تفسير سورة الأعراف

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأعراف
أخرج أبو الشيخ ابن حبان عن قتادة، قال :" الأعراف مكية، إلا آية ﴿ واسألهم عن القرية ﴾ وقال : من هنا إلى ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ﴾ مدني ".
وآياتها مائتان وست آيات.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١)
المص تقدّم الكلام في أول سورة البقرة، على حروف فواتح السور، والمذاهب فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
كِتابٌ أي: هذا كتاب أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي: لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه. فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه، وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء، ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.
قال الناصر: ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: ١٢] الآية لِتُنْذِرَ بِهِ أي: بالكتاب المنزل، المشركين ليؤمنوا وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي عظة لهم. وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين.
وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل، وهو القرآن، والمراد ب ما أُنْزِلَ: القرآن والسنة.
وقوفا مع عمومه، لقوله سبحانه: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٣- ٤].
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به، لأنه من جملة ما أنزل الله، وقد أمرنا الله باتباعه- انتهى-.
وأقول: هذا غلوّ في الاستنباط، وتعمق بارد. ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار برصا.
وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي لا تتبعوا أولياء غيره تعالى، من الجن والإنس.
فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي ما تتعظون إلا قليلا، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تعالى، وتتبعون غيره. ثم حذرهم تعالى بأسه، إن لم يتبعوا المنزل إليهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤ الى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم فَجاءَها بَأْسُنا أي: فجاء أهلها عذابنا بَياتاً أي بائتين. كقوم لوط. والبيتوتة:
الدخول في الليل، أي ليلا قبل أن يصبحوا أَوْ هُمْ قائِلُونَ أي قائلين نصف النهار، كقوم شعيب. والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له. ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة. وكل ذلك وقت الغفلة. والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفيه وعيد وتخويف للكفار. كأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل، نزل دفعة واحدة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: ٩٧- ٩٨] ؟ ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي: المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما
أجابوا عنه رسلهم كما قال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: ٦٥]، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أي: عما أجيبوا به، كما قال سبحانه:
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: ١٠٩]. والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧]
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي: على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بِعِلْمٍ أي:
عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وَما كُنَّا غائِبِينَ أي: عنهم وعما وجد منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ أي: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، العدل. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي: حسناته في الميزان فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الناجون من السخط والعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩]
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي: حسناته في الميزان فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالعقوبة بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي: يكفرون.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.
وقال الإمام الغزالي في (المضنون) : تعلّق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء، كما قال تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: ٢٢]، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم
6
المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والأصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير حركات الأصوات. فالميزان الحقيقيّ، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها. فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان. وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات. والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.
الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.
قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس، كما
جاء في (الصحيح) «١»
«أنّ البقرة وءال عمران يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صوافّ».
ومن ذلك
في (الصحيح) «٢»
قصة القرآن، وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك.
وفي حديث البراء «٣»
في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شابّ حسن اللون، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.
فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [العنكبوت: ٥٤]، وقوله تعالى:
(١)
الحديث رواه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ٢٥٢ ونصه: عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه.
اقرؤا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيابتان. أو كأنهما فرقان من طير صواف. تحاجان عن أصحابهما. اقرؤا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة. ولا يستطيعها البطلة»

. (٢)
أخرجه ابن ماجة في: الأدب، ٥٢- باب ثواب القرآن، حديث ٣٧٨١ ونصه: عن بريدة قال: قال رسول الله ﷺ «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب، فيقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك».
(٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٨٧. [.....]
7
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠]. الآية- وكذا
قوله صلّى الله عليه وسلّم «١»
«في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»
. ولا بعد في ذلك.
ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.
وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة.
فقد أخرج أحمد «٢» والترمذي وصححه، وابن ماجة والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمر وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة. فينشر له تسعة وتسعون سجلّا، كل سجلّ منها مدّ البصر، فيقول:
أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب! فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا. يا رب فيقول: بلى. إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات؟ فيقال:
إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة»
.
وقيل: يوزن صاحب العمل، كما
في الحديث «٣» : يؤتى يوم القيامة بالرجل
(١)
أخرجه البخاري في: الأشربة، ٢٨- باب آنية الفضة، حديث ٢٢٣٣ ونصه: عن أم سلمة، زوج النبيّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»
. (٢)
أخرجه في المسند ٢/ ٢١٣، والحديث رقم ٦٩٩٤ ونصه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلّا. كل سجلّ مدّ البصر. ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال:
لا، يا رب. فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل. فيقول: لا، يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة. لا ظلم اليوم عليك.
فتخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله) فيقول: أحضروه فيقول:
يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. قال فتوضع السجلات في كفّة.
قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء باسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه الترمذي في: الإيمان، ١٧- باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، حدثنا سويد بن نصر.
وأخرجه ابن ماجة في: الزهد، ٣٥- باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، حديث ٤٣٠٠
. (٣)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ١٨- سورة الكهف، ٧- باب أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، حديث رقم ٢٠٢٣ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة»

.
8
السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. ثم قرأ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: ١٠٥].
وفي مناقب عبد الله بن مسعود، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتعجبون من دقة ساقيه؟
والذي نفسي بيده! لهما في الميزان أثقل من أحد»
«١».
قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار، بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة يوزن محلها، وتارة يوزن فاعلها. والله أعلم- انتهى.
قال أبو السعود: وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السوي، والحكم العادل. وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية. قالوا: إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء. ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك، لأنها أعراض قد فنيت. وعلى تقدير بقائها، لا تقبل الوزن- انتهى- وأصله للرازي.
قال في (العناية) : فمنهم من أوّل الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل، أو مقابلتها بجزائها. من قولهم: وازنه، إذا عادله. وهو إما كناية أو استعارة. بتشبيه ذلك بالوزن المتصف بالخفة والثقل، بمعنى الكثرة والقلة. والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف انتهى.
فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل.
قال في (فتح البيان) : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه. بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة لأحد. فهذا إذا لم تقبله عقولهم، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم: من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم، وقال كلّ ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم. وليتهم جاءوا
(١)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٤٢٠ والحديث رقم ٣٩٩١ ونصه: عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكا من الأراك. وكان دقيق الساقين. فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «مم تضحكون» ؟ قالوا: يا نبيّ الله، من دقة ساقيه. فقال «والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد»
.
9
بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها. بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم. يعرف هذا كل منصف. ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه. وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء: ٤٧]. وقوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ [المؤمنون: ١٠٢- ١٠٣]. وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] وقوله: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: ٨- ٩].
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّا مذكورة في كتب السنة المطهرة. وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما. فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه، مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق، والصباح يغني عن المصباح- انتهى.
وخلاصته، أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت، ولا تعذر هاهنا.
الثالث: إن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد؟ فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حكم:
منها- إظهار العدل، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده.
ومنها- امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى.
ومنها- تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة.
ومنها- إظهار علامة السعادة والشقاوة.
ونظيره، أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى. كذا في (اللباب).
وقال أبو السعود: إن قيل: إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور، فيكفيه حكمه تعالى بكيفات الأعمال وكمياتها. وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات
10
تلك الأعمال، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه، فما الفائدة في الوزن؟
أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح، وغير ذلك. وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته، ولا يخطر بباله خلاف ذلك- انتهى.
وقد سبقه إلى نحوه الرازي.
ولما أمر تعالى أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم، ونهاهم عن اتباع غيره، وبيّن لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة- ذكرهم فنون نعمه ترغيبا في اتباع أمره ونهيه، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ الكلام فيه كالذي في قوله قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ وقد مرّ قريبا. والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم، أي ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم، وترك متابعة من دوننا، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية. ثم بيّن تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه، وبيّن لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ
يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
هذا كقوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: ٢٨- ٢٩] وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق، كالتي قبلها، إعلام بكمال العناية بمضمونها.
قال أبو السعود: وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما، توفية لمقام الامتنان حقه، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم، بالرمز إلى أن لهم حظّا من خلقه عليه السلام وتصويره، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه، ومصنوع على شاكلته، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره. أي: خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه أبدع تصوير، وأحسن تقويم، سار إليكم جميعا- انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
قالَ سبحانه وتعالى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ أي أن تسجد كما وقع في سورة (ص). و (لا) مزيدة للتنبيه على أن الموبّخ عليه ترك السجود. ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه، كما في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: ٢٩]، كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك. وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة (لا) النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقا، بل إذا صحبت نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح، كما في غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وكما هنا، فإنها تؤكد تعلق المنع به- انتهى-.
وقيل (ما منعك) محمول على (ما حملك وما دعاك) مجازا أو تضمينا. وقال الراغب: المنع ضد العطية، وقد يقال في الحماية. والمعنى ما حماك عن عدم السجود. ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود، مع علمه به، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام. كما أوضحه قوله تعالى: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال ابن كثير. هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب- انتهى-.
وإنما قال هذا، ولم يقل (منعني كذا) مطابقة للسؤال. لأن في هذه الجملة
12
التي جاء بها مستأنفة، ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول، مع ما في طيّها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله.
فالجملة متضمنة للجواب بقياس استدلاليّ، وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمروذ. وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، لأنها جوهر نورانيّ، وهو ظلمانيّ، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى:
ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة. كما نبه عليه بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩] وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواصّ ليست لغيره. وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته، يشرف بفاعله وغايته وصورته، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه، فاستبان غلطه.
وفي (اللباب) أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق، وأخطأ طريق الصواب، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب. وهذا الذي حمله، مع سابقة شقائه، على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام، والاستخفاف بأمر ربه، فأورده ذلك العطب والهلاك. ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام، مع سابقة سعادته، إلى التوبة من خطيئته، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت «١» :«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم». رواه مسلم.
تنبيه:
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال: قاس إبليس وهو أول من قاس. وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.
(١) أخرجه مسلم في: الزهد والرقاق، حديث ٦٠.
13
قال الرازي: بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ خطاب عامّ يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، والأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدنى، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك. وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم، وما ذاك إلا لعدم جوازه. وأيضا ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر: وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فوصفه تعالى بكونه متكبرا، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبّر على الله. ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء. ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد مما نقله الواحديّ في (البسيط) عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس- هذا ما نقله الواحديّ في (البسيط) عن ابن عباس، وأفاده الرازي.
وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس. وعن مسروق قال: لا أقيس شيئا بشيء، فتزلّ قدمي بعد ثبوتها.
وعن الشعبيّ: إياكم والقياس، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال، ولأن أتغنى غنية، أحب إليّ من أن أقول في شيء برأيي. وقد ذكر الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله من هذا المعنى آثارا وافرة في (جامع بيان العلم وفضله) وقال: احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها. وقالوا في حديث معاذ: إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة. وتكلم داود في إسناد حديث معاذ وردّه ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ، ولم يسمّوا. قال الحافظ ابن عبد البر: وحديث معاذ صحيح مشهور، رواه الأئمة العدول، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول. ثم قال: وسائر الفقهاء وقالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس: إنه القياس على غير أصل، أو القياس الذي يردّ به أصل، والقول في دين الله بالظن. ألا ترى إلى قول من قال منهم: أول من قاس إبليس؟ لأن إبليس ردّ أصل العلم بالرأي الفاسد، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن. وإذا صحّ النص من الكتاب والأثر، بطل القياس وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
14
إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ- أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ...
[الأحزاب: ٣٦] الآية- وأيّ أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود، وهو العالم بما خلق منه آدم، وما خلق منه إبليس، ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء، فهذا ومثله لا يحلّ ولا يجوز. وأما القياس على الأصول، والحكم للشيء بحكم نظيره، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف، بل كل من روي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصا. لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل، مخالف للسلف في الأحكام.
وقال مسروق الوراق:
كنّا من الدين قبل اليوم في سعة... حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذ قلّت مكاسبهم... فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس
أما العريب فقوم لا عطاء لهم... وفي الموالي علامات المفاليس
فلقيه أبو حنيفة فقال: هجوتنا. نحن نرضيك. فبعث إليه بدراهم فقال:
إذا ما أهل مصر بادهونا... بآبدة من الفتيا لطيفه
أتيناهم بمقياس صحيح... صليب من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه به وعاه... وأثبته بحبر في صحيفة
قال ابن عبد البر: اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك الزمن، فقال:
إذا ذو الرأي خاصم عن قياس... وجاء ببدعة منه سخيفة
أتيناهم بقول الله فيها... وآثار مبرّزة شريفه
هكذا حكاه ابن عبد البر في (جامع فضل العلم). وله فيه في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل) مقالات سابغة جديرة بالمراجعة.
ومما ذكر فيه: أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة، وتجاوزوا الحدّ. قال:
والسبب الموجب لذلك، عندهم، إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما.
وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل النظر. وكان ردّه لما ردّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي:
15
وجلّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعيّ وأصحاب ابن مسعود. إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم. فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف. ثم قال: وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادعاء نسخ. إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليل. وعن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلّم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصا.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه: أنه روى عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم- أي الصحابة- على ترك العمل بالرأي والقياس، مطلقا فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس، فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها- انتهى-.
وقال ابن تيمية رحمه الله في فتوى أخرى: والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا. والقياس الصحيح نوعان:
أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير مؤثر في الشرع، كما
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم في الصحيح «١»
أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال:
ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم
. وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: إنه أيّ نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهرّ الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن. ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتى عنها أفتى فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك، خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه
(١)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٣٤- باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب، حديث ١٧٥ ونصه: عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنهم قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال «ألقوها وما حولها، وكلوه»
.
16
بالحكم. ومثل هذا أنه سئل عن رجل «١» أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمّخة بخلوق
فقال: انزع عنك الجبة الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك.
فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه، كان الحكم كذلك بالإجماع.
والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني، ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوّى بينهما، وكان هذا قياسا صحيحا. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يستعملونهما، وهما من باب فهم مراد الشارع.
فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ. وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك، لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك. وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص، منعنا القياس. كما أنا علمنا أن الحج خص به جهة الكعبة، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نفيس على المنصوص غيره. وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة، كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة، والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأمّ القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: ٣٧]. وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا:
(١)
أخرجه البخاري في: فضائل القرآن، ٢- باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، حديث ٨١٥ ونصه: عن صفوان بن يعلى بن أمية، أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله ﷺ حين ينزل عليه الوحي! فلما كان النبي ﷺ بالجعرانة، وعليه ثوب قد أظل عليه، ومعه ناس من أصحابه، إذ جاءه رجل متضمخ بطيب. فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي ﷺ ساعة. فجاءه الوحي. فأشار عمر إلى يعلى أن: تعال. فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة. ثم سري عنه فقال «أين الذي يسألني عن العمرة آنفا» ؟ فالتمس الرجل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك».
17
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: ٢٧٥]. وكذلك قياس «١» المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكّى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ قال تعالى وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: ١٢١]. فهذه الأقيسة الفاسدة، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه، فقياسه فاسد. وكل من سوّى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد. لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره.
فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل. ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل.
ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته، فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها. ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أفعال المكلفين. ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: ١٩٦]. واللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشورى:
١٧]، فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل، والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين. ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد. ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى. وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين
(١) أخرجه النسائيّ في: الضحايا، ٤٠- باب تأويل قول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، ونصه: عن ابن عباس في قوله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه. وما ذبحتم أنتم أكلتموه.
18
شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص. وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق، اتبعناها، ويقولون:
إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر. وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم. ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [التوبة: ٩٧] والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا- والله أعلم- انتهى كلامه رحمه الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
قالَ تعالى لإبليس فَاهْبِطْ مِنْها أي: بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي. وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها. قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى- انتهى- وعليه اقتصر المهايمي حيث قال: فاهبط منها أي:
من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي: فما يصح ولا يستقيم، فإنها مكان المطيعين الخاشعين فَاخْرُجْ تأكيد للأمر بالهبوط، متفرّع على علته إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أي: من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤)
قالَ أَنْظِرْنِي أي: أمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي: آدم وذريته من القبور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥]
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قالَ أي: الله له إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من المؤجلين إلى نفخة الصور
الثانية. قال ابن كثير: أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع. ولا معقب لحكمه.
وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشميّ اليمانيّ في تفسيره (التهذيب) : ومتى قيل: ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية.
ومتى قيل: هل خاطبه بهذا؟ قلنا: يحتمل ذاك، ويحتمل أنه أمر ملكا فخاطبه به.
ومتى قيل: هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ قلنا: فيه خلاف.
الأول: قيل لا، لأنه إكرام وتعظيم- عن أبي عليّ- ولذلك يقال: فلان مستجاب الدعوة، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع.
الثاني: يجوز إجابة دعائه استصلاحا له، لأنه تفضّل- عن أبي بكر أحمد بن عليّ- وليس بالوجه. ومتى قيل: إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية؟ قلنا: لا، لأنه لم يعلم ما الوقت المعلوم، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار، ولعنه- علم أنه لا يختار الإيمان أبدا. ومتى قيل: ما فائدة إنظاره؟ قلنا: لطف له، لأنه يمكنه من استدراك أمره. وهل يضل به أحد؟ قال أبو عليّ، لا، لقوله تعالى: ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ [الصافات: ١٦٢]، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: ١٦٣]. ولأنه لو ضل به، لكان بقاؤه مفسدة، فكان الله تعالى لا ينظره. فأما أبو هاشم فيجوّز أن يضل به أحد، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة، ويجوز أن يكون لطفا من وجوه: أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح، وكان ثوابه أكثر، ولأنه تعالى عرفنا عداوته، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوّه ويغمّه، وذلك إنما يكون بطاعة ربه، ومن أطاعه فمن قبل نفسه أتى، لا من قبل ربه.
انتهى كلام الجشمي، وهو جار على أصول المعتزلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي أضللتني عن الهدى، أو حكمت بغوايتي. والباء للقسم، كما في قوله تعالى: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: ٨٢]. أي: فأقسم بإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنى لام التعليل، أي: لأجل إغوائك إياي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي:
لآدم وبنيه ترصدا بهم، كما يقعد القطاع للطريق على السابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي: طريقك السويّ، وهو طريق الحق، ومعناه لا أفتر عن إفسادهم. وانتصابه على الظرفية أو على نزع الجارّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧]
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من جميع الجهات الأربع. مثّل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه، بإتيان العدوّ من الجهات الأربع التي يعتاد هجومه منها. ولذلك لم يذكر الفوق والتحت وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أي مستعملين لقواهم وجوارحهم، وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله. وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن، كقوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: ٢٠].
روى الإمام أحمد «١» عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول. قال: فعصاه فهاجر. قال: ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: هو جهاد النفس والمال. فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقّا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة».
وقال الحافظ: ورد في الحديث استعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها،
فروى الإمام أحمد «٢» وأبو داود «٣» والنسائي «٤» وابن ماجة «٥» وابن حبان
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٤٨٣.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٢٥، والحديث رقم ٤٧٨٥.
(٣) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١٠١- باب ما يقول إذا أصبح، حديث ٥٠٧٤.
(٤)
أخرج النسائي قوله (اللهم إني أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) في: الاستعاذة، ٦٠- باب الاستعاذة من الخسف
. (٥) أخرجه ابن ماجة في: الدعاء، ١٤- باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، حديث رقم ٣٨٧١.
والحاكم عن عبد الله بن عمر قال: «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي اللهم! إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم! احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». ورواه البزار عن ابن عباس
فائدة:
قال الجشمي: تدل الآية أنه سأل الإنظار، وأنه تعالى أنظره، وقد بينا ما قيل فيه. وتدل على شدة عداوته لبني آدم وحرصه على إضلالهم. وتدل على أن أكثر بني آدم غير شاكرين. وتدل على أن الإضلال فعل إبليس، والقبول عنه فعلهم، لذلك أضافه إليهم، وذمّهم عليه، ولو كان خلقا له لما صح ذلك. - انتهى- والكلام في أمثالها معروف.
ثم أكد تعالى على إبليس اللعنة والطرد والإبعاد عن محل الملأ الأعلى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً بالهمزة في القراءة المشهورة، من (ذأمه) إذا حقره وذمه، وقرئ (مذوما) بذال مضمومة وواو ساكنة، وهي تحتمل أن تكون مخففة من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، وأن تكون من المعتلّ، وكان قياسه (مذيم) كمبيع. إلا أنه أبدلت الواو من الياء، على حدّ قولهم (مكول) في مكيل، و (مشوب) في مشيب. مَدْحُوراً مقصيّا مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه، لتوطئة القسم. وجوابه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي: لمن أطاعك من الجن والإنس، لأملأن جهنم من كفاركم، كقوله تعالى: قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الإسراء: ٦٣].
قال الجشميّ: وإنما قال ذلك لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين، وكفار الإنس وفسّاقهم، الذين انقادوا له وتركوا أمر الله لأمره، فجمعهم في الخطاب. ومتى قيل: لم ضيّق جهنم ووسع الجنة؟ قلنا: لأن جهنم حبس، والجنة دار ملك. ومتى قيل: فما الفائدة في قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ قلنا: لطفا ليكون
المكلف تبعا للأنبياء دون الشياطين، ولطفا لإبليس وحزبه، لأنه غاية في الزجر والنهي.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على الوعيد لمن تبع إبليس، وأنه يملأ جهنم منهم، ولا بدّ فيه من شرط، وهو أن لا يتوب، أو لا يكون معه طاعة أعظم. وتدل على إذلال إبليس وطرده ولعنه بسبب عصيانه، تحذيرا عن مثل حاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
قوله تعالى: وَيا آدَمُ أي: وقلنا يا آدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ أي جنة الخلد، أو جنة في الأرض.
قال الجشمي: وقد تقدم ذكر هذه القصة، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة، والعوارض تعرض، والوفود تقدم، فكانت القصة تعاد، ليسمع من لم يسمع، استصلاحا ولطفا. لأن في إعادة قصة واحدة، في مواضع بألفاظ مختلفة، كل واحد منها في نهاية الحسن، من إعجاز القرآن. فَكُلا مِنْ حَيْثُ أي من كل مكان شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أي فتصير من الذين ظلموا أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي: إبليس بأكل الشجرة مخيلا لهما النفع لِيُبْدِيَ لَهُما أي: يظهر لهما ما وُورِيَ أي: ستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي: عوراتهما، واللام في لِيُبْدِيَ إما للعاقبة، لأنه لم يعلم صدوره منهما، أي: فكان عاقبة وسوسته أن أظهر سوآتهما، أو للتعليل والغرض، وهو الأصل فيها، بناء على حدسه أو علمه بطريق ما.
23
تنبيه:
في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه مستهجن في الطباع ولذلك سميت سوأة، لأنه يسوء صاحبها.
قال الحاكم: وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة، وأنه كان في شريعة آدم عليه السلام. قال القاضي: لا دليل في الآية على الوجوب، لأنه ليس فيها إلا أنهما فعلا ذلك. قال الأصم: في الآية دليل على أنهما كرها التعرّي، وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعرّي، وإن لم يكن مع المتعري أحد، إلا لحاجة.
وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا أي: إلّا كراهة أن تكونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي: من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.
وقد استدل بهذا من رأى تفضيل الملائكة على الأنبياء، لارتكابهما ذلك طمعا في نيل ما ذكر. وأجاب، من لم ير هذا، باحتمال أن تكون هذه الواقعة قبل نبوة آدم.
ولئن كانت بعدها، فلعل آدم رغب في الملكية للقوة والشدة والقدرة، أو لخلقة الذات، بأن يصير جوهرا نورانيّا- أشار له الرازي- وقال الناصر: لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل، أن يكون الأمر كذلك في علمه تعالى. ألا ترى إبليس قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخلدا أو لا يكونا ملكين، وهو في ذلك كاذب مبطل فلا دليل فيه إذا، وليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك، ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرّهما، إذ قال الله تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فلعل تفضيل الملائكة على النبوة من جملة غروره- انتهى-.
قال السيوطي في (الإكليل) : وأنا أقول: لا أزال أتعجب ممن أخذ يستدل من هذه الآية. والكلام الذي فيها، حكاه الله تعالى عن قول إبليس في معرض المناداة عليه بالكذب والغرور والزور والتدليس. وإنما يستدل من كلامه تعالى، أو من كلام حكاه عن بعض أنبيائه. وإن لم يكن ذلك، فكلام حكاه راضيا به مقرّا له- انتهى.
على أنه قرئ (ملكين) بكسر اللام، كان يقرؤها كذلك ابن عباس ويحيى بن أبي كثير. قال الواحديّ إنما أتاهما إبليس من جهة الملك. ويدل على هذا قوله تعالى هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: ١٢٠]- انتهى-.
24
والقراءة الشاذة قد تكون تفسيرا للمتواترة، كما لا يخفى، وبه يندفع ما للرازي هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢١]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
وَقاسَمَهُما أي أقسم لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي: في هذا الأمر.
قال ابن كثير: أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله- انتهى-.
وعن قتادة: إنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة، أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك! فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٢]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي: أطمعهما. وأصله: الرجل العطشان يدلّي في البئر ليروى من مائها، فلا يجد فيها ماء، فيكون مدلّيا فيها بغرور، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا. وفيه إشعار بأنه أهبطهما بذلك من درجة عالية، إلى رتبة سافلة. فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. وقيل: معنى دلاهما جرأهما بغروره، والأصل فيه (دللهما)، والدلّ والدالة الجرأة كما قال:
أظنّ الحلم دلّ عليّ قومي وقد يستجهل الرّجل الحليم
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء:
فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي: أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما اللباس، فظهرت لهما عوراتهما. قال السيوطي في (الإكليل) : استدل به بعضهم على أن من ذاق الخمر عصى- انتهى- وهذا وقوف مع ظاهر ما هاهنا، فإن الذوق وجود الطعم بالفم، وظاهر أنه قد يعبر به عن الأكل اليسير، وهو المراد هنا، لأنه وقع في آية أخرى مصرحا بالأكل فيها وَطَفِقا يَخْصِفانِ أي: أخذا يرقعان
ويلزقان ورقة فوق ورقة عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي: ليستترا به.
قال الجشمي: تدل على أن ستر العورة كان من شريعة آدم عليه السّلام. وقد استدل قوم بالآية على وجوب الستر. قال القاضي: وليس في الآية ما يوجب الوجوب، إذا ليس فيها أكثر من أنهما فعلا ذلك. قال الأصم: وتدل على أن الستر من خلق آدم وحواء، وأنهما كرها العريّ وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعرّي إلا عند الحاجة.
وَناداهُما رَبُّهُما أي يذكرهما النهي السابق والأمر والتجنب عن الشيطان أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي: عن الأكل منها وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٣]
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي أضررناها بالمعصية وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا أي ما سلف وَتَرْحَمْنا أي بالتوبة وقبولها لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات. قال الضحاك بن مزاحم في قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا... الآية- هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
لطيفة:
قال الجشمي: يقال إن آدم عليه السّلام سعد بخمسة أشياء: اعترف بالذنب، وندم عليه، ولام نفسه، وسارع إلى التوبة، ولم يقنط من الرحمة، وشقي إبليس بخمسة أشياء: لم يقر بالذنب، ولم يندم، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب، وقنط من الرحمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٤]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
قالَ اهْبِطُوا أي من الجنة إلى ما عداها. وقال أبو مسلم: معناه اذهبوا. وهو خطاب لآدم وحواء وإبليس. قال ابن كثير: والعمدة في العداوة آدم وإبليس، ولهذا قال في سورة طه: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً... [طه: ١٢٣] الآية- وحواء تبع لآدم، والحية إن كان ذكرها صحيحا فهي تبع لإبليس. وقد ذكر المفسرون الأماكن
التي هبط فيها كل منهم. ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة، تعود على المكلفين، في أمر دينهم أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه، أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم- انتهى- بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار. وَمَتاعٌ أي تمتع ومعيشة إِلى حِينٍ أي: إلى تقضّي آجالكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٥]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
قالَ فِيها أي الأرض تَحْيَوْنَ تعيشون وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ أي: يوم القيامة للجزاء، كقوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: ٥٥]، ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئة الدار والمستقر في الأرض، وكسوتهم لباسا يسترون به سوءاتهم، بعد ما نزع عنهما لباس الجنة، وذلك لما هم بعد الإهباط، من الحاجة إلى اللباس والمعاش. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٦]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يعني ما يلبس من الثياب وغيره.
قال الزمخشري: جعل ما في الأرض منزلا من السماء، لأنه قضى ثمة وكتب، أي قضى وقسم لكم، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح المحفوظ.
وقال أبو البقاء: لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر، والمطر ينزل، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب- انتهى-.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول: لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة، فإن اللباس ينزل من ظهور الأنعام، فامتن سبحانه بما ينتفعون به من الأنعام في اللباس والأثاث، وهذا- والله أعلم- معنى إنزاله، فإنه ينزله من ظهور الأنعام، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش، فقد أنزلها عليهم، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب، فهي لدفع الحر والبرد، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان.
27
يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق، وأنتم مستغنون عن ذلك وَرِيشاً عطفه إما من عطف الصفات، فوصف اللباس بشيئين: مواراة السوأة، والزينة. فالريش بمعنى الزينة، لأنه زينة الطير فاستعير منه، وأما من عطف الشيء على غيره. أي أنزلنا لباسين: لباس مواراة ولباس زينة، فيكون مما حذف فيه الموصوف، أي لباسا ريشا أي ذا ريش، والريش مشترك بين الاسم والمصدر. وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وحكاه البخاري «١» عنه: الريش المال. وحكاه غير واحد من السلف. قال الإمام ابن تيمية: وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال، والمراد به مال مخصوص.
قال ابن زيد: جمالا. وقرئ: رياشا. قال ابن السكيت: الرياش هو الأثاث من المتاع، ما كان من لباس أو حشو من فراش أو دثار، والريش: المتاع والأموال، وقد يكون في الثياب دون الأموال. وإنه لحسن الريش، أي: الثياب- انتهى-.
ويقال: راش فلان، أي جمع الريش، وهو المال والأثاث. وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه، وأصله من الريش كأن الفقير المملق لا نهوض له، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيرا، فقد رشته- كذا في تاج العروس-.
فائدة:
روى الإمام أحمد «٢» عن أبي أمامة عن عمر بن الخطاب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من استجدّ ثوبا فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به، كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله، وفي كنف الله حيّا وميتا». ورواه الترمذي «٣» وابن ماجة «٤».
وروى الإمام أحمد «٥» عن أبي مطر أنه رأى عليّا رضي الله عنه أتى
(١) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، ١- باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته ونصه: قال ابن عباس: لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ: إلا عليها حافظ. كبد: في شدة خلق. ورياشا. (وريشا) : المال.
وفي: التفسير، ٧- سورة الأعراف. ونصه: قال ابن عباس: ورياشا، المال. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٤٤، والحديث رقم ٣٠٥.
(٣)
أخرجه الترمذي في: اللباس، ٢٩- باب ما يقول إذا لبس ثوبا جديدا ونصه: عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا استجد ثوبا سماه باسمه (عمامة أو قميصا أو رداء) ثم يقول «اللهم! لك الحمد. أنت كسوتنيه. أسألك خيره وخير ما صنع له. وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له».
قال: وفي الباب عن عمر وابن عمر.
(٤) أخرجه ابن ماجة في: اللباس، ٢- باب ما يقول الرجل إذا لبس ثوبا جديدا، حديث رقم ٣٥٥٧ ونصه كنص المسند.
(٥) أخرجه في المسند ١/ ١٥٧، والحديث رقم ١٣٥٤.
28
غلاما حدثا، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هذا شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الكسوة: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي.
ولما بيّن تعالى ساتر الظاهر وزينته، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله:
وَلِباسُ التَّقْوى أي: خشية الله، أو الإيمان، أو السمت الحسن، والكل متقارب، ورفعة بالابتداء، خبره جملة ذلِكَ خَيْرٌ أو خير، وذلك صفته، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.
قال المهايمي: لأن الظاهر محل نظر الخلق، والباطن محل نظر الحق والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة. وقال القاشانيّ: لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع، لأنه أصل الدين وأساسه، كالحمية في العلاج- انتهى-.
قال أبو علي الفارسي: معنى الآية: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به. قال:
وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف إلى الجوع في قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: ١١٢]. - انتهى-.
أي: فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس، تشتمل على جميع بدنه، بحسب الورع والخشية من الله، اشتمال اللباس على اللابس، أو من قبيل (لجين الماء). وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وَلِباسُ التَّقْوى بالنصب، عطفا على لِباساً.
ذلِكَ أي إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها.
قال الزمخشري: وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوآت، وخصف الأوراق عليها، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري، وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
29
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدّها. وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة. وقال آخرون: لا تدل، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به، فأما أنه واجب، فبعيد. ولو ثبت وجوبه عليه، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف. وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى. وتدل على أنه تعالى كما أنعم بنعم الدنيا، أنعم بنعم الدين، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب، فتحصل نعمة الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يخدعنكم عن دخول الجنة، بنزع لباس الشريعة والتقوى عنكم، فيخرجكم من نظر الله بالرحمة إليكم كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ نعت لمصدر محذوف، أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما أي الظاهر بسبب نزع لباس التقوى لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي الظاهرة الدالة على السوأة الباطنة. وجملة (ينزع) حال من (أبويكم) أو من فاعل (أخرج)، أي: أخرجهما نازعا لباسهما، بأن كان سببا في أن نزغ عنهما وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.
تنبيهان:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بهذه الآية أيضا على وجوب ستر العورة، واستدل بالآيتين من قال: إن العورة هي السوأتان خاصة- انتهى-.
الثاني- قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم، وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاده من قبول وسوسة الشيطان، فقال: يا بَنِي آدَمَ... الآية- وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده، ولطف
30
وسوسته، وشدة اهتمامه، إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة- فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى. فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسته.
وقوله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ أي: جنوده من الشياطين مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي من مكان لا ترونهم فيه. والجملة استئناف لتعليل النهي، وتأكيد التحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدوّ المداجي، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. عن مالك بن دينار: إن عدوّا يراك ولا تراه، لشديد المؤنة، إلا من عصم الله.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : قال ابن الفرس: استدل بها بعضهم على أن الجن لا يرون وأن من قال إنهم يرون فهو كافر- انتهى- ومراده بالبعض، المعتزلة، ولذا قال الزمخشري: فيه دليل بيّن أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة- انتهى- وقال الجشميّ: تدل على بطلان قول العامة إن الشيطان يتصور لنا ونراه. ثم قال: ومتى قيل: أليس يرون زمن الأنبياء، ويرى المعاين الملك؟ فجوابنا: أنه يزداد قوة الشعاع، أو تتكاثف أبدانهم، فيكون معجزة للنبي- انتهى-.
وأجاب أهل السنة كما في (العناية) : بأنه قد ثبتت رؤيتهم، بالأحاديث الصحيحة المشهورة، وهي لا تعارض ما في الآية. لأن المنفي فيها رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا.
وقال في فتح البيان: وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبدا، فإن انتفاء الرؤية منّا له، وفي وقت رؤيته لنا، لا يستلزم انتفاءها مطلقا. والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتكون الآية مخصوصة بها، فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض- انتهى-.
وقد أوضح الغزالي رحمه الله رؤيا الجن والشياطين برؤيا الملائكة حيث قال في (الركن الثاني) : الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة
31
بالحقائق اختلافا يكون بين الأنواع. ثم قال: ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر- أعني جواهر الملائكة- وإن كانت غير محسوسة. وهذه المشاهدة على ضربين: إما على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: ١٧]. وكما كان النبيّ عليه الصلاة والسلام «١»، يرى جبريل في صورة دحية الكلبي.
والقسم الثاني أن يكون لبعض الملائكة بدن مخصوص، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها، فكذلك بعض الملائكة، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفا على إشراق نور النبوة، كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوفة عند الإدراك على إشراق نور الشمس، وكذا في الجن والشياطين- انتهى-.
وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج: يعني سلطناهم عليهم، يزيدون في غيهم- انتهى- والجملة تعليل آخر للنهي، وفيه تحذير أبلغ من الأول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٨]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي: ما تناهى قبحه من الذنوب، كالشرك وكشف العورة في الطواف قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها أي؟ إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها، فاقتدوا بهم، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها، حيث أقرنا عليها،
(١)
أخرجه في المسند ٢/ ١٠٧، والحديث رقم ٥٨٥٦ و ٥٨٥٧ ونصهما: عن يحيى بن يعمر.
قلت لابن عمر: إن عندنا رجالا يزعمون أن الأمر بأيديهم، فإن شاءوا عملوا وإن شاءوا لم يعملوا؟
فقال: أخبرهم أني منهم برىء. وأنهم مني براء. ثم قال: جاء جبريل صلّى الله عليه وسلّم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ فقال «تعبد الله لا تشرك به شيئا. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال «نعم» قال: صدقت. فما الإحسان؟ قال:
«تخشى الله تعالى كأنك تراه، فإلّا تكن تراه فإنه يراك» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال «نعم» قال: صدقت. قال: فما الإيمان؟ قال «تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث من بعد الموت والجنة والنار والقدر كله» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال «نعم» قال: صدقت.
وعن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مثله. قال: وكان جبريل عليه السلام يأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية.
32
إذ لو كرهها لنقلنا عنها، وهما باطلان، لأن أحدهما تقليد للجهال، والتقليد ليس بطريق للعلم، والثاني افتراء على ذي الجلال.
قال الشهاب: في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَمَرَنا: مضاف مقدر، أي أمر آباءنا، فلا يقال الظاهر أمرهم بها، والعدول عن الظاهر إشارة إلى ادعاء أنّ أمر آباءهم أمر لهم.
قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي: هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك، لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ إنكار لإضافتهم الأمر بالفحشاء إليه سبحانه، يتضمن النهي عن الافتراء عليه تعالى، وفيه شهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط. قال الشهاب: ولا دليل في الآية لمن نفى القياس، بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم، لأنه مخصوص في عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به، أو بدليل آخر.
تنبيه:
قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قبلها النّسعة أو الشيء وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه... وما بدا منه فلا أحلّه
فأنزل الله وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية- قال ابن كثير: كانت العرب، ما عدا قريشا، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها.
وكانت قريش- وهم الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسيّ ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه، فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسيّ ثوبا، طاف عريانا، وربما كانت امرأة، فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر، فتقول: اليوم يبدو... - البيت- وأكثر ما كان النساء يطفن بالليل، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر تعالى عليهم ذلك.
وذكر السيوطي في (الإكليل) عن ابن عباس أيضا، أنه نزلت في طوافهم بالبيت عراة، رواه أبو الشيخ وغيره. قال: ففيها وجوب ستر العورة في الطواف.
33
تنبيهان:
الأول: ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة مدلول الأمر، ولازمة له، والفحشاء- أعني الشرور والمعاصي- غير مأمور بها بنص الآية. فلا تكون مرادة له تعالى.
وأجاب أهل السنة بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة، بمعنى أنه يوجد بدون الإرادة، فلا تكون الإرادة تابعة له وجودا، ومما يوضح أن الشيء قد يؤمر به ولا يكون مرادا، أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده، يأمره بالشيء ولا يريده منه. ومنها أن الأمر أمران: أمر تكويني يحصل به وجود الأشياء، وهو خطاب (كن) وهو تابع للإرادة، ويعم جميع الكائنات. فالطاعات والمعاصي كلها مأمورة ومرادة بهذا الأمر، ولا يتعلق بهذا الأمر الطاعة والعصيان والثواب والعقاب. لأنه يتعلق بالأشياء حال العدم.
