تفسير سورة الأعراف

زاد المسير
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الأعراف

فصل في نزولها


روى العوفي، وابن أبي طلحة، وأبو صالح عن ابن عباس : أن سورة ( الأعراف ) من المكي، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس، وقتادة أنها مكية، إلا خمس آيات ؛ أولها قوله تعالى :﴿ واسألهم عَنِ الْقَرْيَةِ ﴾. وقال مقاتل : كلها مكية، إلا قوله :﴿ واسألهم عَنِ الْقَرْيَةِ ﴾ إلى قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدم مِن ظُهُورِهِمْ ذرياتهم ﴾ [ الأعراف : ١٦٣- ١٧٢ ] فإنهن مدنيات.

سورة الأعراف
(فصل في نزولها:) روى العوفي، وابن أبي طلحة، وأبو صالح عن ابن عباس، أن سورة (الأعراف) من المكّيّ، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس، وقتادة أنها مكّيّة، إلّا خمس آيات أوّلها قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ «١».
وقال مقاتل: كلّها مكّيّة، إلّا قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «٢» فإنهنّ مدنيّات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١)
فأما التفسير، فقوله تعالى: المص قد ذكرنا في أول سورة البقرة كلاماً مجملاً في الحروف المقطعة أوائلَ السور، فهو يعم هذه أيضاً.
فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال: أحدها: أن معناه: أنا الله أعلم وأفضل، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثاني: أنه قَسَمٌ أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث:
أنها اسم من أسماء الله تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن الألف مفتاح اسمه «الله»، واللام مفتاح اسمه «لطيف»، والميم مفتاح اسمه «مجيد»، قاله أبو العالية «٣». والخامس: أن المص اسم للسورة، قاله الحسن. والسادس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. والسابع: أنها بعض كلمة. ثم في تلك الكلمة قولان: أحدهما: المصوّر، قاله السدي. والثاني: المصير إلى كتاب أنزل إليك، ذكره الماوردي.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
قوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ قال الأخفش: رفع الكتاب بالابتداء. ومذهب الفراء أن الله تعالى اكتفى في مفتَتَح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها، كما يقول القائل: «اب ت ث»
(١) سورة الأعراف: ١٦٣. [.....]
(٢) سورة الأعراف: ١٧٢.
(٣) هذه الأقوال الأربعة واهية لا برهان عليها، وهي بعيدة جدا، وكذا ما بعدها، والصواب في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده.
ثمانية وعشرون حرفا فالمعنى: حروف المعجم: كتاب أنزلناه إليك. قال ابن الانباري: ويجوز أن يرتفع الكتاب باضمار: هذا الكتاب. وفي الحرج قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. والثاني: أنه الضيق، قاله الحسن، والزجاج. وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الكتاب فعلى هذا، في معنى الكلام قولان: أحدهما: لا يضيقنَّ صدرك بالإبلاغ، ولا تخافنَّ، قاله الزجاج. والثاني: لا تشُكَنَّ أنه من عند الله. والقول الثاني: أنها ترجع إلى مضمر، وقد دل عليه الإِنذار، وهو التكذيب، ذكره ابن الانباري. قال الفراء: فمعنى الآية: لا يضيقنَّ صدرك إن كذبوك. قال الزجاج: وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ بِهِ مقدَّم والمعنى: أُنزل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه. وَذِكْرى يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض فأما النصب، فعلى قوله: أُنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين أي ولتذكِّرَ به ذكرى، لان في الإنذار معنى التذكير. ويجوز الرفع على أن يكون: وهو ذكرى، كقولك: وهو ذكرى للمؤمنين. فأما الخفض، فعلى معنى: لتنذر، لأن معنى «لتنذر» : لأن تنذر المعنى للانذار والذكرى، وهو في موضع خفض.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ إن قيل: كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى، ثم جمع بقوله: «اتبعوا» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته، حسن الجمع لذلك المعنى. والثاني: أن الخطاب الأول خاص له والثاني محمول على الإِنذار، والإِنذار في طريق القول، فكأنه قال: لتقول لهم منذرا: اتَّبِعُوا... ، ذكرهما ابن الانباري. والثالث: أن الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسّرين قالوا: والذي أنزل إليهم القرآن. وقال الزجاج: الذي أنزل: القرآن وما أتى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لأنه مما أنزل عليه، لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «١». وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: لا تتولوا مَنْ عدل عن دين الحق، وكلُّ من ارتضى مذهباً فهو ولي أهل المذهب. وقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ما: زائدة مؤكِّدة والمعنى:
قليلاً تتذكرون. قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تذّكّرون» مشددة الذال والكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «تذكّرون» خفيفة الذال مشددة الكاف. قال أبو علي: من قرأ «تذَّكرون» بالتشديد، أراد «تتذكرون» فأدغم التاء في الذال، وإدغامها فيها حسن، لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتاً من المهموس وأقوى فإدغام الأنقص في الأزيد حسن. فأما حمزة ومن وافقه، فانهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. وقرأ ابن عامر: «يتذكرون» بياء وتاء، على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والمعنى: قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)
قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، و «كم» تدل على الكثرة، و «رب» : موضوعة للقلّة. قال
(١) سورة الحشر: ٧.
الزجاج: المعنى: وكم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأن في الكلام دليلاً عليه. وقوله تعالى: فَجاءَها بَأْسُنا محمول على لفظ القرية والمعنى: فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له إما ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون. قال ابن قتيبة: بأسنا: عذابنا، وبياتا: ليلاً. وقائلون: من القائلة نصف النهار. فان قيل: إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدَّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الهلاك والبأس يقعان معاً، كما تقول: أعطيتني فأحسنت وليس الإحسان بعد الإِعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معاً، قاله الفراء. والثاني: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، فأُضمر الكون، كما أُضمر في قوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «١»، أي: ما كانت الشياطين تتلوه، وقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ «٢»، أي: إن يكن سرق. والثالث: أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره:
وكم من قرية جاءها بأسنا بياتاً، أو هم قائلون فأهلكناها، كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «٣» أي: رافعك ومتوفيك، ذكرهما ابن الانباري.
قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ قال الفراء: فيه واو مضمرة والمعنى: فجاءها بأسنا بياتاً، أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥]
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
قوله تعالى: فَما كانَ دَعْواهُمْ قال اللغويون: الدّعوى ها هنا بمعنى الدعاء والقول. والمعنى:
ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم. قال ابن الانباري: وللدعوى في الكلام موضعان: أحدهما: الإدعاء. والثاني: القول والدعاء. قال الشاعر:
إذا مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُكِ أشْتفي بدَعْواكِ مِنْ مذل بها فيهون «٤»
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦ الى ٧]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: الأمم يُسأَلون: هل بلَّغكم الرُّسُلُ وماذا أجبتم؟ ويسأل الرسل: هل بَلَّغتم، وماذا أُجبتم؟. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي: فلنُخبرنَّهم بما عملوا بعلم منا وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل والأمم. وقال ابن عباس: يوضع الكتاب، فيتكلّم بما كانوا يعملون.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨ الى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ أي: العدل. وإنما قال: «موازينه» لأن «من» في معنى جميع، يدل عليه قوله: فَأُولئِكَ. وفي معنى يَظْلِمُونَ قولان: أحدهما: يجحدون. والثاني: يكافرون.
قال الفراء: والمراد بموازينه: وزنه. والعرب تقول: هل لك في درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك ويريدون: حذاء دارك. قال الشاعر:
(١) سورة البقرة: ١٠٢.
(٢) سورة يوسف: ٧٧.
(٣) سورة آل عمران: ٥٥.
(٤) البيت لكثير عزة، ديوانه ٢/ ٢٤٥. «اللسان» : مذل. ومذلت رجله مذلا بفتح وسكون وأمذلت: خدرت.
102
قَدْ كنتُ قَبْلَ لقائكم ذا مِرّةٍ عندي لكلِّ مُخَاصِمٍ ميزانُه «١»
يعني: مثل كلامه ولفظه.
(فصل:) والقول بالميزان مشهور في الحديث، وظاهر القرآن ينطق به. وأنكرت المعتزلة ذلك، وقالوا: الأعمال أعراض، فكيف توزن؟ فالجواب: أن الوزن يرجع إلى الصحائف، بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(٥٦٨) «إنّ الله عزّ وجلّ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الناس يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلاً، كُلُّ سِجِلٍّ مدُّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟
فيقول: لا يا رب. فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلم عليك اليوم، فيُخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجِلاَّت في كفة، والبطاقة في كفة قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة»
أخرجه أحمد في «مسنده»، والترمذي.
(٥٦٩) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب، فلا يزن جناح بعوضة»، فعلى هذا يوزن الإنسان.
قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان، له لسان وكِفّتان. فأما المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه. وقال الحسن: للميزان لسان وكفتان. وجاء في الحديث:
(٥٧٠) أن داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان، فأراه إياه فقال: يا إلهي، من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات؟ فقال: يا داود، إني إذا رضيت عن عبدي، ملأتها بتمرة.
وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربه: زن بينهم، ورُدَّ من بعضهم على بعض فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة. فان لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فرد على سيئات الظالم، فيرجع وعليه مثل الجبل.
فإن قيل: أليس الله عزّ وجلّ يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها؟
فالجواب أن فيه خمسة حكم: إِحداها: امتحان الخلق بالإِيمان بذلك في الدنيا. والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى. والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر. والرابعة: إقامة
حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي ٢٦٣٩ وابن ماجة ٤٣٠٠ وأحمد ٢/ ٢١٣ وابن حبان ٢٢٥ والحاكم ١/ ٥٢٩. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأجل عامر بن يحيى، وبقية رجاله رجال مسلم. وورد من طريق ابن لهيعة أخرجه أحمد ٢/ ٢٢٢ وابن لهيعة حسن الحديث في الشواهد والمتابعات. وانظر «تفسير الشوكاني» ٩٦٧ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٢٩ ومسلم ٢٧٨٥ من حديث أبي هريرة.
لم أقف عليه، ولعل مصدره كتب الأقدمين، والله أعلم.
__________
(١) البيت منسوب إلى ثعلب في «اللسان». والميزان: المقدار.
103
الحجة عليهم. والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: مكنَّاكم إياها. والثاني: سهَّلنا عليكم التصرف فيها. وفي المعايش قولان: أحدهما: ما تعيشون به من المطاعم والمشارب. والثاني:
ما تتوصَّلون به إلى المعايش، من زراعة، وعمل، وكسب. وأكثر القراء على ترك الهمز في «معايش» وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال الزجاج: وجميع النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ، لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، نحو صحيفة وصحائف فصحيفة من الصحف والياء زائدة، فأما معايش، فمن العيش فالياء أصلية.
قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: شكركم قليل. وقال ابن عباس: يريد أنكم غير شاكرين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١١]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ فيه ثمانية أقوال «١» : أحدها: ولقد خلقناكم في ظهر
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٤٣٧- ٤٣٨: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ولقد خلقنا آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بتصويرنا آدم. كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجل بالأفعال تضيفها إليه. والمعنيّ في ذلك سلفه، وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: ٦٣] وما أشبه ذلك من الخطاب الموجه إلى الحي الموجود، والمراد به السلف المعدوم، فكذلك ذلك في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ. معناه ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صورناه. وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الذي يتلو ذلك قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصور ذريته في بطون أمهاتهم بل قبل أن يخلق أمهاتهم. و «ثم» في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، وذلك كقول القائل: «قمت ثم قعدت» لا يكون «القعود» إذا عطف به ب «ثم» على قوله «قمت» إلا بعد القيام. وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها وذلك كقول القائل: «قمت وقعدت»، فجائز أن يكون القعود في هذا الكلام قد كان قبل «القيام» لأن «الواو» تدخل في الكلام إذا كانت عطفا توجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين.
أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.
وقد وجه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب كذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم، وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم، وذلك غير جائز في كلام العرب، لأنها لا تدخل «ثم» في الكلام وهي مراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر، وإن كانوا قد يقدمونها في الكلام، إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير وذلك كقولهم: «قام عبد الله ثم عمرو». فأما إذا قيل: «قام عبد الله ثم قعد عمرو» فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله إذا كان الخبر صادقا، فقوله تبارك.
وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا نظير قول القائل: «قام عبد الله ثم قعد عمرو». في أنه غير جائز أن يكون أمر الله الملائكة بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير لما وصفنا قبل. ا. هـ.
آدم، ثم صورناكم في الأرحام، رواه عبد الله بن الحارث عن ابن عباس. والثاني: ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال، وصورناكم في أرحام النساء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
والثالث: «ولقد خلقناكم»، يعني آدم، «ثم صورَّناكم»، يعني ذريته من بعده رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: «ولقد خلقناكم»، : يعني آدم، «ثم صورناكم» في ظهره، قاله مجاهد. والخامس:
«خلقناكم» نطفاً في أصلاب الرجال، وترائب النساء، «ثم صورَّناكم» عند اجتماع النطف في الأرحام، قاله ابن السائب. والسادس: «خلقناكم» في بطون أُمهاتكم، «ثم صورناكم» فيما بعد الخلق بشقّ السّمع والبصر، قاله معمر. والسابع: «خلقناكم»، يعني آدم خلقناه من تراب، «ثم صورناكم»، أي: صوَّرناه، قاله الزجاج، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه فمن قال: عنى بقوله:
«خلقناكم» آدم، فمعناه: خلقنا أصلكم ومن قال: صورنا ذريته في ظهره، أراد إخراجهم يوم الميثاق كهيئة الذر. والثامن: «ولقد خلقناكم» يعني الأرواح، «ثم صورناكم» يعني الأجساد، حكاه القاضي أبو يعلى في «المعتمد». وفي «ثم» المذكورة مرتين قولان: أحدهما: أنها بمعنى الواو، قاله الأخفش.
والثاني: أنها للترتيب، قاله الزجاج.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «ما» استفهام، ومعناها الإنكار. قال الكسائيّ: «لا» ها هنا زائدة. والمعنى: ما منعك أن تسجد؟. وقال الزجاج: موضع «ما» رفع. والمعنى أي شيء منعك من السجود؟ و «لا» زائدة مؤكدة ومثله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «١» قال ابن قتيبة: وقد تزاد «لا» في الكلام. والمعنى: طرحُها لإباءٍ في الكلام، أو جحد، كهذه الآية. وإنما زاد «لا» لأنه لم يسجد.
ومثله: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «٢» على قراءة من فتح «أنها»، فزاد «لا» لأنهم لم يؤمنوا ومثله:
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «٣». وقال الفرّاء: «لا» ها هنا جحد محض، وليست بزائدة، والمنع راجع إلى تأويل القول، والتأويل: من قال لك: لا تسجد؟، فأحل المنع محل القول، ودخلت بعده «أن» ليدل على تأويل القول الذي لم يتصرح لفظه. وقال ابن جرير: في الكلام محذوف، تقديره: ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد؟. قال الزجاج: وسؤال الله تعالى لإبليس «ما منعك» توبيخ له، وليُظهر أنه معاند، ولذلك لم يتب، وأتى بشيء في معنى الجواب، ولفظه غير جواب، لأن قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إنما هو جواب، أيكما خير؟ ولكن المعنى: منعني من السجود فضلي عليه. ومثله قولك للرجل: كيف كنت؟ فيقول: أنا صالح وإنما الجواب: كنت صالحا، فيجيب بما يُحتاج إليه وزيادة. قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه فضل الطين على النار وفضله من وجوه: أحدها: أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة. والثاني: أن الطين سبب الإنبات والإيجاد، والنّار سبب الإعدام
(١) سورة الحديد: ٢٩.
(٢) سورة الأنعام: ١٠٩.
(٣) سورة الأنبياء: ٩٥.
والإهلاك. والثالث: أن الطين سبب جمع الأشياء، والنّار سبب تفريقها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
قوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى السماء، لأنه كان فيها، قاله الحسن. والثاني: إلى الجنة، قاله السدي.
قوله تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها، إن قيل: فهل لأحد أن يتكبر في غيرها؟ فالجواب: أن المعنى: ما للمتكبر أن يكون فيها، وإنما المتكبر في غيرها. وأما الصاغر، فهو الذليل. والصغار:
الذل. قال الزجاج: استكبر إبليس بابائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قوله تعالى: قالَ أَنْظِرْنِي أي أمهلني وأخرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فأراد أن يعبر قنطرة الموت وسأل الخلود، فلم يجبه إلى ذلك، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم. وقد بين مدة إمهاله في «الحجر» بقوله: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «١». وفي ما سأل الإمهال له قولان: أحدهما:
الموت. والثاني: العقوبة. فان قيل: كيف قيل له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وليس أحد أُنظِر سواه؟
فالجواب: أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم، فهو منهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)
قوله تعالى: فَبِما أَغْوَيْتَنِي في معنى هذا الإِغواء قولان: أحدهما: أنه بمعنى الإِضلال، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه بمعنى الإهلاك، ومنه قوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «٢» أي: هلاكاً، ذكره ابن الأنباري. وفي معنى «فبما» قولان: أحدهما: أنها بمعنى القسم، أي: فباغوائك لي. والثاني: أنها بمعنى الجزاء، أي: فبأنك أغويتني، ولأجل أنك أغويتني لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ. قال الفراء، والزجاج:
أي على صراطك. ومثله قولهم: ضُرب زيد الظهر والبطن. وفي المراد بالصّراط ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه طريق مكة، قاله ابن مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير كأن المراد صدُّهم عن الحج.
والثاني: أنه الإِسلام، قاله جابر بن عبد الله، وابن الحنفية، ومقاتل. والثالث: أنه الحقّ، قاله مجاهد.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧]
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
قوله تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فيه سبعة أقوال «٣» : أحدها:
«من بين أيديهم» أشككهم في آخرتهم، «ومن خلفهم» أرغبهم في دنياهم، «وعن أيمانهم» أي: من قبل
(١) سورة الحجر: ٣٨.
(٢) سورة مريم: ٥٩. [.....]
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٤٤٧: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: معناه ثم لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل فأصدهم عن الحق، وأحسّن لهم الباطل. وذلك أن ذلك عقيب قوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فأخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرهم الله أن يسلكوه، وهو ما وصفنا من دين الحق، فيأتيهم في ذلك من كلا الوجوه الذي أمرهم به، فيصدهم عنه وذلك (من بين أيديهم وعن أيمانهم) ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه، فيزينه لهم ويدعوهم إليه وذلك (من خلفهم وعن شمائلهم).
حسناتهم، «وعن شمائلهم» من قِبل سيئاتهم، قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: مثلُه، إلا أنهم جعلوا «من بين أيديهم» الدنيا، «ومن خلفهم» الآخرة، قاله النخعي، والحكم بن عتيبة. والثالث: مثل الثاني، إلا أنهم جعلوا «وعن أيمانهم» من قبل الحق أصدَّهم عنه، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الباطل أردُّهم إليه، قاله مجاهد، والسدي. والرابع: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من سبيل الحق، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من سبيل الباطل، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل آخرتهم، «وعن شمائلهم» من أمر الدنيا، قاله أبو صالح. والخامس: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ «وعن أيمانهم» من حيث يبصرون، وَمِنْ خَلْفِهِمْ «وعن شمائلهم» من حيث لا يبصرون، نقل عن مجاهد أيضاً. والسادس: أن المعنى: لأتصرفن لهم في الإِضلال من جميع جهاتهم، قاله الزجاج، وأبو سليمان الدمشقي. فعلى هذا، يكون ذكر هذه الجهات، للمبالغة في التأكيد. والسابع: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فيما بقي من أعمارهم، فلا يقدمون فيه على طاعة، «ومن خلفهم» فيما مضى من أعمارهم، فلا يتوبون فيه من معصية، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل الغنى، فلا ينفقونه في مشكور، «وعن شمائلهم» من قبل الفقر، فلا يمتنعون فيه من محظور، قاله الماوردي. قوله تعالى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فيه قولان:
أحدهما: موحِّدين، قاله ابن عباس. والثاني: شاكرين لنعمتك، قاله مقاتل. فان قيل: من أين علم إبليس ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب عن هذا في سورة (النساء).
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
قوله تعالى: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً وقرأ الأعمش: «مذوماً» بضم الذال من غير همز. قال الفراء:
الذَّأْمُ: الذَّمُّ يقال: ذأمْتُ الرجلَ، أذأَمُه ذأمْاً وذممتُه، أذُمُّه ذمّاً وذِمْتُه، أذيمُه ذيما ويقال: رجل مذءوم، ومذموم، ومَذيم، بمعنى. قال حسان بن ثابت:
وأقاموا حتى أبيروا جميعاً في مَقامٍ وكُلُّهم مذءوم «١»
قال ابن قتيبة: المذؤوم: المذموم بأبلغ الذم. والمدحور: المقصى المبعَد. وقال الزجاج: معنى المذؤوم كمعنى المذموم، والمدحور: المبعد من رحمة الله. واللام من «لأملأن» : لام القسم والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل له: من تبعك، أُعذبْه، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد. فلام «لأملأن» هي لام القسم، ولام «لَمن تبعك» توطئة لها. فأما قوله: «منهم» فقال ابن الانباري: الهاء والميم عائدتان على ولد آدم لانه حين قال: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «٢» كان مخاطباً لولد آدم، فرجع إليهم، فقال: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فجعلهم غائبين، لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لَبْساً والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. ومن قال: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ خطاب لآدم، قال: أعاد الهاء والميم على ولده، لأن ذكره يكفي من ذكرهم والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد إذا انكشف المعنى وزال اللبس. قال الشاعر:
أرى الخَطَفى بَذَّ الفرزدقُ شِعْرَهُ ولكنَّ خيراً من كليب مجاشع
(١) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت «سيرة ابن هشام» ٢/ ١٥٠.
(٢) سورة الأعراف: ١١.
أراد: أرى ابن الخطفى، فاكتفى بالخطفى من ابنه.
قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ يعني أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشّياطين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)
قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ قيل: إن الوسوسة: إخفاء الصوت. قال ابن فارس:
الوسواس: صوت الحلي، ومنه وسواس الشيطان. و «لهما» بمعنى «إليهما»، لِيُبْدِيَ لَهُما أي: ليظهر لهما ما وُورِيَ عَنْهُما أي: ستر. وقيل: إن لام «ليبدي» لام العاقبة وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، ولم تكن الوسوسة لظهورها.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ قال الأخفش، والزجاج: معناه: ما نهاكما إلا كراهة أن تكونا ملَكَين. وقال ابن الانباري: المعنى: إلا أن لا تكونا، فاكتفى ب «أن» من «لا» فأسقطها.
فان قيل: كيف انقاد آدم لإبليس، مستشرفاً إلى أن يكون ملكاً، وقد شاهد الملائكة ساجدة له؟
فعنه جوابان: أحدهما: أنه عرف قربهم من الله، واجتماع أكثرهم حول عرشه، فاستشرف لذلك، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المعنى: إلا أن تكونا طويلَي العمر مع الملائكة أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ لا تموتان أبداً، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير: «أن تكونا ملِكين» بكسر اللام، وهي قراءة الزّهريّ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
قوله تعالى: وَقاسَمَهُما قال الزجاج: حلف لهما، فدلاَّهما في المعصية بأن غرَّهما. قال ابن عباس: غرَّهما باليمين، وكان آدم لا يظن أن أحداً يحلف بالله كاذباً.
قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي: فلما ذاقا ثمر الشجرة. قال الزجاج: وهذا يدل على أنهما إنما ذاقاها ذواقاً، ولم يبالغا في الأكل. والسوأة كناية عن الفرج، لا أصل له في تسميته. ومعنى وَطَفِقا أخذا في الفعل والأكثر: طفِق يَطْفَقُ وقد رويت: طفقَ يَطْفِقُ، بكسر الفاء، ومعنى يَخْصِفانِ يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل: خصاف. وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم ألا ترى إلى قوله: لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما فانهما بادرا يستتران لقبح التكشف. وقيل: إنما سميت السوأةُ سوأةً، لأن كشفها يسوء صاحبها. قال وهب بن منبه: كان لباسهما نوراً على فروجهما، لا يرى أحدهما عورة الآخر فلما أصابا الخطيئة، بدت لهما سوءاتهما. وقرأ الحسن: «سوأتُهما» على التوحيد وكذلك قرأ «يِخِصّفان» بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد. وقرأ الزهري: بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد. وفي الورق قولان: أحدهما: ورق
التين، قاله ابن عباس. والثاني: ورق الموز، ذكره المفسرون. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إِلى قوله:
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني الأرض.
واختلف العلماء في تاء «تخرجون» فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو: بضم التاء وفتح الراء، هاهنا وفي (الرّوم) : وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ «١». وفي (الزّخرف) : كَذلِكَ تُخْرَجُونَ «٢» وفي (الجاثية) : لا يُخْرَجُونَ مِنْها «٣». وقرأهن حمزة، والكسائي: بفتح التاء وضم الراء. وفتح ابن عامر التاء في (الاعراف) فقط. فأما التي في (الروم) إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ «٤»، وفي (سأل سائل) يَوْمَ يَخْرُجُونَ «٥» فمفتوحتان من غير خلاف.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٦]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً.
(٥٧١) سبب نزولها: أن ناساً من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراةً، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. وقيل: إنه لما ذكر عري آدم، منّ علينا باللباس.
وفي معنى أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: خلقنا لكم. والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه.
والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباساً. وأكثر القرّاء قرءوا: «وريشاً». وقرأ ابن عباس والحسن وزرّ بن حبيش وقتادة والمفضل، وأبان عن عاصم: «ورياشاً» بألف. قال الفراء: يجوز أن تكون الرياش جمع الريش، ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما قالوا: لبس، ولباس.
