تفسير سورة الأعراف

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سورة الأعراف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (المص (١)
قد فسرنا هذه الحروف في أول سورة البقرة، إلا أنا أعدنا ههنا شيئاً من
تفسيرها لشي في إعرابها، والذي اخترنا في تفسيرها. قولُ ابن عباسٍ أن
(المص) معناه أنا اللَّه أعلم وَأفصِّلُ
وقال بعض النحويين موضع هذه الحروف رفع بما بعدها، قال: (المص كتاب)، كتاب مرتفع بالمص، وكأن معناه المص
حروف كِتَابٍ أنزل إِليك، وهذا لو كان كما وصف لكان بعد هذه الحروف أبداً ذكر الكتاب؛ فقوله: (الم اللَّهُ لَا إِلهَ إلا هُوَ) يدل على أن (الم) لا مرافع
لها على قوله، وكذلك: (يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)، وكذلك: (حَم عسق
كَذَلِكَ يُوحَى إليْك)، وقوله: (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه).
فهذه الأشياءُ تدل على أن الأمر علي غير ما ذكر، ولو كان كذلك أيضاً
لما كان (الم) مكرراً، ولا (حم) مكرراً.
313
وقد أجمع النحويون على أن قوله عزَّ وجلَّ (كتابٌ أنْزِلَ إِليك) مرفوع
بغير هذه الحروف، المعنى هذا كتاب أنزلَ إِليك، وهو مُجْمِع مَعَهُم على أن
ما قَالُوه جائز فيجب اتباعُهم من قولهِ وَقَوْلهِمْ، ويجب على قائل هذا القول
التثبيت على مخالفتهم، ولو كان كما يصف لكان مُضمِراً اسمين فكان
المعنى (الم) بعض حروف كتاب أنزل إليك، فيكون قد أضمر المضاف وما
أضيف إِليه، وهذا ليس بجائز.
فإن قال قائل قد يقول ألف. با. تا. ثا. ثمانية وعشرون حرفاً، وإنما
ذكرت أرَبعة فمن أين جاز ذلك، قيل قد صار اسم هذه ألف. با. تا. ثا، كما أنك تقول: الْحَمْدُ سَبْعُ آياتٍ فالحمد اسم لجملة السورة، وليس اسم الكتاب الم، ولا اسم القرآن " طسم). وهذا فرق بَيْن.
وهذه الحروف كما وصفناحروف هجاء مَبْنِية على الوقف، وهي في
موضع جُمَلٍ، والجملة إِذا كانت ابتداءً وخبَراً فقط لا موضع لها. فإِذا كان
معنى كهيعص، معنى الكاف كافٍ، ومعنى الهاء هادٍ، ومعنى اليَاء والْعَيْن مِن
عَلِيم ومعنى الصاد من صَذوقٍ، وكان معنى " الم " أنا أعْلَمَ، فإِنما موضعها
كموضع الشيء الذي هُوَ تأويل لَهَا. ولا موضع في الِإعراب لقولك: أنا
اللَّه أعلم، ولا لقولك؛ هو هاد، وهو كاف، إِنما يرتفع بعض هذا ببعض.
والجملة لا موضع لها.
314
وقوله: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
فمعنى الحرج الضيق. وفيه وجهان، أحدهما أن يكون لاَ يَضِق صدْرُكَ
بالإبلاغ ولا تخافن، لأنه يروى عن النبي - ﷺ - أنَّه قال: رب إِني أخاف أن يثلغوا رأسي فيجعلوه كالخبزةِ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّه في أمان منهم، فقال: (وَاللَّهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاسِ)، وقال: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
أي فلا - يَضِيقَنَ صَدْرُكَ من تَأدِيَةِ مَا أرْسِلْتَ بِهِ.
وقيل أيضا: فلا تَشُكَن فيه.
وكلا التفسيرين له وجه، فَأما تأويل فلا تَشُكَنَّ، وتأويل (فَلَا تَكونَنََّ مِنَ
المُمْتِرِين)، وتأويل: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإِن ما خوطب به - ﷺ - فهو خطاب لأمتِهِ، فكأنه بمنزله " فلا تشكوا ولا ترتابوا ".
وقوله: (لِتنْذِرَ بهِ).
معناه التقديم، والمعنى واللَّه أعلم - كتاب أنزل إِليك لتنذر به وذكرى
للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه.
(وَذِكرَى) يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وَجَرٍّ فأمَّا النصب فعلى
قولك: أنْزِلَ لِتنْذِرَ به وذكرى للمؤمنين، أي ولتذكر به ذكرى، لأن في الإِنذارِ مَعنى التذكير.
ويجوز أن يكون وَهُوَ ذكرى للمؤمنين كقولك وهو ذكر للمؤمنين.
فأما الجر فعلى معنى لِتُنْذِرَ، لأن معنى " لِتنْذِرَ " لأن تُنْذِرَ فهو في موضع
جر. المعنى للإنذار والذكرَى. فأما ذِكْرَى فمصدر فيه ألف التأنيث، بمنزلة
دعوت دعوى، وبمنزلة رَجَعْتُهُ رُجْعَى. واتقَيْتُ تقوى، إلا أنه اسم في موضع
المصدر.
* * *
وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٣)
أي اتبِعُوا القرآن، وَمَا أتِيَ به عن النبي - ﷺ - لأنه مما أنزل عليه لقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
(وَلَا تَتبِعُوا مِنْ دُونهِ أوْليَاءَ).
أي لَا تَتَوَلَّوْا مَنْ عَدَلَ عن دين الحق، ومن ارتضى مذهباً من المذاهب.
فالمؤْمن وليُّ المْؤمِن.
(وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْليَاءُ بَعْض).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَلِيلًا مَا تَذَكرُونَ).
ما زائدة مُؤَكِدَة، المعنى قليلًا تذكرون، وفي تذكرون وجهان في
القراءَة: قَلِيلًا مَا تَذَّكرون - بالتشديد - في الذال، والمعنى: قليلاً ما تتذكرون، إلا أن التاءَ تدغمُ في الذال لقرب مكان هذه من مكان هذه.
ومن قرأ (تَذَكَّرُونَ) فالأصل - أيضاً - تتذكرون، إلَّا أنَّه حذف إِحدى
التاءَين، وهي التاءُ الثانية لأنهما زائدتان، إِلا أن الأولى تدل على معنى
الاستقبال فلا يجوز حذفها، والثانية إنما دَخَلَتْ على معنى فعلت الشيءَ عَلَى
تمهُّل، نحو تَفَهَّمْتُ وَتَعَلَّمْتُ، أي أحدثت الشيءَ على مَهَلٍ، وتدخل على
معنى إظهار الشيءِ والحقيقة غيره، كافولك تقيَّسْتُ أي أظهرت أني قَيْسِيٌّ.
فإنما المحذوف من تتفعلون الثانية، لأن الباقي في الكلمة من تشديد
العين من تفعل يدل على معنى الكلمةِ، ولو حذفت تاء " استقبال " لبطل معنى الاستقبال.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤)
المعنى وكم من أهل قرية أهلكناهم، إلا أن أهل حذف لأن في الكلام
دليلًا عليه.
وقوله: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا).
محمول على لفظ القرية، ولو قيل فجاءَهم لكان صواباً.
وقوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).
قال بعض النحويين: المعنى وهم قائلون، والواو فيما ذكر محذوفة
وهذا لا يحتاج إلى ضمير الواو، ولو قلت: جاءَني زيد راجلًا أو وهو فارس.
أوجاءَني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول.
ومعنى (بَيَاتًا): ليلًا، يقال بات بياتاً حسناً، وبيتةً حسنَة، والمصدر في
الِإصابات بيتاً. والبيت بيت الشعر وكذلك بيت المدَرِ، وإنما أصل تسميته من أنه يصلح للمبيت، ويقال لفلان بيتة وليلة وَبَيْتُ ليلة، أي ما يكفيه من القوت في ليلة.
ومعنى (أوْ هُمْ قائِلُونَ).
أي أو جاءَهم بأسنا نهاراً في وقت القائلة، يقال قِلتُ من القائلة،
فالمعنى إِنهم جاءَهم بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له، إِما ليلاً وهم نائمون.
أو نهاراً وهم قائلون كأنهم غافِلون.
وأو ههنا دخلت على جهة تصرف الشيءِ ووقوعِه، إما مرة كذا، وإِما
مرةً كذَا، فهي في الخبر ههنا بمنزلة أو في الإباحة، تقول جالس زيداً أو
عمراً، أي كل واحدٍ منهما أهلٌ أن يُجَالِسَ، وَاو ههنا أحسن من الواو، لأن الواو تتضمن اجتماع الشيئين، لو قلت: ضربت القوم قياماً وقعوداً، لأوجَبَتِ الواو أنك ضريتهم وهم على هاتين الحالتين، وَإِذَا قلتَ: ضربتهم قياماً أو ضربتهم قعوداً، ْ ولم تكن شاكًا، فإِنما المعنى أنك ضربتهم مرة على هذه الحال، ومرة على هذه الحال.
وموضع " كم " رفع بالابتداء وخبرها أهلكناها، وهو أحسن من أن تكون
في موضع نصب، لأن قولك زيد ضربْتُه أجوَدُ من زيداً ضربتُه. -
والنصب جَيد عربي أيضاً مثله قوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).
* * *
وقوله: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥)
المعنى - واللَّه أعلم - أنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب
والذين ويدعونه إِلاَّ عَلَى اعتراف بأنهم كانوا ظالمين، والدعوى اسم لما
يَدَّعِيه، والدعوى يصلح أنْ تكونَ في معنى الدعَاءِ لو قلت: اللهم أشركنا في
صالح دعاءِ المسلمين ودعوى المسلمين جاز، حكى سيبويه ذلك وأنشد:
وَلَّت ودَعْواهَا كثير صَخَبُه
وموضع " أن " الأحسن أن يكون رفعاً، وأن تكون الدعوى في موضع
نصب، كما قال جل ثناؤُه: (مَا كانَ حجتهم إلا أنْ قَالوا) ويجوز أن يكون
في موضع نصب، ويكون الدعوى في موضع رفع إِلا أن الدعوى إذا كانت في موضع رفع فالأكثر في اللفظ " فما كانَتْ دَعْوَاهمْ " كذا وكذا.
" إِلا أن " لأنَّ الدعوى مَؤنثة. في اللفظ، ويجوز كان دعواه باطلًا وباطلة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)
اختلف الناس في ذكر الميزان في القيامة، وجاءَ في بعض التفسير أنه
ميزان له كِفَّتَان، وأن الميزانَ أنْزلَ إِلى الدنيا ليتعامل الناس بالعدل وتوزن به
الأعمال، وقال بعضهم: الميزانُ العدلُ، وذهب إِلى قولك هذا في وزن
هذا، وإن لم يكن مما يوزنُ، وتأويله أنه قد قام في النفس مساوياً لغيره كما
يقوم الوزن في مِرآةِ العَيْنِ.
وقال بعضهم: الميزانُ الكتابُ الذي فيه أعمال
الخلق، وهذا كله في باب اللغة - والاحتجاج سائغ، إِلا أن الأوْلَى مِنْ هذا أن يُتبَعَ مَا جَاءَ بالأسانيد الصحاح. فإن جاءَ في الخبر أنه ميزان له كِفَّتَان، من حيث يَنقُلُ أهلُ الثقة، فينبغي أن يُقْبَلَ ذَلِكَ.
وقد روي عن جرير عن الضحاك أن الميزانَ الْعدْلُ، والله أعلم بحقيقة ذلك، إلا أن جملة أعمال الْعِبَادِ مَوْزُونَةٌ على غاية العَدْل والحَق.
وهو قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وقد فسرنا المفلح فيما تقدم.
وقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
معنى التمكين في الأرض التمليك والقدرة.
ومعنى المعايش يحتمل أن يكون ما يعيشون به، ويمكن أن يكونَ
الوصلةَ إلى ما يعيشون به.
وأكثر القراءِ على ترك الهمْزِ فِي معايش، وقد رَوَوْهَا عَن نَافِع مَهْمُوزَةً.
وجميعُ النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ، وذكروا أن الهمز إنما
يكون في هذه الياء إذَا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف، فأما مَعَايش فمن
الْعَيْش، الياء أصلية وصحيفة من الصحُف لأن الياء زائدة، وإنما همزت لأنهُ
لَا حَظَّ لها في الحركة، وقد قَرُبَتْ من آخر الكلمة وَلَزمَتْهَا الْحَرَكَةُ فَأوْجَبُوا فيها الهمزَ، وإذا جَمَعْتَ مَقَاماً قلت مَقَاوِمَ.
وأنشد النحويون:
وإني لقوام مقاوم لم يكن... جرير ولا مولى جرير يقومها
وقد أجمع النحويون على أن حكوا مصائِب في جمع مصيبة، بالهمز.
وأجمعوا أن الاختيار مصاوب.
وهذه عندهم من الشاذ، أعني مصايب.
وهذا عندي إنما هو بدل من الواو المكسورة، كما قالوا في وسادة: إسادة، إلا أن هذا البدل في المكسورة يقع أولاً كما يقع في المضمومة، نحو (أُقِّتَتْ)
وإنما هو من الوقت والمضمومة تبدل في غير أول نحو ادؤُر، يقولون ادؤُ
فحملوا المكسورة على ذلك.
ولا أعلم احداً فَسَّرَ ذَلِكَ غيري، وهو أحسن من أن يجعل الشيءُ خطأ
إذ نطقت به العرب وكان له وجه من القياس، إلا أنه من جنس البدل الذي
إنما يتبع فيه السماع، ولا يجعل قياساً مستمراً.
فأما ما رواه نافع من معائش بالهمز فلا أعرف له وجهاً، إلا أن لفظَ هذه
الياءِ التي من نفس الكلمة أسْكِنَ في معيشة فصار على لفظ صحيفة، فحمل
الجمع على ذلك، ولا أحب القراءَة بالهمز إذ كَانَ أكْثرُ النَّاسِ إنَّمَا يَقْرأونَ
بترك الهمز، ولو كان مما يهمزُ لجاز تحقيقه وترك همزه، فكيف وهو مما لا
أصل له في الهمز؛ وهو كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ الذي ينبغي أن يقال فيه إلى ما
عليه الأكثر لأن القراءَة سنة فالأوْلى فيها الاتباع، والأولى اتباع الأكثر.