وأمر تشريعيّ تدوينيّ: أي شرعه الله لعباده، وكلفهم به، مما دون في كتب الشريعة وبيّن، وهذا الأمر يتعلق به الطاعة والعصيان والثواب والعقاب والرضا والسخط. والكفر والمعاصي ليست مأمورة بهذا الأمر. والمعتزلة لم يفرقوا بين الأمرين، وقالوا: إن الكفر والمعاصي لو كانت مراده تعالى، لكانت مأمورا بها، وإتيان المأمور به طاعة، فيكون الكافر والفاسق مطيعين، فإنهما مأمور بهما بالأمر الأول، وليس مأمورا بهما بالأمر الثاني، حتى يكون إتيانهما طاعة.
قال السيلكوتيّ: ولا يخفى عليك أن تقسيم الأمر إلى أمرين، إنما يستقيم إذا كان قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] على ظاهره، كما ذهب إليه البعض. وأما إذا كان عبارة عن الإيجاد من غير أن يتعلق بها خطاب، كما ذهب إليه الأشعريّ ومن تبعه، فلا. انتهى- والمسألة مبسوطة في محالها المعروفة.
الثاني: قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ جواب عن شبهتهم الثانية.
ولم يذكر جوابا عن الأولى. قال الإمام: لأنها إشارة إلى محض التقليد. وقد تقرر في المعقول أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة. فلو كان التقليد حقّا، لزم القول بحقية الأديان المتناقضة. فلما كان فساده ظاهرا، لم يذكره تعالى.
الثالث: قال في (فتح البيان) : في هذه الآية الشريفة أعظم زاجر، وأبلغ واعظ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر، لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى
34
آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ
[الزخرف: ٢٣]، والقائلون: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها.
والمقلد، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق- لم يبق عليه. وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهوديّ على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته. فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي. وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص. ثم قال: وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء الرجال، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم- انتهى-.
ولما نفى ما تقوّلوه عليه، وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء، بيّن ما أمر به بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٩]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: بالعدل. وللسلف فيه هنا وجوه: ما ظهر في العقول كونه حسنا، أو التوحيد، أو كلمة الإخلاص. وعن أبي مسلم: جميع الطاعات. قال الحاكم: وهو الوجه: ولا يخفى أن الجميع مما يشمله (القسط) فلا منافاة. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ معطوف على الأمر الذي ينحلّ إليه المصدر مع (أن). أي: بأن أقسطوا وأقيموا، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، كما نقله المعرب. أو معطوف على أَمَرَ رَبِّي أي: قل أقيموا. قال الجرجانيّ: الأمر معطوف على الخبر، لأن المقصود لفظه، أو لأنه إنشاء معنى.
انتهى- و (الوجوه) مجاز عن الذوات. ومسجد إما مصدر، والوقت مقدر قبله، و (عند) بمعنى (في). أي: أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية، أو باستقبال القبلة فيه.
وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، أي في كل وقت سجود أو مكانه. والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة، أو المسجد هو المصطلح عليه. والمعنى: في أيّ
مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. والأمر على هذا الوجه للندب. قيل: وهو لا يناسب المقام. وإما على ما قبله، فهو للوجوب.
وهذه الوجود مستفادة مما روي عن السلف. قال في (اللباب) : معنى الآية في قول مجاهد والسدّيّ: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك: المعنى إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلّوا فيه، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي، أو مسجد قومي. وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا.
وَادْعُوهُ أي: اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة بتخصيصها له، لأنه استحق عبادتكم بإبدائه إياكم، ولا يسعكم تركها، إذ إليه عودكم بالآخرة، فإنه كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي: كما أنشأكم ابتداء، يعيدكم إليه أحياء، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. وإنما شبه الإعادة بالابتداء، تقريرا لإمكانها والقدرة عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٠]
فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
فَرِيقاً هَدى بأن وفقهم للإيمان وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وهم الكافرون إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أي: أنصارا وأربابا مِنْ دُونِ اللَّهِ حيث أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي: أنهم على هداية وحق فيما اعتقدوا.
تنبيهان:
الأول: قال ابن جرير: قوله تعالى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل، وهو يحسب أنه مهتد، وفريق الهدى- فرق. وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية- انتهى-.
وحاصله، كما قال القاضي: إن الآية دلت على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم. قال القاضي: وللفارق أن يحمله على المقصر في. النظر،
أي: يحمل الضمير في اتَّخَذُوا على الكافر المقصر في النظر. وأما الذين اجتهدوا وبذلوا الوسع فمعذورون، كما هو مذهب البعض- كذا في (العناية).
الثاني: قال الرازي: هذه الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين. ولولا أن هذا الحسبان مذموم، لما ذمهم بذلك. انتهى.
قال المهايمي: ومما حسبوا فيه أنهم مهتدون بمتابعة الشيطان، تركهم التزين والتلذذ مع العبادة، فطافوا عراة. وتركهم اللحم والدسم مع الإحرام، فقال عز وجل:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي: من اللباس عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي: بيت بني للعبادة، على أنه اسم مكان، أو مصدر بمعنى السجود، مرادا به الصلاة والعبادة. فإن العبادة أولى أوقات التزين وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أيام الحج تقوّيا على العبادة وَلا تُسْرِفُوا أي: إسرافا يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المعتدين.
تنبيهات:
الأول- كنا أسلفنا في مقدمة هذا التفسير، أن من فوائد معرفة سبب النزول الوقوف على المعنى، وإزالة الإشكال. وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا، لأنها نزلت في ذلك.
فقد روى مسلم «١» عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها وتقول: فنزلت هذه الآية خُذُوا زِينَتَكُمْ... الآية. ونزلت قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ... الآية.
اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه
(١) أخرجه مسلم في: التفسير، حديث ٢٥.
37
وعند ابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه... فما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت خُذُوا زِينَتَكُمْ. قال في (اللباب) : وفي رواية أخرى عنه: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرّوا. وروى العوفيّ عن ابن عباس أيضا في الآية قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة، والزينة اللباس، وهو ما يواري السوأة، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد. وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أمروا بلبس الثياب، وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة من الزينة. وقال مجاهد: كان حيّ من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجّا أو معتمرا يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فيقول: من يعيرني مئزرا؟ فإن قدر عليه وإلّا طاف عريانا. فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: خُذُوا زِينَتَكُمْ... الآية.
وقال الزهري: إن العرب كنت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس- وهم قريش وأحلافهم- فمن جاء من غير الحمس، وضع ثيابه، وطاف في ثوب أحمسيّ، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه. فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه، ويطوف عريانا. وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، إذا قضى طوافه وحرّمها، أي جعلها حراما عليه، فلذلك قال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم، ولو عباءة- انتهى- قال ابن كثير: هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير وقتادة والسدّى، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة- انتهى- فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بيّنه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه، لأن المستفاد من خُذُوا هو وجوب الأخذ، ولباس التجمل مسنون- قاله الشهاب- وأقول دلّت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص، لغة، بالجيّد من اللباس كما توهم. وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه.
وفي (التهذيب) : الزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به. ومثله في (الصحاح) و (القاموس) وعبارته: الزينة ما يتزين به.
وقال الحراني: الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة.
38
وقال الراغب: الزينة الحقيقة ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، ولا في الدنيا ولا في الآخرة- انتهى-.
وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد ب (الزينة) لبس الثياب التي تستر العورة.
قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات. قال: وأيضا إنه تعالى قال في الآية المتقدمة قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة. ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية. فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية.
وأيضا فقوله خُذُوا زِينَتَكُمْ أمر، والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان، ولا يقال: إن قوله وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة، فيكون المعطوف عليه كذلك، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف، تركه في المعطوف عليه.
هذا،
وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعا: أنها نزلت في الصلاة في النعال. وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه، وعن أبي هريرة مثله.
قال ابن كثير: وفي صحته نظر- والله أعلم- قلت: لا نظر، لأن ذلك مما تشمله الزينة، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم: (نزلت في كذا) لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به، بل مخصوصة بنوعه، فتعم ما أشبهه، فتذكّر.
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جدّا، منها:
عن أبي مسلمة «١» سعيد بن يزيد، قال: سألت أنسا: أكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلي في نعليه؟ قال: نعم
(متفق عليه). قال العراقيّ في (شرح الترمذي) : وممن كان يفعل ذلك- يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي، ومن التابعين: سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار وعطاء ابن أبي رباح ومجاهد وطاوس وشريح القاضي وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعيّ وإبراهيم التيميّ وعليّ بن الحسين وابنه أبو جعفر. انتهى.
وقد أخرج أبو داود «٢» من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا
(١) أخرجه البخاريّ في: الصلاة، ١٤- باب الصلاة في النعال حديث رقم ٢٥٦.
(٢)
أخرجه أبو داود في: الصلاة، ٨٨- باب الصلاة في النعل، حديث ٦٥٠ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره.
39
جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما».
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي حافيا ومنتعلا. أخرجه أبو داود «١» وابن ماجة «٢».
الثاني: دلّت الآية على وجوب الستر عند الطواف، لأنه سبب النزول، قالوا:
واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد.
الثالث: حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال: لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة، فهم منها، في الجملة، حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها. قال الكيا الهراسي: ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد للفضل الذي يتعلق به تعظيما للمسجد والفعل الواقع فيه. مثل الاعتكاف والصلاة والطواف. وقال ابن الفرس: استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية. واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين. كذا في (الإكليل). والأخير من الغلوّ في النزع. وقال ابن كثير: ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد. والطيب لأنه من الزينة. والسواك لأنه من تمام ذلك. ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد «٣» وأبو داود «٤»
والترمذي «٥» عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم. وإن من خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر»
ولأحمد «٦» وأهل السنن، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم».
فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم.
فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته قال «ما حملكم على إلقائكم نعالكم» ؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن جبريل صلّى الله عليه وسلّم، أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا» وقال «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر. فإن رأى في نعليه قذرا أو أذي، فليمسحه وليصلّ فيهما»
. (١) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ٨٨- باب الصلاة في النعل، حديث ٦٥٣.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، ٦٦- باب الصلاة في النعال، حديث ١٠٣٨.
(٣) أخرجه في المسند ١/ ٢٤٧، والحديث رقم ٢٢١٩.
(٤) أخرجه أبو داود في: الطب، ١٤- باب في الأمر بالكحل، حديث ٣٨٧٨.
(٥) أخرجه الترمذي في: الجنائز، ١٨- باب ما يستحب من الأكفان. [.....]
(٦) أخرجه في المسند ٥/ ١٣.
40
وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميما الداري اشترى رداء بألف، وكان يصلي فيه.
الرابع: وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ما رواه الكلبي أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله. فأنزل الله عز وجل وَكُلُوا وَاشْرَبُوا. وقال السدّي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرّمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم. فقال الله تعالى لهم: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا... الآية.
الخامس: فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحلّ، وذلك بتحريمه، وقال الجشمي اليمني في تفسيره (التهذيب) : تدل الآية على المنع من الإسراف. وذلك على وجهين:
أولهما: إنفاق في معصية كالفخار واللعب والزنى والخمر ونحوها. وثانيهما:
أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار. لأن من له قدر يسير، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز، وهو وعياله يحتاجون إليه، فهو سرف محرم.
ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفا وتدل على أن الأشياء على الإباحة.
والعقل يدل على ذلك. لأنه تعالى خلقه لمنافعهم. والسمع ورد مؤكدا. ولذلك قال: مَنْ حَرَّمَ مطالبا بدليل سمعي.
وقد روى الإمام أحمد «١» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده». وأخرج النسائي «٢» وابن ماجة «٣» نحوه.
وقال البخاري «٤» : قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة. ورواه ابن جرير عنه أيضا بلفظ: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. قال الشهاب: هذا (أي ما قاله ابن عباس) لا ينافي ما ذكره
(١) أخرجه في المسند ٢/ ١٨١، الحديث رقم ٦٦٩٥.
(٢) أخرجه النسائيّ في: الزكاة، ٦٦- باب الاختيال في الصدقة.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: اللباس، ٢٣- باب البس ما شئت، ما أخطأك سرف أو مخيلة، حديث رقم ٣٦٠٥.
(٤) أخرجه البخاري في: اللباس، ١- باب قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ.
41
الثعالبيّ وغيره من الأدباء، أن ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس، كما قيل:
نصيحة نصيحة... قالت بها الأكياس
كل ما اشتهيت والبس... نّ ما اشتهته الناس
فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. و (المخيلة:
الكبر). و (ما) دوامية زمانية. و (أخطأتك) من قولهم: أخطأ فلان كذا، إذا عدمه.
وفي الأساس: من المجاز لن يخطئك ما كتب لك، وأخطأ المطر الأرض: لم يصبها، وتخاطأته النبل: تجاوزته وتخطّأته. انتهى.
وفي قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء. لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه.
السادس- تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الآية- جمع الطب كله. وأصله ما
حكاه الزمخشري والكرماني في عجائبه، أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب! فقال: قد جمع رسولنا صلّى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله:
المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأعط كل بدن ما عودته. فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا.
قال في (العناية) : وترك بعضهم تمام القصة، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاما للمحدثين.
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة، صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة، صدرت العروق بالسقم»
. - انتهى-.
أقول: إن صحت هذه الحكاية، فصواب جواب النصرانيّ في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبيّ قط. وللمحدّثين، في عهد السلف، منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم. وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في
42
أسفار مطولة ومختصرة بعنوان (الطب النبوي). وقد بيّن الإمام ابن القيّم: عليه الرحمة، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب، والسنة المطهرة على بدائعه، في كتابه (زاد المعاد)، بيانا يدهش الألباب، وفوق كل ذي علم عليم. قال، عليه الرضوان، في كتابه (زاد المعاد، في هدي خير العباد) :

فصل


قد أتينا على جمل من هديه صلّى الله عليه وسلّم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به، ووصفه لغيره، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم، فنحن نقول وبالله المستعان:
المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان. وهما مذكوران في القرآن.
ومرض القلب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغيّ، وكلاهما في القرآن.
قال تعالى في مرض الشبهة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: ١٠]، وقال تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [المدثر: ٣١]. وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض:
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: ٤٨- ٥٠]. فهذا مرض الشبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات فقال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب: ٣٢]. فهذا مرض شهوة الزنى- والله أعلم.
وأما مرض الأبدان فقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور: ٦١]. وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسرّ بديع، يبين ذلك عظمة القرآن والاستغناء به، لمن فهمه وعقله، عن سواه. وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ الموادّ الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة. فقال في آية
43
الصوم: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤].
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، والمسافر، طلبا لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبه الصوم في السفر، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلّل، فتخور القوة وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها. وقال في آية الحج: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: ١٩٦]. فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل أو حكة أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه استفراغ يؤذي انحباسه. والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا سبغ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه. وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس، على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن، التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية، فقال في آية الوضوء: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:
٤٣]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه. وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له، من داخل أو خارج. فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب، ومجامع قواعده.
ونحن نذكر هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي.
فأما طب القلوب، فمسلّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم، وعلى أيديهم. فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابّه، متجنبة لمناهيه ومساخطه.
ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل. وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم، فغلط ممن يظن ذلك.
وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها. وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وبين هذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من
44
الأموات. وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات- انتهى-:
وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب (طريق الهجرتين) نورده أيضا لبداعة أسلوبه. قال عليه الرحمة:
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه، كما يدرك الحلو مرّا، والخبيث طيبا، والطّيب خبيثا. وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة. فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حدّ الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال، إما فساد في الكمية أو في الكيفية فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها. والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي، فيداوى بمقتضى ذلك. ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي، واستفراغ الموادّ الفاسدة، ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة. وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة. فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان، ويقضي المسافر إذا قدم، والمريض إذا برأ، حفظا لقوتهما عليهما. فإن الصوم يزيد المريض ضعفا، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، فالصوم يضعفها. فأما الحمية عن المؤذي، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذي له في باطنه؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة، فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفّها، فنبّه به على ما هو أحوج إليه منه.
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال: والله! لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة، لكان سفرا قليلا أو كما قال- انتهى.
ثم ردّ تعالى على من حرّم شيئا من المآكل والمشارب والملابس، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، تأكيدا لما سبق، بقوله سبحانه.
45
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
قُلْ أي لهؤلاء المشركين الذين يحرّمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ أي من الثياب وسائر ما يتجمّل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، والحيوان كالحرير والصوف، والمعادن كالدروع. هكذا عمم المفسرون هنا، ووجهه أن تخصيصه يغني عنه ما مرّ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات من المآكل والمشارب.
قال المهايمي: يعنى إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل الذي هو العبادة، فيحرمان معها، فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، فعل عبيد الملوك إذا حضروا خدمتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهم، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده ليشكروه، والشكر عبادة، فلا ينافي التلذذ العبادة، بل قد يكون داعية إليها. انتهى.
تنبيهات
الأول- فسرت (الطيبات) ب (الحلال)، وفسرت ب (اللحم والدسم) الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت ب (البحائر والسوائب) كما قال تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا [يونس: ٥٩] وظاهر أن لفظ الآية أعم من ذلك، وإن كان يدخل فيه ما ذكر دخولا أوليّا، لأنها إنما وردت نعيا عليهم فيه، والعبرة بعموم اللفظ.
قال الرازي: لفظ (الزينة) يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي (يعني للنساء). ثم قال: ويدخل تحت (الطيبات) كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب وقد رد النبي صلّى الله عليه وسلّم على عثمان بن مظعون، ما هم به من الاختصاء والتبتل.
الثاني- دلت الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في مَنْ لإنكار تحريمها على وجه بليغ، لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.
46
الثالث- في الآية رد على من تورّع من أكل المستلذات ولبس الملابس الرقيقة، لأنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه، أو حرّمه على غيره. وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف، على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس، واختاره على خبز البرّ، ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة- انتهى-.
الرابع- قال ابن الفرس: واستدل بالآية من أجاز لبس الحرير والخزّ للرجال.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخزّ، فقال له الناس:
مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج، ولكنه كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه. كذا في (الإكليل).
أقول: عدم شمول الآية للحرير غنيّ عن البيان، لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العامّ. والأحاديث في تحريم الحرير لا تحصى كثرة، فاستنباط حلّه منها مردود على زاعمه.
قُلْ هِيَ أي زينة الله والطيبات، مخلوقة لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: لا يشاركهم فيها غيرهم، لأن الله حرم الجنة على الكافرين. وانتصابها على الحالية، وقرئ بالرفع، أي على أنه خبر بعد خبر.
لطيفة:
قال المهايمي: إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذّات الآخرة، فيرغبوا فيها مزيد رغبة، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئا لهم إلى الإيمان.
فإذا ذهب هذا المعنى، تصير خالصة لهم يوم القيامة، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين، وهو خلاف مقتضى الحكمة. وإن خلقت للمؤمنين فأولى أوقات الانتفاع بها وقت جريانهم على مقتضى الإيمان، وهو العبادة والتقوى، ولكن من غير انهماك في الشهوات.
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي الحكمة في خلق الأشياء، واستعمال الأشياء على نهج ينفع ولا يضر. فإن زعموا أنه يخاف من التزين والتلذذ الوقوع في
47
الكبر، والانهماك في الشهوات، فيحرمان على أهل العبادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)
قُلْ إنهما من المنافع الخالصة في أنفسهما. والإفضاء احتمال غير محقق.
فإذا أفضى، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي: ما تفاحش قبحه من الذنوب، أي تزايد (وهي الكبائر) وهي ما يتعلق بالفروج ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي: ما جاهر به بعضهم بعضا، وما ستره بعضهم عن بعض، وما ظهر من أفعال الجوارح، وما بطن من أفعال القلوب وَالْإِثْمَ أي: ما يوجب الإثم، وهو عامّ لكل ذنب، وذكره للتعميم بعد التخصيص. ويقال: إن الإثم هو الخمر، قال الشاعر:
نهانا رسول الله أن نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
وأنشد الأخفش:
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وهو منقول عن ابن عباس والحسن. وذكره أهل اللغة كالأصمعيّ وغيره. قال الحسن: ويصدقه قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٩]. وقال ابن الأنباري: لم تسمّ العرب الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام، والشعر المذكور موضوع. وردّ بأنه مجاز، لأنه سببه. وقال أبو حيان: هذا التفسير غير صحيح هنا، لأن السورة مكية، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد، وقد سبقه إلى هذا غيره.
وأيضا، الحصر يحتاج إلى دليل. كذا في (العناية) وَالْبَغْيَ أي: الاستطالة على الناس وظلمهم. إنما أفرده بالذكر، مع دخوله فيما قبله، للمبالغة في الزجر عنه.
وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميّز من بينها حتى عدّ نوعا مستقلّا بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق ب (البغي)، مؤكد له معنى. وقيل: البغي قد يخرج عن كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع، كالقصاص، إلا أنه مثله لا يسمى بغيا حقيقة، بل مشاكلة وَقد حرّم أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: برهانا أي: ما لم يقم عليه حجة. قال الزمخشري: فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره. وفي (العناية) : إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان
لم يكن محرّما، دلالة على تقليدهم في الغي. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على الوجه الأبلغ- انتهى- قال الرازيّ: وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل. وتبعه القاضي فقال: في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان وَقد حرّم عليكم أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي: تتقوّلوا عليه، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم، أو في الشرك.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على تحريم جميع الذنوب، لأن قوله (الفواحش والإثم) يشتمل على الصغير والكبير، والأفعال القبيحة، والعقود المخالفة للشرع، والأقاويل الفاسدة، والاعتقادات الباطلة. ودخل في قوله ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أفعال الجوارح، وأفعال القلوب والخيانات، والمكر، والخديعة، ودخل تحت قوله وَالْبَغْيَ كل ظلم يتعدى على الغير، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج، والأمراء إذا انتصروا بغير حق. ودخل تحت قوله وَأَنْ تُشْرِكُوا تحريم كل شرك وعبادة لغير الله. ودخل تحت قوله وَأَنْ تَقُولُوا كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق، وشهادة زور ونحوه. فالآية جامعة في المحرمات، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات. وفيه تعليم للآداب، دينا ودنيا، وتدل على بطلان التقليد، لأنه أوجب اتباع الحجة، لقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، والسلطان الحجة. وتدل على أن لكل أحد وقت حياة، ووقت موت، لا يجوز فيه التقديم والتأخير، فيبطل قول من يقول: المقتول مات قبل أجله. انتهى.
ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه، كما نزل بالأمم، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي: مدة أو وقت لنزول العذاب بهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي:
ميقاتهم المقدر لهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي: لا يتركون بعد الأجل شيئا قليلا من الزمان، ولا يهلكون قبله كذلك. والساعة مثل في غاية القلة من الزمان.
لطائف
١- وقع هذا التركيب في موضع من التنزيل، وفيه بحث مشهور: وهو أنه لما
كان الظاهر عطف (لا يستقدمون) على (لا يستأخرون) كما أعربه الحوفيّ وغيره، أورد عليه أنه فاسد، لأن (إذا) إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة لا الماضية، والاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محلّ الأجل متقدم عليه، فكيف يترتب عليه ما تقدمه؟ ويصير باب الإخبار بالضروري الذي لا فائدة فيه، كقولك: إذا قمت فيما يأتي، لم يتقدم قيامك فيما مضى. وأجيب بأن المراد بالمجيء الدنوّ، بحيث يمكن التقدم في الجملة، كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه. وقيل: إن جملة لا يَسْتَقْدِمُونَ مستأنفة. وقيل: إنها معطوفة على الشرط وجوابه، أو على القيد والمقيّد. أو أن مجموع (لا يستأخرون ولا يستقدمون) كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره. والتحقيق أنه عطف على يَسْتَأْخِرُونَ لكن لا لبيان انتفاء التقدم، مع إمكانه في نفسه كالتأخر، كما يتوهم، بل للمبالغة في انتفاء التأخر. يعني أن التأخر مساو للتقدم في الاستحالة، ولذا نظمه معه في سلك، كما في قوله سبحانه وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء: ١٨] فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا، قد نظم في عدم القبول، في سلك من سوّفها إلى حضور الموت. إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة.
٢- تقديم بيان انتفاء الاستئخار، لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب. وأما (ما) في قوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر: ٥] من سبق (السبق) في الذكر، فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [المؤمنون: ٤٣]. فالأهم هناك بيان انتفاء السبق.
٣- صيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك، مع طلبهم له، أفاده أبو السعود.
ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يهدونهم، وبشّر وأنذر بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٥]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي شرط ذكره بحرف
الشك، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائر غير واجب. وضمت إليها (ما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة. والمراد ببني آدم جميع الأمم، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم. وليس المراد بالرسل نبينا صلى الله عليه وسلّم وببني آدم أمته، كما قيل، فإنه خلاف الظاهر- كذا في (القاضي وحواشيه) - وجواب الشرط قوله تعالى فَمَنِ اتَّقى أي التكذيب وَأَصْلَحَ أي عمله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا أي تكبروا عَنْها فلم يؤمنوا بها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على وجوب اتباع الرسل، وقبول ما يؤدون. وتدل على أن الصلاح في الرسل أن تكون من جملة من بعث إليهم، لأنهم يكونون بطريقته أعرف، ومن النفار عنه أبعد، وإلى السكون إليه أقرب، وتدل على أن الغرض بالرسول ما يؤدي من الأدلة، فلذلك قلنا لا يجوز أن يكون رسولا إلا ومعه ما يؤديه:
وتدل على أن الجنة تنال بشيئين: بالأعمال الصالحة، واتقاء المعاصي، فبطل قول المرجئة. وتدل على أن المؤمن في الآخرة لا يخاف ولا يحزن، خلاف ما يقوله الأحسدية (كذا) والحشوية- هكذا قاله أكثر أصحابنا-.
وقال أبو بكر أحمد بن عليّ: قوله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ كقول الطبيب للمريض (لا بأس عليك) يعني أن أمره يؤول إلى العافية. وليس هذا بالوجه لأنه نفى الخوف والحزن مطلقا. وتدل على الوعيد للمكذبين، كما تدل على الوعيد للمطيعين، ترغيبا وترهيبا. وتدل على أن التقوى والصلاح والتكذيب فعل العبد، فبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة. انتهى كلامه رحمه الله.
ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي ممن تقوّل على الله كذبا بالتحليل والتحريم، أو بنسبة الولد والشريك، أو كذب بآياته المنزلة أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك. أي مع ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم، لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والزرق إلى انقضاء آجالهم. وفي الآية وجوه أخر، هذا أظهرها وأقواها في المعنى، وتتمة الآية تدل عليه، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها، كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: ٦٩- ٧٠].
وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا.. [لقمان: ٢٣- ٢٤] الآية- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي: ملائكة الموت تقبض أرواحهم قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء، فلا نراهم يخلّصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد. وفائدة السؤال وجهان: توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غمّا إلى غم، ولطف بالمكلف لأنه إذا تصور ذلك صرفه عن التكذيب. و (ما) وقعت موصولة ب (أين) في خط المصحف العثمانيّ، ومقتضى الاصطلاح الفصل لأنها موصولة قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي: غابوا عنا فلم يخلّصونا من شيء وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ أي: عابدين لما لا يستحق العبادة.
اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٨]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨)
قالَ أي الله، سبحانه، لهم في الآخرة ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ أي في
جملة أمم قد مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم الماضية من النوعين فِي النَّارِ متعلق ب ادْخُلُوا كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ أي في النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي التي قبلها لضلالها بها، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ... [العنكبوت: ٢٥] الآية- إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أي تداركوا، بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار قالَتْ أُخْراهُمْ وهم الأتباع لِأُولاهُمْ أي: لأجل أولاهم، إذ الخطاب مع الله سبحانه، لا معهم. قال ابن كثير: أي قالت أخراهم دخولا وهم الأتباع، لأولادهم وهم المتبعون، لأنهم أشد جرما من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة، لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل، فيقولون: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا أي سنّوا لنا الضلال، ودعوا إليه، فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي مضاعفا لأنه ضلوا وأضلوا قالَ أي تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي عذاب مضاعف. أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال. وأما الأتباع والسفلة، فبالضلال وتقليد أهل الضلال، مع وجود الهادين بالبراهين القاطعة وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أي ما لكم، أو ما لكل فرقة. وقرئ بالياء. وعليها، فهو تذييل لم يقصد إدراجه في الجواب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٣٩]
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال حتى يكون عذابنا مضاعفا دونكم، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. وقوله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من قول القادة، أو من قول الله تعالى للفريقين، وهو أظهر.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أن الكفار والضلال والمبتدعة، وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم، وتوادّوا في الدنيا، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم. وتدل على فساد التقليد، والاغترار بقول علماء السوء. وتدل على أن الداعي إلى الضلال مضلّ. وتدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له. وتدل على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة، بخلاف الاشتراك
في محن الدنيا. وتدل على أن ذلك الإضلال فعلهم، فيبطل قول المجبرة في المخلوق، والهدى والضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أي لا تفتح لأعمالهم، ولا لدعائهم، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله. أي لا يقبل ذلك منهم، لأنه ليس صالحا ولا طيّبا. وقد قال سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، قال ابن عباس: أي لا يرفع لهم منها عمل صالح، ولا دعاء- رواه جماعة عنه. وقاله مجاهد وابن جبير. أو المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة، ولا يغاثون، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر: ١١]، أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة، على ما روي أن الجنة في السماء.
أو المعنى لا تفتح لأرواحهم، إذا ماتوا، أبواب السماء، كما تفتح لأرواح المؤمنين- رواه الضحاك عن ابن عباس- ورواه ابن جرير عن البراء،
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر قبض روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان! (بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا) حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ.. الآية- قال ابن كثير: هكذا رواه.
وهو قطعة من حديث طويل، رواه الإمام أحمد «١» مطولا وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق.
(١)
أخرجه في المسند بالصفحتين ٤/ ٢٨٧ و ٢٨٨ ونصه: عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار. فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد. فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله وكان على رؤوسنا الطير. وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثا ثم قال «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس. معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت، عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه. فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله
54
تنبيهات:
الأول- قال الشهاب كون السماء لها أبواب، وأنها تفتح للدعاء الصالح، وللأعمال الصاعدة أو للأرواح- وارد في النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويل. انتهى.
ورضوان. قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها. فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها. فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض. قال فيصعدون بها. فلا يمرون (يعني بها) على ملائكة من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان (بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا) حتى ينتهوا بها الى السماء الدنيا. فيستفتحون له فيفتح لهم. فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في علّيين، وأعيدوه إلى الأرض. فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله.
فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول:
هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت.
فينادي مناد من السماء: إن صدق عبدي. فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة.
قال فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره.
قال ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعده. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح.
فيقول: رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح. فيجلسون منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عن رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة! أخرجي إلى سخط من الله وغضب.
قال فتفرق في جسده. فينتزعها كما ينتزع السّفود من الصوف المبلول. فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها. فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان (بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا) حتى ينتهى بها إلى السماء الدينا. فيستفتح له فلا يفتح له».
ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجّين، في الأرض السفلى. فتطرح روحه طرحا.
ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ. «فتعاد روحه في جسده. ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فيقولان له ما دينك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي
55
وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. والتنزيل الكريم، إنما ورد على مناح للعرب معروفة في لسانهم- والله أعلم.
الثاني- التضعيف في (تفتح) لتكثير المفعول، لا الفعل لعدم مناسبة المقام.
الثالث- قرئ بالتخفيف في (تفتح) وبالتخفيف، والياء. وقرئ على البناء للفاعل، ونصب الأبواب، على أن الفعل للآيات مجازا، وبالياء على أنه لله تعالى.
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ أي يدخل الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم.
لطائف:
الأول- قرأ الجمهور (الجمل) بفتح الجيم والميم، وفسروه: بأنه الجمل المعروف وهو البعير قال الفراء: الجمل زوج الناقة. وقال شمر: البكر والبكر بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة. وقرئ في الشواذ (الجمّل) كسكّر وصرد وقفل وعنق وجبل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له (القلس).
وقال أبو البقاء: يقرأ في الشاذ بسكون الميم، والأحسن أن يكون لغة، لأن تخفيف المفتوح ضعيف، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها، وهو الحبل الغليظ، وهو جمع مثل صوّم وقوّم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسد وأسد، ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة، وذلك على تخفيف المضموم- انتهى-.
وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير ما عدا «جمّلا» كسكّر وقفل، ونوقش في ذلك- انتهى-.
بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب. فافرشوا له من النار.
وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرّها وسمومها. ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.
ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك. هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول:
رب! لا تقم الساعة».
وأخرجه أبو داود في: السنّة، ٢٤- باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، حديث ٤٧٥٣.
56
وقراءته (كسكّر) على معنى الحبل المذكور، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس، واختارها سعيد بن جبير.
قال الزمخشري: وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه، إلا أن قراءة العامة أوقع، لأن سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة.
وقالوا للدليل الماهر (خرّيت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، والجمل مثل في عظم الجرم، قال:
جسم الجمال وأحلام العصافير
إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان، الذي لا يلج إلا في باب واسع، في ثقب الإبرة.
وعن ابن مسعود: أنه سئل عن الجمل؟ فقال: زوج الناقة، استجهالا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلّف- انتهى.
وحاصله أن الجمل لما كان مثلا في عظم الجسم، لأنه أكثر الحيوانات جسما عند العرب، وخرق الإبرة مثلا في الضيق، ظهر التناسب. على أن في إيثار الجمل، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة، مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.
الثانية- (السّم) : الثقب الضيق. قال أبو البقاء: بفتح السين وضمها، لغتان- انتهى وصح بالتثليث فيه، وفي القاتل المعروف، صاحب القاموس وغيره، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل. والأفصح في القاتل الضم.
قال العلامة الفاسي: قال الزبيديّ: لم أر من تعرض لكسرهما، وكأنها عامية.
قلت: قال الزمخشري: وقرئ فِي سَمِّ الْخِياطِ بالحركات الثلاث، وكفى به مرجعا.
الثالثة- (الخياط) ككتاب ومنبر، ما خيط به الثوب، والإبرة- كذا في القاموس- قال الزمخشري: وقرأ عبد اللَّه (في سم المخيط). قال الشهاب: بكسر الميم وفتحها، كما ذكره المعرب، وهي قراءة شاذة.
الرابعة- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في قوله تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ...
إلخ. جواز فرض المحال، والتعليق عليه كما يقع كثيرا للفقهاء- انتهى-.
57
والتعليق على المحال معروف في كلام العرب، كقوله:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللّبن الحليب
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤١]
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي: فرش من تحتهم وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي أغطية، إذا أحاطت بهم الخطيئة وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي بالكفر، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى، إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين. وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور- تنبيها على أنه أعظم الجرائم. ثم تأثر تعالى وعيده بوعده، على سنته في تنزيله الكريم، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قال أبو البقاء: والذين آمنوا مبتدأ، وفي الخبر وجهان:
أحدهما- لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، والتقدير (منهم)، فحذف العائد، كما حذف في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: ٤٣].
والثاني- أن الخبر أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ ولا نُكَلِّفُ معترض بينهما- انتهى- وعلى الثاني اقتصر غير واحد من المحققين. قالوا: وسر الاعتراض، الترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله، وتيسير تحصيله. والذي حسّنه سبق العمل الصالح قبله. أي وإذ علم أن مبنى التكليف على الوسع، زادت الرغبة في ذلك الاكتساب، لحصوله بما فيه يسر لا عسر.
لطيفة:
الوسع: ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويستمرّ. قال الرازي، أخذا من قول معاذ في الآية (يسرها لا عسرها) قال: وأما أقصى الطاقة فيسمى جهدا لا وسعا، وغلط
من ظن أن الوسع بذل المجهود.
قلت: في القاموس: الوسع (مثلثة) الجدة والطاقة كالسعة. وفيه: الجهد الطاقة (ويضم) والمشقة- انتهى-.
قال ابن الأثير: الجهد (بالفتح) المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم الوسع والطاعة وقيل: وهما لغتان في الوسع والطاعة، فأما في المشقة والغاية، فالفتح لا غير- انتهى- وبه يعلم أن ما جرى عليه الرازي قول للغويين، ليس وفاقا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٣]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة، أو نطهّرها منها، حتى لا يكون بينهم إلا التوادّ والتعاطف. وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره وتقرره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي لما جزاؤه هذا، أي: لأسباب هذا العلوّ، بإرسال الرسل والتوفيق للعمل وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي ما كنا لنرشد لذلك العلم الذي هذا ثوابه، لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي: فاهتدينا بإرشادهم قال الزمخشري: يقولون ذلك، أي الْحَمْدُ لِلَّهِ... إلخ سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذّذا بالتكلم به، لا تقرّبا ولا تعبدا، كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك أن لا يقوله، للفرح والتوبة وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا. فالميراث مجاز عن الإعطاء، تجوّز به عنه إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا، وإن كان سببا بحسب الظاهر، كما أن الإرث ملك بدون كسب، وإن كان النسب مثلا سببا له. وعلى ما تقرر، فلا يقال إنه معارض لما
ثبت في الصحيحين «١» من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «واعلموا أن
(١)
أخرجه البخاري في الرقاق، ١٨- باب القصد والمداومة على العمل، حديث ٢٤٢٧ ونصه: عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله»
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٧٨
.
أحدكم لن يدخله عمله الجنة! قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»
، ولا يحتاج إلى الجواب عنه، ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب. وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع، لا بالاستحقاق والاستيجاب، بل هو بمحض فضله تعالى، كالإرث- كذا في العناية-.
روى الإمام مسلم «١» عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا»
. فذلك قوله عز وجل وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٤]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أي إذا استقروا في منازلهم أَصْحابَ النَّارِ توبيخا وتحسيرا لهم أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا حيث نلنا هذه المراتب العالية فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا من تنزيلكم إلى أسفل سافلين، لاستكباركم على الآيات والرسل قالُوا نَعَمْ أي وجدناه حقّا فَأَذَّنَ أي نادى مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين ليسمعهم، زيادة في شماتة أحد الفريقين وندامة الآخر أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٥]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم الذي بيّنه على ألسنة رسله لمعرفته وعمارة الدارين وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: يبغون لها زيغا وميلا عما هي عليه، حتى لا يتبعها أحد وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون، فيأتون المنكر من
(١)
أخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث ٢٢ ونصه: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «ينادي مناد: إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا. وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا. وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا. وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا»
.
القول والعمل، لأنهم لا يرجون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٦]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار، ليمنع ووصل أثر إحداهما إلى الأخرى. وقد سمي هذا الحجاب سورا في آية فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ، فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: ١٣]، وقوله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ أي على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، جمع عرف، مستعار من عرف الفرس، وعرف الديك. وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض.
وقد حكى المفسرون أقوالا كثيرة في رجال الأعراف، عن التابعين وغيرهم، أنهم فضلاء المؤمنين، أو هم الشهداء، أو الأنبياء، أو قوم أوذوا في سبيل الله، فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم، فعرفوهم بسيماهم، وسلّموا على أهل الجنة.