فلما كَشَفْنَ اللِّبْس عنه مَسَحْنَهُ بأطراف طَفْل زانَ غَيْلاً مُوَشَّماً «٦»
قال ابن عباس، ومجاهد: «الرياش» : المال وقال عطاء: المال والنعيم. وقال ابن زيد:
الريش: الجَمال وقال معبد الجهني: الريش: الرزق وقال ابن قتيبة: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس. وقال الزجاج: الريش: اللباس وكل ما ستر الإِنسان في جسمه ومعيشته. يقال: تريَّش فلان، أي: صار له ما يعيش به. أنشد سيبويه:
رياشي منكُم وهواي معكم وإن كانت زيارتكم لماما «٧»
ضعيف. أخرجه الطبري ١٤٤٢٣ عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف. وكرره ١٤٤٢٧ عن مجاهد مرسلا بنحوه.
__________
(١) سورة الروم: ١٩.
(٢) سورة الزخرف: ١١.
(٣) سورة الجاثية: ٣٥.
(٤) سورة الروم: ٢٥.
(٥) سورة المعارج: ٤٣.
(٦) البيت منسوب إلى حميد بن ثور الهلالي ديوانه ١٤ «اللسان» لبس، طفل. الطفل: البنان الناعم. أراد مسحنه بأطراف بنان طفل. الغيل: الساعد الريان الممتلئ. الموشم: عليه الوشم. والوشم زينة الجاهلية وقد أبطلها الإسلام.
(٧) البيت منسوب إلى جرير، ديوانه ٥٠٦. اللمام: الشيء اليسير. وهو أيضا الزيادة في النوم وأصله من ألم بالمنزل: إذا نزل به ثم رحل.
وعلى قول الأكثرين: الريش والرياش بمعنى. قال قطرب: الريش والرياش واحد. وقال سفيان الثوري: الريش: المال، والرياش: الثياب.
قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة: «ولباسُ التقوى» بالرفع. وقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بنصب اللباس. قال الزجاج: من نصب اللباس، عطف به على الريش ومن رفعه، فيجوز أن يكون مبتدأً، ويجوز أن يكون مرفوعاً باضمار: هو المعنى: وهو لباس التقوى، أي: وستر العورة لباس المتقين. وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال «١» : أحدها:
أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان ورواه الذيَّال بن عمرو عن ابن عباس. والثاني: العمل الصالح، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الإيمان، قاله قتادة، وابن جريج، والسدي فعلى هذا، سمي لباس التقوى، لأنه يقي العذاب. والرابع: خشية الله تعالى، قاله عروة بن الزبير.
والخامس: الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الانباري. والسادس: ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد.
والسابع: انه الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن علي. والثامن: العفاف، قاله ابن السائب.
والتاسع: أنه ما يُتَّقى به الحر والبرد، قاله ابن بحر. والعاشر: أن المعنى: ما يَلْبَسه المتقون في الآخرة، خير مما يلبسه أهل الدنيا، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.
قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ قال ابن قتيبة: المعنى: ولباس التقوى خير من الثياب، لأن الفاجر، وإِن كان حسن الثوب، فهو بادي العورة و «ذلك» زائدة. قال الشاعر في هذا المعنى:
إنِّي كأنِّي أرَى مَنْ لا حَياءَ لَه وَلاَ أمَانَةَ وَسْطَ القَوْمِ عُريانا «٢»
قال ابن الانباري: ويقال: لباس التقوى، هو اللباس الأول، وإنما أعاده لِما أخبر عنه بأنه خير من التعرِّي، إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعرِّي في الطواف.
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ قال مقاتل: يعني: الثيابُ والمالُ من آيات الله وصنعه، لكي يذّكروا، فيعتبروا في صنعه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ قال المفسرون: هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٥/ ٤٦٠: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل لِباسُ التَّقْوى استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته، وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمت الحسن. لأن من اتقى الله كان به مؤمنا، وبما أمره به عاملا، وفيه خائفا، وله مراقبا، ومن أن يرى عند ما يكرهه من عباده مستحييا. من كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سمته وهديه، ورئيت عليه بهجة الإيمان ونوره. وإنما قلنا عني ب (لباس التقوى) استشعار النفس والقلب ذلك لأن «اللباس» إنما هو ادراع ما يلبس، واجتناب ما يكتسي، أو تغطية بدنه أو بعضه به، فكل من ادرع شيئا واجتابه حتى يرى عينه أو أثره عليه، فهو له «لابس» ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسا، وهن لهن لباسا، وجعل الليل لعباده لباسا. ا. هـ.
(٢) البيت منسوب إلى سوّار بن المضرب «اللسان» وسط.
عراةً والمعنى: لا يخدعنَّكم ولا يضلنَّكم بغروره، فيزِّين لكم كشف عوراتِكم، كما أخرج أبويكم من الجنة بغروره. وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه، لأنه السبب.
وفي «لباسهما» أربعة أقوال: أحدها: أنه النور، رواه أبو صالح عن ابن عباس وقد ذكرناه عن ابن منبه. والثاني: أنه كان كالظُفُر فلما أكلا، لم يبق عليهما منه إلا الظُفر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن زيد. والثالث: أنه التقوى، قاله مجاهد. والرابع: أنه كان من ثياب الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي: ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ قال مجاهد: قبيله: الجن والشياطين. قال ابن عباس: جعلهم الله تعالى يَجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم.
قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج: سلَّطناهم عليهم، يزيدون في غيّهم. وقال أبو سليمان: جعلناهم موالين لهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٨]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)
قوله تعالى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال:
(٥٧٢) أحدها: أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة. والفاحشة: كشف العورة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي.
(٥٧٣) والثاني: أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام، وتلك الفاحشة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنهم المشركون والفاحشة: الشرك، قاله الحسن، وعطاء.
قال الزجاج: فأعلمهم عزّ وجلّ أنه لا يأمر بالفحشاء، لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن. والقسط: العدل. والعدل: ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميِّز، فكيف يأمر بالفحشاء، وهي ما عظم قبحه؟!
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٩]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)
روي من وجوه لا تصح والصحيح في هذه الآية العموم في كل فاحشة. أخرجه الطبري ١٤٤٧٢ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفيه عطاء بن السائب، وقد اختلط. وكرره ١١٤٦٨ و ١١٤٦٩ عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وكرره ١٤٤٧ عن سعيد بن جبير والشعبي، وفيه عطاء بن السائب غير قوي، وعنه عمران بن عيينة لين الحديث.
عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهذه رواية واهية ليست بشيء.
قوله تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فيه أربعة أقوال: أحدها: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد، فصلُّوا فيه، ولا يقولنَّ أحدكم: أُصلي في مسجدي، قاله ابن عباس، والضحاك، واختاره ابن قتيبة. والثاني: توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قاله مجاهد، والسّدّيّ، وابن زيد. الثالث: اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون غيره، قاله الربيع بن أنس. والرابع: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة، أمراً بالجماعة لها، ذكره الماوردي. وفي قوله: وَادْعُوهُ قولان:
أحدهما: أنه العبادة. والثاني: الدّعاء. وفي قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قولان: أحدهما:
مُفْردين له العبادة. والثاني: موحِّدين غير مشركين. وفي قوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ثلاثة أقوال:
أحدها: كما بدأكم سعداء وأشقياء، كذلك تبعثون، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والقرظي، والسدي، ومقاتل، والفراء. والثاني: كما خُلقتم بقدرته كذلك يعيدكم، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن وابن زيد والزجاج، وقال: هذا الكلام متصل بقوله: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ «١». والثالث: كما بدأكم لا تملكون شيئا، كذلك تعودون، ذكره الماوردي.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٠]
فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
قوله تعالى: فَرِيقاً هَدى قال الفراء: نصب الفريق ب «تعودون». وقال ابن الانباري: نصب «فريقا» «وفريقا» على الحال من الضمير الذي في «تعودون»، يريد: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء.
قوله تعالى: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي: بالكلمة القديمة، والإرادة السّابقة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ.
(٥٧٤) سبب نزولها: أن ناساً من الأعراب كانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تعلِّق على فرجها سيوراً، وتقول:
موقوف. أخرجه مسلم ٣٠٢٨ والنسائي في «التفسير» ٢٠٢ و «المجتبى» ٢٩٥٦ والطبري ١٤٥٠٩ و ١٤٥١٠ و ١٤٥١٢ من طرق عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم بن عمران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
قلت: ولهذا الخبر ثلاث علل: الأولى: الإرسال، فقد أخرجه الطبري ١٤٥٢٧ من طريق سويد وأبي أسامة عن حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه ذكر ابن عباس، وهذا الإسناد أصح، أيوب هو السختياني أثبت وأحفظ من مسلم البطين، ثم ذكر المرأة لا يصح لأنه يعم كل امرأة تطوف عريانة، وتقول هذا الشعر، وهذا باطل، هناك من النساء من يأبى ذلك، وهناك نساء أخر، لا يعرفن هذا الشعر، فهذه علة ثانية. والصواب ما في مرسل سعيد بن جبير كانوا يطوفون بالبيت عراة فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة
__________
(١) سورة الأعراف: ٢٥.
112
اليومَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ وَمَا بَدا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ
فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس.
(٥٧٥) وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: كانوا إذا حجوا، فأفاضوا من منى، لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه، فيلقيهما حتى يقضي طوافه، فنزلت هذه الآية.
(٥٧٦) وقال الزهري: كانت العرب تطوف بالبيت عراةً، إلا الحمس «١» قريشٌ وأحلافها، فمن جاء من غيرهم، وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس، فان لم يجد من يُعيره من الحمس، ألقى ثيابه وطاف عرياناً، فان طاف في ثياب نفسه، جعلها حراماً عليه إذا قضى الطواف، فلذلك جاءت هذه الآية.
وفي هذه الزينة قولان: أحدهما: الثياب. ثم فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنه ورد في ستر العورة في الطواف، قاله ابن عباس، والحسن في جماعة. والثاني: أنه ورد في ستر العورة في الصلاة، قاله
فقالت..» فهذا هو الصواب، أن امرأة واحدة هي التي قالت هذا الشعر. العلة الثالثة: قوله «فتقول من يعيرني تطوافا، تجعله على فرجها» وهذا غريب، وباقي الروايات عن ابن عباس وعطاء وإبراهيم وغيرهم لا تذكر ذلك، وإنما فيها: وكانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك، ولا يعني من لفظ «عراة» أنها ليس على فرجها شيء. ويؤيد ذلك ما في الطبري ١٤٥١٢ عن وهب بن جرير حيث قال في روايته «كانت المرأة تطوف بالبيت، وقد أخرجت صدرها وما هنالك، وإن ثبت أنهن عراة ليس عليهن شيء فهو محمول على إحدى روايات الطبري، وهي برقم ١٤٥١٠ عن ابن عباس: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، فتنبه، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» ٨٩١ بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٤٥٣ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا.
مرسل، أخرجه الطبري ١٤٥٣٠ عن الزهري مرسلا. وأخرجه البخاري ١٦٦٥ ومسلم ١٢١٩/ ١٥٢ من حديث عروة. ولفظه عند البخاري: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت وكان الحمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا. وكان يفيض جماعة الناس من عرفات وتفيض الحمس من جمع.
__________
(١) الحمس: قريش، لأنهم كانوا يتشددون في دينهم. وقيل: قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان وبنو عامر بن صعصعة. وكانت الحمس سكان الحرم وكانوا لا يخرجون أيام الموسم إلى عرفات وإنما يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله ولا نخرج من الحرم.
وصارت بنو عامر من الحمس وليسوا من ساكني الحرم لأن أمهم قرشية «اللسان» حمس. [.....]
(٢) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ١٩٠: دلت الآية على وجوب ستر العورة، وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، وهو الصحيح لقول النبي صلّى الله عليه وسلم للمسور بن مخرمة: «ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة» أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن سترها في الصلاة سنة واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي. وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره، وهو راكع، فرفع رأسه فغطاه أجزأه، قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون: أنه يعيد ويعيدون، لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة اه ملخصا. وانظر «المدونة» ١/ ٩٤- ٩٥ و «مقدمات ابن رشد» ١/ ١١٠.
113
مجاهد، والزجاج. والثالث: أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد، ذكره الماوردي.
والثاني: أن المراد بالزينة: المشط، قاله أبو رزين.
قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا قال ابن السائب: كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حَجِّهم دَسَماً، ولا ينالون من الطعام إلّا قوتا، تعظيما لحجّتهم، فنزل قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا. وفي قوله:
وَلا تُسْرِفُوا أربعة اقوال «١» : أحدها: لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم، قاله ابن عباس. والثاني: لا تأكلوا حراماً، فذلك الإِسراف، قاله ابن زيد. والثالث: لا تشركوا، فمعنى الإسراف ها هنا: الإشراك، قاله مقاتل. والرابع: لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة، قاله الزجاج.
(٥٧٧) ونُقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، فقال علي: قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا. قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا. قال النصراني: ولا يؤثر عن نبيكم شيء من الطب، فقال: قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوِّدوا كل بدن ما اعتاد». فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
قال المصنف: هكذا نقلتُ هذه الحكاية، إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي ﷺ لا يثبت. وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب: «لقط المنافع في الطّب».
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المشركين عيَّروا المسلمين، إذ لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات، فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس «٢».
والثاني: أنهم كانوا يُحرِّمون أشياء أحلَّها الله من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة
لا أصل له. قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ١٠٠: لم أجد لها- أي حكاية الرشيد- إسنادا والمرفوع منه، قال عنه الحافظ ٢/ ١٠٠ لم أجده. قلت: أخرجه أبو محمد الخلال كما في «الدر» ٣/ ١٥٠ عن عائشة:
أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها: الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا بدنا ما اعتاده». ولا يصح إسناده فقد نقل السخاوي في «المقاصد» ١٠٣٥ عن الدارقطني قوله: رواه أبو قرة الرهاوي عن الزهري عن عائشة، ولا يصح، ولا يعرف هذا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم، إنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أنجر.
وقال العراقي في «تخريج الإحياء» ٣/ ٨٧: لم أجد له أصلا. وقال السخاوي ١٠٣٥: لا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو غيره.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٥/ ٤٧٢ الآية لا تُسْرِفُوا. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ يقول: إن الله لا يحب المتعدي حده في حلال أو حرام: الغالين فيما أحل الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله. وذلك العدل الذي أمر به. ا. هـ.
(٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية ساقطة.
عن ابن عباس «١». والثالث: نزلت في طوافهم بالبيت عراة، قاله طاوس وعطاء.
وفي زينة الله قولان: أحدهما: أنها ستر العورة فالمعنى: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟ والثاني: أنها زينة اللباس. وفي الطيبات قولان: أحدهما: أنها الحلال. والثاني: المستلذ. ثم في ما عني بها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي التي حرَّموها، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها السَّمْنْ، والألبان، واللحم، وكانوا حرَّموه في الإحرام، قاله ابن زيد.
والثالث: الحرث، والأنعام، والألبان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً قال ابن الانباري: «خالصة» نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها، كما تحذف العرب أشياء لا يُلبِس سقوطها. قال الشاعر:
تَقُوْلُ ابْنَتِي لَمّا رَأتْنيَ شَاحِبَاً كأنَّكَ يحميك الطّعام طبيب
تتابع أحداث تخرّمن أخوتي فشيَّبن رَأْسي، والخُطُوُبُ تُشِيْبُ
أراد: فقلت لها: الذي اكسبني ما ترين، تتابع أحداث، فحذف لانكشاف المعنى: قال المفسرون: إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات، فأكلوا ولبسوا ونكحوا، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للمؤمنين، وليس للمشركين منها شيء. وقيل: خالصة لهم من ضرر أو إِثم. وقرأ نافع:
«خالصةٌ» بالرفع. قال الزجاج: ورفعُها على أنه خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب والمعنى:
قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا، خالصةٌ يوم القيامة.
قوله تعالى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: هكذا نبّينها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ قرأ حمزة: «ربي» باسكان الياء. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فيه ستة أقوال: أحدها: أن المراد بها الزنا، ما ظهر منه: علانيته، وما بطن: سرُّه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أن ما ظهر: نكاح الأمهات، وما بطن: الزنا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال علي بن الحسين. والثالث: أن ما ظهر: نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وما بطن: الزنا، روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: أن ما ظهر: الزنا، وما بطن: العزل، قاله شريح. والخامس: أن ما ظهر: طواف الجاهلية عراة، وما بطن: الزنا، قاله مجاهد. والسادس: أنه عامٌّ في جميع المعاصي. ثم في «ما ظهر منها وما بطن» قولان: أحدهما: أن الظاهر: العلانية، والباطن: السر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والثاني: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، والباطن: اعتقاد القلوب، قاله الماوردي. وفي الإثم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ، قاله ابن عباس والضحاك، والفرَّاء. والثاني: المعاصي
(١) أخرجه الطبري ١٤٥٤٥ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما.
كلها، قاله مجاهد. والثالث: أنه الخمر، قاله الحسن وعطاء. قال ابن الانباري: أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده:
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً «١»
فقال أبو العباس: لا أعرفه، ولا أعرف الإثم: الخمر، في كلام العرب. وأنشدنا رجل آخر:
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ «٢»
قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية وإسلام.
فان قيل: إن الخمر تدخل تحت الإثم، فصواب، لا لأنه اسم لها.
فان قيل: كيف فصل الإثم عن الفواحش، وفي كل الفواحش إثم؟
فالجواب: أن كل فاحشة إثم، وليس كل إثم فاحشة، فكان الإثم كل فعل مذموم والفاحشة:
العظيمة فأما البغي، فقال الفراء: هو الاستطالة على الناس.
قوله تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا قال الزّجّاج: «أن» نصب فالمعنى: حرَّم الفواحش، وحرَّم الشرك.
والسلطان: الحجة.
قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عام في تحريم القول في الدّين من غير يقين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ.
(٥٧٨) سبب نزولها: أنهم سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم العذاب، فأُنزلت، قاله مقاتل.
وفي الأجل قولان: أحدهما: أنه أجل العذاب. والثاني: أجل الحياة. قال الزجاج: الأجل:
الوقت المؤقت. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً المعنى: ولا أقل من ساعة. وإنما ذكر الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
(٥٧٨) لا أصل له، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، ومقاتل هذا يجعل لكل آية سببا للنزول، وليس كذلك.
(١) البيت غير منسوب في «اللسان» أثم. والمتك: الأترج.
(٢) البيت غير منسوب في «اللسان» : أثم.
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ قال الزجاج: أضمر: «فأطيعوهم». وقد سبق معنى «إما» في سورة (البقرة) والباقي ظاهر إلى قوله: يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ففي معناه سبعة أقوال «١».
أحدها: ما قُدّر لهم من خير وشر، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثاني: نصيبهم من الأعمال، فيُجزَون عليها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ما كُتِبَ عليهم من الضلالة والهدى، قاله الحسن.
وقال مجاهد، وابن جبير: من السعادة والشقاوة. والرابع: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال، قاله الربيع، والقرظي، وابن زيد. والخامس: ما كتب لهم من العذاب، قاله عكرمة، وأبو صالح، والسدي. والسادس: ما أخبر الله تعالى في الكتاب كلِّها: أنه من افترى على الله كذباً، اسودَّ وجهه، قاله مقاتل. والسابع: ما أخبر في الكتاب من جزائهم، نحو قوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى «٢»، قاله الزجاج.
فاذن في الكتاب خمسة أقوال: أحدها: أنه اللوح المحفوظ. والثاني: كُتُبُ الله كلُّها. والثالث:
القرآن. والرابع: كتاب أعمالهم. والخامس: القضاء.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أعوان مَلَكِ الموت، قاله النخعي. والثاني: ملك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: ملائكة العذاب يوم القيامة.
وفي قوله: يَتَوَفَّوْنَهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: يتوفَّونهم بالموت، قاله الأكثرون. والثاني:
يتوفَّونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة، قاله الحسن. والثالث: يتوفَّونهم عذاباً، كما تقول: قتلت فلاناً بالعذاب، وإن لم يمت، قاله الزجاج.
قوله تعالى: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ أي: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ، وهذا سؤال تبكيت وتقريع. قال مقاتل: المعنى: فليمنعوكم من النار. قال الزجاج: ومعنى ضَلُّوا عَنَّا: بطلوا وذهبوا، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين. وقال غيره: ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٨]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨)
قوله تعالى: قالَ ادْخُلُوا إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة، لأن الله تعالى لا يكلّم
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٥/ ٤٨١: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، مما كتب لهم من خير وشر في الدنيا، ورزق، وعمل وأجل، وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فأبان باتباعه ذلك قوله أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيا عليهم نصيبهم من الكتاب أو مما قد أعد لهم في الآخرة، وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه، فبين بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه. ا. هـ.
(٢) سورة الليل: ١٤.
الكفار يوم القيامة. قال ابن قتيبة: و «في» بمعنى «مع». وفي قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ قولان:
أحدهما: مضت إلى العذاب. والثاني: مضت في الزمان، يعني كفار الأمم الماضية.
قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها وهذه أُخُوَّةُ الدِّين والملَّة، لا أُخُوَّةُ النسب. قال ابن عباس: يلعنون من كان قبلهم. قال مقاتل: كلما دخل أهل ملّة، لعنوا أهل ملَّتهم، فيلعن اليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والمشركون المشركين، والأتباع القادة، ويقولون: أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم. وقال الزجاج: إنما تلاعنوا، لأن بعضهم ضل باتباع بعض.
قوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا قال ابن قتيبة: أي: تداركوا، فأدغمت التاء في الدال، وأُدخلت الألف ليَسْلَم السكون لِما بعدها، يريد تتابعوا فيها واجتمعوا.
قوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: آخر أُمِّة لأول أُمِّة، قاله ابن عباس. والثاني: آخر أهل الزمان لأوّلِّيهم الذين شرعوا له ذلك الدِّين، قاله السدي. والثالث: آخرهم دخولاً إلى النار، وهم الأتباع، لأوِّلهم دخولاً، وهم القادة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: هؤُلاءِ أَضَلُّونا قال ابن عباس: شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها.
قوله تعالى: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً قال الزجاج: أي: عذاباً مضاعفاً.
قوله تعالى: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: عذاب مضاعف وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. قرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم: «يعلمون»، بالياء، قال الزجاج: والمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.
وقرأ الباقون: «تعلمون» بالتاء، وفيها وجهان ذكرهما الزجاج: أحدهما: لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب. والثاني: لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك. وقيل: إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب القادة، ليكون أحد العذابين على الكفر، والثاني على إغرائهم به، فأجيبوا لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي:
كما كان للقادة ذلك، فلكم عذاب بالكفر، وعذاب بالاتّباع.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٩]
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
قوله تعالى: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فيه قولان: أحدهما: في الكفر، نحن وأنتم فيه سواء، قاله ابن عباس. والثاني: في تخفيف العذاب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ قال مقاتل: من الشّرك والتّكذيب.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله ونبوَّة الأنبياء، وتكبَّروا عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم: وابن عامر:
«تُفتَّح» بالتاء، وشددوا التاء الثانية. وقرأ أبو عمرو: «لا تُفْتَح» بالتاء خفيفة، ساكنة الفاء. وقرأ حمزة، والكسائي: «لا يُفْتَح» بالياء مضمومة خفيفة. وقرأ اليزيدي عن اختياره: «لا تَفتح» بتاء مفتوحة «أبوابَ السماء» بنصب الباء، فكأنه أشار إلى أفعالهم. وقرأ الحسن: بياء مفتوحة، مع نصب الأبواب، كأنه
118
يشير إلى الله عزّ وجلّ. وفي معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى الأشعري، والسدي في آخرين، والأحاديث تشهد به.
والثاني: لا تفتح لأعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، قاله ابن جريج، ومقاتل.
وفي السماء قولان: أحدهما: أنها السماء المعروفة، وهو المشهور. والثاني: أنّ المعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها، لأن الجنة في السماء، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الجمل: هو الحيوان المعروف. فان قال قائل: كيف خصّ الجمل من دون سائر الدواب، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن ضرب المثل بالجمل يحصّل المقصود والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة، كما لا يدخل الجمل في ثقَب الإبرة، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه، جاز، والناس يقولون: فلان لا يساوي درهماً، وهذا لا يغني عنك فتيلاً، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل. والثاني: أن الجمل أكبر شأناً عند العرب من سائر الدواب، فانهم يقدِّمونه في القوِّة على غيره، لأنه يوقَر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب، ولهذا عجَّبهم من خلق الإبل، فقال: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «١»، فآثر الله تعالى ذكره على غيره لهذا المعنى. ذكر الجوابين ابن الانباري.
قال: وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ: «حتى يلج الجُمَّلُ» بضم الجيم وتشديد الميم، وقال: هو القلس الغليظ. قلت: وهي قراءة أبي رزين، ومجاهد، وابن محيصن، وأبي مجلز، وابن يعمر، وأبان عن عاصم. قال: وروى مجاهد عن ابن عباس: «حتى يلج الجُمَلُ» بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها. قلت: وهي قراءة قتادة، وقد رويت عن سعيد بن جبير، وأنه قرأ: «حتى يلج الجُمْل» بضم الجيم وتسكين الميم. قلت: وهي قراءة عكرمة. قال ابن الأنباري: فالجُمَل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجُمَّلُ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجِمال، قيل في جمعها:
جمل، كما يقال: حُجْرة، وحُجَر، وظُلْمة، وظُلَم. وكذلك من قرأ: «الجُمْلَ» يسوغ له أن يقول:
الجُمْلُ، بمعنى الجُمَّل، وأن يقول: الجُمْل، جمع جُمْلة، مثل بُسْرة، وبُسْر. وأصحاب هذه القراءات يقولون: الحبل والحبال، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال. وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ: «الجُمْل» بضم الجيم والميم، وبالتخفيف، وهي قراءة الضحاك، والجحدري. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «الجَمْل» بفتح الجيم، وبسكون الميم خفيفة.