وزعم الأخفش أن مصائب إنما وقعت الهمزة فيها بدلاً من الواو
أُعلَّت في مصيبة، - وهذا ردِيءِ. لا يلزم أن أقول في مقام مقائِم ولفي معونة معائن.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: " (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
زعم الأخفش أن (ثم) ههنا في معنى الواو، وهذا خطأ لا يجيزه الخليل
وسيبويه وجميع من يوثق بعربيته، إنما ثم للشيءِ الذي يكون بعد المذكور قبله
لا غير، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداءُ خلق آدم أولًا، فإِنما المعنى
إِنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه، فابتداء خلق آدم التراب، الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (إن مثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَل آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب).
فبدأ اللَّه خلق آدم تراباً، وبدأ خلق حواءَ من ضلع من أضلاعه، ثم
321
وقعت الصورة بعد ذلك، فهذا معنى (خلقناكم ثم صورناكم).
أي هذا أصل خلقكم. ثم خلق الله نطفاً ثم صُوِّرُوا. فثمَّ إِنما هي لما بعدُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).
أي بعد الفراغ من خَلْق آدمَ أمِرَتِ الملائكَةَ بالسجود.
وقوله: (إِلَّا إِبْلِيسَ لمْ يَكنْ مِنَ السَّاجدِين).
استثناء ليس من الأول، ولكنه ممن أمِرَ بالسجود.
الدليل على ذلك قوله.
(مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ).
فدل بقوله: (إِذْ أَمَرْتُكَ) أنَّ إبْلِيسَ أمِرَ بالسجود مع الملائكة، ومعنى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) إلْغَاءُ " لا " وهي مَؤكدة، المعنى: ما منعك أن تسجد
فمسألته عن هذا واللَّه قد علم ما منعه، توبيخ له وَلْيُظْهِرَ أنه معاند، وأنه
ركب المعصية خلَافاً للَّهِ، وكل من خالف اللَّه في أمره فلم يَرَهُ وَاجِباً عليه
كافر بإجماع، لو ترك تارك صلاةً قال إنها لا تجب كان كافراً بإِجماع الأمة.
فأعلم اللَّه جل ثناؤُه أن معصية إبليس معصية معانَدَة وكفر، وقد أعلم الله أنه من الكافرين فقال: (إلا إبْلِيسَ أبَى واسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
فَالْفَصْلُ بين معصية إبليس ومعصيةِ آدمَ وحَوَّاءَ أنَّ إبليس عاند وأقام ولم
يتب، وأن آدم وحواءَ اعترفا بالذنب وقالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
322
ومثل " أَلَّا " في قوله: (أَلَّا تَسْجُدَ) قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)
أي: لأن يعلم أهل الكتاب، وقول الشاعر:
ابى جودُه لاَ البخل واستعجلت به... نعم من فتى لا يمنع الجوعَ قاتله
قالوا معناه أبى جودُه البخلَ.
وقال أبو عمرو بنُ العلاءِ: الروَايَةُ أبى جوده البخل.
واستعجلت به " نَعَمْ "، والذي قاله أبو عمرو حسن، المعنى أبى جوده " لا "
التي تُبخل الإِنسان، كأنَّه إِذا قيل: لا تسرف ولا تبذر مالك أبى جودُه " لا "
هذه، واِستعجلت به " نعم "، فقال: نعم أفعل ولا أترك الجودَ.
وهذان القولان في البيت هما قولا العلماء، وأرى فيه وجهاً آخر وهو
عندي حسن. أرى أن تكون " لا " غير لغو، وأن يكون البخل منصوباً بدلاً من " لا ".
المعنى أبى جوده البُخْلَ واستعجلت به " نعم ".
وموضع " ما " في قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) رفع، المعنى أي شيء
منعك في السجود، فلم يقل منعني كذا وكذا فأتى بالشيء في معنى الجواب.
ولفظه غير جواب، لأن قوله: (أنَا خَيرٌ مِنْهُ) في معنى منعني من السجود
فَضلى عَلَيْه. ومثل هذا في الجواب أن يَقول الرجل كيف كنت، فَيَقولُ: أنا
صالح، وإنما الجواب كنت صحالحاً، ولكن المعنى إنَّه قد أجابه بما احتاج إليه
وزاده أنه في حال مسألته إياه صالح فقال اللَّه عزْ وجلَّ:
323
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
لأنه قد استكبر بهذا الجواب فأعلمه اللَّه أنه صاغر بهذا الفِعْل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤)
أي أخرنِي إلى يَومِ البَعْثِ، فلَم يُجَب إلى الإِنْظَارِ إلَى يَوْمِ البعث
بعينه، وأُعْلمَ أنه منظور إلى يوم الوقْت المعلُومِ.
* * *
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)
في قوله: (أغويتني) قولان. قال بعضهم: فبما أضْلَلْتَنِي
وقال بعضهم: فبما دَعَوْتني إلى شيء غَوِيت به، أي غويتُ من أجْل آدم.
(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).
ولا اختلاف بين النحويين في أن " على " محذوفة، ومن ذلك قولك:
ضرِبَ زيد الظهْر والبَطْنَ.
* * *
وقوله: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧)
معناه - واللَّه أعلم - ثم لآتينهمْ في الضلَال من جميع جهاتهم.
وقيل من بين أيديهم أي لأضِلنَّهم في جميع ما يُتَوَقعُ.
وقيل أيضاً: لأخوِّفنََّهم الفَقرَ.
والحقيقةُ - واللَّه أعلم - أي أنْصَرِفُ لهم في الإضلال في جميع جهاتهم.
* * *
وقوله: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
- ْ معنى مَذْءُوم كمعنى مَذْمُوم، يُقَالُ: ذَأمْتُه أذْأمُه ذَأماً، إذَا رَعَبْتَه
وَذَمَمْتَه.
ومعنى (مَدْحُورًا) مُبْعَداً من رحمة اللَّه.
324
وقوله: (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ).
هذه اللام لام القسمِ تدخلُ توطئة للأمر.
(لأملأنَّ).
والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل: من تبعك أعَذبُه، فدخلت
اللام للمبالغة والتوكيد، ولام لأملأنَّ لام القسمِ ولام " من تبعك " توطئة
لها ةيجوز في الكلام: واللَّه من جاءَكَ لأضْربنه، ولا يجوز ُ: واللَّه لَمَنْ
جَاءَكَ أضربه، وأنت تريدُ لأضربنه، ولكن يجوز: واللَّهِ لمنْ جاءَك أضْربْهُ
تريد لأضْربَنَّه.
وقال بعضهم في قوله: (ثُمَّ لآتِيَنهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهمْ)
أي لأغْوَينهُمْ فيما أمِرُوا به.
وقوله: (وَعَن شَمَائِلِهمْ) أي: لأغوَينهم فيما نُهُوا عَنْه والذي أظنه - والله
أعلم - على هذا المذهب: أني أغويهم حتى يُكَذِّبُوا بأمور الأمم السالِفةِ
- بالبَعْث، كما ذكر في هذا.
ومعنى: (وَعَنْ أيْمَانِهمْ وَعَنْ شمَائِلِهمْ).
أي لأضلنهمُ فيما يَعْقلونَ، لأن الكسب يقال فيه: ذَلكَ بمَا كسبتْ يَدَاك، وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئاً، إلا أنه يقال لكل ما عمله عامل كسَبَتْ يَدَاكَ، لأن اليَدَيْن الأصلُ في التصرف فجعلتا مثلًا لجميع مَا عُمِلَ بغيرهِمَا.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، وقال: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).
325
وقال: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
ثم فَسَّر فقال: (مَا أغْنَى عَنْهُ مَالُهَ ومَا كَسَبَ).
* * *
وقوله: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
هذا الاختيارُ، أعنِي ذكر أنْتَ، تقول اذهب أنْتَ وزيد، ولو قلت:
اذهب وزيد كان قبيحاً.
وقد فسًرناهُ فيما سَلَف:
وقوله: (وَلَ اتَقْرَبَا هَذِه الشَّجرَةَ).
قال بعضهم: هي السنْبلَةُ، وقيل هي شَجرةُ الكَرْمِ.
وقوله: (فَتكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).
الأجود أن يكون. " فتكونا " في موضع نصب على جوانب الأمر بالفاءِ.
أي فإِنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين.
ويجوز أن يكونَ في موضع جزم عطفاً على قوله: وَلاَ تَقْرَبَا فَتكُونَا، أي فلا تكونا من الظالمين.
* * *
وقوله: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠)
تدل واللَّه أعلم على مَعْنى قوله: (قال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِه الشَّجرَةِ إِلَّا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْن).
ويجوز ُمَلِكين، لأن قوله: (هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجرَة الخُلْدِ وَمُلْك لَا يَبْلَى)
يدل على مَلِكَيْن وأحسبه قد قرئ به، فتدل - واللَّه أعلم - على أن
القول إنَّما كان وسوسة من إبليس.
والأجود أنْ يكون خطاباً، لقوله (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
أي فَحَلَفَ لَهما:
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
أي دَلَاَهُمَا فِىِ المعصية بأن غرهما.
(فَلَمَّا ذَاقَا الشَجرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا).
أي ظهرت لهما فروجُهُمَا، وإنما السَّوْءَةُ كناية عن الفَرْجِ، إلا أن الأصلَ -
في التسمية السَّوءَةُ.
وقوله عزَّ وجلَّ (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
مَعْنى طَفِقَا أخَذَا في الفِعْل، والأكثر طَفِقَ يَطْفَقُ. وقَدْ رُوَيتْ طَفَق
يطفِقُ، بكسر الفاءِ.
وقِيلَ: كان ورقُ الجنةِ ذلك ورقَ التين، ومعنى يَخْصفَانِ، يجعلانِ
وَرَقَةً على ورَقَة، ومنه قيل للخَصَّافِ الذي يَرْقَع النَعْلَ: هو يخصِفُ.
قال الشاعر:
أو يخصف النعلَ لهْفِي أيَّةً صَنَعَا
وًيجُوزُ يَخْصِفَانِ وَيخصِّفَان، والأصل الكسر في الخاءِ، وفتحها وتشديدُ
الصَّادِ، وَيكون المعنى: يَخْتَصِفَانِ.
وفي هذه الآية دليل على أن أمْرَ التكشُفِ وإظهَار السوءَة قبيح من لدُنْ
آدم. ألا ترى أنه ذكر عظم شَأنها في المعصِية فقال:
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا).
وأنهما بادَرَا يسْتَتِرَانِ لقُبْحِ التكَشف.
وقوله: (وَوُرِيَ عَنْهُمَا).
يجوز فيه أوُرىَ، لأنَّ الواوَ مَضْمومَة، إنْ شِئْتَ أبْدلتَ منها همزة، إلا
أن القراءَة تُتبَعُ في ذلك.
والقراءَةُ المشهورةُ وخط المصحف (ووُرِيَ) بالواو.
ومعنى (إلا أنْ تكُونَا مَلَكَيْنِ) وقوله: (ذاقَا الشجرَةَ،).
يدل على أنهما ذاقاها ذَوْقاً ولم يُبالِغَا في الأكْلِ.
* * *
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
ويقرأ (ورياشاً)
والريشُ اللباس. العرب تقول: أعْطَيْتُه بريشتهِ، أي بكسوته، والريش.
كل ما سَتَر الرجُلَ في جِسْمِه ومعيشتِه، يقال: ترَيَّشَ فلان أي صار له مَا يَعيش بِه، أنشد سيبويه وغيرُه.
فريشي منكمو وهواي معكم... وِإن كانت زيارتكم لماما
(وَلِبَاسُ التَّقْوَى).
برفع اللباس، فمن نصَبَ عطفَ به على الريش يكون المعنى: أنزلنا
عليكم لباس التقوى، ويرْفَعُ خيراً بِذلِكَ.
ومن رفع اللباس فَرَفْعُه على ضربين:
أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون ذلك من صفته، ويكون (خَيْر) خبرَ
الابتداء. المعنى ولباسُ التقوى المشِارُ إليه خَيْر.
ويجوز أن يكون. (وَلبَاسُ التقْوَى) مرفوعاً بإضمار " هو " المعنى هو
لباس التقوى: أي وستر العورة لبَاسُ المتقِينَ.
ثم قال: (ذَلِكَ خَيْرٌ) ويكون على أن لباس التقوى مرفوعٌ بالابتداءِ، ويكون (ذلِكَ) خَيْرٌ يرتفع به " خَيْرٌ " على أنه خبر ذلك.
ويكون ذلك بمنزلة " هو " كأنه - واللَّه أعلم - ولباس التقوى
هو خير، لأن أسماءَ الإشارة تقرب فيما يعود من الذكر من المضمر.
والوجهان الأوَّلاَنِ أبينُ في العربية.
* * *
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
(حيثُ) في موضوع جر إلا أنها بُنِيَتْ على الضَّم، وأصلها أن تكون
موقوفةً، لأنها ليست لمكانٍ بعينه وأن ما بعدها صلة لها، لَيْسَتْ بمضافة إليه.
": منَ العَربِ من يقول: ومن حَيْثَ خَرَجْتَ، فيفتح لالتقاءِ السَّاكنين، ومنهم من يقول مِن حوْثٌ خَرجتَ.
ولا تقرأ بهاتين اللغتين لأنهما لم يقرأ بواحد منهما ولا هما في جودة حَيْثُ المبنيَّةِ على الضم.
وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
(جَعَلْنَا) في اللغة على ضُرُوب، منها جعلت بعض الشيءِ فوق بَعْض.
أي عملته وهَيأته على هذه الصيغَة، ومنها جَعلَ - زيدٌ فُلاناً عاقِلًا، تأويله: سماه عَاقِلًا، ومنها جَعلَ يَقُولُ كذا وكذا، تأويله أنه أخذ في القول.
