاً عليه. وقد بيّن في آية أخرى يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: ٥] فكذلك هاهنا معناه يغشي النهار الليل ويغشي الليل النهار. يعني: إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر يُغْشِي بتشديد الشين ونصب الغين.
وقرأ الباقون بجزم الغين مع التخفيف، وهما لغتان غَشَّى ويُغَشِّي وأَغْشَى يُغْشِي بقوله يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي: سريعاً في طلبه أبداً ما دامت الدنيا باقية. ثم قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي جاريات مذللات لبني آدم بأمره.
قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ كلها بالضم على معنى الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب. ومعناه خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ. ثم قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ألا كلمة التنبيه، يعني: اعلموا أن الخلق لله تعالى، وهو الذي خلق الأشياء كلها وأمره نافذ في خلقه. قال سفيان بن عيينة: الخلق هو الخلق والأمر هو القرآن وهو كلام الله، وليس بمخلوق، ولا هو بائن منه، وتصديقه قوله: ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: ٥] ويقال:
الأمر هو القضاء، ثم قال تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني:
تعالى الله عما يقول الظالمون، ويقال تبارك الله تفاعل من البركة أي: ذو البركة يعني: أن البركة كلها من الله تعالى. والبركة فيما يذكر عليه اسم الله رب العالمين. أي: سيد الخلق أجمعين فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم بأن يدعوه فقال:
521

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً قال الكلبي: يعني في الأحوال كلها. يعني: ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها. ويقال خفية يعني: اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة.
ثم قال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يعني: أن يدعوا بما لا يحل أو يدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر. ثم قال: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبياً فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها، وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها، ويقال: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أي لا تجوروا في الأرض فتخرب الأرض لأن الأرض قامت بالعدل، ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعات وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً يعني اعبدوه خوفاً وطمعاً أي: خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته:
ويقال: ادعوه في حال الخوف والضيق، ويقال: خوفاً عن قطيعته ورجاء إلى الغاية.
ثم قال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ولم يقل قريبة. قال بعضهم: لأن القريب والبعيد يصلحان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث. كما قال: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: ٦٣] وقال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٣] وقال بعضهم: تفسير الرحمة هاهنا المطر. فذكر بلفظ المذكر، وقال بعضهم إن رحمة الله قريب. يعني الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى. ومعناه: المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون.
ثم قال وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.
قرأ حمزة والكسائي الريح بلفظ الوحدان. وقرأ الباقون الرياح بلفظ الجماعة. واختار أبو عبيد أن كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما كان فيه ذكر العذاب فهو ريح. واحتج بما روي عن النبيِّ- عليه السلام-: أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذا هَبَّتِ الرِّيحُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا ولا تجعلها ريحا».
وقرأ ابن عامر نُشْراً بضم النون وجزم الشين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع نُشُراً بضمتين.
وقرأ حمزة والكسائي نشراً بنصب النون وجزم الشين.
وقرأ عاصم بشراً بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: ٤٦].
ومن قرأ نَشْراً بالنون والنصب فيكون معناه يُرْسِلُ الرِّياحَ تَنْشُر السحاب نَشْراً، ومن قرأ بالضمتين يكون جمع نشور، يقال: ريح نشور، أي تنشر السحاب ورياح نُشُر، ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف.
ثم قال: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا من الماء، والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سَحَابًا ثِقَالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني: السحاب تمر بأمر الله تعالى إلى أرض ليس فيها نبات فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ يعني: بالمكان. ويقال: بالسَّحاب فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي نخرج بالماء من الأرض الثمرات كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي يقول: هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر. وذكر في الخبر أنه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين يوماً مثل مَني الرجال فتشرب الأرض، فتنبت الأجساد بذلك الماء، ثم ينفخ في الصور، فإذا هم قيام ينظرون. وفي هذه الآية إثبات القياس وهو ردّ المختلف إلى المتفق، لأنهم كانوا متفقين أن الله تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض.
فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها. ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي:
لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن. ثم ضرب مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٨ الى ٦٤]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
523
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ يعني: المكان العذب الزّكي اللين من الأرض اللينة يخرج نباته إذا أمطرت فينتفع به، كذلك المؤمن يسمع الموعظة فتدخل في قلبه فينتفع بها وينفعه القرآن كما ينفع المطر الأرض الطيبة.
وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً يعني: الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا من كد وعناء، فكذلك الكافر لا يسمع الموعظة ولا ينتفع بها، ولا يتكلم بالإيمان، ولا يعمل بالطاعة إلا كرهاً لغير وجه الله.
ثم قال: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ أي هكذا نبيّن الآيات والعلامات والأمثال لمن آمن وشكر رب هذه النعم ووحّده.
قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ يعني: بعثنا نوحاً إلى قومه بالرسالة فأتاهم، ويقال: معناه جعلنا نوحاً رسولاً إلى قومه. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوا الله، مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي ليس لكم رب سواه.
قرأ الكسائي إله غَيْرِه بكسر الراء.
وقرأ الباقون غَيْرُهُ بالضم. فمن قرأ بكسر الراء فلأجل مِنْ وجعله كله كلمة واحدة والغير تابعاً له. ومن قرأ بالضم فمعناه ما لكم إله غيره ودخلت من مؤكدة.
ثم قال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو الغرق ف قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وهم الرؤساء والأجلة والأشراف، سموا بذلك لأنهم ملِئوا بما يحتاج إليه منهم، ويقال: لأنهم ملؤوا الناظر هيبة إذا اجتمعوا في موضع. قالوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني: في خطإ بَيِّنٍ. قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وفي الآية بيان أدب الخلق في حسن الجواب والمخاطبة. لأنه ردّ جهلهم بأحسن الجواب، وهذا كما قال الله تعالى:
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] يعني: السداد من القول.
ثم قال: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ أي أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب. وقال أهل اللغة: أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد، كما يقال: شكرت لك وشكرتك ثم قال: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني: أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك، وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوّفوا أمتهم بعذاب الأمم السابقة، كما قال شعيب لقومه: أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَآ أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩] وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم. فقال لهم نوح: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من العذاب الذي ينزل بكم. فقالت الكبراء للضعفاء لا تتبعوه فإن هذا بشر مثلكم فأجابهم نوح فقال:
524
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ يعني: ينزل الكتاب والرسالة على رجل منكم تعرفون حسبه ونسبه لِيُنْذِرَكُمْ بالنار ولتتقوا الشرك. قال بعضهم: «هذه الواو صلة وهو زيادة في الكلام. ومعناه لِيُنْذِرَكُمْ لكي تتقوا. وقال بعضهم هذه واو العطف أي: جاءكم رسول لكي ينذركم.
وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني: لكي تنجوا من العذاب. قرأ أبو عمرو أبلغكم بجزم الباء والتخفيف. وقرأ الباقون أُبَلّغكم بالتشديد فيكون فيه معنى المبالغة. قوله: فَكَذَّبُوهُ أي نوحاً فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ يعني: الذين اتبعوه من المؤمنين في السفينة، والفلك اسم لواحد والجماعة- يعني: أنجينا المؤمنين من الغرق وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن نزول العذاب. ويقال عَمِينَ عن الحق يعني: جعلوا أمره باطلاً.
وقد بيّن الله قصته في سورة هود.
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً يعني: أرسلنا إلى عاد نبيهم هوداً عطفاً على قوله: لَقَدْ
525
أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم. لم يكن هود أخاهم في الدين ولكن كان من نسبهم. قال السدي: كانت عاد قوماً من أهل اليمن فأتاهم هود، فدعاهم إلى الإيمان، وذكّرهم، ووعظهم فكذبوه. ويقال: عاد اسم ملك ينسب القوم كلهم إليه. ويقال: اسم القرية قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحّدوه مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وقد ذكرناه أَفَلا تَتَّقُونَ عن الشرك وقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وقد ذكرناه إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي جهالة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ بأنك رسول الله قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ جهالة وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ يعني: كنت فيكم قبل اليوم أميناً فكيف تتّهموني اليوم.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: الرسالة والبيان عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ تعرفون نسبه لِيُنْذِرَكُمْ بالعذاب وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي جعلكم خلفاء في الأرض بعد هلاك قوم نوح وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: فضيلة في الطول على غيركم. والخلفاء والخلائف جمع الخليفة.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسْطة بالسين.
وقرأ حمزة بإشمام الزاي.
وقرأ الباقون بالصاد. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً. وروى إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن الكلبي قال: كان طول قوم عاد أطولهم مائة وعشرين ذراعاً وأقصرهم ثمانون ذراعاً. وقال مقاتل عن قتادة: كان طول كل رجل منهم اثني عشر ذراعاً فذلك قوله لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر: ٨] ويقال: كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام. وكان إدريس جد أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل، وكان إدريس نبياً ولم يؤمر بدعوة الخلق، ويقال: أنزل عليه عشرون صحيفة، وقد آمن به كثير من الناس، وكان بين نوح وإبراهيم ألف سنة ويقال: ألفان وأربعون سنة وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة. وكان بين موسى وعيسى ألف سنة. وبين عيسى ومحمد- عليه السلام- خمسمائة سنة. وكان هود بين نوح وإبراهيم فلما دعا قومه فكذبوه، أنذرهم بالعذاب، وقال: إن الله تعالى يرسل عليكم الريح فيهلككم بها، فاستهزءوا به وقالوا: أي ريح يقدر علينا، فأمر الله تعالى خازن الريح أن يخرج من الريح العقيم التي هي تحت الأرض مقدار ما يخرج من حلقة الخاتم، كما قال في آية أخرى وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: ٤١] فجاءتهم وحملت الرجال والدواب كالأوراق في الهواء فأهلكتهم كلهم فلم يبق منهم أحد. كما قال فَأَصْبَحُوا لاَ يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف: ٢٥] وذلك بعد ما أنذرهم وأخذ عليهم الحجة وذكرهم نعم الله تعالى، قال لَهُمْ: فَاذْكُرُوا آلاءَ
526
اللَّهِ
أي: اشكروا نعمة الله قال بعضهم: الآلاء إيصال النعم، والنعماء دفع البلية. وقال بعضهم على ضد هذا، وقال أكثر المفسرين: الآلاء والنعماء بمعنى واحد لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يعني: لكي تنجوا من البلايا ومن عذابه.
قوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ قالوا: يا هود أتأمرنا أن نعبد رباً واحداً وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي نترك عبادة آلهتنا التي كان يعبدها آباؤنا. قال لهم هود عليه السلام: إن لم تفعلوا ما آمركم يأتيكم العذاب. قالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب أي: بما تخوفنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنك لرسول الله قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أي: وجب عليكم عذاب وغضب من ربكم أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي: تجعلون قول أنفسكم وقول آبائكم حجة من غير أن يثبت لكم من الله حجة، وقد اتخذتم الأصنام بأيديكم، وسميتموها آلهة مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يقول: ليس لكم علة وعذر وحجة بعبادة الأصنام. فَانْتَظِرُوا الهلاك إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ يعني:
لنزول العذاب بكم، لأنهم أرادوا إهلاكه قبل أن يهلكوا.
قال الله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يعني: بنعمة منا عليهم وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: قطع أصلهم واستأصلهم وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ يعني: أن الذين أهلكهم الله تعالى كلهم كانوا كافرين.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٩]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
527
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً يعني: أرسلنا إلى ثمود نبيهم صالحاً قال بعضهم: ثمود اسم القرية. وقال بعضهم: ثمود اسم القبيلة وأصله في اللغة الماء القليل. ويقال: كانت بئراً بين الشام والحجاز. ويقال: هي عين يخرج منها ماء قليل في تلك الأرض ويقال لها أرض الحِجر كما قال في آية أُخرى وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر: ٨٠] وقال بعضهم:
كان في تلك القرية أهل تسعمائة بيت. وقال بعضهم: ألف وخمسمائة، فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله سنين كثيرة فكذبوه وأرادوا قتله فخرجوا إلى عبد لهم، فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله تعالى. فقالوا له: إن كنت نبياً فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عَشَرَاء حتى نؤمن بك ونصدقك فقام صالح وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فتحركت الصخرة وانصدعت عن ناقة عشراء ذات زغب فلم يؤمنوا به فولدت الناقة ولداً وقال بعضهم خرج ولدها خلفها من الصخرة. فصارت الناقة بلية ومحنة عليهم، وكانت من أعظم الأشياء فتأتي مراعيهم فتنفر منها دوابهم. وتأتي العين وتشرب جميع ما فيها من الماء. فجعل صالح الماء قسمة بينهم يوماً للناقة، ويوماً لأهل القرية، فإذا كان اليوم الذي تشرب الناقة لا يحضر أحد العين وكانوا يحلبونها في ذلك اليوم مقدار ما يكفيهم، وكان في المدينة تسعة رهط يُفْسِدُونَ فِى الارض وَلاَ يصلحون. فاجتمعوا لقتل الناقة فقال لهم صالح: لا تفعلوا فإنكم إذا قتلتموها يأتيكم العذاب فجاؤوا ووقفوا على طريق الناقة فلما مرت بهم الناقة متوجهة إلى العين رماها واحد منهم يقال له مصدع بن وهر فأصابت السهم رجل الناقة فلما رجعت الناقة من العين خرج قدار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال الله تعالى إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها [الشمس: ١٢] فضربها بالسيف ضربة فقتلها وقسموا لحمها على أهل القرية.
وروي عن الحسن البصري- رحمة الله عليه- أنه قال: لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد جبلاً وقال ثلاث مرات أين أمي أين أمي أين أمي؟ فأخبر بذلك صالح فقال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام. فقالوا: وما العلامة في ذلك؟ فقال: أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة، وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة. ثم خرج صالح من بين أظهرهم مع من آمن منهم فأصبحوا في اليوم الأول وجعل يقول بعضهم لبعض: قد اصفر وجهك، وفي اليوم الثاني يقول بعضهم لبعض: قد احمر وجهك، وفي اليوم الثالث يقول بعضهم لبعض: قد اسود وجهك. فأيقنوا جميعاً الهلاك. فجاء جبريل- عليه
528
السلام- وصاح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم، ويقال: قد أتتهم النار فأحرقتهم فذلك قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: وحدوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قد ذكرناه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يقول: قد أتيتكم بعلامة نبوتي وهي الناقة كما قال الله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي علامة لنبوتي لكي تعتبروا وتوحّدوا الله ربكم فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ يقول: دعوها ترتع في أرض الحجر وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ يقول: لا تعقروها فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو ما عذبوا به.
قوله عز وجل: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي: بعد هلاك عاد وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني: أنزلكم في أرض الحجر تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً وذلك أنه كانت لهم قصور يسكنون فيها أيام الصيف، وقد اتخذوا بيوتاً في الجبل لأيام الشتاء، فذكرهم نعمة الله تعالى. فقال: اذكروا هذه النعم حيث وفقكم الله حتى اتخذتم القصور في سهل الأرض واتخذتم البيوت في الجبال.
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعم الله عليكم وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي: لا تعملوا في الأرض بالمعاصي.
قوله عز وجل: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا قرأ ابن عامر وقَالَ الْمَلأُ بالواو. وقرأ الباقون بغير واو أي قال الملأ الذين تكبروا عن الإيمان من قومه وهم القادة للذين استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بصالح أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ يعني:
أتصدقون صالحاً بأنه مرسل من ربه إليكم قالُوا يعني: المؤمنين إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي: مصدقون به قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي: من رسالة صالح فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي: عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته. ثم التوحيد ويقال: فيه تقديم. ومعناه عتَوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم الله في يوم السبت.
وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي: بما تخوفنا به من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يعني: إن كنت رسول رب العالمين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الزلزلة ويقال: صيحة جبريل كما قال في آية أُخرى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر: ٨٣] ويقال: أخذتهم الزلزلة ثم أخذتهم الصيحة. ويقال: النار فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي: صاروا في مدينتهم ومنازلهم ميتين، لا يتحركون وأصله من الجثوم. ويقال: أصابهم العذاب بكرةً يوم الأحد فَتَوَلَّى عَنْهُمْ فيه تقديم وتأخير أي: حين كذبوه خرج من بين أظهرهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي دعوتكم إلى التوبة وحذرتكم العذاب وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي: لا تطيعون الداعين. ويقال: إنما قال ذلك بعد إهلاكهم. قال على وجه
529
الحزن. إني قد أبلغتكم الرسالة. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: إن الله تعالى لم يهلك قوماً ما دام الرسول فيهم فإذا خرج من بين ظهرانيهم أتاهم ما أوعد لهم. وقال في رواية الكلبي: لما هلك قوم صالح رجع صالح ومن معه من المؤمنين، فسكنوا ديارهم.
وقال في رواية الضحاك خرج صالح إلى مكة فكان هناك حتى قبضه الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يعني: وأرسلنا لوطاً إلى قومه. ويقال: معناه واذكروا لوطا إذ قال لقومه أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني: اللواطة مَا سَبَقَكُمْ بِها يعني: لم يعمل بمثل عملكم مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ قبلكم إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ أي: تجامعون الرجال من دون النساء يعني: إن إتيان الرجال أشهى إليكم من إتيان النساء وقرأ أبو عمرو آيِنَّكُمْ بالمد بغير همز وقرأ ابن كثير ونافع إنَّكُمْ بهمزة واحدة بغير مد. وقرأ الباقون بهمزتين بغير مد ومعنى ذلك كله واحد وهو الاستفهام.
ثم قال: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي: متعدون من الحلال إلى الحرام وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا وإنما صار جواب نصباً لأنه خبر كان والاسم هو ما بعده إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يعني: يتقذرون منا ويتنزهون عن فعلنا فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يعني: ابنتيه زعوراء وريثا إِلَّا امْرَأَتَهُ وهي واعلة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يعني: من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني: الحجارة ويقال: أمطر بالعذاب ومطر بالرحمة. ويقال: أمطر ومطر بمعنى واحد فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي:
كيف كان آخر أمرهم، وقد بيّن قصته في سورة هود. وقال مجاهد: لو أن الذي يعمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء، وبكل قطرة في الأرض، ما زال نجساً إلى يوم القيامة وقد اختلف الناس في حَدِّه. قال بعضهم: هو كالزاني فإن كان محصناً يرجم وإن كان غير محصن يجلد. وروي عن الشعبي أنه قال: يرجم في الأحوال كلها محصناً كان أو غير
محصن. وروي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه أتي برجل قد عمل بذلك العمل، فأمر بأن يلقى من أشرف البناء منكوساً ثم يتبع بالحجارة، لأن الله تعالى ذكر قتلهم بالحجارة.
وهو قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي: حجارة وقال بعضهم: يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ولا يحد وهو قول أبي حنيفة- رحمة الله-.
ثم قال تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٩٣]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
531
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً يعني: أرسلنا إلى مدين نبيّهم شعيباً ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن، تزوج ريثاء ابنة لوط، فولدت آل مدين، فتوالدوا وكثروا، ثم صار هو اسماً للمدينة، فسميت المدينة مدين، وسمي أولئك القوم مدين. فكفروا بالله تعالى ونقصوا المكيال والميزان في البيع، وأظهروا الخيانة فبعث الله تعالى إليهم شعيباً.
وقال الضحاك كان شعيب أفضلهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأحسنهم وجهاً، ويقال: إنه بكى من خشية الله تعالى حتى ذهب بصره فصار أعمى فدعا قومه إلى الله تعالى وقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحّدوه وأطيعوه مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قال بعضهم: مجيء شعيب النبي- عليه السلام- إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره أن الله تعالى واحد. وقال بعضهم: كانت له علامة لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته، ألا إن الله تعالى لم يبيّن لنا علامته، وقد بيّن علامة بعض الأنبياء، ولم يبيّن علامة الجميع.
ثم قال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بالقسط أي أتموا الكيل والميزان بالعدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها يعني: لا تعملوا في الأرض المعاصي بعد ما بيّن الله تعالى طريق الحق وأمركم بالطاعة ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض إن كنتم مصدقين بما حرم الله تعالى عليكم.
قوله تعالى: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ أي لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يقول: تمنعون الناس عن دين الإسلام مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً يقول: تريدون بملة الإسلام زيغاً وغيراً. وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قال: بكل سبيل حتى تصدوا أهلها عنها وَتَبْغُونَها عِوَجاً قال وتلتمسون بها الزيغ. ويقال معناه: لا تقعدوا على كل طريق تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب- عليه السلام-.
ثم قال: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ أي كنتم قليلاً في العدد فكثَّر عددكم.
ويقال: كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل، يعني: الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح.
ثم قال: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ يعني: إن كان جماعة منكم صدقوا بي وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا بي أي لم يصدقوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا يعني: حتى تنظروا عاقبة المؤمنين أفضل أم عاقبة الكافرين. فذلك قوله: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا يعني:
حتى يقضي الله بين المؤمنين وبين الكافرين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أي أعدل العادلين.
532
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني: الأشراف والرؤساء تعظموا عن الإيمان من قومه لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي لتدخلنا في ديننا الذي نحن عليه. ويقال: هذا الخطاب لقومه الذين آمنوا لترجعن إلى ديننا كما كنتم قالَ لهم شعيب أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ يعني: أتجبروننا على ذلك؟ قالوا: نعم قال لهم شعيب: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ يقول: قد اختلقنا عَلَى الله كَذِبًا أن دخلنا في دينكم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يقول: إن الله تعالى أكرمنا بالإسلام وأنقذنا من ملّتكم. يقال: معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا الله منها. ويقال:
أكرمنا الله تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر فأنقذنا وأبعدنا من ملتكم. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني: ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشآء الله رَبُّنا دخولنا فيها وأن ينزع المعرفة من قلوبنا. ويقال: معناه وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها. ويقال: معناه إلا أن يشآء الله يعني: لا يشاء الله الكفر مثل قولك. لا أكلمك حتى يبيض القار، وحتى يشيب الغراب، وهذا طريق المعتزلة.
ثم قال: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني: علم ما يكون منا ومن الخلق عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي فوضنا أمرنا إلى الله لقولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي اقض بيننا وبين قومنا بالعدل. وروى قتادة عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما معنى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعال أفاتحك يعني: أخاصمك. وقال القتبي: الفتح أن تفتح شيئاً مغلقا كقوله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] وسمي القضاء فتحاً لأن القضاء فصل للأمور وفتح لما أشكل منها وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يعني: خير الفاصلين.
قوله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً أي لأن أطعتم شعيباً في دينه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ يعني: جاهلون. فلما وعظهم شعيب، ولم يتعظوا أخبرهم أن العذاب نازل بهم. فلم يصدقوه. فخرج شعيب ومن آمن معه من بين أظهرهم فأصابهم يعني:
أهل القرية حر شديد، فخرجوا من القرية، ودخلوا غيضة كانت عند قريتهم وهي الأيكة كما قال الله تعالى في آية أخرى كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ١٧٦] فأرسل الله تعالى ناراً فأحرقت الأشجار ومن فيها من الناس. ويقال: أصابتهم زلزلة فخرجوا، فأتتهم نار فأحرقتهم، وذلك قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني: الزلزلة والحر الشديد فهلكوا واحترقوا فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ يعني: صاروا ميتين.
قوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يعني: كأن لم يكونوا فيها قط وقال
533
قتادة: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يعني: كأن لم يتنعموا فيها. ويقال: معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكن هناك أحد يعني: لم يعيشوا. ويقال: كأن لم يعمروا.
ثم قال: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ يعني: المغبونين في العقوبة، يعني:
إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون. فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا منهم.
قوله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني: أعرض عنهم حين خرج من بين أظهرهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي في نزول العذاب وَنَصَحْتُ لَكُمْ وقد ذكرناه فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي كيف أحزن بعد النصيحة على قوم إن عذبوا.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها ففي الآية مضمر ومعناه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ يعني: عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر. ويقال: البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم، والضراء ما يصيبهم في أنفسهم لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ يعني: لكي يتضرعوا، فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه. ومعناه: لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم.
قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ يعني: حولنا مكان الشدة الرخاء، ومكان الجدوبة الخصب، حَتَّى عَفَوْا أي كثروا، واستغنوا، وكثرت أموالهم فلم يشكروا الله تعالى. ويقال: حتى عفوا أي حتى سروا به وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي مثل ما أصابنا مرة يكون الرخاء، ومرة يكون الشدة، فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
يعني: أتاهم العذاب من حيث لم يعلموا به. ويقال: إن الشدة للعامة تكون تنبيهاً وزجراً.
والنعمة تكون استدراجاً وأما النعمة للخاصة فهي تنبيه، لأنه بعد ذلك عقوبة. كما روي أن الله تعالى قال لموسى- عليه السلام- إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل مرحباً بشعار الصالحين. وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل ذنب عجلت عقوبته.
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا يعني: وحدوا الله تعالى واتقوا الشرك لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعني: أنزلنا عليهم من السماء المطر والرزق والنبات من الأرض وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ أي عاقبناهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الشرك. ففي الآية دليل على أن الكفاية والسعة في الرزق من السعادة إذا كان المرء شاكراً.
وتكون عقوبة له إذا لم يكن شاكراً. لأنه قال في آية أخرى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: ٣٣] يعني: الغنى يكون وبالاً لمن لا يشكر الله تعالى وعقوبة له.
ثم قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً أي ينزل عليهم عذابنا ليلاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى فتحت الواو لأنها واو العطف، أدخلت عليها ألف الاستفهام. وكذلك أفأمن لأنها فاء العطف دخلت عليها ألف الاستفهام. قرأ نافع وابن كثير أو أمن بجزم الواو لأن أصله أو وأمن وأو حرف من حروف الشك فأدغم في حرف النسق أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى يعني: يأتيهم عذابنا نهاراً وَهُمْ يَلْعَبُونَ يعني: لاهون عنه.
ثم قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ يعني: عذاب الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ يعني: عذاب الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون بالعقوبة.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٠ الى ١١٦]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
535
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ يعني: أو لم يبين. قال القتبي: أصل الهدى الإرشاد كقوله: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي يعني: يرشدني. ثم يصير الإرشاد لمعان منها إرشاد بيان مثل قوله أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يعني: أو لم يبيِّن لهم. ومنها إرشادٌ بمعنى بالدعاء كقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: ٧] يعني: نبياً يدعوهم وقوله: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: ٧٣] أي يدعون الخلق. وقرأ بعضهم أو لم نهد بالنون يعني: أو لم نبين لهم الطريق. ومن قرأ بالياء معناه: أو لم يبين الله للذين يرثون الأرض من بعد أهلها يعني: ينزلون الأرض مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها. ويقول أو نبيّن لأهل مكة هلاك الأمم الخالية كيف أهلكناهم ولم يقدر معبودهم على نصرتهم. أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يعني: أهلكناهم بذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم عند التكذيب.
ثم قال: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني: نختم على قلوبهم بأعمالهم الخبيثة عقوبة لهم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ الحق ولا يقبلون المواعظ.
ثم قال عز وجل: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها أي تلك القرى التي أهلكنا أهلها، نخبرك في القرآن من حديثها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني: بالعلامات الواضحة، والبراهين القاطعة، التي لو اعتبروا بها لاهتدوا. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ يعني: إن أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية. وقال مجاهد: فما كانوا ليؤمنوا بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا
536
عَنْهُ
[الأنعام: ٢٨] وقال السدي: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي يوم الميثاق فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به. وهو قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] ثم في الدنيا ما وجدناهم على ذلك الإقرار. ويقال: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيء الرسل بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يعني: هكذا يختم الله تعالى عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ مجازاة لكفرهم. قوله تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ مِنْ زيادة للصلة يعني: ما وجدنا لأكثرهم وفاءً فيما أمروا به يعني: الذين كذبوا من الأمم الخالية. ويقال: مَا وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ لأنهم أقروا يوم الميثاق، ثم نقضوا العهد حيث كفروا. ويقال: مَا وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أي قبول العهد الذي عاهدوا على لسان الرسل.
ثم قال: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ يعني: وقد وجدنا أكثرهم لناقضين العهد، تاركين لما أمروا به.
قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى يعني: أرسلنا من بعد الرسل الذين ذكرهم في هذه السورة. ويقال: ثم بعثنا من بعد هلاكهم موسى وهو موسى بن عمران بِآياتِنا يعني:
اليد البيضاء والعصا إِلى فِرْعَوْنَ وهو ملك مصر واسمه الوليد بن مصعب. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: كان فرعون في وقت يوسف فعاش إلى وقت موسى عليهما السلام.
فبعث الله تعالى إليه موسى ليأخذ عليه الحجة. وأنكر عليه ذلك عامة المفسرين. وقالوا هو كان غيره، وكان جباراً، ظهر بمصر واستولى عليها، وأرسل الله تعالى إليه موسى فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني: جنوده وأتباعه فَظَلَمُوا بِها يعني: فجحدوا بالآيات فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني: كيف صار آخر أمر المشركين. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: أول الآيات العصا فضرب بها موسى باب فرعون، ففزع منها فرعون، فشاب رأسه، فاستحيا فخضب بالسواد، فأول من خضب بالسواد فرعون. قال ابن عباس: كان طول العصا عشرة أذرع على طول موسى، وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض فتخرج النبات، فلما دخل عليه مع هارون وَقالَ له مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك قال له فرعون: كذبت. قال موسى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قرأ نافع حقيق علي بالتشديد. وقرأ الباقون بتخفيف على. فمن قرأ بالتخفيف فمعناه واجب علي أن لا أقول، أي: واجب أن أترك القول على الله إلا الحق. ومن قرأ بالتشديد معناه: واجب علي ترك القول على الله إلا الحق. أي لا أقول على الله إلا الحق فلما كذبوه قال: إني لا أقول بغير حجة وبرهان قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: قد جئتكم بعلامة لنبوتي فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ ولا تستعبدهم، لأن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واتخذهم في الأعمال سخرة ف قالَ له فرعون: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ أي بعلامة
537
لنبوتك فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بأنك رسول الله فَأَلْقى موسى عَصاهُ يعني:
ألقى موسى عَصَاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وهي أعظم الحيات، ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء الشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون، ففتحت فاها نحو فرعون، وكان فرعون على سريره فوثب فرعون عن سريره، وهرب منها، وهرب الناس، وصاحوا إلى موسى، ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها، فإذا هي عصا بيضاء بيده كما كانت، وجعل الناس يضحكون مما يصنع موسى. ومعنى قوله: ثُعْبانٌ مُبِينٌ يعني: أنها حية تسعى لا لبس فيها. فقال له فرعون: هل معك غير هذا؟ فقال: نعم وَنَزَعَ يَدَهُ يعني: أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: ١٢] يعني: من غير برص فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ يعني:
لها شعاع غلب على نور الشمس. ومعنى قوله: لِلنَّاظِرِينَ يعني: يتعجب ويتحير منها الناظرون. ويقال: إن البياض من غير برص. لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص، فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه من غير سوء. ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يعني: الأشراف والرؤساء. قال مقاتل: إن فرعون قال بهذه المقالة فصدقه قومه كما قال في سورة الشعراء: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: ٣٤] يعني: حاذق بالسحر.