واللفظ، لإبهامه، يحتمل ذلك لأن السياق يدل على سموّ قدرهم، لا سيما بجعل منازلهم الأعراف، وهي الأعالي، والشرف، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك- والله أعلم-.
يَعْرِفُونَ كُلًّا أي من أهل الجنة والنار بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم التي أعلمهم الله بها، كبياض الوجه وسواده.
فائدة:
السيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة. قال القاضي: السيمى فعلى من (سام إبله) إذا أرسلها في المرعى معلمة. أو من (وسم) على القلب (كالجاه) من (الوجه). انتهى. وعلى الثاني اقتصر ابن دريد وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي حين رأوهم من أعرافهم، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بطريق الدعاء والتحية، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره. والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفي. قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم
في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية حال من فاعل يَدْخُلُوها، أي نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها، مترقبين.
قال الجشمي رحمه الله: قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟ قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم، لظهور فضلهم، وجلالة طريقهم إلى منازلهم.
ولا يبعد عندي أن يكون جملة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ حالا من أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة، وعلوّ منازلهم على سواهم- والله أعلم-.
وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة، أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها. وهو وجه جيّد. فالجملة الأولى حال من المفعول وهو (أصحاب الجنة) والثانية حال من فاعل (يدخلوها).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٧]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي: أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة.
قال الجشمي: وإنما قال صُرِفَتْ لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة. فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم. فأما أهل الجنة فوجوههم إليهم سرورا بهم، فلا يحتاج إلى تكلف. وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار. ثم قال الجشمي: تدل الآية على وجوب الاجتناب من الظلمة في الدنيا، كيلا يكون معهم في الآخرة- انتهى-.
تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي: إلى جهتهم قالُوا من شدة خوفهم تعوّذا بالله رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: في النار. وقال أبو السعود: في وصفهم بالظلم- دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء- إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٨]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨)
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني من عظماء أهل الضلالة يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ أي: التي تدل على أعيانهم، وإن تغيرت صورهم قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي: كثرتكم أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق، أو على الخلق. وقرئ (تستكثرون) من الكثرة، أي: من الأتباع الذين يستعان بهم في دفع الملمات.
قال ابن القيّم: يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم.
وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، وهو أبلغ وأفحم. ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٤٩]
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
أَهؤُلاءِ الضعفاء من المؤمنين الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ برفع درجاتهم في الآخرة، فها هم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون.
وقوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي: لا خوف عليكم من العذاب النازل بالكفار، ولا تحزنون كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف، يتآمرون بينهم بدخول الجنة بعد تبكيت أهل النار، فيقول بعضهم لبعض: ادخلوا الجنة، وإما من كلام أهل الأعراف للمؤمنين، أي يقولون لهم: أدخلوا الجنة، أو من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، كأنه قيل لهم: أنظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته، كيف نالوها، حيث قيل من قبله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. وعلى كلّ فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازا، للعلم به.
لطيفة:
بيّن الزمخشري سرّ حبسهم على الأعراف، ثم إدخالهم الجنة أبدع بيان، فقال رحمه الله: يقال لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنّة، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف، وينظروا إلى الفريقين، ويعرفوهم بسيماهم، ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إسائته، ويزيد المحسن في إحسانه، وليعلم أن العصاة يوبخهم كل أحد، حتى أقصر الناس عملا- انتهى-.
ثم بيّن تعالى ذلّة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، بعد التكبر عليهم، وبعد ما أقسموا لا ينالهم الله برحمة، وأنهم لا يجابون إلى ذلك، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٠]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي: الذي رحمكم الله به ليسكن حرارة النار والعطش. قال الجشميّ: وذكروا لفظ (الإفاضة) لأن أهل الجنة أعلى مكانا. أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: من الأطعمة والفواكه قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي: منعهما عنهم، لأنه أنعم عليهم في الدنيا، فلم يشكروه، فمنعهم نعمه في الآخرة. فالتحريم تحريم منع، لا تحريم تعبد. ثم وصف الكافرين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥١]
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً أي: مما زينه لهم الشيطان. واللهو: كل ما
64
صدّ عن الحق. واللعب: كل أمر باطل. أي: ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك، إذ هو دأبهم وديدنهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزخارفها العاجلة، فلم يعملوا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي: نتركهم ترك المنسيّ، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي: كما فعلوا بلقائه، فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم، ولم يهتموا به.
لطيفة:
قال الشهاب: نَنْساهُمْ تمثيل. شبه معاملته تعالى مع هؤلاء بالمعاملة مع من لا يعتدّ به، ويلتفت إليه، فينسى. لأن النسيان لا يجوز على الله تعالى، أي لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء، كما قال: فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: ٥٢] والنسيان يستعمل بمعنى الترك كثير في لسان العرب. ويصح هنا أيضا، فيكون استعارة تحقيقية، أو مجازا مرسلا، وكذا نسيانهم لقاء الله أيضا، لأنهم لم يكونوا ذاكري الله حتى ينسوه، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله والقيامة ببالهم، وقلة مبالاتهم- بحال من عرف شيئا، ثم نسيه. وليست الكاف للتشبيه، بل للتعليل، ولا مانع من التشبيه أيضا- انتهى-.
وقال تعالى: وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى.
روى الترمذي «١» عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ قال فيقول: لا! فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني».
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم «٢» :«فيلقى العبد ربه، فيقول: أي فل! ألم
(١) أخرجه الترمذي في: القيامة، ٦- باب منه، حدثنا سويد بن نصر.
(٢)
أخرجه مسلم في: الزهد والرقاق، حديث ١٦ ونصه: عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال «هل تضارّون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست في سحابة»
؟ قالوا:
لا. قال «فهل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس في سحابة» ؟ قالوا: لا. قال «فو الذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. قال فيلقى العبد، فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسوّدك، وأزوجك، وأسخّر لك الخيل والإبل. وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى.
قال أظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أيّ فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخّر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى.
أيّ ربّ! فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى
65
أكرمك وأسوّدك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع؟ فيقول:
بلى يا رب! فيقول: أظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: إني أنساك كما نسيتني!»
ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٢]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ أي بينا فيه الاعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلا مبيّنا عَلى عِلْمٍ أي عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء محكما قيّما غير ذي عوج، وهذا كقوله تعالى:
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: ١٦٦]. هُدىً أي دلالة ترشدهم إلى الحق، وتنجيهم من الضلالة وَرَحْمَةً أي ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المغتنمون لفوائده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمره، من تبيّن صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. قال الشهاب: (فالنظر) هنا بمعنى (الانتظار) لا بمعنى الرؤية. والتأويل بمعنى العاقبة، وما يقع في الخارج، وهو أصل معناه، ويطلق على التفسير أيضا. والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق، كالمنتظرين له، لأن كل آت قريب، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به. فلا يقال: كيف ينتظرونه مع
الثالث فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا ربّ! آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت. ويثني بخير ما استطاع. فيقول: هاهنا إذا. قال ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك.
ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه ولحمه وعظامه:
انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه.
وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه».
جحدهم؟ فإنهم وإن جحدوه، إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محاله يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني يوم القيامة، لأنه يوم الجزاء، وما تؤول إليه أمورهم يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أي تركوه ترك المنسي، حين كان ينفعهم الذكر، فلم يؤمنوا به عند معاينة العذاب قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا في إزالة العذاب أَوْ نُرَدُّ إلى مكان العمل فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الجحود واللهو واللعب وأعمال الدنيا. قال عز وجل قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمالهم في الكفر وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
ولما قدم سبحانه ذكر الكفار وعبادتهم غيره، سبحانه، أحتج عليهم، مبينا بأفعاله أنه لا معبود سواه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس، الذي أنشأ أعيان السموات والأرض في مقدار ستة أيام.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: قال الشهاب: اليوم في اللغة مطلق الوقت، فإن أريد هذا، فالمعنى في ستة أوقات، كقوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال: ١٦]. وإن أريد المتعارف، وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها، فالمعنى في مقدار ستة أيام، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات، فيقدر فيه مضاف- انتهى-.
وفي شرح القاموس: إن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وإن الثاني تعريف شرعيّ عند الأكثر. ونقل عن الفاسي شارحه: أن اليوم عند المنجمين من الطلوع إلى الطلوع، أو من الغروب إلى الغروب.
67
ثم قال الزبيدي: ويستعمل بمعنى مطلق الزمان، نقله عن ابن هشام، وحكاه عن سيبويه في قولهم: (أنا، اليوم، أفعل كذا) فإنهم لا يريدون يوما بعينه، ولكنهم يريدون الوقت الحاضر. قال: وبه فسروا قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] ثم قال: وقد يراد باليوم الوقت مطلقا، ومنه والحديث «١» : تلك أيام الهرج. أي وقته ولا يختص بالنهار دون الليل- انتهى-.
وإرادة الوقت مطلقا منه، عين إرادة مطلق الزمان قبله، كما يتبادر. والظاهر أن إطلاقه على المتعارف والوقت مطلقا، لغوي فيهما- كما نقله شارح القاموس- خلافا لظاهر كلام الشهاب السابق، فتثبت هذا.
الثانية- قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق العالم، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم عليه السّلام. واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل؟ ويروى من رواية الضحاك عن ابن عباس.
فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق، لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع. فأما
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» في مسنده عن أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السّلام بعد العصر يوم الجمعة، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» - فقد رواه مسلم «٣» ابن الحجاج في (صحيحه) والنسائي
، من غير وجه. وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا- والله أعلم- انتهى.
(١) أخرجه البخاريّ في: الفتن، ٥- باب ظهور الفتن، حديث رقم ٢٥٤٨ ونصه: عن أبي وائل، عن عبد الله (وأحسبه رفعه) قال: بين يدي الساعة أيام الهرج. يزول العلم ويظهر فيها الجهل. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٣٢٧.
(٣) أخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٢٧.
68
وقد بسطت الكلام فيه في شرحي على (الأربعين العجلونية) الثالثة- قال القاضي: في خلق الأشياء مدرّجا، مع القدرة على إيجادها دفعة- دليل للاختيار، أي لأنه لو كان بالإيجاب، لصدر دفعة واحدة. وفيه حث على التأني في الأمور.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها، فجاء بمعنى الاستقرار ومنه: اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: ٤٤]، وبمعنى القصد ومنه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩]، وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه قال الفرّاء: تقول العرب: استوى إليّ يخاصمني، أي أقبل عليّ، ويأتي بمعنى الاستيلاء قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق وقال آخر:
فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ويأتي بمعنى العلوّ، ومنه آية: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: ٢٨] : ومنه هذه الآية قال البخاري في آخر (صحيحه)، في كتاب الردّ على الجهمية، في باب قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: ٧]، قال مجاهد: استوى، علا على العرش- انتهى-.
وفي كتاب (العلوّ) للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، أي ارتفع. ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع. وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع، وأقول: لا حجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولا.
روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (الرد على الجهمية) عن شريح بن النعمان، عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.
وروى البيهقي عن ابن وهب قال: كنت عند مالك، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كيف استوى؟ فأطرق مالك، وأخذته
69
الرّحضاء، ثم رفع رأسه فقال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف. و (كيف) عنه مرفوع. وأنت صاحب بدعة. وفي رواية قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال الحافظ الذهبي في كتاب (العلوّ) - بعد ما ساق هذا- ما نصه:
وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم، كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا، بل نسكت ونقف، كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره، والسكوت عنه. ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله، لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
ثم قال الذهبي: قال الإمام العلم، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف الشهيرة، في كتابه (مختلف الحديث) : نحن نقول في قول الله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: ٧]، أنه معهم، يعلم ما هم عليه، كما تقول للرجل وجّهته إلى بلد شاسع: احذر التقصير فإني معك، يريد أنه لا يخفى عليّ تقصيرك. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إن الله سبحانه بكل مكان، على الحلول فيه، مع قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ومع قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: ١٠]، كيف يصعد إليه شيء هو معه، وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟ قال: ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم، وما ركبت عليه ذواتهم، من معرفة الخالق، لعلموا أن الله عز وجل هو العلي وهو الأعلى، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأمم كلها عجميّها وعربيّها يقول: إن الله في السماء، ما تركت على فطرها- انتهى-.
ثم قال الذهبي أيضا: عن يزيد بن هارون شيخ الإسلام، أنه قيل له: من الجهمية؟ قال: من زعم أن الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى على خلاف ما يقرّ في قلوب العامة، فهو جهمي.
قال الذهبي والعامة، مرادة بهم، جمهور الأمة وأهل العلم، والذي وقر في قلوبهم من الآية، وهو ما دل عليه الخطاب، مع يقينهم بأن المستوي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]، هذا هو الذي وقر في فطرهم السليمة، وأذهانهم الصحيحة.
ولو كان له معنى وراء ذلك، لتفوّهوا به، ولما أهملوه. ولو تأول أحد منهم الاستواء،
70
لتوفرت الهمم على نقله، ولو نقل لاشتهر. فإن كان في بعض جهلة الأغبياء من يفهم من (الاستواء) ما يوجب نقصا أو قياسا للشاهد على الغائب، وللمخلوق على الخالق- فهذا نادر. فمن نطق بذلك زجر وعلّم، وما أظن أحدا من العامة يقرّ في نفسه ذلك- والله أعلم- انتهى.
وقال الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين، الشيخ عبد القادر الجيلانيّ قدس الله روحه في كتابه (تحفة المتقين وسبيل العارفين) في باب اختلاف المذاهب في صفات الله عزّ وجلّ، وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: ٧] : قال إسحاق: في العلم. إلى أن قال: والله تعالى بذاته على العرش، علمه محيط بكل مكان
والوقف عند أهل الحق على قوله إِلَّا اللَّهُ. وقد روي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على العرش، ويعلم ما في السموات والأرض. إلى أن قال: ووقف جماعة من منكري استواء الرب عزّ وجلّ على قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ وابتدءوا بقوله اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه، وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته.
وقال في كتابه (الغنية) : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال: لا يخلو من علمه مكان، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش، كما قال جل ثناؤه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، وقوله ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ [الفرقان: ٥٩]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم «١» حكم بإسلام الأمة لما
قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «٢» :(في حديث أبي هريرة رضي الله
(١)
أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣٣. عن معاوية بن الحكم السلمي. ونصه هذه القصة، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوّانية (موضع في شمال المدينة) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها. وأنا رجل من بني آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فعظّم ذلك عليّ. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال «ائتني بها» فأتيته بها. فقال لها «أين الله» ؟ قالت: في السماء. قال «من أنا» قالت: أنت رسول الله. قال «أعتقها فإنها مؤمنة»
. (٢) أخرجه البخاري في: التوحيد، ٥٥- باب قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، حديث ١٥٠٩.
71
عنه) : لما خلق الله الخلق، كتب كتابا على نفسه، وهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي.
وفي لفظ آخر: لما قضى الله سبحانه الخلق، كتب على نفسه في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي.
وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، لا على معنى القعود والمماسة، كما قالت المجسمة والكرامية، ولا على معنى العلوّ والرفعة، كما قالت الأشعرية، ولا على الاستيلاء والغلبة، كما قالت المعتزلة، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث، ذلك، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق. وقد روي عن أم سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] :«الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب، والجحود به كفر». وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في (صحيحه)، وكذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله قبل موته بقريب: أخبار الصفات تمرّ كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل. وقال أيضا (في رواية بعضهم) : لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذه الأماكن، في كتاب الله عز وجل، أو حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود، فلا يقال في صفات الرب عز وجل (كيف) ؟ و (لم) ؟ لا يقول ذلك إلا شكّاك. وقال أحمد رضي الله عنه (في رواية عنه، في موضع آخر) :
نحن نؤمن بأن الله عزّ وجلّ على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حدّ ولا صفة يبلغها واصف ويحدها حاد، لما روي عن سعيد بن المسيّب، عن كعب الأحبار، قال، قال الله تعالى في (التوراة) : أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، عليه أدبر عبادي، ولا يخفى عليّ شيء من عبادي. وكونه عزّ وجلّ على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبيّ أرسل، بلا كيف، ولأن الله تعالى- فيما لم يزل- موصوف بالعلوّ والقدرة والاستيلاء والغلبة على جميع خلقه، من العرش وغيره. فلا يحمل الاستواء على ذلك. فالاستواء من صفات الذات، بعد ما أخبرنا به، ونص عليه وأكده في سبع آيات من كتابه، والسنة المأثورة به، وهو صفة لازمة له، ولائقة به، كاليد والوجه والعين والسمع والبصر والحياة والقدرة، وكونه خالقا ورازقا ومحييا ومميتا، موصوف بها، ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عزّ وجلّ، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته.
72
لا تفسير له غيرها، ولم نتكلف غير ذلك، فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه، ونسأل الله تعالى العفو والعافية، ونعوذ به من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله عليه السّلام- انتهى كلام الجيلاني قدس سره-.
وروى أبو إسماعيل الأنصاري في (ذم الكلام وأهله) عن أبي زرعة الرازي، أنه سئل عن تفسير الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فغضب وقال: تفسيره كما تقرأ، هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله.
وأسند عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا، ومصرا وشاما ويمنا. فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، بلا كيف، أحاط بكل شيء علما.
تنبيهات:
الأول- في بطلان تأويل (استوى) : ب (استولى) :
قال الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني، صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى، في كتاب (الرد على الجهمية) : زعمت الجهمية أن معنى استوى (استولى) من قول العرب: استوى فلان على مصر، يريدون استولى عليها. قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، فيقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، ثم استولى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه فيها. ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلوّ والاحتجاج عليه.
وقال ابن عرفة في كتاب (الرد على الجهمية) : حدثنا داود بن عليّ قال: كنا عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى؟ قال: هو على عرشه كما أخبر. فقال: يا أبا عبد الله! إنما معناه استولى.
فقال: اسكت. لا يقال: استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضادّ، فأيهما غلب،
73
قيل: استولى. والله تعالى لا مضادّ له، وهو على عرشه كما أخبر. ثم قال: الاستيلاء بعد المغالبة، كما قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد
وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن أحمد بن النضر قال: كان ابن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال لا أعرفه! وفي رواية. أرادني ابن أبي دؤاد أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى استوى بمعنى استولى، فقلت له: والله ما يكون هذا، ولا وجدته. وابن الأعرابي أبو عبد الله كان لغوي زمانه- كما قال الذهبي-.
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه (الإبانة في أصول الديانة)، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه، عند من يطعن عليه، فقال:

فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة


فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون. قيل له: قولنا الذي نقول به التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته، قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين.
ثم قال في (باب الاستواء على العرش) : إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟
قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه، كما قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقد قال الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، وقال بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: ١٥٨]، وقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: ٥]، وقال حكاية عن فرعون وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً
74
[غافر: ٣٦- ٣٧]. كذّب موسى في قوله: إن الله فوق السموات. وقال أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: ١٦] فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ، لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السموات، وليس إذا قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ، يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات. ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: ١٦]، فلم يرد أن القمر يملؤهن، وأنه فيهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم، إذا دعوا، نحو السماء، لأن الله على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها، إذا دعوا، إلى الأرض.
ثم قال:

فصل


وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قال أهل الحق. وذهبوا في الاستواء إلى (القدرة)، فلو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، فالله قادر على الأرض، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم.
فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى (الاستيلاء)، وهو عزّ وجلّ مستول على الأشياء كلها، لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش (الاستيلاء)، الذي هو عامّ في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل- انتهى-.
قلت: وكلام أبي الحسن الأشعري الأخير مأخوذ من كتاب ردّ الإمام أحمد على الجهمية، حيث قال في كتابه المذكور:
ومما أنكرت الجهمية الضّلال أن يكون الله سبحانه على العرش، فقلنا: لم
75
أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، وقال: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: ٥٩]، قالوا: هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السموات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلوا آيات من القرآن وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: ٣]، فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء، فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ... [الملك: ١٦] الآية، وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، وقال وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء: ١٩]، وقال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: ٥٥]، وقال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: ١٥٨]، وقال: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: ٥٠]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: ٤]، وقال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: ١٨]- فهذا أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموما. قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: ١٤٥]. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: ٢٩]، وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: ٣] يقول: هو إله من في السموات، وإله من في الأرض، وهو على العرش! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله:
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق: ١٢].
قال: ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى: لو أن رجلا بني دارا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط
76
بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.
قال أحمد رضي الله عنه: ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ... ) إلى أن قال:
... إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يعني أن الله بعلمه رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم، يفتح الخبر بعلمه، ويختمه بعلمه- انتهى-.
ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور: وقلنا للجهمية: زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: ١٤٣]. لم تجلى، إذا كان فيه بزعمكم؟
ولو كان فيه، كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء. لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن يراه قط قبل ذلك.
وقلنا للجهمية: الله نور؟ فقالوا: نور كله. فقلنا: قال الله عز وجل:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: ٦٩]. فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورا، قلنا:
أخبرونا، حين زعمتم أن الله في كل مكان، وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله. فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته- انتهى-.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) في شرح حديث «١» (ينزل ربنا كل ليلة... ) الحديث- ما نصه: هذا الحديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله تعالى
(١)
أخرجه البخاري في: الدعوات، ١٤- باب الدعاء نصف الليل، حديث رقم ٦٢٩ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له؟» وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ١٦٨.
77
في السماء، على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة. وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: (إن الله في كل مكان، وليس على العرش) والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، ثم ساق عدة آيات في ذلك- وقال: هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة. وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل اسْتَوى استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عزّ وجلّ على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات. وجلّ الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلوّ والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]، قال: علا، قال: تقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله تعالى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَاسْتَوى [القصص: ١٤]، انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.
قال ابن عبد البر: الاستواء: الاستقرار في العلوّ، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف: ١٣]، وقال تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: ٤٤]، وقال تعالى:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: ٢٨]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأوّل فيه أحد (استولى)، لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال: (استووا) فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابيّ إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفّعوا، فقال الخليل: هو من قول الله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩]، فصعدنا إليه. قال: وأما من نزع منهم
78
بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] قال: استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان- فالجواب:
أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان. وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف. وهم لا يقبلون أخبار الآحاد، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث، لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً [غافر: ٣٦- ٣٧] ؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا. قال الشاعر:
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد موحّد
مليك على عرش السماء مهيمن لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
وهذا الشعر لأميّة بن أبي الصّلت. وفيه يقول في وصف الملائكة:
وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظّم ربّا فوقه ويمجّد
قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤]، وبقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: ٣]، وبقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: ٧]، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته- تبارك وتعالى جدّه- قيل: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير. وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر. وأما قوله في الآية الأخرى:
وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ فالإجماع والاتفاق قد بيّن أن المراد أنه معبود من أهل الأرض.
فتدبر هذا فإنه قاطع.
ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا
79
وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته. لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم،
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم للأمة التي أراد مولاها عتقها «١»، إن كانت مؤمنة. فاختبرها رسول الله صلى الله على وآله وسلّم بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: من أنا؟
قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة
. فاكتفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.
قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا. قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. قال سنيد:
حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
ثم ساق من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم. وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب (الاستذكار).
وقال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في (الرسالة المدنية) : إذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو وصفه بها المؤمنون
(١)
أخرجه مسلم في صحيحه: في المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣٣ وهو قطعة من حديث طويل ونصها: عن معاوية بن الحكم السّلميّ قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوّانيّة (موضع في شمال المدينة) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها. وأنا رجل من بني آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعظّم ذلك عليّ. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال «ائتني بها» فأتيته بها فقال لها «أين الله» ؟ قالت: في السماء. قال «من أنا» ! قالت أنا رسول الله. قال «أعتقها فإنها مؤمنة».
80
الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بدّ من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة- فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض. وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبيّن أن الحقيقة مرادة، امتنع تركها. ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه، سواء عيّنه أو لم يعيّنه، لا سيما في الخطاب العلميّ الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبيّن للناس ما نزّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: ١٦٥]. ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات. ثم الأمّة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره، إما بأن يكون عقليّا ظاهرا مثل قوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ٢٣] فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد (أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها). وكذلك قوله:
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٠٢] يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعيّا ظاهرا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر.
81
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفيّ لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيّا أو عقليّا، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم، وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب، ويعقلوه ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب أن لا يقصدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره، لأن هناك دليلا خفيّا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره- كان تدليسا أو تلبيسا، وكان نقيض البيان، وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجيّ أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ - انتهى-.
الثاني- يتوهم كثير أن القول بالعلوّ والاستواء يلزم منهما القول بالتجسيم، وقد رمى بذلك كثير من المحدّثين، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال- عفا الله عنه-: وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة، وأكثرهم المحدّثون. ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، ومبالغة في القدح في نفيها. ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال: هو معدوم، أو يقال: طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التعطيل. هذا مع علوّ كعبه في العلوم العقلية والنقلية، كما يشهد به من تتبع تصانيفه.
ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة (الفوق)، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء. ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلا، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول، وأنكر كون (الفوق) قبلة الدعاء، بل قال: قبلة الدعاء هو نفسه، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوّز انتهى كلام الدواني-.
وتعقبه غير واحد:
منهم: الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة (بمجلى المعاني) قال: إن ابن تيمية ليس قائلا بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسما، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول. وقال في رسالة أخرى: من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان، أو إن الله يماثل شيئا من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه.
82
بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، مع نفي اللوازم، ونقل عليه إجماع السلف، صرح به في الرسالة القدرية- انتهى-.
ومنهم: وليّ الله الدهلوي قدس سره، قال في كتابه (حجة الله البالغة) :
واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث، وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة، وقد وضح عليّ وضوحا بيّنا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى- انتهى-.
ومنهم: الشهاب الألوسي المفسر، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون- يعني ابن تيمية- من المجسمة، بل هو أبرأ الناس منهم. نعم يقول بالفوقية، وذلك مذهب السلف، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث، وكلام السلف الصالح، كما لا يخفى على العارف المنصف. نقله عنه ابنه في (محاكمة الأحمدين).
وأقول. إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه في فتاويه التي أوضح فيها الحق، وأنار بها مذهب السلف قاطبة. وهاك شذرة من درره. قال رحمه الله في بعض فتاويه:
والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وجب التصديق به، مثل علوّ الرب، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: هو في جهة، أو ليس في جهة، وهو متحيز، أو ليس بمتحيّز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، لا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين- هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر. فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا. فإن يريدوا معنى صحيحا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولا منهم. وإن أرادوا معنى فاسدا يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليهم. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السموات، أم تريد بالجهة أمرا عدميّا، وهو
83
ما فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله تعالى محصورا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية، وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه، بل هو العالي عليها، المحيط بها، وقد قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: ٦٧]، الآية-
وقد ثبت في الصحيح «١» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض» ؟
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السموات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة. فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى، إلى هذا الحقر والصغار، كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات ربّ يعبد، ولا على عرش إله، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يعرج به إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه- فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقرّ به فهو جاهل متناقص في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق. وإن قال: مرادي بقولي (ليس في جهة) أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى. وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز: إن أراد بقوله (متحيز) أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ، وإن أراد به منحاز عن المخلوقات، بائن عنها، عال عليها، فقد أصاب. ومن قال: (ليس بمتحيز)، إن أراد المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها، ولا خارج عنها، فقد أخطأ.
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
(١)
أخرجه البخاري في: الرقاق، ٤٤- باب يقبض الله الأرض حديث ٢٠٣٩ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه. ثم يقول. أنا الملك. أين ملوك الأرض؟».
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٢٣.
84
فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق.
وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارج، ولا مباين له، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول قول عباد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبّدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود، الذي هو قول فرعون. وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلقهما، فإما أن يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائنا عنهما، لم يدخل فيهما، ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كما متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «١» : كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟
ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: ٣٠]، وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطرهم الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى، ودينه عزّ وجلّ، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات، لا
(١)
أخرجه البخاري في: الجنائز، ٧٩- باب إذا أسلم الصبيّ فمات هل يصلّى عليه، حديث ٧١٦ ونصه: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء»
؟.
ثم يقول أبا هريرة رضي الله عنه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
وأخرجه مسلم في: القدر، حديث رقم ٢٢.
85
يفهم كثير من الناس مقصودهم بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين.
كلفظ: المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك. فمن كان عارفا بحال شبهاتهم بيّنها، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: ٦٨]. ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل، وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه. وكثير منهم قرءوا كتبا من كتب الكلام، فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ، ولا ما أراد بها أصحابها، فإن ذكر لفظ (الجسم) في أسماء الله تعالى وصفاته، بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولم يقل أحد منهم إن الله تعالى جسم ولا أن الله تعالى ليس بجسم، ولا أن الله تعالى جوهر، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر. ولفظ الجسم لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن. ومن قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان فهو مفتر على الله عز وجل، بل من قال إن الله تعالى يماثل شيئا من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال، ومن قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثل شيئا من المخلوقات، فالمعنى صحيح، وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل القرآن العربي مخلوق، أو هو تصنيف جبريل عليه السلام، أو نحو ذلك، فهو مفتر على الله تعالى فيما نفاه عنه. وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة، ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسّم، بل نقول: الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته.
إلى أن قال: فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال عز شأنه:
86
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١]، فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد على الممثلة. وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد على المعطلة- انتهى ملخصا-.
قال رضي الله عنه (في جواب على سؤال رفع إليه نصه: الاستواء هل هو حقيقة أو مجاز؟) : ما نصه ملخصا:
القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم، فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات، فالقول في بعض هذه الصفات، كالقول في بعض. ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات، بل هذا جحد للخالق، وتمثيل له بالمعدومات. وقد قال ابن عبد البر:
أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، لأنهم لا ينفون شيئا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج، فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أقرّ بها، نافون للمعبود، لا مثبتون. والحق فيما قاله القائلون، مما نطق به الكتاب والسنة، وهم أئمة الجماعة. هذا الذي حكاه ابن عبد البر.
ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة، فإنما أنكر، لجهله لمسمى الحقيقة، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين. وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلا للخالق، فيقال له: هذا باطل، فإن الله موجود حقيقة، والعبد موجود حقيقة، وله تعالى ذات حقيقة، والعبد له ذات حقيقة، وليس ذاته تعالى كذات المخلوقات، وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة، وللعبد سمع وبصر وعلم حقيقة، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم العبد وسمعه وبصره. ولله كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين. والله استوى على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوق. فإن الله لا يفتقر إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء، والله تعالى يحمل العرش وحملته، بقدرته ويُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
87
أَنْ تَزُولا
[فاطر: ٤١]. فمن ظن أن معنى قول الأئمة (الله مستو على عرشه حقيقة) يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن الله له علم حقيقة وسمع وبصر حقيقة وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم، فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته. فكيف يكون العبد مستحقّا للأسماء الحسنى حقيقة، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازا؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى، فله المثل الأعلى. فكل كمال حصل للمخلوق، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه مخلوق، فالحق أحق أن ينزه عنه، ولهذا كان لله المثل الأعلى، فإنه لا يقاس بخلقه، ولا يمثل بهم، ولا تضرب به الأمثال، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عريّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. فإذا قال: وجود الله، وذات الله، وعلم الله، وقدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، وكلام الله، ورحمة الله، وغضب الله، واستواء الله، ونزول الله ومحبة الله، ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات. وإذا قال: وجود العبد وذاته وماهيته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفاته صفات الله تعالى. بل أبلغ من ذلك، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ما ذكره في كتابه. كما ذكر أن فيها لبنا وعسلا وخمرا ولحما وحريرا وذهبا وفضة وحورا وقصورا وغير ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولهما حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، والمخلوق عن مشابهة الخالق. فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض، مع أن
88
مباينتهما للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق لكل مخلوق؟ والجاهل يضل بأن يقول: العرب إنما وضعوا لفظ (الاستواء) لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، أو استواء السفينة على الجوديّ، ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات. فهو كما يقول القائل: إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا، وأصمخة وآذانا، وشفتين ولسانا، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد،
وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته مما يختص به، يتناول ذلك خصائص العبد. وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته، كان هذا متناولا لما يختص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين. وكذلك إذا قيل استواء الرب، فهذا الاستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع والبصر المضاف إلى الله. لا يجوز أن يتناول ذلك شيئا من خصائص المخلوقين وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي، والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح. ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات: فإذا أثبتوا البعض، ونفوا البعض، قيل لهم: ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وعقلا. ونظائر هذا كثيرة، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته، إذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم، كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته، وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد. وإن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضا في قوله، متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض.
وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطّراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من خالفه، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع، مخالفا للفطرة والشرع، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة- انتهى-.
89
فائدة:
في منشأ هذا التعطيل وبيّن رضي الله عنه، في فتوى أخرى له في الصفات، مورد هذا التعطيل.
حيث قال رضي الله عنه:
ثم أصل هذه المقالة إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلّال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة- أعني أن الله ليس على العرش حقيقة وإنما اسْتَوى استولى ونحو ذلك- أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفون وأظهرها. فتنسب مقالة الجهمية إليه، والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن أعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلّى الله عليه وسلم. وكان الجعد هذا- فيما قيل- من أهل حرّان، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة، والفلاسفة، بقايا أهل دين النمروذ الكنعانيين، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل عليه السّلام إليهم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة، وأخذها الجهم أيضا- فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- من السمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسّيات، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والصائبين والمشركين. والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين، وإما من المشركين. ثم لما عرّبت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال، ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. ولما كان في حدود المائة الثانية، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر ابن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة- مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة وأبي يوسف والشافعيّ وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم- في بشر المريسي هذا كثير في ذمه وتضليله. وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمدانيّ وأبي الحسين البصري وابن عقيل وأبي حامد
90
الغزالي وغيرهم، وهي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه. وإن كان قد يوجد في كلام هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بيّنت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي. وعلمنا ذلك بكتاب (الرد) الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري، صنف كتابا سماه (نقض عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد) حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم ردها عثمان بن سعيد بكلام، إذا طالعه العاقل الذكيّ، علم حقيقة ما كان عليه السلف فتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم. ثم إذا رأى الأئمة- أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفّروهم، أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين، هو مذهب المريسي- تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال رضي الله عنه:
ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته. وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون، فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثلوا أولا، وعطلوا آخرا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى. فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا، وكل ذلك محال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان، على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله، ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة، كما يلزم سائر الأجسام. وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، إذ لا يعقل موجود إلا هذان. أو قوله: إذا كان مستويا على العرش، فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا. فإن كليهما مثّل، وكلاهما عطّل
91
حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات (استواء) هو من خصائص المخلوقين، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.
واعلم أنه ليس في العقل الصحيح، ولا في النقل الصريح، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة عن الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحبّ حلها، فذلك سهل يسير- انتهى كلامه-.
ومن أحاط عقله بهذه الغرر، علم براءة ساحة السلف مما رموا به من التجسيم.
وفي هذه النفائس من الفوائد ما يشفع لدى الواقف بطوله.
الثالث: يطلق العرش على معان: السرير، ومنه آية وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: ٢٣]، والملك، يقال: ثل عرشهم. وسقف البيت، ومنه آية: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة: ٢٥٩]، وحديث (كالقنديل المعلق بالعرش). أو البناء، ومنه وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: ١٣٧]، أي يبنون. ومنه: العريش، وهو ما يستظل به. والعرش المضاف إلى الله تعالى لا يحدّ.
قال في القاموس: العرش، عرش الله تعالى، ولا يحدّ- انتهى-.
وقال الراغب: عرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة، ولذا لم يصح في صفته حديث، وكل ما روي في ذلك فليس من مرويات الصحاح.
قال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) : وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم، خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله، وتعبّدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي أكثر الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه، وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك- انتهى-.
وقال الحافظ الذهبي في كتاب (العلوّ) : اعلم أن الله عزّ وجلّ، قد أخبرنا، وهو أصدق القائلين، بأن عرش بلقيس عرش عظيم، فقال: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: ٢٣]
92
ثم ختم الآية بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: ٢٦]، فكان عرشها عظيما بالنسبة إليها، وما نحيط الآن علما بتفاصيل عرشها ولا بمقداره ولا بماهيته. ثم قال: فما الظن بما أعد الله تعالى من السّرر والقصور في الجنة لعباده، فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته وقوائمه وماهيته وحملته الحافّين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته؟ اسمع وتعقل ما يقال، والجأ إلى الإيمان بالغيب، فليس الخبر كالمعاينة، فالقرآن مشحون، بذكر العرش، وكذلك الآثار، بما يمتنع أن يكون المراد به (الملك). فدع المكابرة والمراء، فإن المراء في القرآن كفر. آمنا بالله وأشهد بأنّا مسلمون. لا إله إلا الله الحليم الكريم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم.
الحمد لله رب العالمين. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى-.
الرابع- سئل الشيخ تقيّ الدين بن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، عن العرش:
هل هو كري أم لا، فإذا كان كريّا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة، فيقصد العلوّ دون غيره، إذ لا فرق حينئذ بين قصد جهة العلوّ وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا يطلب العلوّ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة. فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها.
فأجاب رحمه الله بقوله:
إنّ لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرّية، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة، فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع، وهو الأطلس، محيط بها، وهو الذي يحركها الحركة الشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيّه والسماوات السبع، فقالوا (بطريق الظن) : إن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شيء، إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق. ثم إن منهم من رأى أنه هو الذي يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس. وجعله بعضهم هو اللوح المحفوظ، وبعض الناس ادعى أنه علم ذلك بطريق الكشف، وذلك غير صحيح، بل أخذه من هؤلاء المتفلسفة، كما فعل أصحاب (رسائل إخوان الصفاء). والأخبار تدل على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات، وأنه قبل السموات والأرض.
فقد ثبت في صحيح
93
البخاري «١» أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض، وأن له قوائم»
- كما
في حديث «٢» أبي سعيد: فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش.
وقد استدل من قال إنه مقبب، بما
رواه أبو داود «٣» من قوله عليه الصلاة والسلام (وإن الله تعالى على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وسماواته فوق أرضه هكذا- وقال بأصابعه مثل القبة)
-. وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ (القبة) يستلزم استدارة من العلوّ، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل. ولفظ (الفلك) يستدل به على الاستدارة مطلقا، كما قال ابن عباس في كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: ٣٣] : في فلكة مثل فلكة المغزل وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا ينفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلوّ.
واعلم أن العرش، وسواء كان هذا الفلك التاسع، أو جسما محيطا به، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض، محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلويّ والسفليّ بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ
[الزمر: ٦٧].
وفي الصحيحين «٤» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض
(١) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، ١- باب ما جاء في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، حديث ١٥٠٦ عن عمران بن حصين.
(٢)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٢٥- باب قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، حديث رقم ١١٩٣، ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش. فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور»
.
(٣)
أخرجه أبو داود في: السنّة، ١٨- باب في الجهمية، حديث رقم ٤٧٢٦، ونصه: عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعرابيّ فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ويحك! أتدري ما تقول» ؟ وسبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: «ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه.
شأن الله أعظم من ذلك. ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا»
وقال بأصابعه مثل القبة عليه «وإنه ليئطّ أطيط الرحل بالراكب»
. (٤) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٩- سورة الزمر، ٢- باب وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، حديث رقم ٢٠٣٩ عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٢٣.