فأما مَعْنَى الآيةَ فعلى ضربين - واللَّه أعلم -.
أحدهما أن يكون الكفار عُوقبوا بأن سُلِّطَتْ عليهم الشيَاطين تزيدهم فِي
غَيِّهم عقُوبةً على كُفْرِهِمْ كما قَالَ عزَّ وجلَّ:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣).
أي تَحْمِلُهمْ على المعاصي حَمْلاً شَدِيداً، تَزعجهم
في شدّةِ الغَى.
ويجوز إِنَا جعَلْنَا الشَيَاطِينَ أوليَاءَ لفَذِينَ لَا مهلؤمِنُونَ، أيسوينا بين
الشياطين والكافرين في الذهاب عن اللَّه. كما قال: (المنَافقون وائنَافِقَات
بعْضُهُم منْ بَعْضٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨)
معنى الفاحشة ما يشتد قبحه من الذنوب.
(قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لا يأمر بالفحشَاءِ لأن حكمتَه وجميعَ ما خلق
تدل على أنه لاَ يفعلُ إلا المسْتَحسَنَ، فكيف يأمر بالفحشاءِ.
وقد احتج عليهم في غير هذا الموضوع بما قد بينَّاه في سورة الأنعام.
* * *
وقوله: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)
أي بالعَدْلِ، فكيف يأمُرُ بالفَحشاءِ من يعْلَم أنه لا يفعل إلا الحكمة.
ولا يثبت إِلا العدلَ مِنْ أمْرِه، فإِذا كان يأمر بالعدل - والعدْل ما قام في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميز - فكيف بالفحشاءِ، والفحشاء ما عظم قبحه.
ثم وبَّخَهُم فقال:
(أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
أي أتكْذِبونه.
وقوله: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
أي وَقْتَ كل صَلَاةٍ اقصدوه بصلاتكم.
(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
أي مخلصين له الطاعة.
احتج عليهم في إِنكارهم البعث.
وهو متصل بقوله: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ).
فقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.
* * *
وقوله: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
معناه إِنه أضَل فَريقاً حَق عليهم الضلالة.
ثم قال: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
ولو قُرِئَتْ أنَّهم اتَخَذوا الشياطين لكانت تجوز، ولكن الِإجماع على
الكَسْرِ.
وقوله: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
يدل على أن دوماً ينتحلون الِإسلامَ ويزعمونَ أن من كان كافراً، وهو
لَا يعلم إنَّه كافر فليس بكافرٍ مُبْطِلُون لأمر نِحْلتِهمْ، لأن الله جل ثناؤُه قد
أعلمنا أنهم يَحْسَبون أنهمْ مهتدون، ولا اختلاف بين أهل اللغة في أن
الحُسْبَانَ ليس تأْويله غيرَ مَا يُعْلم من معنى حسب.
والدليل على أن الله قد سماهم بظنهم كَفَرةً قوله عزَّ وجل:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧).
فأعلمَ أنهم بالظنِ كافِرونَ، وأنهم معذبون.
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
هذا أمرٌ بالاسْتِتَارِ في الصلوات، وكان أهلُ الجاهلية يطوفون عُراةً.
وَيقُولون: لا نطوف حول البيتِ في ثياب قَدْ أذْنَبْنَا فِيهَا، وكانت المرأة تطوف عُرْيَانَة أيضاً إلا أنها كانت تشُدُّ في حَقْويها أشياءَ من سُيورٍ مقطعة، تُسَمِّي العرب ذلك الرهْط، قالت امرأة تطوف وعليها رهط:
اليَوْمَ يَبْدو بعضُه أوكُلُّه... فما بدا منه فلا أُحِلُّه
تعني الفرجَ، لأن السيورْ لا تستُر سَتْراً تَامًّا.
فأمر الله بَعْدَ ذِكرِه عقوبةَ آدم وحواءَ في أن بَدَتْ لهما سوءَاتُهما.
بالاستتار في وقت كل صلاة، بعد أن أعلم أن التعرِّيَ وظُهُورَ السوءَةِ مكروه
من لدن آدم، وقوله بعقب الاستتار:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).
لأنهم ادَّعَوْا أنَّ اللَّه جلّ ثناؤُه قد حرم عليهم شيئاً مما في بطون
الأنعام، وحرم عَلَيْهم البَحِيرَةَ والسائبة، وكانوا يزعُمونَ فيما يأتون من الفحشاءِ كالتعري وما أشبَهَهُ - أن الله جل ثناؤُه - أمرهم بذلك فأمرهم اللَّه بالاستتار، وأن يأكلوا - ما زعموا أن الله عزَّ وجلَّ حرَّمَه مما لم يحرمه، وأن يشربوا مما
زعموا أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - حرم عليهم شربه، لأن ألبان البحيرة والسائبة كانت عندهم حراماً.
* * *
وقوله: - جلَّ وعزَّ -: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
والإسراف أن يَأكُلَ مَا لَا يَحِل أكْلُه مما حرمَ اللَّه تعالى أنْ يؤكَلَ شَيء
منه، أو تأكَل مما أحل لك فوق القصد ومقدار الحاجة، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَ
أنه لا يحب من أسرف، ومن لم يحْبِبْهُ اللَّه عزَّ وجلَّ فهو في النار ثم قَررَهم
ووَبخهم فقال:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
أي من حرم أن تلبسوا في طَوَافِكُمْ مَا يَسْتُركمْ.
(وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).
أي ومن حرم الطيبات مما رزق اللَّه، أي من حرم هذه الأشياءَ التي
ذكرتم أنها حرام.
ثم قال عزَّ وجلَّ: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِةِ).
وتقرأ (خَالِصَةً) و (خَالِصَةٌ) يومَ القيامة.
المعنى أنها حلال للمؤْمنين، وقد يَشْرَكُهمْ فيها الكافرون.
أعلم عزَّ وجلَّ أن الطَّيبَات تَخْلُصُ للمؤْمنين في الآخرة ولا يَشْرَكُهُمْ فيها
كافر.
فأما إِعراب " خَالصَةٌ " فهو أنهُ. خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقِل
لَبِيب. فالمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يومَ القيامة.
ومن قرأ (خَالِصَةً) جعل خالصة منصوباً على الحال، على أن العامل في قولك
في الحياة الدنيا في تأويل الحال. كأنك قلتَ: هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في
الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة.
وقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
(وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)
موضِع (أَنْ) نَصْب: المعنى حرم اللَّه الفواحش تَحريمَ الشَرك.
ومَعْنى (لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أَي لم ينزل به حجةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
أي وَقْت مَؤقَت.
(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
المعنى: ولا يستقدمون ساعة، ولا أقل من ساعة، ولكن ذكِرَتِ الساعة
لأنها أقل أسماءِ الأوقات.
* * *
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)
آدم لا ينصرفُ لأنه على قدر أفعَل وهو معرفة، وهو مشتق من أدمَةِ
الأرْض، وهو وجهها، فسمي بما خلق منه، ، اللَّه عزَّ وجلَّ أعلم.
وقوله: (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ).
هذه " إِن " التي للجزاء، ضمَّتْ إِليها ما.
والأصل في اللفظ " إِنْ ما " مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبتْ على الِإدغام، فإذا ضُمَّتْ إن إِلى ما، لزم الفِعْلَ النون الثقِيلة أو الخفيفة، وجواب الجزاءِ في الفاء أي" في قوله: (فمَن اتقى وأصْلَحَ).
فإِنما تلزم " مَا " النونُ لأن ما تدخل مَؤكَدة فتلزمها النون كما تلزم اللامَ
النُونُ في القَسمَ إِذا قلت: واللَّهِ لَتَفْعَلنَّ، فما توكيد، كما أن اللام توكيد.
فلزمت النون كما لزمت لامَ القسم.
* * *
وقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧)
أيُّ ظُلْمٍ أشنع من الكذب على الله؟؟!!!
وقوله: ْ (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ).
أي ما أَخبر الثه جلَّ ثناؤُه عن جزائهم نحو قوله: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤).
٣٣٤
334
ونحو قوله: (يَسْلُكْهُ عَذَاباً صُعًداً)
ونحو قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
ونحو: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ)، فهذه أنصِبَتهُمْ من الكتاب على قدر ذُنوبهم في كفرهم.
(حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا).
زعم سيبويه - والخليل - أن " حَتَّى " و " إِمَّا " و " إِلَّا " لا تجوز فيهن الِإمالة. لا يجيز: (حتى إِذا جاءَتهم) ولا يجيز " أمَّا "، ولا " لا إِله إِلَّا اللَّهُ "، هذا لحن كله، وزعم أن هذه ألفات الفَتح لأنَّها أواخر حروف جاءَت لمعنًى، فَفُصِلَ بينها وبين أواخر الأسماءِ التي فيها الألف نحو حُبْلَى وهدى، إِلا أن حتى كُتبتْ بالياءِ، لأنها على أربعة أحرف، فأشبهت سكرى.
و" إِمَّا " التِي للتخيير شبهت بأن التي ضمت إِليها " ما "
مثل قوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).
كُتبَتْ بالألف لما وصفنا، و " إِلًا " أيضاً كُتَبتْ بالألف أنها لو
كُتَبَتْ بالياءِ لأشبهت إلى.
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ).
فيه - واللَّه أعلم - وَجْهان:
يكون: حتى إذا جاءَتهم ملائكة الموت يتوفونهم سألوهم عند المعاينة.
فيعرفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين، لأنهم (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا).
أي بطلوا وذهبوا.
335
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون: - حتى إذا جاءَتهم رسلنا ملائكة العذاب
يتوفونهم، فيكون (يَتَوَفوْنَهُمْ) في هذا الموضع على ضربين:
أحدهما يتوفونهم عذاباً، وهذا كما تقول: قد قتلت فلاناً بالعَذاب وإن لم يمت.
ودليل هذا القول قوله عزْ وجلَّ: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ).
وجائز وهو أضعف الوجهين أنهم يتوفون عدَّتهم واللَّه أعلم.
* * *
وقوله: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨)
(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).
لأنهم ضل بعضهم باتباع بعض.
(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا).
أي تداركوا، وأدغمت التاءُ في الدال، فإذا وقفت على قوله " حتى إذا "
لم تبتدئ حتى تَأتيَ بألف الوصل، قتقول: ادَّارَكُوا فتأتي بألف الوصل
لسكون الدال فيها.
ومعنى تداركوا اجتمعوا.
وقوله " (جميعاً) منصوب على الحال، المعنى حتى إِذا تداركوا فيها
مجتمعين.
(قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا).
أي قالت أخراهم: دعتهم أولاهم فاتبع الآخِرُ - الأولَ. فأعلم التابعونَ أن
المتبوعين أضَلُّوهُمْ بأن دَعَوْهم إلى الضلال، والمعنى قالت أخراهم يا ربنا
هؤُلاءِ أضلونا، لأولاهم، تعني أولاهم.
وقوله: (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
أي عذاباً مُضاعَفاً لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما
المثل، والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيءِ.
(قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ).
أي للتابع والمتبوع لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعاً، أي لكل عذاب
مضاعف، فمن قرأ: (وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) بالتاءِ.
أي ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب.
ومن قرأ (وَلكِنْ لَا يَعْلَمُون) - بالياءِ، أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذَابِ الفريق الآخر.
ويجوز - واللَّه أعلم - ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
أي كذبُوا بحججنا وأعلامِنَا التي تدل على نبوة الأنبياءِ وتوحيد اللَّه.
(لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ).
أي لا تَصْعَدُ أرواحهم ولا أعمالهم، لأن أعمال المؤْمنين وأرواحهم
تصعد إِلى السماءِ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).
ويجوز لا تُفْتَح ولا تُفَتَّحُ بالتخفيف والتشديد، وبالياءِ والتاءِ.
وقال بعضهم: لا تفتح لهم أبواب السماءِ، أي أبواب الجنة، لأن الجنة
في السماءِ، والدليل على ذلك قوله: (وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنَّةَ).
فكأنه لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).
فالخياط الإبرة، وسمها ثقبها.
المعنى لا يدخلون الجنة أبداً.
وسئل ابن مسعود عن الجَمَلِ فقال هو زوج الناقة. كأنه استجهل من
سأله عن الجمل.
وقرأ بعضهم الجُمل، وفسَّروه فقالوا قَلسُ السفينة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)
أي ومثل ذلك الذي وصفنا نجزي المجرمين.
والمجرمون - واللَّه أعلم - ههنا الكافرون، لأن الذي ذكر منْ قصتهم
التكذيبُ بآيات اللَّه، والاستكبار عنها.
* * *
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
أي فراش من نار.
(وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ).
أي غاشية فوق غاشية من النار.
وقوله: (وَكَذلك نَجْزي الظَّالِمِينَ).
والظالمون ههنا الكافرون.
وقوله " غَوَاشٍ) زعم سيبويه والخليل جميعاً أن النون هنا عوض من
الياء لأن غواشيَ لا تنصرف، والأصل فيها غَوَاشي، بإسكان الياءِ.
فإذا ذهَبَت الضمةُ أدْخَلْت التنوين عوضاً منها، كذلك فسر أصحاب سيبويه، وكان سيبويه يذهب إلى أن التنوين عوَض من ذهاب حركة الياءِ، والياءُ سقطت لسكونها وسكون التنوين. فإذا وقفت فالاختيار أن تقف بغير ياءٍ، فتقول
غَوَاش، لتدل أن الياء كانت تحذف في الوَصْل.
وبعض العرب إذا وقف قال غَوَاشي، بإثبات الياءِ.
ولا أرى ذلك في القرآن لأن الياء محذوفة في
المصحف، والكتاب على الوقف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢)
أي عملوا الصالحات بقدر طاقتهم، لأن معنى الوسع ما يقدر عليه.
وقوله: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجنَّة هُمْ فيها خَالدُونَ).
أُولَئِكَ رفع بالابتداءِ، وأصحاب خبر، وهم والجملة خبر الذين، ويرجع
على الذين أسماءِ الإشارة، أعني أولئك.