ثم قال لقومه: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ تصديقاً لقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ يعني: من أرض مصر. فقال لهم فرعون: فَماذا تَأْمُرُونَ يعني: أي فماذا تشيرون في أمره؟ ويقال: إن بعضهم قال لبعض فماذا تأمرون؟ أي ماذا ترون في أمره قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يعني: احبسهما ولا تقتلهما. وأصله في اللغة التأخير أي أخر أمرهما حتى تجتمع السحرة فيغلبوهما. فإنك إن قتلتهما قبل أن يظهر حالهما يظن الناس أنهما صادقان. فإذا تبين كذبهما عند الناس فاقتلهما حينئذٍ. فذلك قوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ أي: ابعث فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني: الشرط يحشرون الناس إليكم أي: يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي: حاذق بالسحر قرأ ابن كثير أرجئهوا بالهمزة والواو بعد الهاء. وقرأ الكسائي أرجهي إلا أنه بكسر الهاء ولا يتبع الياء. وقرأ أبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر في إحدى الروايتين أرجئه بالهمز بغير مد والضمة. وهذه اللغات كلها مروية عن العرب. وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكل سَحَّار عليم على وجه المبالغة في السحر. وقرأ الباقون بكل ساحر وهكذا في يونس واتفقوا في الشعراء.
قوله تعالى: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً يعني: قالوا لفرعون أتعطينا جعلاً ومالاً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى قالَ لهم فرعون نَعَمْ لكم الجعل وَإِنَّكُمْ
538
لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
يعني: لكم المنزلة به سوى العطية يعني: إنكم تكونون أول من يدخل علي بالسلام قرأ أبو عمرو آينَّ لنا لأجْراً بمد الألف. وقرأ عاصم في رواية حفص إن بهمزة واحدة بغير ياء وقرأ الباقون بهمزتين وقرأ ابن كثير ونافع إنَّ لَنَا بهمزة واحدة بغير ياء. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي أإن لنا بهمزتين فلما اجتمع السحرة وغدوا للخروج يوماً وأعلن الناس بخروجهم ليجتمعوا عند سحرهم كما قال في آية أخرى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه: ٥٩] أي: يوم عيد كان لهم ويقال: يوم النيروز. فلما اجتمعت السحرة قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ يعني: إما أن تطرح عصاك على الأرض وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نحن الملقين قبلك. قالَ لهم موسى أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا يعني: السحرة ألقوا الحبال والعصي سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أي أخذوا أعينهم بالسحر وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يعني: طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس. قال الكلبي: كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلاً. وقال بعضهم: كانوا اثنين وسبعين حبلاً. وروى أسباط عن السدي قال: قال ابن عباس كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً. وقال محمد بن إسحاق: كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا: وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات، لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد، فلما طلعت عليه الشمس صارت شبيهاً بالحيات فنظر موسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات، فدخل فيه الخوف، ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات. فذلك قوله: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يعني: أفزعوهم وأخافوهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ يعني: بسحر تام. ويقال: وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ يعني: بقول عظِيمٌ حيث قالوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء: ٤٤] ويقال: وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ حيث قالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون.
قال الله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٧ الى ١٢٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
539
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ يعني: اطرح عصاك إلى الأرض فألقى عَصَاهُ من يده فصارت حية أعظم من جميع حياتهم فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ يعني: تلتقم وتأكل جميع ما جاءوا به من الكذب والسحر. قرأ عاصم في رواية حفص تَلْقَفْ بجزم اللام والتخفيف. وقرأ الباقون بنصب اللام وتشديد القاف، ومعناهما واحد.
ثم إن الحية قصدت إلى فرعون، فنادى موسى فأخذها، فإذا هي عصا على حالها فنظرت السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت فَوَقَعَ الْحَقُّ أي استبان الحق وظهر أنه ليس بسحر وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر أي: ذهب وهلك واضمحل فَغُلِبُوا هُنالِكَ أي وغَلَب موسى السحرة عند ذلك وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ يعني: رجعوا ذليلين.
قالوا: لو كان هذا سحراً فأين صارت حبالنا وعصينا. ولو كانت سحراً لبقيت حبالنا وعصينا وهذا من الله تعالى وليس بسحر. فآمنوا بموسى. قوله تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ يعني: خروا ساجدين لله تعالى. قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.
ويقال: وفّقهم الله تعالى للسجود قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقال لهم فرعون: إياي تعنون.
فأراد أن يلبس على قومه فقالوا: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فقدم فرعون لما سألهم، لأن بعض الناس كانوا يظنون عند مقالتهم رب العالمين أنهم أرادوا به فرعون. فلما سألهم فرعون وقالوا:
برب موسى وهارون، ظهر عند جميع الناس أنهم لم يريدوا به فرعون، وإنما أرادوا به الإيمان بموسى وبرب العالمين.
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ يعني: صدقتم بموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ يعني: قبل أن آمركم بالإيمان بموسى. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر آمنتم. وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد ويكون استفهاماً. إلا عاصم في رواية حفص قرأ آمنتم بهمزة واحدة بغير مد على وجه الخبر.
إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ يعني: صنعاً صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في المدينة لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعني: إنكم أردتم أن تخرجوا الناس من مصر بسحركم.
ثم قال لهم: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني: تعلمون ماذا أفعل بكم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني: اليد اليمنى والرجل اليسرى ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ على شاطئ نهر مصر قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي: لا نبالي من عقوبتك وفعلك فإن مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة.
540
قال تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا يعني: وما تعيب علينا، وما تنكر منا إلا إيماننا بالله تعالى.
ويقال: وما نقمتك علينا ولم يكن منا ذنب إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا يعني: لما ظهر عندنا أنه حق. ثم سألوا الله تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا:
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يعني: أنزل علينا صبراً عند القطع والصلب، ومعناه: ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفاراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ على دين موسى. وروي عن عبيد الله بن عمير أنه قال: كانت السحرة أول النهار كفاراً فجرة، وآخر النهار شهداء بررة. وقال بعض الحكماء: إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة فكيف بالذي أقر وسجد خمسين سنة كيف لا يرجو رحمته ومغفرته؟.
قوله تعالى وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني:
إن السحرة قد آمنوا به فلو تركتهما يؤمن بهما جميع أهل مصر، فيفسدوا في الأرض يعني:
موسى وقومه ويغيروا عليك دينك في أرض مصر وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وذلك أن فرعون كان قد جعل لقومه أصناماً يعبدونها، وكان يقول لهم هؤلاء أربابكم الصغار، وأنا ربكم الأعلى. فذلك قوله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني: يدعك ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها. وروي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني: عبادتك وتعبدك. قال ابن عباس: كان فرعون يُعْبد ولا يَعْبُد. ويقال: معنى قوله: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني: يغلبوا عليكم، ويقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم كما فعلتم بهم كما قال في آية أخرى إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر: ٢٦] فقال لهم فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ لأنهم قد كانوا تركوا قتل الأبناء، فأمرهم أن يرجعوا إلى ذلك الفعل. قرأ ابن كثير ونافع سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ بجزم القاف والتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة في القتل.
ثم قال: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي: مسلطون فشكت بنو إسرائيل إلى موسى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٨ الى ١٣١]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣١)
541
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ يعني: سلوا الله التوفيق وَاصْبِرُوا يعني: اصبروا على أذاهم حتى يأتيكم الفرج إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني: أرض مصر ينزلها من يشاء من عباده ويقال الجنة قرأ عاصم في رواية حفص بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف. وهما لغتان ورّث وأوْرَث بمعنى واحد.
ثم قال: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي الذين يعملون في طاعة الله تعالى على نور من الله مخافة عقاب الله ورجاء ثواب الله تعالى، أي آخر الأمر لهم. وروي في الخبر أن مسيلمة الكذاب كتب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم كتاباً من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ﷺ أما بعد. فإن الأرض بيني وبينكم نصفان إلا أن العرب قوم يظلمون الناس فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ مُحَمَّد رَسُولِ الله إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ. أمَّا بَعْدُ فَإنَّ الأرْضَ لله يورثها من يشاء من عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
قوله تعالى: قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا يعني: إن قوم موسى قالوا لموسى: إنهم قد عذبوا قبل أن تأتينا بالرسالة وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا لأن قوم فرعون كانوا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقون، وكان آل فرعون لا يعرفون شيئاً من الأعمال، وكان بنو إسرائيل حذاقاً في الأشياء والأعمال، فكانوا يأمرونهم بالعمل ولا يعطونهم الأجر. ف قالَ لهم موسى عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ يعني: فرعون وقومه وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي:
يجعلكم سكاناً في أرض مصر من بعد هلاكهم يعني: من بعد هلاك فرعون وقومه فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعني: يبتليكم بالنعمة كما ابتلاكم بالشدة، فيظهر عملكم في حال اليسر والشدة، لأنه قد وعد لهم بقوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: ٥].
ويقال: فينظر كيف تعملون من بعده يعني: من بعد انطلاق موسى إلى الجبل فعبدوا العجل.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي: بالجوع والقحط وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتعظون ويؤمنون فلم يتعظوا. قال الله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعني: الخير والخصب والرخاء قالُوا لَنا هذِهِ يعني: نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني: القحط والبلاء والشدة يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ وأصله يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء. كقوله: يَذَّكَّرُونَ أي يتشاءمون بموسى ومن معه على دينه.
قال الله تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يعني: إن الذي أصابهم من عند الله وبفعلهم.
ويقال: إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أنه من الله تعالى ولا يعلمون ما عليهم في الآخرة.
542
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٧]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ يقول: متى ما تأتنا. ويقال: كلما تأتينا. وروي عن الخليل أنه قال: مهما تأتنا أصلها الشرطية أدخلت معها ما الزائدة كقوله متى ما تأتني آتك. وما زائدة فكأنه قال: ما تأتنا به فأبدلوا الهاء من الألف، وهكذا قال الزجاج.
بِهِ مِنْ آيَةٍ يعني: بشيء من آية لِتَسْحَرَنا بِها يعني: لتأخذ أعيننا بها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يعني: بمصدقين بأنك مبعوث رسول الله ﷺ فغضب موسى عند ذلك فدعا عليهم.
قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وهو المطر الدائم من السبت إلى السبت حتى خربت بنيانهم وانقطعت السبل وكادت أن تصير مصر بحراً واحداً، فخافوا الغرق، فاستغاثوا بموسى، فأرسلوا إليه اكشف عنا العذاب نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه، فكشف عنهم المطر، وأرسل الله عليهم الريح فجففت الأرض فخرج من النبات شيء لم يروا مثله بمصر قط. قالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا ولكنا لم نشعر به. فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فنقضوا العهد، وعصوا ربهم، فمكثوا شهراً، فدعا عليهم موسى فأرسل الله تعالى عليهم الجراد مثل الليل، فكانوا لا يرون الأرض، ولا السماء من كثرتها، فأكل كل شيء أنبتته الأرض. فاستغاثوا بموسى وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ [الزخرف: ٤٩] يعني: يا أيها العالم سل لنا ربك ليكشف عنا العذاب، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه، فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد
543
وألقته في البحر فلم يبق في أرض مصر جرادة واحدة. فقال لهم فرعون: انظروا هل بقي شيء؟ فنظروا فإذا هو قد بقي لهم بقية من كلئهم وزرعهم ما يكفيهم عامهم ذلك. قالوا: قد بقي لنا ما فيه بلغتنا هذه السنة. فقالوا: يا موسى لا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهراً ثم دعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم القُمَّل. قال قتادة: القمل أولاد الجرادة التي لا تطير وهكذا قال السدي. وذكر عن أبي عبيدة أنه قال: القمل عند العرب الحمنان وهو ضرب من القردان فلم يبق من الأرض عود أخضر إلا أكلته. فأتاهم منه مثل السيل على وجه الأرض، فأكل كل شيء في أرض مصر من نبات الأرض أو ثمر فصاحوا إلى موسى، واستغاثوا به، وقالوا: ادع لنا ربك هذه المرة يكشف عنا العذاب ونحن نطيعك ونعطيك عهداً وموثقاً لنؤمنن بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحاً حارة فأحرقته فلم يبق منه شيء، وحملته الريح، فألقته في البحر، فقال لهم موسى: أرسلوا معي بني إسرائيل؟ فقالوا له: قد ذهبت الأنزال كلها فأيش تفعل بعد هذا؟
فعلى أي شيء نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل؟ اذهب فما استطعت أن تضر بنا فافعل.
فمكثوا شهراً فدعا الله تعالى عليهم موسى، فأرسل الله تعالى عليهم آية وهي الضفادع، فخرجوا من البحر، مثل الليل الدامس، فغشوا أهل مصر، ودخلوا البيوت، ووقفوا على ثيابهم، وسررهم، وفرشهم، وكان الرجل منهم يستيقظ بالليل فيجد فراشه وقد امتلأ من الضفادع، فكان الرجل يكلم صاحبه في الطريق يجعل فمه في أذنه ليسمع كلامه من كثرة نعيق الضفادع.
فضاق الأمر عليهم فصاحوا إلى موسى فقالوا يا موسى: لئن رفعت عنا هذه الضفادع لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل. فدعا لهم موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الضفادع. فقال لهم موسى: أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا: نعم اخرج بهم ولا تخرج معهم بشيء من مواشيهم شيئاً. فقالوا: والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فمكثوا شهراً، فدعا عليهم، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فجرت أنهارهم دماء، فلم يكونوا يقدرون على الماء العذب ولا غيره، وبنو إسرائيل في الماء العذب. وكلما دخل رجل من آل فرعون ليستقي من أنهار بني إسرائيل. صار الماء دماً من بين يديه، ومن خلفه. فركب فرعون وأشراف أصحابه حتى أتوا أنهار بني إسرائيل فإذا هي عذبة صافية. فجعل فرعون يدخل الرجل منهم، فإذا دخل واغترف صار الماء في يده دماً. فمكثوا كذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فمات كثير منهم في ذلك. فاستغاثوا بموسى فقال فرعون: اقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا الرجز، لنؤمننّ بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الدم، وعذب ماؤهم وصفي. فعادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ يعني: متتابعات قال الحسن وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا:
544
مما كانوا يعافون بين كل آيتين شهراً فإذا جاءت الآية، قامت عليهم سبعاً من السبت إلى السبت. وروي عن مجاهد أنه قال: الطوفان المطر الكثير وقوله آيات صارت نصباً للحال.
وقوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا يعني: تعظموا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني:
أقاموا على كفرهم.
قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني: وجب عليهم العذاب وحل بهم قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ يعني: سل لنا ربك بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بما أمرك ربك أن تدعو الله ويقال: بالعهد الذي سأل ربك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ أي: رفعت عنا العذاب لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ يعني: لنصدقنك وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال الله تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ يعني: العذاب إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ يعني: إلى وقت الغرق. ويقال: إلى بقية آجالهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ يعني: ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه مع موسى.
قال الله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ يعني في البحر بلسان العبرانية.
وذلك أن الله تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلاً، فاستعارت نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن، وقلن: إن لنا خروجاً فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي. فذكر ذلك لفرعون. فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف رجل، ومائتا ألف رجل، فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر فضرب البحر فانفلق له اثنا عشر طريقاً. وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً. فعبر كل سبط في طريق، وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى، فدخلوا تلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهمّ أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى أن ينطبق عليهم فغرقهم. فذلك قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ يعني: معرضين. فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل، فسكنوا أرض مصر فذلك قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يعني: بني إسرائيل الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ أي: الأرض المقدسة وَمَغارِبَهَا يعني: الأردن وفلسطين. ويقال: مشارق الأرض يعني: الشام ومغاربها الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني بالبركة الماء والثمار الكثيرة وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى يقول: وجبت نصرة ربك بالإحسان عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ قال مجاهد: هو ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض. وقال مقاتل: يعني: بالكلمة التي ذكرها في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: ٥] وقال الكلبي: وتمت كلمة ربك يعني: نعمة ربك الحسنى. يعني: أنهم
545
يجزون الحسنى الجنة بِما صَبَرُوا ولم يدخلوا في دين فرعون. ويقال: وتمت كلمة ربك أي: ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض.