94
يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟»
وفي الصحيحين «١» عن عبد الله بن عمر، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون، أين المتكبرون؟» ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون، أين المتكبرون؟»
وفي لفظ «٢» : ويتميل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء.
وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ...
الآية- قال: مطويّة في كفه، يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة
، ففي هذه الأحاديث وغيرها، المتفق على صحتها، ما يبيّن أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل، أصغر من أن تكون، مع قبضه لها، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا، حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
ثم قال في الجواب: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم سميناه كما سماه، ولم نتكلف علم ما سواه، فلا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. وإذ كان كذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة. في ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل.. وبكل حال فهو مباين لها، ليس بمجانب لها. ومن المعلوم أن الواحد منا- ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها، فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها، بل جعلها تحته، فهو في الحالين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات، كإحاطة الكرة بما فيها أم قيل إنه فوقها وليس محيطا بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك- فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه فوقه، والعبد في توجهه إليه عزّ وجلّ، يقصد العلوّ، دون التحت.
وتمام هذا البحث بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك،
(١) أخرجه البخاري في: التوحيد، ١٩- باب قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، حديث رقم ٢٦٠٠.
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٢٤ و ٢٥. وهذا لفظ مسلم.
(٢)
نصه في مسلم: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله؟
وليس فيه (ويتميل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على يمينه وعلى شماله).
[.....]
95
ويكون محيطا بها، وإما أن يكون فوقها، وليس بكري. فإن كان الأول، فمن المعلوم- باتفاق من يعلم هذا- أن الأفلاك مستديرة كرية، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهو المحدود، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان:
العلوّ والسفل فقط. وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو للعلوّ، والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي على الناس والبهائم وغيرهما. فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحدا، لكان على ظهر الأرض، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه. كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشماليّ تحت الجنوبيّ، ولا بالعكس، وإن كان الشماليّ هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو (تحت) إضافي. كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيانه، وكذلك من علق منكوسا، فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته. وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة. وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب، فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسين المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره. ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم. فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلوّ. ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلا من غير جهة العلوّ،
96
كان جاهلا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه! وغاية ما يقدر أن يكون كريّ الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. وأما قول القائل:
إذا كان كريّا، والله من ورائه محيط بائن عنه، فما الفائدة في التوجه إلى العلوّ دون التحت، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلوّ؟ فيقال: هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض، من الآدميين والبهائم، وهذا غلط. فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة، لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا، وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه، لكان ينتهى إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر، لالتقيا جميعا في المركز، الذي هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض. ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر، لالتقت رجلاهما، ولم يكن أحدهما تحت الآخر، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك. وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب، لأنه لو قدر أن رجلا أو ملكا يصعد إلى السماء، كان صعوده مما يلي رأسه، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، أو يذهب يمينا أو شمالا ثم يصعد.
ولو أن رجلا أراد مخاطبة القمر، فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أنه قد يشرق ويغرب، فكيف بما هو فوق كل شيء لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى. وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق، وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد، كيف يعدل عن الصراط المستقيم؟.
مطلب في حديث الإدلاء
إلى أن قال:
وحدث الإدلاء، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر، قد رواه الترمذي وغيره «١» من
(١)
رواه الترمذي في: التفسير، ٥٧- سورة الحديد، ونصه: عن قتادة، حدثنا الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب. فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم «هل تدرون ما هذا» ؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال «هذا العنان، هذه روايا الأرض، يسوقه الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» قال «هل تدرون ما فوقكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «فإنها الرقيع، سقف محفوظ وموج مكفوف» ثم قال «هل تدرون كم بينكم وبينها» ؟ قالوا: الله
97
حديث الحسن عن أبي هريرة، وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع. فإن كان ثابتا، فمعناه موافق لهذا. فإن
قوله صلى الله عليه وسلّم: لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله، إنما هو تقدير مفروض
، أي لو وقع الإدلاء الوقع عليه، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز. والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بيّن أنه يقبض السموات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرأ في تمام الحديث:
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: ٣] وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حالّ بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم، بل على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه. وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلوّ، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: ٣٠]. فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة.
وقد ثبت في الصحيحين «١» أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذ قام أحدكم إلى الصلاة فلا
ورسوله أعلم قال «بينكم وبينها مسير خمسمائة سنة» ثم قال «هل تدرون ما فوق ذلك» ؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال «فإن فوق ذلك سماءين، ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّد سبع سموات، ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال «هل تدرون ما فوق ذلك» ؟
قالوا: الله ورسوله أعلم قال «فإن فوق ذلك العرش. وبينه وبين السماء بعد مثل ما بين المساءين» ثم قال «هل تدرون ما الذي تحتكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فإنها الأرض» ثم قال تدرون ما الذي تحت ذلك» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «فإن تحتها الأرض الأخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال «والذي نفس محمد بيده! لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى، لهبط على الله».
ثم قرأ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
(قال أبو عيسى) : هذا حديث غريب من هذا الوجه.
قال: ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعليّ بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة (أقول) في سماع الحسن من أبي هريرة، انظر تعليق السيد أحمد محمد شاكر على الحديث رقم ٧١٣٨ من مسند أحمد.
(١) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٣٣- باب حك البزاق باليد من المسجد، حديث ١٨٠ عن أنس.
و٣٦- باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، حديث ٢٧٢ عن أبي سعيد الخدري.
98
يبصق قبل وجهه، فإن الله تعالى قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت رجله».
وفي رواية: إنه أذن أن يبصق في ثوبه.
وفي حديث «١» أبي رزين المشهور: لما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه، فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى: هذا القمر آية من آيات الله تعالى، كلكم يراه مخليا به، فالله أكبر.
وفي الصحيحين «٢» : لينتهينّ أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو لا ترجع إليهم أبصارهم
. واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه.
وروى محمد بن سيرين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى نزل: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: ٢]، فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده
. فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة، لأن الداعي المأمور بالذل، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه. خلافا للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر، وقد قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: ١٤٤] الآية- ثم بين تأويل (الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه) وقال: قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا وهم، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا تكون اليد حقيقة. وقوله: (فكأنما صافح الله تعالى) إلخ صريح في أن المصافح ليس مصافحا له تعالى، لأن المشبّه ليس هو المشبه به.
إلى أن قال: فهذا كله بتقدير كرّية العرش، وأما إذا قدر أنه ليس بكري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكريّة، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام، فوق نصف الأرض الكريّ، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه- فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا
(١) أخرجه أبو داود في: السنة، ١٩- باب في الرؤية، حديث ٤٧٣١.
وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١٣- باب فيما أنكرت الجهمية، حديث رقم ١٨٠ ونصه: عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! أنرى الله يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال «يا أبا رزين! أليس كلكم يرى القمر مخليا به» ؟ قال قلت: بلى قال «فالله أعظم، وذلك آية في خلقه».
وكذا في أبي داود.
(٢) أخرجه البخاري في: الأذان، ٩٢- باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، حديث رقم ٥٤٧ عن أنس. وليس في مسلم.
99
إلى العلوّ، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه. وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض. وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من إعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريّا، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته، سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب (فيما عند الزاعم) أن يكون سبحانه كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريّا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها، بل قد تبين أن سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. فإذا كانت الحمصة مثلا في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل، إذا استشعر علوّ الإنسان على ذلك وإحاطته، بأن يكون الإنسان كالفلك؟ فالله تعالى- وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك. وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: ٦٧]. وإذا لم يكن كريّا.
فالأمر ظاهر مما تقدم، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله تعالى أعلم.
وإنما أشبعنا الكلام، في هذا المقام، لأنه من أصول العقائد الدينية، ومهمات المسائل التوحيدية، وقد كثر فيه تعارك الآراء، وتصادم الأهواء، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين، فإن الأئمة منهم، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطيه به، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار، فيغطيه ويلبسه، حتى يذهب بنوره، ويصير الجو مظلما، بعد ما كان مضيئا. قال الشهاب: وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الاستعارة، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه، فكأنه لفّ عليه لفّ الغشاء، أو شبه تغييب كل منهما، بطريانه عليه، بستر اللباس للابسه- انتهى-.
ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما، ولذلك قرئ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بنصب الليل، ورفع النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي يعقبه سريعا، كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء. قال الرازيّ: وإنما وصف سبحانه هذه الحركة بالسرعة،
100
لأن تعاقب الليل والنهار إنما يخصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا:
الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه.
قال الشهاب: وسماه (أمرا) على التشبيه، إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء كأنهن مأمورات منقادة لأمره. ويصح حمله على ظاهره- انتهى-.
أي وهو الكلام، فيكون تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم، والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا، وخراب هذا العالم. وقد قرئ وَالشَّمْسَ وما بعده بالنصب عطفا على السَّماواتِ ونصب مُسَخَّراتٍ على الحال. وقرأها ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء، والخبر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسن إرادته، وفسر الأمر بالقضاء والحكم.
تنبيهان:
الأول: استخرج سفيان بن عيينة، من هذا المعنى، أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر.
يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر، لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله. كذا في (اللباب). قال في (الإكليل) : استدل به ابن عيينة على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم. لأن (الأمر) هو الكلام، وقد عطفه على (الخلق) فاقتضى أن يكون غيره، لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي. انتهى الثاني: قال في اللباب: في الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عزّ وجلّ، أي للحصر المستفاد من تقديم الظرف. ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم.
تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم. قال في (التاج) :
سئل أبو العباس عن تفسير تَبارَكَ اللَّهُ فقال: ارتفع- انتهى-.
ولما ذكر تعالى الدلائل على كمال القدرة والحكمة، ليفردوه بالألوهية، أمرهم بأن يدعوه وحده متذللين مخلصين فقال سبحانه:
101
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٥]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً نصب على الحال، أي: ذوي تضرع وخفية، والتضرع (تفعّل) من (الضراعة) وهو الذل. والخفية (بضم الخاء وكسرها) مصدر خفي كرضي بمعنى اختفى، أي استتر وتوارى. وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة، والرحمة الواسعة. وإذا حصل له ذلك، فلا بد من صونه عن الرياء، وذلك بالاختفاء، وتوصلا للإخلاص.
فوائد:
في هذه الآية مشروعية الدعاء، بشرطيه المذكورين:
قال السيوطي في (الإكليل) : ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء، فيستحب.
وقد أخرج البزار عن أنس: رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه بعرفة يدعو، فقال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم: هذا الابتهال. ثم خاضت الناقة، ففتح إحدى يدية فأخذها وهو رافع الأخرى-
انتهى-.
وفي الصحيحين «١» عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا. إن الذي تدعون سميع قريب»... الحديث.
وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل، لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل، ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزّور وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر،
(١)
أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٣- باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، حديث رقم ١٤٢٣ ونصه: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فكنا إذا أشرفنا على واد هلّلنا وكبّرنا ارتفعت أصواتنا. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أيها الناس! اربعوا على أنفسكم. فإنكم لا تدعون أصم ولا غالبا. إنه معكم. إنه سميع قريب. تبارك اسمه وتعالى جدّه».
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ٤٤
.
102
فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: ٣].
وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة.
وقال الناصر في (الانتصاف) : وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرّع فيه ولا خشوع، لقليل الجدوى. فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصا في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتدّ، وتستكّ المسامع وتستدّ، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد، وربما حصلت للعوامّ حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء. وفي خفض الصوت به، أوفر وأوفى وأزكى. فما أكثر التباس الباطل بالحق، على عقول كثيرة من الخلق.
اللهم! أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه- انتهى-.
وقد روى الحافظ أبو الشيخ في (الثواب) عن أنس مرفوعا: دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية.
وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي: لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء، ويدخل فيه الاعتداء بترك الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء دخولا أوليّا.
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية كراهية الاعتداء في الدعاء. وفسره زيد ابن أسلم بالجهر، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الاعتداء.
103
وقد روى الإمام أحمد «١» وأبو داود أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول:
اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوّذت بالله من شرّ كثير، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء (وفي لفظ: يعتدون في الطهور والدعاء)، وقرأ هذه الآية: ادْعُوا رَبَّكُمْ...
الآية- وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل.
وروى الإمام أحمد «٢» وأبو داود أن عبد الله بن مغفّل سمع ابنه يقول: اللهم! إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بنيّ! سل الله الجنة، وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور
. القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٦]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها قال أبو مسلم: أي لا تفسدوها بعد إصلاح الله إياها، بأن خلقها على أحسن نظام، وبعث الرسل، وبيّن الطريق، وأبطل الكفر.
وقال أبو حيّان: هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض، وإدخال ماهيته في الوجود بجميع أنواعه، من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان.
ومعنى بَعْدَ إِصْلاحِها: بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق، ومصالح المكلفين. انتهى.
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: ذوي خوف من وبيل العقاب، نظرا إلى قصور
(١) أخرجه في المسند ١/ ١٧٢، والحديث رقم ١٤٨٣.
وأخرجه أبو داود في: الوتر، ٢٣- باب الدعاء، حديث رقم ١٤٨٠.
(٢) أخرجه في المسند ص ٨٧ ج ٤.
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٤٥- باب الإسراف في الماء، حديث رقم ٩٦.
104
أعمالكم، وطمع فيما عنده من جزيل الثواب، نظرا إلى سعة رحمته، ووفور فضله وإحسانه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي: أن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ... [الأعراف: ١٥٦] الآية.
لطائف:
الأولى- قال في (اللباب) : إن قلت: قال في أول الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وقال هنا وَادْعُوهُ، وهذا هو عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟
قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ أي: ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات، وقوله وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء. وقيل: معناه كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما.
الثانية- في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ... الآية- ترجيح للطمع على الخوف، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها، غلب الرجاء عليه. وفيه أيضا تنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة، وهو الإحسان في القول والعمل. قال مطر الوراق: استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين.
الثالثة: تذكير (قريب)، لأن (الرحمة) بمعنى الرحم، أو لأنه صفة لمحذوف، أي أمر قريب، أو على تشبيه ب (فعيل)، الذي هو بمعنى (مفعول) أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل، أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره، فإنه يقال: فلانة قريبة مني لا غير، وفي المكان وغيره يجوز الوجهان. أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه، كما أن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه. وقد أوصلوا توجيه تذكيره إلى خمسة عشر وجها.
ولما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قدير- نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة، فقال سبحانه:
105
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٧]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام رحمته التي هي المطر، فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدرّه، والدبور تفرقه.
وهذا كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: ٢٨]، وقوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم:
٤٦]. قال الثعالبي: المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.
تنبيه:
قال أبو البقاء: يقرأ نَشْراً بالنون والشين مضمومتين، وهو جمع، وفي واحده وجهان أحدهما (نشور) مثل صبور وصبر. فعلى هذا يجوز أن يكون (فعول) بمعنى (فاعل)، أي: ينشر الأرض. ويجوز أن يكون بمعنى (مفعول) كركوب بمعنى مركوب، أي: منشورة بعد الطي، أو منشرة أي محياة، من قولك أنشر الله الميت فهو منشر، ويجوز أن يكون جمع ناشر، مثل بازل وبزل. ويقرأ بضم النون وإسكان الشين على تخفيف المضموم. ويقرأ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو مصدر نشر بعد الطي، أو من قولك أنشر الله الميت فنشر أي عاش.
ونصبه على الحال، أي ناشرة، أو ذات نشر، كما تقول: جاء ركضا أي راكضا.
ويقرأ: بشرا بالباء وضمتين، وهو جمع بشير، مثل قليب وقلب. ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف. ويقرأ بشرى مثل حبلى، أي: ذات بشارة ويقرأ بشر بفتح الباء وسكون الشين، وهو مصدر بشرته- أي بالتخفيف- إذا بشّرته- انتهى-.
حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي حملت سَحاباً ثِقالًا أي من كثرة ما فيها من الماء سُقْناهُ أي السحاب. قال الشهاب: السحاب اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، كتمر وتمرة. وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه، ويجمع. وأهل اللغة تسميه جمعا، فلذا روعي فيه الوجهان، في وصفه وضميره- انتهى-. أي أرسلناه
مع أن طبعه الهبوط لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي: لأجله ولمنفعته، أو لإحيائه أو لسقيه.
و (ميت) قرئ مشددا ومخففا فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ أي الضمير. والضمير في (به) للبلد فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي المختلفة الأنواع، مع أن ماءها واحد.
والمراد (بكل الثمرات) المعتادة في كل بلد تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها. والضمير في (به) للماء أو للبلد. كَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج نُخْرِجُ الْمَوْتى أي نحييها بعد صيرورتها رميما يوم القيامة، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها، كما ينبت الحب في الأرض لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي إنما وصفنا ما وصفنا من هذا التمثيل لكي تتذكروا، من أحوال الثمرات التي أعيدت إلى حالها بعد تلفها، أحوال الآخرة، فتعلموا أن من قدر على ذلك، قدر على هذا بلا ريب.
تنبيه:
من أحكام الآية كما قال الجشمي: أنها تدل على عظم نعمه تعالى علينا بالمطر، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات، وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر. وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء. وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء. فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده، لضرب من المصلحة دينا ودنيا.
ومنها إذا رأى الأرض الطيبة تزرع دون الأرض السبخة، وأنها قطع متجاورات، علم فساد التقليد، وأنه يجب أن يتفحص عن الحق حتى يعتقده. ومنها أنه إذا زرع وعلم وجوب حفظه من المبطلات، علم وجوب حفظ الأعمال الصالحة من المحيطات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٨]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي: الأرض الكريمة التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي يخرج نباته وافيا حسنا غزير النفع بمشيئته وتيسيره وَالَّذِي خَبُثَ أي كالحرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. وكالسبخة (بكسر الباء) وهي الأرض ذات الملح لا يَخْرُجُ أي: نباته إِلَّا نَكِداً أي: قليلا، عديم النفع. يقال: عطاء نكد، أي قليل
107
لا خير فيه، وكذا رجل نكد. قال:
فأعط ما أعطيته طيّبا لا خير في المنكود والنّاكد
وقال:
لا تنجز الوعد إن وعدت. وإن أعطيت، أعطيت تافها نكدا
تنبيه:
قال ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
وقال قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله، وانتفع به. كالأرض الطيبة أصابها الغيث، فأنبتت، والكافر بخلاف ذلك. وهذا كما
في الصحيحين «١» عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
لطيفة:
قال أبو البقاء: يقرأ يَخْرُجُ نَباتُهُ بفتح الياء وضم الراء ورفع النبات. ويقرأ كذلك إلا أنه بضم الياء، على ما لم يسم فاعله. ويقرأ بضم الياء وكسر الراء ونصب النبات أي: فيخرج الله أو الماء. ثم قال: ويقرأ نَكِداً بفتح النون وكسر الكاف، وهو حال، ويقرأ بفتحهما على أنه مصدر أي: ذا نكد. ويقرأ بفتح النون وسكون الكاف وهو مصدر أيضا، وهو لغة ويقرأ يخرج بضم الياء وكسر الراء، ونكدا مفعوله.
كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي: نبين وجوه الحجج ونرددها ونكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يعني كما ضربنا هذا المثل، كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية، وحجة بعد حجة، لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية، وأن جنّبهم سبيل الضلالة. وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذينا انتفعوا بسماع القرآن.
(١) أخرجه البخاري في: العلم، ٢٠- باب فضل من علم وعلّم، حديث ٦٨.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث ١٥.
108
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٥٩]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩)
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ اعلم أن الله تعالى، لما ذكر في أول السورة قصة آدم، وما اتصل بها من آثار قدرته، وغرائب صنعته الدالة على توحيده وربوبيته، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت- أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما جرى لهم مع أممهم. قال الرازي: وفيه فوائد:
أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات، ليس من خواص قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت، فكان ذكر قصصهم، وحكاية إصرارهم وعنادهم، يفيد تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتخفيف ذلك على قلبه.
ثانيها: أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا، والخسارة في الآخرة، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.
وثالثها: التنبيه على أنه تعالى، وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يهملهم، بل ينتقم منها على أكمل الوجوه ورابعها: بيان هذه القصص دالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأنه كان أميّا، وما طالع كتابا، ولا تلمذ أستاذا. فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ، دلّ ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله تعالى.
ونوح عليه السلام هو آبن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. هكذا نسبه ابن إسحاق وغير واحد من الأئمة، وأصله من التوراة.
ومعنى (أرسلنا) بعثنا، وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس. كذا في (اللباب).
وإدريس هو أخنوخ- فيما يزعمون، قاله ابن كثير-: قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبيّ من قومه من الأذى مثل نوح، إلا نبيّ قتل. وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه- انتهى. وفيه نظر. لأنه إنما يصح ما ذكره، لو كان (نوح) لقبا مع وجود اسم له غيره، واللفظ عربيّا، لمناسبة الاشتقاق. أما وهو اسمه
الوضعي، واللفظ غير عربي، فلا. وفي كتاب (تأويل الأسماء الواقعة في الكتب السالفة) أن نوحا معناه راحة أو سلوان، فتثبّت.
وكان، قبل بعثة نوح عليه السلام، قوم عرفوا الله وعبدوه خصوصا في عائلة شيث عليه السلام، ثم فسد نسل شيث أيضا، واختلطوا مع الأشرار، وامتلأت الأرض من جرائمهم، وزاغوا عن الصراط المستقيم، وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام، ليدلهم على طريق الرشاد.
قال ابن كثير: قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه- وله الحمد والمنة- رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فَقالَ يا قَوْمِ أي: الذين حقهم أن يشاركوني في كمالاتي اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي:
مستحق للعبادة في الوجود غَيْرُهُ قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة لإله، باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية، وبالجر على اللفظ، وبالنصب على الاستثناء، وحكم (غير) حكم الاسم الواقع بعد (إلا)، أي: ما لكم من إله إلا إياه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي: إن تركتم عبادته أو عبدتم غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان. ووصف اليوم ب (العظم) لبيان عظم ما يقع فيه، وتكميل الإنذار.
قال الزمخشري: فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله اعْبُدُوا اللَّهَ قلت:
الأولى- بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية- بيان للداعي إلى عبادته، لأنه هو المحذور عقابه، دون ما كانوا يعبدونه من دون الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٠]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي: الأشراف، أو الجماعة، أو ذوو الشارة والتجمع إِنَّا لَنَراكَ أي: بأمرك بعبادة الله، وترك عبادة غيره وتخويف العذاب على ترك عبادة الله، وعلى عبادة غيره فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في ذهاب عن طريق الحق والصواب،
لكونه خلاف ما وجدنا عليه آباءنا. قال ابن كثير: وهكذا حال الفجار، إنما يرون لأبرار في ضلالة، كقوله وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: ٣٢].
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: ١١] إلى غير ذلك من الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦١]
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١)
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٢]
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أي: ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة، من الأوامر والنواهي، والمواعظ والزواجر، والبشائر والنذائر.
ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جدّه، إدريس، فهذا نكتة جمع (الرسالات)، وإلا فرسالة كل نبيّ واحدة، وهي مصدر، والأصل فيه أن لا يجمع، فجمع لما ذكر وَأَنْصَحُ لَكُمْ وأقصد صلاحكم بإخلاص وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي: من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي، أشياء لا علم لكم بها، أو أعلم من قدرته الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه. قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلّغا فصيحا ناصحا عالما بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء
في صحيح مسلم «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر
(١)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث ١٤٧ ونصه: فخطب الناس وقال «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدميّ موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربانا.
ربا العباس بن عبد المطلب. فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله.
واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرّح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟»
.
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس «اللهم! اشهد. اللهم! اشهد» ثلاث مرات...
جميعا: أيها الناس! إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول:
اللهم اشهد، اللهم اشهد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٣]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي: موعظة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ أي: من العذاب إن لم تؤمنوا وَلِتَتَّقُوا أي: وليوجد منكم التقوى، وهي الخشية بسبب الإنذار وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي: ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٤]
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
فَكَذَّبُوهُ أي أصروا على تكذيبه مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي عن الحق، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس، ولا بظهور الآيات، ولا بآية الطوفان المغرق لهم، بعد إنذاره به، على تكذيبهم والعمى ذهاب بصر العينين، وبصر القلب. يقال: عمي فهو أعمى وعم.
كما في القاموس.
وكان من أمر نوح عليه السلام، أن قومه، لما أعرضوا عن الإيمان، وتمادوا على العصيان، وعبدة الأوثان، وطال عليه أمرهم، شكاهم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه أنه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦]، وهم ناس قليل، فحينئذ دعا عليهم فقال: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦].
فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة، وصار قومه يسخرون منه، ويقولون: يا نوح! قد صرت نجارا بعد النبوة! فقال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [هود: ٣٨- ٣٩].
فلما فرغ من صنع السفينة، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات، حتى لا ينقطع نسلها. وحشرها إليه من كل جهة. ولما رأى فوران
التنور، وكان هو العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان، ركب الفلك هو ومن آمن معه، وحمل من كلّ زوجين اثنين. وأمر الله تعالى السماء أن تمطر. والأرض أن تتفجر عيونا، وارتفع الماء في هذا الطوفان فوق رؤوس الجبال، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان، ولم يبق حيّا غير أهل السفينة.
وفي التوراة: أن الأمطار هطلت أربعين يوما وليلة دون انقطاع، حتى غمرت المياه وجه الأرض، وعلت خمسة عشر ذراعا فوق الجبال الشامخة، وهلك بالطوفان كل جسم حي. ثم أرسل الله ريحا عاصفة، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئا فشيئا، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك. وحين خروجه منه بنى مذبحا للقرابين، شكرا لله تعالى، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وتوطن سام بلاد آسية، وأقام حام بنواحي إفريقية، وسكن يافث الديار الأوروبية- والله أعلم
تنبيه:
قال الجشمي: في الآيات فوائد. منها: أن نوحا دعاهم أولا إلى التوحيد.
والرسول وإن حمل الشرائع، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد.
ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد، فلذلك بدأ به. وجميع الرسل بدءوا بالتوحيد ثم بالشرائع. ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام، بمكة، في التوحيد- انتهى-.
وقال ابن كثير: بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم الكافرين، كقوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١]. الآية- وهذه سنة الله في عباده، في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين، والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح بالغرق، ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين. قال مالك عن زيد بن أسلم: كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.
قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٥]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥)
وَإِلى عادٍ متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أَرْسَلْنا في قصة
113
نوح. أي وأرسلنا إلى عاد، وهي قبيلة كانت تعبد الأصنام، وكانت ذات بسطة وقوة، قهروا الناس بفضل القوة.
قال الشهاب: (عاد) اسم أبيهم سميت به القبيلة أو الحيّ فيجوز صرفه وعدمه، كثمود- كما ذكره سيبويه-.
قال الليث: وعاد الأولى، وهم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله.
قال زهير:
وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأما عاد الأخيرة، فهو بنو تميم، ينزلون رمال عالج.
وفي كتاب الأنساب: عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح، كان يعبد القمر، ويقال إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف، وأنه نكح ألف جارية، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن، وهي من عمان إلى حضرموت. ومن أولاده شدّاد بن عاد صاحب المدينة المذكورة- كذا في تاج العروس-.
وقال ابن عرفة: قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي الأحقاف.
وقال ابن إسحاق: الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت.
وقوله تعالى: أَخاهُمْ هُوداً أي أخاهم في النسب، لأنه منهم، في قول النسابين. وقيل: الناس كلهم إخوة في النسب، لأنهم ولد آدم وحواء. فالمراد صاحبهم، وواحد في جملتهم، كما يقال: يا أخا العرب، للواحد منهم. وإنما أرسل منهم، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله، وأرغب في اقتفائه.
قال الشهاب: اشتهر أن هودا عربي، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي، ويشهد له ما قيل: إن أول العرب يعرف- انتهى-.
وهود هو- على ما قال ابن إسحاق- ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.
ويقال غير ذلك- والله أعلم-.
وروى ابن إسحاق بن عامر بن واثلة، قال: سمعت عليّا يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء، ذا أراك وسدر كثير، بناحية
114
كذا وكذا، من أرض حضرموت، هل رأيته. قال: نعم، يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه! قال: لا، ولكني قد حدّثت عنه. فقال الحضرمي. وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود عليه السلام- ورواه ابن جرير-
. قال ابن كثير:
وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، فإن هودا عليه السلام دفن هناك. وقال:
إنهم كانوا يأوون إلى العمد في البر، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر: ٦- ٨]. وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [فصلت: ١٥]. ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه، كما قال تعالى قالَ أي: هود يا قَوْمِ أي: الذين حقهم أن يكونوا مثلي اعْبُدُوا اللَّهَ أي: وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ أي: تخافون عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٦]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي: في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، أرادوا أنه متمكن فيها، غير منفكّ عنها وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي: في ادعائك الرسالة، إذا استبعدوا أن يرسل الله أحدا من أهل الأرض إليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٧]
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧)
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: إليكم، لإصلاح أمر نشأتيكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٨]
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨)
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ أي: ناصح لكم فيما آمركم به من
عبادته تعالى وحده، وأمين على تبليغ الرسالة، لا أكذب فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٦٩]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ أي: أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا بعدهم، فإن شدّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان- كذا قالوا- وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي قامة وقوة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بالفلاح.
تنبيهان:
الأول قال الزمخشري: في إجابة الأنبياء عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وتارك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم، على ما يكون منهم- انتهى-.
وزاد القاضي: إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح- انتهى-.
الثاني- لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم. وأما قوله جل شأنه مخاطبا لقوم عاد وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها. وهذا من الأمور المعتادة. فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتا قريبا. ومما يدل على أن أجسام من سلف
كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتا كبيرا، مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية. ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد، وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الارتفاع.
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في (مقدمة تاريخه)، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجساما تناسب ذلك. والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، وإساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فنّ جرّ الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره. وأنكر أيضا ما ينقلون من قصة جنة عاد، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن. بناها شداد بن عاد حيث سمع وصف الجنة. وأنها لما تم بناؤها، أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسمها (إرم ذات العماد) وأنها المشار إليها بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر: ٦- ٨] ويزعمون أنه لم تزل باقية في بلاد اليمن، وإنما حجبت عن الأبصار. وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه، ولا نلتفت إليه. وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة، هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل، ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل- كذا أفاده بعض المحققين-.
ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٠]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا
أي من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: (أفلا تتّقون) إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي في الإخبار بنزول العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧١]
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١)
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي عذاب. والرجس والرجز بمعنى، حتى قيل إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد. وأصل معناه الاضطراب. يقال:
رجست السماء: رعدت شديدا وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم، أي في اختلاط والتباس، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حلّ به. وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز، قال: لأنه حقيقة في الشيء القذر، فاستعير لجزائهم.
وظاهر اللغة أنه حقيقة. ووجه التعبير بالمضي عما سيقع، تنزيل المتوقع كالواقع كما في أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١] وَغَضَبٌ أي سخط لإشراككم معه من هو في غاية النقص، في أعلى كمالاته التي هي الإلهية أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي في أشياء ما هي إلا أسماء وليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده. وهذا كقوله تعالى: ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢] كذا في الكشاف-.
قال الشهاب: جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، كما يقال لما لا يليق:
ما هو إلا مجرد اسم. فالمعنى: أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها، فتوجه الذم للتسمية، الخالية عن المعنى. والضمير حينئذ راجع ل (أسماء) وهي المفعول الأول للتسمية، والثاني آلهة، ولو عكس لزم الاستخدام- انتهى-.
وقوله تعالى: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة ودليل على هذه التسمية، لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه.
قال الجشمي: دلت الآية على فساد التقليد، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم.
وتدل على أن المعارف مكتسبة، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه. ويدل
قوله أَتُجادِلُونَنِي على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق. انتهى.
وقال القاضي: بين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم، أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله، إظهارا لغاية جهالتهم، وفرط غباوتهم.
فَانْتَظِرُوا أي: نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا، لأنه وضح الحق، وأنتم مصرّون على العناد إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي: لما يحل بكم.
قال المهايمي: جاء منتظرهم بحيث لا ينجو منه، بمجرى العادة، أحد، وجعل من قبيل الريح التي تتقدم الأمطار، لكفرهم برياح الإرسال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٢]
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي: من آمن به، على خرق العادة بِرَحْمَةٍ مِنَّا ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم.
قال الشهاب: قطع الدابر، كناية عن الاستئصال إلى إهلاك الجميع، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمرّ على غيره، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته. والدابر بمعنى الآخر وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم الصلة.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم، كمرثد ابن سعد، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم، ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين. انتهى-.
قال الطيبي: يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين، وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان لا غير، تزيد رغبته فيه، ويعظم قدره عنده- انتهى-.
قال ابن كثير: قد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن،
119
بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: ٤٢]. كما قال في الآية الأخرى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة: ٦- ٨] لما تمردوا وعتوا، أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم، فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه، فتثلع رأسه حتى تبينه من جثته.
وقال محمد بن إسحاق: كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودا، الأحقاف قال: و (الأحقاف) الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت، فاليمن كله.
وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها. وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله: صنم يقال له (صداء) وصنم يقال له (صمود) وصنم يقال له (الهباء) : فبعث الله إليهم هودا، وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس. لم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه وكذبوه. وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥].
واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم. وكان ممن آمن به وصدقه رجل من عاد يقال له (مرثد بن سعد بن عفير) وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبّروا وبنوا بكل ريع ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:
١٢٨- ١٣١].
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٣- ٥٥] أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب. قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إلى قوله صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٦].
فلما فعلوا ذلك، أمسك الله عنهم المطر من السماء ثلاث سنين، فيما يزعمون- حتى جهدهم ذلك.
120
وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حرمتها ومكانها من الله.
قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق- وإنما سموا (العماليق) لأن أباهم (عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح) - وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون، رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه، وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت.
وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخبيري، رجل من عاد. فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا: جهّزوا منكم وفدا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا عقيل بن عنز ولقيم بن هزّال بن هزيل، وعتيل بن صدّ بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخبيري، خال معاوية بن بكر أخو أمه.
ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره.
فلم نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان- قينتان لمعاوية بن بكر- وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا.
فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتعوّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا! أو كما قال:
فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنّيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم!.
121
فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:
ألا يا قيل، ويحك! قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد، إنّ عادا قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد، فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلام
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعاديّ سهاما
وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبّح وفدكم من وفد قوم ولا لقّوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يتعوذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم!.
فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك. فقال لهم جلهمة بن الخبيريّ خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هود وآمن به:
أبا سعد فإنك من قبيل ذوي كرم وأمّك من ثمود
فإنّا لن نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين رفد ورمل وآل صدّ والعبود
ونترك دين آباء كرام ذوي رأي، ونتبع دين هود
ثم قالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احبسا عنا مرثد بن سعد. فلا يقدمن معنا مكة. فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا! ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد. فلما ولّوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له.
فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون، يقول:
اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد.
وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد.
وقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله.
وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا، لقمان بن عاد، وكان سيد عاد.
122
حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي.
وقال قيل بن عنز حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقا فاسقنا، فإنا قد هلكنا.
فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء. ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل! اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب. فقال: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء. فناده مناد: اخترت رمادا رمددا، لا تبقي من آل عاد، أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا إلا بني اللّوذيّة المهدّى- وبنو اللوذية، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، وكانوا سكانا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان نسلهم الذين بقوا من عاد- وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد يقال له (المغيث).
فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يقول الله بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف: ٢٤- ٢٥] أي كل شيء أمرت به.
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها (مهدد) فما تيقنت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها! ف سَخَّرَها الله عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧]، كما قال الله- والحسوم الدائمة- فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك. فاعتزل هود، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح، إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس.
وإنها لتمرّ على عاد بالظّعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وقد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنزلوا عليه.
فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة، ممسى ثالثة في مصاب عاد. فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر
123
فكأنهم شكّوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدق، ورب الكعبة.
قال ابن كثير: وهو سياق غريب، فيه فوائد كثيرة. وقد قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: ٥٨].
وروى الإمام أحمد «١» عن أبي وائل عن الحارث البكري قال خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمررت بالربذة، فإذا بعجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله! إن لي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فأتيت المدينة. فإذا المسجد غاصّ بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: ما شأن الناس؟
قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. فجلست، فدخل منزله- أو قال رحله- فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم. قال وكانت لنا الدبرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها، فدخلت. فقلت: يا رسول الله! إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا، فاجعل الدهنا. فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟ قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: (معزاء حملت حتفها) حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما. أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال هيه، وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه، قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر، خرج جبل تهامة فنادى: اللهم! إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم! اسق عادا ما كنت تسقيه! فمرت به سحابات سود، فنودي منها: اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا. قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا. قال أبو وائل: وصدق. قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد- هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير-.
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٤٨٢.
124
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
وَإِلى ثَمُودَ أي: وأرسلنا إلى ثمود. وهي قبيلة أخرى من العرب سموا باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جديس بن عابر. وكذلك قبيلة طسم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة، قبل إبراهيم الخليل عليه السلام. وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ديارهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع- نقله ابن كثير-.
وثمود كصبور، وتضم ثاؤه، وقرئ به أيضا، وقرئ بصرفه ومنعه. أما الثاني فلأنه اسم القبيلة، ففيه العلمية والتأنيث. وأما الأول فلأنه اسم للحيّ، أو لأنه لما كان اسمها الجد، أو القليل من الماء كان مصروفا، لأنه علم مذكر، أو اسم جنس، فبعد النقل حكي أصله. كذا في (العناية).
أَخاهُمْ صالِحاً هو- على ما قاله علماء التفسير والنسب-: ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دعاهم عليه الصلاة والسلام بما يدعو به الرسل أجمعون، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]. وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦]، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة ظاهرة للدلالة على صحة نبوتي هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي خلقها حجة وعلامة على رسالتي. وأضافها إليه تفضيلا وتخصيصا. ك (بيت الله)، أو لأنه لا مالك لها غيره تعالى، أو لأنها حجته عليهم في أنهم، إن حفظوها وأطلقوا لها رعيها وسقياها حفظوا، وإن غدروا بها أهلكوا، ولذا قال: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي التي لا يملكها غيره، العشب وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيء من الأذى، ولو تأذت منها دوابّكم، إكراما لآية الله فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ
أي: في الدارين لجرأتكم على آيات الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٤]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ قال الشهاب: لم يقل: خلفاء عاد، إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: أنزلكم في أرض الحجر.
والمباءة المنزل. تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي: تبنون في سهولها قصورا لتسكنوها أيام الصيف. ف (من) بمعنى (في)، كقوله تعالى: نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: ٩]. أو هي ابتدائية، أو تبعيضية، أي: تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل وهي الطين. والسهل خلاف الحزن، وهو موضع الحجارة والجبال وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي: لتسكنوها أيام الشتاء. والجبال إما مفعول ثان بتضمين (نحت) معنى (اتخذ)، أو منصوب بنزع الخافض، على ما جاء في الآية الأخرى: والنحت معروف في كل صلب. ومضارعه مكسور الحاء. وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق: وقرئ تنحاتون بالإشباع، ك (ينباع)، أفاده الشهاب.