* * *
قوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
قال بعضهم: ذهبت الأحقاد التي كانت في قلوبهم، وحقيقته - والله
أعلم - أنه لا يحسد بعضُ أهل الجنَّة بعضاً في عُلو الرُتبة، لأن الحسدَ غل.
* * *
وقوله تعالى: (تجْرِي من تحْتِهُمُ الأنْهارُ).
في معنى الحال، المعنى ونزعْنا ما في صدورهم من غل في هذه
الحال، ويجوز أن يكون " تجري " إخباراً عن صفة حالهم، فيكون تجري
مستأنفاً.
ومعنى (هَدَانا لهذا).
أي هدانا لما صيرَنا إِلى هذا، يقال: هديت الرجل هداية وهدى وهدْياً.
وأهْدَيت الهَدْيَة فهي مُهداة، وأهديت العروس إلى زوجها وهديْتُها.
وقوله جلَّ وِعز: (وَنودُوا أنْ تلكُمُ الْجَنَّةُ).
في موضع نصب، وهَهُنَا الهاءُ مضمرة، وهي مخففَة من الثقيلة.
والمعنى نودوا بأنه تلكم الجنَّةُ.
والأجود - عندي - أن تكون أن في موضع تفسير النداءِ، كان
المعنى، ونودوا أن تلكم الجنة، أي قيل ألهم،: تلكم الجنة، وإنما قال:
تلكم، لأنهم وُعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل: هذه تلكم التي وعدتم بها.
وجائز أن يكون عاينوها فقيل لهم من قبل دخولها إشارة إلى ما يرَوْنَه: تلكم
الجنة، كما تقول لما تراه: ذلك الرجل أخوك. ولو قلت: هذا الرجل لأنه
يراك جاز، لأن هذا وهُؤلاءِ لما قرب منك، وذاك وتلك لما بَعُدَ عنك.
رأيته أو لم تره.
* * *
وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)
معنى " أن " ههنا إن شئت كان مفسراً لما نادى به أصحاب الجنة.
والمعنى أي قد وجدنا، ويجوز أن تكون أن الشديدة وخففت، المعنى أنه قد
وجدنا.
قال الشاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقوله: (قَالوا نَعَمْ).
وفي بعض اللغات قالوا نَعِمْ في معنى نَعَمْ - موقوفةُ الآخر - لأنها حرف
جاءَ لمعنى.
وقوله: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
ويجوز أنَّ لعْنةَ اللَّه على الظَّالِمِينَ، وقد قرئ بهما جميعاً والمخففة
مخففة من الشديدة، ويجوز أن تكون المخففة في معنى أي الخفيفة التي هي
تفسير، كأنَّها تفسير لما أّذَّنُوا فيه.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١)
(فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا).
أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاءِ يومهم هذا.
ومعنى: (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
و" كجحدِهم " و " ما " نسقُ على " كما، في موضع جر.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
هدى في موضع نصْبٍ، أي فصلناه هادياً وذا رحمة.
ويجوز هدى ورحمةٌ نقوم يؤمنون على الاستئناف، المعنى هو هُدًى ورحمةٌ لقوم يؤمنون.
* * *
وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ).
معناه هل ينظرون إِلا ما يؤُول إليه أمرهم من البعث، وهذا التأويل والله
أعلم - هو قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللَّهُ)، أي ما يعلم متى يكون البعث.
وما يؤُول إِليه إِلا اللَّه: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)
بالبعث - واللَّه أعلم -.
وقوله: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ).
(يومَ) منصوب بقوله: (يقول) و (الذين نسوه) على ضربين:
جائز أن يكون صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نُسِيَ وجائز أن يكونوا
نسوه وتركوا العمل له والإيمانَ به.
وقوله:. (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
(أَوْ) نسق على قوله (من شفعاءَ)، " كأنهم قالوا: هل يشفع لنا شافع أو
هل نرد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (فَنَعْمَلَ) منصوب على جواب الفاءِ للاستفهام.
ويجوز أن تنصب (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ)، أي إِن رددنا استغنينا عن الشفاعة.
* * *
وقوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ).
و (يُغَشِّي اللَّيْلَ النَّهَارَ)، جميعاً يقرأ بهما.
والمعنى أن الليل يأتي على النهار فيغطيه، ولم يقل يغشى النهارَ الليْلَ.
لأن في الكلام دليلاً عليه، وقد جاءَ في موضع آخر: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ).
وقوله تعالى: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ).
أي خلق النجوم جارِيَاب مَجَارِيَهُنَّ بأمرِه.
* * *
وقوله: (وَعَلى الأعْرافِ رِجَالٌ).
وقوله: (وَنادَى أصْحَابُ الأعْرَافِ)
اختلف الناس في أصحاب الأعراف، فقال قوم: هم قومُ استوت
حسناتهم وسيئاتُهم، فلم يستحقوا الجنة بالحسنات، ولا النار بالسيئات.
فكانوا على الحجاب الذي بين الجنة والنار.
والأعراف أعَالي السُّورِ، ويُقَالُ لكل عَال عُرْف وجمعُه أعراف.
342
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - على الأعراف على معرفة - أهل الجنة
وأهل النار هُؤلاءِ الرجال، فقال قوم ما ذكرنا، وإن اللَّه يدخلهم الجنة، وقال قوم أصحاب الأعراف أنبياء وقال قوم ملائكة.
ومعرفتهم كُلًّا بِسيماهُمْ يعرفون أصحاب الجنة بأن سيماهم إِسْفَارُ
الوُجوه والضحِكُ والاسْتِبْشَارُ كما قال عزَّ وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩).
ويعرفون أصحاب النار بسيماهم وسيماهم اسوداد الوجوه
وَغُبْرَتُها - كما قال جلَّ وعزَّ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).
و (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١)
والقَتَرة كالدُّخَان.
وقوله: (مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وما كنتم تَسْتَكْبِرُونَ).
هذا - واللَّه أعلم - خطاب أصحاب الأعراف لأهل النار، وقرئت
تستكثرون بالثاءِ.
وأما تجوله: (أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ).
يعني أهل الجنة كأنه قيل لهم: يا أهلَ النار أهُؤلاءِ الذين حلفتم لاَ ينالهم
الله برحمة).
(ادخُلُوا الجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ).
وإن شئت بالفتح لا خوفَ عليكم.
فجائز أن يكون (ادْخُلوا الجنَّةَ) خطاباً من أصحاب الأعراف لأهل
343
الجنة، لأن كل ما يقوله أصحاب الأعراف فَعَنِ اللَّه تعالى. وجائز أن يكون
خطاباً من اللَّه عزَّ وجلَّ لأهل الجنة.
وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
فأعلم اللَّه عزْ وجل: أن ابن آدم غيرُ مستغن عن الطعام والشراب وإن
كان معذباً.
فأعلمهم أهلُ الجنة أنْ اللَّه حرمها على الكافرين، يَعْنون أن اللَّه حرم
طعامَ أهل الجنة وشرابَهم على أهل النار، لأنهم إنما يشربون الحميمَ الذي
يُصْهَرُ به مَا في بُطُونهمْ.
* * *
وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
قال قوم: تضرعوا تملقاً، وحقيقته - واللَّه أعلم - أن يَدْعُوه خاضعين
متعبدين.
و (خُفْيَةً) أي اعتقدوا عبادته في أنْفُسِكم، لأن الدعاءَ معناه العبادة.
وقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
والمعتدون المجاوزون ما أمِروا به، وَهُمُ الظالمونَ.
* * *
وقوله: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
(وَادْعُوهُ حوْفاً وطَمَعَاً).
أي ادْعوه خائِفين عذَابه وطامعين في رحمته، ويروى عن النبي - ﷺ - أنه قال: لَنْ يَدْخُلُ الجنة أحدٌ بعَمَلِه، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال ولا أنا إلا أن يتَغمدنيَ اللَّهُ برحمته.
وقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
إنما قيل (قَرِيبٌ) لأن الرحمة والغفْرَانَ في معنَى واحدٍ وكذلك كل تأنيث
ليس بحقيقي.
وقال الأخفش جائز أن تكون الرحمةُ ههنا في معنى المَطَر.
وقال بعضهم: هذا ذُكرَ ليفصل بين القريب من القرابة، والقريب من القُرْبِ، وهذا غلط، أن كل ما قَرُبَ من مكان أوْ نَسَبٍ فهو جارٍ على ما يصيبه من
التأنيث والتذكير.
* * *
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
(بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).
و (نُشْرًا) أيضاً بضم النون وفتحها - وقرأ عاصم بُشْرًى بالياء.
فمن قرأ (نُشْرًا) فالمعنى وهو الذي يُنْشِر الرياح مُنْشَرةً نشْراً.
ومن قال نُشْراً فهو جمع نشورٍ ونُشُرٍ.
ومن قرأ بُشْراً فهو جمع بشيرةٍ وبُشُرٍ كما قال جلَّ وعزَّ: (وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الريَاحَ بُشْرًا).
وقوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه).
أي بين يدي المطر الذي هو رحمة، (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا) أي حتى إِذا
أَقَلَّتْ الريح سَحَابًا، يقال: أقل فلان الشيء إِذا هو حمله، وفلان لا يَسْتقلُّ
بحَمْلِه.
فالمعنى حتى إِذا حملت سحاباً ثقالاً، والسحاب جمع سحابة.
(ثِقَالًا) أي ثقالًا بالماءِ.
(سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ).
ومَيْتٍ جميعاً.
(فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
جائز أن يكون: فأنزلنا بالسحاب الماءَ، فَأخْرَجْنَا بِه مِنْ كل الثمَرَاتِ.
الأحسن - واللَّه أعلم - فأخرجنا بالماءِ من كل الثمرات، وجائز أن يكون
أخرجنا بالبلد من كُل الئمرات، لأن البَلَدَ ليس يُخَصُّ به ههنا بلَدٌ سوى سائر البُلْدَانِ.
وقوله عزْ وجلَّ: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى).
أي مثلَ ذَلكَ الإخراجِ الذي أشرنا إِليه نخرج الموتى.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
لعل ترج، وإنما خوطب العباد على قدر علمهم، وما يرجوه بعضهم من
بعض، واللَّه يعلم أي تَذَكرون أم لا.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أي لعلكم بما بينَّاهُ لكم تستَدِلُّونَ على توحِيد اللَّهِ وأنه يبعث الموتى.
* * *
وقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
وقرأها أهل المدينة نكَدًا - بفتح الكاف - ويجوز فيه وجهان آخران:
إِلَّا نَكْدًا ونُكْدًا - بضم النون وإسكان الكاف ولا يقرأ بالمضمومة، لأنه لم تثبت به رواية في القرآن.
* * *
وقوله (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٠)
وهم الرؤساء والأشراف، وقال بعضهم يعنى به الرجال. -
وقد بيَّنَّا المَلأ فيما سبق من الكتاب.
وقوله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
هذه الواو واو العطف. دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة.
وقد بيَّنَّا أمرها في الكتاب.
وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤)
(في الفُلْكِ).
والفلك السفينة، يكون الفلك واحداً، ويكون جمعاً.
وقوله: (قَوْمًا عَمِينَ).
أي قد عَموا عن الحق والِإيمان.
* * *
وقوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥)
المعنى: لقد أرسلنا نوحاً إِلى قومه، وأرسلنا إِلى عادٍ أخاهم هودًا.
وقيل للأنبياءِ أخوهم وإن كانوا كفرة، يعني به أنَّه قد أتاهم بَشَرٌ مثلُهم من وَلدِ أبيهم آدمَ، وهو أرْجح عليهم.
وجائز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم ليكون
أفهمَ لَهُمْ بأن يأخذوا عن رجل مِنْهُمْ.
* * *
وقوله: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦)
السفاهة خِفَةُ الحلم والرأي، يقال ثوبٌ سفيه إذَا كان خفيفاً.
وقوله: (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
وكفروا به ظانِّينَ لَا مُسْتيْقنين.
* * *
وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧)
هذا موضع أدب للخلق في حسن الجوار وفي المخاطبة، أنه دفع ما
نسبوه إليه من السفاهة بأن قال ليس بي سفاهة، فدفعهم بنفي ما قالوا فقط.
وقوله: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي الذي أنبئكم به مِنْ عند الله، لأنه أمَرَهمْ بِعِبَادَةِ اللَّه جلَّ وعزَّّ
وتوحيده.
* * *
وقوله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
وَخُلَفَاءَ جمع خليفة على التذكير لا على اللفظ، مثل ظَريف وَظُرَفَاءَ.
ْوجائز أن يجمع خلائف على اللفظ، مثل طريفة وَطَرَائف.
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَزَادَكُمْ في الْخَلْقِ بَسْطَةً).
في التفسير أنَّه كان أقصَرُهُم، طولُهُ ستونَ ذِرَاعاً وَأطْوَلهُمْ مائة ذِراع.
وقوله: (فَاذُكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ).
معناه نِعَمَ اللَّه، واحدها إلى.
قال الشاعر:
أَبيض لا يَرْهَب الهُزالَ ولا... يَقْطعُ رُحْماً ولا يَخُون إِلاَّ
ويجوز أن يكون واحدها إليْ وإِليَّ.
* * *
وقوله: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
أي أرْسَلْنَا إِلى ثَمُودَ أخاهم صَالِحاً.
وثمودُ في كتاب اللَّه مصروف وغيرُ مصروف.
فأما المصروف فقوله: (ألَا إن ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ألا بُعْداً لِثَمُود).
الثاني غَيْرُ مصروفٍ، فالذي صرفه جَعَلَهُ اسماً للحي، فيكونُ مُذَكَراً سمي به مُذَكرٌ وَمَنْ لم يصرِفْه جعله اسْماً للقَبيلة.
وقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
وتقرأ غَيرِه، فمن رفع فالمعنى ما لكم إِلهٌ غيرُهُ، ودخلت " مِنْ " مَؤكدةً.
ومَنْ جَرَّ جعله صفةٌ لإلَهٍ.
وأجاز بعضهم النصبَ في غَيْر وهو جائز في غير القرآن، على النصب على الاستثناءِ وعلى الحال من النكرة.
ولا يجوز في القرآن لأنه لم يقرأ به.