ثم قال: وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ يعني: أهلكنا ما كان يعمل فرعون، وأبطلنا كيده ومكره. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يعني: أهلكنا ما كانوا يبنون من البيوت والكروم.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر يَعْرِشُونَ بضم الراء. وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يقول: مروا على قوم يعني: يعبدون الأصنام ويقومون على عبادتها، وكل من يلازم شيئاً ويواظب عليه يقال:
عكفه. ولهذا سمي الملازم للمسجد معتكفاً قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً قال الجهال من بني إسرائيل لموسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها قالَ لهم موسى:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ يعني: تكلمتم بغير علم وعقل، وجهلتم الأمر.
قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ يعني: مهلك مفسد ما هم فيه من عبادة الأصنام وَباطِلٌ يعني: ضلال مَا كانُوا يَعْمَلُونَ والتبار: الهلاك. كقوله تعالى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: ٢٨] أي: هلاكاً. ثم قالَ لهم أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً يعني: أسوى الله آمركم أن تعبدوا وتتخذوا إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يعني: على عالمي زمانكم.
يعني: أنه قد أحسن إليكم فلا تعرفون إحسانه، وتطلبون عبادة غيره. وهم الذين كانوا أجابوا السامري حين دعاهم إلى عبادة العجل بعد انطلاق موسى إلى الجبل.
ثم ذكر النعم فقال تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ من آل فرعون يعني: اذكروا حين أنجاكم الله من آل فرعون: وقرأ ابن عامر وإذْ أَنْجَاكُمْ يعني: اذكروا حين أنجاكم الله مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
وقرأ الباقون وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ ومعناه مثل ذلك يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يعني: يعذبونكم بأشد العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني: يستخدمون نساءكم وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي: الإنجاء نعمة من ربكم عظيمة. ويقال: في قتل الأبناء واستخدام النساء بلية من ربكم عظيمة. قرأ نافع يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ بنصب الياء مع التخفيف. وقرأ الباقون بضم الياء وكسر التاء مع التشديد. يُقَتِّلُونَ على معنى التكثير. وقرأ حمزة والكسائي يَعْكِفُونَ بكسر الكاف وقرأ الباقون بالضم يعكفون.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً قرأ أبو عمرو وَوَعَدْنَا بغير ألف، والباقون بالألف ومعناهما واحد. وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يعني: ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة.
ويقال: ثلاثين من ذي الحجة وعشر من المحرم. والمناجاة في يوم عاشوراء. وكانت المواعدة ثلاثين يوماً وأمر بأن يصوم ثلاثين يوماً، فلما صام ثلاثين يوماً، أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خرنوب وقيل: بورقة موز، فقالت له الملائكة: كنا نجد من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك فأمر بأن يصوم عشراً أخر، فصارت الجملة أربعين يوماً. كما قال في آية أخرى وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة: ٥١] يعني: صارت في الجملة أربعين ولكن مرة ثلاثين يوماً، ومرة عشرة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني: ميعاد ربه أربعين ليلة. يعني:
ميعاد ربه.
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي يعني: قال له قبل انطلاقه إلى الجبل: اخلفني فِي قَوْمِي أي كن خليفتي على قومي وَأَصْلِحْ يعني: مرهم بالصلاح. ويقال: وأصلح بينهم.
ويقال: ارفق لهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تتبع سبيل أي طريق العاصين، ولا
547
ترضى به. واتّبع سبيل المطيعين. وقال بعض الحكماء: من هاهنا ترك قومه عبادة الله وعبدوا العجل، لأنه سلمهم إلى هارون ولم يسلمهم إلى ربهم. ولهذا لم يستخلف النبي بعده. وسلم أمر أمته إلى الله تعالى. فاختار الله لأمته أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ وهو أبو بكر الصديق- رضى الله تعالى عنه- فأصلح بينهم.
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا يعني: لميعادنا لتمام أربعين يوماً. ويقال:
لميقاتنا أي للوقت الذي وقّتنا له.
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فسمع موسى كلام الله تعالى بغير وحي، فاشتاق إلى رؤيته قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ انظر صار جزماً لأنه جواب الأمر قالَ له ربه: لَنْ تَرانِي يعني: إنك لن تراني في الدنيا وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ يعني: انظر إلى أعظم جبل بمدين فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي يعني: سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه. معناه: كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قال الضحاك: ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني: من رهبة الله تعالى. وقال القتبي: تجلى ربه للجبل أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء. يقال: جلوت المرأة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشف عنه.
وجلوت العروس إذا أبرزتها. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: جبل زبير جَعَلَهُ دَكًّا قرأ حمزة والكسائي جعله دكاء بالهمز يعني: جعله أرضاً دكاء. وقرأ الباقون دَكّاً بالتنوين يعني: دَكَّه دَكّاً.
قال بعضهم: صار الجبل قطعاً، فصار على ثمان قطع. فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام. ويقال: صار ستة فرق. ويقال: صار أربع فرق. ويقال: صار كله رملاً عالجاً أي ليناً. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: جعله دكاً أي تراباً، وقال القتبي: جعله دكاً أي ألصقه بالأرض. ويقال: ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام أي تراباً. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر الله الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل، وأمر الله تعالى ملائكة السموات فهبطوا، وارتعدت فرائص موسى وتغير لونه. فقال له جبريل: اصبر لما سألت ربك، فإنما رأيت قليلاً من كثير فلما غشي الجبل النور، خمد كل شيء، وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية الله تعالى. حتى صار دكاً.
قوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال مقاتل: يعني ميتا. كقوله عز وجل: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ يعني: مات. ويقال: وخر موسى صعقاً أي مغشياً عليه فَلَمَّا أَفاقَ من غشيانه قال مقاتل: رد الله حياته إليه قالَ سُبْحانَكَ أي تنزيهاً لك تُبْتُ إِلَيْكَ من قولي وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: قد كان قبله من المؤمنين.
ولكن يقول أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. وقال مقاتل: أول
548
المؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا. وقال القتبي: أراد به في زمانه كقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧] ويقال: معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالاً محالاً. فاعترف أنه طلب شيئاً في غير حينه وأوانه ووقته. وقال الزجاج: قد قال موسى: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني أمراً عظيماً لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: أمر ربه قال: وهذا خطأ. ولكن لما سمع كلامه قال يا رب: إنِّي سمعت كلامك وأحب أن أراك.
قوله تعالى: قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي يعني: بنبوتي. قرأ ابن كثير ونافع برسَالَتِي. وقرأ الباقون برسَالاتي بلفظ الجماعة ومعناهما واحد أي: اختصصتك بالنبوة. وَبِكَلامِي أي بتكلمي معك من غير وحي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي: اعمل بما أعطيتك وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لما أعطيتك. وقال القتبي: قوله وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أراد به في زمانه كقوله وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧].
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: أعطى الله تعالى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة.
قال: التوراة مكتوبة. ويقال: طول الألواح عشرة أذرع مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً من الجهل وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني: تبياناً لكل شيء من الحلال والحرام. قال الفقيه- رحمه الله تعالى-: حدّثنا الفقيه أبو جعفر قال: حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال: حدثنا أبو بكر بن أبي العوام. قال: حدثنا أبي قال: حدثنا يحيى بن سابق عن خيثمة بن خليفة عن ربيعة عن أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كَانَ فِيمَا أَعْطَى الله
549
مُوسَى فِي الأَلْوَاحِ عَشَرَة أبْوَابٍ: يا مُوسَى لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً، فَقَدْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَتَلْفَحَنَّ وُجُوهَ المُشْرِكِينَ النَّارُ، وَاشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ، أَقِكَ المَتَالِفَ، وأنسئ لَكَ فِي عُمُرِكَ، وَأُحْيِيكَ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَأَقْلِبُكَ إلَى خَيْرِ مِنْهَا، وَلا تَقْتُلِ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمْتُهَا إلاَّ بالحَقِّ، فَتَضِيقَ عَلَيْكَ الأرْضِ بِرُحْبِهَا، وَالسَّمَاءُ بِأَقْطَارِهَا، وَتَبُوءَ بِسَخْطِي وَنَاري، وَلا تَحْلِفْ بِاسْمِي كَاذِباً فَإنِّي لا أُطَهِّرُ ولا أُزَكِّي مَنْ لَمْ يُنَزِّهْنِي، وَلَمْ يُعَظِّمْ أَسْمَائِي، وَلا تَحْسُدِ النَّاسَ عَلَى ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّ الحَاسِدَ عَدُوٌّ لِنِعْمَتِي، رَادٌّ لِقَضَائِي، سَاخِطٌ لِقِسْمَتِي، الَّتي أَقْسِمُ بَيْنَ عِبَادِي، ولا تَشْهَدْ بِمَا لِمَ يَقَعْ بِسَمْعِكَ، وَيَحْفَظْ قَلْبُكَ، فَإنِّي لوَاقِفٌ أَهْلَ الشَّهَادَاتِ عَلَى شَهَادَاتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ أَسَأَلَهُمْ عَنْهَا سُؤَالاً حَثِيثاً، وَلاَ تَزْنِ، وَلاَ تَسْرِقْ، فَأَحْجُبَ عَنْكَ وَجْهِي، وَأُغْلِقَ عَنْكَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَأَحْبِبْ لِلنَّاسِ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ. ولا تُذَكِّ لِغَيْرِي، فَإنِّي لا أقْبَلُ مِنَ القُربَانِ إلاَّ ما ذُكِرَ علَيْهِ اسْمِي، وَكَانَ خَالِصاً لِوَجْهِي، وَتَفَرَّغْ لِي يَوْمَ السَّبْتِ وَجَمِيعُ أهْلِ بَيْتِكَ». فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«جُعِلَ يَوْمُ السَّبْتِ لِمُوسَى عِيداً وَاخْتَارَ لَنَا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَجَعَلَها لنا عِيداً».
قوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ يعني: اعمل بما أمرك الله بجد ومواظبة عليها وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي يعملون بما فيها من الحلال والحرام. ويقال: امرهم بالخير وانههم عن الشر: يعني: اعملوا بالخير وامتنعوا عن الشر. ويقال: اعملوا بأحسن الوجوه وهو أنه لو يكافئ ظالمه وينتقم منه جاز، ولو تجاوز كان أحسن وقال الكلبي: كان موسى- عليه السلام- أشد عبادةً من قومه. فأمر بما لم يؤمروا به. يعني: أمر بأن يعمل بالمواظبة، وأمر قومه بأن يأخذوا بأحسن الفعل.
ثم قال: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال مقاتل: يعني: سنة أهل مصر يعني: هلاكهم حين قذفهم البحر فأراهم سنة الفاسقين في التقديم. ويقال: جهنم هي دارُ الكافرين. ويقال: إذا سافروا أراهم منازل عاد وثمود. وقال مجاهد: مصيرهم في الآخر إلى النار.
قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ يعني: أصرف قلوب الذين يتكبرون عن الإيمان حتى لا يؤمنوا. فأخذلهم بكفرهم ولا أوفقهم بتكذيبهم الأنبياء مجازاة لهم.
ويقال: أمنع قلوبهم من التفكر في أمر الدين وفي خلق السموات والأرض الذين يتكبرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني: يتعظمون عن الإيمان لكي لا يتفكروا في السماء، ولا يعقلون فيها، ولا يذكرونها. ويقال: سأصرف عن النعماء التي أعطيتها المؤمنين يوم القيامة أصرف عنهم تلك النعمة وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ امتنعوا منها كي لاَّ يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ يعني: طريق الحق الإسلام لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا يعني: لا يتخذوه ديناً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يعني: طريق الضلالة والكفر يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي ديناً ويتّبعونه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا قال مقاتل: أي بآياتنا التسع وقال الكلبي: يعني: بمحمد والقرآن وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ يعني:
550
تاركين لها. قرأ حمزة والكسائي سَبِيلَ الرُّشْدِ بنصب الراء، والشين، وقرأ الباقون الرُّشْدِ بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان ومعناهما واحد.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بمحمد والقرآن وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يعني:
كذبوا بالبعث بعد الموت حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني: بطلت حسناتهم هَلْ يُجْزَوْنَ أي هل يثابون إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: في الدنيا.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٨ الى ١٥١]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ يعني: من بعد انطلاقه إلى الجبل، وذلك أن موسى- عليه السلام- لما وعد لقومه ثلاثين يوماً فتأخر عن ذلك، قال السامري لقوم موسى: إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون، فعاقبكم الله تعالى بتلك الخيانة، ومنع الله عنا موسى. فاجمعوا الحلي الذي أخذتم من آل فرعون حتى نحرقها، فلعل الله تعالى يرد علينا موسى فجمعوا الحلي وكان السامري صائغاً، فجعل الحلي في النار واتخذ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ وقد كان رأى جبريل على فرس الحياة، فكلما وضع الفرس حافره ظهر النبات في موضع حافره. فأخذ كفاً من أثر حافره من التراب وألقى ذلك التراب في العجل. فصار العجل من حليهم عجلا جسدا. قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط. وروي عن ابن عباس قال صار عجلاً له لحم ودم وله خوار يعني: صوت مثل صوت العجل ولم يسمع منه إلا صوت واحد. وقال بعضهم: سمع منه صوت ولم يسمع منه إلا مثل صوت العجل. وقال بعضهم: جعله مشتبكاً فدخل فيه الريح فسمع منه صوت مثل
551
صوت العجل. فقال لقومه: هذا إلهكم وإله موسى، فاغترّ به الجهال من بني إسرائيل وعبدوه.
قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ يعني: لا يقدر على أن يكلمهم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يعني: لا يرشدهم طريقاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ يعني: كافرين بعبادتهم. وقرأ حمزة والكسائي مِنْ حُلِيِّهِمْ بكسر الحاء. وقرأ الباقون مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء. فمن قرأ بالكسر فهو اسم لما يحسن به من الذهب والفضة. ومن قرأ بالضم، فهو جمع الحَلْي ويقال:
كلاهما جمع الحَلْي وأصله الضم إلا أن من كسر فلاتباع الكسرة بالكسرة.
قوله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ يعني: ندموا على ما صنعوا. يقال: سقط في يده إذا ندم. وأصله أن الإنسان إذا ندم جعل يده على رأسه.
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي علموا أنهم قد ضلوا عن الهدى قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا قرأ حمزة والكسائي لَئِن لَّمْ ترحمنا بالتاء على معنى المخاطبة رَبَّنَا بالنصب يعني: يا ربنا.
وقرأ الباقون لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بالياء وضم الياء على معنى الخبر. وَيَغْفِرْ لَنا بعد التوبة عطف على قوله لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني: من المغبونين.
قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ يعني: من الجبل غَضْبانَ أَسِفاً يعني:
حزيناً. ويقال: الأسف في اللغة شدة الغضب. ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥] ويقال: أشد الحزن كقوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف: ٨٤] قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي يعني: بعبادة العجل يعني: بئسما فعلتم في غيبتي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعني: استعجلتم ميعاد ربكم. ويقال: أعصيتم أمر ربكم. ويقال: معناه أَعَجِلْتُمْ بالفعل الذي استوجبتم به عقوبة ربكم وَأَلْقَى الْأَلْواحَ من يده. قال الكلبي: انكسرت الألواح وصعد عامة الكلام الذي كان فيها من كلام الله تعالى إلى السماء. وقال بعضهم: هذا الكلام في ظاهره غير سديد. لأن الكلام صفة والصفة لا تفارق الموصوف. فلا يجوز أن يقال:
الكلام يصعد ويذهب. ولكن تأويله أن الألواح لما انكسرت ذهب أثر المكتوب منها وهذا إذا كان غير الأحكام. وأما الأحكام أيضاً فلا يجوز أن تذهب عنه وإنما أراد بذلك حجة عليهم.