قوله تعالى: فِي سَمِّ الْخِياطِ السم في اللغة: الثَّقب. وفيها ثلاث لغات: فتح السين، وبها قرأ الأكثرون، وضمها، وبه قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، وطلحة بن مصرف، وكسرها، وبه قرأ أبو عمران الجوني، وأبو نهيك، والأصمعي عن نافع. قال ابن القاسم: والخياط:
المِخْيَط، بمنزلة اللحاف والملحف، والقِرام والمقرم. وقد قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو مجلز:
«في سمّ المخيط». قال الزجاج: الخياط: الإبرة، وسَمُّها: ثقبها. والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنّة
(١) سورة الغاشية: ١٧.
119
أبداً. قال ابن قتيبة: هذا كما يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القار.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنّة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ المهاد: الفراش. وفي المراد بالغواشي ثلاثة أقوال: أحدها:
اللحف، قاله ابن عباس، والقرظي، وابن زيد. والثاني: ما يغشاهم من فوقهم من الدخان، قاله عكرمة. والثالث: غاشية فوق غاشية من النار، قاله الزجاج. قال ابن عباس: والظالمون ها هنا:
الكافرون.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٣]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أهل بدر. روى الحسن عن علي عليه السلام أنه قال:
(٥٧٩) فينا والله أهل بدر نزلت: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
وروى عمرو بن الشريد عن عليٍّ أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير، من الذين قال الله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
والثاني: أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا.
(٥٨٠) روى كثير النَّوَّاء عن أبي جعفر قال: نزلت هذه الآية في علي، وأبي بكر، وعمر، قلت لأبي جعفر: فأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية شيء، فلما أسلم هؤلاء، تحابوا، فأخذتْ أبا بكر الخاصرةُ، فجعل عليٌّ يسخِّن يده ويكمِّد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.
والثالث: عشرة من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، قاله أبو صالح «١». والرابع: أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها.
أخرجه الطبري ١٤٦٦٦ عن الحسن عن علي، وهو منقطع بينهما. وورد من وجوه أخر، ويأتي في سورة الحج: ٤٧.
واه بمرة. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي ٦٥٤ عن علي بن الحسين، وهذا مرسل وفيه كثير النواء، وهو ضعيف.
__________
(١) عزاه المصنف لأبي صالح، وهو غير ثقة في التفسير، والصحيح عموم الآية.
120
(٥٨١) روى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: «يخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا، أذن لهم في دخول الجنّة. فو الّذي نفسي بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا».
وقال ابن عباس: أول ما يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين، فيُذهب الله ما في قلوبهم من غلٍّ وغيره مما كان في الدنيا، ثم يدخلون إلى العين الأخرى، فيغتسلون منها، فتُشرق ألوانهم، وتصفو وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم.
فأما النزع، فهو قلع الشيء من مكانه. والغل: الحقد الكامن في الصدر. وقال ابن قتيبة: الغل:
الحسد والعداوة.
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا قال الزجاج: معناه: هدانا لِما صيّرنا إلى هذا. قال ابن عباس: يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته. وروى عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام قال: تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور، فيطوفون بهم كاطافتهم بالحميم جاء من الغيبة، ويبشرونهم بما أعدَّ الله لهم، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشِّرونهنَّ، فيستخفهنَّ الفرح، فيقمن على أُسْكُفَّةِ الباب، فيقلن: أنت رأيته، أنت رأيته؟ قال: فيجيء إلى منزله فينظر في أساسه، فاذا صخر من لؤلؤ، ثم يرفع بصره، فلولا أن الله ذلَّله لذهب بصره، ثم ينظر أسفل من ذلك، فاذا هو بالسُّرر الموضونة، والفرش المرفوعة، والزرابي المبثوثة، فعند ذلك قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ. كلهم قرأ «وما كنَّا» باثبات الواو، غير ابن عامر، فانه قرأ «ما كنا لنهتديَ» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. قال أبو علي: وجه الاستغناء عن الواو أن القصة ملتبسة بما قبلها فأغنى التباسها به عن حرف العطف، ومثله رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ «١».
قوله تعالى: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرّسل عيانا.
وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ قال الزجاج: إنما قال «تلكم» لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم التي وُعدتم بها. وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها. وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر «أورثْتُموها» غير مدغمة. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي «أورثتموها» مدغمة، وكذلك قرءوا في (الزخرف) قال أبو علي: من ترك الادغام، فلتباين مخرج الحرفين، ومن أدغم، فلأن التاء والثاء مهموستان متقاربتان. وفي معنى «أورثتموها» أربعة أقوال:
(٥٨٢) أحدها: ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنّة
صحيح. أخرجه البخاري ٢٤٤٠ و ٦٥٣٥ وأحمد ٣/ ١٣ و ٦٣ و ٧٤ وابن أبي عاصم في «السنة» ٨٥٨ وابن مندة ٨٣٧ و ٨٣٨، ٨٣٩ وأبي يعلى ١١٨٦، وابن حبان ٧٤٣٤ وأبو نعيم في «صفة الجنّة» ٢٨٨٨.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤/ ١٥٩ (الزخرف: ٧٢) عن الفضل ابن شاذان المقرئ حدثنا يوسف بن يعقوب حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا، وإسناده حسن، رجاله ثقات أبو بكر بن عياش فيه كلام لا يضر. وورد عن أبي بكر بن عياش بهذا الإسناد بلفظ «كل
__________
(١) سورة الكهف: ٢٢.
121
ومنزل في النار، فأما الكافر فانه يرث المؤمنَ منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» فذلك قوله: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وقال بعضهم: لما سمي الكفار أمواتاً بقوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ «١». وسمّى المؤمنين أحياء بقوله: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا «٢» أورث الأحياء الموتى.
والثاني: أنهم أورثوها عن الأعمال، لأنها جُعلت جزاءً لأعمالهم، وثواباً عليها، إذ هي عواقبها، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أن دخول الجنة برحمة الله، واقتسامَ الدرجات بالأعمال. فلما كان يفسَّر نيلها لا عن عوض، سميت ميراثاً. والميراث: ما أخذته عن غير عوض. والرابع: أن معنى الميراث ها هنا: أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
قوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا أي: من العذاب؟ وهذا سؤال تقرير وتعيير. قالُوا نَعَمْ. قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن، وكان الكسائي يكسرها. قال الأخفش: هما لغتان.
قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أي: نادى منادٍ. أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ قرأ ابن كثير في رواية قنبل، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «أنْ لعنةُ الله» خفيفة النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أنّ» بالتشديد، «لعنةَ الله» بالنصب. قال الأخفش: و «أنْ» في قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ «٣» وقوله: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ، وقوله: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ «٤»، وأَنْ قَدْ وَجَدْنا، هي «أنّ» الثقيلة خففت. قال الشاعر:
في فِتْيَةٍ كَسُيْوفِ الهِنْدِ قَد عَلِمُوا أنْ هَالِكٌ كلُّ من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ «٥»
وأنشد أيضاً:
أُكاشِرُهُ وَأعْلَمُ أَنْ كِلاَنَا عَلَى ما سَاءَ صَاحِبَه حَرِيْصُ «٦»
ومعناه: أنه كلانا وتكون «أن قد وجدنا» في معنى: أي: قال ابن عباس: والظّالمون ها هنا:
الكافرون.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: أذن المؤذن ان لعنة الله على الذين كفروا وصدّوا عن
أهل النار يرى مقعده في الجنة فيقول: لو أن الله هداني فيكون عليهم حسرة، قال: وكل أهل الجنة يرى مقعده في النار فيقول: لولا أن الله هداني قال: فيكون له شكرا» لفظ أحمد وغيره. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١٤٥٤ وأحمد ٢/ ٥١٢ والحاكم ٢/ ٤٣٥ و ٤٣٦، والبيهقي في «البعث والنشور» ٢٦٩. وإسناده حسن.
__________
(١) سورة النحل: ٢١.
(٢) سورة يس: ٧٠.
(٣) سورة الأعراف: ٤٣. [.....]
(٤) سورة يونس: ١٠.
(٥) البيت منسوب إلى الأعشى في ديوانه ٥٩. وسيبويه ١/ ٨٢.
(٦) البيت غير منسوب في سيبويه ١/ ٤٤٠. وقوله أكاشره: أضاحكه.
سبيل الله، وهو الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً مفسَّر في سورة آل عمران «١». وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي: وهم بِكَوْن الآخرة كافرون.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٦]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
قوله تعالى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الجنة والنار حاجز، وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ «٢»، فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه. قال ابن عباس: الأعراف:
هو السور الذي بين الجنة والنار، له عرف كعرف الديك. وقال أبو هريرة: الأعراف: جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يعني: على ذراها، خلِقتها كخِلقة عرف الديك. قال اللغويون: الأعراف عند العرب: كل ما ارتفع من الأرض وعلا يقال لكل عال: عُرف، وجمعه: أعراف. قال الشاعر:
كلُّ كِنازٍ لَحُمُه نِيَافِ... كالعَلَم المُوفي على الأَعْرافِ «٣»
وقال الآخر:
وَرِثت بِنَاءَ آبَاءٍ كِرَامٍ... عَلَوْا بالمَجْدِ أعْرَافَ البِنَاءِ
وفي «أصحاب الأعراف» قولان: أحدهما: أنهم من بني آدم، قاله الجمهور. وزعم مقاتل أنهم من أُمة محمد صلّى الله عليه وسلم خاصة. وفي أعمالهم تسعة أقوال «٤» :
(٥٨٣) أحدها: أنهم قوم قُتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم، ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله، وهذا مرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثاني: أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تبلغ بهم حسناتهم دخول الجنة، ولا سيئاتهم دخول النار، قاله ابن
حديث ضعيف، عزاه المصنف لمقاتل، ولم ينسبه، فإن كان ابن سليمان، فهو متروك كذاب، وإن كان ابن حيان، فإن عنده مناكير. وأخرجه الطبري ١٤٧١٣ والبيهقي في «البعث» ١١٢ و ١١٣ والطبراني كما في «المجمع» ١١٠١١٤ من حديث عبد الرحمن المزني وعند بعضهم «المدني» وأعله البيهقي بأبي معشر نجيح السندي وأنه ضعيف، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» به، وفيه يحيى بن شبل، وهو مجهول. وأخرجه الطبري ١٤٧١٢ عن يحيى بن شبل: أن رجلا من بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف... فذكره بسياق المصنف وإسناده ضعيف فيه من لم يسم. وورد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» ٦٦٦ وأعله الهيثمي في «المجمع» ١١٠١٣ بمحمد بن مخلد الرعيني، وأنه ضعيف. وورد من حديث أبي هريرة عند البيهقي ١١٥ وفيه أبو معشر، وهو ضعيف، ومدار عامة هذه الطرق عليه، وورد مرفوعا عن حذيفة وغيره، وهو الراجح، والله أعلم.
__________
(١) سورة آل عمران: ٩٩.
(٢) سورة الحديد: ١٣.
(٣) البيت غير منسوب في «مجاز القرآن» ١/ ٢١٥ «واللسان» : نوف.
الكناز: المجتمع اللحم القوية، النياف: الطويل. العلم: الجبل.
(٤) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٧٤: واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، نص عليه حذيفة وابن عباس، وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله. اه.
مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، والشعبي، وقتادة. والثالث: أنهم أولاد الزنا، رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس. والرابع: أنهم قوم صالحون فقهاء علماء، قاله الحسن، ومجاهد فعلى هذا يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة. والخامس: أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أُمهاتهم، أو أُمهاتهم دون أبائهم، رواه عبد الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم. والسادس: أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدِّلوا دينهم، قاله عبد العزيز بن يحيى. والسابع: أنهم أنبياء، حكاه ابن الانباري.
والثامن: أنهم أولاد المشركين، ذكره المنجوفي في تفسيرة. والتاسع: أنّهم قوم عملوا لله تعالى، لكنهم راءوا في عملهم، ذكره بعض العلماء.
والقول الثاني: أنهم ملائكة، قاله أبو مجلز، واعتُرض عليه، فقيل: إنهم رجال، فكيف تقول:
ملائكة؟ فقال: إنهم ذكور وليسوا باناث.
وقيل: معنى قوله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ أي: على معرفة أهل الجنة من أهل النار، ذكره الزجاج، وابن الانباري. وفيه بُعد وخلاف للمفسرين.
قوله تعالى: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي: يعرف أصحابُ الأعراف أهل الجنة وأهل النار. وسيما أهل الجنة: بياض الوجوه، وسيما أهل النار: سواد الوجوه، وزرقة العيون. والسيما: العلامة. وإنما عرفوا الناس، لأنهم على مكانٍ عالٍ يشرفون فيه على أهل الجنة والنار. وَنادَوْا يعني: أصحاب الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. وفي قوله: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قولان: أحدهما: أنه إخبار من الله تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، قاله الجمهور.
والثاني: أنه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يُذهَب بها إلى الجنة أن هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، هذا قول السّدّيّ.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٧]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ يعني أصحاب الأعراف. والتلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة. وقال أبو عبيدة: تلقاء أصحاب النار، أي: حيالهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٨]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨)
قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ روى أبو صالح عن ابن عباس قال:
ينادون: يا وليد بن المغيرة، يا أبا جهل بن هشام، يا عاص بن وائل، يا أمية بن خلف، يا أُبَيّ بن خلف، يا سائر رؤساء الكفاء، ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والوالد. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي: تتعظَّمون عن الإيمان.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٤٩]
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
قوله تعالى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ فيه قولان:
أحدهما: أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا، وأن الله لن يدخلهم الجنة، فيقول الله تعالى لأهل النار: أَهؤُلاءِ يعني أهل الأعراف الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ رواه وهب بن منبه عن ابن عباس.
(٥٨٤) قال حذيفة: بينا أصحاب الأعراف هنالك، اطَّلع عليهم ربهم فقال لهم: ادخلوا الجنة فاني قد غفرت لكم.
والثاني: أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفّار يستهزئون بهم، كسلمان، وصهيب، وخبَّاب، فينادون الكفار: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ وأنتم في الدنيا لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ. قاله ابن السائب «١». فعلى هذا ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله: بِرَحْمَةٍ ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنة.
وقد ذكر المفسرون في قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون خطاباً من الله لأهل الأعراف، وقد ذكرناه. والثاني: أن يكون خطاباً من الله لأهل الجنة. والثالث: أن يكون خطاباً من أهل الأعراف لأهل الجنة، ذكرهما الزجاج. فعلى هذا الوجه الأخير، يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ: اعلوا إلى القصور المشرفة، وارتفعوا إلى المنازل المنيفة، لأنهم قد رأوهم في الجنة: وروى مجاهد عن عبد الله بن الحارث قال: يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له: الحياة، عليه قضبان الذهب مكلَّلة باللؤلؤ، فيُغمسون فيه، فيخرجون، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ويقال لهم: تمنَّوا ما شئتم، ولكم سبعون ضعفاً، فهم مساكين أهل الجنة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٠]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنّة، وطمع أهل النار في الفرج بعد اليأس، فقالوا: يا رب، إن لنا قرابات من أهل الجنة، فائذن لنا حتى نراهم ونكلِّمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم. ونظر أهل الجنّة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، قد اسودَّت وجوههم وصاروا خلقاً آخر، فنادى أصحابُ النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم، فينادي الرجل أخاه: يا أخي قد احترقتُ فأغثني فيقول:
إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. قال السدي: عنى بقوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الطعام. قال الزّجّاج: أعلم الله عزّ وجلّ أن ابن آدمَ غيرُ مستغنٍ عن الطعام والشراب، وإن كان معذّبا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥١]
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً قال ابن عباس: هم المستهزئون. والمعنى:
أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم. وقال أبو رَوْق: دينهم: عيدهم. وقال قتادة: لَهْواً وَلَعِباً أي:
أكلاً وشرباً. وقال غيره: هو ما زيَّنه الشيطان لهم من تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام،
موقوف. أخرجه الطبري ١٤٦٩٣ من طريق الشعبي عن حذيفة، وهو منقطع فالإسناد ضعيف.
__________
(١) عزاه المصنف للكلبي وهو محمد بن السائب، وقد كذبه غير واحد.
والمكاء، والتصدية، ونحو ذلك من خصال الجاهلية.
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ قال الزجاج: أي: نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. و «ما» نسق على «كما» في موضع جر. والمعنى: وكجحدهم. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناسٍ غافلٍ كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغَفَل.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٢]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعني القرآن. فَصَّلْناهُ أي: بينَّاه بايضاح الحق من الباطل.
وقيل: فصَّلناه فصولاً مرة بتعريف الحلال، ومرة بتعريف الحرام، ومرة بالوعد، ومرة بالوعيد، ومرة بحديث الأمم. وفي قوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قولان: أحدهما: على علم منا بما فصَّلناه. والثاني: على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، وعاصم، والجحدريّ، ومعاذ القارئ: «فضّلناه» بضاد معجمة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ قال ابن عباس: تصديق ما وُعدوا في القرآن. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي: تركوه مِنْ قَبْلُ في الدنيا قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي بالبعث بعد الموت. قوله تعالى: أَوْ نُرَدُّ قال الزجاج: المعنى: أو هل نُردُّ. وقوله.
فَنَعْمَلَ منصوب على جواب الفاء للاستفهام.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم السبت.
(٥٨٥) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيدي، فقال:
الصحيح موقوف. أخرجه مسلم ٢٧٨٩ وأحمد والنسائي في «الكبرى» ١١٠١٠ وابن حبان ٦١٦١ والطبري في «التاريخ» ١/ ٢٣ و ٢٥ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ٨٣٨٣ وعلقه الإمام البخاري في «تاريخه» ١/ ٤١٣- ٤١٤ من طريق أيوب وقال: وقال بعضهم عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح.
وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ١/ ٩٩: هذا الحديث من غرائب «صحيح مسلم» وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري. وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعله مرفوعا، وذكره أيضا في «تفسيره» ٣/ ٤٢٢، وقال: وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا
126
«خلق الله عزّ وجلّ التربة يومَ السبت، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد، وخلق الشجر يومَ الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النُّور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل»، وهذا اختيار محمد بن إسحاق. وقال ابن الانباري: وهذا إجماع أهل العلم.
والثاني: يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة.
والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل.
ومعنى قوله: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ. قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافاً في ذلك. ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيداً من وجهين: أحدهما: خلاف الآثار. والثاني: أن الذي يتوهمه المتوهِّم من الإِبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١». فان قيل:
فهلاَّ خلقها في لحظة، فانه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة: أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمراً تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الانباري. والثاني: أن التثبُّت في تمهيد ما خُلق لآدم وذرّيّته قبل
الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى» ١٧/ ٢٣٦: وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: «خلق الله التربة يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، وقال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه وقال أيضا فيما نقله عنه القاسمي في «الفضل المبين» ص ٤٣٢- ٤٣٤: هذا الحديث طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري، وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب، لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد وهكذا عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام وهذا المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة، لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهي خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذّاق علم الحديث يثبتون علة هذا الحديث في غير هذه الجهة، وأن راويه فلان غلط فيه لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمى معرفة علل الحديث، يكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه الحديث في حديث، وهذا فن شريف وكان يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم صاحبه على ابن المديني، ثم البخاري أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد، وأبو حاتم، وكذلك النسائي والدارقطني وغيرهم، وفيه مصنفات معروفة. وقال المناوي في «فيض القدير» ٣/ ٤٤٨: قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف القرآن، لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السماوات في يومين. اه.
__________
(١) سورة يس: ٨٢.
127
وجوده، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة. والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قول: كُنْ فَيَكُونُ. والرابع: انه علّم عباده التثبُّت، فاذا تثبت من لا يزلُّ، كان ذو الزّلل أولى بالتثبُّت. والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.
قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير وكل سرير لملك يسمى عرشاً وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أُمية بن أبي الصلت:
مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعَاً لا يَنَالُهُ نَاظِرُ العَيْ نِ تَرَى دُوْنَه المَلائِكَ صُوْرا
وقال كعب: إن السماوات في العرش كالقنديل معلَّق بين السماء والأرض. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذَّ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوُّز، مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله عزّ وجلّ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أتراه كان المُلك على الماء؟
وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى «١»، ويحتج بقول الشاعر:
حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ
وبقول الشاعر أيضاً:
هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ
وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الاعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال: استولى فلان على كذا، إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه، ثمّ
(١) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» ٧/ ٢١٩ بعد أن ذكر مذهب المتكلمين: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، لا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة، بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخصّ العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- أي في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها اه.
وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٨٠ عند هذه الآية: للناس في هذا المقام مقالات كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهي إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى اه.
128
تمكّن منه والله عزّ وجلّ لم يزل مستولياً على الأشياء والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي. ولو صحّا، فلا حجة فيهما لما بيَّنَّا من استيلاء من لم يكن مستولياً. نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة.
قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يُغْشي» ساكنة الغين خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «يُغَشّي» مفتوحة الغين مشددة، وكذلك قرءوا في سورة الرعد «١». قال الزجاج: المعنى: أن الليل يأتي على النهار فيغطيِّه وإنما لم يقل:
ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلاً عليه وقد قال في موضع آخر: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «٢». وقال أبو علي: إنما لم يقل: يغشي النهار الليل، لأنه معلوم من فحوى الكلام، كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٣»، وانتصب الليل والنهار، لأن كل واحد منهما مفعول به.
فأما الحثيث، فهو السريع.
قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ قرأ الأكثرون: بالنّصب فيهنّ، وهو على معنى:
خلق السماوات والشمس. وقرأ ابن عامر: «والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» بالرّفع فيهنّ ها هنا وفي (النحل) «٤»، تابعه حفص في قوله تعالى: وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ في (النحل) فحسب. والرفع على الاستئناف. والمسخرات: المذلَّلات لما يراد منهنَّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبّر لهنَّ.
قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ لأنه خلقهم وَالْأَمْرُ فله أن يأمر بما يشاء. وقيل: الأمر: القضاء.
قوله تعالى: تَبارَكَ اللَّهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: تفاعل من البركة، رواه الضحاك عن ابن عباس وكذلك قال القتيبيُّ، والزجاج. وقال أبو مالك: افتعل من البركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قِبَله.
وقال الفراء: تبارك: من البركة وهو في العربية كقولك: تقدس ربنا. والثاني: أن تبارك بمعنى تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال أبو العباس: تبارك: ارتفع والمتبارِك: المرتفِع. والثالث:
أن المعنى: باسمه يُتبرَّك في كل شيء، قاله ابن الانباري. والرابع: أن معنى «تبارك» تقدس، أي:
تطهر، ذكره ابن الأنباري أيضا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٥]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً التضرع: التذلُّل والخضوع. والخُفية: خلاف العلانية. قال الحسن: كانوا يجتهدون في الدعاء، ولا تسمع إلا همساً. ومن هذا حديث أبي موسى:
(٥٨٦) «اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً».
حديث صحيح. أخرجه البخاري ٢٩٩٢ و ٦٦١٠ ومسلم ٢٧٠٤ وعبد الرزاق ٩٢٤٤ وأحمد ٤/ ٤٠٢ و ٤١٨ وابن أبي شيبة ٦/ ٢٩٦٥٦، والبيهقي في «السنن» ١٨٤ والطبري ١٤٧٨٦. والبغوي في «شرح السنة» ١٢٧٦ من حديث أبي موسى.
__________
(١) سورة الرعد: ٣.
(٢) سورة الزمر: ٥.
(٣) سورة النحل: ٨١.
(٤) سورة النحل: ١٢. [.....]
وفي الاعتداء المذكور ها هنا قولان: أحدهما: أنه الاعتداء في الدعاء. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يدعو على المؤمنين بالشر، كالخزي واللعنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء، قاله أبو مجلز. والثالث: أنه الجهر في الدعاء، قاله ابن السائب.
والثاني: أنه مجاوزة المأمور به، قاله الزّجّاج.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٦]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها فيه ستة أقوال: أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة. والرابع: لا تعصوا، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر والخصب. والخامس: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه.
والسادس: لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي.
وفي قوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً قولان: أحدهما: خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه. والثاني:
خوفاً من الردِّ وطمعاً في الإِجابة. قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال الفراء: رأيت العرب تؤنِّث القريبة في النسب، لا يختلفون في ذلك، فاذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منّا قريب، ومن القرب والبعد، ذكّروا وأنَّثوا، وذلك أنهم جعلوا القريب خَلَفاً من المكان، كقوله: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ «١»، وقوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «٢»، ولو أُنِّث ذلك لكان صواباً. قال عروة:
عَشِيَّةَ لاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ قريبةٌ فَتَدْنُو وَلاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعيدُ
وقال الزجاج: إنما قيل: «قريب» لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: جائز أن تكون الرّحمة ها هنا في معنى المطر.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٧]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم: «الرياح» على الجمع. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: «الريح» على التوحيد. وقد يأتي لفظ التوحيد ويراد به الكثرة كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ومثله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «٣».
قوله تعالى: «نَشْراً» قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع: «نُشراً» بضم النون والشين أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل ناحية وجانب. قال أبو عبيدة: النشر: المتفرّقة من كلّ جانب. قال أبو علي: يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر، وبمعنى المنتشر، وبمعنى النّاشر يقال:
(١) سورة هود: ٨٣.
(٢) سورة الأحزاب: ٦٣.
(٣) سورة العصر: ٢.