بحث الإشباع في وسط الكلمة:
أقول: بهذه القراءة يستدل على ثبوت الإشباع في وسط الكلمة لغة. ومثله (ينباع) المذكورة، وهي من قول عنترة:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
أي ينبع العرق من خلف أذن ناقة غضوب، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن، فتولّدت من إشباعها ألف. ومثله قولنا (آمين)، والأصل (أمين) فأشبعت الفتحة، فتولدت من إشباعها ألف- قاله الزوزني-.
ومثله (استكان) على القول بأنه افتعل من (السكون) فزيدت الألف لإشباع الفتحة كما في (شرح الشافية).
ومنه (عقراب) - قال في (تاج العروس) : سمع العقراب في اسم الجنس.
قال:
أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب
قال: وعند أهل الصرف ألف (عقراب) للإشباع، لفقدان (فعلال) بالفتح- انتهى-.
وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه عليكم لتصرفوها إلى ما خلقها لأجله وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالمعاصي وعبادة غيره تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٥]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي عن الإيمان بعد ظهور آية الناقة والكلمات الناصحة مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، إذ لم يكن لهم استكبار يمنعهم من الانقياد لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من (الّذين استضعفوا) بإعادة الجار، بدل الكل، إن كان الضمير لقومه، فيدل على أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين. وبدل البعض إن كان الضمير لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فيدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين. قال أبو السعود:
والأول هو الوجه، إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا إلى جميع المستضعفين، مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم. على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين، أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم أَتَعْلَمُونَ أي من آية الناقة ومن الكلمات الناصحة أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إليكم لعبادته تعالى وحده لا شريك له.
وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء، لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، بل عدلوا منه، كما قال تعالى:
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا (نعم) أو (إنه مرسل منه تعالى)، مسارعة إلى تحقيق الحق، وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي تنبئ عنه الجملة الاسمية، وتنبيها على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه، وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به. أفاده أبو السعود.
فهذا من الأسلوب الحكيم، وهو تلقّي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب،
تنبيها على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٦]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، إظهارا لمخالفتهم إياهم، وردّا لمقالتهم.
قال في (الانتصاف) : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، ولكن أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته، وهم يجحدونها، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون:
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: ٢٧]، فأثبت إرساله تهكما، وليس هذا موضع التهكم، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين، والمكذبين، عن حاله، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة، احتياطا للكفر، وغلوّا في الإصرار- انتهى- ولذلك أنكروا آية الناقة وكذبوه في إصابة العذاب عن مسها بالسوء. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٧]
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي نحروها. والعقر: الجرح، وأثر كالخزّ في قوائم الفرس والإبل. يقال: عقره بالسيف يعقره بالكسر، وعقّره تعقيرا، قطع قوائمه بالسيف وهو قائم.
قال الأزهري: العقر عند العرب كشف عرقوب البعير، ثم يجعل النحر عقرا، لأن ناحر الإبل يعقرها: ثم ينحرها.
وفي اللسان: عقر الناقة وعقّرها، إذا فعل بها ذلك حتى تسقط، فينحرها مستمكنا منها، أي: لئلا تشرد عند النحر.
وفي الحديث «١» : لا عقر في الإسلام.
قال ابن الأثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها ويقولون إن
(١) أخرجه أبو داود في: الجنائز، ٧٠- باب كراهية الذبح عند القبر، حديث رقم ٣٢٢٢.
صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. كذا في (تاج العروس) -.
وأسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشره إلا بعضهم. ويقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا وما فعله إلا واحد منهم. كذا في (الكشاف).
قال أبو السعود: وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه، بحيث أصابت غائلته الكل، ما لا يخفى.
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي استكبروا عن امتثاله، وهو عبادته وحده، أو الحذر من مسّ الناقة بسوء. وزادوا في الاستهزاء وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي: من العذاب على عقر الناقة. والأمر للاستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا يتأتى ذلك، ولذا قالوا: إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي فإن الله ينصر رسله على أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٨]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الصيحة التي يحصل منها الزلزلة الشديدة بدل صوت الناقة عند عقرها، وبدل حركتها عند نزع الروح فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ في بلادهم أو مساكنهم جاثِمِينَ أي: ساقطين على وجوههم، هامدين لا يتحركون، ميتين بدل موت الناقة وسقوطها. والصيحة والزلزلة من آثار الريح المرسلة التي كانت رحمة فانقلبت عذابا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٧٩]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
فَتَوَلَّى أي فأعرض صالح عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي المتضمنة لتخويف العذاب عنه وَنَصَحْتُ لَكُمْ فأمرتكم بكل خير، ونهيتكم عن كل شر وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهويتكم. والظاهر أن صالحا عليه السلام كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم، بعد ما أبصرهم جاثمين، تولّي مغتمّ متحسر على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم بقوله يا قَوْمِ... إلخ كذا في (الكشاف). أو خاطبهم خطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم
129
أهل قليب بدر حيث
قال «١» : إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا. - كما رواه البخاري
- لا تحزنا، ولكن إعلاما بنصر الله له، وتحقيق رسالته، زيادة في حزنهم وتوبيخهم، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم، ولكن لا يتكلمون.
كما في (الصحيح). ويجوز عطف قوله فَتَوَلَّى على قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك، لا بعده. فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب. والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب- والله أعلم-.
تنبيهات:
الأول: نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود، لمكان العظة والاعتبار مفصلا. وإلا، فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك، وما سكت عن بيانه من تلك القصص، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد القطع به، اللهم إلا لزيادة الاتعاظ، وتقوية العبرة، ولذا
صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «٢» :«حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عادا لما هلكت، عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا، وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عشراء، تمخض من صخرة صماء، عينوها بأنفسهم، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها (الكائبة)، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه. فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت
(١)
أخرجه البخاري في: الجنائز، ٨٧- باب ما جاء في عذاب القبر، حديث ٧٢٦ ونصه: عن ابن عمر قال: اطلع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أهل القليب فقال «هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا» ؟
فقيل له: تدعو أمواتا؟
فقال: «ما أنتم بأسمع منهم. ولكن لا يجيبون»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٥٠- باب ما ذكر عن بني إسرائيل حديث ١٦٢٤ ونصه: عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: بلّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
. [.....]
130
عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والخباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعمر بن جلمس.
وكان لجندع بن عمرو ابن عم له، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن جواس، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل، رحمه الله:
وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبيّ دعوا شهابا
عزيز ثمود كلّهم جميعا فهمّ بأن يجيب ولو أجابا
لأصبح صالح فينا عزيزا وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر تولوا بعد رشدهم ذبابا
وأقامت الناقة وفصيلها، بعد ما وضعته، بين أظهرهم مدة، تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر: ٢٨] وقال تعالى: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: ١٥٥]. وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، ترد من فج، وتصدر من غيره، ليسعها. لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت- على ما ذكر- خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فما طال عليهم ذلك، واشتد تكذيبهم لصالح النبيّ عليه السلام، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم. فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها، حتى على النساء في خدورهن. قال ابن كثير:
قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها [الشمس: ١٤]، وقال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الإسراء:
٥٩]، وقال فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: ٧٧]. فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك- والله أعلم-.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، وغيره من علماء التفسير، أن سبب قتلها، أن امرأة من ثمود يقال لها (عنيزة بنت غنم بن مجلز، تكنى بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل، أخي رميل بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم.
131
وامرأة أخرى يقال لها (صدوف بنت المحيّا بن دهر بن المحيّا) سيّد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول. وكان الوادي يقال له (وادي المحيّا) وهو المحيّا الأكبر، جدّ المحيّا الأصغر أبي صدوف.
وكانت صدوف من أحسن الناس، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر.
وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح، وأعظمه به كفرا.
وكانتا تحتالان أن تعقر الناقة مع كفرهما به، لما أضرّت به من مواشيهما.
وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له (صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف) من بني هلس، فأسلم وحسن إسلامه.
وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح، حتى رقّ المال.
فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيّتت له. فأخذت بنيه وبناته منه فغيّبتهم في بني عبيد، بطنها الذي هي منه.
وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها. فقال لها: ردّي عليّ ولدي. فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد.
فقال لهم صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون.
فقالت لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه.
فقال بنو مرداس: والله لتعطينّه ولده طائعة أو كارهة.
فلما رأت ذلك أعطته إياهم.
ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له (الحباب) لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له (مصدع بن مهرج بن المحيا) وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة. وكانت من أحسن الناس، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك.
ودعت عنيزة بنت غنم (قدار بن سالف بن جندع) رجلا من أهل قرح.
132
وكان قدار رجلا أحمر أزرق قصيرا. يزعمون أنه كان لزنية، من رجل يقال له (صهياد) ولم يكن لأبيه (سالف) الذي يدعى إليه. ولكنه قد ولد على فراش (سالف) وكان يدعى له وينسب إليه.
فقالت: أعطيتك أيّ بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.
وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزا منيعا في قومه.
فانطلق قدار بن سالف، وصدع بن مهرج، فاستنفرا غواة من ثمود. فاتبعهما سبعة نفر. فكانوا تسعة نفر. أحد النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له، (هويل بن مبلغ) خال قدار بن سالف، أخو أمه لأبيها وأمها، وكان عزيزا في أهل حجر. و (دعير ابن غنم بن داعر) وهو من بني خلاوة بن المهل.
و (دأب بن مهرج) أخو مصدع بن مهرج.
وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم.
فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها.
وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجها، فأسفرت لقدار وأرته إياه. ثم ذمّرت فشدّ على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها. فخرّت ورغت رغاة واحدة تحذّر سقبها. ثم طعن في لبتها فنحرها.
انطلق سقبها حتى أتى جبلا منيفا. ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعا ولاذ بها. واسم الجبل فيما يزعمون (صنو) - فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت، قال انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته. فاتّبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم (مصدع بن مهرج) فرماه مصدع بسهم، فانتظم قلبه، ثم جرّ برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه.
فلما قال لهم صالح: أبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا له وهم يهزءون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ - وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد (أول) والاثنين (أهون) والثلاثاء (وبار) والأربعاء (جبار) والخميس (مؤمن) والجمعة (العروبة) والسبت (شيار) وكانوا عقورا الناقة يوم الأربعاء- فقال لهم صالح حين قالوا له
133
ذلك: تصبحون غداة يوم مؤمن، يعني يوم الخميس، ووجوهكم مصفرّة، ثم تصبحون يوم العروبة، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرّة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني يوم السبت، ووجوهكم مسودّة. ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني يوم الأحد.
فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا.
إن كان صادقا عجّلناه، قبلنا، وإن كان كاذبا يكون قد ألحقناه بناقته.
فأتوه ليلا ليبيّتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطئوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم مشدّخين قد رضخوا بالحجارة. فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم هموا به. فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم:
والله لا تقتلونه أبدا، فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفو عنهم ليلتهم تلك. والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. إلى قوله: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل: ٤٨- ٥٢].
فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح، وجوههم مصفرّة، فأيقنوا بالعذاب. وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربا منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم (بنو غنم) فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له (نفيل) يكنى بأبي هدب، وهو مشرك، فغيّبه، فلم يقدروا عليه.
فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له (ميدع بن هرم) : يا نبيّ الله، إنهم يعذبوننا لندلّهم عليك، أفندلّهم عليك؟ قال: نعم. فدلهم عليه (ميدع بن هرم).
فلما علموا بمكان صالح، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل. فأعرضوا عنه وتركوه. وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه.
فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرّة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم
134
محمرّة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودّة. حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام. فنزل رملة فلسطين. وتخلف رجل من أصحابه يقال له (ميدع بن هرم) فنزل قرح- وهي وادي القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا- فنزل على سيدهم رجل يقال له (عمرو بن غنم) وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها. فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو بن غنم، اخرج من هذا البلد، فإن صالحا قال: من أقام فيه هلك، ومن خرج منه نجا.
فقال عمرو: ما شركت في عقرها، وما رضيت ما صنع بها.
فلما كانت صبيحة الأحد، أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك. إلا جارية مقعدة يقال لها (الزّريعة) وهي الكلبة ابنة السّلق. كانت كافرة شديدة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعد ما عاينت العذاب أجمع. فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط. حتى أتت أهل قرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسقيت، فلما شربت ماتت.
الثاني- قال الرازي: زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت، وهي الرجفة والطاغية والصيحة. والجواب ما قاله أبو مسلم: إن الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده، سواء كان حيوانا أو غير حيوان، وألحق الهاء به للمبالغة. فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦- ٧]. ويقال طغى طغيانا، وهو طاغ وطاغية. وقال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: ١١]. وقال في غير الحيوان: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: ١١]، أي: غلب وتجاوز عن الحد. وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها. وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: ١٣- ١٤]. فبطل ما زعمه ذلك البعض.
الثالث- قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح عليه السلام، ومن تبعه رضي الله عنهم. إلا أن رجلا يقال له أبو رغال. كان، لما وقعت النقمة بقومه، مقيما إذ ذاك في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ، جاءه حجر من السماء فقتله.
135
روى الإمام أحمد «١» عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها، فأخذتهم صيحة أحمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال أبو رغال.
فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه»
. قال ابن كثير: وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.
وروى عبد الرزاق عن معمر: أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم مرّ بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنزل القوم، فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن.
وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف، كما روي مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم- أخرجه أبو داود وغيره «٢».
الرابع- ذكرنا قبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك، سنة تسع، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها، ونهاهم أن يشربوا من مائها.
فروى الإمام أحمد «٣» عن ابن عمر قال: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس عام تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم. فأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذّبوا، وقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم.
وروى أحمد «٤» والبخاري «٥» ومسلم «٦» عن ابن عمر قال: لما مرّ رسول الله
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٢٩٦.
(٢) أخرجه أبو داود في: الخراج والإمارة والفيء، ٤١- باب نبش القبور، حديث رقم ٣٠٨٨.
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ١١٧. والحديث رقم ٥٩٨٤.
(٤) أخرجه في المسند ٢/ ١٣٧. والحديث رقم ٦٢١١.
(٥) أخرجه البخاري في: المغازي، ٨٠- باب نزول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث رقم ٢٨٤.
(٦) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث ٣٨ و ٣٩.
136
صلى الله عليه وسلّم بالحجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم. ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.
وللبخاري «١»
أن الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها. فقالوا قد عجنّا منها، واستقينا. فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء.
الخامس- قال ابن كثير: ذكر بعض المفسرين أن كل نبيّ هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد «٢» : حدثنا وكيع، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي عسفان حين حج قال: يا أبا بكر! أيّ واد هذا؟ قال: هذا وادي عسفان. قال: لقد مر به هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النّمار، يلبّون، يحجون البيت العتيق.
قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٠]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠)
وَلُوطاً منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق، أي وأرسلنا لوطا.
ولفظه أعجميّ معناه في العربية (ملفوف) أو (مرّ)، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل- وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير- ابن هاران بن تارح (ويقال آزر) وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام، وهاجر معه إلى الشام، وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين، وهي الأرض المقدسة، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردنّ، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها، وإلى ما جاورها من القرى. فصار يدعوهم إلى الله
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ١٧- باب قوله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، حديث رقم ١٥٩٥.
ومسلم في: الزهد والرقائق، حديث ٤٠.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٢٣٢، والحديث رقم ٢٠٦٧.
تعالى، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، من بني آدم، ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور.
قال ابن كثير: وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنعه أهل سدوم، عليهم لعائن الله.
قال عمرو بن دينار: ما زنا ذكر على ذكر، حتى كان قوم لوط. وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأمويّ، باني جامع دمشق: لولا أن الله عز وجل قصّ علينا خبر قوم لوط، ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا.
ثم بيّن تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة المتناهية في القبح. وقوله تعالى: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي ما عملها أحد قبلكم، والباء للتعدية، من قولك (سبقته بالكرة) إذا ضربتها قبله، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «١» :(سبقك بها عكّاشة). كذا في (الكشاف).
قال أبو السعود: والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ والتقريع. فإن مباشرة القبح قبيح، واختراعه أقبح، فأنكر تعالى عليهم أولا إتيان الفاحشة، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيدا للإنكار السابق وتشديدا للتوبيخ بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨١]
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي: الذين خلقهم الله ليأتوا النساء، لا ليأتيهم الرجال. وقرئ بهمزتين صريحتين، وبتليين الثانية، بغير مدّ وبمد أيضا. وفي زيادة (إن) و (اللام) مزيد توبيخ وتقريع، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد. وفي إيراد لفظ (الرجال) دون الغلمان والمردان ونحوهما، مبالغة في التوبيخ وتأتون، من (أتى المرأة) إذا غشيها. قاله الزمخشري.
وفي (تاج العروس) : أتى الفاحشة: تلبّس بها، ويكنى بالإتيان عن الوطء وهو من أحسن الكنايات، ورجل مأتي أتي فيه، ومنه قول بعض المولدين:
(١) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٥٠- باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، حديث ١٦٠٥.
يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا، ولا هذا، كذلك إبرة الخيّاط
انتهى.
وقوله تعالى شَهْوَةً مفعول له، أي للاشتهاء، أي لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر. ولا ذمّ أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل لو نحوه. أو حال، بمعنى مشتهين تابعين للشهوة، غير ملتفتين إلى السماجة. كذا في (الكشاف) مِنْ دُونِ النِّساءِ أي: مجاوزين عن مواتاه النساء اللاتي خلقن لذلك. قال أبو السعود: ويجوز أن يكون المراد من قوله شَهْوَةً الإنكار عليهم، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة، كما ينبئ عنه قوله تعالى مِنْ دُونِ النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هنّ محال الاشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: ٧٨]. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح، وتدعو إلى اتباع الشهوات. وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء. فمن ثمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء: ١٦٦].
كذا في (الكشاف).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٢]
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢)
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي: المستكبرين في مقابلة نصحة إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ أي: لوطا والمؤمنين معه مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي: بلدكم. قال الزمخشري:
يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله. ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجرا بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم. وقولهم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة.
كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم (أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد).
قال ابن كثير: قال مجاهد: يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس.
139
قال السيوطي في (الإكليل) : فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.
ورجح ابن القيم أنه في حكم الموقوف.
والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: ٢٢٣]. فتذكر.
تنبيه:
قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان) :
قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملا على ذلك. لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]، وقوله تعالى في حق اللوطية: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ [الأنبياء: ٧٤]، وقالت اللوطية: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: ٥٦] فأقروا، مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك، باجتنابهم له. وقال تعالى في حق الزناة: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النور: ٢٦]، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوقات والحلف به، وخوفه ورجائه.
ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدّا. ولهذا، أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر.
وكلما كان أعظم إخلاصا، كان منها أبعد. كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: ٢٤] فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبّد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه، صار تتّيما، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره، والشوق إليه، والسعي في مرضاته، وإيثار محابّه، على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته. بل كثيرا ما
140
يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقة من الصور- كما هو مشاهد- فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب سخطه، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه، حبا وخضوعا وذلّا وسمعا وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد، بلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه. والزاني واللواطة، كمال لذته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد، ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبّده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيّب، لا يصعد إليه إلا طيّب. وكلما ازداد خبثا، ازداد من الله بعدا. ولهذا قال المسيح- فيما رواه الإمام أحمد، في كتاب (الزهد) - لا يكون الباطلون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى، كان قرينا للشرك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٣].
ثم قال رحمه الله: والمقصود أن الله سبحانه وتعالى سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما، يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرا لبدنه بالماء. وقول اللوطية: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: ٨]، وقوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [المائدة: ٥٩]، وهكذا المشرك، إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع إنما ينقم على السنيّ تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها.
141
فصير الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة:
إذا لم يكن بدّ من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه
- انتهى-.
ولما همّ قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، أخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين، كما أشار لذلك بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٣]
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين لطيبهم. قال ابن كثير: ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:
٣٥- ٣٦]، إِلَّا امْرَأَتَهُ أي فإنا لم ننجها لخبثها. قال ابن كثير: إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه، وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم. ولهذا، لما أمر لوط عليه السلام ليسري بأهله، أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم. والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم. ولهذا قال هاهنا إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فهلكوا. وقيل: من الهالكين. وهو تفسير باللازم، والتذكير للتغليب، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٤]
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: ٧٤]، أي طين متحجر.
قال المهايمي: ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.
142
وقرأت في التوراة المعربة أن الملكين اللذين جاءا لوطا، عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع، من لك هاهنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنّا بعثنا الرّب لنهلك هذه المدينة، ولما كان عند طلوع الفجر ألحّ الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعا وصيّراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل.
ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتا ونارا، وقلب تلك المدن، وكل البقعة، وجميع سكان المدن ونبت الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها صارت نصب ملح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتون- انتهى-.
وقرأت في نبوة حزقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه:
إن الاستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينه الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت- انتهى-.
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، أو بحيرة لوط. والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.
قال في (مرشد الطالبين) بحر لوط، هو بحر سدوم، ويدعى أيضا البحر الميت، وهو بركة مالحة في فلسطين، طولها خمسون ميلا، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو ١٢٥٠ قدما، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم- انتهى-.
وقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم. والنظر تعجيبا من حالهم، وتحذيرا من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفسا وجسدا، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.
تنبيه في حد اللوطي:
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكرا، وكذلك المفعول
143
به، إذا كان مختارا،
لحديث ابن عباس، عند أحمد «١» وأبي داود «٢» وابن ماجة «٣» والترمذي «٤» والحاكم والبيهقي، قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به»
. قال ابن حجر: رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافا.
وأخرج ابن ماجة «٥» والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا: اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا- وإسناده ضعيف-.
قال ابن الطلاع في (أحكامه) : لم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به- رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة- انتهى.
وأخرج البيهقي عن عليّ أنه رجم لوطيّا.
وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا، عليّ بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمّة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار.
وأخرج أبو داود «٦» عن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس: في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا، أنه سئل عن حد اللوطيّ فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا، ثم يتبع بالحجارة.
وقال المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعليّ وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٠٠ والحديث رقم ٢٧٢٣.
(٢) أخرجه أبو داود في: الحدود، ٢٨- باب فيمن عمل عمل قوم لوط، الحديث رقم ٤٤٦٢.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: الحدود، ١٢- باب عمل عمل قوم لوط، حديث رقم ٢٥٦١
(٤) أخرجه الترمذي في: الحدود، ٢٤- باب ما جاء في حد اللوطيّ.
(٥) الذي وقفت عليه هو
حديث للترمذي أخرجه في: الحدود، ٢٤- باب ما جاء في حدّ اللوطيّ ونصه: عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «اقتلوا الفاعل والمفعول به» وليس فيه «أحصنا أو لم يحصنا»
. [.....] (٦) أخرجه أبو داود في: الحدود، ٢٨- باب فيمن عمل عمل قوم لوط، حديث رقم ٤٤٦٣.
144
وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الاجتهاد في هيئته حرقا أو تردية أو غيرهما.
وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصنا أو غيره. وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي- انتهى-.
وقال الإمام الجشمي اليمني: لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لمّا كتب إليه خالد بن الوليد.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ثبت عنه أنه قال:
اقتلوا الفاعل والمفعول به- رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح- وقال الترمذي: حديث حسن، وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد، بعد مشاورة الصحابة، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك.
وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله. فقال أبو بكر الصديق: يرمى من شاهق.
وقال عليّ كرم الله وجه: يهدم عليه حائط
. وقال ابن عباس: يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته. وهذا موافق لحكمه صلّى الله عليه وسلّم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه.
وروي أيضا عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه.
وفي حديثه «١» أيضا بالإسناد: من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه.
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها. ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حده أغلظ. وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حدّه حدّ الزاني. واختلف السلف في ذلك، فقال الحسن: حدّه حد الزاني. وقال أبو سلمة: يقتل بكل حال. وقال الشعبي والنخعي: يعزّر، وبه أخذ الشافعي
(١) أخرجه الترمذي في: الحدود، ٢٣- باب ما جاء فيمن يقع على بهيمة.
145
ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهو راوي الحديث.
انتهى.
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث (الهداية) في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطيّ في رواية البيهقي: أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولا عليّ، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك. قال ابن حجر: قلت: وهو ضعيف جدّا. ولو صح لكان قاطعا للحجة. انتهى.
وجليّ أن عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن، قطعيّ الدلالة. ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراء لدينه- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي وأرسلنا إليهم. قال ابن إسحاق، هم من سلالة مدين بن إبراهيم. وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين.
قال ابن كثير: مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة.
قالَ يا قَوْمِ أي: الذين أحب كمالهم دينا ودنيا اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ما تبيّن به الحق من الباطل. يعني دعوته وإرشاده. ومن هنا قال بعضهم: عني بالبينة مجيء شعيب، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة. ومن فسر البينة بالحجة والبرهان والمعجزة المحسوسة ذهابا إلى أن النبيّ لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله، فلا بد من دليل يعلم صدقه به، وما ذاك إلا المعجزة- قال: إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن. ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم، فكل من أبطلت شبهة ضلاله، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة. لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق. فاحفظه.
قال الجشمي: واختلفوا، فقيل: لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع- عن أبي هاشم-. وقيل: يجوز أن يدعو إلى ما في العقل- عن أبي علي- انتهى.
وقد دلت الآيات هذه على أن شعيبا، عليه السلام، دعاهم إلى التوحيد والشرائع، على ما جرت به عادة الرسل، فمنها قوله: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أي فأتّموهما للناس بإعطائهم حقوقهم وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي: لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم، وتأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسا كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ... إلى قوله:
لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ١- ٦].
يقال: بخسه حقه أي نقصه إياه، وظلمه فيه.
قال الزمخشري: كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة. قال زهير:
أفي كلّ أسواق العراق إتاوة وفي كلّ ما باع امرؤ مكس درهم
قال القاضي: وإنما قال أَشْياءَهُمْ للتعميم، تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير- انتهى-.
والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء. فقيل في فائدة التصريح بالمنهي عنه، بيان لقبحه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا... الآية- قال: أي لا تسمّوا لهم شيئا، وتعطوا لهم غير ذلك. ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: بالكفر والظلم: بَعْدَ إِصْلاحِها أي: بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام ذلِكُمْ إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه خَيْرٌ لَكُمْ في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة، وفي المآل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: مصدقين قولي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٦]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦)
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ نهي عن قطع الطريق الحسي. أي: لا
تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء، تضربونهم وتخوفونهم، وتأخذون ثيابهم، وتتوعدونهم بالقتل، إن لم يعطوكم أموالهم.
قال مجاهد: كانوا عشارين- أخرجه أبو الشيخ: وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ مثله. وعن ابن عباس وغير واحد أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه قال ابن كثير: والأول أظهر، لأنه قال بِكُلِّ صِراطٍ وهو الطريق. وهذا الثاني هو قوله وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي: تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب، وتطلبون لها عوجا بإلقاء الشبه، ووصفها بما ينقّصها لتغييرها وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ بالعدد والعدد، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي: من الأمم الخالية، والقرون الماضية، وما حلّ بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٧]
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
قال الشهاب: وخطاب (اصبروا) للمؤمنين، ويجوز أن يكون للفريقين، أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم. أو للكافرين. أي تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه منزّه عن الجور في حكمه، فسيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٨]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي عن الإيمان لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ
أي إلى ترك دعوى الرسالة، والإقرار بها، داخلين فِي مِلَّتِنا أي ملة المشركين.
قال الجشمي: الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الأمر، من قولهم: طريق ممل ومليل، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلما.
ومنه الملل: تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه- انتهى.
قالَ أي شعيب أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي: أتجبروننا على ذلك، وإن كنا كارهين له؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه، لأن دينكم إن كان حقّا، لم نكن بالإكراه منقادين له، وإن كان باطلا، لم نكن بالإكراه متصفين به، لأنه بالحقيقة صفة القلب، ولا يسري إكراهكم إليه. وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٨٩]
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي اختلفنا عليه باطلا بأن له شريكا إِنْ عُدْنا إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل فِي مِلَّتِكُمْ القائلة بأن له شريكا بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فأرانا أنه كالإنجاء من النار وَما يَكُونُ أي ينبغي لَنا أَنْ نَعُودَ أي عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي الذي يربّينا بما علم من استعدادنا، لأنه وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي ليحفظنا عن المصير إليها رَبُّنا إن قصدوا إكراهنا عليها أو إخراجنا من قريتهم افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ فغلبنا عليهم وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي خير الحاكمين، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.
تنبيهات:
الأول- اعلم أن ظاهر قوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وقوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يدل على أن شعيبا عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته. ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلا عن الشرك.
149
وفي (المواقف وشرحها) : أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوّزوا عليهم الذنب، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر. وجوّز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة. ومثله في (شرح التجريد).
ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر، كان للعلماء في هذه الآية وجوه:
منها: أن العود المقابل للخروج، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها.
والجار والمجرور حال. أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، داخلين في ملتنا. وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية.
ومنها: أن العود المذكور إلى ما خرج منه، وهو القرية. والمجرور حال كالسابق. أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إليها، كائنين في ملتنا. وعدّي (عاد) ب (في) كأن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.
ومنها: أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم ومنها: أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس، وإيهاما لأنه كان على دينهم. وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة.
ومنها: أن لَتَعُودُنَّ بمعنى لتصيرن. إذ كثيرا ما يرد (عاد) بمعنى (صار)، فيعمل عمل (كان). ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة، إلى حال مؤتنفة مثل (صار). وكأنهم قالوا- والله أعلم- لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتصيرن كفارا مثلنا.
قال الرازي: تقول العرب. قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون: قد صار إليّ منه المكروه ابتداء. قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مدة إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان- انتهى-.
ومنه
حديث معاذ. قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: (أعدت فتّانا يا معاذ؟) أي صرت.
ومنه
حديث خزيمة: عاد لها النّقاد مجرنثما. أي صار
150
وفي حديث كعب: وددت أن هذا اللبن يعود قطرانا، أي يصير. فقيل له: لم ذلك؟ قال: تتّبعت قريش أذناب الإبل، وتركوا الجماعات.
قال الشهاب: إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها إلا أن يقال بالتغليب فيه، أو يقال: التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه. ألا ترى إلى قوله فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ [الأعراف: ٨٣] و [النمل: ٥٧] وأمثاله؟
ومنها: أن العود يطلق، ويراد به الابتداء. حققه الراغب والجار بردي وغير واحد.
وأنشدوا قول الشاعر:
وعاد الرأس منّي كالثّغام
ومعنى الآية: لتدخلنّ في ملتنا، وقوله تعالى: إِنْ عُدْنا أي دخلنا- كذا في تاج العروس-.
ومنها: إبقاء صيغة العود على ظاهرها، من استدعائها رجوع العائد، إلى حال كان عليها قبل. كما يقال: عاد له، بعد ما كان أعرض عنه، إلا أن الكلام من باب التغليب. قال الزمخشري: لما قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ فعطفوا على ضميره، الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم- قالوا لَتَعُودُنَّ فغلبوا الجماعة على الواحد. فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئا من ذلك، إجراء لكلامه على حكم التغليب- انتهى.
ومنها: ما قاله الناصر في (الانتصاف) : إنه يسلم استعمال (العود) بمعنى (الرجوع إلى أمر سابق)، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الظلمات: ٢٥٧] والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر، ولا كان فيها. وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان، ولا كان فيه. ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر،
151
ثم عدوله عنه إلى الإيمان، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور، توفيقا من الله له، ولطفا به، بل وبالعكس في حق الكافر. وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: ١٦] وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب: وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار، لإقامة حجة الله على عباده- والله أعلم- انتهى.
الثاني: في قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ردّ إلى الله تعالى مستقيم.
قال الواحدي والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية، أن شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع إلى ملتكم، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد إهلاكنا. فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية. وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله.
ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: ٣٥] ؟ وكان نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما
يقول «١» :«يا مقلّب القلوب! ثبّت قلبي على دينك».
وقال الزجاج: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون، من قبل أن يكون، وما سيكون. وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء. فالسعيد من سعد في علم الله تعالى. والشقي من شقي في علم الله تعالى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : موقع قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والاطلاع على الأمور الغائبة. فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد. ولو وقع. فبقدرة الله ومشيئته المغيّبة عن خلقه. فالحذر قائم، والخوف لازم. ونظيره قول إبراهيم عليه السلام وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام: ٨٠] لما ردّ الأمر إلى المشيئة، وهي مغيّبة، مجّد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات- والله أعلم.
وقال أبو السعود: معنى وَما يَكُونُ لَنا... الآية- أي ما يصح لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات، إلا أن يشاء الله. أي إلا حال
(١) أخرجه الترمذي في: القدر، ٧- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
152
مشيئة الله تعالى، أو وقت مشيئته تعالى. لعودنا فيها. وذلك مما لا يكاد يكون، كما ينبئ عنه قوله تعالى: رَبُّنا... فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا، وكذا قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فإن تنجيته تعالى لهم منها، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها. وقيل معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا. فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى. وأيّا ما كان، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيّز الإمكان، وخطر الوقوع، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وهيهات ذلك. بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له- انتهى-.
ولا يخفى أن إفهام ذلك الاستحالة، هو باعتبار الواقع، وما يقتضيه منصب النبوة. وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية، الذي هو من أعلى مقامات الخواصّ، فيكون ما ذكرناه أولا أدقّ، وبالقبول أحق.
قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين) : قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: ٩٠] فالرغب الرجاء، والرهب الخوف والخشية. وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠]
وفي الصحيح «١» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّي أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية».
وفي لفظ آخر: إنّي أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي
. وكان صلّى الله عليه وسلّم «٢» يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وقد قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨]، فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف.
الثالث: قال الفرّاء: أهل عمان يسمون (القاضي) الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك.
وقال الشهاب: الفتح، بمعنى الحكم، وهي لغة لحمير، أو لمراد، والفتاحة
(١) أخرجه البخاري في: الأدب، ٧٢- باب من لم يواجه الناس بالعتاب، حديث ٢٣٤٣.
(٢) أخرجه النسائي في: السهو، ١٨- باب البكاء في الصلاة.
153
(بالضم) عندهم الحكومة. أو هو مجاز بمعنى: أظهر وبيّن أمرنا، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل. ومنه فتح المشكل لبيانه وحلّه، تشبيها له بفتح الباب وإزالة الأغلاق، حتى يوصل إلى ما خلفها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٠]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً أي فيما يأمركم به وينهاكم عنه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي لجاهلون مغبونون، لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من بخس الكيل والميزان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩١]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة.
قال ابن كثير: أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود، فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: ٩٤]، والمناسبة هناك- والله أعلم- أنهم لما تهكموا به في قولهم أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ... [هود: ٨٧]- الآية فجاءت الصيحة فأسكتتهم. وقال تعالى في الشعراء فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: ١٨٩]، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ...
[الشعراء: ١٨٧]، الآية فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة. وقد اجتمع عليهم ذلك كله. أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي مدينتهم جاثِمِينَ أي ساقطين ميتين، لا ينتفعون برءوس أموالهم ولا بزوائدها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٢]
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم:
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا وعقوبتهم بمقابلته.
والموصول مبتدأ، وخبره جملة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنهم، لما أصابتهم النقمة، لم يقيموا بديارهم، التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.
ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم السابق: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دينا ودنيا، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا.
قال ابن السعود: استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير. وإعادة الموصول والصلة كما هي، لزيادة التقرير، والإيذان بأن ما ذكر في حيّز الصلة، هو الذي استوجب العقوبتين. أي الذين كذبوه عليه السلام، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة، فصاروا هم الخاسرين، لا المتبعون له، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
وقال الزمخشري: في هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم.
وفي (العناية) : أن من عادة العرب الاستئناف من غير عطف، في الذّم والتوبيخ. فيقولون: أخوك الذي نهب مالنا، أخوك الذي هتك سترنا. - انتهى-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٣]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي: أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم وَقالَ أي: في الاعتذار يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أي بالأمر والنهي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي:
حذرتكم من عذاب الله، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين، ويمنعكم خسرانهما، لكنكم كفرتم فَكَيْفَ آسى أي: أحزن حزنا شديدا عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي بالله إن هلكوا، فضلا عن أن أشتغل بشفاعتهم. يعني أنه لا يأسى عليهم، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى.
تنبيه:
قال الجشمي: من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الاستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيّهم. فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين.
وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظّلمة. بل يجب أن يحمد الله ويشكر. كما قال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: ٤٥].
لطيفة:
ذكروا أن شعيبا، عليه السلام، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته وأصله ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر شعيبا يقول: ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.
والمراجعة (مفاعلة) من الرجوع، وهي مجاز عن المحاورة. يقال: راجعه القول. وإنما عنى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ذكر في هذه السورة، كما يعلم بالتأمل فيه. كذا في (العناية).
ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالا، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلا فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٤]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أي كذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي قبل الإهلاك الكليّ بِالْبَأْساءِ أي شدة الفقر وَالضَّرَّاءِ أي المرض، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم، وتعززهم عليه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ليتضرعوا ويتذللوا، ويحطّوا أردية الكبر والعزة، فيؤمنوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٥]
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أعطيناهم- بدل ما كانوا فيه من البلاء،
156
كالشدة والمرض- السعة والصحة حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم. من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «١»
(وأعفوا اللحى)
وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا، فقالوا كفرانا لها: هذه عادة الدهر. يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، وما هو بابتلاء من الله لعباده، تصديقا لوعد الرسل، فازدادوا كفرا بعد الإعلام القوليّ والفعليّ.
والمعنى: أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه، فما فعلوا. ثم بالحسنة ليشكروا، فما فعلوا. وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب، وقد فعل. كما قال سبحانه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة، من غير شعور منهم، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا... [الأنعام: ٤٤] الآية-
وفي الحديث «٢»
«موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر» رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة. مرفوعا.
تنبيه:
اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليها، ولا حكمة فيهما، هو من اعتقاد الكافرين.
قال ابن كثير: المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، فيشكر الله على السراء، ويصبر على الضراء. ولهذا جاء
في الحديث: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيّا من ذنوبه. والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيما أرسلوه»
- أو كما قال-.
وفي الصحيحين «٣» :«عجبا لأمر المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء يشكر، فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».
(١) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث رقم ٥٢.
والبخاري في: اللباس، ٦٥- باب إعفاء اللحى، حديث رمق ٢٢٩٢.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ص ١٣٦ ج ٦.
(٣) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث ٦٤.
ولم يخرجه البخاري.
157
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي القرى المهلكة آمَنُوا أي بالله ورسلهم وَاتَّقَوْا أي الكفر والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي لوسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات، التي بعضها من السماء، وبعضها من الأرض. ف (فتحنا) استعارة تبعية، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول. أو مجاز مرسل في لازمه، وهو التيسير. أو أريد ب (بركات السماء) المطر و (بركات الأرض) النبات والثمار وَلكِنْ كَذَّبُوا أي الرسل فَأَخَذْناهُمْ أي عاقبناهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
تنبيه:
أفادت الآية قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى:
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: ٩٨]، أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا من العذاب، كما قال تعالى عنهم فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [الصافات: ١٤٨].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٧]
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي: القرى المذكورة أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي: عذابنا ونكالنا بَياتاً أي: ليلا، أي وقت بيات وَهُمْ نائِمُونَ أي حال كمال الغفلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٨]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي: يخوضون في الباطل ويلهون من فرط الغفلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٩٩]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ وهو أخذه العبد من حيث لا يحتسب فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي لا يأمن أحد أخذه تعالى العبد من حيث لا يشعر، مع كثرة ما رأى من أخذه العباد من حيث لا يحتسبون، إلا القوم الذي خسروا عقولهم، وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات، فصاروا خاسرين إنسانيتهم، بل أخسّ من البهائم. وفي قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير للنكير في قوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى لزيادة التقرير.