وروي في الخبر: أن الله تعالى أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل. قال موسى: يا رب من اتخذ لهم العجل؟ قال: السامري. قال: ومن جعل فيه الروح؟ قال: أنا. قال: فأنت فتنت قومي؟. قال له ربه: تركتهم لمرادهم. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ». لما أخبر الله تعالى بأن قومه قد عبدوا العجل لم يلق الألواح. فلما عاين ألقى الألواح.
ثم قال: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يعني: أخذ بشعر رأسه ولحيته يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ يعني: قال له هارون: يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في
552
رواية حفص: يا ابْنَ أُمَّ بنصب الميم. وقرأ الباقون بالكسر. وهكذا في سورة طه فمن قرأ بالنصب جعله كاسم واحد كأنه يقول يا ابن أماه. كما يقال: يا ويلتاه ويا حسرتاه. ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الإضافة إلى نفسه. وكان موسى أخاه لأبيه وأمه. ولكن ذكر الأم ليرفعه عليه.
إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي يعني: قهروني واستذلوني وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يعني: هموا بقتلي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ يعني: لا تفرح عليّ أعدائي يعني: الشياطين ويقال: أصحاب العجل وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني: لا تظنن أني رضيت بما فعلوا. قال موسى:
رَبِّ اغْفِرْ لِي بما فعلت بأخي هارون ويقال: لإلقاء الألواح وَاغفر لِأَخِي ما كان منه من التقصير في تركهم على عبادة العجل وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ يعني: جنتك وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يعني: أنت أرحم بنا منا بأنفسنا. وقال الحسن: يعني أنت أرحم بنا من الأبوين.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ يعني: اتخذوا العجل إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ يعني: يصيبهم عذاب من ربهم وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهو ما أمروا بقتل أنفسهم. ويقال:
هذا قول الله تعالى للنبي ﷺ يعني: يصيب أولادهم ذلة في الحياة الدنيا. وهي الجزية وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ يعني: هكذا نعاقب المكذبين.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني: رجعوا عن الشرك بالله وعن السيئة وَآمَنُوا يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة، ويقال: من بعد السيئات لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني: لَغَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم بعد التوبة.
553
ثم رجع إلى قصة موسى- عليه السلام- وهو قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ يعني: لما سكت عن موسى الغضب. ويقال: ولما سكت موسى عن الغضب أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها يعني: في بقيتها فنسخت له الألواح، وأعيدت له في اللوحتين مكان التي انكسرت. هُدىً وَرَحْمَةٌ يعني: فيما بقي منها بياناً من الضلالة ورحمة من العذاب. لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يعني: يخافون الله ويعملون له بالغيب. ويقال: وفي نسختها يعني: في كتابها هدى من الضلالة ورحمة من العذاب للذين يخشون ربهم.
قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا يعني:
للميقات الذي وقتنا له فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني الزلزلة، تزلزل الجبل بهم فماتوا قالَ موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: من قبل أن يصحبوني وَإِيَّايَ بقتل القبطي أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال الكلبي: ظن موسى أنه إنما أهلكهم باتخاذ بني إسرائيل العجل. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: انطلق موسى وهارون ومعهما شَبَّر وَشَبيِّر وهما ابنا هارون حتى انتهوا إلى جبل وفيه سرير، فنام عليه هارون فقبض، فرجع موسى إلى قومه، فقالوا له: أنت قتلته حسداً على خلقه ولينه. قال: كيف أقتله ومعي ابناه، فاختاروا من شئتم، فاختاروا سبعين، فانتهوا إليه. فقالوا له: من قتلك يا هارون: قال ما قتلني أحد ولكن توفاني الله تعالى. فأخذتهم الرجفة فماتوا كلهم. فقال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإياي. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: لما انطلق موسى إلى الجبل أمر بأن يختار سبعين رجلاً من قومه: فاختار من كل سبط ستة رجال، فبغلوا اثنين وسبعين، فقال موسى: إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان، ولهما أجر من حضر، فرجع يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا. فذهب موسى مع السبعين إلى الجبل، فلما رجع إليهم موسى من المناجاة قالوا له: إنك قد لقيت ربك فأرنا الله جهرة حتى نراه كما رأيته. فجاءتهم نار فأحرقتهم فماتوا.
فقال موسى: حين أماتهم الله تعالى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ هذا اليوم وإياي معهم أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعني: أتوقعني في ملامة بني إسرائيل وتعييرهم بفعل هؤلاء السفهاء ثم أحياهم الله تعالى.
وروى أسباط عن السدي قال: إن موسى انطلق بسبعين من بني إسرائيل يعتذرون إلى ربهم عن عبادة العجل، وذكر نحو حديث عبد الله بن عباس ثم قال: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ يعني بليتك وعذابك ويقال: يعني عبادة العجل بليتك حيث جعلت الروح فيه تُضِلُّ بِها أي بالفتنة مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ من الفتنة أَنْتَ وَلِيُّنا أي حافظنا وناصرنا فَاغْفِرْ لَنا يعني: ذنوبنا وَارْحَمْنا يعني: ولا تعذبنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ يعني: المتجاوزين عن الذنوب.
554
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً يعني: اقض لنا وأعطنا في الدنيا العلم والعبادة والنصرة والرزق الحسن الحلال وَفِي الْآخِرَةِ يعني: وأعطنا في الآخرة حسنة وهي الجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ يعني: تبنا إليك وأقبلنا إليك هكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة. وأصله في اللغة الرجوع من الشيء إلى الشيء قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ يعني: هذا عذابي أخصّ به من أشاء من العباد من كان أهلاً لذلك وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إنْ رحمتهم ويقال: إن الزلزلة والرجفة كانتا عذابي، وأنا أنزلتها، وأنا أصيب بالعذاب من أشاء، وما سألت من الغفران فمن رحمتي ورحمتي وسعت كل شيء من كان أهلاً لها. ويقال: لكل شيء حظ من رحمتي. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن قتادة والحسن قالا: ورحمتي التي وسعت كل شيء يعني: وسعت في الدنيا البر والفاجر وفي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة.
ويقال: لما نزلت هذه الآية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ تطاول إبليس، وقال: أنا من تلك الأشياء فأكذبه الله تعالى وآيسه فأنزل قوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني: فسأقضيها وسأوجهها للذين يتقون الشرك وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فقالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالآيات، وهي التوراة والإنجيل، ونعطي الزكاة فهذه الرحمة لنا فأكذبهم الله تعالى وأنزل الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية ويقال ورحمتي وسعت كل شيء يعني: طمع كل قوم برحمتي، وأنا أوجبتها للمؤمنين وهم أمة محمد ﷺ الذين يتقون الشرك، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون، يعني: يصدقون بمحمد ﷺ والقرآن.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ يعني: محمدا ﷺ الذي لا يكتب ولا
يقرأ الكتب قال الزجاج: الأُمِّيُّ الذي هو على خِلْقَةِ أمه لم يتعلم الكتابة وهو على جبلته.
ويقال: إنما سمي محمد ﷺ أمِّيّاً لأنه كان من أم القرى وهي مكة.
ثم قال: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ يعني: يجدون نعته وصفته فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني: شرائع الإسلام بالتوحيد يرخص لهم الحلالات من الشحوم واللحوم وأشباهها وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ يعني: ويبيّن لهم الحرام الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير والخمر وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ يعني: ثقلهم من العهود قرأ ابن عامر آصَارَهُمْ على معنى الجماعة. وأصل الإصر الثقل. فسمي العهد إصْراً لأن حفظ العهد يكون ثقيلاً. ويقال: يعني الأمور التي كانت عليهم في الشرائع. ويقال: هو ما عهد عليهم من تحريم الطيبات.
ثم قال: وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وهي كناية عن أمور شديدة لأن في الشريعة الأولى كان الواحد منهم إذا أصابه البول في ثوبه وجب قطعه، وكان عليهم ألا يعملوا في السبت، وغير ذلك من الأعمال الشديدة فوضع عنهم ذلك.
ثم قال: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يعني: صدقوه وأقروا بنبوته وَعَزَّرُوهُ يعني: عظموه وشرفوه. ويقال: أعانوه وَنَصَرُوهُ بالسيف وَاتَّبَعُوا النُّورَ يعني: القرآن الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ يعني: أهل هذه الصفة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي والناجون في الآخرة وهم في الرحمة التي قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: ١٥٦].
قوله:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٢]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
556
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني: يا أهل مكة ويقال: هو لجميع الناس إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ويقال: إنه أول نداء نادى به في مكة بهذه الآية. وكان من قبل يدعو واحداً واحداً.
فلما نزلت هذه الآية، أظهر ونادى في الناس: يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً من ذلك الرب الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني: لا خالق ولا رازق في السماء ولا في الأرض إلا هو يُحيِي وَيُمِيتُ يعني: يحي الأموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا، ويحيي للبعث ثانياً. ويقال: يحيي يعني: يخلق الخلق من النطفة، ويميتهم عند انقضاء آجالهم. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يعني: يصدق بالله وَكَلِماتِهِ يعني: القرآن قال: السدي وَكَلِمَتُهُ يعني: صدق بأن عيسى صار مخلوقاً بكلمة الله وَاتَّبِعُوهُ يعني: محمدا ﷺ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ من الضلالة.
قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يعني: جماعة يدعون إلى الحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعني: وبالحق يعملون. وقال بعضهم: يعني به مؤمني أهل الكتاب وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وهذا كما قال في آية أخرى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ [آل عمران: ١١٣] الآية. وقال بعضهم: هم قوم من وراء الصين من أمة موسى ما وراء رمل عالج. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى البيت المقدس ومعه جبريل فرفعه إليهم وكلّمهم وكلّموه. فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا:
لا. قال: فإن هذا محمد النبي الأمي. قال: يا جبريل وقد بعثه الله تعالى؟ قال نعم فآمنوا به وصدّقوه. وقالوا: يا رسول الله أن موسى بن عمران أوصى إلينا أن من أدرك ذلك النبي منكم فليقرأ عليه السلام مني ومنكم ورد رسول الله ﷺ على موسى ورد عليهم السلام ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لِي أَرَى بُيُوتَكُمْ مُسْتَوِيَةً» ؟ قالوا: لأنا قوم لا يبغي بعضنا على بعض. قال:
«فما لي لا أرى عليها أبواباً» ؟ قالوا: إنّا لا يضر بعضنا بعضاً. قال: «فَمَا لِي لا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ؟ قالوا: ما ضحكنا قط لأن الله تعالى أخبرنا في كتابه أن جهنم عرضها ما بين الخافقين وقعرها الأرض السفلى، وقد أقسم الله تعالى ليملأنها مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ.
قال: «فَهَلْ تَبْكُونَ عَلَى المَيِّتِ» ؟ قالوا: يا رسول الله كيف نبكي على الميت وكلنا ميتون. وهو سبيل لا بد منه. والله أعطانا والله أخذ منا. قال: «فَهَلْ تَمْرَضُونَ» ؟ قالوا: يا رسول الله إنما يمرض أهل الذنوب والخطايا. فأما نحن فمعصومون بدعاء نبي الله موسى- عليه السلام-
557
قال: «فَكَيْفَ تَمُوتُونَ إِذَا لَمْ تَمْرَضُوا؟» قالوا: إذا استوفى أحدنا رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه فندفنه، حيث يموت. قال: «فَهَلْ تَحْزَنُونَ إذَا وُلِدَ لأَحَدِكُمْ جَارِيَةٌ» ؟ قالوا: يا رسول الله لا ولكنا نصوم لله تعالى شهراً شكرا، فإذا ولد لأحدنا غلام نصوم لله شهرين شكراً لله تعالى.
قال: «فَهَلْ فِيكُمْ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبٌ» ؟ قالوا: نعم. قال: «كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهِنَّ» ؟ قالوا: يا رسول الله نمشي عليهن ويمشين علينا، ولا نؤذيهن ولا تؤذينا، آمنات منا ونحن آمنون منهن. قال:
«فَهَلْ لَكُمْ مَاشِيَةٌ» ؟ قالوا: نعم، نجز أصوافها فنتخذ منه الأفنية والأكسية، ونأكل من لحومهن الكفاف، وكل أهل القرية فيها شرع أي سواء ليس أحد أحق به منا. قال: «فَهَلْ تَزِنُونَ أَوْ يُوزَنُ عَلَيْكُمْ» ؟ قالوا: لا نزن ولا يوزن علينا ولا نكيل ولا يكال علينا ولا نشتري ولا نبيع. قال:
«فَمِنْ أيْنَ تَأْكُلُونَ» ؟ قالوا: يا رسول الله: نخرج فنزرع، ويرسل الله تعالى السماء علينا فينبته، ثم نخرج إليه فنحصده، ونضعه في أماكن من القرية، فيأخذ أهل القرية منها الكفاف ويدعون ما سواه. قال: «فَهَلْ تُجَامِعُونَ النِّسَاءَ» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله لنا بيوت مظلمة وثياب معلومة فإذا أردنا المجامعة لبسنا ثيابنا تلك ودخلنا تلك البيوت، لا يرى الرجل عورة امرأته ولا المرأة عورة زوجها. قال: «فَهَلْ فِيكُمُ زِنًى؟» قالوا: يا رسول الله لا فإن فعل ذلك أحد منا لظننا أن الله تعالى يبعث عليه ناراً فيحرقه أو يخسف به الأرض، ولكن إذا كان للرجل منا ابنة طلبها منه رجل فيزوجه إياها إرادة الأجر والعفة. قال: «فَهَلْ تَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ» ؟ قالوا: لا. يا رسول الله. إنما يكنز الذهب والفضة من لا يثق بالله، ومن يرى أن الله تعالى لم يتكفل له برزقه. فأما نحن فلا نكنز الذهب والفضة. فأقرأهم رسول الله ﷺ عشر سور من القرآن أنزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فعلمهم رسول الله ﷺ وأمرهم بالصلاة والزكاة ورجع من ليلته. وقال قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال: «قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا» وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعني: في هذه الأمة.
ثم قال: وَقَطَّعْناهُمُ يعني: بني إسرائيل فرقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً يعني:
جماعة والأسباط جَمْعٌ والسبط في بني إسرائيل مثل القبيلة عند العرب وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى يعني: في التيه إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ إلى قوله: رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ كل ذلك مذكور في سورة البقرة قرأ أبو عمرو نَّغْفِرْ لَكُمْ بالنون خطاياكم. وقرأ ابن عامر تَغْفِرْ لَكُمْ بالتاء والضم خطيئتكم بالرفع وبلفظ الواحد. وقرأ نافع تَغْفِرْ لكم بالتاء، والضم خطيئاتكم بلفظ الجماعة، وقرأ الباقون نَغْفِرْ لَكُمْ بالنون خَطِيئاتِكُمْ بلفظ الجماعة.
قوله تعالى:
558

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٧٠]

وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ واسمها أيلة وذلك أن اليهود قالوا: نحن من أبناء إبراهيم ﷺ فلا يعذبنا الله تعالى إلا مقدار عبادة العجل فقال الله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ يعني: أهل القرية التى كانت حاضرة البحر كيف عذبهم الله تعالى بذنوبهم.