130
أنشر الله الريح، مثل أحياها، فنشرت، أي: حييت. والدليل على أنّ إنشار الرّيح إحياؤها قولُ الفقعسي:
وهبَّتْ له رِيْحُ الجَنُوبِ وأُحْيِيَتْ له رَيْدَةٌ يُحيي المِيَاهَ نَسِيْمُهَا «١»
ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت. قال الشاعر:
إنِّي لأرْجُو أَنْ تَمُوْتَ الرِّيْحُ وأقعد اليَوْمَ وَأسْتَرِيْحُ
والرَّيدة والريدانة: الريح. وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث، والحسن البصري: «نُشْراً» بالنون مضمومة وسكون الشين، وهي في معنى «نُشُراً». يقال: كُتُبْ وكُتْب، ورُسُل ورُسْل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضل عن عاصم: «نَشْرا» بفتح النون وسكون الشين. قال الفراء: النَّشْر:
الريح الطّيّبة اللّينة التي تنشئ السحاب. وقال ابن الانباري: النَّشْر: المنتشرة الواسعة الهبوب. وقال أبو علي: يحتمل النَّشْر أن يكون خلاف الطيِّ، كأنها كانت بانقطاعها كالمطويَّة. ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر: أنها المتفرقة في الوجوه ويحتمل أن يكون من النّشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر:
يا عَجَباً لِلْمِّيتِ النَّاشِرِ «٢»
قال: وهذا هو الوجه. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وإبراهيم النخعي، ومسروق، ومورِّق العجلي:
«نَشَراً» بفتح النون والشين. قال ابن القاسم: وفي النَّشَر وجهان: أحدهما: أن يكون جمعاً للنشور، كما قالوا: عَمود وَعَمد، وإهاب وأهَب. والثاني: أن يكون جمعاً، واحده ناشر، يجري مجرى قوله:
غائب وغَيَبٌ، وحافد وحفد وكلّ هؤلاء القرّاء نوّن الكلمة. وكذلك اختلافهم في (سورة الفرقان) «٣» و (سورة النمل) «٤». هذه قراءات من قرأ بالنون. وقد قرأ آخرون بالباء فقرأ عاصم إلا المفضل:
«بُشْرى» بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فُعْلى. قال ابن الانباري: وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشِّر بالمطر. والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين. وقرأ ابن خثيم، وابن حذلم مثله، إلا أنهما نوَّنا الراء. وقرأ ابو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بضم الباء والشين، وهذا على أنها جمع بشيرة. والرحمة هاهنا: المطر سماه رحمة لأنه كان بالرحمة. و «أقلّتِ» بمعنى حملت. قال الزجاج: السحاب: جمع سحابة. قال ابن فارس: سمي السحابَ لانسحابه في الهواء.
قوله تعالى: ثِقالًا أي: بالماء. وقوله تعالى: سُقْناهُ ردَّ الكناية إلى لفظ السحاب، ولفظه لفظُ واحدٍ. وفي قوله: «لبلد» قولان: أحدهما: إلى بلد. والثاني: لإحياء بلد. والميْتُ: الذي لا يُنْبَتُ فيه، فهو محتاج إلى المطر. وفي قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أن الكناية ترجع إلى السحاب. والثاني: إلى المطر، ذكرهما الزجاج. والثالث: إلى البلد، ذكره ابن الانباري. فأما هاء فَأَخْرَجْنا بِهِ فتحتمل الأقوال الثلاثة.
(١) البيت غير منسوب في «اللسان» ريد، الريدة: الريح اللينة.
(٢) البيت منسوب لأعشى قيس، ديوانه ١٨.
(٣) سورة الفرقان: الآية ٤٨: قوله تعالى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.
(٤) سورة النمل: الآية ٦٣: قوله تعالى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.
131
قوله تعالى: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي: كما أحيينا هذا البلد. وقال مجاهد: نحيي الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميْت به. قال ابن عباس: يرسل الله تعالى بين النفختين مطراً كمني الرجال، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أُمهاتهم.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال الزجاج: لعل: ترجٍ. وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم من بعض والمعنى: لعلكم بما بيَّناه لكم تستدلُّون على توحيد الله وأنه يبعث الموتى.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٨]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعني الأرضَ الطيبةَ التربة، يَخْرُجُ نَباتُهُ وقرأ ابن أبي عبلة:
«يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء، «نباتَه» بنصب التاء، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ كذلك أيضاً. وروى ابان عن عاصم: «لا يُخرِج» بضم الياء وكسر الراء. والمراد بالذي خبث: الأرض السبخة.
قوله تعالى: إِلَّا نَكِداً قرأ الجمهور: بفتح النون وكسر الكاف، وقرأ أبو جعفر: «نَكَداً» بفتح الكاف. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن: «نَكْداً» باسكان الكاف. قال أبو عبيدة: قليلاً عسيراً في شدة، وأنشد:
لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاَ نَكِداً «١»
قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله انتفع به وبان أثره عليه، فشُبِّه بالبلد الطيب الذي يُمرع ويُخصب ويحسن أثر المطر عليه وعكسه الكافر.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
قوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ قال مقاتل: وحِّدوه وكذلك في سائر القصص بعدها.
قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ الكسائي: «غيرِه» بالخفض. قال أبو علي: جعل غيراً صفة ل «إله» على اللفظ.
قوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ قرأ أبو عمرو: «أُبْلِغكم» ساكنة الباء خفيفة اللام. وقرأ الباقون: «أُبَلِّغكم» مفتوحة الباء مشددة اللام.
قوله تعالى: وَأَنْصَحُ لَكُمْ يقال: نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له.
قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي: من مغفرته لمن تاب عليه وعقوبته لمن أصرَّ.
وقال مقاتل: أعلمُ من نزول العذاب ما لا تعلمونه وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم عذّبوا قبلهم.
(١) البيت منسوب إلى أبي عبيدة «اللسان» تفه.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
قوله تعالى: أَوَعَجِبْتُمْ قال الزجاج: هذه واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة. وفي الذِّكر قولان: أحدهما: الموعظة. والثاني: البيان. وفي قوله: عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ قولان:
أحدهما: أن «على» بمعنى: «مع»، قاله الفراء. والثاني: أن المعنى: على لسان رجل منكم، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)
قوله تعالى: وَإِلى عادٍ المعنى: وأرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ هُوداً. قال الزجاج: وإنما قيل:
أخوهم، لأنه بشر مثلهم من ولد أبيهم آدم. ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم. وقال أبو سليمان الدمشقي: وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح وإنما سماه أخاهم لأنه كان نسيباً لهم، وهو وهُم من ولد عاد بن عَوْص بن إرم بن سام.
قوله تعالى: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ قال ابن قتيبة: السفاهة: الجهل. وقال الزجاج:
السفاهة: خِفَّة الحُلم والرأي يقال: ثوب سفيه، إذا كان خفيفاً. وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فكفروا به، ظانَّين، لا مستيقنين. قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة، فانه دفع ما سبُّوه به من السفاهة بنفيه فقط.
قوله تعالى: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ قال الضحاك: أمين على الرسالة. وقال ابن السائب: كنت فيكم أميناً قبل اليوم.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ ذكَّرهم النعمة حيث أهلكَ من كان قبلهم، وأسكنهم مساكنهم. وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: طولاً وقوَّة. وقال ابن عباس: كان أطولُهم مائةَ ذراع، وأقصرُهم ستينَ ذراعاً. قال الزجاج: وآلاء الله: نعمه واحدها: إلى. قال الشاعر:
أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ يَقْطَعُ رِحْماً وَلاَ يَخُوْنُ إلى «١»
ويجوز أن يكون واحدها «إليا»، «وألى».
(١) البيت منسوب لأعشى قيس، ديوانه: ٢٣٥ «اللسان» ألا.
قوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي: من نزول العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أن العذاب نازل بنا. وقال عطاء: في نبوَّتك وإرسالك إلينا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
قوله تعالى: قالَ قَدْ وَقَعَ أي وجب عليكم مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ قال ابن عباس: عذاب وسخط. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرّجز والرّجس بمعنى واحد، قلبت السين زاياً. قوله تعالى:
أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني: الأصنام. وفي تسميتهم لها قولان: أحدهما:
أنهم سمَّوها آلهة. والثاني: أنهم سمَّوها بأسماء مختلفة. والسلطان: الحجة: فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إيّاي.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)
قوله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلَّة مائها. قال ابن فارس:
الثَّمد: الماء القليل الذي لا مادة له.
قوله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ في إضافتها إليه قولان: أحدهما: أن ذلك للتخصيص والتفضيل، كما يقال: بيت الله. والثاني: لأنها كانت بتكوينه من غير سبب.
قوله تعالى: لَكُمْ آيَةً أي: علامة تدل على قدرة الله وإنما قال: «لكم» لأنهم هم الذين اقترحوها، وإن كانت آية لهم ولغيرهم. وفي وجه كونها آية قولان: احدهما: أنها خرجت من صخرة ملساء، فتمخَّضت بها تمخُّضَ الحامل، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها. والثاني: أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم، وتسقيهم اللبن مكانه.
قوله تعالى: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ قال ابن الأنباري: ليس عليكم مؤنتها وعلفها.
و «تأكل» مجزوم على جواب الشرط المقدر، أي: إن تذروها تأكل.
قوله تعالى: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، أي: لا تصيبوها بعقر.
قوله تعالى: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: أنزلكم يقال: تبوأ فلان منزلاً: إذا نزله. وبوَّأتُهُ:
أنزلته. قال الشاعر:
وبُوِّئتْ في صَمْيمِ مَعْشَرِهَا فَتَمَّ في قَوْمِها مبوّؤها «١»
(١) البيت منسوب لإبراهيم بن هرمة في «مجاز القرآن» ١/ ٢١٨ و «اللسان» بوأ.
أي أنزلت من الكريم في صميم النسب، قاله الزجاج.
قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً السهل: ضد الحزن. والقصر: ما شُيِّد وعلا من المنازل. قال ابن عباس: اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف، ونقبوا في الجبال للشتاء. قال وهب بن منبه: كان الرجل منهم يبني البنيان، فيمرّ عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدّده، فيمرّ عليه مائة سنة، فيخرب ثم يجدّده، فيمرّ عليه مائة سنة، فيخرب فأضجرهم ذلك، فاتّخذوا من الجبال بيوتا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦)
قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وقرأ ابن عامر «وقال الملأ» بزيادة واو وكذلك هي في مصاحفهم. ومعنى الآية: تكبَّروا عن عبادة الله. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يريد: المساكين. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله «للذين استضعفوا» لأنهم المؤمنون أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ هذا استفهام إنكار.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨)
قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي: قتلوها. قال ابن قتيبة: والعقر يكون بمعنى: القتل.
(٥٨٧) ومنه قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء: «من عقر جواده».
وقال ابن إسحاق: كَمَن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عَضَلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عُرقوبها، ثم نحرها. قال الازهري: العقر عند العرب: قطع عرقوب البعير، ثم جعل العقر نحراً، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره. قوله تعالى: وَعَتَوْا قال الزّجّاج: جازوا المقدار في الكفر. قال أبو سليمان: عتوا عن اتِّباع أمر ربهم.
قوله تعالى: بِما تَعِدُنا أي: من العذاب.
قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الزّجّاج: الرّجفة: الزّلزلة الشديدة.
حديث صحيح. أخرجه أبو داود ١٤٤٩ والنسائي ٥/ ٥٨ والدارمي ١/ ٣٣١ من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي، وهو حديث صحيح. وأخرجه ابن ماجة ٢٧٩٤ من حديث عمرو بن عبسة ١٢٧٦ وأخرجه الطيالسي «منحة المعبود» ١/ ٢٤ رقم ٢٩ وعبد الرزاق في «مصنفه» ٨٤٤ والحميدي ١٢٧٦ وأحمد ٣/ ٣٣٠ و ٣٠٢ و ٣٤٦ والدارمي ٢/ ٢٠٠. وأبو يعلى ٢٠٨١ من حديث جابر، وهو حديث صحيح.
وذكره الهيثمي في «المجمع» ٥/ ٢٩١ وقال: «رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى، والصغير رجال الصحيح. واللفظ عند أبي داود: عن عبد الله بن حبشي الخثعمي، أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل قال «طول القيام» قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال «جهد المقل» قيل فأي الهجرة أفضل؟ قال «من هجر ما حرم الله عليه» قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: «من جاهد المشركين بماله ونفسه» قيل: فأي القتل أشرف؟ قال «من أهريق دمه وعقر جواده».
قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي: في مدينتهم. فإن قيل: كيف وحّد الدّار ها هنا، وجمعها في موضع آخر، فقال: فِي دِيارِهِمْ «١» ؟ فعنه جوابان، ذكرهما ابن الأَنباري:
أحدهما: أنه أراد بالدار: المعسكر، أي: فأصبحوا في معسكرهم. وأراد بقوله: في ديارهم:
المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل.
والثاني: أنه أراد بالدار: الديار، فاكتفى بالواحد من الجميع، كقول الشاعر:
كُلُوا في نِصْفِ بِطْنِكُم تَعِيشُوا
وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب.
قوله تعالى: جاثِمِينَ قال الفراء: أصبحوا رماداً جاثما. وقال أبو عبيدة: أي: بعضهم على بعض جثُوم. والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل. وقال ابن قتيبة: الجثوم: البروك على الرُّكَب. وقال غيره: كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. وقال الزجاج: أصبحوا أجساماً ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم. قال المفسرون: معنى «جاثمين» : بعضهم على بعض، أي: إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢)
قوله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يقول: انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة، لأن الله تعالى أوحى إليه أن اخرُجْ من بين أظهرهم، فاني مهلكهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن صالحاً أسمع قومَه كما أسمع نبيكم قومَه، يعني: بعد موتهم.
قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني إتيان الرجال. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ قال عمرو ابن دينار: ما نزا ذكَر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط. وقال بعض اللغويين: لوط: مشتق من لطت الحوض: إذا ملسته بالطين. قال الزجاج وهذا غلط، لأنه اسم أعجمي كاسحاق، ولا يقال: إنه مشتق من السحق وهو البعد.
قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ هذا استفهام إنكار. والمسرف: المجاوز ما أُمر به. وقوله تعالى: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ يعني: لوطاً وأتباعه المؤمنين إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قال ابن عباس:
يتنزَّهون عن أدبار الرجال وأدبار النّساء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
(١) سورة هود: ٦٧.
قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ في أهله قولان: أحدهما: ابنتاه. والثاني: المؤمنون به. إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي: الباقين في عذاب الله تعالى: قال أبو عبيدة: وإنما قال: «من الغابرين» لأن صفة النساء مع صفة الرجال تُذكَّر إذا أشرك بينهما.
قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قال ابن عباس: يعني: الحجارة. قال مجاهد: نزل جبريل فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ورفعها ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٨٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ قال قتادة: مدين: ماء كان عليه قوم شعيب، وكذلك قال الزجاج، وقال: لا ينصرف، لأنه اسم البقعة. وقال مقاتل: مدْيَن: هو ابن ابراهيم الخليل لصلبه. وقال أبو سليمان الدمشقي: مدين: هو ابن مديان بن ابراهيم، والمعنى: أرسلنا إلى ولد مدين، فعلى هذا: هو اسم قبيلة. وقال بعضهم: هو اسم للمدينة. فالمعنى: وإلى أهل مدين. قال شيخنا أبو منصور اللغوي:
مدين أسم أعجمي. فان كان عربياً، فالياء زائدة، من قولهم: مدن بالمكان: إذا أقام به.
قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ قال الزجاج: البَخْسُ: النقص والقلَّة يقال:
بَخَسْتُ أبْخَسُ بالسين، وبخصت عينه، بالصاد لا غير. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: مصدِّقين بما أخبرتكم عن الله.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٨٦]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦)
قوله تعالى: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي: بكل طريق تُوعِدُونَ مَن آمن بشعيب بالشر، وتخوِّفونهم بالعذاب والقتل. فان قيل: كيف أفرد الفعل، وأخلاه من المفعول فهلاَّ قال: توعِدون بكذا؟ فالجواب: أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول، لم يدل إلا على شر يقولون: أوعدت فلاناً. وكذلك إذا أفردوا: وعدت من مفعول، لم يدل إلا على الخير. قال الفرّاء: يقولون: وعدته خيرا، ووعدته شراً فاذا أسقطوا الخير والشر، قالوا: وعدته: في الخير، وأوعدته: في الشرّ فإذا جاءوا بالباء، قالوا: وعدته بالشرّ، وقال الراجز:
أوْعَدَنِي بالسِّجْنِ والأدَاهِمِ «١» قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا أرادوا أن يذكروا ما تهدَّدوا به مع أوعدت، جاءوا بالباء، فقالوا: أوعدته بالضرب، ولا يقولون: أوعدته الضّرب. قال السّدّيّ: كانوا
(١) البيت في «اللسان» غير منسوب: وعد. وعجزه [رجلي، ورجلي شثنة المناسم].
عشّارين. وقال ابن زيد: كانوا يقطعون الطريق.
قوله تعالى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: تصرفون عن دين الله من آمن به. وَتَبْغُونَها عِوَجاً مفسر في (آل عمران) «١».
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ قال الزجاج: جائز أن يكون المعنى:
جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء وجائز أن يكون: كثّر عددَكم بعد أن كنتم قليلاً، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار، فكثّرهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا أي: إن أختلفتم في رسالتي، فصرتم فريقين، مصدِّقين ومكذِّبين فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا بتعذيب المكذبين، وإنجاء المصدِّقين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه العدل الذي لا يجوز.
قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعنون ديننا، وهو الشرك. قال الفراء: جعل في قوله:
«لتعودن» لاماً كجواب اليمين، وهو في معنى شرط ومثله في الكلام: والله لأضربنَّك أو تُقِرّ لي، فيكون معناه معنى: «إلا»، أو معنى: «حتى». قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي: أو تجبروننا على ملتكم إن كرهناها؟! والألف للاستفهام. فان قيل: كيف قالوا: «لتعودن»، وشعيب لم يكن في كفر قطّ، فيعود إليه؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافراً، ثم آمن، خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه، وغلَّبوا لفظهم على لفظه، لكثرتهم، وانفراده. والثاني: أن المعنى: لتصيرُنّ إلى ملتنا فوقع العَود على معنى الابتداء، كما يقال: قد عاد عليَّ من فلان مكروه، أي: قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن سبق منه مكروه. قال الشاعر:
فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مرَةً إليَّ فقد عَادَتْ لَهُنُّ ذُنوْبُ «٢»
وقد شرحنا هذا في قوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ في (سورة البقرة) «٣». وقد ذكر معنى الجوابين الزجاج، وابن الأنباري.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٣]
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
(١) سورة آل عمران: ٩٩.
(٢) البيت تقدم في سورة البقرة. [.....]
(٣) سورة البقرة: ٢١٠. قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
138
قوله تعالى: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ وذلك أن القوم كانوا يدّعون أن الله أمرهم بما هم عليه، فلذلك سمَّوه مِلَّةً. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أي: في الملة، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي:
إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي: فيما توعدتمونا به، وفي حراستنا عن الضلال. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ قال أبو عبيدة: احكم بيننا، وأنشد
أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُوْلاً بأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ «١»
قال الفراء: وأهل عُمان يسمون القاضي: الفاتح والفتَّاح. قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى:
أظهِر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم.
قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا فيه أربعة أقوال:
أحدها: كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس، والأخفش. قال حاتم طيء:
غَنِيْنَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُكِ وَالغِنَى فَكُلاًّ سَقَانَاه بكأْسَيْهِما الدَّهْرُ «٢»
فَمَا زَادَنَا بَغْيَاً عَلَى ذِي قَرَابَةٍ غِنَانَا، ولا أزْرَى بأحْسَابِنَا الفَقْرُ «٣»
قال الزجاج: معنى غنينا: عشنا. والتصعلك: الفقر، والعرب تقول للفقير: الصعلوك.
والثاني: كأن لم يتنعَّموا فيها، قاله قتادة. والثالث: كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد، ومقاتل.
والرابع: كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، يقال: غنينا بمكان كذا، أي: نزلنا به. وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا فيها، ومعنى: غنينا بمكان كذا: أقمنا. قال ابن الأنباري:
وإنما كرر قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً للمبالغة في ذمهم كما تقول: أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا.
قوله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: أَعْرِض. والثاني: انْصَرِف. وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي قال قتادة: أسمع شعيب قومَه، وأسمع صالح قومَه كما أسمع نبيكم قومَه يوم بدر، يعني: أنه خاطبهم بعد الهلاك. فَكَيْفَ آسى أي: أحزن. وقال أبو اسحاق: أصاب شعيباً على قومه حزنٌ شديد، ثم عاتب نفسه، فقال: كيف آسى على قوم كافرين.
(١) البيت منسوب إلى أبي عبيدة في «اللسان» فتح.
(٢) البيتان منسوبان إلى حاتم طيء في «ديوان حاتم». ١١٩.
(٣) في «الديوان» و «الخزانة» «فما زادونا بأوا». والبأو: الكبر والفخر.
139

[سورة الأعراف (٧) : آية ٩٤]

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ قال الزجاج: يقال لكل مدينة: قرية، لاجتماع الناس فيها.
وقال غيره: في الآية اختصار، تقديره: فكذّبوه. إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وقد سبق تفسير البأساء والضّرّاء في سورة الأنعام، وتفسير التّضرّع في هذه السورة. ومقصود الآية: إعلام النبيّ صلّى الله عليه وسلم بسنّة الله في المكذّبين، وتهديد قريش.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٥ الى ٩٧]
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧)
قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فيه قولان: أحدها: أن السيئة: الشدة والحسنة الرخاء، قاله ابن عباس. والثاني: السيئة: الشر والحسنة: الخير، قاله مجاهد.
قوله تعالى: حَتَّى عَفَوْا قال ابن عباس: كثروا، وكثرت أموالهم. وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فنحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم، يعني: أنهم أرادوا أن هذا دأب الدهر وليس بعقوبة فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بنزول العذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزوله حتى أهلكهم. قوله تعالى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال الزجاج: المعنى: أتاهم الغيث من السماء، والنبات من الأرض، وجعل ذلك زاكياً كثيرا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
قوله تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع: «أو أمن أهلُ» باسكان الواو. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: أَوَأَمِنَ بتحريك الواو. وروى ورش عن نافع: «أو أمن» يدغم الهمزة، ويلقي حركتها على الساكن.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ وقرأ يعقوب: «نَهِد» بالنون، وكذلك في (طه) «١»، و (السجدة) «٢». قال الزجاج: من قرأ بالياء، فالمعنى: أو لم يبيِّن الله لهم. ومن قرأ بالنون، فالمعنى:
أو لم نبيِّن. وقوله تعالى: وَنَطْبَعُ ليس بمحمول على «أصبناهم»، لأنه لو حمل على «أصبناهم» لكان: ولطبعنا. وإنما المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. ويجوز أن يكون محمولا على الماضي،
(١) سورة طه: ١٢٨.
(٢) سورة السجدة: ٢٦.
ولفظه لفظ المستقبل، كما قال: أَنْ لَوْ نَشاءُ، والمعنى: لو شئنا. وقال ابن الانباري: يجوز أن يكون معطوفاً على: أصبنا، إذ كان بمعنى نُصيب فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال، كما قال: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ «١» أي: إن يشأ، يدل عليه قوله: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً، قال الشاعر:
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً مِنَّي، وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا «٢»
أي: يدفنوا:
قوله تعالى: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون، ومنه: «سمع الله لمن حمده»، قال الشاعر:
دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ يَكُوْنَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أقُوْل «٣»
قوله تعالى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ فيه خمسة أقوال «٤» : أحدها: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذِّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم، هذا قول أُبيِّ بن كعب. والثاني: فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذِّبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم، فآمنوا كرهاً حيث أقروا بالألسن، وأضمروا التكذيب، قاله ابن عباس، والسدي. والثالث: فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذَّبوا به من قبل هلاكهم، هذا قول مجاهد. والرابع: فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل شاركوهم في التكذيب، قاله يمان بن رباب. والخامس: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذّبوا قبل رؤيتها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٢]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
قوله تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ قال مجاهد: يعني: القرون الماضية. مِنْ عَهْدٍ قال أبو عبيدة: أي: وفاء. قال ابن عباس: يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم.
وقال الحسن: العهد ها هنا: ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا.
(١) سورة الفرقان: ١٠.
(٢) البيت منسوب لقعنب بن أم صاحب وهو في «الحماسة» ٤/ ١٢.
(٣) البيت غير منسوب في «اللسان» : سمع.
(٤) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ١٣: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب، القول الذي ذكر عن أبي ابن كعب والربيع وذلك أن من سبق علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به، فلن يؤمن أبدا وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه. قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم. ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوا عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده، كان وجها ومذهبا غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردوا ما كانوا ليؤمنوا، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من خبر عن الرسول صحيح، وإذا كان ذلك كذلك فأولى منه بالصواب ما كان عليه التنزيل دليل. اه.
قوله تعالى: وَإِنْ وَجَدْنا قال أبو عبيدة: وما وجدنا أكثرهم إلّا الفاسقين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٧]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: الأنبياء المذكورين.
قوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها قال ابن عباس: فكذَّبوا بها. وقال غيره: فجحدوا بها.
قوله تعالى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ «على» بمعنى الباء. قال الفراء: العرب تجعل الباء في موضع «على» تقول: رميت بالقوس، وعلى القوس، وجئت بحال حسنة، وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة: «حقيق» بمعنى: حريص. وقرأ نافع، وأبان عن عاصم: «حقيق عليَّ» بتشديد الياء وفتحها، على الاضافة. والمعنى: واجب عليَّ.
قوله تعالى: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ قال ابن عباس: يعني: العصا. فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أطلق عنهم وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قال أبو عبيدة: أي:
حية ظاهرة. قال الفراء: الثعبان: أعظم الحيات، وهو الذكر. وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس:
الثّعبان: الحيّة الذّكر.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٨ الى ١٢٢]
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
قوله تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ قال ابن عباس: أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فاذا هي تبرق مثل البرق، لها شعاع غلب نور الشمس، فخرَّوا على وجوههم ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت. قال مجاهد: بيضاء من غير برص.