قال الزمخشري: فعلى العاقل أن يكون في خوف من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين، والبيات، والغيلة. وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه! إن أباك يخاف البيات.
أراد قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً- انتهى-.
وقال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق، وجل خائف. والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
تنبيه:
الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال في المعاصي، اتكالا على عفو الله- كما في جمع الجوامع-.
وقال الحنفية: إنه كفر كاليأس، لقوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: ٨٧]، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ.
واستدل الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه (من الكبائر الأمن من مكر الله). وما ورد من أنه كفر، محمول على التغليظ. كذا في (العناية).
وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل: «ما الكبائر؟ فقال: الشّرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله. قال بعضهم:
والأشبه أن يكون موقوفا»
.
قال ابن حجر: وبكونه أكبر الكبائر، صرح ابن مسعود: كما رواه عنه عبد الرزاق والطبراني.
قال الكمال بن أبي شريف: عطفهما- يعني الإياس والأمن- في الحديث على (الإشراك بالله) المحمول على مطلق الكفر، ظاهر في أنهما غير الكفر.
وقال أيضا. مراد الشافعية بكونه كبيرة، أن من غلب عليه الرجاء غلبة دخل بها في حد الأمن من المكر، كمن استبعد العفو عن ذنوبه لعظمها استبعادا دخل به في حد اليائس. وأما من كان أمنه لاعتقاد أن لا مكر، كمن كان يأسه لإنكار سعة الرحمة ذنوبه. فينبغي أن يكون كل منهما كافرا عند الشافعية أيضا، ويحمل عليه نص القرآن- انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
أَوَلَمْ يَهْدِ أي يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي المأخوذين.
أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي نختم عليها فلا يقبلون موعظة ولا إيمانا.
قال أبو البقاء: يقرأ (يهد) بالياء وفاعله (أن لو نشاء). و (أن) مخففة من الثقيلة. أي: أو لم يبين لهم علمهم بمشيئتنا. ويقرأ بالنون. و (أن لو نشاء) مفعوله. وقيل: فاعل (يهدي) ضمير اسم الله تعالى- انتهى-.
ويؤيده قراءة النون. وجوز أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبله، أي:
أولم يهد ما جرى للأمم السابقة. وتعدية (يهد) باللام، لأنه بمعنى (يبين) إما بطريق المجاز، أو التضمين.
قال الشهاب: وإنما جعل بمعنى (يبين)، وإن كان (هدى) يتعدى بنفسه، وباللام وبإلى- لأن ذلك في المفعول الثاني لا في الأول، كما هنا، فهذا استعمال آخر. وقيل: لك أن تحمل اللام على الزيادة، كما رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] والمراد ب (الذين) أهل مكة ومن حولها، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما- انتهى-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠١]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
تِلْكَ الْقُرى أي المذكورة وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها مما يدل على مؤاخذتهم بذنوبهم لإصرارهم عليها بعد التنبيه.
ثم بين تعالى أنه أعذر إليهم بأن بيّن لهم بالحجج على ألسنة الرسل بقوله:
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيء الرسل بالبينات والدلائل القاطعة بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أي بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، إذ تمرنوا على التكذيب، فلم تفدهم الآيات، واستوت عندهم الحالتان، كقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ... الآية [الأنعام: ١٠٩- ١١٠]- ولهذا قال كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ أي من المذكورين وغيرهم، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر، لما علم أنهم يختارون الثبات على الكفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٢]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أي من وفاء عهد وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي: خارجين عن الطاعة مارقين، فلذلك أخذناهم.
قال الزمخشري: الضمير (للناس) على الإطلاق، أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد. يعني: أن أكثر الناس نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى. والآية اعتراض.
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا، إذا عاهدوا الله في ضرّ ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم نجاهم، نكثوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٣]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الرسل المتقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح
ولوط وشعيب، أو الأمم المحكية من بعد هلاكهم مُوسى بِآياتِنا وهي العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، حسبما يأتي مفصلا إِلى فِرْعَوْنَ وهو ملك مصر في عهد موسى وَمَلَائِهِ أي قومه فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها. أجرى الظلم مجرى الكفر في تعديته بالباء، وإن كان يتعدى بنفسه، لأنهما من واد واحد. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣]. أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان، لأنه أوتي الآيات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به. فعكسوا، حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضعه، أو الباء سببية، ومفعوله محذوف، أي ظلموا أنفسهم بسببها، بأن عرضوها للعذاب الخالد. أو ظلموا الناس لصدّهم عن الإيمان بها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا، كما يشير له قوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي لعقائد الخلق، أفسد الله عليهم ملكهم، وآتاه أعداءهم، فأغرقهم عن آخرهم، وبمرأى من موسى وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٤]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٥]
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥)
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي جدير بذلك وحري به، لما علمت من حالي. والباء و (على) يتعاقبان. يقال: رميت بالقوس وعلى القوس. وجاء على حال حسنة وبحال حسنة. وقرأ أبيّ رضي الله عنه (حقيق بأن لا أقول) قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية منه تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ روي أنه تعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرّية، ونقرّب له قرابين ونعبده. وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى، ويهلك عدوّه. فلما
أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه، أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله؟ وكانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم، بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون.
ثم طلب فرعون من موسى آية، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٦]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٧]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
فَأَلْقى عَصاهُ التي هي جماد فَإِذا هِيَ أي من غير سترة ولا معالجة سبب ثُعْبانٌ أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه مُبِينٌ أي ظاهر لا متخيّل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٨]
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرج يده من درعه بعد ما أدخلها فيه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضا نورانيّا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمرها. فيدلّ على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية، ويتقوى بها الحياة بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٩]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الأشراف يكرهون شرف الغير عليهم، في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي ماهر فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٠]
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر بسحره ليتملك عليها
فَماذا تَأْمُرُونَ أي تشيرون في أمره. وهذا من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو مستأنف من قول فرعون، تقديره فقال: ماذا تأمرون؟ ويدل عليه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١١]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١)
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخّر أمرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما، وتدبر شأنهما، لئلا تنسب إلى الظلم الصريح.
قال أبو منصور: والأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر، وهو الهمّ بقتله، فقالوا أخّره ليتبين حاله للناس، وأصل أَرْجِهْ أرجئه، كما قرئ كذلك. من (أرجأت) وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي مدائن الصعيد من نواحي مصر حاشِرِينَ أي من يحشر لك السحرة ويجمعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٢]
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ وقرى (سحّار) عَلِيمٍ أي ماهر في باب السحر، ليعارضوا موسى ما أراهم من البينات.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على عظيم معجزة لموسى، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله تعالى، حتى نسبوه إلى السحر. وتدل على أن عادة البشر، أن من رأى أمرا عظيما أن يعارضه.
فلذلك دعا فرعون بالسحرة. فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن، لعارضوه.
وتدل على أن الطريق في المعجزات، المعارضة بإتيان مثله، ولذلك قال تعالى في القرآن: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: ٣٨]. ولذلك لم يتكلف فرعون وقومه غير المعارضة وإيقاع الشبه. وتدل أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال، لذلك قالوا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين، المحافظة على الرياسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن.
انتهى.
ثم تسابقت شرط فرعون، فحشروهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٣]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٤]
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ولما توثقوا من فرعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٥]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أي أول من ألقى، كما في الآية الأخرى. قيل خّيروا موسى إظهارا للجلادة، فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره.
وقال الزمخشريّ تخييرهم إياه أدب حسن، راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٦]
قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
قالَ أي: موسى لهم أَلْقُوا أي ما أنتم ملقون. وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهيّ، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبدا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أي خيلوا لها ما ليس في الواقع وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي وخوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما في الآية الأخرى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: ٦٦- ٦٨]. وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي: في باب السحر، أو في عين من رآه، فإنه ألقى كل واحد عصاه، فصارت العصي ثعابين.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، ما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر. وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله. وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى، فجاء بإحياء الميت، وإبراء الأكمه والأبرص، وليس في وسع طبيب. وكان الغالب في زمن نبيّنا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به. وتدل على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصيّ متحركة حتى أوهموا أنها أحياء. ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدورا لكل من يتعاطى صناعتهم، علم أنه شعبذة. ولهذا تتفارق المعجزة والشعبذة. أنه يوقف على أصلها، ويمكن إتيان مثلها، ويخفى أمرها، بخلاف المعجزة.
ثم قال: وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٨]
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨)
فَوَقَعَ الْحَقُّ أي ثبت الإعجاز وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من السحر لإبطال الإعجاز.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٩]
فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)
فَغُلِبُوا هُنالِكَ أي في مكان الوعد الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوته، لظنه
غلبة السحرة وَانْقَلَبُوا أي رجعوا صاغِرِينَ أي: ذليلين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٠]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢١]
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٢]
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
قال الجشمي: دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة، لذلك اعترفوا بهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٣]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا أي الصنع لَمَكْرٌ أي حيلة مَكَرْتُمُوهُ أي دبرتموه أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر قبل الخروج للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد أجمله ثم فصله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٤]
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل جانب، عضوا مغايرا للآخر، كاليد من أحدهما، والرجل من آخر.
قال الشهاب: مِنْ خِلافٍ حال، أي مختلفة. وقيل مِنْ تعليلية متعلقة بالفعل، أي لأجل خلافكم، وهو بعيد.
ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أي تفضيحا لكم. وتنكيلا لأمثالكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٥]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي فلا نبالي بما تهددنا به، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٦]
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله. أي وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، لأنه خير الأعمال، وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلبا لمرضاتك رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٧]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي خوفا من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا السحرة جاهروا بالإسلام، ولم يبالوا بالتوعد أَتَذَرُ أي أتترك مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ الآلهة جمع (إله)، بمعنى المعبود. وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى (أوسيرس) وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى (أبيس)، فيعبدونه أيضا، ويعبدون كثيرا من الحيوانات. وكانوا يعبدون الظلام أيضا، ويعبدون (بعلز بوب) صنم (عقرون) يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان. وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية
والحيوانات، حتى الهوامّ وأدنى حشرات الأرض. هكذا حكى عنهم بعض المدققين.
وقد ذكر الشهرستانيّ في (الملل والنحل) أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. انتهى.
وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة. فتذكّر.
وقال بعضهم: إن كلمة (الآلهة) لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا هاهنا، لم يبعد، ويكون المعنى: وبذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر، وإلهاب قلب فرعون على موسى، وإثارة غضبه. وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من (الإتقان) - انتهى- والأظهر ما قدمناه أولا. قالَ سَنُقَتِّلُ قرئ بالتخفيف والتشديد أَبْناءَهُمْ المولودين وَنَسْتَحْيِي أي نستبقي نِساءَهُمْ أي للاستخدام وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٨]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا أي على أذاهم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها أي يعطيها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوّهم. وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآيات على أن قوم فرعون، لما عجزوا عن موسى في آياته، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وأنه عند ذلك أوعده. وذلك من أدلّ الدليل على نبوة موسى، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلى القتال، الذي لا يفيد ذلك- دلّ على عجزهم.
وهكذا حال كل ضالّ مبتدع، إذا أعيته الحجة، عدل إلى التهديد والوعيد. وتدل على أن عند الخوف من الظّلمة يجب الفزع إلى الله تعالى، والاستعانة به، والصبر.
ولا مفزع إلا في هذين: وهو الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٩]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
قالُوا أي قوم موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أي فعلوا بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها. ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ أي فرعون وجنوده وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي فيرى الكائن منكم من العمل، حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. ثم بيّن تعالى ما أحلّ بفرعون وقومه من الضرّاء، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٠]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي بالجدب والقحط وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى. وذلك لأن الشدة ترقّق القلوب، وترغّب في الضراعة إلى الله تعالى.
قال الجشمي: تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفا وصلاحا في الدين، لذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.
ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم، والشدائد، لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣١]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي الصحة والخصب قالُوا لَنا هذِهِ أي لأجلنا
واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم، فيشكروه على إنعامه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي يتشاءموا. وأصله (يتطيروا). يعني أنهم يقولون: هذه بشؤمهم أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي شدتهم، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله، لا عند غيره، أي من قبله تعالى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أن ما أصابهم من الله تعالى، ما يقولون، مما حكى عنهم. ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوّهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٢]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين بالرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٣]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ أي على آل فرعون. وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم، فلم ينلهم ولا محالّهم سوء من الطوفان ولا غيره. والطوفان (لغة) هو المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعمّ الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، وتواصلت الرعود والبروق، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر وَالْجَرادَ فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة، ولا عشب في الصحراء وَالْقُمَّلَ فعمّ أرض مصر، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد ك (سكّر) صغار الذرّ، أو شيء صغير بجناح أحمر. أو دوابّ صغار من جنس القردان، أو الدبي الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار.
قال أبو البقاء: (القمّل) يقرأ بالشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم. قيل: هما لغتان. قيل: هما القمل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد يكون في الطعام- انتهى.
وردّ ابن سيده، وتبعه المجد في (القاموس) القول بأن المراد به قمل الناس.
وَالضَّفادِعَ فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع، وغطّت أرض مصر وَالدَّمَ فصارت مياه مصر جميعها دما عبيطا، ومات السمك فيها، وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئا آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو مفرقات بعضها إثر بعض. و (آيات) حال من المنصوبات- قبل فَاسْتَكْبَرُوا أي عن الإيمان، فلم يؤمنوا لموسى. ويرسلوا معه بني إسرائيل وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي عاصين كافرين.
قال الجشمي: تدل الآية على عناد القوم، وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد، أنهم لا يؤمنون بها، وليس هذه عادة من غرضه الحق. وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها.
وتدل على وجوب التدبر في الآيات. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٤]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي نزل بهم العذاب المفصل قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك، وهو النبوة. ف (ما) مصدرية.
قال الشهاب: سمّيت النبوة عهدا، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ، كما تحفظ العهود. أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى- انتهى-.
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي الذين أرسلت لطلبهم، ليعبدوا ربهم تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٥]
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ يعني إلى الوقت الذي أجّل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون العهد الذي التزموه، فلم يفوا به. فإن فرعون كان كلما حلّ بمصر نقمة مما تقدم، يدعو موسى،
ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد، وقسا قلبه. ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم، أتتهم النقمة القاضية، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٦]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي البحر بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلا، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواش، من عين شمس إلى (سكّوت) وسلكوا طريق برية البحر الأحمر، ولما سمع فرعون بارتحالهم، ندم على ما فعل، من إطلاقهم من خدمته، فجمع جيشه ومراكبه الحربية، ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر. حينئذ خاف الإسرائيليون، وأخذوا يتذمرون على موسى، فقال لهم: لا تخافوا، إن الله معنا. ثم أمر تعالى موسى، فمد يده إلى البحر الأحمر، فانشق ماؤه، وصار فيه طريق واسعة، وأرسل الله ريحا شرقية شديدة، فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون، والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمدّ موسى يده، بإذن الله، على البحر، فارتدّ ماؤه سريعا، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه، فغرقوا جميعا، ثم طفت جيفهم على وجه الماء، وانقذفت إلى الساحل، فشاهدها الإسرائيليون عيانا.
هذا ملخص ما روي هنا.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم، وتدل على قبح الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث فعلهم، والاعراض، فلذلك عاقبهم عليهما. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي بالاستعباد وقتل الأبناء. وفي التعبير عنهم بهذا، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم، وفي رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا أي الأرض المقدسة، أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا. وقوله تعالى: الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.
قال الزمخشري: وحسبك به حاثّا على الصبر، ودالّا على أن من قابل البلاء بالجزع، وكله الله إليه. ومن قابله بالصبر، وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج.
وعن الحسن: عجبت ممن خفّ كيف خفّ، وقد سمع قوله تعالى- وتلا الآية- ومعن (خفّ) طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن أولي الصبر.
وَدَمَّرْنا أي خربنا وأهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ أي ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (بكسر الراء وضمها) أي من الجنّات. أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان. وهذا كما قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: ٥- ٦]. وقال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [الدخان: ٢٥- ٢٨].
قال الزمخشري: وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل، وما أحدثوه بعد
إنقاذهم من ملكة فرعون، واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر:
من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه، كما وصفه لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: ٣٤]، جهول كنود، إلا من عصمه الله وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣]، وليسلّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٨]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي الذي أغرق فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم ك (قنفذ)، بلد كان في شرقيّ مصر، قرب جبل الطور، أضيف إليه، لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن ب (السويس) ومن زعم أن البحر هو نيل مصر، فقد أخطأ، كما في (العناية).
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ قرئ بضم الكاف وكسرها عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي صنما نعكف عليه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أي أصنام يعكفون عليها قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده.
قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكّا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى. وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٩]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)
إِنَّ هؤُلاءِ يعني عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ أي مهلك ما هُمْ فِيهِ أي من الشرك وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى، فإنه كفر محض.
قال الرازي: أجمع كلّ الأنبياء، عليهم السلام، على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله
تعالى، لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها. والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به. انتهى.
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إلى غزوة حنين مرّ بشجرة للمشركين كانوا يعلّقون عليها أسلحتهم يقال لها (ذات أنواط) فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ والذي نفسي بيده! لتركبنّ سنن من كان قبلكم- أخرجه الإمام أحمد «١» والترمذيّ «٢» وابن جرير وغيرهم-.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب (البدع والحوادث) : وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظّمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر.
ثم شرح شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث.
وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلّى الله عليه وسلّم فقطعت، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة. ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لابن القيّم. فلتنظر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٠]
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
قالَ أي موسى، مذكّرا لقومه نعمه تعالى عليهم، الموجبة لتخصيصه
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٢١٨.
(٢) أخرجه الترمذي في: الفتن، ١٨- باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم.
تعالى بالعبادة أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي أطلب لكم معبودا. يقال: أبغاه الشيء طلبه له، ك (بغاه إياه)، يتعدى إلى مفعولين، وليس من باب الحذف والإيصال.
وفي الحديث «١» : أبغني أحجارا أستطيب بها، بهمزة القطع والوصل. وقال الشاعر:
وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيرا وليس بفاعل
والاستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي والحال، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤١]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي: من فرعون وقومه يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه، كلفه إياه وجشمه وألزمه. أو أولاه إياه يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي فنجاكم منه وحده، من غير شفاعة أحد.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر. وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٢]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر، نزلوا في برّية طور سيناء، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهرا ونصفا. ولما نزلوا تلقاء الجبل، صعد موسى إليه،
(١) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٠- باب الاستنجاء بالحجارة، حديث رقم ١٢٦.
وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه.. ثم انحدر موسى إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضبابا، وصوت رعود، وبروقا. ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه. فصعد موسى الجبل، وكان مغطى بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوما، لم يأكل ولم يشرب، لما أمدّ من القوة الروحانية، والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه، كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنوّ منه. فجعل على وجهه برقعا، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة، رفعه، وإذا أتاهم وضعه. والله أعلم.
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ أي حين توجه للمناجاة اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي:
كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه، لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولا منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: ٩٣]، وقول هارون تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي
[طه: ٩٤] فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [الأعراف: ١٥٠] كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية، وإن اشتركا في النبوة. والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع، لأنه المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله، عظة له، واعتبارا لغيره، وتأكيدا ومصلحة للجميع. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي حضر الجبل لوقتنا الذي وقّتنا له وحددنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي خاطبه من غير واسطة ملك قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي
178
وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
أي لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له. بل ما هو أكبر جرما، وأشد خلقا وصلابة- وهو الجبل- لا يثبت لذلك، بل يندكّ. ولذا قال تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ أي الذي هو أقوى منك فَإِنِ اسْتَقَرَّ أي ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل فَسَوْفَ تَرانِي، أي تثبت لرؤيتي، إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى، والتكريم له، والتنزل القدسي- ما لا يخفى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: ظهر له وبان- قاله الزجاج- جَعَلَهُ أي:
التجلي دَكًّا أي مفتّتا، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدميّ مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر. وفيه تسكين لفؤاد موسى، بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه وَخَرَّ أي وقع مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه من هول ما رأى فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ أي من الإقدام على سؤالي الرؤية وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة.
قال في (الانتصاف) : إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق. فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح الله، وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزها مبرأ من كل ما ينحط به. ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد: (سيئات المقربين، حسنات الأبرار).
تنبيه:
قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:
الأول- أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها. لأن العاقل، فضلا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لا يطلب المحال. ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة. إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة. ولا ريب في نبوة موسى عليه السلام، وأنه من أولي العزم.
الثاني- أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه،
179
والمعلق على الممكن ممكن، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به. والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.
وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، فمعنى قوله أَرِنِي أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا- خلاف الظاهر. فإن النظر الموصول ب (إلى) نص في الرّؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروريّ لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول. وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام، كان سألها لقومه حيث قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥]، فسأل ليعلموا امتناعها- فإنه خلاف الظاهر، وتكلّف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة، بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة.
قال في فتح البيان: رؤيته تعالى في الآخرة، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة. والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح. ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه، وأدرك عليه أباه، وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة- يوقع في التعصب. والمتعصب، وإن كان بصره صحيحا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم. وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجّا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:
يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى ومنهج الحقّ له واضح
- انتهى-.
وهذا تعريض بالمعتزلة، وفي مقدمتهم الزمخشري. وقد انتقل، عفا الله عنه، أخيرا إلى هجاء أهل السنة بما أنشده:
180
والبلكفة نحت، كالبسملة، أي بقولهم (بلا كيف) قال في (الانتصاف) : ولولا الاستنان بحسّان بن ثابت الأنصاريّ، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشاعره، والمنافح عنه، وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين ب (العدلية) وب (الناجين) سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعداءهم، فنقول:
وجماعة كفروا برؤية ربّهم... حقّا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقّبوا عدليّة. قلنا: أجل... عدلوا بربهم. فحسبهمو سفه
وتلقّبوا الناجين. كلّا! إنهم... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وقال أبو حيّان في الرد عليه:
شبهت جهلا صدر أمة أحمد... وذوي البصائر بالحمير الموكفه
وجب الخسار عليك. فانظر منصفا... في آية الأعراف فهي المنصفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
إن الوجوه إليه ناظرة. بذا... جاء الكتاب. فقلتم: هذا سفه
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى... فهوى الهوى بك في المهاوى المتلفة
وقال العلامة الجاربردي:
عجبا لقوم ظالمين تستّروا... بالعدل. ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه... تعطيل ذات الله مع نفي الصّفه
وقد ساق السبكي في (طبقاته) في ترجمة الجاربرديّ عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه، ثم ذكر الله تعالى أنه خاطب موسى باصطفائه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٤]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ أي اخترتك على أهل زمانك، وآثرتك عليهم بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي أي: وبتكليمي إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي على النعمة في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٥]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ من الحلال والحرام فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بعزم على العمل بما فيها وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي بما أمروا به دون ما نهوا عنه سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر، وبقائهم في البرّية. فإن موسى عليه السلام، لما مات، خلفه يشوع بن نون، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان، وفتح بلادهم، وصارت ملكا للإسرائيليين.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على حدوث كلامه، لأن قوله: اصْطَفَيْتُكَ أي اختصصتك به، ولو كان قديما لكان موسى وغيره سواء، ولما صحّ الاختصاص.
ويدل قوله: وَكَتَبْنا أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، ليقع لهم العلم ضرورة. ويدل على أن في التوراة شرائع، وجميع ما يحتاج إليه. ويدل قوله: بِقُوَّةٍ أن العبد قادر على الفعل قبل الفعل، وأنه يفعل بقدرة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٦]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦)
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي، قلوب المتكبرين عن طاعتي، والمتكبرين على الناس. أي فكما استكبروا أذلهم الله بالجهل، كقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: ١١٠]. وقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥]. وقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ إما صلة للفعل، أي
يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل. أو حال من فاعله، أي يتكبرون غير محقين وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم لا يُؤْمِنُوا بِها تكبرا عليها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ يعني طريق الحق والهدى والاستقامة واضحا ظاهرا لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لمنافاته أهويتهم وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي الضلال عن الحق والهلاك يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي طريقا يميلون إليه ذلِكَ أي الصرف عن الآيات، أو اتخاذهم الغي سبيلا بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: لاهين لا يتفكرون فيها، ولا يتعظون بها. أو غافلين عما ينزل بهم من مخافة الرسل. ثم بين وعيد المكذبين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٧]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي القيامة، وهي الكرّة الثانية. سميت (آخرة) لتأخرها عن الدنيا حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت: فلم تعقب نفعا. والمراد جزاء أعمالهم، لأن الحابط إنما يصح في المنتظر، دون ما تقضّى، وهذا كقوله لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: ٦] هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلّا جزاء عملهم من الكفر والمعاصي.
تنبيه:
ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ إلخ كلام مع قوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو أَوَلَمْ يَهْدِ... إلخ.
وإيراد قصة موسى وفرعون للاعتبار.
وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه. ومعنى صرفهم إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧]، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه، ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة. انتهى. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٨]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل، في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حليّ القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا، جسدا لا روح فيه.
وقد احتال بإدخال الريح فيه، حتى صار يسمع له خوار، أي صوت كصوت البقر.
وإنما أضاف الصوت إليه، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه. وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول إخبارا عن نفسه الكريمة فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: ٨٥].
لطائف:
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى... عِجْلًا والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما- أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره، ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: (بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا) والقائل والفاعل واحد.
ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه، راضين له، فكأنهم أجمعوا عليه.
والثاني: أن يراد: واتخذوه إلها وعبدوه. فإن قلت: لم قال: مِنْ حُلِيِّهِمْ ولم يكن الحليّ لهم، إنما كانت عواري في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها في أيديهم عواري، كفى به ملابسة. على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ٥٩] انتهى.
قال النسفي: وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان، فدخل دارا استعارها يحنث. وأن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها- انتهى-.
والحليّ بضم الحاء والتشديد، جمع (حلي) بفتح فسكون. ك (ثدي وثديّ) وهو اسم لما يتحسّن به من الذهب والفضة.
وقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر. والمعنى: ألم يروا، حين اتخذوه إلها، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر؟ فهو جماد لا ينفع ولا يضر. فكيف يكون إلها؟
وقوله تعالى: اتَّخَذُوهُ تكرير لتأكيد الذم، أي: اتخذوه إلها وعبدوه.
وَكانُوا ظالِمِينَ أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها. والجملة إما استئنافية، أو اعتراض تذييلي للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم. أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، وأنه تعالى دلهم، في بطلان اتخاذ العجل إلها، بأنه لا يتكلم ولا يهدي. وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفد فيه الحيلة، ولا تنفد في الكلام. وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى. وتدل على أن القوم كانوا جهالا غير عارفين حقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل. وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكا لبني إسرائيل، لذلك قال حُلِيِّهِمْ. فإن ثبت أنهم استعاروه، فيدل على زوال ملكهم، وانتقال الملك إلى بني إسرائيل، كما تملك أموال أهل الحرب. وتدل على أن الاتخاذ فعلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٩]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: ندموا على عبادة العجل وَرَأَوْا أي علموا وأيقنوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي: عن الحق والهدى قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا أي بقبول توبتنا وَيَغْفِرْ لَنا أي: ما قدمنا من عبادة العجل لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي: بالعقوبة. أي: ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم.
لطيفة:
يقال للنادم على ما فعل، الحسر على ما فرط منه (قد سقط في يده) و (أسقط) مضمومتين- قاله الزجاج-.
185
وقال الفراء: يقال سقط في يده وأسقط، من الندامة، و (سقط) أكثر وأجود.
وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش.
قال الزمخشري: من شأن من اشتد ندمه وحسرته، أن يعض يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها.
وقال الزجاج: معناه: سقط الندم في أيديهم، أي في قلوبهم وأنفسهم. كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالا أن يكون في اليد، تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد، ويرى بالعين- انتهى-.
وقال الفارسي: أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم. فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط.
وفي (العباب) : هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن، ولا عرفته العرب، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام (سقط) لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه، فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف: ٤٢]، ولأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: ١٠]- انتهى-.
وعليه، فيكون (سقط) من السقاط، وهو كثرة الخطأ كما قال:
لجماعة سمّوا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا شنع الورى فتستّروا بالبلكفه
كيف يرجون سقاطي بعد ما لفع الرأس بياض وصلع
وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه، ويضعه على يده، معتمدا عليه، وتارة يضعها تحت ذقنه، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطا فيها، لتمكن السقوط فيها. ويكون قوله: سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ بمعنى سقط على أيديهم، كقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: ٧١]، أي عليها. و (سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف، ك (نعم وبئس). وقرئ (سقط) معلوما، أي الندم، أو العض، أو الخسران، وكله تمثيل. وقرئ (أسقط) رباعيّ مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، كما قدمنا.
ثم بين تعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات. وكان أعلمه تعالى بفتنة قومه. فقال سبحانه:
186
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٠]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزينا أي على ما فاته من مناجاة ربه قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئسما عملتم خلفي، أو قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعدي.
والخطاب إما لعبدة العجل، من السامري وأشياعه. أو لوجوه بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدل عليه قوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف: ١٤٢]، وعلى التقدير يكون المعنى: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى- قاله الرازي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي: ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمامها. وكانوا استبطئوا نزوله من الجبل، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه، وينضمون إليه، وفعلوا ذلك، وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر- عياذا بالله-.
وقال أبو مسلم: معناه سبقتم أمر الله، فعبدتم ما لم يأمركم به وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي طرحها من شدة الغضب، وفرط الضجرة، بين يديه فتكسرت. وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية. وإنما ألقاها، عليه السلام، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل. فإنه، عليه السلام، لما نزل من الجبل، ودنا من محلتهم، رأى العجل ورقصهم حوله، اتقد غضبه فألقاها غضبا لله، وحمية لدينه. وكان هو في نفسه حديدا، شديد الغضب. وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان محببا إلى قومه.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : استدلّ ابن تيمية بقوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ على أن من ألقى كتابا على يده، إلى الأرض، وهو غضبان، لا يلام- انتهى- وهو ظاهر.
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعره يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ظنا أن يكون قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه: ٩٢- ٩٤]. وقال هاهنا:
قالَ ابْنَ أُمَّ قرئ بالفتح والكسر، وأصله يا ابن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم ليرققه عليه. وقوله: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي إزاحة لتوهم التقصير في حقه. والمعنى: بذلت وسعي في كفّهم حتى قهروني واستضعفوني، وقاربوا قتلي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي بالإساءة إليّ. والشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي في عقوبتك لي، في عدادهم. أو لا تعتقد أني منهم، مع براءتي وعدم تقصيري.
قال الجشمي: تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع. لذلك قال هارون اسْتَضْعَفُونِي.
وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥١]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
قالَ أي موسى عليه السلام، متضرعا إلى ربه، استنزالا لرحمته، وتعوذا بمغفرته من سخطه. ولا يخفى اقتضاء المقام لذلك رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وقال الزمخشري: لما اعتذر إليه أخوه، وذكر له شماتة الأعداء قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم. واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي من افترى بدعة، فإن ذل البدعة، ومخالفة الرسالة على كتفيه كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجرميّ أنه قرأ هذه الآية
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل. ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل التوبة من أي ذنب كان، ولو كفرا بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٣]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها إلى الله وَآمَنُوا أي أخلصوا الإيمان إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: محّاء لذنوبهم. منعم عليهم بالجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
وَلَمَّا سَكَتَ أي سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ أي التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت وَفِي نُسْخَتِها أي فيما نسخ منها، أي كتب.
و (النسخة) فعلة بمعنى مفعول، كالخطبة هُدىً وَرَحْمَةٌ بالشرائع والوصايا الربانية، المرشدة لما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخشون.
لطيفتان:
الأولى: قال أبو السعود: في هذا النظم الكريم، يعني قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ، من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب، الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول، منزلة الآمر بذلك، المغرى عليه، بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت- ما لا يخفى. انتهى.
وأصله للزمخشري حيث قال: هذا مثل. كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك، وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم، وذوق صحيح- إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة. وإلا، فما لقراءة معاوية بن قرة (ولما سكن عن موسى الغضب) لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهمزة، وطرفا من تلك الروعة؟ انتهى.
ومراده بالمثل كونه استعارة مكنية، حيث شبه الغضب بشخص آمر ناه، وأثبت له السكوت تخييلا.
وعدّ بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكان الأصل (ولما سكت موسى عن الغضب) كما في خرق الثوب المسمار.
قال في (الانتصاف) والتحقيق أنه ليس منه، وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره. ومثل هذه النكتة الحسناء، لا تلفى في (خرق الثوب المسمار).
انتهى.
وقرئ سكن وسكّت وأسكت، أي أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه.
الثانية- اللام في (للذين) متعلقة بمحذوف، صفة (لرحمة) أي كائنة لهم.
أو هي لام الأجل، أي هدى ورحمة لأجلهم: واللام في (لربهم) لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: ٤٣]، أو هي أيضا لام العلة، والمفعول محذوف. أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم، لا للرياء والسمعة.
أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل، وذرّاه في اليمّ، اختار من بين إسرائيل سبعين رجلا، الخيّر فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون- فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى الجبل كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه،
190
فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره، وانكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم، فقالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [البقرة: ٥٥] وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد، فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل؟
وفي رواية السدّي: فقام موسى يبكي ويقول: يا رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم، وقد أهلكت خيارهم، رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ.
وقال ابن إسحاق: اخترت منهم سبعين رجلا، الخيّر فالخير، أرجع إليهم، وليس معي رجل منهم واحد، فما الذي يصدقونني أو يأمنونني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
وقال الزجاج: المعنى لو شئت أمتّهم من قبل أن تبتليهم، بما أوجب عليهم الرجفة. انتهى.
قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر- والله أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حتى عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل. وهذا كمن واخذه سيده بجرم يقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولا، فليسعني اليوم. ثم قال نبي الله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فقال ابن الأنباري وغير: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك. والسفهاء هنا عبدة العجل.
قال الفرّاء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ وإنما كان إهلاكهم بقولهم أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. انتهى.
واستظهار أن هذا استفهام استعطاف، سبقه إليه المبرّد.
تنبيه:
قال في (اللباب) : معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي ثم
191
أحيوا. وقال وهب بن منبه: لم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة، أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك، راحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير، سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمأنوا وسمعوا كلام الله. والله أعلم.
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أي ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك. لا يكشفه إلا أنت. كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت. فنحن عائدون بك منك، ولاجئون منك إليك. يعني إن الأمر إلّا أمرك، والحكم إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء.
قال الواحدي: هذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية، التي لا يبقى لهم معها عذر. أَنْتَ وَلِيُّنا أي متولي أمورنا القائم بها فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٦]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي أثبت لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة، والتوفيق للطاعة وَفِي الْآخِرَةِ أي حسنة أيضا، وهي المثوبة الحسنى والجنة. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك. يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد. ولبعضهم:
يا راكب الذنب هد، هد... واسجد كأنك هدهد
وقال آخر:
إني امرؤ مما جنيت هائد
قال أبو البقاء: المشهور ضم الهاء، وهو من (هاد يهود) إذا تاب. وقرئ بكسرها، من (هاد يهيد) إذا تحرك أو حرك، أي حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين، يحتمل الوجهين، البناء للفاعل وللمفعول، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا، أو حركنا
أنفسنا، أو حركنا غيرنا، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، وإن اختلف التقدير.
قالَ استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فمذا قال تعالى في جواب دعاء موسى؟ فقيل قال: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أي تعذيبه من العصاة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان والجنة، كما قال تعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: ٣١]، ولعلها هي المراد هنا، بدليل مقابلتها ب (العذاب) قبل، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الإنسان: ٣١]، والله أعلم. فَسَأَكْتُبُها أي هذه الرحمة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والشرك والفواحش وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطون زكاة أموالهم وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي بكتابنا ورسولنا يُؤْمِنُونَ أي يصدقون.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص، لذلك قالوا إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل. ومن تأمل هذا السؤال والجواب، عرف عظيم محل هذا البيان، لأنه عليه السلام، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها. وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قوله المرجئة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٧]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
الَّذِينَ بدل من الموصول الأول، بدل الكل، أو منصوب على المدح، أو
193
مرفوع عليه، أي أعني الذين أو هم الذين يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ أي الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم النَّبِيَّ أي الذين نبئ بأكمل الاعتقادات، والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي الْأُمِّيَّ أي الذي لم يحصل علما من بشر الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً أي باسمه (محمد وأحمد) ونعوته عِنْدَهُمْ زيد هذا لزيادة التقرير، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني الإيمان بالله. ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، لأن جميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق، لأن العقل والشرع ينكره وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أي التي حرمت عليهم لمعاصيهم وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أي التي كانوا يتناولونها كالخنزير والميتة والدم- هذا في باب المأكولات وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ جمع (غلّ) بالضم، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، يستعار للشرائط الحرجة والمواثيق الشديدة، أي يخفف عنهم ما كلفوه منها- وهذا في باب العبادات فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بالنبيّ الأمي وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَعَزَّرُوهُ أي عظموه ووقروه وَنَصَرُوهُ أي على أعدائه في الدين فمنعوهم عنه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن، فأحلوا حلاله، وحرّموا حرامه.
ولا يقال: القرآن أنزل مع جبريل، فما معنى أُنْزِلَ مَعَهُ؟ لأن المراد أنزل مع نبوّته، لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به، ويجوز أن يعلق ب اتَّبَعُوا أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي، والعمل بسنته، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمرا بالعلم بالكتاب والسنة، أو هو حال، أي اتبعوا القرآن كما اتبعه، مصاحبين له في اتباعه. وفي التعبير عن القرآن ب النُّورَ المنبئ عن كونه ظاهرا بنفسه لإعجازه، ومظهرا لغيره من الأحكام، لمناسبة الاتباع أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة، والناجون من النقمة.
تنبيهات:
الأول- يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: قالَ عَذابِي... إلخ جواب لموسى عليه السلام، وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، كتابه حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب أولا بأن ذلك لا يحصل لقومه كلهم، برّا أو فاجرا، لما سبق من تقديره سبحانه العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلا. ولذلك قرأ الحسن
194
وزيد بن عليّ هنا (لمن أساء) فعل ماض من (الإساءة)، وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة هو من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم. وثانيا إنه لا يستأهل كتابة الحسنتين إلا المتقون المتصدقون المؤمنون بالآيات، والمتبعون للنبيّ الأميّ، فمن استقام على هذه الشرائط، كتب له ذلك، ولا يقال- على هذا- كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنا نقول الاتباع أعم من الاتباع (بالقوة)، وذلك بالإيمان به إجمالا، حسبما أشار له الكتابان لمن تقدم موته على زمن بعثته، وإما (بالفعل) لمن لحق زمان بعثته. وفيه تبشير لموسى بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتعريف له بشأنه، وإعلام بشأنه، بأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه. وعليه فيكون قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ بدلا من الموصول الأول، بدل الكل. أو منصوب على المدح، أو مرفوع عليه. أي: أعني الذين، أو هم الذين.
وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهى إلي قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وما بعده مستأنف، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب، يصيب به من يشاء، كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة، تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المرقوم. ثم استأنف تعالى الإخبار عمّن يتبع النبيّ الأمي بأنهم المفلحون حقّا، وعليه فيكون قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مبتدأ خبره أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وتكون القصة استتبعت أعقاب بني إسرائيل، بأنهم إذا اتبعوا النبيّ الأمي، كانوا هم المفلحين.
وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: قالَ عَذابِي ارتجال خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له، صلى الله عليه وسلّم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه، حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم. وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المتقين، ما لا يخفى.
الثاني- تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان- هذا ما ذكر في اللغة.
وعني أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة، كما قال تعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: ٣١]، بدليل المقابلة بقوله: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الإنسان: ٣١]، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ بمعنى الجنة، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل. والله أعلم.
195
وقال أبو المنصور: ما من أحد مسلم وكافر، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا. بها يتعيشون ويؤاخون ويوادّون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، لا حظّ للكافر فيها. وذلك قوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:
١٥٦] أي: معصية الله، والخلاف له، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، كقوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف: ٣٢]، جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظّ للكافر فيها. فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة ويحتمل قوله- والله أعلم-. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: ١٥٦] أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته. انتهى.
الثالث- إنما أفرد (الزكاة) بالذكر، مع دخولها في التقوى قبل، لعلوّها وشرفها، فإنها عنوان الهداية، ولأنها كانت أشق عليهم، فذكرها لئلا يفرّطوا فيها.
الرابع- كونه صلّى الله عليه وسلّم لا يكتب ولا يقرأ، أمر مقرر مشهور. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور «١»، أو أنه لم يكتب، وإنما أسند إليه مجازا، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة؟ - انظر في (فتح الباري) تفصيله-.
و (الأمي) نسبة إلى أمة العرب، لأن الغالب عليهم كان ذلك، كما في الحديث «٢» :(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وأما نسبته إلى (أم القرى) فلأن أهله كانوا كذلك. أو إلى (أمّه) كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها. وقيل:
إنه منسوب (إلى الأمّ) - بفتح الهمزة- بمعنى القصد، لأنه المقصود، وضمّ الهمزة من تغيير النسب. ويؤيده قراءة يعقوب (الأميّ) - بفتح الهمزة-، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا. وإنما وصفه تعالى به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. فهي له مدح وعلوّ كعب، لأنها معجزة له، كما قال البوصيري.
(١) أخرجه البخاري في: الشهادات، ١٥- باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أجل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم ٨٨١ و ٨٨٢.
(٢)
أخرجه البخاري في: الصوم، ١٣- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا نكتب ولا نحسب» حديث رقم ٩٦٨
.
196
كفاك بالعلم في الأمّي معجزة
كما أن صفة التكبر لله مادحة، وفي غيره ذامة، كذا في (العناية).
الخامس- في قوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام، بنبوته صلّى الله عليه وسلّم.
قال الماوردي في (إعلام النبوة) في الباب الخامس عشر في بشائر الأنبياء بنبوته عليه الصلاة والسلام:
إن لله تعالى عونا على أوامره، وإغناء عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، بما تقدمه من بشائره، وتبديه من أعلامها وشعائرها، ليكون السابق مبشرا ونذيرا، واللاحق مصدقا وظهيرا، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق. وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء، بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عونا للرسول، وحثا على القبول. فمنهم من عيّنه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصّه بأفعاله، ومنهم من ميّزه بظهوره وانتشاره. وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب، ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم.
وجاء في (إظهار الحق) ما نصه: إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلّى الله عليه وسلّم، توجد كثيرة إلى الآن أيضا، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولا طريق إخبار النبيّ المتقدم، عن النبيّ المتأخر، على ما عرفت في الأمر الثاني- يعني في كلامه- ثم نظر ثانيا بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة.
وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشرت به الأنبياء السالفون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال، حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته. غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه- يعني من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة
197
من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف. لكن من أمد غير بعيد، قد شرعوا في تحريف بعض الصفات، ليبعد صدقها على النبيّ عليه الصلاة والسلام. فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع، اختلافا لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم لانتشار النسخ بالطبع، وتيسر المقابلة بينها. وها نحن نورد شذرة من البشائر لديهم:
فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر هكذا:
١١- وقال لها ملاك الربّ أنت حبلى فتلدين ابنا. وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك.
١٢- وإنه يكون إنسانا وحشيا. يده علي كل واحد ويد كل واحد عليه. وأمام جميع إخوته يسكن.
هذه بشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، لا بجده إسماعيل، لأن إسماعيل عليه السلام، لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص. بل في التوراة أن إسماعيل وأمه هاجر أخرج من وطنهما مكرهين، ولم يرث إسماعيل مع إسحاق، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش، ولم يسمع أن الأمم دانت لهم، حتى بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كلّ بهم فكان ذكر إسماعيل مقصودا به ولده. كما أن في مواضع كثيرة من التوراة، ذكر يعقوب، والمقصود بالذكر ولد يعقوب. فمن ذلك قوله في السفر الخامس: (يا إسرائيل! ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له) ؟ فهذا خطاب لبني إسرائيل باسم أبيهم، وكذلك قوله لقوم موسى (اسمع إسرائيل، ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكثر وتنعم) ونظائره كثيرة. فظهر أنه قد يذكر اسم الأب، ويراد الابن مجازا، بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.
ومنها: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية هكذا:
١- وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته.
٢- فقال: جاء الربّ من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمنيه نار شريعة لهم.
198
ولا غموض بأن مجيء الله جل وعلا من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سينا- هكذا يفسره أهل الكتاب- والأمر كذلك فيجب أن يكون إشراقه من سعير عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح يسكن أرض الجليل من سعير بقرية تدعى (ناصرة، واسم النصارى مأخوذ منها. واستعلاؤه من جبال فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد في جبل فاران. وفاران هي مكة، لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب. ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا:
٢٠- وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرّيّة. وكان ينمو رامي قوس.
٢١- وسكن في برّيّة فاران. وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر.
ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، وفهيا مات، وبها دفن. وهذه البشارة صريحة في نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ظاهرة لا تخفى إلا على أكمة لا يعرف القمر. فأي نبيّ ظهر في مكة بعد موسى غير محمد، وأنتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها، كما يقتضيه الاستعلان المذكور في البشارة.
ومنها: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا:
١٧- قال لي الربّ قد أحسنوا في ما تكلموا.
١٨- أقيم لهم نبيّا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكل ما أوصيه به.
١٩- ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.
هذا البشارة في حق نبينا صلّى الله عليه وسلّم قطعا، لأنه من ذرية إسماعيل، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل وأنه قبالة إخوته، ينصب المضارب. وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام، عن بعد بعيد، إخوة كما دعى في القرآن هود وصالح، إخوة لعاد وثمود مع أنهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام. وكما قيل في سفر العدد في الباب العشرين:
١٤- وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم. وهكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كلّ المشقة التي أصابتنا (مع أنهما أبناء أعمام على بعد بعيد).
وليست هذه الشهادة في حق أحد من أنبياء بني إسرائيل، وإلّا، لقال: وسوف
199
أقيم لهم نبيا مثلك منهم أو من أنفسهم كما قال تعالى إخبارا بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وكما قال تعالى في خطاب بني إسماعيل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وأما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى، فهو باطل من وجوه:
١- أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل، لا من نفس بني إسرائيل، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل.
٢- أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام لما في آخر سفر التثنية.
(الأصحاح الرابع والعشرون).
١٠- ولم يقم بعد نبيّ في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه.
ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواه، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى.
٣- أن يوشع عليه السلام كان حاضرا هناك، وقد أشير بعبارة صريحة قبل هذه ففي الباب الأول من هذا السفر.
٣٨- يشوع بن نون الواقف أمامك هو يدخل إلى هناك. شدّده لأنه هو يقسمها لإسرائيل.
فأي مقتض للرمز والتلويح، بعد هذا التصريح؟ وأي موجب لإدخال (سوف) الدالة على الاستقبال على فعل حاصل في الحال؟
وأما ما زعمته النصارى من أن المراد به عيسى عليه السلام، فهو أيضا باطل، لوجوه:
١- أنه من بني إسرائيل، والمبشّر به هنا من غيرهم.
٢- أن موسى بّشر بنبيّ مثله، وهم يدّعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبيّا مرسلا، وإلا لزم اتحاد المرسل والمرسل، وهو غير معقول. على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام، أقوى من مشابهته لعيسى، لاتحادهما في أمور:
١- كونهما ذوى والدين وأزواج بخلاف عيسى عليه السلام.
٢- كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام. وقد أشار في هذه البشارة بقوله: ١٩- ويكون أي الإنسان الذي لا يسمع لكلامي، الذي يتكلم به
200
باسمي، أنا أطالبه. إلى كون هذا النبيّ مأمورا بجهاد من كفر بما جاء به من عند الله، والانتقام منه بسيفه البتّار. وزعمت النصارى أن الانتقام هنا بمعنى العذاب الأخرويّ لمنكريه، وهو خطأ، لأن ذلك لا يختص بهذا النبيّ، بل كل من أنكر ما جاء به نبيّ من الأنبياء ينتقم منه في الآخرة، فلا معنى لتخصيص هذا النبيّ بالذكر حينئذ.
٣- كون شريعتهما مشتملة على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء، وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذه كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام- على ما تقول النصارى- ونظائر ذلك كثيرة.
وفي هذه البشارة إشارة إلى كون هذا النبيّ أميّا لا يقرأ، حيث قال (يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي) وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية التي نحن في صددها.
ومنها- في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلا الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه، ولا يعرفه. وأنتم تعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم). وهذه بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه، وينوب في تبليغ رسالته، وسياسة خلقه، منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، وهل هذا إلا محمد صلّى الله عليه وسلّم. و (الأب) هنا بمعنى الرب والإله، لأنه اصطلاح أهل الكتابين. وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه (روح الحق) إلى أن الحق قبل مبعثه، يكون كالميت لا حراك له، ولا انتعاش، وأنه إذا بعث يكون كالروح له، فيرجع حينئذ قائما في الأرض. ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام، هو الذي أحيى الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعد ما اندرس، ولم يبق فيه نفس. ثم قال: (الفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم). ولا شك بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكّر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عباد الله تعالى، قربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدع لسوى عبادة الله وتوحيده، وتنزيهه وتمجيده. وقوله (باسمي) أي بالنبوة. ثم أبان لهم سبب إخبارهم به قبل أن يأتي فقال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون. حتى إذا كان، تؤمنون).
وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور: (فأما إذا جاء الفارقليط الذي
201
أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء).
وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق، لم يأتكم الفارقليط. فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذ جاء ذاك، فهو يوبخ العالم على خطيئة، وعلى بر، وعلى حكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي. وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب، ولستم ترونني بعد. وأما على الحكم، فإن رئيس هذا العالم قد دين. وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله. وإذا جاء روح الحق ذاك، فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني، لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم جميع ما هو للأب، فهو لي. من أجل هذا قلت (إن مما هو لي يأخذ ويخبركم). ومن أمعن النظر في هذه العبارات، ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحاوى والإشارات جزم بأن (الفارقليط) هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحرا كذابا، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل، بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم، سيما اليهود، على الخطايا، لا سيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق، الذي علم جميع الحقائق، وهو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي، لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٣].
وفسر العلامة ابن قتيبة (روح الحق الذي من الأب ينبثق) أي يصدر بكلام الله المنزل، وأستدل بقوله تعالى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى:
٥٢]، والمراد به هنا القرآن الكريم، لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزهة، عما افترى عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه، واهتدوا بهديه. ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعيّن أن يكون هو المراد.
وفي قول عيسى عليه السلام (إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط إشارة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل.
ولفظ (فارقليط) يوناني الأصل، قيل: أصله باراكلي طوس، بمعنى كان لسان
202
قومه، وما كان يتكلم باليونانيّ، لأنه كان عبرانيّا ابن عبرانية، نشأ في قومه العبرانيين، فنقل أقواله في هذه الأناجيل، نقل بالمعنى. فترجيح من رجح من النصارى، أن أصل فارقلط هو الأول ترجيح بلا مرجح، والتفاوت بين اللفظين يسير جدّا، والحروف اليونانية متشابهة. وأيّا كان أصله، فالاستدلال صحيح، لصدق اللفظ بمعانيه كلها على النبي صلّى الله عليه وسلّم صدقا جليا، لا يخفى إلا على مشاغب.
وقد كانت هذه البشائر سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان، كما بينه في كتابه (تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب).
وقد نبذ النصارى بعد الأناجيل المصرحة باسم (محمد) لكونها شجى في حلوق أهوائهم، كإنجيل (برنابا) ففيه التصريح بقوله (إلى أن يجئ محمد رسول الله) كما نقله في (إظهار الحق).
وإذا كان حالهم في تراجمهم، في لقب إلههم، ولقب خليفته ما علم- فكيف يرجى منهم صحة بقاء (محمد أو أحمد) ؟! إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصوب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة، والأشائر الصحيحة، ما لا يبق معه وقفه لحائر.
هذا، وفي كتبهم بشائر كثيرة، تعرض لذكرها جلة من العلماء، مما أناف على العشرين.
قال الماوردي: لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر. وقد اقتصرنا على ما قدمنا، روما للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية، من مثل (أعلام النبوّة للماوردي) و (إظهار الحق) وغيرهما.
وقد قال صاحب (إظهار الحق) الشيخ رحمه الله، عليه رحمة الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول، شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد الله بن سلام، وأبني سعية، وبنيامين، ومخيريق، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود. ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي، وضغاطر، وهو الأسقف الروميّ الذي أسلم على يد دحية الكلبيّ وقت الرسالة فقتلوه. والجارود.
والنجاشي، والسوس، والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى. وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم رسالته، هرقل قيصر الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم، ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا.
203
ولما ورد على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نصارى نجران، وحاجّهم في شأن عيسى عليه السلام وحجّهم، دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى، فنكصوا على أعقابهم، خوفا من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون آمنوا بها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤].
- السادس- قوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يحتمل أن يكون مستأنفا، وأن يكون مفسّرا مَكْتُوباً أي لما كتب.
السابع: الطيبات أعم من الطيبات في المأكل كالشحوم، وكذا البحائر والسوائب والوصائل والحام. ومن الطيبات في حكم الشريعة كالبيع، وما خلا كسبه عن سحت. وكذا الخبائث ما يستخبث، من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة.
قيل: يستعبد إرادة ما طاب أو خبث في الحكم، لأن معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله، أو حكم بحرمته، فيرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله، ويحرّم ما يحكم بحرمته، ولا فائدة فيه. وردّوه بأن يفيد فائدة وأيّ فائدة! لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع، لا بالعقل والرأى.
الثامن- في قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم جاء بالتيسير والسماحة، كما
ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال «١» : بعثت بالحنيفية السمحة.
وقال صلّى الله عليه وسلّم «٢»
لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعريّ، لما بعثهما إلى اليمن: بشرا ولا تنفراص، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا.
وقدمنا أن (الإصر والأغلال) استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة.
فمنها تحريم طبخ الجدي بلبن أمه. ومنها نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظال. وكذلك عيد كل سبت، لا يعمل فيه أدنى عمل. وكذلك سبت المزارع. ففي كل سنة سابعة سبت للأرض، لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عطلا، وغلت الكروم مأكلا لفقراء شعبهم ووحوش البرية. ومنه أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٢٦٦ من حديث طويل رواه أبو أمامة عنه صلّى الله عليه وسلّم. [.....]
(٢) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٦٤- باب ما يكره من التنازع والاختلاف وعقوبة من غصا إمامه، حديث ١١٢٩.
204
يقتل حدّا. وكذا من يعمل يوم السبت يقتل. ومن كان به جن أو تابعة يرجم بالحجارة حتى يموت. ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة، ثم تبيّن كذبه، جميعا يقتلان. وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها. وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور ولا يؤكل لحمه. ومن اضطجع مع امرأة طامث يقطعان من شعبهم. ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر، وطلقها أو مات عنها، فلا يجوز لزوجها الأول أن يرجعها. وغير ذلك من الآصار التي تقدم بعضها في آخر سورة البقرة- فراجعه-.
التاسع- قال الجشمي: تدل الآية على أن شريعته صلّى الله عليه وسلّم أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية. وذلك نعمة عظيمة على هذه الأمة.
وتدل على وجوب تعظيم الرسول، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توهين ما يتصل بذلك، لأن جميع ذلك من باب النصرة. وهذا لا يختص بعصره. فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف. ولعل الجهاد بالبيان، وإيراد الحجة، ووضع الكتب فيه، وحلّ شبه المخالفين، يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا (منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل).
العاشر- قال العلامة البقاعي: لما تراسلت الآي، وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام، وبيان مناقبه العظام، ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصبا، وأعظمهم رتبة- ساق سبحانه هذه الآيات، هذا السياق، على هذا الوجه، الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه، قوة أو فعلا. وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل، اهتماما به، وتعجيلا له، مع ما سيذكر، مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته، بقصته مع قومه، في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه، في سورة (الأنفال) و (براءة) بكمالها).
ثم قال البقاعي: لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص، من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم، حث على الإيمان به، إيجابا على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف، تقدم زمانه أو تأخر- أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه، تحقيقا لعموم رسالته، وشمول دعوته، فقال سبحانه:
205
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً أي كافة الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ نعوت للفظ الجلالة، أي الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة. والآية نصّ في عموم بعثته للأحمر والأسود، والعربي والعجمي.
وفي الحديث: «أعطيت خمس لم يعطهن نبيّ قبلي- ولا أقولهن فخرا- بعثت إلى الناس كافة، الأحمر والأسود، ونصرن بالرعب مسيرة شهر، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة، فأخّرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا».
رواه الإمام أحمد «١» عن ابن عباس مرفوعا، ورواه «٢» أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي. أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدوّ بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا، وأحلت لي الغنائم، آكلها، وكان من قبلي يعظّمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسّحت وصليت وكان من قبلي يعظّمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي! قيل لي: سل، فإن كل نبيه قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ومن يشهد أن لا إله إلا الله».
قال الحافظ ابن كثير: إسنادهما جيد قوي.
وروى الإمام أحمد بمعناه عن ابن عمر وأبي موسى، وهو ثابت في الصحيحين «٣» عن جابر:
وأخرج مسلم «٤» عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٠١ والحديث رقم ر ٢٧٤٢.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٢٢٢ والحديث رقم ٧٠٦٨.
(٣)
أخرجه البخاري في: الصلاة، ٥٦- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «جعلت لي مسجدا وطهورا»

حديث رقم ٢٣١. ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٣.
(٤) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ر ٢٤٠.
بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار»
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أي الذي نبئ ما يرشد الخلائق كلهم، مع كونه أميّا. وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٩]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي: موقنين ثابتين، يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة، ويرشدونهم وَبِهِ يَعْدِلُونَ وبالحق يعدلون بينهم في الحكم، لا يجورون. والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، من كل خير، وبين أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم. وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم. ويأباه أنه قد مرّ ذكرهم فيما سلف. أفاده أبو السعود.
وهذه الآية كقوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران: ١١٣]، وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: ١٩٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٠]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
وَقَطَّعْناهُمُ أي قوم موسى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أي صيّرناهم قطعا، أي فرقا، وميزنا بعضهم من بعض. والأسباط: أولاد الولد، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة، من اثني عشر ولدا، من ولد يعقوب عليه السلام أُمَماً أي عظيمة وجماعة كثيفة
العدد وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أي في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فضربه فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط منهم مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ في التيه من حرّ الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث أوجبوا لها العذاب الدائم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦١]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ يعني بيت المقدس، والقائل موسى عليه السلام، دعاهم إلى دخول بيت المقدس، أو يوشع، فإنه دعاهم، بعد وفاة موسى، إلى غزو بيت المقدس وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ أي قولوا حطّ عنا ذنوبنا، وقيل: أمروا بكلمة إذا قالوها حطّ عنهم أوزارهم وَادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً أي ساجدين أو خاضعين. أمروا بأن يدخلوها بالتواضع، وكان ذلك شرطا في قبول فعلهم نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٢]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وقد تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة بما يغني عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٣]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)
208
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: ٦٥]. فقوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عطف على (اذكر) المقدر عند قوله: وَإِذْ قِيلَ أي وأسأل اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع وتقرير، بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله، وإعلاما بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم به من يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي.
وقال ابن كثير: أي: واسأل هؤلاء اليهود بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذّر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم.
و (هذه القرية) هي أيلة، بين مدين والطور، وقيل هي متنا، بين مدين وعينونا.
ومعنى كونها حاضِرَةَ الْبَحْرِ أنها قريبة منه، راكبة لشاطئه.
وقوله تعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه، فقد أخذت عليهم العهود والمواثيق أن يحفظوا السبوت من عمل ما.
و (الحيتان) السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت، في معنى السمكة.
وشُرَّعاً جمع شارع، من (شرع) بمعنى دنا. يقال: شرع علينا فلان، إذا دنا منا، وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته، فرأيته يفعل كذا، وهو حال من حِيتانُهُمْ أي تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلا إلى السبت المقبل.
قرئ يَسْبِتُونَ ثلاثيّا، ومزيدا فيه، من (أسبت) معلوما ومجهولا أيضا، بمعنى، لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم.
وقوله تعالى: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع، نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء، في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده، أي نعاملهم معاملة من يختبرهم، بسبب فسقهم، فيظهر عدوانهم، فيستحقون المؤاخذة.
209
ثم بين تعالى تماديهم في العدوان. وعدم انزجارهم عنه، بعد العظات والإنذارات، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٤]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من صلحائهم، يحاورون فريقا ممن دأب في عظتهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي: مخترمهم ومطهّر الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً أي بل معذبهم عذابا شديدا، إذ مجرد الإهلاك قد يوجد معه لطف، وأما شدة العذاب فتلك القاصمة قالُوا أي: الوعاظ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي نعظهم معذرة إليه تعالى، لئلا ننسب إلى التفريط في وصيته بالنهي عن المنكر. وقرئ بالرفع. أي موعظتنا معذرة وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي ورجاء في أن يتقوا فيتوبوا فينجوا من الإهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٥]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم، ترك الناسي للشيء، وأعرضوا عنه إعراضا كليّا، بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: المرتكبين المنكر.
بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي: شديد، وزنا ومعنى بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بفعل المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٦]
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ، أي تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي صاغرين أذلاء، بعداء من الناس.
قال الزجاج: أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع.
210
وقال غيره: المراد بالأمر هو الأمر التكويني، لا القولي، أي: التكليفي، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به. وفي الكلام استعارة تخييلية. شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف. ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة، بأمر المطاع للمطيع، في حصول المأمور به، من غير توقف. كذا في (العناية).
وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أوّلا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك، فمسخهم. ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا لما قبلها.
تنبيهات:
الأول: قال الجشمي: تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ، وأنهم خالفوا أمر الله، وهذا القدر يقتضيه الظاهر. ومتى قيل: أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام، هل كانت معجزة؟ قلنا: اختلفوا فيه. فقيل: كان معجزة لنبيّ ذلك الزمان، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيرا في يوم واحد، ولا يظهر في سائر الأيام. فإن كان كذلك، فلا بد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت، فظهروا. وصرفهم في سائر الأيام، فلم يظهروا، فكانت معجزة. وقيل: كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم، كما اعتاد الدواب كثيرا من الأشياء. انتهى.
وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات:
منها- أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل، فلم تخلص منها يومها، فإذا كان الليل، أخذوها بعد انقضاء السبت.
ومنها- أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها، لا عن صيدها. فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت: ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف، أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم، وإذا هم قردة- رواه عبد الرزاق وابن جرير- وثمة روايات أخر.
وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم، لا أبدانهم- والله أعلم-.
الثاني- استدلّ بهذه القصة على تحريم الحيل.
211
قال الإمام ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله، الحيل والمكر والخداع، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه. وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه.
فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذي اعتبره السلف، وعملوا به. ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذموه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود، يثاب فاعله ومعلمه.
ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.
ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله. وقال في سادسها:
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لمّا احتالوا على إباحة ما حرم الله تعالى عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد، أخذوه يوم الأحد، قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها. ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه، ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل. واحتيال ظاهره ظاهر الإيفاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا- والله أعلم- مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي أوصافه شبه منهم، وهو مخالف له في الحد والحقيقة. فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره، دون حقيقته، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم، دون الحقيقة، جزاء وفاقا.
ثم
روي في عاشرها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل».
الثالث- دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت، كما بيّنا. وفرقة نهت
212
عن ذلك واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ فأجابتها المنكرة: بأنا نفعل ذلك اعتذارا إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم نص الله على نجاة الناهين، وهلاك الظالمين.
وقال ابن كثير: وسكت عن الساكتين، لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين، أو من الناجين؟ على قولين. ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم، ثم صار إلى نجاتهم، لما قال له غلامه عكرمة: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم، وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ فكساه حلة.
الرابع- دل قوله تعالى: قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ على أن النهي عن المنكر لا يسقط، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه. إذ ليس من شرطه حصول الامتثال عنه، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين، والغيرة على حدود الله، والاعتذار إليه تعالى، إذ شدد في تركه- لكفاه فائدة.
ولما ذكر تعالى بعض مساوئ اليهود، تأثره ببيان. أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي آذن، (كتوعد بمعنى أوعد). من (الإيذان) بمعنى (الإعلام) أجري مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، وهو قوله: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ والمعنى: وإذ حتم ربك وحكم، ليسلطن على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم. وقد بعث الله تعالى، بعد سليمان عليه السلام، بختنصر مالك بابل، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وجلا كثيرا منهم إلى بابل- قصبة ممكلته- وأقاموا فيها سبعين سنة، ثم تسلطت عليهم ملوك شتى، ولبثوا زمانا طويلا يكابدون بلاء عنيفا، من تواتر
الحروب على بلادهم، إلى أن صاروا جميعا تحت سلطة الرومان، بعد ولادة عيسى عليه السلام بإحدى وسبعين سنة، واستؤصلوا من أرضهم، وتفرقوا في البلاد شذر مذر، صاغرين مقهورين. ومن هاهنا، استدل من استدل بأنهم لا يكون لهم دولة ولا عز، وباتصال ذلهم. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن أقام على كفره، ونبذ وصاياه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
ثم أخبر تعالى عن تبددهم في الأقطار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٨]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي فرقنا بني إسرائيل في الأرض، وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها، بحث لا تخلو ناحية منها، منهم، تكملة لإدبارهم، حتى لا تكون لهم شوكة مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي من ينحط عن درجة الصلاح، لكفر أو فسق وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي النعم والنقم التي هي أمثلة أجزاء الصلاح والفسق لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن أسباب السيئات إلى الحسنات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء المذكورين خَلْفٌ أي بدل سوء.
والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. (والخلف) مصدر، ولذا يوصف به المفرد وغيره، وقد شاع في الطالح، ومفتوح اللام ب (الصالح)، وربما جاء عكسه وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة من أسلافهم المختلفين، يقرءونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها كما قال: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا، وما يتمتع به منها. وفي قوله هذَا الْأَدْنى تخسيس وتحقير. و (العرض) بفتح الراء، ما لا ثبات له، ومنه استعار
المتكلمون (العرض) لمقابل (الجوهر). و (الأدنى) إما من الدنوّ، بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة. وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره، بعرض الحياة الدنيا، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال، أي يرجون المغفرة، وهم مصرّون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي الميثاق الوارد فيه أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي فلوا صح ما تحكموا به على الله، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى.
ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله: وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي قرءوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ أي من ذلك العرض الخسيس لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق أَفَلا تَعْقِلُونَ أي فتعلموا ذلك، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب، بالنعيم المخلد. وقرئ بالياء. وفي الالتفات تشديد للتوبيخ.
ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم، كما هو مكتوب فيه، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٠]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون به في أمور دينهم. يقال: مسّك بالشيء وتمسك به. وقرئ يمسكون، من (الإمساك) وتمسكوا واستمسكوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ من وضع الظاهر موضع المضمر، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، لأن التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لإصلاحهم. فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ أجيب: بأن إفرادها، إظهارا لمزية الصلاة- لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان.
قال الجشمي: تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب، ووعد من تمسّك به، تنبيها لنا وتحذيرا عن سلوك طريقتهم. وتدل على أن الاستغفار باللسان، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي رفعناه كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي سحابة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي ساقط عليهم، لأن الجبل لا يثبت في الجوّ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي وقلنا، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة بِقُوَّةٍ أي عزيمة وجد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي بالعمل ولا تتركوه كالمنسي لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي مساوئ الأعمال، أو راجين أن تنظموا في سلك المتقين. وهذه الآية كقوله تعالى وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء: ١٥٤].
وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف: أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها، حتى رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، فقال لهم موسى: (ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا! فخرّوا سجّدا، فرقا من أن يسقط عليهم) - رواه النسائي وسنيد-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٢]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات، ثم جعلت علقة، ثم مضغة، ثم أنشأهم بشرا سويا حيّا مكلفا، فجعل خلقه إياهم كذلك، إخراجا من أصلابهم، لأن أصلهم خرج منها، ومِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بَنِي آدَمَ بدل البعض. وقرئ (ذرياتهم) وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها، تقريرا لهم بربوبيته التامة.
قال الجشمي: أي أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقته، وغرائب صنعته، من أعضاء سوية، وحواس مدركة، وجوارح ظاهرة، وأعصاب وعروق وغير ذلك، مما يعلمه من تفكر فيه، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته، فبالإشهاد بالأدلة، صار كأنه أشهدهم بقوله.
216
وقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ على إرادة القول، أي قائلا: ألست بربكم، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم، فينتظم استحقاق المعبودية، ويستلزم اختصاصه به تعالى: قالُوا بَلى شَهِدْنا أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة صاروا كأنهم قالوا بَلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان. فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب. مثّل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد، وإخراجهم من ظهور آبائهم، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب، بحمله إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا. والقصد من الآية الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: ٣٠]، والفطرة هي معرفة ربوبيته.
وفي الصحيحين «١» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟».
والجمعاء سالمة الأذن، والجدعاء مقطوعتها.
وفي صحيح مسلم «٢» عن عياض بن حمار قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها».
قال الحسن:
والله لقد قال الله في كتابه وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الآية- رواه الإمام أحمد «٣» والنسائي، بدون استشهاد الحسن بالآية.
(١) أخرجه البخاري في: الجنائز، ٨٠- باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، حديث ٧١٦.
وأخرجه مسلم في: القدر، حديث رقم ٢٢- ٢٤.
(٢) أخرجه في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٦٣ ضمن حديث طويل.
(٣) أخرجه في المسند ٣/ ٤٣٥.
217
وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتكليمه تعالى إياهم، ونطقهم، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم- فغير صحيحه الإسناد. وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية، كما بينه الحافظ ابن كثير. قال رحمه الله:
ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود. وقد فسر الحسن الآية بذلك.
قالوا: ومعنى (أشهدهم) أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا.
والشهادة تارة تكون بالقول، كقوله: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
[الأنعام: ١٣٠]، الآية- وتارة تكون حالا كقوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: ١٧]، أي حالهم شاهدا عليهم بذلك، لأنهم قائلون ذلك. وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات: ٧]، كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: ٣٤].
قالوا: مما يدل على أن المراد هذا، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع كما قاله من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل:
إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد.
أَنْ تَقُولُوا أي كراهة أن تقولوا: يَوْمَ الْقِيامَةِ أي الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي عن ربوبيته وتوحيده غافِلِينَ أي لم ننبّه عليه. فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر، صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك.
إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٣]
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا أي سنوا الإشراك واخترعوه مِنْ قَبْلُ أي من
218
قبل زماننا وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أي فنشأنا على طريقتهم، احتجاجا بالتقليد، وتعويلا عليه، فقد قطعنا العذر بما بيّنا من الآيات أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أي أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك، وأسسوا من الباطل، أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول، وأقوال الرسل؟ والاستفهام للإنكار، أي أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل. والمعنى:
أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد، هو في أصل فطرتكم، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل؟ والفطرة أكبر دليل، فهي تسد باب الاعتذار بوجه ما.
لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا مساغ له أصلا.
تنبيهات
الأول- وافق الإمام ابن كثير، في هذا المقام أيضا الجشمي في تفسيره، قال:
ويروي أصحاب الحديث عن أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة، ويجعلون ذلك تأويلا للآية، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم، فأخرج منه ذريته، أمثال الذر، فقال:
ألست بربكم؟ فقالوا: بلى طائعين. ثم أعادهم في صلب آدم. وإن تأويل الآية على ذلك.
قال: وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك، وذكروا في الرواية ما نذكره. قالوا: فمما يدل على فساده وجوه:
منها: أنه لو كان حال كما ذكروا، لذكرناه، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل، خصوصا إذا كان إشهادا عليه، ليعمل به.
ومنها: ما ذكره شيخنا أبو عليّ، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم، وهذا شنيع من الكلام.
ومنها: أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء، لم يصح ذلك.
ومنها: أن الجزء الواحد، لا يجوز أن يكون حيّا عاقلا، لأن تلك البنية، لا تحمل الحياة، فلا بد من أن يكون مؤلفا من أجزاء، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم.
ومنها: أنه يفتح باب التناسخ، والقول بالرجعة، لأن لهم أن يقولوا: إذا جاز الإعادة ثمة، لم ينكر التناسخ.
219
ومنها: أنه لا بد أن يكون فيه فائدة، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة، وإذا لم يذكره بطلت فائدته.
ومنها: أن الاعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا ذلك، فكيف يصح في ابتداء الخلق، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل.
ثم قال: قال مشايخنا رحمهم الله: والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه:
منها: أنه قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل (من آدم). وقال:
مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل (من ظهره). وقال: ذُرِّيَّتَهُمْ ولم يقل (ذريته).
ومنها: أنه قال: أَنْ تَقُولُوا يعني فعل ذلك، لكيلا تقولوا: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئا من ذلك.
ومنها: أنه قال: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك. وكل ذلك يبين فساد ما قالوا. ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية، ولا قبلها، بل ردها. غير أبي بكر أحمد بن عليّ، فإنه جوّز ذلك من غير قطع على صحته. غير أنه قال: ليس ذلك بتأويل الآية، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة، والإقرار بالربوبية. كما قال: إنهم ولدوا على الفطرة. قال: وأخرجهم كالذر ثم الهمهم حتى قالوا بلى. انتهى ما قاله الجشمي.
الثاني- تدل الآية على فساد التقليد في الدين، وتدل على أنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، وبعدها لا يعذر أحد. ذكره الجشمي.
الثالث- استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية، قال تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: ١٠]، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥].
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون: ٨٦- ٨٧].
وعن عمران بن حصين قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي: «يا حصين: كم تعبد اليوم إلها؟ قال أبي: سبعة ستا في الأرض، وواحدا في السماء؟ قال: فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء» - رواه الترمذي «١»
- فالله تعالى فطر الخلق كلهم
(١) أخرجه في: الدعوات، ٦٩- باب حدثنا أحمد بن منيع.
220
على معرفته فطرة توحيد، حتى من خلق مجنونا مطبقا مصطلما لا يفهم شيئا، ما يحلف إلا به، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس، فطرة بالغة.
قال التقي ابن تيمية: إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس. وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظر يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار أن المعرفة تحصل بالضرورة، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين.
وقال أيضا: ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد. وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم. ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره: إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الاعتزال.
وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلامه الأئمة والسلف- وهو أعدل الأقوال- أن النظر يجب في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص. فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال، لا من اللوازم العامة. والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه، إنما يدل على أنه قد يجب، كقوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس: ١٠١]. وقوله فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٥]، فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين، أمروا بالنظر، ليعرفوا الحق، ويقرّوا به، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء.
قال أبو حيّان التوحيدي في (مقابساته) في المقابسة الثانية والأربعين: قيل لأبي الخير: حدثنا عن معرفة الله، تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافا شديدا، وتنابذوا عليه تنابذا بعيدا، ونحب أن يحصل لنا جواب، فيفسر على حد الاختصار مع البيان.
فقال: هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحسّ. ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله. وأن يظن تارة أنها ضرورة، فإن العقل السليم من الآفة، البريء من العاهة، يحث على الاعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه لكن ضرورة لائقة بالعقل. لأن ضرورة العقل ليست
221
كضرورة الحس. لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار، وحمل وإكراه، وضرورة العقل لطيفة جدّا. لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف.
ثم ضرب مثلا لطيفا، وقال بعده: فعلى هذا، فإن الله تقدس اسمه، معروف عند العقل بالاضطرار، لا ريب عنده في وجوده، ومستدل عليه عند الحس، لأنه يستحيل كثيرا ولا يثبت أصلا، فمن أستدل ترقى من الجزئيات. ومن ادعى الاضطرار انحدر من الكليات. وكلا الطريقين قد وضح بهذا الاعتبار وكفي مؤونة الخبط والإكثار. فأما ما ينظر منه في الجدال، فلا يرث منه إلا الشك والفرقة والحمية والعصبيّة. وهناك للهوى ولادة وحضانة، وللباطل استيلاء وجولة، وللحيرة ركود وإقامة. أخذ الله بأيدينا، وكفانا الهوى الذي يؤذينا- انتهى-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٤]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي مثل ما ذكرنا، نبيّن الأدلة والحجج، ليرجعوا إلى الحق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٥]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على قومك أو على اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا أي علم الكتاب، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني، وصار عالما بها فَانْسَلَخَ مِنْها بأن نزع العلم عنه فكفر بها، وخرج منها خروج الحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي فلحقه وأدركه وصار قرينا له حتى أضله فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٦]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي لعظمناه بالعمل بها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي
مال إلى الدنيا، ورغب فيها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات، والتكليف بها، والتعظيم من أجلها، وعدم ذلك. كالكلب يدلع لسانه بكل حال، إن تحمل عليه، أي تشدّ عليه وتهيجه، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه، فلهثه موجود في الحالتين جميعا ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي من التوراة أو غيرها فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٧]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
ساءَ مَثَلًا أي ما مثل به الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي حيث شبهوا بالكلاب، إما في استواء الحالتين في النقصان، وأنهم ضالون، وعظوا أم لم يوعظوا كما قدمنا. وإما في الخسة، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز الهدى والعلم، وأقبل على هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله. ولهذا
ثبت في الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم قال «١» : ليس لنا مثل السوء. العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه
. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ اعلم أن من السلف من ذهب إلى أن هذه الآية مثل ضربه الله لمن عرض عليه الإيمان فأبى أن يقبله وتركه، وهو قول قتادة وعكرمة واختاره أبو مسلم، حيث قال: قوله آتَيْناهُ آياتِنا أي بيناها، فلم يقبل، وعرى منها. وسواء قولك: انسلخ وعرى وتباعد. وهذا يقع على كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على الكفر. قال: ونظيره قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [النساء: ٤٧]، وقال في حق فرعون:
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: ٥٦]. ومنهم من ذهب إلى أن الموصول فيها أريد به معيّن، فروي عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم وأبي روق أنه أمية بن أبي الصلت، فإنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدا عليه الصلاة والسلام، حسده، ثم مات كافرا، ولم يؤمن بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وهو الذي
قال فيه رسول
(١) أخرجه البخاري في: الهبة، ٣٠- باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، حديث رقم ١٢٦٤ عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم في: الهبات، حديث ٥- ٨.