ثم أخبر عن ذنوبهم فقال تعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعني: أنهم استحلوا الصيد في يوم السبت. وقال: يعتدون في يوم السبت. وأصل الاعتداء هو الظلم. يقال: عدوت على فلان إذا ظلمته واعتديت عليه.
ثم قال: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً يعني: يوم استراحتهم شوارع في الماء وهو جمع الشارع وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ يعني: إذا لم يكن يوم السبت ويوم الراحة لا تأتيهم. وإنما تم الكلام عند قوله: تَأْتِيهِمْ ثم ابتدأ فقال: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ يعني: هكذا
559
نختبرهم. وقال بعضهم: إنما يتم الكلام عند قوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك يعني:
لا تأتيهم كما تأتيهم يوم السبت لأن في يوم السبت تأتيهم الحيتان شارعات من أسفل الماء إلى أعلاه وفي سائر الأيام يأتيهم القليل، ولا يأتيهم كما يأتيهم في يوم السبت.
ثم ابتداء الكلام فقال: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني: نختبرهم بما كانوا يعصون الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي عصبة وجماعة منهم وهي الظلمة للأمة الواعظة لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لأن الواعظة نهوهم عن أخذ الحيتان، وخوفوهم، فرد عليهم الظلمة لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرأ عاصم في إحدى الروايتين مَعْذِرَةً بالنصب يعني: نعتذر إلى ربكم. وقرأ الباقون مَعْذِرَةً بالضم يعني: هي معذرة يعني: لا ندع الأمر بالمعروف حتى نكون معذورين عند الله تعالى وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني: لعلهم ينتهون فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ يعني: تركوا ما وعظوا به أَنْجَيْنَا من العذاب الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: عذبنا الذين تركوا أمر الله بِعَذابٍ بَئِيسٍ يعني: شديد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني: يعصون ويتركون أمر الله تعالى. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: كان القوم ثلاثة فرق. فرقة كانوا يصطادون.
وفرقة كانوا ينهون. وفرقة لم ينهوا ولم يستحلوا وقالوا للواعظة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ. وروى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف وقلت: ما يبكيك قال: تبكيني هذه السورة وهو يقرأ سورة الأعراف. وقال: هل تعرف أيلة؟ قلت: نعم. قال: إن الله تعالى أسكنها حياً من اليهود، وابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في سائر الأيام. فإذا كان يوم السبت خرجت إليهم الحيتان. فإذا ذهب السبت غابت في البحر حتى يغوص لها الطالبون، وإن القوم اجتمعوا واختلفوا فيها. فقال فريق منهم: إنما حرمت عليكم يوم السبت أن تأكلوها فصيدوها يوم السبت، وكلوها في سائر الأيام. وقال الآخرون: بل حرم عليكم أن تصيدوها أو تنفروها أو تؤذوها. وكانوا ثلاث فرق: فرقة على أَيمانهم، وفرقة على شمائلهم، وفرقة على وسطهم فقالت الفرقة اليمنى فجعلت تنهاهم في يوم السبت، وجعلت تقول: الله يحذركم بأس الله. وأما الفرقة اليسرى فأمسكت أيديها، وكفت ألسنتها. وأما الوسطى فوثبت على السمك تأخذه. وجعلت الفرقة الأخرى التي كفت أيديها، وألسنتها، ولم تتكلم. تقول: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فقال: الَّذِينَ يَنْهَوْنَ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فدخل الذين أصابوا السمك إلى المدينة، وأبى الآخرون أن يدخلوا معهم فغدا هؤلاء الذين أبوا أن يدخلوا المدينة. فجعلوا ينادون من فيها فلم يجبهم أحد. فقالوا: لعل الله خسف بهم، أو رموا من السماء بحجارة، فارفعوا رجلاً ينظر، فجعلوا رجلاً على سلم فأشرف
560
عليهم، فإذا هم قردة تتعادى ولها أذناب قد غيّر الله تعالى صورهم بصنيعهم. فصاح إلى القوم فإذا هم قد صاروا قردة، فكسروا الباب، ودخلوا منازلهم، فجعلوا لا يعرفون أنسابهم، ويقولون لهم: ألم ننهكم عن معصية الله تعالى ونوصيكم؟ فيشيرون برءوسهم بلى ودموعهم تسيل على خدودهم. فأخبر الله تعالى أنه أنجى الذين ينهون عن السوء، وأخذ الذين ظلموا.
قوله: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ. ولا يدرى ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يأخذوا.
وقال عكرمة: بل أهلكهم الله لأنه أنجى الذين ينهون عن السوء. وأهلك الفريقين الآخرين. فوهب له ابن عباس بردة بهذا الكلام.
وروي في رواية أُخرى أنهم كانوا يأخذون الحظائر والحياض بجنب البحر، ويسيلون الماء فيها يوم السبت من البحر حتى يدخل فيها السمك، ويأخذونه في يوم الأحد فقالوا: إنا نأخذه في يوم الأحد. فلما لم يعذبوا استحلوا الأخذ في يوم السبت من البحر وقالوا: إنما حرم الله على أبنائنا ولم يحرم علينا فنهاهم الصلحاء فلم يمتنعوا، فضربوا حائطاً بينهم، وصارت الواعظة في ناحية، والذين استحلوا في ناحية والحائط بين الفريقين. فأصبحوا في يوم من الأيام ولم يفتح الباب الذي بينهما، فارتقى واحد منهم الحائط، فإذا القوم قد مسخوا إلى قردة. وقال بعضهم: كان القوم أربعة أصناف صنف يأخذون، وصنف يرضون، وصنف ينهون، وصنف يسكتون، فنجا صنفان، وهلك صنفان. قال بعضهم: كانوا صنفين صنف يأخذون، وصنف ينهون. وروى قتادة عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: كانوا ثلاث فرق فهلك الثاني، ونجا الثالث، والله أعلم ما فعل بالفرقة الثالثة. قرأ نافع بعذاب بِيْس بكسر الباء وسكون الياء بلا همز. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بعذاب بَيْأَس بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة. وقرأ الباقون: بِعَذابٍ بَئِيسٍ بنصب الباء وكسر الياء والهمزة وسكون الياء وهي اللغة المعروفة، والأولى لغة لبعض العرب.
ثم قال: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ يعني: تركوا ما وعظوا به قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ يعني: صاغرين مبعدين عن رحمة الله.
قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ يعني: أعلم ربك ويقال: قال ربكم وكل شيء في القرآن تأذن فهو إعلام. ومعناه قال: لَيَبْعَثَنَّ أي ليسلطن عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي على بني إسرائيل، والذين لا يؤمنون بمحمد ﷺ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ يعني: يعذبهم بالجزية والقتل إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ إذا عاقب من أصرّ على كفره وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن تاب من الشرك رَحِيمٌ بعد ذلك.
ثم قال: وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي فرقاً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ أي
561
المؤمنون وهم مؤمنوا أهل الكتاب. ويقال: هم الذين وراء رمل عالج وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وهم الكفار منهم وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ يعني: اختبرناهم بالخصب والجدوبة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من الكفر إلى الإيمان.
ثم قال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يعني: بعد بني إسرائيل خلف السوء وَرِثُوا الْكِتابَ يعني: التوراة يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى يقول: يستحلون أخذ الحرام من هذه الدنيا وهو الرشوة في الحكم وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قال مجاهد: يعني: يأخذون ما يجدون حلالاً أو حراماً ويتمنَّون المغفرة وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي وإن يجدوا مثله من العرض يأخذوه. ويقال: معناه أنهم يصرون على الذنوب وأكل الحرام، فإذا أخذوا أول النهار يعودون إليه في آخر النهار ولا يتوبون عنه. ويقال: يطلبون بعلمها الدنيا. ويقال: يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا هذه المرة. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ويقولون مثل ذلك: أي سيغفر لنا لأنا لا نشرك بالله شيئاً. وقال سعيد بن جبير: يأخذون عرض هذا الأدنى. يقول: يعملون بالذنوب. ويقولون: سيغفر لنا ما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار. وما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ يعني: الذنوب. قال الله تعالى:
أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ يعني: ألم يؤخذ عليهم ميثاقهم في التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي: إلا الصدق وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أي قرءوا ما فيه وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: يتقون الشرك، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الآخرة خير من الدنيا. ويقال: أَفَلا يَعْقِلُونَ ما يدرسون من الكتاب. ويقال: أَفَلا يَعْقِلُونَ أن الإصرار على الذنوب ليس من علامة المغفورين، قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بالتاء على وجه المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ يعني: يعملون بالتوراة ولا يغيرونها عن مواضعها وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني: أتموا الصلاة المفروضة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ يعني: عمل الموحدين وهم الذين يمسكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة. قرأ عاصم في رواية أبي بكر يُمَسِّكُونَ بالتخفيف. وقرأ الباقون يُمَسِّكُونَ بالتشديد على معنى المبالغة.
ثم قال تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧١ الى ١٧٤]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
562
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ يقول: قلعنا ورفعنا الجبل فوقهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي كهيئة الغمام وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي أنه يعني: أيقنوا الجبل واقع بهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي قيل لهم: اعملوا بما أعطيناكم من التوراة بقوة أي بجد ومواظبة وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ أي اعملوا ما فيه من الحلال والحرام والأمر والنهي لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي، وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة، فرفع الجبل فوقهم فقبلوا.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ أي: اذكر يا محمد إذا أخذ ربك. ويقال: معناه وقد أخذ ربك من بني آدم من ظهور بني آدم ذُرِّيَّتَهُمْ يعني: أَخَذَ رَبُّكَ مِن ظهور بني آدم ذُرّيَّتُهُم. وقال بعضهم: يعني الذرية التي تخرج وقتاً بعد وقت إلى يوم القيامة وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ فقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى يعني: إنَّ كل بالغ تشهد له خلقته بأن الله تعالى واحد شَهِدْنا يعني: قال الله تعالى شهدنا أَنْ تَقُولُوا أي لكيلا تقولوا. ويقال: هذا كراهة أن يقولوا: يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ وروي عن أبي صالح عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: إن الله مسح على ظهر آدم فأخرج ذريته من صلبه كهيئة الذر من هو مولود إلى يوم القيامة. فقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا بأنك ربنا قال بعضهم: هذا التفسير لا يصح وطعنوا فيه من وجوه أحدها أن الرواية لم تصح لأنها رواية أبي صالح، وأبو صالح ليس ممن يعتمد على روايته، لأنه روي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح، وأبو صالح ليس ممن يعتمد على روايته، لأنه روي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح ويفرك أذنه، ويقول له: إنك لم تحسن أن تقرأ القرآن، فكيف تفسره بالرأي. قالوا: ولأن هذا غير محتمل في اللغة لأنه قال: من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم.
قالوا: ولأنه لا يجوز من الحكيم أن يخاطب الذر. وإنما يجوز خطاب من هو عاقل. ومن كان مثل الذر كيف يجوز خطابه؟ قالوا: ولأنه لا يجوز أن تكون حجة الله بشيء لم يذكر.
وإنما تكون الحجة بشيء يكون الإنسان ذاكراً له. قالوا: ولأن الله تعالى قال: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: ١١] ولم يقل: أحييتنا ثلاث مرات. ولكن الجواب أن يقال: إن الرواية صحيحة، لأن الآثار قد جاءت عن أصحاب رسول الله ﷺ ما لا يجوز دفعه. فمن ذلك ما حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا الماسرخسي. قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن علية عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ قال: مسح الله تعالى ظهر آدم فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. فأخذ ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى.
563
قال: حدثنا الشيخ الرئيس أبو طاهر محمد بن داود. قال: حدثنا محمد بن أحمد بأستراباذ. قال: حدثنا أحمد بن زكريا. قال: حدثنا عبد السلام بن صالح عن جعفر بن سليمان عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري. قال: حججنا مع عمر في أول خلافته فوقف على الحجر ثم قال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ قبَّلك ما قبّلتك. فقال له عليّ- رضي الله عنه-: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنه يضر وينفع بإذن الله. ولو أنك قرأت القرآن وعلمت ما فيه ما أنكرت عليّ ما قلت. قال الله تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فلما أقروا بالعبودية على أنفسهم، كتب إقرارهم في رق، ثم دعا هذا الحجر فقال له: افتح قال: فألقمه ذلك الرق فهو أمين الله في هذا المكان يشهد لمن استلمه ووافاه يوم القيامة. فقال له عمر- رضي الله عنه-: لقد جعل الله بين ظهرانيكم من العلم غير قليل.
وروى ربيع بن أنس عن أبن العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الآية. قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً، ثم صورهم، ثم استنطقهم، ثم قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا بأنك ربنا. قال: فإني أرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا رسلي، وصدقوا وعدي وأخذ عهدهم وميثاقهم فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك. فقال آدم: رب لو شئت سويت بين عبادك.
فقال: إني أحببت أن أشكر. قال: والأنبياء يومئذ مثل السرج فأخذ عليهم ميثاق الرسالة أن يبلغوها. فهو قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ [الأحزاب: ٧] الآية.
قال الفقيه: أخبرني الثقة بإسناده عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله ﷺ أنه سئل عن هذه الآية فقال: «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ:
خَلَقْتُ هؤلاء لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظهره فاستخرج منه ذرية، فَقَالَ:
خَلَقْتُ هؤلاء لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ»
. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال:
«إن الله تعالى إذا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ. وَإذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ النَّارَ». وبهذا احتج الجبرية أن ما عمل عبد عملاً من خير أو شر إلا ما قدره الله تعالى يوم الميثاق.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما خلق الله تعالى آدم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر، فقال لأصحاب اليمين: هؤلاء في الجنة ولا أبالي وقال للآخرين: هؤلاء في النار ولا أبالي.
564
وروى أسباط عن السدي في قول الله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ الآية. قال: لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء، مسح صفحة ظهر آدم اليمين فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى أخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فأجابه طائفة طائعين، وطائفة كارهين. فقال هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة:
إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ.
فلما رويت فيه من الأخبار من طرق شتى لا يجوز رده، ويرجع الطعن إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- ورضي الله تعالى عنهم-. ويجب للطاعن أن يطعن في فهم نفسه لا في الصحابة. وهذا كقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: ١١] أما الجواب عن قولهم: إنه قال: مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهر آدم فالمعنى في ذلك- والله أعلم- أنه قد أخرج ذرية آدم الذين هم ولده من صلبه، ثم أخرج من ظهورهم ذريتهم، ثم أخرج من بعدهم حتى أخرج جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة، فأخرج من ظهورهم كل نسمة تخرج من ظهر، فذكر الأخذ من ظهور ذريته، ولم يذكر ظهر آدم لأن في الكلام دليلاً عليه كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غافر: ٤٦] ولم يذكر فرعون لأن في الكلام دليلاً عليه.
وأما الجواب عن قولهم: إنه لا يجوز خطاب الذر فعن هذا القول جوابان. أحدهما: أنه يجوز أن يكونوا كالذر في الصغر ويرزقهم الله تعالى من العقل ما يكونوا به من أهل الخطاب.
ألا ترى أن نملة سليمان بن داود- عليهما السلام- قد تكلمت بكلام العقلاء وفهم ذلك عنها سليمان، وسبَّح الطير والجبال مع داود، فكذلك هذا. والجواب الثاني أنهم كانوا كالذر في الازدحام والكثرة لا في الخلقة والجثة. ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم لأن الذر إذا كثرت وازدحمت لا يعرف عددها. فكذلك ذرية آدم كانوا في الكثرة والازدحام مثل الذر.
ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم. والجواب عن قولهم: أنه لا تكون الحجة بشيء لم يذكر أن يقال: إن الله تعالى قد أرسل الرسل وأخبرهم بذلك الميثاق، وإذا أخبرهم الرسل بذلك صار حجة عليهم. فإن قيل: إن الرسل وإن أخبروهم فإذا لم يذكروا ذلك فكيف يصير حجة عليهم؟ قيل لهم: وإن لم يذكروا صار قول الثقات حجة عليهم. ألا ترى أن رجلاً لو طلق امرأته وقد نسي فشهد عليه شاهدان عدلان بأنه قد طلقها قبل غيبته عنها يجب عليه أن يقبل قولهما. وكذلك لو صلى فشهد عليه عدلان أنه ترك ركعة من صلاته وجب عليه أن يأخذ بقولهما وإن كان لا يذكر. فكذلك هاهنا والجواب عن قولهم أنه لم يقل: أحييتنا ثلاث مرات.
لأن الإحياء المعروف مرتان فذكر الإحياء الذي كان معروفاً عنده. وقوله تعالى: شَهِدْنا قال
565
بعضهم: هذا حكاية عن قول الذرية قالوا: بلى شهدنا. وتم الكلام. ثم في الآية مضمر ومعناه: أخذنا عليهم الميثاق لكي لا يقولوا هذا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ وقال بعضهم: إنما تم الكلام عند قوله: بَلى ثم إنه قال تعالى: شَهِدْنا يعني: شهدنا عليكم وأخذنا عليكم الميثاق لكيلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين أَوْ تَقُولُوا أي: لكيلا تقولوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ ونقضوا العهد وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لم نعلم به أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني: آباؤنا المشركون. فإن قيل: هل كان إقرارهم إيماناً منهم؟ قيل له: أما المؤمنون كان إقرارهم إيماناً. وأما الكافرون فلم يكن إقرارهم إيماناً. لأن إقرارهم كان تقية. ولم يكن حقيقة. قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو ذُرّياتِهِمْ بلفظ الجماعة.
وقرأ الباقون ذُرِّيَّتَهُمْ بلفظ واحد لأن الذرية قد أضافها إلى الجماعة فاستغنى عن لفظ الجمع. وقرأ أبو عمرو أَن يَقُولُواْ بالياء وكذلك في قوله أَوْ يَقُولُواْ. وقرأ الباقون كليهما بالتاء على معنى الخطاب.
قوله عز وجل: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني: هكذا نبيّن الآيات في أمر الميثاق وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى إقرارهم وإلى التوبة فالواو الأولى للعطف وهو قوله وَكَذلِكَ والواو الثانية زيادة للوصل وهي قوله: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ومعناه: وكذلك نفصل الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٨]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أَيُّ إِن لَّمْ يرجعوا بذكر الميثاق، ولم يتوبوا، ولم يتعظوا، فاتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ أي خبر الذي أعطيناه آياتِنا يعني: أكرمناه باسم الله الأعظم. ويقال:
آتَيْناهُ آياتِنا يعني: الكتاب وهي علم التوراة وغيره فَانْسَلَخَ مِنْها يعني: خرج منها كما
566
تنسلخ الحية من جلدها. ويقال: تهاون بها ولم يعرف حقها، ولا حرمتها، وخرج منها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ يقول: غرّه الشيطان فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أي فصار من الظالمين وفي الضالين. قال بعضهم: هو بلعم بن باعوراء كان عابداً من عباد بني إسرائيل، وكان مستجاب الدعوة، فنزع الله تعالى الإيمان عنه بدعاء موسى عليه السلام، وذلك أن موسى عليه السلام قاتل فرعوناً من الفراعنة فجمع ذلك الفرعون الكهنة والسحرة، فقال لهم: أعينوني على هؤلاء- يعني: قوم موسى- فقالوا: لن تستطيعهم، ولكن بجوارك رجل منهم فلو بعثت إليه واستعنت به، فبعث الملك إلى بلعم فلم يجبه، فبعث الملك إلى امرأة بلعم الهدايا وطلب منها بأن تأمره بأن يجيب الملك، فجاءته امرأته وقالت: نحن في جوار هذا الملك فلا بد لك من إجابته. فأجابهم إلى ذلك، وركب أتاناً له، وخرج إليهم فسار حتى إذا كان في بعض الطريق وقفت أتانه فضربها، فلما ألح عليها كلّمته الأتان وقالت: انظر إلى ما بين يديك فنظر فإذا هو جبريل قال له: خرجت مخرجاً ما كان ينبغي لك أن تخرج. فإذا خرجت فقل حقاً قال: فلما قدم عليه أمر له بالذهب والفضة والخدم والفرش فقبل. فقال له: قد دعوتك لتدعو لي على هذا العسكر دعوة. قال: غداً. فلما تلاقى القوم قال بلعم: إن بني إسرائيل أمة موسى ملعون من لعنهم ومبارك من بارك عليهم. فقالوا له: ما زدتنا إلا خبالاً. قال بلعم: ما استطعت غير ما رأيت. ولكني أدلك على أمر إن فعلته فوقعوا به خُذِلوا ونصرت عليهم، تعمد إلى نساء حسان فتجعل عليهم الحلي والثياب والعطر ثم ترسلهن في عسكرهم. فإن وقعوا بهن خذلوا.
ففعل ذلك فما تعرض لهن منهم إلا سفهاؤهم فخذلوا. فأخبر بذلك موسى فدعا عليه فنزع الله منه الإيمان. وقال بعضهم: إنما هو أمية بن أبي الصلت قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر أن نبينا يبعث وكان قد أظل زمانه. وكان يرى أن الوحي ينزل عليه لكثرة علمه.
فلما سمع بخروج النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقصته كفر حسداً له. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم إذا سمع شعره قال: «آمن لسانه وكفر قلبه» فذلك قوله: آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ.
ثم قال: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها يعني: بالآيات ويقال: رفعناه في الآخرة بما علمناه من آياتنا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ يعني: أمية بن أبي الصلت أو بلعم بن باعوراء مال إلى الدنيا ورضي بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي هوى نفسه ويقال: عمل بهوى المرأة وترك رضى الله ويقال:
أخذ مسافل الأمور وترك معاليها فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يقول: مثل بلعم كمثل الكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ يقول: إن طردته فهو يلهث أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ يعني: وإن تركته فهو يلهث. قال القتبي: كل شيء يلهث من إعياء أو عطش ما خلا الكلب. فإنه يلهث في حال الراحة والصحة والمرض. فضرب الله تعالى به مثلاً يعني: كما أن الكلب إن طردته أو تركته يلهث فكذلك بلعم أو أمية بن أبي الصلت إن وعظته لم يتعظ وإن تركته لم يفعل. وقال مجاهد: يعني الكفار إن قرئ عليهم الكتاب لم يقبلوا، وإن لم يقرأ عليهم لم يعملوا هم أهل
567
مكة. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: ذلك صفة الذين جحدوا نبوة النبيّ صلّى الله عليه وسلم والقرآن فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي اقرأ عليهم القرآن لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي: لكي يتعظوا بأمثال القرآن ويؤمنوا به.
قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا يعني: بئس مثل الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: بئس مثل من كان مثل الكلب، وإنما ضرب المثل بالكلب تقبيحاً لمذهبهم. ويقال: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا وكانت صفتهم مثل صفة بلعم وهم أهل مكة كذبوا بآياتنا، فلم يؤمنوا بها مثل بلعم وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يعني: يضرون بأنفسهم ثم قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي يعني: من يهده الله لدينه فهو المهتدي من الضلالة وَمَنْ يُضْلِلْ يعني: ومن يضله عن دينه ويخذله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ بالعقوبة.
قوله تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٩ الى ١٨٠]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً يعني: خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فإن قيل: قد قال في آية أخرى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فأخبر أنه خلق الجن والإنس لعبادته. وهاهنا يقول: خلقهم لجهنم. قيل له: قد خلقهم للأمرين جميعاً منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها، ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها، ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء. ويقال معنى قوله: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني: إلا للأمر والنهي. ويقال: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني: إلا لكي يمكنهم أن يعبدوا، وقد بينت لهم الطريق. ويقال: في هذه الآية تقديم وتأخير. ومعناه: ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس.
ثم وصفهم فقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها يعني: لا يعقلون بها. الحق كما قال في آية أخرى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧] ثم قال: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها يعني: الهدى وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها يعني: الهدى.
ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق. يعني: إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم. لأنه ليس للأنعام إلا الأكل
568
والشرب، فهي تسمع ولا تعقل، كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد.
ثم قال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً يعني: الكفار أخطأ طريقاً من الأنعام، لأن الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق، والكفار لا يرجعون إلى الطريق. ولأن الأنعام تعرف ربها، والكفار لا يعرفون ربهم. ويقال: لمَّا نزلت هذه الآية أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ تضرعت الأنعام إلى ربها. فقالت: يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك. فأعذر الله تعالى الأنعام. فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأن الأنعام مطيعة لله تعالى. والكفار غير مطيعين لله تَعَالَى.
ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ يعني: عن أمر الله تعالى وعما ينفعهم. قال الفقيه أبو الليث: حدثنا أبو جعفر. قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله القاري. قال: حدثنا حازم بن يحيى الحلواني. قال: حدثنا الحسين بن الأسود. قال: حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ الله الجِنَّ ثَلاَثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ وَخَشَاشَ الأَرْضِ، وَصِنْفاً كَالرِّيحِ فِي الهَوَاءِ، وَصِنْفَاً عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَخَلَقَ الله الإنْسَ ثَلاثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً كَالبَهَائِمِ وَهُمُ الكُفَّارُ، قال: قال الله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها إلى قوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وَصِنْفاً آخَرَ أَجْسَادُهُم كَأَجْسَادِ بَنِي آَدَم وَأَرْوَاحُهُم كَأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينِ، وَصِنْفاً فِي ظِلِّ الله يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ».
قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وذلك أن رجلاً دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن. فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فأنزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها الرحمن الرحيم الملك القدوس ونحوه. فدعا النبيّ صلّى الله عليه وسلم الرجل فقال: «ادْعُ الله أَوْ ادْعُ الرحمن رَغْماً لأَنْفِ المُشْرِكِينَ». ويقال: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني: الصفات العلى فَادْعُوهُ بِها. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مائَةً إلاَّ وَاحِدَةً مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ وَمِنْ أسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ الرحمن الرَّحِيمُ». وقد ذكرنا تفسيرها ومن أسمائه الأحد وأصله الوحد بمعنى الواحد، وهو الذي ليس كمثله شيء، ومنها الصمد وهو السيد الذي صمد إليه كل شيء أي قصده. ومنها القيوم وهو البالغ في القيام بكل ما خلق. ومنها الولي يعني: المتولي أمور المؤمنين. ومنها اللطيف وهو الذي يلطف بالخلق من حيث لا يعلمون، ولا يقدرون ومنها الودود المحب الشديد المحبة. ومنها الظاهر والباطن الذي يعلم ما ظهر وما بطن. ومنها البديع الذي ابتدع الخلق على غير مثال. ومنها القدوس أي ذو البركة.
ويقال: الطاهر ومنها الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء. ومنها الحنان أي ذو الرحمة والعطف.
569
ومنها المنان الكثير المنّ على عباده. ومنها الفتاح يعني: الحاكم. ومنها الديان يعني:
المجازي. ومنها الرقيب: يعني الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء. ومنها ذُو القوة المتين يعني الشديد القوة على أمره. ومنها الوكيل الذي يتوكل بالقيام بجميع ما خلق. ومنها السبوح الذي تنزه عن كل سوء ومنها السلام يعني: الذي سَلِم الخلق من ظلمه. ومنها المؤمن الذي أمن الخلق من ظلمه. ومنها العزيز أي: المنيع الذي لا يغلبه شيء. ومنها المهيمن يعني: الشهيد.
ومنها الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد. ومنها المتكبر الذي تكبر عن ظلم العباد. ومنها الباري يعني: الخالق وسائر الأسماء التي ثبتت عن رسول الله ﷺ وعن الصحابة- رضي الله عنهم-. وقال الزجاج: لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يصف به نفسه، ولم يسم به نفسه، فيقول: يا جواد ولا ينبغي له أن يقول: يا سخي، لأنه لم يسم به نفسه. وكذلك يقول: يا قوي ولا يقول: يا جلد.
ثم قال: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قرأ حمزة يُلْحِدُونَ بنصب الياء والحاء.
وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الحاء يُلْحِدُونَ فمن قرأ بالنصب فمعناه: وذروا الذين يميلون في أسمائه يعني: يُحَوِّرون ويمارون في أسمائه ويعدلون، فسموا اللات والعزى. ومن قرأ بالضم فمعناه: وذروا الذين يجادلون ويمارون في أسمائه. ويقال: إن الله تعالى قد احتج على الكفار بأربعة أشياء بالخلق. وهو قوله تعالى: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: ١١] وقال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: ٧٣] والثاني في الملك وهو قوله وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ [البقرة: ١١٦].
وقال في الأوثان لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً [الزمر: ٤٣] والثالث في القوة وهو قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ٢٠] وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١] إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: ٦١] ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: ٥٨] وقال في الأوثان: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف: ١٩٥] فوصفهم بالعجز. والرابع بالأسماء فقال وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وقال في الأوثان وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ويقال: إن الكفار أرادوا أن يسموا آلهتهم الله فجرى على لسانهم اللات وقال أهل اللغة: إنما سمي اللات لأنه كان عنده رجل كان يلت السويق. وأرادوا أن يسموا العزيز فجرى على لسانهم العزى. وأرادوا أن يسموا منان فجرى على لسانهم مناة.
وبقيت تلك الأسماء للأصنام. وأصل الإلحاد هو الميل ولهذا سمي اللحد لحداً لأنه في ناحية.
ثم قال سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: وسيهانون ويعاقبون بما كانوا يعملون من الشرك والإلحاد في الأسماء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨١ الى ١٨٦]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
570
قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يعني: جماعة وهم أمة محمد ﷺ يهدون بالحق يعني يدعون إلى الحق ويأمرون بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعني بالحق يعملون وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: ١٥٩] قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله قد ذكر الله تعالى هؤلاء الرهط بالخير الجسيم من بني إسرائيل إن آمنوا بك وجعل لهم أجرين، ولنا أجراً واحداً، وقد صدقناك والرسل والكتب فنزل وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يعني: من أمة محمد ﷺ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: بمحمد والقرآن سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يعني:
سنأخذهم بالعذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ. وقال الكلبي: يعني نزيّن لهم فنهلكهم من حيث لا يعلمون. يقول: سنأتيهم وهم المستهزئون فيقتل كل رجل منهم بغير قتلة صاحبه. وقال القتبي: الاستدراج أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً. ويقال: استدرج فلان فلاناً يعني: يعرف ما عنده وأصل هذا من الدرجة لأن الراقي يرقى درجة درجة. فاستعير من هذا كقوله تعالى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات: ١] يعني: الملائكة يتابعون بعضهم بعضاً كعرف الفرس. وكقوله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة: ٦٧] يمسكون عن العطية. وقال السدي: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يعني: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها، ثم نأخذهم من حيث لا يعلمون، فذلك الاستدراج.
ثم قال: وَأُمْلِي لَهُمْ يعني: وأمهلهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يعني: عقوبتي شديدة.
ويقال: إن صنيعي محكم. ويقال: إن أخذي شديد.
ثم قال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا يعني: أهل مكة فيما يأمرهم محمد ﷺ أن يعبدوا خالقهم، ورازقهم، وكاشف الضر عنهم، ولا يعبدوا من لا يقدر على شيء منه أمثل هذا يكون مجنوناً. ويقال: معناه أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في دلائل النبي ﷺ ومعجزاته ليستدلوا بأنه نبي وقد تم الكلام.
ثم استأنف فقال مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ويقال: هذا على وجه البناء. ومعناه: أو لم
571
يتفكروا ليعلموا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني: جنوناً. ويقال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم صعد ذات ليلة الصفا، فدعا قريشاً إلى عبادة الله تعالى بأسمائهم فرداً فرداً، فقال بعضهم: إن صاحبكم لمجنون. فوعظهم الله تعالى فقال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا يقول: أو لم يجالسوه ويكلموه هل به من جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي رسولاً بيناً. وهذا كقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبإ: ٤٦].