قوله تعالى: فَماذا تَأْمُرُونَ قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به عليَّ؟ وهذا يدل على أنه من قول فرعون، وأن كلام الملأ انقطع عند قوله: مِنْ أَرْضِكُمْ. قال الزجاج: يجوز أن يكون من قول الملأِ، كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه، أو خاطبوه وحده لأنه قد يقال للرّئيس المطاع: ماذا ترون؟
142
قوله تعالى: أَرْجِهْ قرأ ابن كثير «أرجئهو» مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ. وقرأ ابن عمرو مثله، غير أنه يضم الهاء ضمة، من غير أن يبلغ بها الواو وكانا يهمزان: «مرجئون» و «ترجئ» وقرأ قالون والمسيّبي عن نافع «أرجهِ» بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز. وروى عنه ورش:
«أرجهي» يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء. وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع، وهي قراءة الكسائي. وقرأ حمزة: «أرجهْ» ساكنة الهاء غير مهموز، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضل، وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز، وهي قراءة أبي جعفر، وكذلك اختلافهم في سورة (الشعراء) «١». قال ابن قتيبة: أرِّجْهُ: أخّره وقد يهمز، يقال: أرجأت الشيء، وأرجيته. ومنه قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ «٢». قال الفراء: بنو أسد تقول: أرجيت الأمر، بغير همز، وكذلك عامة قيس وبعض بني تميم يقولون: أرجأت الأمر، بالهمز، والقراء مولَعون بهمزها، وترك الهمز أجود.
قوله تعالى: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ يعني مدائن مصر، حاشِرِينَ أي: من يحشر السحرة إليك ويجمعهم. وقال ابن عباس: هم الشرط. قوله تعالى: يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «ساحرٍ» وفي (يونس) : بِكُلِّ سَحَّارٍ»
وقرأ حمزة والكسائي:
«سحّارٍ» في الموضعين ولا خلاف في (الشّعراء) أنّها: سَحَّارٍ «٤».
قوله تعالى: إِنَّ لَنا لَأَجْراً قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص عن عاصم إِنَّ لَنا لَأَجْراً مكسورة الألف على الخبر، وفي (الشعراء) :«آينَّ» ممدودة مفتوحة الألف، غير أن حفصا روى عن عاصم في (الشعراء) :«أإن» «٥» بهمزتين. وقرأ أبو عمرو: «آين لنا» ممدودة في السورتين. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بهمزتين في الموضعين. قال أبو علي: الاستفهام أشبه بهذا الموضع، لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر، وإنما استفهموا عنه.
قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي.
قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ قال أبو عبيدة: عَشَّوْا أعين الناس وأخذوها. وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي: خوَّفوهم. وقال الزجاج: استَدعَوا رهبتهم حتى رهبهم الناس.
قوله تعالى: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ وقرأ كعاصم: تَلْقَفُ ساكنة اللام، خفيفة القاف هاهنا وفي (طه)، و (الشعراء). وروى البزّيّ. وابن فُلَيح عن ابن كثير: «تلقف» بتشديد التاء. قال الفراء: يقال:
لقفْتُ الشيء، فأنا ألقَفُه لَقفْاً ولَقَفاناً والمعنى: تبتلع.
قوله تعالى: ما يَأْفِكُونَ أي: يكذبون، لأنهم زعموا أنها حيّات.
قوله تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ قال ابن عباس: استبان. وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر.
(الإشارة إلى قصتهم) اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً. أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اثنان وسبعون ألفاً، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون،
(١) سورة الشعراء: ٣٦.
(٢) سورة الأحزاب: ٥١.
(٣) سورة يونس: ٧٩.
(٤) سورة الشعراء: ٣٧. [.....]
(٥) سورة الشعراء: ٤١.
143
روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: اثنا عشر ألفا، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، ألا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبعمائة. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيَّرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة. والسابع: خمسة وعشرون ألفاً، قاله الحسن. والثامن: تسعمائة، قاله عكرمة. والتاسع: ثمانون ألفاً، قاله محمد بن المنكدر.
والعاشر: بضعة وثلاثون ألفاً، قاله السدي. والحادي عشر: خمسة عشر ألفاً، قاله ابن اسحاق. والثاني عشر: تسعة عشر ألفاً، رواه أبو سليمان الدمشقي. والثالث عشر: أربع مائة، حكاه الثعلبي. فأما أسماء رؤسائهم، فقال ابن اسحاق: رؤوس السحرة ساتور، وعاذور، وحُطحُط، ومُصَفَّى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا. ورأيت عن غير ابن اسحاق: سابوراً، وعازوراً. وقال مقاتل: اسم أكبرهم.
شمعون. قال ابن عباس: ألقوا حبالاً غلاظاً، وخشباً طُوالا، فكانت ميلاً في ميل، فألقى موسى عصاه، فاذا هي أعظم من حبالهم وعصيهم، قد سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيِّهم، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة، والناس ينظرون، وفرعون يضحك تجلُّداً، فأقبلت الحيَّة نحو فرعون، فصاح: يا موسى، يا موسى فأخذها موسى، وعرفت السحرة أن هذا من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سُجَّداً، وقالوا آمنا برب العالمين، فقال فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: ربَّ موسى وهارون، فأصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. وقال وهب بن منبه. لما صارت ثعباناً حملت على الناس فانهزموا منها، فقتل بعضهم بعضاً، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً. وقال السدي: لقي موسى أمير السحرة، فقال: أرأيت إن غلبتك غدا، أتؤمن بي؟ فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه السّحر، فو الله لئن غلبتني لأومننَّ بك.
فان قيل: كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وفعل السحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن مضمون أمره: إن كنتم محقين فألقوا. والثاني: ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل، ذكرهما الماوردي. والثالث: إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر، لأنهم إذا ألقوا، ألقى عصاه فابتلعت ذلك، ذكره الواحدي.
فان قيل: كيف قال: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، وإنما سجدوا باختيارهم؟ فالجواب: أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحاً وتعظيماً لشأن ما رأوا من الآيات، ذكره ابن الأنباري. قال ابن عباس: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستّمائة ألف من بني إسرائيل.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٥]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
قوله تعالى: آمَنْتُمْ بِهِ قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «أآمنتم به» بهمزة ومدة على الاستفهام. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أآمنتم به» فاستفهموا بهمزتين، الثانية ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم: «آمنتم به» على الخبر. وروى ابن الإخريط عن ابن كثير: «قال
فرعون وأمنتم به» فقلب همزة الاستفهام واواً، وجعل الثانية مليَّنة بين بين. وروى قنبل عن القواس مثل رواية ابن الإخريط، غير أنه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو علي: همز بعد الواو، لأن هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد همزة الاستفهام همزة «أفَعَلْتُم» فحققها ولم يخففها.
قوله تعالى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ قال ابن السائب: لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما صنعتم، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو قطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى. قال ابن عباس:
أول من فعل ذلك، وأوّل من صلب، فرعون.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
قوله تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا أي: وما تكره منّا شيئا، ولا تطعن علينا إلا لأنا آمنا. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً قال مجاهد: على القطع والصلب حتى لا نرجع كفاراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي: مخلصين على دين موسى.
قوله تعالى: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ هذا إِغراء من الملأِ لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان: أحدهما: قتل أبناء القبط، واستحياء نسائهم، كما فعلوا ببني اسرائيل، قاله مقاتل. والثاني:
دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. قوله تعالى: وَيَذَرَكَ جمهور القراء على نصب الراء وقرأ الحسن برفعها. قال الزجاج: من نصب «ويذرَك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو والمعنى:
أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفاً، فيكون المعنى: أتذر موسى وقومه، وهو يذرك وآلهتك، والأجود أن يكون معطوفاً على «أتذر» فيكون المعنى: أتذر موسى، وأ يذرك موسى؟ أي: أتطلق له هذا؟ قوله تعالى: وَآلِهَتَكَ قال ابن عباس: كان فرعون قد صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى.
وقال غيره: كان قومه يتعبّدون تلك الأصنام تقرباً إليه. وقال الحسن: كان يعبد تيساً في السر. وقيل:
كان يعبد البقر سراً. وقيل: كان يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وابن محيصن: «والإِهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف بعدها. قال الزجاج: المعنى: ويذرك وربوبيتك وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الإِلاهة:
العبادة فالمعنى: ويذرك وعبادة الناس إياك. قال ابن قتيبة: من قرأ: «وإِلاهتك» أراد: ويذرك والشمس التي تعبد، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهةً. قال الأعشى:
فَمَا أَذْكُرُ الرَّهْبَ حتَّى انْقَلَبْتُ قُبيْلَ الإلهَةِ مِنْها قَرِيْبا
يعني الشمس، والرهب: ناقته. يقول: اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت.
قوله تعالى: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «سنقتّل»
و «يقتلون أبناءكم» بالتشديد، وخففهما نافع. وقرأ ابن كثير: «سَنَقْتُلُ» خفيفة، و «يقتّلون» مشددة، وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي: عالون بالملك والسلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما يُفعل بكم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وقرأ الحسن، وهبيرة عن حفص عن عاصم: «يورِّثها» بالتشديد. فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم.
قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فيها قولان: أحدهما: الجنّة. والثاني: النّصر والظّفر.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٠]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
قوله تعالى: قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا في هذا الأذى ستة أقوال:
أحدها: أن الأذى الأول والثاني أخذ الجزية، قاله الحسن. والثاني: أن الأول ذبح الأبناء، والثاني إدراك فرعون يوم طلبهم، قاله السدي. والثالث: أن الأول أنهم كانوا يسخَّرون في الأعمال إلى نصف النهار، ويرسَلون في بقيته يكتسبون. والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر. والرابع: أن الأول تسخيرهم في ضرب اللَّبِن، وكانوا يعطونهم التّبن الذي يخلط به الطين والثاني أنهم كلِّفوا ضرب اللَّبِن وجعلَ التبن عليهم، قاله ابن السائب. والخامس: أن الأول قتل الأبناء، واستحياء البنات، والثاني تكليف فرعون إيّاهم ما لا يطيقون، قاله مقاتل. والسادس: أن الأول استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، والثاني إعادة ذلك العذاب.
وفي قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا قولان: أحدهما: تأتينا بالرّسالة ومن بعد جئتنا بها قاله ابن عباس. والثاني: تأتينا بعهد الله أنه سيخلِّصنا ومن بعد ما جئتنا به، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ قال الزجاج: عسى: طمع وإشفاق، إلا أن ما يُطمِع الله فيه فهو واجب.
قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ في هذا الاستخلاف قولان: أحدهما: أنه استخلاف من فرعون وقومه. والثاني: استخلاف عن الله تعالى، لأن المؤمنين خلفاء الله في أرضه، وفي الأرض قولان: أحدهما: أرض مصر، قاله ابن عباس. والثاني: أرض الشام، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال الزجاج: أي: يراه بوقوعه منكم، لأنه إنما يجازيهم على ما وقع منهم، لا على ما علم أنه سيقع منهم.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قال أبو عبيدة: مجازُه: ابتليناهم بالجدوب. وآل فرعون: أهل دينه وقومه. وقال مقاتل: هم أهل مصر. قال الفراء: «بالسنين» أي: بالقحط والجدوب عاماً بعد عام. وقال الزجاج: السنون في كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السَّنة، ومعناه: جدب السَّنة، وشدة السَّنة. وإنما أخذهم بالضراء، لأن أحوال الشدة تُرِقُ القلوب، وتُرغِّب فيما عند الله وفي الرجوع اليه. قال قتادة: أما السنون، فكانت في بواديهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات، فكان في
أمصارهم وقراهم. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت رباً كما تزعم، فاملأ لنا نيل مصر، فقال غُدْوة يصبِّحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أيَّ شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر؟
غدوة أصبح، فيكذِّبوني. فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مِدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى اتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إِلهاً. ولو صح، كان إقراره بذلك كاقرار إبليس، وتبقى مخالفته عنادا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣١]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)
قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ وهي الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي: نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق، ولم يعلموا أنه من الله فيشكُروا عليه. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ وهي القحط والجدب والبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي: يتشاءموا بهم. وكانت العرب تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح، وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين. قوله تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال أبو عبيدة: «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز. «طائرهم» حظهم ونصيبهم، وقال ابن عباس «ألا إنما طائرهم عند الله» أي: إن الذي أصابهم من الله. وقال الزجاج: المعنى: ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وُعدوا به في الآخرة، لا ما ينالهم في الدّنيا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
قوله تعالى: وَقالُوا مَهْما قال الزجاج: زعم النحويون أن أصل «مهما» ماما، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ف «ما» الأولى هي «ما» الجزاء، و «ما» الثانية هي التي تزاد تأكيداً للجزاء، ودليل النحويين على ذلك أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلا و «ما» تزاد فيه، قال الله عزّ وجلّ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ «١» كقولك: إن تثقفنهم، وقال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ «٢»، وتكون «ما» الثانية للشرط والجزاء، والتفسير الأول هو الكلام، وعليه استعمال الناس. قال ابن الأنباري: فعلى قول من قال: إن معنى «مه» الكف، يحسن الوقف على «مه»، والاختيار عندي أن لا يوقف على «مه» دون «ما» لأنّهما في المصحف حرف واحد. وفي الطوفان ثلاثة أقوال «٣» :
(١) سورة الأنفال: ٥٧.
(٢) سورة الإسراء: ٢٨.
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٣٣: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه أبو ظبيان. أنه أمر من الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول القائل: «طاف بهم أمر الله يطوف طوفانا». كما يقال:
«نقص هذا الشيء ينقص نقصانا». وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد، وجاز أن يكون الموت الذريع.
147
أحدها: أنه الماء. قال ابن عباس: أُرسل عليهم مطر دائم الليلَ والنهارَ ثمانية أيام، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير وقتادة والضحاك وأبو مالك ومقاتل واختاره الفراء وابن قتيبة.
(٥٨٨) والثاني: أنه الموت، روته عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وعطاء، ووهب بن منبه، وابن كثير.
والثالث: أنه الطاعون، نقل عن مجاهد، ووهب أيضاً.
وفي القمَّل سبعة أقوال: أحدها: أنه السوس الذي يقع في الحنطة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال به. والثاني: أنه الدَّبى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء. وقال قتادة: القمَّل: أولاد الجراد. وقال ابن فارس: الدَّبى: الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته. والثالث:
أنه دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. وقيل: هذه الدواب هي السوس. والرابع: أنه الجعلان، قاله حبيب بن ثابت. والخامس: أنه القمل، ذكره عطاء الخراساني، وزيد بن أسلم.
والسادس: أنه البراغيث، حكاه ابن زيد. والسابع: أنه الحَمنان، واحدتها: حَمنانة، وهي ضرب من القِردان، قاله أبو عبيدة. وقرأ الحسن، وعكرمة، وابن يعمر: «القُمْل» برفع القاف وسكون الميم. وفي الدم قولان: أحدهما: أن ماءهم صار دماً، قاله الجمهور. والثاني: أنه رعاف أصابهم، قاله زيد بن اسلم.
(الإِشارة إلى شرح القصة) قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمَّل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم وتطفئ نيرانهم، وكانت الضّفادع برّية، فأورثها الله عزّ وجلّ برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقُلُبهم دماً، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فاذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذبٌ لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بالهي يا موسى لئن كشفتَ عنا الرّجز
ضعيف جدا، أخرجه الطبري ١٥٠٠٥، وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير». ٢/ ٣٠٣ من طريق يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة عن الحكم بن ميناء عن عائشة مرفوعا به. وإسناده ضعيف جدا، فهو مسلسل بالضعفاء، يحيى، ومنهال، وحجاج ثلاثتهم ضعفاء. أخرجه الطبري ١٥٠٠٩ من طريق ابن يمان عن المنهال عن حجاج عن رجل عن عائشة وهو كسابقه بل فيه أيضا راو لم يسمّ.
والصحيح كونه من قول مجاهد، وكذا أخرجه الطبري عنه من طرق ١٥٠٠٧ و ١٥٠٠٨ واستغربه ابن كثير ٢/ ٣٠٣ وهو شبه موضوع.
148
لنؤمننّ بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم وَعَذُبَ ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل.
قوله تعالى: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قال ابن قتيبة: بين الآية والآية فصل. قال المفسرون: كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية، ثم تأتي الآية الأخرى. وقال وهب بن منبه: بين كل آيتين أربعون يوماً. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات، الجراد والقمّل والضّفادع والدّم.
وفي قوله تعالى: «فاستكبروا» قولان: أحدهما: عن الإيمان. والثاني: عن الانزجار.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٦]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي: نزل بهم العذاب. وفي هذا العذاب قولان «١» :
أحدهما: أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفاً، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه العذاب الذي سلَّطه الله عليهم من الجراد والقُمَّل وغير ذلك، قاله ابن زيد.
قال الزجاج: «الرجز» : العذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب. ومعنى الرجز في العذاب:
أنه المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرجز في اللغة: تتابع الحركات، فمن ذلك قولهم: ناقة رجزاء، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشعر، لأنه أقصر أبيات الشعر، والانتقالُ من بيت إلى بيت، سريعٌ، نحو قوله:
يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعْ أَخُبُّ فيها وَأضَعْ
وزعم الخليل أن الرَّجَز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث.
قوله تعالى: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: بما أوصاك أن تدعوه به.
والثاني: بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك. والثالث: بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن.
والرابع: أن ذلك منهم على معنى القسم، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم.
قوله تعالى: إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: إلى وقت غرقهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: ينقضون العهد. قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال أبو سليمان الدمشقي: انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم، وتلك
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٤٢: وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز، وهو العذاب والسخط من الله عليهم، فزعوا إلى موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك الرِّجْزُ كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، لأن كل ذلك كان عذابا عليهم وجائز أن يكون ذلك الرِّجْزُ كان طاعونا، ولم يخبرنا الله أي ذلك كان، ولا صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأي ذلك كان خبر، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ، ولا نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل، وهو: لما حل بهم عذاب الله وسخطه.
النقمة تغريقنا إياهم في اليم. قال ابن قتيبة: اليم: البحر بالسريانية. قوله تعالى: وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فيه قولان: أحدهما: عن الآيات، وغفلتهم: تركهم الاعتبار بها. والثاني: عن النقمة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يعني بني إسرائيل. الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي: يُستَذلون بذبح الأبناء، واستخدام النساء، وتسخير الرجال. مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
مشارق الشام ومغاربها، قاله الحسن. والثاني: مشارق أرض الشام ومصر. والثالث: أنه على إطلاق في شرق الأرض وغربها.
قوله تعالى: الَّتِي بارَكْنا فِيها قال ابن عباس: بالماء والشجر.
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى وهي وعد الله لبني إسرائيل باهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وذلك في قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «١»، وقد بَيَّنا علة تسمية ذلك كلِّه في (آل عمران). وقوله تعالى: بِما صَبَرُوا فيه قولان: أحدهما: على طاعة الله تعالى. والثاني: على أذى فرعون.
قوله تعالى: وَدَمَّرْنا أي: أهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من العمارات والمزارع، والدمار: الهلاك. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي: يبنون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «يعرشون» بكسر الراء ها هنا وفي (النحل). وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة: «يُعرِّشون» بالتشديد، قال الزجاج: يقال: عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ: إذا بنى.
قوله تعالى: يَعْكُفُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر،: «يَعْكُفُون» بضم الكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل: بكسر الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة: بضم الياء وتشديد الكاف. قال الزجاج: ومعنى يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ: يواظبون عليها ويلازمونها، يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عليه: عَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ. قال قتادة: كان أولئك القوم نزولاً بالرقة، وكانوا من لخم.
وقال غيره: كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٠]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ قال ابن قتيبة: مُهلَك. والتبار: الهلاك.
(١) سورة القصص: ٥.
قوله تعالى: قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي: أطلب لكم، وهذا استفهام إنكار. قال المفسّرون، منهم ابن عباس، ومجاهد: والعالمون ها هنا: عالمو زمانهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤١]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ قرأ ابن عامر: «وإذ أنجاكم» على لفظ الغائب المفرد.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٢]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً المعنى: وعدناه انقضاء ثلاثين ليلة. قال ابن عباس:
قال موسى لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه زاده عشراً، فكانت فتنتهم في ذلك العشر. فان قيل: لم زيد هذا العشر؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: صام تلك الثلاثين ليلهن ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئاً من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله تعالى إليه: لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إليَّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام. وقال أبو العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة، فبلغَنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه.
فان قيل: ما معنى فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقد عُلم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين. فالجواب من وجوه: أحدها: أنه للتأكيد. والثاني: ليدل أن العشر، ليالٍ لا ساعات.
والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأُتمت بعشر. وقد بينا في سورة (البقرة) لماذا كان هذا الوعد.
قوله تعالى: وَأَصْلِحْ قال ابن عباس: مرهم بالإصلاح. وقال مقاتل: ارفق.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٣ الى ١٤٤]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا قال الزجاج، أي: للوقت الذي وقَّتنا له. وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أسمعه كلامه، ولم يكن بينه وبين الله عزّ وجلّ فيما سمع أحد. قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي: أرني نفسك. قوله تعالى: قالَ لَنْ تَرانِي تعلق بهذا نُفاة الرؤية وقالوا: «لن» لنفي الأبد «١»، وذلك غلط،
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٣٠٨: وقد أشكل حرف «لن» هاهنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال، لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة. اه.
151
لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «١» ثم أخبر عنهم بتمنِّيه في النار بقوله تعالى: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «٢»، ولأن ابن عباس قال في تفسيرها: لن تراني في الدنيا. وقال غيره: هذا جواب لقول موسى: «أرني»، ولم يُرد: أرني في الآخرة، وإنما أراد في الدنيا، فأُجيب عما سأل. وقال بعضهم: لن تراني بسؤالك. وفي هذه الآية دلالة على جواز الرؤية، لأن موسى مع علمه بالله تعالى، سألها، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك، لأنّ معرفة الأنبياء لله ليس فيها نقص، ولأن الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية، ولو استحالت عليه لقال: «لا أُرى» ألا ترى أن نوحا لما قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أنكر عليه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «٣»، ومما يدل على جواز الرؤية أنه علَّقها باستقرار الجبل، وذلك جائز غير مستحيل، فدل على أنها جائزة، ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علَّقه بمستحيل فقال: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «٤».
قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ أي: ثبت ولم يتضعضع.
قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ قال الزجاج: ظهر، وبان. جَعَلَهُ دَكًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «دكّا» منوّنة مقصورة ها هنا وفي (الكهف). وقرأ عاصم: «دكّاً» ها هنا منوَّنة مقصورة، وفي (الكهف) :«دكاء» ممدودة غير منونة. وقرأ حمزة والكسائي: «دكاء» ممدودة غير منونة في الموضعين. قال أبو عبيدة: «جعله دكّا» أي: مندكّا والمندكّ: المستوي والمعنى: مستوياً مع وجه الأرض، يقال: ناقة دكَّاء، أي: ذاهبة السنام مستوٍ ظهرها. قال ابن قتيبة: كأن سنامها دُكَّ، أي:
التصق، قال: ويقال: إن أصل دككتُ: دققت، فأبدلت القاف كافاً لتقارب المخرجين. وقال أنس بن مالك في قوله: «جعله دكاً» : ساخ الجبل. قال ابن عباس: واسم الجبل: زبير، وهو أعظم جبل بمدين، وإن الجبال تطاولت ليتجلَّى لها، وتواضع زبير فتجلى له. قوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فيه قولان: أحدهما: مغشياً عليه، قاله ابن عباس والحسن وابن زيد. والثاني: ميتاً، قاله قتادة ومقاتل.
والأول أصح، لقوله تعالى: فَلَمَّا أَفاقَ وذلك لا يقال للميت. وقيل: بقي في غشيته يوماً وليلة.
قوله تعالى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ فيما تاب منه ثلاثة أقوال: أحدها: سؤال الرّؤية، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثالث: اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا.
وفي قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قولان «٥» : أحدهما: أنك لن تُرى في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أول المؤمنين من بني إسرائيل، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(١) سورة البقرة: ٩٥.
(٢) سورة الزخرف: ٧٧.
(٣) سورة هود: ٤٥ و ٤٦.
(٤) سورة الأعراف: ٤٠.
(٥) قال ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٣١٠: قال ابن عباس ومجاهد: من بني إسرائيل، واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو العالية: قد كان قبله، ولكن يقول:
أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وهذا قول حسن له اتجاه.
152
قوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ فتح ياء «إني» ابن كثير، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير، ونافع «برسالتي» قال الزجاج: المعنى: اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي، ولو كان إنما سمع كلام غير الله لما قال: «برسالاتي وبكلامي» لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٥]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
قوله تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ في ماهية الألواح سبعة أقوال:
أحدها: أنها زبرجد، قاله ابن عباس. والثاني: ياقوت، قاله سعيد بن جبير. والثالث: زمرُّد أخضر، قاله مجاهد. والرابع: بَرَد، قاله أبو العالية. والخامس: خشب، قاله الحسن. والسادس:
صخر، قاله وهب بن منبه. والسابع: زمرد وياقوت، قاله مقاتل. وفي عددها أربعة أقوال: أحدها:
سبعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لوحان، رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. قال: وإنما سماها الله تعالى ألواحاً، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية، كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «١» يريد داود؟؟؟؟، وسليمان، وقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «٢».
والثالث: عشرة، قاله وهب. والرابع: تسعة، قاله مقاتل.
وفي قوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره. والثاني: من الحِكَم والعِبَر.
قوله تعالى: مَوْعِظَةً أي: نهياً عن الجهل. وَتَفْصِيلًا أي: تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحدود والأحكام. قوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بجدٍّ وحزم، قاله ابن عباس. والثاني: بطاعة، قاله أبو العالية. والثالث: بشكر، قاله جويبر.