223
الله «١»
(إنه آمن شعره وكفر قلبه)
يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده).
وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب، الذي سماه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (الفاسق)، كان يترهب في الجاهلية. فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمات هناك طريدا وحيدا.
وهو قول سعيد بن المسيّب.
وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب. كانوا يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنكروه. عن الحسن والأصم.
وقيل: إنه فرعون. والآيات آيات موسى، كأنه لما اقتص أنبياء بني إسرائيل عاد إلى قصة فرعون وضرب له المثل.
ومن الأقوال التي تناقلها المفسرون أنها نزلت في بلعام بن بعور، ويحكون عنه قصة لم ترو في جوامع الآثار الصحيحة عندنا، ولا هي مطابقة لما عند أهل الكتاب.
فقد ذكر نبؤه في الفصل الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سفر العدد، من تاريخ التوراة، بغير ما يرويه المفسرون عنه. ثم رأيت الجشميّ لم يصحح ذلك، فحمدت المولى على الموافقة. وعبارته:
«وعن مجاهد قال: هو نبي يقال له بلعم. رشاه قومه فكفر. وهذا لا يجوز، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر. لأن ذلك ينفّر الخلق عن الأنبياء، والقبول منهم، ويحقرهم في النفوس، ولأنهم حجج الله على خلقه، اصطفاهم. فالأقرب أنه لا يصح عن مجاهد» - انتهى- وهو كذلك لأن من قرأ نبأه السفر المتقدم، رأى من ثباته، وعدم موافقته لبالاق، ملك موأب، على ما أراد منه- ما يبرئه عن ذلك.
تنبيه:
قال الجشمي: إن قيل: كيف تتصل الآية بما قبلها؟ قلنا: على القول بأنه عنى بها فرعون فقد اتصلت قصته بقصة بني إسرائيل. وقيل لما نهى عن تقليد الآباء في الدين، بيّن في هذه الآية حال علماء السوء، الذين يختارون الدنيا على الآخرة. نهيا عن تقليدهم واتباعهم، كما نهى عن تقليد الآباء. وقيل: لما تقدم ذكر أخذ الميثاق، بين حال من آتاه الله الآيات فانسلخ منها ولم يتبعها.
(١) أخرجه أبو بكر بن الأنباري في كتاب المصاحف، والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس. قال المناوي: وسند الحديث ضعيف.
224
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٨]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قال أبو السعود:
لما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله، ليتفكروا فيه، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة، ويهتدوا إلى الحق- عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عز وجل، وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء، من غير تأثير لها فيه، سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله، حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، كسائر أفعال العباد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا لِجَهَنَّمَ أي لدخولها والتعذيب بها كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم الكفار من الفريقين، الموصوفون بقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي آيات الله الهادية إلى الكمالات وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها أي دلائل وحدته، بصر اعتبار وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أي الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ، يعني أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ.
[الأحقاف: ٢٦]، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ أي السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها، إلا في الذي يقيتها، كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: ١٧١]، أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان، كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها، لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول. وقوله تعالى:
بَلْ هُمْ أَضَلُّ أي الأنعام، إذ ليس للأنعام قوة تحصيل تلك الكمالات ودفع تلك النقائص. وهم مع ما لهم من تلك القوة قد خلوا عن الكمالات، وعن دفع أضدادها، فكانوا أردأ حالا منها، لنقصهم مع وجود قوة الكمال فيهم. وأيضا: الأنعام تبصر
منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره. وهؤلاء، أكثرهم يعلم أنه معاند، فيقدم على النار. وأيضا: الأنعام قد تستجيب لراعيها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء، وأيضا: إنها تفعل ما خلقت له، إما بطبعها، وإما بتسخيرها، بخلاف هؤلاء، فإنهم خلقوا ليعبدو الله، ويوحدوه، فكفروا به وأشركوا أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي عن تلك الكمالات والنقائص، ليهتموا لتحصيلها ودفعها، اهتمامهم لجر المنافع الدنيوية، ودفع مضارّها.
تنبيه:
قال أبو السعود: المراد بهؤلاء الذين ذرئوا لجهنم، الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، لكن لا بطريق الجبر، من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك، بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا، بل يصرّون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر. فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيّا بها، كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطريّ للعبادة، وتمكنهم التام منها، جعل خلقهم مغيّا بها. كما نطق به قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
روى مقاتل أن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن. فقال بعض المشركين: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربّا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فنزلت الآية
. و (الحسنى) تأنيث (الأحسن).
والمعنى: لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي يميلون عن الإقرار بها ويجحدونها، ويعدلون عنها كفرا بها. كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الفرقان: ٦٠] أي زادهم ذكر الرحمن نفورا. ولذا قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: ١١٠]، وقوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الآخرة، من جحدهم إياها ونفورهم عن الإيمان بها.
226
تنبيهات
الأول- قال السيد محمد بن المرتضى اليمانيّ في (إيثار الحق) : مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم. وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد، الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، ونعوتها الشريفة. ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم. ولذلك عدّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكائدهم للإسلام. فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا. فذموا الأمر المحمود ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي والجحد المحض. وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة. قال الله جل جلاله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى... الآية. وقال قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: ١١٠] الآية- فما كان منها منصوصا في كتاب الله، وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهره اسم ذم لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته. وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله. فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمى به. انتهى.
الثاني:
روى الشيخان «١» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله تسعة وتسعين اسما، من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر».
وفي رواية: من أحصاها
. قال البخاري «٢» : أحصيناه: حفظناه وأخرجه الترمذيّ «٣» وزاد سوق الأسماء معدودة: ثم قال: ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
ورواه ابن ماجة «٤» أيضا. فسرد الأسماء بزيادة ونقصان.
قال الحافظ ابن كثير: والذي عول عليه جماعة من الحفاظ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعانيّ عن زهير بن محمد بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك. أي أنهم جمعوها من القرآن. كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي. انتهى.
(١) أخرجه البخاري في: الدعوات، ٦٨- باب لله مائة اسم غير واحد، حديث رقم ١٣١٣.
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث رقم ٥ و ٦.
(٢) أخرجه في: التوحيد، ١٢- باب إن الله مائة اسم إلا واحدا.
(٣) أخرجه الترمذي في: الدعوات، ٨٢- باب حدثنا يوسف بن حماد البصري. [.....]
(٤) أخرجه ابن ماجة في: الدعاء، ١٠- باب أسماء الله عز وجل، حديث ٣٨٦٠ و ٣٨٦١،.
227
وقال النووي: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى. وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود من الحديث الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصرها. ولهذا جاء في الحديث «١» الآخر: أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم، أن لله ألف اسم. انتهى.
وقال السيد اليمانيّ في (إيثار الحق) : عادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء، ولا ينبغي ترك شيء منها، ولا اختصاره! فإن ذلك كالاختصار للقرآن الكريم. ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره، ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم. وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا تخريجه مع رواية أوله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه، ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده، من أحصاها، بالجنة كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء. فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المرويّ بالضرورة والنص. أما الضرورة، فإن في كتاب الله أكثر من ذلك. وأما النص،
فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «٢» :«ما قال عبد أصابه همّ أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحا» - رواه أحمد، وأبو عوانة في (صحيحه) وأبو يعلى والبزار.
ثم أخذ اليمانيّ يذكر ما وجده من الأسماء منصوصا، غير معرّج على التقليد.
فانظره في (إيثار الحق) فإنه جوّد البحث بمنزع شريف.
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٣٩١ والحديث رقم ٣٧١٢.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٣٩١. والحديث رقم ٣٧١٢.
228
الثالث- قال بعض مفسري الزيدية في قوله تعالى فَادْعُوهُ بِها: المعنى سموه بها، وفي ذلك أمر بدعائه بالأسماء الحسنى، وهو أمر ندب إذا حمل على التلاوة بالتسعة والتسعين، وحث على ذلك في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم. وإن أريد بالتسمية بما فيه مدح، دون ما فيه إلحاد، فذلك وجوب.
الرابع- قال السيد اليماني في (إيثار الحق) : هل يجوز تسمية محامد الرب تعالى وأسمائه الحسنى صفات له سبحانه وتعالى؟ قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: ٦٠]، وذكر أهل التفسير واللغة أنه الوصف الأعلى، وكذلك جاء في كلام علي عليه السلام أنه قال: فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته- ذكره السيد أبو طالب في (الأمالي) بإسناده، والسيد الرضي في (النهج) كلاهما في جوابه عليه السّلام، على الذي قال له: صف لنا نار ربنا- وهذا لا يعارض قوله عز وجل سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام: ١٠٠]، لأنه لم ينزه ذاته عن الوصف مطلقا، حتى يعم الوصف الحسن، وإنما ينزه عن وصفهم له بالباطل القبيح. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨١]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أي للجنة، لأنه في مقابلة وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:
١٧٩]- قاله النسفيّ- أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يدعون إليه وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي يعملون ويقضون. وقد جاء في الآثار، أن المراد بالأمة، هذه الأمة المحمدية. وقال قتادة: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها.
وعن الربيع بن أنس- في هذه الآية- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل».
وفي الصحيحين «١» عن معاوية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة».
وفي رواية: حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
(١)
أخرجه البخاري في: الاعتصام، ١٠- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون، وهم أهل العلم» حديث رقم ٦٢
. وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٧٤ و ١٧٥.
قال الشهاب: استدل بالآية على أن الإجماع حجة في كل عصر، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٢]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي سنأخذهم بالعذاب من طريق لا يعلمونها، أو نفتح لهم من الأحوال ما يلائم أهويتهم، ثم نهلكهم.
وأصل الاستدراج: أن يتدرج إلى الشيء قليلا قليلا، تشبيها بمن يرقى درجة درجة، حتى ينتهي إلى العلوّ. وقيل: أصله من الدرج الذي يطوى فكأنه يطوى منزلة بعد منزلة، كما يطوى الدرج. وقيل: لأنه من الدرجة فيكون، لأنه ينحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى حال الهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٣]
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم ليزدادوا إثما إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي قويّ شديد.
والمعنيّون بهذا الخطاب كفار مكة. قال في (التنوير) : هم أبو جهل وأصحابه المستهزئون، أخذهم الله بعذابه في يوم (أحد)، وأهلك كل واحد بهلاك غير هلاك صاحبه. انتهى.
ويدل قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٤]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي كما يختلقون. والاستفهام، للإنكار والتوبيخ. أي: أو لم يتفكروا في أنه ليس بصاحبهم الذي هو أعظم الأمة الهادية بالحق، شيء من جنة. وجوّز أن يكون الكلام تمّ عند قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا إنكارا لعدم تفكرهم في شأنه، الموقف على صدقه، وصحة نبوته. ثم ابتدأ نفي الجنة عنه تعجيبا وتبكيتا. و (الجنة) مصدر، كالجلسة، بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن. كما في قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: ٦]، لأنه يحوج إلى تقدير
مضاف، أي مسه جنة أو تخبطها. والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلّم ب (صاحبهم) للإيذان بأن طول مصاحبتهم له، مما يطلعهم على نزاهته عما ذكر، ففيه تأكيد للنكير، وتشديد له إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ أي رسول مخوّف مُبِينٌ أي موضح إنذاره، مبالغة في الإعذار.
ولما نعى عليهم تفكرهم في شأنه صلّى الله عليه وسلّم، أنكر إخلالهم في التأمل بالآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس، الشاهدة بصحة الآيات المنزلة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٥]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا أي نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم والسحاب. والملكوت: الملك العظيم وَالْأَرْضِ أي وفي ملكوت الأرض، من البحار والجبال والدواب والشجر وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم (الشيء)، من أجناس لا يحصرها العدد، ولا يحيط بها الوصف وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ
عطف على (ملكوت). أي في احتمال أن يهلكوا عما قريب، فيفارقوا الدنيا، وهم على أتعس الأحوال فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي القرآن يُؤْمِنُونَ أي إذا لم يؤمنوا به، وهو المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية. وفي هذا قطع لاحتمال إيمانهم رأسا، ونفي له بالكلية.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على وجوب النظر في الأدلة، وأنها طريق المعرفة.
وتدل على أنه لا شيء ينظر فيه، إلا ويعرف الله تعالى به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٦]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي في كفرهم يتحيرون. يعني أن من كتب عليه الضلالة، فلا يهديه أحد، ولا يغنيه النظر، ولا الإنذار. كما قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: ١٠١]، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: ٤١].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي عن قيامها وحينها أَيَّانَ مُرْساها أي متى إرساؤها أو وقت إرسائها، أي إثباتها وإقرارها. والرسوّ يستعمل في الأجسام الثقيلة، وإطلاقه على المعاني، تشبيها لها بالأجسام قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أي لا يظهرها في وقتها إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي عظمت وكبرت على أهلها لهولها وما فيها من المحاسبة والمجازاة. أو ثقل علم وقتها على أهلهما. أو عظم وصفها على أهل السموات والأرض، من انتشار النجوم، وتكوير الشمس، وتسيير الجبال لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة على حين غفلة منكم يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي عالم بها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أن علمها عند الله، لم يؤته أحدا من خلقه.
لطيفة:
قال الزمخشري: فإن قلت. لم كرر يَسْئَلُونَكَ وإِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ؟
قلت: للتأكيد، وما جاء به من زيادة قوله: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم، لا يخلون المكرر من فائدة زائدة. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو أجلّ من أن يشارك فيها. وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير، أن الكلام إذا بني على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طرّي بذكر المقصد الأول، لتتصل نهايته ببدايته. وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وسيأتي، وهذا منها. فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي إلى قوله بَغْتَةً أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده، فطرّي ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأول، مستغنى عن تفصيله بما تقدم. فمن ثم قيل: يَسْئَلُونَكَ
ولم يذكر المسؤول عنه، وهو (الساعة) اكتفاء بما تقدم فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا، فقال: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ. ويلاحظ هذه في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد، تتطرية للذكر، قوله:
عجّل لنا هذا وألحقنا بذا ال شحم إن قد مللناه بجل
أي فقط، فذكر الألف واللام، خاتمة للأول من الرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني، استبعد العهد بالأولى، فطرّي ذكرها، وأبقى الأول في مكانها. ومن ثم استدلّ ابن جني. على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء، فهو بيت كامل، وليس بنصف، كما ذهب إليه أبو الحسن. قال: ولو كان بيتا واحدا، لم يكن عهد الأولى متباعدا، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها. ألا ترى أن عبيدا لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات، وجعل آخر المصراع الأول (أل) لم يعدها أول المصراع الثاني، لأنها بيت واحد، فلم ير عهدها بعيدا، وذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي:
يا خليليّ أربعا واستخبرا ال منزل الدّارس عن أهل الحلال
مثل سحق البرد عفّى بعدك ال قطر مغناه وتأويب الشّمال
(أربعا: أقيما. الحلال: اسم امراة. سحق البرد: يريد مثل البرد المسحوق أي البالي. وعفى، بالتشديد: محا. القطر: المطر. مغناه. هو الموضع الذي كانوا يسكنونه. والشمال- بالفتح والكسر- من الرياح، ما مهبّه من مطلع الشمس وبنات نعش. وهي لا تكاد تهب ليلا. وتأويبها: هبوبها النهار كله) ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا. فانظر هذه النكتة، كيف بالغت العرب في رعايتها، حتى عدت القريب بعيدا، والمتقاصر مديدا. فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان، في صناعتي العربية والبيان، والله المستعان- انتهى-.
(والقصيدة بتمامها في (مختارات ابن الشجريّ) بالصفحة رقم ٣٧) ثم أمره تعالى أن يخبر بعبوديته الكاملة، بما ينبئ عن عجزه عن علم الساعة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا أقدر، لأجل نفسي، على جلب نفع مّا،
ولا على دفع ضرّ ما إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي تمليكه لي من ذلك بأن يلهمنيه، فيمكنني منه، ويقدرني عليه. وهذا كقوله تعالى في سورة يونس وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: ٤٨- ٤٩]. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي النفع، بترتيب أسبابه، فكنت مثلا أعد للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي الضر، للتوقي عن أسبابه إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي عبد أرسلت نذيرا وبشيرا، وما من شأني أني أعلم الغيب. وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ب نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ جميعا، لأن المؤمنين هم المنتفعون بالنذارة والبشارة، أو يتعلق ب بَشِيرٌ وحده، ومتعلق النذير محذوف، أي للكافرين، وحذف للعلم به. وقال الشهاب: ليطهر اللسان منهم. ثم بيّن تعالى عظم جناية الكفرة في جراءتهم على الإشراك، بتذكير مبادئ أحوالهم المنافية له، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي نفس آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي من جنسها، كقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الروم: ٢١]، لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليطمئن إليها ويميل، ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل، وبه آنس. وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده، ويحبه محبة لكونه بضعة منه. وذكّر لِيَسْكُنَ بعد ما أنث في قوله واحِدَةٍ ومِنْها زَوْجَها ذهابا إلى معنى النفس، ليبين أن المراد بها آدم، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. أفاده الزمخشري. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي وطئها. و (التغشي) كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي خف عليها، وذلك أول الحمل، لا تجد المرأة له ألما، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة فَمَرَّتْ بِهِ أي فاستمرت به خفيفة، وقامت وقعدت فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل، لكبر الولد في بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا سويا قد صلح بدنه، أو
غلاما لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي على نعمائك التي منها هذه النعمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٠]
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أي كما طلبا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي أخلّاء بالشكر في مقابلة نعمة الولد الصالح أسوأ إخلال، إذا استبدلوه بالإشراك. وقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه فيه معنى التعجب.
تنبيه:
هذه الآية سيقت توبيخا للمشركين في جنايتهم، ونقضهم ميثاقهم، في جريهم على خلاف ما يعاهدون الله عليه. وذلك أنه تعالى ذكر ما أنعم عليهم من الخلق من نفس واحدة، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن. ثم إنشائه إياهم بعد الغشيان، متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة. ثم بين إعطاءهم المواثيق إن آتاهم ما يطلبون وولد لهم ما يشتهون، ليكونن من الشاكرين. ثم أخبر عن غدرهم وكفرانهم هذه النعم، التي امتن سبحانه بها عليهم، ونقضهم ميثاقهم في إفراده بالشكر، حيث أشركوا معه غيره في ذلك. ونظير هذه الآية، في الإخبار عن تبديل المشركين نعمة الله كفرا، قوله تعالى في سورة يونس هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: ٢٢ و ٢٣]، وقد ذكر المفسرون هاهنا أحاديث وآثارا تفهم أن المراد بهذا السياق آدم وحواء. ولا حاجة بنا إلى روايتها لأنها واهية الإسناد معلولة، كما بينه الحافظ ابن كثير في (تفسيره). وتقبّل ثلة من السلف لها وتلقيها- لا يجدي في صحتها شيئا. إذا أصلها مأخوذ من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب، كما برهن عليه ابن كثير. وتهويل بعضهم بأنها مقتبسة من مشكاة النبوة، إذ أخرجها فلان وفلان، من تنميق الألفاظ لتمزيق المعاني، فإن المشكاة النبوية أجلّ من أن يقتبس منها إلا كل ما عرفت جودته.
إذا علمت ذلك، تبين لك أن من استند إلى تلك الأحاديث والآثار، فذهب إلى أن المراد بالنفس الواحدة وقرينتها، آدم وحواء، ثم أورد على نفسه أنهما بريئان من
235
الشرك، وأن ظاهر النظم يقتضيه، ثم أخذ يؤوله، إما بتقدير مضاف، أي جعل أولادهما له شركاء، فيما آتى أولادهما، وإما بأن المراد جعل أحدهما وهو (حواء) من إطلاق المثنى وإرادة المفرد، وإما بغير ذلك- فإنه ذهب في غير مذهب.
- وقد قرر ما ارتضيناه في معنى الآية غير واحد. قال الحسن البصري، فيما روى عنه ابن جرير: إن الآية عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده. وفي رواية عنه: كان هذا في بعض الملل، ولم يكن بآدم.
قال ابن كثير: والأسانيد إلى الحسن، في تفسير هذا، صحيحة، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية.
قال: ولو كان الحديث المرفوع، في أنها في آدم وحواء، محفوظا عنده من رواية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما عدل عنه هو ولا غيره، لا سيما مع تقواه وورعه. فهذا يدل على أنه- إن صح- موقوف على الصحابي، لا مرفوع. انتهى.
وقال القفال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك. وتقرير هذا الكلام، كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته، وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما، لئن آتيتنا ولدا صالحا سويّا لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول المنجمين. وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام.
وقال الناصر في (الانتصاف) - متعقبا على الزمخشري-: الأسلم والأقرب، والله أعلم، أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معيّن. وكأن المعنى- والله أعلم- خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا، لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر، الجنس الآخر، الذي هو الأنثى، جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس، وإن كان فيهم الموحدون، على حد (بنو فلان قتلوا قتيلا) يعني من نسبة ما صدر من البعض إلى الكل.
فائدة:
قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآية أنه تعالى لما قال فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
236
جعل حال الإثقال يخالف ما قبله، وأنه يختص فيه الدعاء لأجل أنه حال الخوف.
وقد ذهب الهادي إلى أن الحامل إذا أتى عليها من الحمل ستة أشهر، كانت تصرفاتها كتصرفات المريض، تنفذ من الثلث. وهو قول مالك والليث، واحتجا بالآية، لأنه تعالى فرق بين حال الخفة والإثقال. وقال غيرهما: تصرفها من الجميع، ما لم يأخذها الطلق. قلنا: إنه يجوز عليها بعد الستة، وضع الحمل في كل وقت. انتهى.
ثم قال: ودلت الآية على أنه يجوز الدعاء لطلب أمور الدنيا، وإن حصول الولد منة يجب الشكر عليها. انتهى.
ثم استأنف تعالى توبيخ المشركين كافة، واستقباح إشراكهم، وإبطاله بالكلية ببيان شأن ما أشركوا به سبحانه، وتفصيل أحواله القاضية ببطلان ما اعتقدوه في حقه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩١]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
أَيُشْرِكُونَ أي بخالق الأشياء تعالى وتقدس ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً أي لا يقدر على خلق شيء ما، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي: ومن هذه صفته كيف يعبد؟ ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي بل هم مخلوقون مصنوعون، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٢]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ أي لعبدتهم إذا حزبهم أمر نَصْراً أي بجلب نفع، أو دفع ضر وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا اعترتهم حادثة من الحوادث، كما قال تعالى:
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الحج: ٧٣]، وكما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه، ويهينها غاية الإهانة.
وقد حكى ابن كثير أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أسلما لما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكانا شابين، فكانا يعدوان في الليل على
أصنام المشركين، يكسرانها ويتلفانها، ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما.
وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيدا في قومه- صنم يعبده ويطيّبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة. فيجيء عمرو بن الجموح، فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا. حتى أخذاه مرة، فقرناه مع كلب ميت، ودلّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل. وقال:
تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن
(مستدن: ذليل مستعبد. والقرن: الحبل).
ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا، رضي الله عنه وأرضاه.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، لأن قوله: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ.. الآية- حجاج. وتدل على أن المستحق للعبادة الذي يخلق وينعم ويقدر على النفع والضر هو الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٣]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أيها المشركون إِلَى الْهُدى أي إلى ما فيه رشاد لا يَتَّبِعُوكُمْ أي إلى مرادكم وطلبتكم سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، كما قال إبراهيم يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم: ٤٢]. وجوّز في الآية أن يكون المعنى:
وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم وتطلبوا منهم، كما تطلبون من الله، الخير والشرّ، لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، لقوله تعالى بعد: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف: ١٩٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٤]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ
أي مخلوقات مماثلة لكم فَادْعُوهُمْ أمر تعجيز وتبكيت. أي فادعوهم لجلب نفع، أو كشف ضر فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في زعمكم أنها آلهة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٥]
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها، أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها تبكيت إثر تبكيت، مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي، من عدم الاستجابة، ببيان فقدان آلتها بالكلية. فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية، إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة. ومدركة. وما ليس له شيء من ذلك، فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة. كأنه قيل: ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الاستجابة، حتى يمكن استجابتهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة، تكريرا للتبكيت، وتثنية للتقريع، وإشعارا بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها، كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة. أفاده أبو السعود.
ويقال: إنه لما جعلهم مثلهم، كرّ على المثلية بالنقض بما ذكر، لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق، فكيف من هو دونه.
تنبيه:
قال الرازي: تعلق بعض أغمار المشبهة وجهّالهم بهذه الآية، في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقالوا: إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء، لهذه الأصنام، دليلا على عدم إلهيتها. فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى، لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية، وذلك باطل. فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى... إلخ.
وأقول: الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص، وهو محال على المولى تعالى، إذ له كل صفة كمال. ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر، وأحاديث مشهورة، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية، ولكن على المنهاج السلفيّ، وهو إثبات بلا تكييف، إذ من كيّف فقد مثل، ومن نفى فقد عطّل. فالمشبهة كالمعطلة، والحق وراءهم، والمسألة شهيرة.
ولما بين تعالى أن شركاءهم عاجزون، أمر تعالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يناصبهم
للمحاجّة، ويكرر عليهم التبكيت، فقال سبحانه: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي استنصروا بها عليّ ثُمَّ كِيدُونِ أي اعملوا أنتم وهم في هلاكي من حيث لا أشعر به، حتى يمكنني دفعه.
فَلا تُنْظِرُونِ أي عجّلوا في كيدي، فلا تمهلوني مدة أطلع فيها على كيدكم، فإني لا أبالي بكم. وقد أثبت نافع وأبو عمرو الياء في كيدوني، والباقون حذفوها. ومثله في قوله: وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١]، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود: ٥٥]، قال الواحديّ: والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي، كقوله:
يلمس الأحلاس في منزله بيديه كاليهوديّ المصلّ
(وأصلها المصلّى) والذين أثبتوها، فلأن الأصل هو الإثبات.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٦]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ تعليل لعدم المبالاة، المنفهم من السوق انفهاما جليّا. أي: الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب، المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة.
قال أبو السعود: ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب، للإشعار بدليل الولاية، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة. كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم، لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فضلا عن نصركم. وقوله تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ تذييل مقرر لما قبله. أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده، وينصرهم ولا يخذلهم. وفيه تعريض، لمن فقد الصلاح، بالخذلان والمحق.
قال الحسن البصريّ: إن المشركين كانوا يخوّفون الرسول صلّى الله عليه وسلّم بآلهتهم، فقال تعالى: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الآية- ليظهر لكم أنه لا قدرة له على إيصال المضارّ إليّ، بوجه من الوجوه. وهذا كما قال هود عليه السلام، لما قال قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ...
[هود:
٥٤- ٥٦] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٧]
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ أي لا يتولون أحدا، لأنهم لا يستطيعون نصركم وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أي إذا قصد إضرارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٨]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا إذ ليس لهم سمع، وإن صوّرت لهم الآذان. كما أنه لا بصر لهم، وإن صورت لهم الأعين. كما قال: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ إذ صورت لهم الأعين وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل، فعبر عنهم بضميره، لأنهم على صور مصورة كالإنسان. وهذا من تمام التعليل، لعدم مبالاته بهم، فلا تكرار.
وقال السدّيّ: المراد بهذا (المشركون) وروي عن مجاهد نحوه، أي وإن كانوا ينظرون إليك، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية.
قال ابن كثير: والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير، وقاله قتادة. أي تفصيا من التفكيك، لأن المحدث عنهم الأصنام.
تنبيه:
من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية- والعبارة للجشمي- ما مثاله: تدل الآية على أن النظر غير الرؤية، وأنه لا يقتضي الرؤية، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين.
قال: ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره. ويقسمون النظر إلى وجوه، ولا تنقسم الرؤية.
قال: فبطل قول من يقول: إن قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢- ٢٣]، يقتضي الرؤية. انتهى.
ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى، وتترادف كثيرا، وانفكاكه عن الرؤية في هذه الآية لقرينة كون المحدّث عنهم جمادا، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا. دع ما صح من الأخبار في وقوعها، مما هو بيان لها- فافهم-.
ثم أمر تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصفح عن المشركين، إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٩]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
خُذِ الْعَفْوَ أي مكان الغضب، ليكونوا أقبل للنصيحة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالجميل المستحسن من الأفعال، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير، ولما كان الناصح لغيره، كالمعرّض لعدوانهم، ثلّث بما يحتاج إليه في ذلك فقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي المصرّين على جهلهم، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم.
تنبيهان:
الأول- قال بعض العلماء: إن سر الشريعة في الطباع والعادات، هو تأييد المستحسن ومحو المستقبح. وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته، والمنكر ما أنكرته واستقبحته. ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين، فلا يصح الحكم بتوحيد العادات في كل البلاد.
الثاني:
روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال: أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
وروى البخاري «١» عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب:
هي يا ابن الخطاب! فو الله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر، حتى همّ أن يوقع به. فقال له الحرّ بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٧- سورة الأعراف، ٥- باب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ، حديث ٢٠٠٤.
صلى الله عليه وسلّم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ، وإن هذا من الجاهلين.
قال ابن عباس: والله! ما جاوزها عمر حين تلاها. عليه، وكان وقّافا عند كتاب الله عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٠]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي يصيبنّك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم، وتحملك على خلاف ما أمر فيه من العفو والأمر بالمعروف فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي استجر به، وادعه في دفعه إِنَّهُ سَمِيعٌ أي لدعائك عَلِيمٌ أي باستعاذتك.
قال الزمخشري: النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. أي فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه في الجلد، كما يفعله السائق لحث الدواب. وجعل النزغ نازغا مجاز بالإسناد، لجعل المصدر فاعلا، كجد جدّه.
قال أبو السعود: وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠١]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ أي أصابهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي وسوسة وخاطر منه تَذَكَّرُوا أي الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه فَإِذا هُمْ أي بسبب ذلك التذكر مُبْصِرُونَ أي مواقع الخطأ، ومكائد الشيطان. فينتهون عنها ولا يتبعونه. وقرئ (طيف) على أنه مصدر، من قولهم (طاف به الخيال يطيف طيفا)، أو تخفيف (طيّف) كليّن وهيّن. وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الاستعاذة بالله تعالى، عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٢]
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
وَإِخْوانُهُمْ يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس. كقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء: ٢٧]، وهم الذين لم يتقوا، فلم يتأت لهم التذكر، ولا ينفع فيهم الاستعاذة لأن الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي يكونون مددا لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسّنها لهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يمسكون عن إغوائهم، حتى يصرّوا ولا يرجعوا. يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية: وجوز عود الضمير ل (الإخوان)، أي لا يرعوون عن الغيّ ولا يقصرون، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله، وإقامة الدلائل، ورفع الشبه، وغير ذلك. وجوز أيضا أن يراد أيضا ب (الإخوان) الشياطين، ويرجع الضمير إلى الْجاهِلِينَ أي وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، يمدون الجاهلين في الغيّ.
قال الزمخشري: والأول أوجه، لأن (إخوانهم) في مقابلة الَّذِينَ اتَّقَوْا.
ثم بين تعالى، من أنواع إغوائهم، لجاجهم في طلب آيات معينة، وتعنتهم في اقتراحها، مع أن لديهم المعجزة العظمى، والخارقة الكبرى، وهي القرآن العظيم، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ أي مما اقترحوه قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي فلست بمفتعل للآيات، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها. ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال سبحانه هذا أي القرآن بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة البصائر للقلوب، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب. فالكلام على طريقة التشبيه البليغ. أو سبب البصائر، فهو مجاز مرسل. أو استعارة لإرشاده. أو المعنى: حجج بيّنة، وبراهين نيّرة. وإنما جمع خبر المفرد
لاشتماله على آيات وسور، جعل كل منها بصيرة. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم- لتأكيد وجوب الإيمان بها وَهُدىً أي من الضلالة وَرَحْمَةٌ أي من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي به، فيتفكرون في حقائقه.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة، لا بحسب اقتراحهم، لأن ذلك قد يكون فسادا. ويدل قوله: هذا بَصائِرُ أن المعارف مكتسبة. وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه، لذلك قال:
أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ، ومتى قيل: هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس؟ قلنا:
لا! لأن القياس والاجتهاد إذا كان متعبدا به، فاتباعه اتباع الوحي. كالعاميّ يقبل من المفتي، والعالم يجتهد، ويتبع الوحي، كذلك هذا. والذي يدل عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يفعل شيئا من تلقاء نفسه حتى يؤمر به- انتهى كلامه- وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أي عن حديث النفس وغيره لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة. أي وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه، فاستمعوا له، أي أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه، وتتدبروا مواعظه، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي، إعظاما له واحتراما، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦].
تنبيهات:
الأول- ظاهر الآية يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وعليه أهل الظاهر، وهو قول الحسن البصريّ وأبي مسلم الأصفهاني.
وقد روى مسلم «١» عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل
(١) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٧٧- ٨١ عن أنس و ٨٢ عن عائشة و ٨٦ عن أبي هريرة أما حديث أبي موسى فلم أهتد إليه.
245
الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا». وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة.
وروى الإمام أحمد «١» وأهل السنن عن أبي هريرة أن «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟ قال رجل: نعم. يا رسول الله. قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
قال الترمذي «٢» : هذا حديث حسن. وصححه أبو حاتم الرازي. نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم. وذلك فيما
رواه عبادة قال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم؟ قال: قلنا: يا رسول الله! إي والله. قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها» - رواه أبو داود «٣» والترمذي «٤»
وفي لفظ: فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به، إلا بأم القرآن- رواه أبو داود والنسائي، والدارقطني
وقال:
رواته كلهم ثقات.
وأخرج ابن حبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام، والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه».
وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقا، بل جهرا. لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم، لا مع إسراره. ولو سلّم دخول ذلك في المنازعة لكان الاستفهام الإنكاري فيه عامّا لجميع القرآن، أو مطلقا في جميعه. وحديث عبادة خاص أو مقيّد، ولا تعارض بين عام وخاص، أو مطلق ومقيد، لابتناء الأول على الثاني. وكذا يقال في عموم الآية، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب، وصحيح السنة، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن.
الثاني- روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة. وعن بعضهم:
فيها وفي الخطبة يوم الجمعة. وعن بعضهم: فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر. وقد
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٢٤٠ والحديث رقم ٧٢٦٨.
(٢) أخرجه الترمذي في: الصلاة، ١١٦- باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر بالقراءة.
(٣) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ١٣١- باب القراءة في الفجر، حديث ٨٢٣.
(٤) أخرجه الترمذي في: الصلاة، ٦٩- باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.
246
قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم (نزلت هذه الآية في كذا) وبيّنّا أنه قد يراد بذلك، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها، لا أنه سبب لنزولها، وذلك في بعض المقامات، وما هنا منه. وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين، بأن يستمعوا لقراءته، ليقفوا على إعجازه. وما للخازن، بأن الآية مكية، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة- فافهمه-.
الثالث-
روى الأمام أحمد «١» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة».
قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٥]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد عامّ. أو المعنى: واذكر ربك أيها الإنسان. والأول أظهر، لأن ما خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن من خصائصه، فإنه مشروع لأمته. وقد أوضح هذا آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: ٤١- ٤٢]. والأمر بالذكر، قال الزمخشريّ: هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك. وقال بعض الزيدية: هذا الأمر يحتمل الوجوب، إن فسر الذكر بالصلاة، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان، فهو محمول على الاستحباب. قال: وبكلّ فسرت الآية.
ثم إنه تعالى ذكر آدابا لذكره:
الأول- أن يكون في نفسه، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة، وأبعد من الرياء.
(١) أخرجه في المسند ٢/ ٣٤١.
247
الثاني- أن يكون على سبيل التضرع، وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية.
الثالث- أن يكون على وجه الخيفة أي الخوف والخشية من سلطان الربوبية، وعظمة الألوهية، من المؤاخذة على التقصير في العمل، لتخشع النفس، ويخضع القلب.
الرابع- أن يكون دون الجهر، لأنه أقرب إلى حسن التفكر. قال ابن كثير:
فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداء ولا جهرا بليغا.
وفي الصحيحين «١» عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم: يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته
. قال الإمام:
المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافة، كما قال تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: ١١٠].
الخامس- أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفاد من قوله: وَدُونَ الْجَهْرِ لأن معناه: ومتكلما كلاما دون الجهر، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفا على تَضَرُّعاً، أو هو معطوف على فِي نَفْسِكَ. أي اذكره ذكرا في نفسك، وذكرا بلسانك دون الجهر.
السادس- أن يكون بالغدوّ والآصال، أي في البكرة والعشيّ. فتدل الآية على مزية هذين الوقتين، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد. وما بينهما، الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش. وقد روي: أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره، فطلب الذكر فيهما، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.
ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ أي من الذين يغفلون عن ذكر الله، ويلهون عنه، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه، بقدر الطاقة البشرية.
ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر، وينهض الهمم إليه، بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار، لا يفترون، فقال:
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٣١- باب ما يكره من رفع الصوت بالتكبير، حديث ١٤٢٣.
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ٤٤- ٤٧.
248
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يتعظمون عنها. وقوله وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك. لأنه إذا كان أولئك- وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة- حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.
تنبيهات
الأول- قال الرازي: تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال: لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال:
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ الآية- أي فأنت أولى وأحق بالعبادة، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام.
واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى.
الثاني- قال الرازي: المشبهة تمسكوا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ...
وقالوا: لفظ (عند) مشعر بالجهة. ثم أجاب بما هو معروف للخلف. ويعني، سامحه الله، بالمشبهة الحنابلة، وهم براء من التشبيه، كما يعلمه من طالع عقائدهم، واقفون على حدّ النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل، ولم ينفردوا بذلك، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة. راجع كتاب (العلوّ للذهبيّ) تعلم ما ذكرنا.
الثالث- قال الجشمي: تدل الآية على كون الملائكة مكلفين. وتدل على أنهم سجدوا لله. وآدم كان قبلة السجود، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له.
الرابع- هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.
وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة «١» عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه عدها في سجدات القرآن.
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ القرآن، فيقرأ
(١) أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب عدد سجود القرآن، حديث رقم ١٠٥٦.
249
سورة فيها سجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته، في غير وقت صلاة. «١»
وروى مسلم «٢» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتا! أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت. فلي النار».
وروى مسلم «٣» عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة».
الخامس- السجدة المشروعة، إن كانت لآية، أمر فيها بالسجود فللأمر، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه، فلمخالفتهم وإرغامهم، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة، فللتأسي بهم- كذا في (العناية).
وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف، فلله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف. ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام، فإنه ذو الجلال والإكرام.
وكان الفراغ في ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء، في ٢٦ رمضان المبارك سنة ١٣٢١ بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية. على يد الفقير جمال الدين القاسميّ غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين.
(١) أخرجه البخاري في: سجود القرآن، ٨- باب من سجد لسجود القارئ، حديث رقم ٥٩٢.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ١٠٥. [.....]
(٢) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ١٣٣.
(٣) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم ٢٢٥.
250

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال
مدنية، أو، إلّا وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الآيات السبع، فمكية. وآياتها خمس وسبعون آية.
سميت بالأنفال لأنها مبدأ هذه السورة، ومنتهى ما ذكر فيها من أثر أمر الحروب.
251
Icon