وأجاز الفراء.. ما جاءَني غيرَكَ بِنَصْبِ غيرَ، وهذا خطأٌ
348
بيِّن، إنما أنشد الخليل وسيبويه بيتاً أجازا فيه نصب غير، فاستشهد هو بذلك البيت واستهواه اللفظ في قولهما إن الموضعَ موضِعُ رفع.
وإنما أضيفت غير في البيت إلى شيءٍ غير متمكن فبنيت على الفتح كما يبنى يوم إذَا أضِيفَ إلى إذْ على الفتح.
والبيت قول الشاعر:
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت... حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
وأكثرهم ينشده غيرَ أن نطقت، فلما أضاف غير إلى " أنْ " فتح غير، ولو
قلت: ما جاءَ في غيرَك لم يجز. ولوجاز هذا لجاز ما جاءَني زيداً.
وقوله: (قَدْجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبكُمْ).
دعاهم إلى التوحيد ودلهم على نُبُوتةِ بالناقة فقال:
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لكُمْ آيَةً).
(آيَةً) انتصب على الحال، أي أنظروا إلى هَذه الناقَةِ آية أي عَلامَةً.
وقد اختلف في خبرها، فقيل في بعض التفسير: إِن الملأ من قوم
صالح كانوا بين يديه فسألوه آية وكانت بين يديه صفاة - وهي الصخرة - فأخرج الله منها ناقة معها سَقْبُها أي وَلَدُها.
وجاءَ في بعض التفسير أنه أخذ ناقة من سائر النوق، وجعل الله لها
349
شِرْباً يوماً وَلَهُمْ شربُ يومِ. وذُكِرَتْ قصته في غير هذا الموضع فقال:
(هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥).
فكانت تشرب يوما ثم تُفْحِجُ يوماً آخر في وادِ فلا تزال تحتلب ولا ينقطع حلَبُها ذلك اليوم.
فجائز أن يكون أمرُ خروجها من الصخرة صحيحاً، وجائز أن يكون أمر
حلبها صحيحاً. وكل منهما آية معجزة تدل على النبوة.
وجائز أن تكونَ الرِّوَايَتَانِ صحيحتَيْنِ فَيُجْمَعُ أنَّها خرجت من صخرة وأن حَلْبَهَا على ما ذَكَرْنَا.
ولم يكن ليقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فتكون آية فيها لبسٌ.
وقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)
أي لما أهلكهم وورثكم الأرض.
(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).
أي أنزلكم.
قال الشاعر:
وبُوِّئَتْ في صَمِيمِ مَعْشَرِها... وتَمَّ في قَوْمِها مُبَوَّؤُها
أي أنزلت من الْكَرَم في صميم النسب.
وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ).
يقال: نَحَتَ يَنْحِتُ، ويقال أيضاً نَحَتَ يَنْحَتُ، لأن فيه حرفاً من حروف
ويروى أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون أن ينحتوا بيوتاً في الجبال،
لأن السقوفَ والأبنية كانت تبلى قبل فناءِ أعمارهم.
* * *
وقوله: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ).
أي جاوزوا المقدَارَ فى الْكُفْر.
* * *
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨)
والرجفة: الزلزلة الشديدة.
ويروى أنه لما قال لهم: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)
أصبحوا في أول يوم مصفرة وجوهُهم، وفي اليوم الثاني محمرة وجوههم
وفي اليوم الثالث مسودَّةً وجوههم، وفي اليوم الرابع أتاهم العذاب.
ويقال إِن ابتداءَ عقرهم الناقة كان في يوم الأربعاءِ، وأخذهم العذاب
في يوم السبت.
وقوله: (فَأصْبَحُوا نَادمينَ).
أي في وقت لا ينفعهم الندم.
وأصْبَحُوا جَاثمِينَ. في اليوم الذي أخذتهم فيه الرجفة.
ومعنى (جَاثِمِينَ) قد خمدوا من شدة العذاب.
وقال بعضهم أصْبَحُوا كالرماد الجاثِم.
* * *
وقوله: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠)
أي وأرسلنا لوطاً إِذ قال لقومه.
وقال الأخفش ويجوز أن يكون منصوباً على واذكر لوطاً إِذ قال لقومه. والوجهُ أن يكون معطوفاً على الإرسال.
وقال بعض أهل اللغة: لوط مشتق من لطتُ الحَوْضَ إذا مَلَّسَتَه بالطين.
وهذا غلط. لأن لوطاً من الأسماءِ الأعجمية ليس من العربية، فأما لطت
الحوض وهذا ألوط بقلبي من هذا، فمعناه ألصق بقلبي. واللِّيطُ القِشرُ. وهذا صحيح في اللغة.
ولكن الاسم أعجمي كإِبراهيم وإِسحاق، لا نقول إنه مشتق
من السُّحْقِ وهو البعدُ. وهو كتاب الله الذي لا ينبغي أن يقدم على تفسيره إلا برواية صحيحة وحجة واضحة.
وقوله: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).
هذا دليل أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط.
وقد اختلف الناس في حَدِّ اللُّوطِي، فقال بعضهم هو كالزاني.
وروي أن أبا بكر حرق رجلاً يقال له الفجاءَة بالنار في اللواط.
وقال بعضهم: يجب أنْ يقتلَ مُحْصَناً أو غير مُحْصَنٍ، لأن الله تبارك
وتعالى قتل فاعليه بالحجارة.
فخاطبهم لوط فقال: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ).
وقال في موضع آخر: (إنكمْ لتأتون الفاحشة).
والفاحشة الشيءَ الغليظ القبيح.
* * *
وقوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢)
يجوز أن يكون " جَوَابَ " مرفوعاً. (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا)
والأجود النصب وعليه القراءَة.
(إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
أي يتطهرون عن عملكم.
* * *
وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣)
في التفسير أنَّ أهلَه ابنتاه.
(إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)
قيل في الغابرين ههنا قولان.
قال أهل اللغة: من الغابرين من الباقين.
أي من الباقين في الموضع الذي عذبوا فيه.
وَأنْشَدَ أبو عَبَيْدَة معمر بن المثنى.
فما وَنَى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ... له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ
أي ما بقي.
وفال بعضهم: (من الغابرين) أي من الغائبين عن النجاة.
وكلاهما وجه. واللَّه أعلم.
* * *
وقوله: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
مَدْيَنُ لا ينصرف لأنه اسم للقبيلة أو البلدة، وجائز أن يكون أعجمياً.
وقوله: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ).
قال بعض النحويين؛ لم يكن لشعيب آية إِلا النبوة، وهذا غلط فاحش.
قال قد جاءَتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل فجاءَ بالفاءَ جواباً للجزاء، فكيف يقول: قد جاءَتكم بينة من ربكم ولم يكن له آية إِلا النبوة، فإن كان مع النبوة آية فقد جاءَهم بها.
وقد أخطأ القائل بقوله: لم تكن له آية، ولو ادَّعَى مُدَّعٍ
النبوة بغير آية لم تُقْبَلْ منه، ولكن الِقول في شعيب أن آيته كما قال بينَة.
إِلا أن الله جل ثناؤه ذكر بعض آيات الأنبياءِ في القرآن وبعضهم لم يذكرآيته، فمن لم تذكر آيته لا يقال: لا آية له.
وآيات محمد النبي - ﷺ - لم تذكر كلها في
القرآن ولا أكثرها.
وقوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)
البَخْسُ النقْص والقِلَّة، يقال بخست أبخس بالسين، وبخصت عيْنَه
بالصاد لا غير مثل فقأت عينيه.
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
أي لا تعملوا فيها بالمعاصي وَبخِس الناس بعد أنْ أصلحها الله بالأمر
بالعدل وإرسال الرسل.
* * *
ْوقوله: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦)
أي بكل طريق.
ومعنى توعدون أي توعدون من آمن بشعيب بالعذاب والتهدد يقال:
وعدته خيراً، ووعدته شرًّا، فإِذا لم تذكر واحداً منهما.
قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدته.
وقوله: (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
أي عن الطريق التي آمن اللَّه من آمن بها.
(وَتَبْغُونَهَا عِوَجًاأ).
أي وتريدون الاعوجاج والعدول عن القصد.
يقال في الدين وفيما يعلم إذا كان على غير استواء عوج بكسر العين وفي الحائط والعودِ عَوَج بفتح العَيْن.
وقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ).
جائز أن يكون (فَكَثَّرَكُمْ) جعلكم أغنياءَ بعد أن كنتم فقراءَ، وجائز أن
يكون كان عددهم قليلاً فكثرهم، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار
فكثرهم، إلا أنه ذكرهم بنعمة الله عليهم كما قال: (فاذكروا آلاءَ اللَّهِ)
أي نعم اللَّهِ.
* * *
وقوله: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨)
المعنى: ليكونن أحدُ الأمْرَين، ولا تُقارُّ على مخالفتنا.
وقوله: (قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ).
أي أتعيدوننا في ملتكم وإن كرهناها.
فإِن قال قائل: كيف قالوا لشُعَيب: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، وشعيب نَبِيٌّ؟
ففيه قولان:
أحدهما: لما أشرَكُوا الذين كانوا على مِلَّتهم قالوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا. وجائز أنْ يقال: قد عَادَ عليَّ من فلان مكروه، وإن لم يكن سبقه
مكروه قبل ذلك وإنما تأويله إنَّه قد لحقني منه مكروه.
وقوله: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩)
(وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
اختلف الناس في تأويل هذا، فأولى التأويلات باللفْظ أن يكون:
(وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
لأنه لا يكون غير ما يشاءَ اللَّه.
وهذا مذهب أهل السنة.
قال اللَّه عزْ وجل: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
والمشيئة في اللغة بيِّنة لا تحتاج إِلى تأويل.
355
فالمعنى: ما يكون لنا أن نعود فيها إِلا أن يكون الله عزَّ وجلَّ قد سبق
في علمه ومشيئته أنا نعود فيها.
وتصديق ذلك قوله: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).
ثم قال (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا).
وفي موضع آخر: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).
وقال قوم: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)
أي فاللَّه لا يشاءُ الكفر، قالوا: هذا مثل قولك: لَا أكلِّمك حتى يبيضَّ الفار وَيشيبَ الغُرابُ، والفارُ لا يبيض، والغراب لا يشيب.
قالوا فكذلك تأويل الآية.
قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لمخالفته أكثر من ألف موضع في القرآن
لا تحتمل تأويلين، ولا يحدث شيءٌ إِلا بمشيئته وعن علمه.
إِما أن يكونَ عَلِمَهُ حادثاً فشاءَه حادثاً، أو عَلِمَهُ غيرَ حادثٍ فشاءَه غيرَ حادث.
ولا يجوز لما مكنَ الخلق من التصرف أن يُحدثَ الممتنعَ موجوداً، ولا يكون ما علمه أنَّه يُوجَدُ ممتنعاً.
وسنةُ الرَسول عليه السلام تشهد بذلك ولكن اللَّه تبارك وتعالى
غيب عن الخلق علمه فيهم، ومشيئته من أعمالهم فأمرهم ونهاهم.
لأن الحجة إِنما تثبت من جهة الأمر والنهي، وكل ذلك جائز على ما سبق في
العلم وجرت به المشيئة، قال الله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا).. الآية.
فسقوط الورقة منسوب إِليها وهو خلقه فيها كما خلقها، وكذلك إِلى آخر
الآية.
356
وقال: (يَعْلَمُ مَا فِي أنْفُسِكمْ فاحْذَروه)، وما في النفوس من
الخواطر الجائلة والهم الجائل والعزم الجائل فيها. فلا يجوز عدم ما علمه
كائناً فيها، ولا يجوز كون ما علمه معدوماً.
فحذرهم مخالفةَ ظاهر أمره ونهيه لأن عليهم السمع والطاعة للأمر إذا
أمروا به، وهم جارون على ما عَلِمَ منهم أنَّهم يختارون الطاعة، ويختارون
المعْصِيَة، فلا سبيل إِلى أن يختاروا خلاف ما علم أنهم يختارونه.
وإن لم يكن الأمر على ما قلنا وجَب أن يكون قولهم: علم اللَّه أفعال العبَادِ قبل كونها إِنما هو علم مجاز لا علم حقيقة.
واللَّه تعالى عالم على حقيقة لا مجاز، والحمد للَّهِ.
وقال قوم - وهو بعد القول الأول قريب -:
إِن المعنى: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا).
أي قد تبرأنَا من جميع ملَّتِكُمْ فما يكون لنا أن نعود في شيءَ منها إِلا أن يشاءَ اللَّه وجهاً من وجوه البر الذي تتقربون به إلى اللَّه، فيأمرنا به، فنكونَ بهذَا قد عُدْنا.
قال أبو إسحاق: والذي عندي - وهو إِن شاءَ اللَّه الْحَقُّ - القول الأول.
لأن قوله: (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا)، إنَّما هو، النجاة من الكفر وأعمال المعاصي لا من أعمال البر.
وقوله: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).
(عِلْمًا) منصوب على التمييز.
وقوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
أهل عُمان يسمُون القاضي الفاتح والفتاح.
357
وجائز أن يكون افتح بيننا وبين قومنا بالحق، أي أظهر أمْرنَا حتى ينفتح
ما بيننا وبين قومنا وينكشف، فجائز أن يكون يسألون بهذا أن ينزلَ بقومهمْ من العذاب والهلكة ما يظهر به أن الحق مَعَهُمْ.
* * *
وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١)
هي الزِلزلة الشديدة.
وقوله جلَّ وعزَّ: (فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثمينَ).
أي أجْسَاماً مُلْقاة في الأرض كَالرمَاد الجَاثِم.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢)
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).
أي كَأَنْ لَمْ ينزلوا فيها.
قال الاصمعي: المَغَاني المنازِلُ التي نزلوا بها، يقال غَنينا بمكان كذا وكذا، أي نَزَلْنَا به.
ويكون (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). كَأَنْ لَمْ ينزلوا كان لم يعيشوا فيها مستغنين، كما قال حاتم طيٍّ:
غَنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى... فكُلاًّ سقاناه بكَأسَيْهما الدهرُ
فما زادنا بَغْياً على ذي قرابةٍ... غِنانا ولا أَزْرَى بأَحْسابنا الفَقْرُ
والعرب تقول للفقير الصعلوك.