قوله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها إن قيل: كأن فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: يأخذوا بحسنها، وكلها حَسَن، قاله قطرب، وقال ابن الأنباري: ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ «٣»
أي: عزيزة طويلة. وقال غيره: «الأحسن» ها هنا صلة، والمعنى أن يأخذوا بها.
والثاني: أن بعض ما فيها أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال: أحدها: أنهم أُمروا فيها بالخير ونُهوا عن الشر، فَفِعْلُ الخير هو الأحسن. والثاني: أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فأُمِروا أن يأخذوا بالأحسن، ذكر القولين الزجاج.
فعلى هذا القول، يكون المعنى: انهم يتبعون العزائم والفضائل، وعلى الذي قبله، يكون المعنى: أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو الطاعة، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية. والثالث: أحسنها:
(١) سورة الأنبياء: ٧٨.
(٢) سورة التحريم: ٤. [.....]
(٣) البيت منسوب إلى الفرزدق، ديوانه ٢/ ١٥٥.
الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن: المباح. والرابع: أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة، فتصرف إلى الاشبه بالحق. والخامس: أن أحسنها: الجمع بين الفرائض والنوافل.
قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فيها أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها جهنم، قاله الحسن، ومجاهد. والثاني: انها دار فرعون وقومه، وهي مصر، قاله عطية العوفي. والثالث: أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة، يريهم إياها عند دخولهم الشام، قاله قتادة. والرابع: أنها مصارع الفاسقين، قاله السدي. ومعنى الكلام: سأُرِيكم عاقبة من خالف أمري، وهذا تهديد للمخالف، وتحذير للموافق.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات. والثاني: أنها عامة، وهو أصح. وفي الآيات قولان: أحدهما: أنها آيات الكتاب المتلوَّة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أمنعُهم فهمها.
والثاني: أمنعهم من الإيمان بها. والثالث: أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال. والثاني: أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها، فيكون المعنى: أصرفهم عن التفكر والاعتبار بما خلقتُ. وفي معنى يتكبَّرون قولان: أحدهما: يتكبَّرون عن الإيمان واتباع الرسول. والثاني:
يحقِّرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم.
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
«سبيل الرشد» بضم الراء خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: «سبيل الرَّشد» بفتح الراء والشين مثقلة.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قال الزجاج: فعل الله بهم ذلك بأنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ،
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٣١١: قوله سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والشتات. قال ابن جرير: وإنما قال سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه. سأريك غدا إلام، يصير إليه حال من خالف أمري؟
على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد، والحسن البصري. وقيل سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي من أهل الشام وأعطيكم إياها، وقيل منازل قوم «فرعون» والأول أولى، لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر. وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.
(٢) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٣١٢ قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر، وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال سفيان بن عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. قال ابن جرير وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة. قلت: ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا والله أعلم. ا. هـ.
أي: كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى: وكانوا عن جزائها غافلين.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٨]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨)
قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات. مِنْ حُلِيِّهِمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «من حُليّهم» بضم الحاء. وقرأ حمزة، والكسائي: «حِليّهم» بكسر الحاء. وقرأ يعقوب: بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. والحُليّ: جمع حَلْيٍ، مثل ثَدْي وثُدِيٍّ، وهو اسم لما يُتحسَّن به من الذهب والفضة. قال الزجاج: ومن كسر الحاء من «حليهم» أتبع الحاء كسر اللام. والجسد: هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما هو بمعنى الجثة فقط. قال ابن الانباري: ذِكر الجسد دلالة على عدم الروح منه، وأن شخصه شخص مثال وصورة، غير منضم إليهما روح ولا نفس. فأما الخُوار، فهو صوت البقرة، يقال: خَارَتْ البقرة تَخُورُ، وَجَأرَتَ تَجْأَرُ وقد نُقِلَ عن العرب انهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم: رَغَا البعير، وجَرْجَرَ وهَدَرَ وقَبْقَبَ، وصَهَل الفرس وحَمْحَمَ، وشَهَقَ الحمار ونَهَقَ، وشَحَجَ البغل، وثَغَتْ الشاة ويَعَرَتْ، وثَأجَتَ النّعجة، وبغم الظّبي ونزب، وزأر الأسد ونَأَتَ، ووَعْوَعَ الذئب، ونَهَم الفِيْلُ، وزَقَحَ القِرْدُ، وَضَبَحَ الثَّعْلَبُ، وعَوَى الكَلْبُ وَنَبَحَ، ومَاءتِ السِّنّور، وَصَأت الفأرة، ونَغَقَ الغُرَابُ معجمةَ الغين، وزقأ الدِّيك وسَقَعَ، وصَفَرَ النسْرُ، وَهَدَرَ الحمام وَهَدَلَ، ونَقَضَتِ الضَّفَادِع ونقَّت، وعَزَفَتِ الجِنَّ. قال ابن عباس كان العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وفي رواية أبي صالح عنه: أنه خار خورة واحدة ولم يُتبعها مثلها، وبهذا قال وهب، ومقاتل. وكان مجاهد يقول: خواره حفيف الريح فيه وهذا يدل على أنه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابو مجلز: «له جُوار» بجيم مرفوعة.
قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ أي: لا يستطيع كلامهم. وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي: لا يبيِّن لهم طريقاً إلى حجة. اتَّخَذُوهُ يعني اتخذوه إلهاً. وَكانُوا ظالِمِينَ قال ابن عباس:
مشركين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٢]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
قوله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: ندموا. قال الزجاج: يقال للرجل النادم على ما فعل، المتحسر على ما فرّط: قد سُقط في يده وأُسقط في يده. وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران الجوني:
155
«سَقَطَ» بفتح السين. قال الزجاج: والمعنى: ولما سقط النّدم في أيديهم، يشبّه ما في القلب وفي النفس بما يُرى بالعين. قال المفسرون: هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع موسى.
قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
«يرحْمنا ربُّنا» «ويغفرْ لنا» بالياء والرفع. وقرأ حمزة، والكسائي: «ترحمنا» «وتغفر لنا» بالتاء، «ربنا» بالنصب.
قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً في الأسِفِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحزين، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: الجزِع، قاله مجاهد. والثالث: أنه الشديد الغضب، قاله ابن قتيبة، والزجاج. وقال أبو الدرداء: الأسف: منزلة وراء الغضب أشدّ منه.
قوله تعالى: قالَ أي: لقومه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي فتح ياء «بعديَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو والمعنى: بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ قال الفراء: يقال:
عَجِلْتُ الأمر والشيء: سبقتُه، ومنه هذه الآية. وأعجلته: استحثثته. قال ابن عباس: أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له؟! قال الحسن: يعنيَ وَعْدَ الأربعين ليلة.
قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي فيها التوراة. وفي سبب إلقائه إياها قولان:
أحدهما: أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل، قاله ابن عباس.
(٥٨٩) والثاني: أنه لما رأى فضائل غير أمّته من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم اشتد عليه، فألقاها، قاله قتادة «١»، وفيه بُعد.
قال ابن عباس: لما رمى بالألواح فتحطمت، رُفع منها ستة أسباع، وبقي سُبع.
قوله تعالى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال: أحدها: لحيته وذؤابته.
والثاني: شعر رأسه. والثالث: أُذنه. وقيل: إنما فعل به ذلك، لأنه توهم أنه عصى الله بمُقامه بينهم وتركِ اللحوق به، وتعريفِه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردّهم إلى الحقّ، وذلك قوله تعالى:
ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ «٢».
قوله تعالى: ابْنَ أُمَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قال ابن أُمَّ» نصباً. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الميم، وكذلك في (طه) «٣» قال
باطل لا أصل له. أخرجه الطبري ١٥١٤٢ و ١٥١٤٣ عن قتادة قوله: وهذا رأي لقتادة. وهو ليس بشيء، بل هو من بدع التأويل، ورده ابن كثير وغيره كما في الهامش.
__________
(١) وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» ٢/ ٣١٣ الآية وَأَلْقَى الْأَلْواحَ: ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة، وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء، وهو جدير بالرد، وكأنه تلقاه عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة ا. هـ.
(٢) سورة طه: ٩٢- ٩٣.
(٣) سورة طه: ٩٤.
156
الزجاج: من فتح الميم فلكثرة استعمال هذا الاسم، ومن كسر أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسماً واحداً، ومن العرب من يقول: «يا ابن أمي» باثبات الياء. قال الشاعر:
يَا ابْنَ أُمِّي ويَا شُقَيِّقَ نَفْسِي أنتَ خَلَّفْتَنِي لدهرٍ شديدِ «١»
وقال أبو علي: يحتمل أن يريد من فتح: «يا ابن أم» أُمَّا، ويحذف الألف، ومن كسر: «ابن أمي» فيحذف الياء. فان قيل: لم قال: «يا ابن أمَّ» ولم يقل: «يا ابن أب» ؟ فالجواب أن ابن عباس قال: كان أخاه لأبيه وأُمه، وإنما قال له ذلك ليرقّقه عليه. قال أبو سليمان الدمشقي: والإِنسان عند ذكر الوالدة أرقُّ منه عند ذكر الوالد. وقيل: كان لأمه دون أبيه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: إِنَّ الْقَوْمَ يعني عبدة العجل. اسْتَضْعَفُونِي أي: استذلُّوني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ قرأ ابن عباس، وابن محيصن وحميد: «فلا تَشْمَت» بتاء مفتوحة مع فتح الميم، «الاعداءُ» بالرفع، وقرأ مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وأبو رجاء: «فلا تَشْمِتْ» بفتح التاء وكسر الميم، «الأعداءَ» بالنصب. وقرأ أبو الجوزاء، وابن أبي عبلة مثل ذلك، إلا أنهما رفعا «الأعداء». ويعني بالأعداء: عبدة العجل. وَلا تَجْعَلْنِي في موجدتك وعقوبتك لي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهم عبدة العجل.
فلما تبين له عُذْرُ أخيه قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي.
قوله تعالى: وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيها قولان: أحدهما: أنها الجزية، قاله ابن عباس. والثاني:
ما أمروا به من قتل أنفسهم، قاله الزجاج. فعلى الأول يكون ما أُضيف إليهم من الجزية في حق أولادهم، لأن أولئك قُتلوا ولم يؤدّوا جزية. قال عطية: وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتولِّيهم متخذي العجل ورضاهم به.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال ابن عباس: كذلك أُعاقب من اتخذ إلهاً دوني، وقال مالك بن انس: ما من مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلَّة، وقرأ هذه الاية. وقال سفيان بن عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلَّة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله تعالى: قالوا: وأين هي؟
قال: أو ما سمعتم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: كلا، أتلو ما بعدها. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٣]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ فيها قولان: أحدهما: أنها الشرك. والثاني: الشرك وغيره من الذنوب. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني السيئات. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا قولان: أحدهما: آمنوا بالله وهو يُخرَّج على قول من قال: هي الشرك. والثاني: آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني السّيئات.
(١) البيت منسوب إلى أبي زبيد حرملة بن المنذر الطائي «اللسان» شقق.

[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وقرأ ابن عباس، وأبو عمران «سَكّت» بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها، «الغضبَ» بالنصب. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، والجحدري «سُكِّت» بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وطلحة «سَكَنَ» بنون. قال الزجاج «سكت» بمعنى سكن، يقال: سكت يسكت سَكْتاً: إذا سكن، وسكت يسكت سكْتاً وسكوتاً:
إذا قطع الكلام. قال: وقال بعضهم: المعنى: ولما سكت موسى عن الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي. والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، والأول هو قول أهل العربية.
قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ يعني التي كان ألقاها. وفي قوله تعالى: وَفِي نُسْخَتِها قولان:
أحدهما: وفيما بقي منها قاله ابن عباس. والثاني: وفيما نُسخ فيها قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ فيهم قولان: أحدهما: أنه عام في الذين يخافون الله، وهو معنى قول قتادة. والثاني: أنّهم أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم خاصّة، وهو معنى قول قتادة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ المعنى: اختار من قومه، فحُذف «من»، تقول العرب: اخترتك القوم، أي: اخترتك من القوم، وأنشدوا:
مِنَّا الذي اخِتيرَ الرِّجَالَ سََمَاحةً وجُوداً إذا هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ «١»
هذا قول ابن قتيبة، والفراء، والزجاج.
وفي هذا الميقات أربعة أقوال: أحدها: أنه الميقات الذي وَقَّتَهُ الله لموسى ليأخذ التوراة، أُمر أن يأتيَ معه بسبعين، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال نوف البِكَاليُّ. والثاني: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله تعالى لموسى، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربّهم، فدعوا فقالوا: اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحداً قبلنا، ولا تعطيه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك، وأخذتهم الرجفة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى، لأن بني إسرائيل قالوا له: إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك، فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة، فأوحى الله اليه ان أختر من خيارهم سبعين، ثم ارتقِ بهم على الجبل انت وهارون، واستخلف يوشع بن نون، ففعل ذلك قاله وهب بن منبه. والرابع: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل، فيعتذر إليه من فِعْل عبدة العجل، قاله السدي. وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي ربّه إلا بإذن منه.
فأما الرجفة فهي الحركة الشديدة. وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال: أحدها: أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون، قاله علي بن أبي طالب. والثاني: اعتداؤهم في الدعاء، وقد ذكرناه في رواية ابن
(١) البيت منسوب إلى الفرزدق: ديوانه: ٥١٦ «اللسان» خير.
أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنهم لم ينهَوْا عبدة العجل ولم يرضَوْا نُقل عن ابن عباس أيضا، وقال قتادة، وابن جريج: لم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهَوْهم عن المنكر، ولم يزايلوهم. والرابع:
أنّهم طلبوا سماع الكلام من الله تعالى، فلما سمعوه قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «١» قاله السدي وابن إسحاق.
قوله تعالى: قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قال السدي: قام موسى يبكي ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ. وقال الزجاج: لو شئت أمتَّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. وقيل: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
قوله تعالى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال المبرِّد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تُهلكْنا.
وقال ابن الانباري: هذا استفهام على تأويل الجحد، إذ أراد لست تفعل ذلك. و «السّفهاء» ها هنا:
عبدة العجل. وقال الفراء: ظن موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل. وإنما أُهلكوا بقولهم:
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.
قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فيها قولان: أحدهما: أنها الابتلاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية. والثاني: العذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. قوله تعالى: أَنْتَ وَلِيُّنا أي: ناصرنا وحافظنا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا أي: حقق لنا وأوجب فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الأعمال الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ المغفرة والجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: تبنا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال ابن قتيبة: ومنه الَّذِينَ هادُوا «٢» كأنهم رجعوا من شيء إلى شيء. وقرأ أبو وجزة السعدي: «إنا هِدنا» بكسر الهاء. قال ابن الأنباري: المعنى: لا نتغيَّر يقال: هاد يهود ويهيد.
(١) سورة البقرة: ٥٥.
(٢) سورة البقرة: ٦٢.
159
قوله تعالى: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ. وقرأ الحسن البصري، والأعمش، وأبو العالية:
«من أساء» بسين غير معجمة مع النصب.
قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في هذا الكلام أربعة اقوال: أحدها: أن مخرجه عام ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، قاله ابن عباس. والثاني: أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا، والخصوص في الآخرة وتأويلها: ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا، البرَّ والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن، وقتادة. فعلى هذا، معنى الرحمة في الدنيا للكافر أنه يُرزق ويُدفع عنه، كقوله في حقّ قارون:
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «١». والثالث: أن الرحمة: التوبة، فهي على العموم، قاله ابن زيد.
والرابع: أن الرحمة تَسَع كل الخلق إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدِّر دخولهم فيها لوسعتهم، قاله ابن الانباري. قال الزجاج: وسعت كل شيء في الدنيا. فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ في الآخرة. قال المفسرون: معنى «فسأكتبها» : فسأوجبها. وفي الذين يتقون قولان: أحدهما: أنهم المتقون للشرك، قاله ابن عباس. والثاني: للمعاصي، قاله قتادة. وفي قوله تعالى. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ قولان:
أحدهما: أنها زكاة الأموال، قاله الجمهور. والثاني: أن المراد بها طاعة الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكِّي النفس ويطهِّرها.
وقال ابن عباس، وقتادة: لما نزلت وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله من إبليس، فقال: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ، فقالت اليهود والنّصارى: نحن نتَّقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله منهم، وجعلها لهذه الأمة، فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وقال نَوفٌ: قال الله تعالى لموسى:
أجعل لكم الأرض طهوراً ومسجداً، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فأخبر موسى قومه بذلك، فقالوا: لا نريد أن نصلّي إلّا في الكنائس ولا أن تكون السكينة إلا في التابوت، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظراً، فقال الله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ. وفي هؤلاء المذكورين في قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ قولان: أحدهما: أنهم كلّ من آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، وتبعه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه محمد صلّى الله عليه وسلم، قاله السدي، وقتادة. وفي تسميته بالأمي قولان: أحدهما: لأنه لا يكتب. والثاني: لأنه من أُمَّ القرى.
قوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ أي: يجدون نعته ونبوَّته.
قوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج: يجوز أن يكون مستأنَفاً، ويجوز أن يكون «يجدونه مكتوباً عندهم» أنه يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة الارحام. والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام. وقال مقاتل: المعروف: الإيمان، والمنكر:
الشّرك. وقال غيره: المعروف: الحق، لأن العقول تعرف صحته، والمنكر: الباطل، لأن العقول تنكر صحته. وفي الطيبات أربعة أقوال: أحدها: أنها الحلال، والمعنى: يُحل لهم الحلال. والثاني: أنها ما
(١) سورة القصص: ٧٧.
160
كانت العرب تستطيبه. والثالث: أنها الشحوم المحرَّمة على بني إسرائيل. والرابع: ما كانت العرب تحرِّمه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وفي الخبائث ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحرام، فالمعنى: ويحرِّم عليهم الحرام. والثاني: أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله، كالحيات، والحشرات. والثالث: ما كانوا يستحلُّونه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «إِصرهم». وقرأ ابن عامر «آصارهم» ممدودة الألف على الجمع. وفي هذا الإِصر قولان «١» :
أحدهما: أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة، قاله ابن عباس. والثاني:
التشديد الذي كان عليهم من تحريم السّبت، والشّحوم والعروق، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح وقد كُتب على باب بيته:
إن كفارته أن تنْزِع عينيك، فيْنزِعهُما.
قوله تعالى: وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: ذِكر الأغلال تمثيل، ألا ترى أنك تقول:
جعلت هذا طوقاً في عنقك، وليس هناك طوق، إنما جعلت لزومه كالطوق. والأغلال: أنه كان عليهم أن لا يُقبَل منهم في القتل دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يَقْرِضُوا ما أصاب جلودهم من البول.
قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يعني بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وَعَزَّرُوهُ وروى أبان «وعَزَروه» بتخفيف الزاي. وفي المعنى قولان: أحدهما: نصروه وأعانوه، قاله مقاتل. والثاني: عظَّموه، قاله ابن قتيبة.
والنور الذي أنزل معه: القرآن، سماه نورا، لأن بيانه في القلوب كبيان النور في العيون. وفي قوله «معه» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «عليه». والثاني: بمعنى أُنزل في زمانه. قال قتادة: أما نصره، فقد سُبقتم إليه، ولكن خيركم من آمن به واتبع النور الذي أُنزل معه.
قوله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ في الكلمات قولان «٢» :
أحدهما: أنها القرآن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كلماته: آياته.
والثاني: أنها عيسى ابن مريم، قاله مجاهد، والسّدّيّ.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٩]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ فيه قولان: أحدهما: يدعون إلى الحق.
والثاني: يعملون به.
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٨٦: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن «الإصر» هو العهد- وقد بينا ذلك بشواهده في موضع غير هذا بما فيه الكفاية- وأن معنى الكلام: ويضع النبي الأمي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة التوراة والعمل بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم. ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضة فنسخها حكم القرآن. اه.
(٢) وقال الطبري في تفسيره ٦/ ٨٨: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمر عباده أن يصدقوا بنبوة النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ولم يخصص الخبر جل ثناؤه عن إيمانه من «كلمات الله» ببعض، بل أخبرهم عن جميع الكلمات فالحق في ذلك أن يعم القول فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يؤمن بكلمات الله كلها. على ما جاء به ظاهر كتاب الله اه.
قوله تعالى: وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال الزجاج: وبالحق يحكمون. وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم من آمن بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم مثل ابن سلام وأصحابه، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم، ذكره الماوردي.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ يعني قوم موسى، يقول: فرَّقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً يعني أولاد يعقوب، وكانوا اثنى عشر ولداً، فولد كل واحد منهم سبطاً. قال الفراء: وإنما قال «اثنتي عشرة» والسبط ذكَر، لأن بعده «أُمما» فذهب بالتأنيث إلى الأمم، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط، كان جائزاً. وقال الزجاج: المعنى: وقطَّعناهم اثنتي عشرة فرقة، «أسباطاً» نعت «فرقة» كأنه يقول: جعلناهم أسباطاً، وفرَّقناهم أسباطاً، فيكون «أسباطاً» بدلاً من «اثنتي عشرة» و «أُمماً» من نعت أسباط. والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليُفصل بين ولد إسماعيل وبين ولد إسحاق. وقال أبو عبيدة: الأسباط:
قبائل بني إسرائيل، أحدهم: سبط. ويقال: من أي سبط أنت؟ أي: من أي قبيلة وجنس؟
قوله تعالى: فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ قال ابن قتيبة: انفجرت يقال: تبجَّس الماء، كما يقال: تفجَّر والقصة مذكورة في سورة (البقرة).
قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «نغفر لكم خطيئاتكم» بالتاء مهموزة على الجمع. وقرأ أبو عمرو «نغفر لكم خطاياكم» مثل: قضاياكم، ولا تاء فيها. وقرأ نافع «تُغفَر» بالتاء مضمومة «خطيئاتُكم» بالهمز وضم التاء، على الجمع، وافقه ابن عامر في «تُغفَر» بالتاء المضمومة، لكنه قرأ «خطيئتكم» على التّوحيد.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٣]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)
قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ يعني أسباط اليهود، وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقرِّرهم على قديم كفرهم، ومخالفة أسلافهم الأنبياء، ويخبرهم بما لا يُعلم إلا بوحي. وفي القرية خمسة أقوال «١» :
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٩٢: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر، وجائز أن تكون أيلة، وجائز أن تكون مدين، وجائز أن تكون مقنا. لأن كل ذلك حاضرة البحر. ولا خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع العذر بأي ذلك من أي، والاختلاف فيه على ما وصفت. ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه، إلا بخبر يوجب العلم ولا خبر كذلك في ذلك. اه. [.....]
أحدها: أنها أيلة «١»، رواه مُرّة عن ابن مسعود، وأبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها مَدْيَن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنها ساحل مدين، روي عن قتادة. والرابع: أنها طبرية، قاله الزهري. والخامس: أنها قرية يقال لها: مقنا «٢»، بين مدين وعينونا، قاله ابن زيد. ومعنى حاضِرَةَ الْبَحْرِ مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه. إِذْ يَعْدُونَ قال الزجاج: أي يظلمون، يقال: عدا فلان يعدو عُدْواناً وعَداءً وعَدْواً وعُُدّواً: إذا ظلم، وموضع «إذ» نصب والمعنى: سلهم عن وقت عَدْوِهم في السبت. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ في موضع نصب أيضاً ب «يَعْدُونَ» والمعنى: سلهم إذ عَدَوْا في وقت الإتيان. شُرَّعاً أي: ظاهرة. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم بفسقهم. ويحتمل على بعد أن يكون المعنى وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كذلك، أي: لا تأتيهم شُرَّعاً ويكون نَبْلُوهُمْ مستأنفا. وقرأ الأعمش، وأبان، والمفضل عن عاصم: «يُسبِتون» بضم الياء.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٤]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ قال المفسرون: افترق أهل القرية ثلاث فرق فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «معذرةُ» رفعاً، أي: موعظتُنا إياهم معذرةٌ، والمعنى أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله. وقرأ حفص عن عاصم: «معذرةً» نصباً، وذلك على معنى نعتذر معذرةً. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: تركوا ما وُعظوا به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الناهون عن المنكر. والذين ظلموا هم المعتدون في السبت.
قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «بئيس» على وزن فعيل، فالهمزة بين الباء والياء. وقرأ نافع: «بِيسٍ» بكسر الباء من غير همز. وقرأ ابن عامر كذلك، إلا
(١) أيلة: مدينة على ساحل القلزم مما يلي الشام، وقيل في آخر الحجاز وأول الشام «معجم البلدان» ١/ ٢٩٢.
(٢) مقنا قرب أيلة «معجم البلدان» ٥/ ١٧٨.
أنه همز. وروى خارجة عن نافع: «بَيْسٍ» بفتح الباء من غير همز، على وزن «فَعْلٍ». وروى أبو بكر عن عاصم: «بَيْأسٍ» على وزن «فَيْعَلٍ». وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأيوب: «بَيْآسٍ» على وزن «فَيْعالٍ». وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي، ومعاذ القارئ: «بَئِسٍ» بفتح الباء وكسر الهمزة من غير ياء على وزن «تعس». وقرأ الضحاك، وعكرمة: «بَيِّسٍ» بتشديد الياء مثل «قيِّم». وقرأ أبو العالية، وأبو مجلز: «بَئِسَ» بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير ياء ولا ألف على وزن «فَعِلَ». وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء: «بائسٍ» بألف ومَدّة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن «فاعِلٍ». قال أبو عبيدة:
البئيس: الشّديد، وأنشد:
حيفا عَليَّ وما تَرَى لي فيِهمُ أثراً بَئيسَا «١»
وقال الزجاج: يقال: بَئس يبأس بأساً، والعاتي: الشديد الدخول في الفساد، المتمرد الذي لا يقبل موعظة. وقال ابن جرير: «فلما عتوا» أي: تمردوا فيما نُهوا عنه وقد ذكرنا في سورة (البقرة) :
قصة مسخهم. وكان الحسن البصري يقول: والله ما لحوم هذه الحيتان بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين.
قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أعلم، قاله الحسن، وابن قتيبة، وقال:
هو من آذنتك بالأمر. وقال ابن الانباري: «تأذن» بمعنى آذن كما يقال: تعلَّم أن فلاناً قائم، أي:
اعلم. وقال أبو سليمان الدمشقي: أي: أعلم أنبياء بني إسرائيل. والثاني: حتم، قاله عطاء. والثالث:
وعد، قاله قطرب. والرابع: تألّى، قاله الزجاج.
قوله تعالى: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي: على اليهود. وقال مجاهد: على اليهود والنصارى بمعاصيهم.
مَنْ يَسُومُهُمْ أي: يولِّيهم سُوءَ الْعَذابِ. وفي المبعوث عليهم قولان: أحدهما: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأمته، قاله ابن عباس. والثاني: العرب، كانوا يجبونهم الخراج، قاله سعيد بن جبير، قال: ولم يجْبِ الخراجَ نَبيٌ قط إلا موسى، جباه ثلاث عشرة سنة، ثم أُمسك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقال السدي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم. وفي سوء العذاب أربعة أقوال: أحدها: الجزية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: المسكنة والجزية، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث:
الخراج، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع: أنه القتال حتى يُسلموا، أو يُعطوا الجزية.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٨]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً قال أبو عبيدة: فرَّقناهم فِرقاً. قال ابن عباس: هم اليهود، ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة. وقال مقاتل: هم بنو إسرائيل. وقيل: معناه: شتات أمرهم وافتراق كلمتهم. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وهم الكفار. وقال ابن جرير: إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن يبعث عيسى، وقبل ارتدادهم.
(١) البيت منسوب إلى ذي الإصبع العدواني «الأغاني» ٣/ ١٠٢. وفي «مجاز القرآن» لأبي عبيدة ١/ ٢٣١.
قوله تعالى: وَبَلَوْناهُمْ أي: اختبرناهم بِالْحَسَناتِ وهي الخير، والخصب، والعافية، وَالسَّيِّئاتِ وهي الجدب، والشر، والشدائد فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة، أما النّعم فلطلب الازدياد منها، وخوف زوالها، والنقمُ فلكشفها، والسلامة منها. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لكي يتوبوا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد الذين وصفناهم. خَلْفٌ وقرأ الجوني، والجحدري: «خَلَفٌ» بفتح اللام. قال أبو عبيدة: الخَلَفُ والخَلَفُ واحد وقوم يجعلون المحرَّك اللام، للصالح، والمسكَّن، لغير الصالح. وقال ابن قتيبة: الخَلْفُ: الرديء من الناس ومن الكلام، يقال: هذا خَلْفٌ من القول. وقال ابن الأنباري: أكثر ما تستعمل العرب الخَلْفَ، باسكان اللام، في الرديء المذموم، وتفتح اللام في الفاضل الممدوح. وقد يوقع الخَلْفُ على الممدوح، والخلَفُ على المذموم غير أن المختار ما ذكرناه.
وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: النصارى. والثالث: أن الخَلْفَ من أُمة محمد صلّى الله عليه وسلم، والقولان عن مجاهد.
فان قيل: الخَلْفُ واحد، فكيف قال: يَأْخُذُونَ وكذلك قال في (مريم) أَضاعُوا «٢» ؟ فقد ذكر ابن الأنباري عنه جوابين: أحدهما: أن الخَلْف جمع خالف، كما أن الركب جمع راكب، والشَّرْب جمع شارب. والثاني: أي الخَلْف مصدر يكون للاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث.
قوله تعالى: وَرِثُوا الْكِتابَ أي: انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف، فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التوراة. والثاني: الإنجيل. والثالث: القرآن.
قوله تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي: هذه الدنيا، وهو ما يعرض لهم منها. وقيل: سماه عرضاً، لقلة بقائه. قال ابن عباس: يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام. وقيل: هو الرِّشوة في الحكم. وفي وصفه بالأدنى قولان: أحدهما: أنه من الدُّنُوِّ. والثاني: أنه من الدناءة.
قوله تعالى: سَيُغْفَرُ لَنا فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: إنا لا نؤاخَذ، تمنِّياً على الله الباطلَ.
والثاني: أنه ذنْب يغفره الله لنا، تأميلاً لرحمة الله تعالى. وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ١٠٥: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره إنما وصف أنه خلف القوم الذين قص قصصهم في الآيات التي مضت، خلف سوء رديء ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعد فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه. إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به. اه.
(٢) سورة مريم: ٥٩.
قولان: أحدهما: أن المعنى: لا يشبعهم شيء، فهم يأخذون لغير حاجة، قاله الحسن. والثاني: أنهم أهل إصرار على الذنوب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قال ابن عباس: وكّد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار.
قوله تعالى: وَدَرَسُوا ما فِيهِ معطوف على «ورثوا». ومعنى «درسوا ما فيه» : قرءوه، فكأنه قال:
خالفوا على علم. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ أي: ما فيها من الثواب خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي خير من الفاني. قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم بالتاء، والباقون بالياء.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٠]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «يمسّكون» مشدّدة، وقرءوا وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «١» مخفّفة، وقرأهما أبو عمرو بالتشديد. وروى أبو بكر عن عاصم أنه خففهما. ويقال: مسَّكتُ بالشيء، وتمسّكت به، واستمسكت به، وامتسكت به. وهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يُحرِّفوه، منهم عبد الله بن سلام واصحابه. قال ابن الأنباري: وخبر «الذين» :«إنا» وما بعده، وله ضمير مقدر بعد «المصلحين» تأويله: والذين يمسّكون بالكتاب إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ولهذه العلة وَعَدَهُم حفظَ الأجر بشرطٍ، إذ كان منهم من لم يصلح. قال: وقال بعض النحويين: المصلحون يرجعون على الذين، وتلخيص المعنى عنده: والذين يمسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجرهم، فأظهرت كنايتهم بالمصلحين، كما يقال: عليٌّ لقيتُ الكسائي، وأبو سعيد رويت عن الخدري، يراد: لقيتُهُ ورويت عنه. قال الشاعر:
فيا ربّ لَيلى أنْتَ في كُلِّ مَوطِنٍ وَأنْتَ الذي في رَحْمِةِ الله أطْمَعُ «٢»
أراد في رحمته، فأظهر ضمير الهاء.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي: واذكر لهم إذ نتقنا الجبل، أي: رفعناه. قال مجاهد:
أُخرج الجبل من الأرض، ورفع فوقهم كالظُلَّة، فقيل لهم: لتؤمنُنَّ أو ليقعنَّ عليكم. قال قتادة: نزلوا في أصل جبل، فرُفع فوقهم، فقال: لتأخُذُنَّ أمري، أو لأرمينكم به.
قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ فيه قولان: أحدهما: أنه الظن المعروف. والثاني: أنه بمعنى اليقين. وباقي الآية مفسر في (البقرة).
(١) سورة الممتحنة: ١٠.
(٢) البيت غير منسوب في «مغني اللبيب» ٢١٠.

[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٢]

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(٥٩٠) «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان» - ونعمان قريب من عرفة، ذكره ابن قتيبة- «فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذَّر، ثم كلَّمهم قِبَلاً، وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ».
ومعنى الآية: وإذ أخذ ربكم من ظهور بني آدم. فقوله تعالى: مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بَنِي آدَمَ. وقيل: إنما قال: مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل: من ظهر آدم، لأنه أخرج بعضهم من ظهور بعض، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه، وقد أُخرجوا من ظهره. وقوله تعالى: ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي «ذُرِّيَّتَهُم» على التوحيد. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر «ذُرِّيَّاتهِم» على الجمع. قال أبو علي: الذُّرِّية تكون جمعاً، وتكون واحداً. وفي قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أشهدهم على أنفسهم باقرارهم، قاله مقاتل. والثاني: دلَّهم بخلقه على توحيده، قاله الزجاج. والثالث: أنه أشهد بعضهم على بعض باقرارهم بذلك، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ والمعنى: وقال لهم: ألست بربكم؟ وهذا سؤال تقرير. قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. قال السدي: قوله «شهدنا» خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله «بلى» لأن كلام الذرية قد انقطع. وزعم الكلبي ان الذّرّية لمّا قالت: «بلى»، قال الله تعالى للملائكة: «اشهدوا» فقالوا: «شهدنا». وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب قال: جمعهم جميعاً، فجعلهم أزواجاً، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم، ثم قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أنك إلهنا. قال: فإنّي أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم نعلم بهذا. وقال السدي: أجابته طائفة طائعين، وطائفة كارهين تقيةً.
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قرأ أبو عمرو «أن يقولوا»، «أو يقولوا» بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. قال أبو علي: حجة أبي عمرو قوله: «وإذ أخذ ربك» وقوله تعالى: «قالوا بلى»، وحجة من قرأ بالتاء، أنه قد جرى في الكلام خطاب: «ألست بربكم قالوا بلى شهدنا». ومعنى قوله: «تقولوا» : لئلّا
الصحيح موقوف. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١١٩١ وأحمد ١/ ٢٧٢ ح ٢٤٥١. والطبري ١٥٣٤٩ والحاكم ١/ ٢٧ و ٢/ ٥٤٤ من حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. صححه الحاكم، وقال: احتج مسلم بكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي، وأما النسائي فقال: كلثوم هذا غير قوي، وحديثه غير محفوظ ا. هـ. والظاهر أن الوهم في رفعه إنما هو من جهة جرير بن حازم، فإنه ثقة لكن له أوهام إذا حدث من حفظه. أو الوهم ممن دونه فقد أخرجه الطبري ١٥٣٥٠ عن عبد الوارث عن كلثوم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا. وتابعه ابن علية برقم ١٥٣٥١ عن كلثوم به موقوفا، و ١٥٣٥٢، وبرقم ١٥٣٥٣ و ١٥٣٥٤، تابعه عطاء بن السائب فرواه عن سعيد عن ابن عباس موقوفا، فالصواب في هذا الحديث الوقف كما رواه غير واحد، والله أعلم انظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجنا.
تقولوا، ومثله: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «١». وفي قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا قولان: أحدهما: أنه إشارة إلى الميثاق والإقرار. والثاني: أنه إشارة إلى معرفة أنه الخالق. قال المفسرون: وهذه الآية تذكير من الله تعالى بما أخذ على جميع المكلَّفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار: إنا كنّا عن هذا الميثاق غافلين لم نذكره، ونسيانهم لا يُسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلم الصادق. وإذا ثبت هذا بقول الصادق، قام في النفوس مقام الذِّكر، فالاحتجاج به قائم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٣]
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)
قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاتبَّعنا منهاجهم على جهلٍ منَّا بآلهيتك أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ في دعواهم أن معك إلهاً، فقطع الله احتجاجهم بمثل هذا، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم. وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه استنطق الذر، وركَّب فيهم عقولاً وأفهاماً عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ الذرية: إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفاً، ومعنى إشهادهم على أنفسهم: اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين. ولما عرفوا ذلك ودعاهم كلُّ ما يرون ويشاهدون إلى التصديق، كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهِدين على أنفسهم بصحته، كما قال: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ «٢» يريدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، كما يقول الرجل: قد شهدتْ جوارحي بصدقك، أي: قد عرفْته. ومن هذا الباب قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ «٣» أي: بيَّن وأعلم وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري، والأول أصح، لموافقة الآثار.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٤]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما بينَّا في أخذ الميثاق الآيات، ليتدبَّرها العباد فيعملوا بموجبها وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر إلى التوحيد.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٥]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: هذا نسق على ما قبله، والمعنى: أتل عليهم إذ أخذ ربك، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا وفيه ستة أقوال «٤» :
(٥٩١) أحدها: أنَّه رجل من بني إِسرائيل يقال له: بلعم بن أبر، قاله ابن مسعود. وقال ابن
ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين. فقد أخرجه الطبري ١٥٣٩٢- ١٥٣٩٦ و ١٥٣٩٩ من طرق عن ابن مسعود وأخرجه برقم ١٥٣٩٨ و ١٥٤٠١ عن ابن عباس. وأخرجه برقم ١٥٤٠٣ و ١٥٤٠٤ عن مجاهد.
وأخرجه ١٥٤٠٨ عن عكرمة، وله شواهد. وهذا القول هو أرجح الأقوال.
__________
(١) سورة لقمان: ١٠.
(٢) سورة التوبة: ١٧.
(٣) سورة آل عمران: ١٩.
(٤) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ١٢٢: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه أن يتلو على قومه خبر رجل كان آتاه حججه وأدلته، وهي «الآيات»، وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك «بلعم» وجائز أن يكون «أمية» اه.
168
عباس: بلعم بن باعوراء. وروي عنه: أنه بلعام بن باعور، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي. وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعماً من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة الجبَّارين.
(٥٩٢) والثاني: أنه أُميَّة بن أبي الصلت، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وأبو روق، وزيد بن أسلم، وكان أميّة قد قرأ الكتاب، وعلم أن الله مرسِل رسولاً، ورجا أن يكون هو، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حسده وكفر.
والثالث: أنه أبو عامر الراهب، روى الشعبي عن ابن عباس قال: الأنصار تقول: هو الراهب الذي بُني له مسجد الشِّقاق، وروي عن ابن المسيب نحوه. والرابع: أنه رجل كان في بني اسرائيل، أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، وكانت سمجة دميمة، فقالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل مثلها، رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه، دعا الله أن يجعلها كلبة نَبَّاحَةً، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمُّنا كلبةً نبَّاحة يعيِّرنا الناس بها، فادع الله أن يردَّها إلى الحال التي كانت عليها أولاً، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث، رواه عكرمة عن ابن عباس، والذي روي لنا في هذا الحديث «وكانت سَمِجة» بكسر الميم، وقد روى سيبويه عن العرب أنهم يقولون: رجل سَمْج: بتسكين الميم، ولم يقولوا: سَمِج بكسرها.
والخامس: أنه المنافق، قاله الحسن. والسادس: أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أُعطيَه من اليهود والنصارى والحنفاء، قاله عكرمة.
وفي الآيات خمسة أقوال «١» : أحدها: أنه اسم الله الأعظم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والثاني: أنها كتاب من كتب الله عزّ وجلّ. روى عكرمة عن ابن عباس قال:
هو بلعام، أوتي كتاباً فانسلخ منه. والثالث: أنه أوتي نبوّة، فَرَشاهُ قومه على أن يسكت، ففعل، وتركهم على ما هم عليه، قاله مجاهد، وفيه بُعد، لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوماً عن مثل هذه الحال. والرابع: أنها حُجج التوحيد، وفهم أدلّته. والخامس: أنها العلم بكتب الله عزّ وجلّ. والمشهور في التفسير أنه بلعام وكان من أمره على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه، وكانوا كفاراً، وكان هو مجاب الدعوة، فقال ملكهم: ادع على موسى، فقال: إنه من أهل ديني،
موقوف. أخرجه الطبري ١٥٤١٣ و ١٥٤١٤ و ١٥٤١٥ و ١٥٤١٧ عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ١٢٢: وكذلك «الآيات» إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية. وعناه بها. فجائز أن يكون الذي كان «بلعم» وجائز أن يكون «أمية»، لأن «أمية» كان فيما يقال: قد قرأ من كتب أهل الكتاب. وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبي الله عليه السلام أن يتلو على قومه نبأه، أو بمعنى اسم الله الأعظم، أو بمعنى النبوة فغير جائز أن يكون معنيا به «أمية» لأن «أمية» لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك، ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني، يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أي ذلك المعني به من أي. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله. ونقر بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله. ا. هـ.
169
ولا ينبغي لي أن أدعوَ عليه، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصَلبه، فلما رأى ذلك، خرج على أتان ليدعوَ على موسى، فلما عاين عسكرهم، وقفت الأتان فضربها، فقالت: لم تضربني، وهذه نار تتوقَّد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع، فرجع إلى الملك فأخبره، فقال: إما أن تدعو عليهم، وإما أن أصلبك، فدعا على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجاب الله له، فوقع موسى وقومه في التيه بدعائه، فقال موسى: يا ربِّ، بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم. فقال: يا رب، فكما سمعت دعاءه عليَّ، فاسمع دعائي عليه، فدعا اللهَ أن ينزع منه الاسم الأعظم، فنزع منه. وقيل: إنه أمر قومه أن يزيِّنوا النساء ويرسلوهنَّ في العسكر ليَفشو الزنا فيهم، فيُنصروا عليهم. وقيل: إن موسى قتله بعد ذلك. وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرِّعاً، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فانكم إذا خرجتم لقتالهم، دعوتُ عليهم فهلكوا، فكان فيما شاء عندهم من الدنيا، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها، وكان نبيهم يوشع، لا موسى.
قوله تعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها أي: خرج من العلم بها.
قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ قال ابن قتيبة: أدركه. يقال: اتبَّعتُ القوم: إذا لحقتَهم، وتبعتُهم: سرتُ في أثرهم. وقرأ طلحة بن مصرِّف: «فاتّبعه» بالتشديد. وقال اليزيدي: أتبْعه واتَّبعه:
لغتان. وكأن «أتبعه» خفيفة بمعنى: قفاه، و «اتّبعه» مشددة: حذا حذوه. ولا يجوز أن تقول: أتبْعناك، وأنت تريد: اتَّبعناك، لأن معناها: اقتدينا بك. وقال الزجاج: يقال: تبع الرجل الشيء واتَّبعه بمعنى واحد. قال الله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ «١» وقال: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ «٢».
قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فيه قولان: أحدهما: من الضالين، قاله مقاتل. والثاني: من الهالكين الفاسدين، قاله الزجاج.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٦]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها في هاء الكناية في «رفعناه» قولان «٣» : أحدهما: أنها تعود إلى الإِنسان المذكور، وهو قول الجمهور فيكون المعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلة هذا الإنسان بما علّمنا.
والثاني: أنها تعود إلى الكفر بالآيات، فيكون المعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. وقال الزجاج: لو شئنا لحُلْنا بينه وبين المعصية.
قوله تعالى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي: ركن إلى الدنيا وسكن. قال الزجاج: يقال: أخلد
(١) سورة البقرة: ٣٨.
(٢) سورة يونس: ٩٠. [.....]
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ١٢٦: وأولى الأقوال في التأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عم الخبر بقوله:
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها. أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها و «الرفع» يعم معاني كثيرة: منها الرفع في المنزلة عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها، ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء الرفيع. وجائز أن يكون الله عنى كل ذلك: أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كل ذلك، بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه. وإذ كان ذلك الخبر جائزا فالصواب من القول فيه أن لا يخص منه شيء. إذ لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل. اه.
وخلد، والأول أكثر في اللغة. والأرض ها هنا عبارة عن الدنيا، لأن الدنيا هي الأرض بما عليها. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه رَكَن إلى أهل الدنيا، ويقال: إنه أرضى امرأته بذلك لأنها حملته عليه. وقيل: أرضى بني عمِّه وقومَه. والثاني: أنه ركن إلى شهوات الدنيا وقد بُيِّن ذلك بقوله تعالى:
وَاتَّبَعَ هَواهُ والمعنى أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال ابن زيد: كان هواه مع قومه. وهذه الآية من أشد الآيات على أهل العلم إذا مالوا عن العلم إلى الهوى. قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ معناه: أن هذا الكافر، إن زجرتَه لم ينزجر، وإن تركتَه لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب، فانه إن طُرد وحُمل عليه بالطرد كان لاهثاً، وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً، والتشبيه بالكلب اللاهث خاصة فالمعنى: فمثله كمثل الكلب لاهثاً وإنما شبهه بالكلب اللاهث، لأنه أخسُّ الأمثال على أخس الحالات وأبشعها. وقال ابن قتيبة: كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فانه يلهث في حال راحته وحال كلاله، فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله رابضاً لهث. قال المفسرون: زُجِرَ في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر، وخاطبتْه أتانه فلم ينته، فضُرب له هذا المثل ولسائر الكفّار فذلك قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لأن الكافر إن وعظته فهو ضال، وإن تركتَه فهو ضال وهو مع إرسال الرسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بيِّنة.
قوله تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ قال عطاء: قَصَصَ الذين كفروا وكذّبوا أنبياءهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٧ الى ١٧٨]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا يقال: ساء الشيء يسوء: إذا قَبُح، والمعنى: ساء مثلاً مثل القوم، فحُذِف المضاف، فنُصب «مثلاً» على التمييز.
قوله تعالى: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أي: يضُرُّون بالمعصية.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي: خلقنا. قال ابن قتيبة: ومنه ذرية الرجل، إنما هي الخلق منه، ولكن همزها يتركه أكثر العرب. قوله تعالى: لِجَهَنَّمَ هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، ومثله قول الشاعر:
أمْوالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا وَدُوْرُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيْها
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزِّيه بموت ابنه، فقال:
تعزَّ أمِيْرَ المؤمنينَ فإنَّه لِما قَدْ تَرَى يُغْذَى الصَّغِيْرُ ويُوْلَدُ
وقد أخبر الله عزّ وجلّ في هذه الآية بنفاذ عِلمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم.
قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها لمّا أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يُبصر ولم يسمع. وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد بهذا كله أمر الآخرة، فانهم يعقلون أمر الدنيا. قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ شبَّههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر ولا تعتبر، ثم قال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند فيُقدِم على النار، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عن أمر الآخرة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. سبب نزولها:
(٥٩٣) أن رجلاً دعا الله في صلاته، ودعا الرحمنَ، فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية، قاله مقاتل.
فأما الحسنى، فهي تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أن أسماء الله حسنى، وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن. وذكر الماوردي أن المراد بذلك ما مالت إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنّقمة. وقوله تعالى: فَادْعُوهُ بِها أي: نادوه بها، كقوله: يا الله، يا رحمن.
قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يُلحِدُون» بضمّ الياء، وكذلك في سورة (النّحل) و (السّجدة) «١». وقرأ حمزة: «يَلحَدون» بفتح الحاء والياء فيهن، ووافقه الكسائيّ، وخلف في سورة (النحل) «٢». قال الاخفش: أَلْحَد ولَحَدَ: لغتان فمن قرأ بهما أراد الأخذ باللغتين، فكأن الإلحاد: العدول عن الاستقامة. وقال ابن قتيبة: يجورون عن الحق ويعدلون ومنه لَحْدُ القبر، لأنه في جانب. قال الزجاج: ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسمِّ به نفسه، فيقول: يا جواد، ولا يقول: يا سخي ويقول: يا قوي، ولا يقول: يا جلْد، ويقول: يا رحيم، ولا يقول: يا رفيق، لأنه لم يصف نفسه بذلك. قال أبو سليمان الخطابي: ودليل هذه الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ عنها إلحادٌ، ومما يُسمع على ألسنة العامة قولهم: يا سبحانُ، يا برهانُ، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه، وربما قال بعضهم: يا رب طه ويس. وقد أنكر ابن عباس على رجل قال: يا رب القرآن. وروي عن ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سمَّوا بها أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فاشتقوا اللات من الله، والعزَّى من العزيز، ومناة من المنَّان.
(فصل:) والجمهور على أن هذه الآية محكمة، لأنها خارجة مخرج التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «٣»، وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال، لأنّ قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يقتضي الإِعراض عن الكفار، وهذا قول ابن زيد.
باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، وليس له أصل بذكر سبب نزول الآية، وورد شيء من هذا في آخر سورة الإسراء، وسيأتي.
__________
(١) سورة فصلت: ٤٠.
(٢) سورة النحل: ١٠٣.
(٣) سورة المدثر: ١١.

[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨١]

وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي: يعملون به، وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي: وبالعمل به يعدلون. وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون باحسان من هذه الأمة، قاله ابن عباس. وكان ابن جريج يقول:
(٥٩٤) ذُكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «هذه أُمتي، بالحق يأخذون ويعطون ويقضون.
(٥٩٥) وقال قتادة: بلغنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا تلا هذه الآية قال: «هذه لكم وقد أعطي القومُ مثلها»
ثم يقرأ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) «١».
والثاني: أنهم من جميع الخلق، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم الأنبياء. والرابع: أنهم العلماء، ذكر القولين الماوردي.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٣]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا قال أبو صالح عن ابن عباس: هم أهل مكة. وقال مقاتل:
نزلت في المستهزئين من قريش.
قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ قال الخليل بن أحمد: سنطوي أعمارهم في اغترار منهم. وقال أبو عبيدة: الاستدراج: أن يُتدرج إلى الشيء في خُفية قليلاً قليلاً ولا يُهجم عليه، وأصله من الدَّرَجة، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مَرقاة مرقاة ومنه: دَرَجَ الكتابَ: إذا طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم: إذا ماتوا بعضُهم في إثر بعض. وقال اليزيدي: الاستدراج: أن يأتيه من حيث لا يعلم. وقال ابن قتيبة: هو ان يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من حيث لا يعلمون، ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم. وقال الأزهري: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النّعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرَّتهم أغفل ما يكونون. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وفي قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: من حيث لا يعلمون بالاستدراج. والثاني: بالهلكة.
قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ الإملاء: الإمهال والتأخير.
قوله تعالى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قال ابن عباس: إن مَكري شديد. وقال ابن فارس: الكيد:
المكر فكل شيء عالجته فأنت تَكيدُه. قال المفسرون: مكر الله وكيده: مجازاة أهل المكر والكيد على نحو ما بيّنا في (البقرة) «٢» و (آل عمران) «٣» من ذِكر الاستهزاء والخداع والمكر.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٥٤٦٩ عن ابن جريج مرسلا، ومع إرساله، مراسيل ابن جريج واهية، شبه موضوعة كما قال الإمام أحمد، راجع «الميزان». وانظر «تفسير ابن كثير» ٢/ ٣٣٨.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٤٧١ عن قتادة مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(١) سورة الأعراف: ١٥٩.