ووعظهم ليعتبروا في صنعه فيوحدوه فقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في خلق السموات والأرض وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ في السماء من الشمس والقمر والنجوم وما خلق الله في الأرض من الجبال والبحار وغير ذلك فيعتبروا، ويؤمنوا بأن الذي خلق الذي ترون، هو رَبّ واحد لا شريك له وَأَنْ عَسى يعني: وينظروا في أن عسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ يعني: قد دنا هلاكهم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يعني: إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث يؤمنوا بعد القرآن. لأن هذا آخر الكتب نزولاً وليس بعده كتاب ينزل.
ثم قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ أي: من يخذله الله عن دين الإسلام فلا هادي له إلى الهدى وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: يتركهم في ضلالتهم يترددون. قرأ أبو عمرو وَيَذَرُهُمْ بالياء وضم الراء على معنى الخبر. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وَنَذَرُهُمْ بالنون وضم الراء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وَيَذَرُهُمْ بالياء وجزم الراء وجعلوه جواب الشرط. ومعناه: من يضلل الله يذره.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٨]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي: قيام الساعة أَيَّانَ مُرْساها أي متى حينها وقيامها. ويقال: هذا الكلام على الاختصار. ومعناه: أي أوان قيامها.
572
ثم قال: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي: علم قيام الساعة عند ربي وما لي بها من علم لاَ يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أي لا يكشفها لحينها إلا الله. ويقال: لا يقدر أحد على إظهارها إلا هو. يعني: إلا الله. ويقال: لا يعلم أحد قيامها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ثقل علم قيام الساعة على أهل السموات وأهل الأرض. ويقال: ثقلت أي: خفي علمها، وإذا خفي الشيء ثقل علمه. ويقال: معناه ثقل حمل ذكرها لفظاعة شأنها وأمرها.
ثم قال: لاَ تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يعني: فجأة. ثم قال: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قال مقاتل: كأنك استحفيت عنها السؤال حتى علمتها. وقال القتبي: أي: كأنك حفي تطلب علمها. ومنه يقال: تحفى فلان بالقوم إذا بالغ في البر. ويقال: كأنك حفي عنها أي كأنك جاهل بها. ويقال: في الآية تقديم ومعناه: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يعني: كأنك عالم بها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وروى إبراهيم بن يوسف بإسناده أن النبي ﷺ سأله رجل فقال:
متى الساعة؟ فقال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَلَكِنْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ عَشْرَةٌ يَقْرَبُ فِيهَا المَاحِلُ وَيَطْرُفُ فِيها الفَاجِرُ وَيَعْجَزُ فِيها المُنْصِفُ وَتَكُونُ الصَّلاَةُ منّاً والزَّكَاةُ مَغْرَماً وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً وَاسْتِطَالَةُ القُرَّاءِ فَعِنْدَ ذلك تَكُونُ أَمَارَةُ الصِّبْيانِ وَسُلْطَانُ النِّساءِ وَمَشُورَةُ الإِماءِ».
ثم قال: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ يعني: علم قيامها عِندَ الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أنها كائنة ولا يصدقون بها.
قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا قال مقاتل: يعني لا أقدر لنفسي أن أسوق إليها خيراً أو أدفع عنها ضراً حين ينزل بي فكيف أملك علم الساعة إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيصيبني وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي غيب النفع والضر إذ جاء لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعني: لاستكثرت من النفع وما أصابني الضر. وقال الكلبي: أن أهل مكة قالوا له ألا يخبرك ربك بالبيع الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه؟ فنزل قل لهم: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ للجدوبة والقحط. ويقال: لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح. وقال الضحاك: قال لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا يعني الغنى والفقر إلا ما شاء الله إن شاء أغنى عبده وإن شاء أفقره وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي مواضع الكنوز لاستخرجتها وما مسني السوء يعني: الفقر إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أي مخوف بالنار وَبَشِيرٌ يعني: مبشراً بالجنة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: يصدقون بالبعث.
573

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٥]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني: من نفس آدم وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني: خلق من نفس آدم من ضلع من أضلاعه اليسرى زوجته حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يعني: ليطمئن إليها ويجامعها فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: سكن إليها وجامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يعني: خفيف الماء فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت بالحمل. يقول: قامت بالحمل وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا فَلَمَّا أَثْقَلَتْ يعني: ثقل الولد في بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما وذلك أن إبليس أتاها فقال: يا حواء ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: أخاف إنها بهيمة، وإني من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنساناً صالحاً أتسميه باسمي؟ قالت: نعم. وما اسمك قال: عبد الحارث فكذب. فدعت حواء وآدم فذلك قوله: دعوا الله ربهما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً يعني: أعطيتنا ولداً سوياً صحيح الجوارح لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ وهذا قول سعيد بن جبير رواه عن ابن عباس. وروى معمر عن قتادة أنه قال: كان آدم لا يولد له ولد إلا مات فجاء الشيطان وقال: إن سرك أن يعيش ولدك فسمه عبد الحارث ففعل. فأشركا في الاسم. ولم يشركا في العبادة. وروي عن السدي أنه قال: اسم إبليس هو الحارث يوم لعن فأراد أن ينسب إليه، فأمرها فسمته عبد الحارث، فعاش بعد ذلك أياماً ثم مات. فذلك قوله:
فَلَمَّا آتاهُما يعني: أعطاهما صالِحاً خلقاً آدمياً سوياً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر جَعَلاَ له شركا بكسر الشين وجزم الراء وقرأ الباقون شُرَكاءَ بالضم ونصب الراء. فمن قرأ بالكسر فهو على معنى التسمية، وهو اسم يقوم مقام المصدر ومن قرأ بالضم فمعناه: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ يعني: الشريك في الاسم وإنما ذكر الشركاء وأراد به الشريك يعني: الشيطان فإن قيل: من قرأ بالكسر كان من حق الكلام أن يقول
جعلا لغيره شركاً، لأنهما لا ينكران أن الأصل لله تعالى. وإنَّما جعلا لغيره شركاً أي نصيباً.
قيل له: معناه جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ يعني: ذا شرك. فذكر الشرك والمراد به شركه كقوله تعالى:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ١٢] أي أهل القرية فضرب الله تعالى بهذا مثلاً للكفار يعني: كما أن آدم وحواء أعطاهما ورزقهما فاشركوا في عبادته.
ثم نزه نفسه عن الشرك فقال تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي هو أعلى وأجلّ من أن يوصف بالشرك.
ثم رجع إلى قصة الكفار فقال الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً يعني: أيشركون الآلهة مع الله تعالى وهم كفار مكة ما لا يخلق شيئاً وهي الآلهة وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني:
لا يستطيعون أن يمتنعوا مما نزل بهم من العذاب وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى قال الكلبي يعني: الآلهة. وإن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر لاَ يَتَّبِعُوكُمْ يعني: لا يتّبعهم آلهتهم سَواءٌ عَلَيْكُمْ يا أهل مكة أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ لا تعقل شيئاً لأنه ليس فيها روح.
وقال مقاتل: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى يعني: كفار مكة لاَ يَتَّبِعُوكُمْ لا يتبعونكم يعني:
النبيّ صلّى الله عليه وسلم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون فلا يؤمنون قرأ نافع لاَ يَتَّبِعُوكُمْ بجزم التاء وقرأ الباقون بالنصب والتشديد لاَ يَتَّبِعُوكُمْ وهما لغتان تبعه وأتْبعه معناهما واحد.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ يعني: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام عِبادٌ أَمْثالُكُمْ يعني: مخلوقين مملوكين أشباهكم وليسوا بآلهة فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنها آلهة.
ثم قال عز وجل: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها يعني: في حوائجكم أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها يعني: يعطون بها ويمنعون عنكم الضر أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها يعني: عبادتكم أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها يعني: دعاءكم وقد احتجت المشبهة بهذه الآية أن من لا يكون له يد ولا رجل ولا بصر لا يصلح أن يكون إلها. ولكن لا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى بيّن ضعف معبودهم وعجزهم، وبيّن أنهم اشتغلوا بشيء لا فائدة فيه ولا منفعة لهم في ذلك.
ثم قال: قُلِ يا محمد يعني: لكفار مكة ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ يعني: آلهتكم ثُمَّ كِيدُونِ يعني: اعملوا بي ما شئتم فَلا تُنْظِرُونِ يعني: لا تمهلون ولا تؤجلون لأنهم خوفوه بآلهتهم قرأ أبو عمرو ثُمَّ كيدوني بالياء في حال الوصل وقرأ الباقون بغير الياء.
ثم قال عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٠]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
575
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ يعني: حافظي وناصري الله الذي نزل الكتاب. يعني:
القرآن. ويقال: إن الذي يمنعني منكم الله الذي أنزل جبريل بالكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يعني: المؤمنين فيحفظهم ولا يكلهم إلى غيره.
ثم قال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني: تعبدون من دون الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ أي: لا يقدرون منعكم وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أي يمنعون ممن أذاها، لأن الكفار كانوا يلطخون العسل في فم الأصنام، وكان الذباب يجتمع عليه فلا تقدر دفع الذباب عن نفسها.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا قال الكلبي: يعني إن دعا المشركون آلهتهم لا يسمعون أي يجيبونهم وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ يعني:
الأصنام تراهم مفتحة أعينهم وهم لا يبصرون شيئاً. قال مقاتل: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى يعني: كفار مكة لاَ يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ الهدى. قوله تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال ابن عباس- رضي الله عنهما- يعني: خذ ما أعطوك من الصدقة يعني: ما فضل من الأكل والعيال، ثم نسخ بآية الزكاة وهذا كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩] يعني: الفضل وأمر بالمعروف يعني: ادعهم إلى التوحيد وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي من جهل عليك مثل أبي جهل وأصحابه، وكان ذلك قبل أن يؤمر بالقتال. ويقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ يعني: اعف عمن ظلمك واعط من حرمك وصل من قطعك.
قال الفقيه أبو الليث: حدثنا عن الشعبي الخليل بن أحمد. قال: حدثنا الديبلي. قال:
حدّثنا أبو عبيد الله وحدثنا سفيان عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: لما نزلت هذه الآية خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ سأل عنها جبريل. فقال جبريل: حتى أسأل العالم، فذهب ثم أتاه، فقال: يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تَصِل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك. وقال القتبي في قول النبيّ: صلّى الله عليه وسلم «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ» فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر في هذه الآية كيف جمع له في هذا كل خلق عظيم، لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله، وصلة الأرحام، وغض البصر، وفي الإعراض عن الجاهلين الحلم، وتنزيه النفس عن
576
مماراة السفيه، وعن منازعة اللجوج، وإنما سمي المعروف معروفاً لأن كل نفس تعرفه وكل قلب يطمئن إليه.
قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قال مقاتل يعني: ولا يفتننكم فتنة في أمر أبي جهل فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ قال الكلبي: أي: وإما يصيبنك من الشيطان وسوسة فاستعذ بالله وقال الزجاج: النزع أدنى حركة. ومعناه: إن أتاك من الشيطان أدنى وسوسة فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني: سميع لدعائك بوسوسة الشيطان.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠١ الى ٢٠٣]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني: اتقوا الشرك والفواحش إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ يعني: ذنب تَذَكَّرُوا يعني: عرف المتقون أنها معصية فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يعني:
إذا هم على بصيرة منتهون عن المعصية. وقال الزجاج: تَذَكَّرُوا ما أوضح الله لهم من الحجة فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي طيف بغير ألف وقرأ الباقون بالألف طائِفٌ. وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ إذا مسهم طيف، والطيف الغضب وعن مجاهد في قوله طائِفٌ قال الغضب.
ثم ذكر حال الكفار فقال عز وجل: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ يعني: إخوان الشياطين يمدونهم أي: يدعونهم إلى المعصية. ويقال: يلجونهم في الشرك والضلالة. ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ عنها كما أقصر المسلمون عنها حين أبصروها. قرأ نافع يَمُدُّونَهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمَدَّ يُمِدّ. وقرأ الباقون يَمُدُّونَهُمْ بالنصب من مَدَّ يَمُدُّ. قال بعضهم: هذا عطف على قوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ.
وقال الزجاج: معناه التقديم. والمعنى لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ يعني: الشياطين والغي: الجهل والوقوع في الهلكة.
قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ وذلك حين أبطأ عليه جبريل حين سألوه شيئاً قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي: هلاّ أتاهم من تلقاء نفسه؟ وهذا كقوله: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس: ١٥] قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي: قل إذا أمرت بأمر فعلت ولا
أبتدع ما لم أومر هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: القرآن بيان من ربكم. وقال بعض أهل اللغة:
البصائر في اللغة: طرائق الأمر واحدتها بصيرة: ويقال: طريقة الدين معناه: ظهور الشيء وبيانه وَهُدىً وَرَحْمَةٌ أي: القرآن هدى من الضلالة ويقال: كرامة ورحمة من العذاب ونعمة لمن آمن به لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: يصدقون.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا وذلك أن المسلمين كانوا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالسكوت. وروى عبد الوهاب عن مجاهد عن أبي العالية الرياحي قال: كان النبي- عليه السلام- إذا صلى فقرأ وقرأ أصحابه خلفه حتى نزل وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فسكت القوم. وقرأ النبي- عليه السلام- وروى قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال في الصلاة. وروى مغيرة عن إبراهيم مثله، وسئل ابن عباس- رضي الله عنهما- عن قوله: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ هذا لكل قارئ؟ قال: لا، ولكن هذا في الصلاة المفروضة. وقال أبو هريرة- رضي الله عنه- مثله. وقال مجاهد: وجب الإنصات في موضعين في الصلاة والإمام يقرأ، وفي الجمعة والإمام يخطب. وعن مجاهد أنه قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم. وقال عطاء والحسن إن هذا في الصلاة والخطبة. ويقال: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أي: اعملوا بما في كتاب الله تعالى ولا تجاوزوا عنه إلى غيره ثم قال لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا فلا تعذبوا.
قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً يقول: اقرأ يا محمد إذا كنت إماماً بنفسك تضرعاً يعني: مستكيناً وَخِيفَةً يعني: وخوفاً من عذابه وهذا قول مقاتل. وقال الكلبي:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يعني: سراً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يعني: العلانية حتى يسمع من خلفك. وقال الضحاك: معناه اجهر بالقراءة في الغداة والمغرب والعشاء وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يعني: لا تغفل عن القراءة في الظهر والعصر، فإنك تخفي القراءة فيهما وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال «اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً خَامِلاً» قيل: وما الذكر الخامل؟ قال:
«الذِّكْرُ الخَفِيُّ».
578
قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يعني: غدوة وعشية. وروى يحيى بن أيوب عن خالد بن سعيد بن أبي هلال عن من سمع عقبة بن عامر قال: المسر بالقراءة كالمسر بالصدقة، والمعلن بالقراءة كالمعلن بالصدقة.
ثم قال: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن القراءة في الصلاة.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وذلك أن كفار مكة قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا [الفرقان: ٦٠] واستكبروا عن السجود فنزل إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: الملائكة لا يستكبرون عن عبادته يعني: لا يتعظمون ولا يستنكفون عن طاعته وَيُسَبِّحُونَهُ يقول: ويذكرونه وَلَهُ يَسْجُدُونَ يعني: يصلون. وقال أهل اللغة:
الآصال جمع الأُصل والأُصُل جمع الأَصِيل والآصال جمع الجمع يعني: العشيات والله أعلم بالصواب.
579
Icon