* * *
وقوله: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)
أي حين نزل بهم العذاب تولى عنهم.
(وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ).
معنى آسى أحْزَن - أي كيف يَشْتد حُزني.
يقال: أسِيت عَلى الشيءِ آسَى أسىً إِذا اشتدَ حزنُك عَليْه.
قال الشاعر:
وانْحَلَبَتْ عيناه مِن فرْطِ الأسى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤)
يقال لكل مدينة قرية، وإِنما سمِّيَتْ بأنه يجتمع فيها الناس، يقال قريت
الماءَ في الحوضِ إِذا جمعته فيه، فسمِّيْتْ قريةً لاجتماع الناس فيها.
ومكَةُ أم القرى، لأن أهل القرَى يؤمونها أي يقصدونها.
وقوله: (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).
قيل: الْبَأْسَاء كل ما نالهم مِن شِدَّة في أموَالهم، والضَراءُ ما نالهم من
الأمراض، وقيل: الضراء ما نالهم في الأموال، والْبَأْسَاء ما نالهم في أنْفَسهم.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
أي يَخْضعون، والأصْلُ يتَضَرعُون، فأدغمت التاءِ في الضادِ.
* * *
وقوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)
أي كَثروا وَكَثُرَتْ أمْوالهم.
وقوله: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ).
فأخذهم الله ليعتبروا ويُقْلعُوا عن الكفر وتكذيب الأنبياءِ، فقالوا مسَّ
آباءَنا مثلُ هذا، أي قد جرت عادة الزمان بهذا، وليست هذه عقوبة، فبين اللَّه تأولهم بخَطئِهِمْ، وقد علموا أن الأممَ قَد أهْلِكتْ بِكُفْرِهِم قَبْلَهُم.
وقوله: (فَأخَذْنَاهم بَغْتَةً) أي فجأة (وهُمْ لَا يَشعرُون).
فهذا ما أخبر اللَّه تعالى به عن الأمم السالفةِ لتعتبرَ أمَّةُ محمد - ﷺ - فقال:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
أي أتاهم الغيث من السماء والنَباتُ من الأرض. وجعل ذلك زاكياً
كثيراً.
* * *
وقوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧)
أي ليلاً، أي أفَأمِنت الأمةُ التي كذبت النبي محمداً - ﷺ - أن يأتيهم بَأْسُنَا بَيَاتًا. أي ليلاً.
(وَهُمْ نَائمُونَ).
يقال نام الرجل ينام نوماً فهو نائم. وهو حسن النِيمةِ، ورجل نُومةٌ إِذا
كان خَسِيساً لا يؤبه له، ورَجُل نُوَمة إذا كان كثير النوم، وفلان حسن النِّيمة أي حسن هيئة النوم، والنِّيمُ - الفرو.
والفاءَ في قوله: (أَفَأَمِنَ) والواو في قوله (أَوَأَمِنَ)
أمِنَ، فتحت لأنها واو عطف وفاء عطف دخلت عليها ألف الاستفهام.
وقوله: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
يقال لكل من كان في شيء لا يُجْدي أو في ضلال: إِنما أنت لاعب.
وإنَّمَا قيل لهم: (ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُون). أي وهم في غير ما يجدي عليهم.
* * *
وقوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)
أي وأمنوا عذاب الله أن يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
وتقرأ (نَهْدِ) بالنُونِ، فمن قرأ نهدي بالنون فمعناه أولَمْ نبَينْ.
لأن قولك: هديته الطريق معناه بَيَّنْت له الطريق.
ومن قرأ بالياء كان المعنى أو لم يبين الله لهم أنَّه لو يشاء أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وقوله: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ).
ليس بمحمول على أصَبْنَاهم.
المعنى ونحن نطبع على قلوبهم، لأنه لو حمل على أصبْنَاهمْ لكان
ولطبعنا، لأنه على لفظ الماضي، وفي مَعْنَاه.
ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي، ولفظه لفظ المستقبل كما أن لو
نشاءَ معناه لوشئنا.
* * *
وقوله (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١)
وهذا إِخبار عن قومٍ لا يؤمِنونَ.
كما قال جلَّ وعزَّ: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
وكما قال للنبِى - ﷺ -:
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣).
فهذا إِخبار من الله جَل وعز أنَّ هؤلاَءِ لَا يؤمِنُون.
وقال قوم: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ..) أيْ لَيْسُوا مؤمنين
بتكذيبهم، وهذا ليس بشيءٍ، لأن قوله: (كَذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلوبِ
الكَافِرينَ).. يَدُلَ على أنهم قد طُبعَ عَلَى قُلُوبِهمْ.
وموضع الكاف في " كذلك " نصْبٌ.
المعنى مثل ذلك يطبعَ الله على قُلوبِ الكافرِين.
* * *
وقوله: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
هذه " إِن " تدخل واللامَ على معنى التوكيد واليمين.
وتدخل على الأخْبَار. تقول: إِن ظننت زيْداً لَقَائِماً.
* * *
وقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)
(فَظَلَمُوا بِهَا).
أي بالآيات التي جاءَتهم، لأنهم إِذا جاءَتهم الآيات فكفروا بها فقد
ظلموا أبْين الظُلْم، لأن الظلم وضعُ الشيء في غير مَوْضِعِه، فجعلوا بدل
وجوب الإيمان بها الكفر، فذلك معنى قوله (فظَلموا بِهَا).
* * *
وقوله (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥)
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ).
وتقرأ (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ)
ومن قرأ حقيق عَلَيًَّ أن لا أقول فالمعنى
واجب عَليَّ: تركُ القول على اللَّه إِلا بالحقً.
* * *
وقوله: (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
قد أوجب فرعونُ أنَّه ليس بآيةٍ كما ادعى، لأنه قد أوجَبَ له الصدق إن
اتى بآية يعجز عنها المخلوقون.
* * *
وقوله (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
إن شئت قلت: " عَصَا هُو " بالواو. والأجْوَدُ حَذْفُها، أعْنِي الواوَ لسكونها
وسكون الألف، والهاء ليست بحاجز.
وقوله: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ).
قال أبو عبيدة وغيره: الثعبان الحية.. وقال غيره: الحية الذَكَرُ.
وقال اللَّه في موضع آخر (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى).
ومعنى (مُبينُ).
أي مبينٌ أنَّها حَيَّة.
* * *
وقوله: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
معنى نزع يده أظهرها وأبانها.
وقال في مَوضع آخر (وَأدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرجْ بَيْضاءَ).
وفي موضع آخر (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).
فهذا دليل أن معنى نزع يده إخراجُها من جيبه وإِخراجها من جناحِهِ.
وجناح الرجل عَضُدُه وقَلَّ جناحُ الرجل عِطفُه.
وتأويل الجناحين من الِإنسان أنهما كالجَنَاحَين من الطائر.
وهما العَضُدانِ.
وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).
أي تخرج لونها أبيض حُوريًّا.
وكان موسى فيما يُرْوَى أدِمَ.
(مِنْ غَيرِ سُوء).
أي تخرج بيضاءَ بياضاً ليس بِبرص، بياضاً يدل على أنَّه آية.
وكانت عصا موسى إِنما تكون حيَّة، عندَ إِظهارهَا بها الآية، ثم تعود عصا، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (سَنُعيدُهَا سيرَتَها الأُولى).
* * *
وقوله: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩)
وفي هذا الموضع (قال المَلأ مِنْ قَوْم فِرْعَون).
الملأ هُمُ الوُجُوهُ، وذوُو الرأي، وإِنما سُمُّواملأً لأنهم مُلئوا بما يحتاج إليه
مِنهُم.
وقرُئَتْ لسَحَّارٌ عَليمٌ.
* * *
(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠)
قال فرعون مجيباً لهم: (فمَاذَا تَأمُرونَ).
ويجوز أن يكون " فمَاذا تأمُرون " من قول الملأ، كأنهمْ خاطبوا فرعون
ومن يَخُصُّهُ، وجائز أن يكون الخطاب لفرعونَ وحده، لأنه يقال للرئيس
المطاع: ما ترون في هذا؟ أي ما ترى أنت وجندُكَ.
و" مَاذا " يصلح أن تكون " ماذا " اسماً واحِداً، ويكون في موضع نصب.
ويكون المعنى أي شيء تأْمُرون.
ويصلح أن يكون " ذا " في موضع الذي، وتكون ما في معنى رفع.
ويكون المعنى ما الذي تأمُرون.
* * *
وقوله (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١)
تفسير (أَرْجِهْ) أخرِّه، ومعناه أخِّرْ أمرَهَ ولا تعجل في أمرِه بحكم فتكون
عَجَلتكَ حجة عليك.
وفي قوله (أَرْجِهْ) ثلاثة أوجُه قد قرئ بها.
قرأ أبو عَمْرو: أرجِئه وأخاه.
وقرأ جماعة من القراءِ: أرجِهِ وأخاه، وقرأ بعْضُهمْ أرجِهْ وأخاهُ - بإسكان الهاءِ.
وفيها أوجه لا أعلمها قرئ بها. يجوز أرجِهو وأخاه، وأرجهي.
وأرجئهي، وأرجهو بغير همزٍ. فأمَّا من قرأ أرجِه بإسكان الهاء فلا يعرفها
الحذاق بالنحو، وَيزعُمُون أن هاءَ الإِضْمارِ اسم لا يجوز إِسكانها.
وزعم بعضُ النحويين أن إِسكانها جائز.
وقد رْويت لعمري في القراءَة إِلا أن التحريك أكثر وأجْوَد.
وزعم أيضاً هذا أن هاء التأنيث يجوز إِسكانها وهذا لا يجوز.
واستشهد في هذا بشعر مجهول، قال أنشدني بعضهم:
لمَّا رأَى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ
وهذا شعر لا يعرف قائله ولا هو بشيء، ولو قاله شاعر مذكور لقيل
أخطأت، لأنَّ الشاعِر قد يجوز أن يخطئ.
وأنشد أيضاً آخر أجهل من هذا وهو قوله
لست إِذن لزغْبَلهْ... إِن لم أغيِّر بَكْلتي
إِن لم أساو بالطُول.
فجزم الهاءَ في زغبله، وجعلها هاء، وإِنما هي تاء في الوصل.
وهذا مذهب لا يعرج عليه.
* * *
وقوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
وَسَحَّارٍ جميعاً قد قرئ بهما.
وقوله: (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)
أي لكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي.
* * *
وقوله: (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
(وَاسْتَرْهَبُوهُمْ).
أي استدعوا رهبَتَهُم حتى رهبهم الناس.
* * *
وقوله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧)
وتلقَفَ مخففة ومثقلة، يقال لقفْت الشيء ألْقَفُه.
ومعنى قوله (يَأْفِكُونَ): أي يأتون بالإفك وهو الكذب، وذلك أنهم زعَموا
أَن حبَالهم وعصيهم حيات فكذبوا في ذلك، وإنما قيل إنهم جعلوا الزئبق
وصوَّروها بصوَر الحيَّات، فاضطرب الزئبق لأنه لا يستقر.
وقوله: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦).
ْفلمَّا ألقى مُوسى عصاه بلعت عصيهم وحبالَهم)
قال الشاعر:
أنت عصا موسى التي لم تزل... تلقف ما يَأفِكهُ السَّاحِرُ
هذا البيت أنشِد لأبي عبيدة، وزعم التَوزي صاحَبُ أبي عبيْدَة أنَّه لا
يعرفه. وهو صحيح في المعنى.
وقوله جلَّ وعز: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
يقال نقِمت أنقِم، ونقِمْتُ أنقَمُ، الأجود نَقَمتُ أنقِمُ والقراءَة مَا تَنْقِم
وهي أفصح اللغتين.
وقوله: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).
أي، يشتمل علَيْنَا.
وقوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧)
ويُقْرأ (وإِلَاهَتَك) ويجوز (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ).
فَمن نَصَب " (وَيَذَرَكَ) ردَّه على جواب الاستفهام بالواو.
المعنى أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذَرَك.
ومن قال (وَيَذَرُكَ) جَعَلَة مستأنفاً، يكون المعنى: أتذَرُ موسى وهو يذرك وآلهتك.
والأجود أن يكون معطوفاً على (أتذَرُ) فكون أتذَرُ موسى وأيَذَرُكَ موسى.
أي أتطْلِقُ هذا له.
وأمَّا من قرأ وآلهتك، فإِنَّ المعنى أن فِرعَون كانت له أصنام
يعبدها قومه تقرباً إليه.
* * *
وقوله: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
" عسَى " طمعٌ وإِشفاق، إِلا أن ما يطمع اللَّه فيه فهو واجبٌ، وهو معنى
قول المفسرين: إن عَسَى من اللَّه واجبٌ.
وَمعنى: (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)
أي يرى ذلك بوقوع منكم، لأن اللَّه جلَّ وعزَّ لا يجازيهم على ما يعلمه
منهم من خطيئاتهم التي يعلم أنهم عامِلوهَا لا محالة، إِنما يجازيهمْ على ما
وقع منهم.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
السنين في كلام العرب الجدُوبُ، يقال مستهم السَّنَةُ، ومعناه جَدْبُ
السنة وشِدَّةِ السنة ونقص الثمرات.
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
إِنما أخِذُوا بالضراءِ لأن أحوال الشِدةِ تُرِقُ القُلُوب وتُرَغبُ فيما عند اللَّه
وفي الرجوع إِليه، ألا ترى إِلى قوله جلَّ وعزَّ:
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، وقال جلً
وعز: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (٥١).
* * *
وقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١)
أي إِذا جاءَهم الخِصْبُ قالوا أعْطِينَا هذا باستحقاق.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ).
أي جَدْبُ أو ضُر.
(يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ).
المعنى: يتطيَّرُوا. فأدغمَت التاءُ في الطاءِ، لأنهما من مَكان واحد من
طرف اللسانِ وأصول الثنايا.
وتفسير قوله: (يَطَّيَّرُوا): يتشاءَموا، وإِنما قالت العرب الطيرةُ ويتطير فيما
يكرهونَ، على ما اصطلحوا عليه بينهم، جعلوا ذلك أمراً يتشامون به فقال
عزّ وجلَّ: (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ).