(٢) سورة البقرة: ١٥.
(٣) سورة آل عمران: ٥٤.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٤ الى ١٨٦]

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ سبب نزولها:
(٥٩٦) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، علا على الصفا ليلة، ودعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، فحذَّرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوِّت حتى الصباح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، وقتادة.
ومعنى الآية: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جِنة، أي: جنون، فحثَّهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون، إِنْ هُوَ أي: ما هو إِلَّا نَذِيرٌ أي: مخوِّف مُبِينٌ يبيِّن طريق الهدى. ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ليستدلوا على أن لها صانعاً مدبراً وقد سبق بيان الملكوت في (الأنعام) «١».
قوله تعالى: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قرأ ابن مسعود، وأبيٌّ، والجحدري: «آجالهم». ومعنى الآية: أو لم ينظروا في الملكوت وفيما خلق الله من الأشياء كلِّها، وفي أنْ عسى أن تكون آجالهم قد قربت فيهلِكوا على الكفر، ويصيروا إلى النار، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يعني القرآن وما فيه من البيان. ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: «ونذرهم» بالنون والرفع. وقرأ أبو عمرو بالياء وبالرّفع.
وقرأ حمزة والسكائيّ: «ويذرْهُم» بالياء مع الجزم خفيفة، فمن قرأ بالرفع استأنف، ومن جزم «ويذرْهم» عطفَ على موضع الفاء. قال سيبويه: وموضعها جزْم فالمعنى: من يضلل الله يَذَرْه وقد سبق في سورة (البقرة) «٢» معنى الطّغيان والعمه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ في سبب نزولها قولان:
(٥٩٧) أحدهما: أن قوماً من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
ضعيف جدا بهذا اللفظ. أخرجه الطبري ١٥٤٧٢ عن قتادة مرسلا، ومع إرساله ذكره قتادة بصيغة التمريض، وحديث وقوفه صلّى الله عليه وسلم على الصفا في الصحيح، والوهن في هذا الخبر ذكر نزول الآية، وأنكر من ذلك قوله «حتى الصباح» فهذا باطل لأنه صلّى الله عليه وسلم إنما نادى الناس صباحا، فاجتمعوا فلما سمعوا ما يدعوهم إليه قال أبو لهب ما قال، فتفرق الناس.
باطل. أخرجه الطبري ١٥٤٧٤ عن ابن عباس وفي إسناده محمد بن أبي محمد وهو مجهول، والمتن باطل لأن السورة مكية، وسؤالات يهود مدنية. وذكره الواحدي في أسباب «النزول» ٤٥٨ من حديث ابن عباس.
__________
(١) سورة الأنعام: ٧٥.
(٢) سورة البقرة: ١٥.
174
(٥٩٨) والثاني: أن قريشاً قالت: يا محمد، بيننا وبينك قرابة، فبيِّن لنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال عروة: الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة. والمراد بالسّاعة ها هنا التي يموت فيها الخلق.
قوله تعالى: أَيَّانَ مُرْساها قال أبو عبيدة: أي: متى مُرساها؟ أي: منتهاها. ومرسى السفينة:
حيث تنتهي. وقال ابن قتيبة: «أيّان» بمعنى: متى و «متى» بمعنى: أيّ حين، ونرى أن أصلها: أيّ أوانٍ فحذفت الهمزة والواو، وجعل الحرفان واحداً، ومعنى الآية: متى ثبوتها؟ يقال: رسا في الأرض، أي: ثبت، ومنه قيل للجبال: رواسي. قال الزجاج: ومعنى الكلام: متى وقوعها؟
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي: قد استأثر بعلمها لا يُجَلِّيها أي: لا يظهرها في وقتها إِلَّا هُوَ. قوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه أربعة أقوال «١» : أحدها: ثَقُل وقوعها على أهل السماوات والأرض، قاله ابن عباس، ووجهه أن الكلَّ يخافونها، محسنهم ومسيئهم. والثاني: عظُم شأنها في السماوات والأرض، قاله عكرمة، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: خفي أمرها، فلم يُعلم متى كونها، قاله السدي. والرابع: أن «في» بمعنى «على» فالمعنى: ثقلت على السماوات والأرض، قاله قتادة. قوله تعالى: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي: فجأة.
قوله تعالى: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فتقديره:
يسألونك عنها كأنك حفيّ، أي: برّ بهم، كقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. قال العوفي عن ابن عباس، وأسباط عن السدي: كأنك صديق لهم. والثاني: كأنك حفي بسؤالهم، مجيب لهم. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كأنك يعجبك سؤالهم. وقال خصيف عن مجاهد: كأنّك تحبّ أن يسألونك عنها. وقال الزجاج: كأنك فَرِح بسؤالهم. والثالث: كأنك عالم بها، قاله الضحاك عن ابن عباس، وهو قول ابن زيد، والفراء. والرابع: كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها، قاله ابن ابي نجيح عن مجاهد. وقال عكرمة: كأنّك مسؤول عنها. وقال ابن قتيبة: كأنك معنيٌّ بطلب علمها. وقال ابن الانباري: فيه تقديم وتأخير، تقديره: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ بها، والحفيُّ في كلام العرب: المعنيُّ.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي: لا يعلمها إلا هو وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال مقاتل في آخرين: المراد بالنّاس ها هنا أهل مكّة.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٤٧٣ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٥٩ عن قتادة مرسلا.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ١٣٨: وأولى ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السماوات والأرض على أهلها أن يعرفوا وقتها وقيامها، لأن الله تعالى ذكره أخفى ذلك عن خلقه، فلم يطلع عليه منهم أحد، وذلك أن الله أخبر بذلك بعد قوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة، فالذي هو أولى: أن يكون ما بين ذلك أيضا خبرا عن خفاء علمها عن الخلق، إذ كان ما قبله وما بعده كذلك.
175
وفي قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لا يعلمون أنها كائنة، قاله مقاتل. والثاني:
لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا سبب نزولها.
(٥٩٩) أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري فتربح، وبالأرض التي تريد أن تُجدب، فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس.
وفي المراد بالنفع والضر قولان: أحدهما: أنه عامّ في جميع ما ينفع ويضر، قاله الجمهور.
والثاني: أن النفع: الهدى، والضَّر: الضلالة، قاله ابن جريج. قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي: إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي ومن هو على هذه الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟
قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيَّأت لسنة الجدب ما يكفيها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لو كنت أعلم متى أموت لا لاستكثرت من العمل الصالح، قاله مجاهد. والرابع: لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأَجبت عنه. وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: لم يلحقني تكذيب، قاله الزجاج. فأما الغيب، فهو كل ما غاب عنك. ويخرج في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العمل الصالح. والثاني: المال.
والثالث: الرزق.
قوله تعالى: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فيه أربعة اقوال: أحدها: أنه الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كل ما يسوء، قاله ابن زيد. والثالث: الجنون، قاله الحسن. والرابع: التكذيب، قاله الزجاج. فعلى قول الحسن، يكون هذا الكلام مبتدأ، والمعنى: وما بي من جنون إنما أنا نذير، وعلى باقي الأقوال يكون متعلّقا بما قبله.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩١]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني بالنفس: آدم، وبزوجها: حواء. ومعنى لِيَسْكُنَ إِلَيْها: ليأنس بها ويأتي إليها. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها. قال الزجاج: وهذا أحسن
لا أصل له، عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٦١ عن الكلبي مرسلا.
176
كناية عن الجماع. والحمل، بفتح الحاء: ما كان في بطن، أو أخرجتْه شجرة. والحمل، بكسر الحاء:
ما يُحمل. والمراد بالحمل الخفيف: الماء.
قوله تعالى: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرَّت به، قعدت وقامت ولم يُثقلها. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، والضحاك: «فاستمرت به» وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والجونيّ:
«فاستمارّت به» بزيادة ألف. وقرأ عبد الله بن عمرو، والجحدري: «فمارَّت به» بألف وتشديد الراء.
وقرأ أبو العالية، وأيوب، ويحيى بن يعمر: «فَمَرَتْ به» خفيفة الراء، أي: شكّت وتمارت أحملت، أم لا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ، أي: صار حملها ثقيلاً. وقال الأخفش: صارت ذا ثقل. يقال: أثمرنا، أي: صرنا ذوي ثمر.
قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً وفي المراد بالصالح قولان:
أحدهما: أنه الإنسان المشابه لهما، وخافا أن يكون بهيمة، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه الغلام، قاله الحسن، وقتادة.
(شرح السبب في دعائهما) (٦٠٠) ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء، فقال: ما يدريك ما في بطنكِ، لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج، أيشق بطنك، أم يخرج من فيك، أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك، فدعوا الله حينئذ، فجاء إبليس فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت الله، فجعله إنساناً مثلك ومثل آدم، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم. فلما ولدته سويَّاً، جاءها إبليس فقال: لم لا تُسمِّينه بي كما وعدتني، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فسمته: عبد الحارث، وقيل: عبد شمس برضى آدم، فذلك قوله تعالى:
ورد هذا السياق مرفوعا، وهو منكر جدا، بل هو باطل. أخرجه الترمذي ٣٠٧٧ والحاكم ٢/ ٥٤٥ والطبري ١٥٥٢٤ من حديث سمرة، وإسناده ضعيف، الحسن سمع من سمرة فقط حديث العقيقة، وباقي أحاديثه عنه أخذها عن بعض من سمع سمرة، وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وهو منكر الحديث وبخاصة في روايته عن قتادة. وقد خالفه غير واحد فرواه الطبري ١٥٥٢٥ و ١٥٥٢٦ موقوفا، وهو الصحيح. وقال الترمذي عقب الحديث: حسن غريب ورواه بعضهم فلم يرفعه، وصححه الحاكم! وسكت الذهبي! مع أنه عاد فذكره في «الميزان» ٦٠٤٢ في ترجمة عمر العبدي، وقال: صححه الحاكم وهو منكر كما ترى اه.
وورد موقوفا على ابن عباس أخرجه الطبري ١٥٥٢٧ و ١٥٥٢٨ وموقوفا على قتادة ١٥٥٣١ و ١٥٥٣٢، وموقوفا على عكرمة ١٥٥٣٠ وعلى مجاهد ١٥٥٣٣ وعلى سعيد بن جبير ١٥٥٣٤ و ١٥٥٣٥، وموقوفا على السدي ١٥٥٣٦ وهذا هو الصواب. وهو متلقى عن أهل الكتاب، ولا يصح مرفوعا البتة، والمتن في غاية النكارة، لا يصح نسبة الشرك إلى نبي الله آدم عليه السلام أبدا.
ومما يدل على بطلانه هو أن الحسن- وهو أحد رواته- فسر هذه الآية بخلاف هذا الحديث فقد أخرج الطبري ١٥٥٣٧ عن الحسن قال: كان ذلك في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم. و ١٥٥٣٨ عن معمر عن الحسن قال: عني بذلك ذرية آدم. و ١٥٥٣٩ عن قتادة عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى اه.
وهذه روايات صحيحة عن ثلاثة أثبات رووها عن الحسن فيدل هذا على أن الحديث المرفوع من أوهام عمر العبدي ومنكراته والراجح أن هذا الخبر من الإسرائيليات. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي.
177
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «١»، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «٢»، وقوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٣»، قال الشاعر:
تمزَّزْتُها والدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ إذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دنَوْا فتصوَّبُوا «٤»
وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب:
إذْ أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعُو بَعْضَ أُسْرَتِه لَدَى الصَّبَاحِ وَهُمْ قَوْمٌ مَعَازِيْلُ «٥»
لمّا جعله يدعو، جعل الدِّيَكَة قوماً، وجعلهم معازيل، وهم الذين لا سلاح معهم، وجعلهم أسرة وأسرة الرجل: رهطه وقومه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٢]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
قوله تعالى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يقول: إن الأصنام لا تستطيع نصر مَنْ عبدها، ولا تمنع من نفسها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٣]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الأصنام، فالمعنى: وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى سبيل رشاد لا يتبعوكم، لأنهم لا يعقلون. والثاني: أنها ترجع إلى الكفار، فالمعنى: وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى الهدى، لا يتَّبعوكم، فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء، لأنهم لا ينقادون إلى الحق. وقرأ نافع «لا يَتْبعوكم» بسكون التاء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٤ الى ١٩٦]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام عِبادٌ أَمْثالُكُمْ في أنهم مسخَّرون مذلَّلون لأمر الله. وإنما قال «عباد» وقال: فَادْعُوهُمْ، وإن كانت الأصنام جماداً، لما بيّنا عند قوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ.
قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي: فليجيبوكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنَّ لكم عندهم نفعاً وثواباً. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها في المصالح أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها في دفع ما يؤذي. وقرأ أبو
(١) سورة يوسف: ٤. [.....]
(٢) سورة النمل: ١٨.
(٣) سورة يس: ٤.
(٤) البيت منسوب إلى النابغة الجعدي في «اللسان» نعش. تمززتها: شربتها قليلا قليلا.
(٥) البيت في «المفضليات» : ١٤٣. والمعازيل: العزل في السلاح.
جعفر «يبطشون» بضمّ الطّاء ها هنا وفي (القصص) «١» و (الدخان) »
. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها المنافع من المضار أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها تضرعكم ودعاءكم؟ وفي هذا تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين، وتوبيخ لهم حيث عبدوا مَنْ هم أفضل منه. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ قال الحسن: كانوا يخوِّفونه بآلهتهم، فقال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ أنتم وهم فَلا تُنْظِرُونِ أي: لا تؤخِّروا ذلك. وكان ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي يقرءون «ثم كيدون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو، ونافع في رواية ابن حماد بالياء في الوصل. وروى ورش، وقالون، والمسيِّبي بغير ياء في الوصل، ولا وقف. فأما «تنظرون» فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي: ناصري الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وهو القرآن، أي: كما أيّدني بإنزال الكتاب ينصرني.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٧]
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ أي: لا يقدرون على منعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٨]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا في المراد بهؤلاء قولان: أحدهما: أنهم الأصنام.
ثم في قوله تعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ قولان: أحدهما: يواجهونك، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لأنه ليس فيهم أرواح. والثاني: وتراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن لهم أعيناً مصنوعة، فأسقط كاف التشبيه، كقوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
«٣» أي: كأنهم سكارى، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ في الحقيقة. وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنهم على هيئة بني آدم. والقول الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون بقلوبهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٩]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ العفو: الميسور، وقد سبق شرحه في سورة البقرة «٤». وفي الذي أُمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال: أحدها: أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد فيكون المعنى:
إقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء. والثاني: أنه المال، وفيه قولان: أحدهما: أن المراد بعفو المال: الزكاة، قاله مجاهد في رواية، والضّحّاك. والثاني: أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نُسخت بالزكاة، روي عن ابن عباس. والثالث: أن المراد به: مساهلة المشركين والعفو عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن زيد.
(١) سورة القصص: ١٩ قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ.
(٢) سورة الدخان: ١٦ قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ.
(٣) سورة الحج: ٢.
(٤) سورة البقرة: ٢١٩.
قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف. وفي قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قولان:
أحدهما: أنهم المشركون، أُمر بالإِعراض عنهم، ثم نُسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أنه عام فيمن جهل، أُمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم. وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم وطرفيها منسوخان على ما بيَّنا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠١]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ. قال ابن زيد:
(٦٠١) لما نزلت «خذ العفو» قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يا رب كيف بالغضب» ؟ فنزلت هذه الآية.
فأمّا قوله تعالى: وَإِمَّا فقد سبق بيانه في (البقرة) في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «١»، وقال أبو عبيدة: ومجاز الكلام: وإما تستخفَّنَّك منه خفة وغضب وَعَجَلة. وقال السدي: النزغ: الوسوسة وحديث النفس. قال الزجاج: النزغ: أدنى حركة تكون، تقول: قد نزغته: إذا حركته. وقد سبق معنى الاستعاذة.
قوله تعالى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «طيف» بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة: «طائف» بألف ممدوداً مهموزاً. وقرأ ابن عباس وابن جبير والجحدري والضحاك: «طَيِّفٌ» بتشديد الياء من غير ألف. وهل الطائف والطيف بمعنى واحد، أم يختلفان؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وهما ما كان كالخيال والشيء يُلم بك، حكي عن الفراء. وقال الأخفش: الطيف أكثر في كلام العرب من الطّائف، قال الشاعر:
ألا يا لقوم لِطَيْفِ الخَيال أرَّقَ مِنْ نَازِحٍ ذي دَلاَلِ «٢»
والثاني: أن الطائف: ما يطوف حول الشيء، والطيف: اللَّمة والوسوسة والخَطْرة، حكي عن أبي عمرو، وروي عن ابن عباس أنه قال: الطائف: اللَّمة من الشيطان، والطيف: الغضب. وقال ابن الأنباري: الطائف: الفاعل من الطيف والطيف عند أهل اللغة: اللَّمم من الشيطان وزعم مجاهد أنه الغضب.
قوله تعالى: تَذَكَّرُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: تذكَّروا الله إذا همُّوا بالمعاصي فتركوها، قاله مجاهد. والثاني: تفكَّروا فيما أوضح الله لهم من الحجة، قاله الزجاج. والثالث: تذكَّروا غضب الله
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٥٥٦٤ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا معضل، ومع ذلك ابن زيد ضعيف ليس بشيء، إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟!.
__________
(١) سورة البقرة: ٣٨.
(٢) البيت لأمية بن عائذ في شرح «أشعار الهذليين» ٢/ ٤٩٤. الطيف: ما جاء في المنام. الدلال: الشكل والهيئة الحسنة. النازح: البعيد. الأرق: أن يغمض عينه مرة ويفتحها أخرى.
والمعنى: إذا جرّأهم الشيطان على ما لا يحل، تذكَّروا غضب الله فأمسكوا، فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتّفكر.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٢]
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
قوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ في هذه الهاء والميم قولان:
أحدهما: أنها عائدة على المشركين فتكون هذه الآية مقدَّمة على التي قبلها، والتقدير: وأعرض عن الجاهلين، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قرأ نافع: «يمدونهم» بضم الياء وكسر الميم. والباقون: بفتح الياء وضم الميم. قال أبو علي: عامة ما جاء في التنزيل فيما يُحمَد ويُستَحب: أمددت، على أفعلت، كقوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ «١» أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ «٢» وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ «٣»، وما كان على خلافه يجيء على: مددت كقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ «٤» فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء، إلّا أنّ وجه قراءة نافع منزلة فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٥». قال المفسرون: «يمدونهم في الغي» أي: يزيِّنونه لهم، ويريدون منهم لزومه فيكون معنى الكلام: أن الذين اتَّقَوا إذا جرَّهم الشيطان إلى خطيئة، تابوا منها، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، وقد جرى ذكرهم لقوله تعالى: مِنَ الشَّيْطانِ فالمعنى: وإخوان الشياطين يَمدُّونهم.
والثاني: أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين فالمعنى: وإخوان المتقين من المشركين، وقيل: من الشياطين يمدونهم في الغي، أي: يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر، ذكر هذا القول جماعة منهم ابن الأنباري. فان قيل: كيف قال: «وإخوانهم» وليسوا على دينهم؟ فالجواب: أنا إن قلنا: إنهم المشركون، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النسب، أو في كونهم من بني آدم، أو لكونهم يظهرون النصح كالإخوان فإن قلنا: إنهم الشياطين، فجائز أن يكونوا لكونهم مصاحبين لهم، والقول الأول أصح.
قوله تعالى: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ وقرأ الزهري وابن أبي عبلة: «لا يقصِّرون» بالتشديد. قال الزجاج: يقال: أقصر يُقْصِر، وقصّر يقصِّر. قال ابن عباس: لا الإنس يقصِّرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين تُقصِر عنهم فعلى هذا يكون قوله تعالى: يُقْصِرُونَ من فعل الفريقين، وهذا على القول المشهور ويخرّج على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للإخوان فقط.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ يعني به المشركين. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: إذا لم تأتهم
(١) سورة النمل: ٣٦.
(٢) سورة المؤمنون: ٥٥.
(٣) سورة الطور: ٢٢.
(٤) سورة البقرة: ١٥. [.....]
(٥) سورة التوبة: ٣٤.
بآية، سألوها تعنتاً، قاله ابن السائب. والثاني: إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي، قاله مقاتل: وفي قوله:
لَوْلا اجْتَبَيْتَها قولان: أحدهما: هلاَّ افتعلتها من تلقاء نفسك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين، وحكي عن الفراء أنه قال: العرب تقول: اجتبيت الكلام، واختلقته، وارتجلته: إذا افتعلته من قبل نفسك. والثاني: هلاَّ طلبتها لنا قبل مسألتك؟ ذكره الماوردي والأول أصح.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي: ليس الأمر لي.
قوله تعالى: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن. قال أبو عبيدة: البصائر بمعنى الحجج والبرهان والبيان، واحدتها: بصيرة. وقال الزجاج: معنى البصائر: ظهور الشيء وبيانه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال.
(٦٠٢) أحدها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(٦٠٣) والثاني: أن المشركين كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
(٦٠٤) والثالث: أن فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم شيئاً، قرأ هو، فنزلت هذه الآية، قاله الزهري.
(٦٠٥) والرابع: أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فُرضت، فيجيء الرجل فيقول لصاحبه:
كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(٦٠٦) والخامس: أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة، روي عن عائشة، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار في آخرين.
لم أره مسندا، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
باطل. عزاه المصنف لابن المسيب، ولم أقف عليه، وهو باطل لا يصح عنه، فإن الخطاب في الآية للمؤمنين، وسياق الخبر يدل على أن الخطاب للمشركين!!!
ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٥٩٤ عن الزهري مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٦٥ عن الزهري مرسلا.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٦١٠ عن قتادة به، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٦٤ عن قتادة.
لم أره عن عائشة، وورد عن بعض التابعين، ولا يصح شيء من ذلك أخرجه الطبري ١٥٦٢٠ و ١٥٦٢١ عن مجاهد قوله. و ١٥٦٢٢ عن منصور قال: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهدا. وأخرجه الطبري ١٥٦٢٣ عن عطاء قال: وجب الصموت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي، وعند الإمام وهو يخطب. وكرره ١٥٦٢٤ و ١٥٦٢٦ عن مجاهد نحوه. وكرره ١٥٦٢٧ عن بقية بن الوليد قال سمعت ثابت بن عجلان يقول:

[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٥]

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ في هذا الذكر أربعة أقوال «١» : أحدها: أنه القراءة في الصلاة، قاله ابن عباس فعلى هذا، أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار. والثاني: أنه القراءة خلف الإمام سراً في نفسه، قاله قتادة. والثالث: أنه ذِكْرُ الله باللسان. والرابع: أنه ذِكر الله باستدامة الفكر، لا يغفل عن الله تعالى، ذكر القولين الماوردي.
وفي المخاطب بهذا الذِكر قولان: أحدهما: أنه المستمع للقرآن، إما في الصلاة، وإما من الخطيب، قاله ابن زيد. والثاني: أنه خطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ومعناه عام في جميع المكلفين.
قوله تعالى: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً التضرع: الخشوع في تواضع والخيفة: الحذر من عقابه.
قوله تعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ الجهر: الإِعلان بالشيء ورجل جهير الصوت: إذا كان صوته عالياً. وفي هذا نص على أنه الذِّكر باللسان ويحتمل وجهين: أحدهما: قراءة القرآن. والثاني:
الدعاء، وكلاهما مندوب إلى إخفائه، إلا أن صلاة الجهر قد بيّن أدبها في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها «٢». فأما الغدوُّ: فهو جمع غُدوة والآصال: جمع أُصُل، والأُصُل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع، والآصال: العشيات. وقال أبو عبيدة: هي ما بين العصر إلى المغرب وأنشد:
سمعت سعيد بن جبير يقول وكرره ١٥٦٢٩ عن عطاء نحوه.
لَعَمْري لأَنْتَ البيتُ أُكْرِمُ أهلَه وأقْعُدُ في أفيائه بالأصَائِل «٣»
وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالغدوّ: صلاة الفجر وبالآصال: صلاة العصر.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة. لا يَسْتَكْبِرُونَ أي: لا يتكبَّرون ويتعظَّمون
(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٣٥٣- ٣٥٤. الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ... : أي اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة وبالقول لا جهرا ولهذا قال وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرا بليغا. ولهذا لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فأنزل الله وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. وكذا قال في هذه الآية الكريمة وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله: أن المراد بهذه الآية السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به. ثم المراد بذلك في الصلاة، كما تقدم، أو الصلاة والخطبة. ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرا أو جهرا فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه. بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكون من الغافلين وبهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون فقال إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الآية. وإنما ذكرهم بهذا التشبيه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود ها هنا لما ذكر سجودهم لله عز وجل. وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.
(٢) سورة الإسراء: ١١٠.
(٣) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في «ديوانه» ١/ ١٤١.
184
عَنْ عِبادَتِهِ، وفي هذه العبادة قولان: أحدهما: الطّاعة. الثاني: الصّلاة والخضوع فيها. وفي قوله تعالى: وَيُسَبِّحُونَهُ قولان: أحدهما: ينزِّهونه عن السوء. والثاني: يقولون: سبحان الله. قوله تعالى:
وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي: يصلّون. وقيل: سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمُرنا؟
فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأنا، لا يتكبَّرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(٦٠٧) «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرتُ بالسّجود فعصيت فلي النّار».
حديث صحيح. أخرجه مسلم ٨١ وابن ماجة ١٠٥٢ وأحمد ٢/ ٤٤٣ وابن خزيمة ٥٤٩ وابن حبان ٢٧٥٩ والبغوي في «شرح السنة» ٦٥٤ من حديث أبي هريرة.
185
Icon