المعنى: ألاَ إِنما الشْؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا
ما ينالهم في الدنيا، وقال بعضهم: " طَائِرهم " حظهم، والمعنى واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
زعم بعض النحويين أن أصل " مهما ": مَا تأتنا به، ولكن أبدل من الألف
الأولى الهاء، ليختلف اللفظ، فما الأولى هي ما الجزاءُ، وما الثانية هي التي تزاد تأكيداً للجزاءِ، ودليل النحويين على ذلك إنَّه ليس شيء من حروف الجزاءِ إلا و " ما ".. تزاد فيه، قال اللَّه جلَّ ثناؤه:
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)
كقولك إن تثقفهم في الحرب فشَرِدْهم.
وقوله: (وَإمَا تُعْرِضَنَّ عنهم) أيضاً وهذا في كتاب الله كثير.
وقالوا: جائز أن تكون " مَهْ " بمعنى الكف)، كما تقول مَهْ أي أكفف.
وتكون " ما " الثانية للشرط والجزاءِ، كأنهم قالوا واللَّه أعلم - أكفف مَا تأتينا به من آية.
والتفسير الأول هو الكلام وعليه استعمال الناس.
وهذا ليس فيما فيه من التفسير شيء لأنه يخل اختلاف هَذين التفسيرين بمعنى الكلام.
* * *
وقوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣)
قال الأخفش: الطوفان جمع طوفانَه.
وقيل في التفسير إن الطوفان المطر الذي يُغرقُ من كثرته.
قال الله جلَّ وعزَّ في قصة نوح:
(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
وقيل الطوفان الموت العظيم.
وقوله: (وَالْقُمَّلَ).
قال فيه أبو عبيدة هو الْحَنْمَان صِغار القِرْدَان.
واختلف في تفسيره فقال بعضهم هِيَ دَوَاب أصغَرُ من الْقَمْل.
(وَالدَّمَ).
قيل إِن اللَّه جلَّ وعزَّ: جعل مَاءَهمْ دَماً، فكان الِإسرائيلي يستقي الماءَ
عذباً صافياً، فإِذا أخذه القبطِى تحوَّلَ دَماً صَافِياً.
وقوله: (آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ).
أي إِن بعضها منفصل مِنْ بعض، ويقال إِنه كان بين الآية والآية ثمانية
أيَّامٍ، وأرسلت عليهم الضفادِع تَدْخل في ثِيَابِهِمْ وفي طعامِهِمْ.
و (آيَاتٍ) منصوب على الحال، وهي العلامات.
* * *
وقوله: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤)
والرجز اسم للعذاب.
(قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
وكانوا قد أخذوا بني إِسرائيل بالكد الشَدِيدِ حتى قالوا لموسى:
(أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا).
فيقال إِنهم كانوا يستعملون بنى إسرائيل في تلبين اللَّبِن، وكان
فرعون وأصحابه من القبطِ يفعلون ذلك ببني إِسرائيل، فلما بعث موسى
أَعطوهم اللَّبِنَ يُلَبِّنُونَه، ومنعُوهم التبْن لِيَكون ذلِكَ أشق عليهم.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)
وهو البحرِ، وكذلك هو في الكتب الأول.
* * *
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦)
(وكانُوا عَنْهَا غَافِلِين).
أي كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم.
* * *
وقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
يعني بني إِسرائيل، وكان منهم داوُد وسليمان مَلكوا الأرْضَ
وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى).
يعنى ما وعدهم اللَّه به من إِهلاك عَدوِّهِمْ واستخلافِهِمْ في الأرْضِ.
(وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).
و (يَعْرُشُونَ) جَمِيعاً. يقال عرَشْ يَعْرِش ويعْرُشُ، إِذا هو بنى.
* * *
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
ومعنى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ).
أي يواظبون عليها ويلازمونها، يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عَليْهِ.
عكفَ يَعْكِف ويعْكفُ. ومن هذا قيل للملازم للمسجد معتكف.
* * *
وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)
(مُتَبَّرٌ) مُهلك وَمُدَمَّر، ويقال لكل إِناءٍ مكسَّرٍ مُتَبَّرٌ، وَكُسَارَتُه يقال
له التَبْر.
* * *
وقوله: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠)
أي أغيْرَ اللَّه أطلب لكم إلهاً: (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
* * *
وقوله: (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
المعنى: واذكروا إِذ أنجيناكم من آل فِرْعَوْن.
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).
معنى يسومونكم يولُونكم.
* * *
وقوله: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
((وَوَاعَدْنَا مُوسَى) (وَوَعَدْنَا مُوسَى).
(ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ).
قيل أمره الله أن يصوم ثلاثين يَوْماً، وأن يعمل فيها بما يقرِبه إلى اللَّهِ.
وقيل في العَشرِ أنزِلت عَليْهِ التَوْراة وكُلِّمَ فِيهَا.
وقال بعضهم لما صام ثلاثين يوماً أنكرَ خُلُوفَ فِيهِ فاسْتَاكَ بعود
خَرُّوبِ، فقالت الملائكة إنا كنا نَسْتَنْشِئ مِن فيكَ رائحة المسك فأفسدته
بالسواكَ. فزيدت عَليه عَشْر ليالٍ.
وقد قال في موضع آخر: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).
فهذا دليل أن المواعدة كانت أربعين ليلةً كاملة.
واللَّه جلَّ وعزَّ أعلم.
* * *
وقوله: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).
يجوز هارون بالفتح وهو في موضع جر بدلاً من أخيه، ويجوز لأخيه
هارونُ بضم النُونِ، ويكون المعنى وقال موسى لأخيه، يا هَارون
(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).
* * *
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا).
أي للوقتِ الذي وقَتْنَا له.
(وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).
372
كلم الله موسى تكليماً. خصَّه اللَّهُ أنه لم يكن بينه وبين الله جل ثناؤه
وفيما سَمِعَ أحَدٌ، ولا مَلَك أسْمَعه اللَّهُ كَلَامَهُ، فلما سمع الْكَلاَمَ
(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).
أي قد خاطبتني من حيْثُ لا أراك، والمعنى أرني نفْسَك.
وقوله: (أَرِنِي أَنْظُرْ) مجزوم جواب الأمر.
(قَالَ لَنْ تَرَانِي) ولن نفي لما يستقل.
(وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ).
أي ظهر وبان.
(جَعَلَهُ دَكًّا).
يجوز " دكًّا " بالتنوين، ودَكَاءَ بغَير تنوينٍ، أي " جَعله مَدْقُوقاً مع الأرض.
يقال دككت الشيءَ إِذا دققته، أدُكه دَكًّا، والدكَّاءُ والدَّكاوَاتُ الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها، لا تبلغ أن تكون جبلا.
وقوله: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا).
(صَعِقًا) منصوب على الحال، وقيل إِنه خرَّ مَيِّتاً، وقيل خرَّ مَغشياً عليه.
(فَلَمًا أفَاقَ).
ولا يكاد يقال للميت قد أفاق من مَوْته، ولكن للذي غشي عليه والذي
يذهب عقله قد أفاق من علته، لأن الله جلَّ ثناؤُه قال في الذين ماتوا:
(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ).
وقوله: (قَالَ سُبْحَانَكَ).
373
أي تنزيهاً لك من السوءِ.
جاءَ عن النبي - ﷺ - أن قوْله " سبحان اللَّه "
تنزيه للَّهِ من السوءِ.
وأهل اللغة كذلك يقُولون من غير مَعْرِفةِ بما فيه.
عن النبي - ﷺ - ولكن تفسيره يجمعون عليه.
* * *
وقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
أي أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا.
هذا معنى (أرني انظرْ إِليك) إِلى آخره الآية، وهو قول أهل الْعِلْم وأهل
السنة.
وقال قوم: معنى (أرني أنْظُر إِليك)، أرني أمراً عظيماً لا يُرَى مِثْلُه في
الدنيا مما لا تحتمله بنية موسى، قالوا فأعلمه أنَّه لن يرى ذلك الأمْر، وأن
معنى. (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ): تجلى أمر رَبِّه.
وهذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة، ولا في الكلام دليل أن موسى أراد أن
يرى أمراً عظيماً من أمْرِ اللَّه، وقد أراه اللَّه من الآيات في نفسه ما لا غاية
بَعْدَه.
قد أراه عصاه ثعباناً مبيناً، وَأراه يده تخرج بيضاءَ من غير سوءٍ وكان
أدم، وفرَق البحر بعصاه. فأراه من الآيات العظام ما يستغنى به عن أن
يطلبَ أمراً من أَمر الله عظيماً، ولكن لما سَمِعَ كلام الله قال: رب أرني أنظُر
إِليك، سمعت كلامك فأنا أحب أن أراك. فأعلمه الله جل ثناؤُه إنَّه لن يراه.
ذم أمره الله أن يشكره، فقال:
(يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
أي اتخذتك صفوةً على الناس.
(بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي).
ولو كان إِنما تَبعَ كَلَامَ غير الله لما قال برسالاتي وبكلامي، لأن
الملائكة تنزل إلى الأنبياءِ بكلام اللَّه.
وقوله: (فَخُذْ مَا آتيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين).
ثم أعلَم اللَّه جل ثناؤه أنَّه قد أعطاه من كل شيءٍ يحتاج من أمر الدِّين
مع ما أراه من الآياتِ فقال جلَّ وعزَّ:
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥)
وقيل في التفسير إِنهما كانا لوحين. ويجوز في اللغة أن يقال للوحين
ألواح. ويجوز أن يكون ألواح جمع أكثَر مِنَ اثْنَين.
وقوله: (فَخُذْهَا بِقُوة) أي خُذْها بقوةٍ فى دينك وَحجتِكِ.
وقوله: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
في هذا وجهان، وهو نحو قوله: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)
ونحو قوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).
فيحتمل وجْهيْن:
أحدهمَا أنَّهمْ أمِروِا بالخيْرِ ونُهُوا عن الشرِ، وعرفوا مَا
لَهم فِي ذَلِكَ، فقيلَ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)
ويجوز أن يكون نَحوَ ما أمِرْنا به من الانتصار بعد الظلم، ونحو القصَاص في الجرُوح إِذ قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١).
فهذا كله حَسَنٌ والعفو أحسنُ من القِصاصِ والصَبْرُ أحسن من
الانتصار.
وَقَوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦)
أي اجعَلُ جزاءَهم الِإضْلالَ عن هداية آياتي.
ومعنَى (يَتَكَبَّرُونَ) أي أنهم يرون أنهم أفضَلُ الخلقِ وأن لهم من الحق ما ليس لغيْرِهِم.
وهذه الصفة لا تكون إِلَّا للَّهِ جلَّ ثناؤُه خاصةً لأن الله تبارك وتعالى هو الذي له القدرَة والفضلُ الذي ليس مثله، وَذَلِكَ يَسْتحقُ أن يقال له: المتكَبر، وليس لأحدٍ أنْ يتكبر لأن الناس في الحقوق سواء.
فليس لأحدٍ مَا ليْسَ لِغَيره واللَّه جل ثناؤُه المتكبرُ.
أعلم الله أن هُؤلاءِ يتكبرون في الأرض بغير الحق.
وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا).
وسبيل الغى هو سبيل الضلال، يقال: غوَى الرجل يَغْوِي غيًّا وهو غاوٍ
إذا ضَل.
وقوله: (ذَلِكَ بأنَّهُمْ كذَّبوا بآياتِنا).
" ذَلِكَ " يصلح أن يكون رفعاً، أيإِن أمرَهم ذلك، ويجوز أن يكون
نصباً على معنَى فَعَل اللَّهُ بهم ذلك بأنهم كذبوا بآياتِنَا.
(وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلينَ).
" غافلين " يصلح أن يكون - واللَّه أَعلم - كانوا في تركهم الِإيمان بها
والنظَرِ فيها والتدبر لها بمنزلة الغافلين.
ويجوز أن يكون (وكانوا) عن جوابها غافلين كما تَقول: ما أغفَلَ فلاناً عما
يُرَادُ به.
* * *
وقوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨)
و (مِنْ حُلِيِّهِمْ) ومن حِلِيِّهِمْ.
376
فمن قرأ من (حَلْيِهم) فالحَلْيُ اسم لمَّا يُحَسَّن به من الذهب والفضة.
ومن قرأ (من حُلِيَهِمْ) بضم الحاءِ - فهو جمع حَلْيٍ على حُلِيٍّ مثل حَقْوٍ
وحُقِيٍّ، ومن كسر الحاءِ فقال - من حِلِيِّهِمْ - أتْبَعَ الحاءِ كسر اللام.
ومعنى (من بَعْده) أي من بعد ما جَاءَ الميقات، وخَلفَه هارون في قومه.
وكان لهم حَلْيٌ يجمعونه في أيام زِينتهم، وكان لِلْقُبةِ حَلى عند بني إِسرائيل.
فقال لهم السامري، وكانَ رجلًا مطاعاً فِيهم ذَا قَدْر، وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إِلهاً يعبدونه كما رأوا قوم فرعون يَعْبًدُون الأصنامَ.
فجمع السامِرِي ذلك الحلى، وهو قولهم:
(وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا) أي ألقيناها.
(فكذَلِكَ ألقَى السَّامِرِيُّ) أي وكذلك طرح السَّامِرِيُّ ما كان عندَه
من الحلي فصاغه في العجل.
فقال اللَّه تعالى:
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا).
والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز، إِنما معنى الجَسَد معنى الجثة
فقط.
(لَهُ خُوَارٌ): أي له صوت.
وقيل له خوار - بالحاءِ والجيم - وكلاهما من الصوت، وكان قد عمله.
كما تعْمَل هذه الآلات التي تصوِّت بالْخَيْلِ، فجعله في بيت وأعلمهمُ أن
إلَهَهمْ وإِله موسى عندى.
ويقال في التفسير إِنَّه سُمِعَ صَوْته مرةً واحدةً فقط.
فقال الله عزَّ وجلَّ:
377
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا).
أي لا يُبَين لهم طريقاً إِلى حجة.
* * *
وقوله: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩)
يقال للرجل النادم على مَا فَعَلَ الْخَسِر عَلَى ما فرط منه، قد سُقِطَ في
يده وأسْقِطَ، وقد رُوِيتْ سُقِطَ في القراءَة، فالمعنى: ولما سقط الندم في
أَيديهم، كما تقول للذي يحصل على شيء - وَإِنْ كَانَ مما لا يكون في اليد - قد حصل في يده من هذا مكروه، تُشَبِّهُ ما يحصُل في القلب وفي النفس بما
يرى بالعَيْنِ.
* * *
وقوله: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)
(غَضْبَانَ) منصوب على الحال، وهو على مثال فعلان، وله فَعْلى نحو
غَضْبَى - لم ينصرف، لأن فيه الأَلفَ والنونَ، كألفي حمراء، والأسف:
الشديد الغضب، قال الله جلَّ وعزَّ: (فَلَما آسَفُونَا انتقمنا منهم)، أي فلما
أغضبونَا.
وقوله: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ).
يقال عجلت الأمر والشيءَ سبقته، وأعجلته استحثثته.
(قَالَ ابْنَ أُمَّ).
بالفتح وإِن شئت بن أُمِّ بالكسر، فمن قَالَ ابْنَ أُمَّ بالفتح فإِنه إِنما فتحوا
في ابْنَ أُمِّ وابن عم لكثرة استعمالهم هذا الاسم.
وأن النداءَ كلام محتملٍ للحذف فجعلوا " ابن " و " أمَّ " شيئاً واحداً نحو خمسة عشر.
ومن قال ابن أمِّ - بالكسر - فإِنه أضافه إِلى نفسه بعدَ أن جعله اسماً واحداً، ومن العرب من
يقول: يا ابن أمِّي بإثباتِ الياء.
قال الشاعر:
يا ابن أمي ويا شُسقَيقَ نَفْسِي... أنْتَ خَليْتَنِي لَدَهْر شَدِيد
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)
المعنى اتخذوا العجل إِلهاً.
وقوله: (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
لحقتهم الذلة أنهم رأوا أنهم قد ضلوا وذَلًّوا، والذَلَّةُ هو ما أمروا به مِنْ
قَتْل أنفُسِهِمْ، وقيل إن الذَلَّة أخذ الجزيةِ، وأخذ الجزية لم يقع في الذين
عبدوا العجل، لأن الله جلَّ وعزَّ تاب عليهم بِقَتْلِهِمْ أنفُسهمْ.
* * *
وقوله: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
يقال سكت يسكُتُ سَكْتاً إِدْا هو سكن، وسكت يسكتُ سُكُوتاً وَسَكْتاً
إِذا قطع الكلام، ويقال: رجل سِكِّيت بيّنَ السُّكُوت والساكوتةِ إِذا كان كَثِيرَ السكوتِ، وأصاب فلاناً سُكَّات إِذا أصابه داء منعه من الكلام، والسُّكَيْتُ - بالتخفيف والتشديد - الذي يجيء آخِرَ الْخَيْلُ.
وروى بعضهم: " ولما سُكِتَ عن موسى الغضبُ " ولا تقرأن به لأنه خلاف المصحف.
قول بعضهم: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) معناه: وَلَمَّا سَكَتَ موسَى عن الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخَلْتُ الْقَلَنْسوَّةَ في رَأْسِي.
المعنى أدْخلت رأسي في الْقَلَنْسُوَةِ.
والقول الذي معناه سكن قول أهل العربية.
* * *
وقوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥)
معناه واختار موسى من قومه، وكان موسى اختار من اثني عشر سِبطاً من
كل سبطٍ ستة رجال، فبلغوا اثنين وسبعين رَجُلاً فَخَفَّفَ منهم رَجليْن.
ومعنى اختار قومه، اختار من قومه فحذفت " من " وَوُصِلَ الفعلُ فَنُصِبَ.
يقال اخترت من الرجال زيد واخترت الرجال زيداً.
وأنشدوا:
ومنا الذي اختارَ الرجالَ سماحة... وجوداً إِذا هب الرياح الزعارع
وقوله: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ).
وهي الحركة الشديدة والزلزلة الشديدة.
يقال إِنه رجف بهم الجَبل فماتوا فقال:
(قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ).
أي لو شئت أمتَّهم من قبل أن تأْتيهم بما أوْجَبَ عليهم الرجفة.
* * *
وقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
(إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ).
معناه تُبْنَا إِليك.
(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ).
أَي كل ما خَلَقْته فبرحمتي وفضلي يعيش، فمعناه ورحمتي وَسِعَتْ كل
شيءٍ في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فسَأَكتُبها للذينَ يَتَقُونَ).
في الآخرة، أي أجازيهم بها في الآخرة.
قوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
الْأُمِّيُّ: هو على خلقة الأمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ.
وقوله: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
وهذا أَبلغ في الاحتجاج عليهم لأنه إخبار بما في كُتُبهم.
والنبي - ﷺ - لم يكن يكتب ولا قرأ التوراة والِإنجيلَ، ولا عَاشَر أهلَهما فإتيانه بما فيهما من آيات الله العظام.
ومُحال أن يجيءَ مُدَّع إِلى قوم فيقول لهم ذِكْرِي في
كتابكم، وليس ذلك فيه. وذكره قد أنبأ من آمن من أهل الكتاب به.
وقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
يجوز أن يكون (يَأْمُرُهُمْ) مستأنفاً.
وقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ).
أي يحل لهم ما حُرِّمَ عليهم من طيباتِ الطَّعام.
ويجوز (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) أي ما أخذ مِن وجْههِ طيِّباً.
(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ).
والإصر ما عقدته من عَقْد ثقيل.
(وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)
والأغلال تمثيل، أَلا ترى أنك تقول: جعلت هذا طوقاً في عُنقِك.
وليس هناك طوق، وإِنما تأويله أني قَدْ وَلَّيتُكَ هذا وألزمتك القِيَامَ بِه، فجعلتُ لزومَه لك كالطوق في عنقك.
والأغلال التي كانت عليهم: - كان عليهم أَنه من قتَلَ قُتِل، لا يُقْبَلُ في
ذلك ديَة، وكان عليهم إِذا أَصاب جلودَهُم شيءُ من البَوْل أَن يَقرِضُوه، وكان عليهم ألا يَعْمَلُوا فىِ السبْتِ. فهذه الَأغْلال التي كانت عليهم.
وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ).
أي بمحمد - ﷺ -.
(وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ).
اختلف أهل اللغة في معنى قوله: (وَعَزَّرُوهُ) وقوله: عَزَرْتُ فُلاناً أعزرُه
وأعزُره عزْراً، قال بعضهم: معنى عَزَرْته رَدَدتُه، وقال بعضهم معنَى عَزْرتُه
أَغَثْتُه، وقال بعضهم: يقال عَزَرْتُ الرجلَ أعزِرُه إِذا لمتُهُ، ويقال عزَّرْت فلاناً، قال بعضهم عَزَّرْتْ فُلاناً نصرتُه، وقال بعضهم منِعتُ منه.
فالمعنى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) معنى عزَّروه منعوا أعداءه من الكُفْرِ به.
وقال بعضهم: عَزَّروه بمعنى نصروه، والمعنى قريب لأن مَنْعَ الأعداء منه
نصرته.
ومعنى عزَّرْتُ فلاناً إِذا ضَرَبْتُه ضرباً دونَ الحدِّ، يمنعه بِضَرْبه إِياه عن
مُعَاودَةِ مثل عمله.
وقوله: عَزَّرْتُه رَدَدْتُه يجوز أن يكون منه التعزيز، أي فَعَلْتُ به ما يَرُدُّه عَنْ
المعْصيَةِ.
وقوله: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ).
أي واتَبَعَوا الحقَّ الذي بيانه في القلوب كبيان النورِ في العيون.
* * *
وقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
أَي يَدْعُونَ الناس إِلى الهداية بالحق.
(وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
أَي وبالحق يحكمون.
وقوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
(وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا)
ويجوز عَشِرَةَ- بكسر الشين - المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسْبَاطاً
من نعت " فرقة " كأنه قال: جَعَلْنَاهم أسباطاً وفرقناهم أَسْبَاطاً فيكون أَسباطاً
بدلاً من اثنتي عشرة. وهو الوجه.
وقوله: (أُمَمًا) من نعت (أَسباطاً).
قال بعضهم: " السِّبْطُ القرن الذي يجيءَ بَعْدَ قَرْنٍ، والصحيح أَن
الأسباط في وَلَدِهِ إِسحاق بمنزلة الْقَبَائِل في وَلَدِ إِسْمَاعِيل " فَوَلَدُ كُل من وُلِدَ
من أولاد يعقوب سبط وَوَلَدُ كُل من وَلَدِهِ من وَلَدِ إِسماعيل قبيلة.
وإِنما سُمِّيَ هُؤلاءِ بالأسْبَاطِ، وهؤُلاءِ بالقبائل، لِيُفْصَل بين وَلدِ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَد إِسْحَاقَ.
ومعنى القبيلة من وَلَدِ إِسماعيل معنى الجماعة يقال لِكل جماعة مِنْ
وَلدٍ قَبِيلَة وكذلك يقال لكل جمع على شيء واحد:
قبيلٌ، قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (إنَهُ يَرَاكمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حيث لا تَرَوْنَهُمْ).
فأما الأَسباط فهو مُشْتَق من السَّبَطِ، والسُّبَطُ ضرب من الشَجر تُعْلفُة الِإبِلُ، ويقال للشجرة لها قبائلُ.
فكذلك الأسباطُ من السَّبَط. كأنه جعَلَ إِسحاق بمنزلة شجرة، وجعِلَ إسماعيلُ بمنزلة شجرة.
وكذلك يَفْعَلُ النسابُونَ في النسب يجعلون الوالد بمنزلة الشَّجَرَةِ
ويجعلون الأولاد بمنزلة أغصانها، ويقال: طُوبِىَ لِطرْحِ فلانٍ، وفلان من
شجرةٍ صَالِحَةٍ - فهذا - واللَّه أعلم - معنى الأسبَاطِ والسِّبْطِ.
* * *
وقوله جلّ ثناؤه: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)
383
السؤَال على ضربين، فأحد الضربين أن قال لِتَسْتَخْبرَ عما لَا تَعْلَمُ
لَتَعْلَمَ، والضرب الثاني أن تسأل مستخبراً على وجه التقرير، فتقولُ للرجُلِ أنا فعلتُ كذا؛ وأنت تعلم أنك لم تفعل، فإِنما تسأله لِتُقَررَهُ وَتُوَبخَهُ.
فمعنى أمر النبي - ﷺ - أن يسأل أهل الكتاب عن أهل هذه القرية - وقد أخبر الله جلَّ ثناؤُه
بِقِصتِهَا لِيُقررَهُم بقديم كفرهم، وأن يُعْلِمهُمْ ما لا يُعْلم إِلَّا بكتاب أو وَحْىِ.
(إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ).
أي إِذ يظلمون فِي السبْتِ، يقال أعَدَا، فلان يَعدُو عُدْواناً، وعِدَاءَ
وَعَدْواً، وَعُدُوًّا - إِذَا ظَلَمَ.
وقوله: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ).
حيتان - جمع حوتٍ، وَأكْثرُ ما تسَمًي العربُ السمَك الْحِيتَانَ
والنينان.
(إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)
موضع " إِذ " نصبٌ، المعنى سَلْهُم عن عُدُوهِمْ في السبْتِ، أي سلهم عن
وقت ذلك.
(إِذ تَأَتِيهِمْ).
في موضع نصبٍ أَيْضاً ب (يعدون).
المعنى سلهم إِذ عَدَوْا في وقت الِإتْيانِ.
(شُرَّعًا).
أي ظاهرة، وكانت الحيتان تأتي ظاهرة فكانوا يحتالون بِحَبْسِها في يوم
السبت ثم يأْخذونها في يوم الأحدت ويقال إِنهم جاهروا بأخذها في يوم
السبتِ.
384
وقوله: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
أي مثل هذا الاختبار الشديد نختبرُهُمْ.
وموضع الكاف نصب بقوله: (نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
أي شددت عليهم المحنة بِفِسْقِهِمْ. ويحتمل - على بعد - أن يكون:
ويومِ لا يَسْبِتونَ لا تأْتيهم كذلك أي لا تأْتيهم شرعاً، ويكون نَبلوهم
مستأْنفة، وذلك القول الأول قول الناس وهو الجَيِّد.
* * *
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
الأصل لِمَا، ولكن الألف تحذف مع حروف الجر نحو لِمَ وعَم وَبِمَ.
قال اللَه تعالى: (فبِمَ تُبَشِّرُونَ)، (عَمَ يَتَسَاءَلُونَ).
ومعنى الآية أنهم لَامُوهُمْ في عظة قوم يعلمون أنهم غير مُقْلِعينَ.
هذا الأغلَب عليْهمِ في العلم بهم.
(اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا).
ومعنى (أَوْ) - واللَّه أعلم - أنهم أخبروهم - على قدر ما رأوا من
أعمالهم - أنهُم مًهْلَكُون في الدنيا أو معذبونَ في الآخرة لا محالة.
وقوله: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ).
المعنى قالوا موعظتنا إِياهم معذرة إِلى ربكم وَلَعَلهُمْ يتقُونَ.
فالمعنى أنهم قالوا: الأمر بالمعْروف وَاجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاءِ
لعَلهُمْ يتقونَ، أي وجائز عندنا أَن ينتفعوا بالمعذرة
ويجوز النصْبُ في " مَعْذِرَة " فيكُون المعنَى في قوله: (قالوا معذرة إِلى
رَبِّكم) على معنى يعتذرون مَعْذِرةً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)
(نَسُوا) يجوز أن يكون في معنى تركوا، ويجوز أن يكون تركهم بمنزلة
من نَسِيَ.
وقوله: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ).
أي شديد، يقال بَئِس يَبؤُس بَأساً إِذَا اشْتَد، وقيل إِنَّ القوم كانوا ثَلاثَ
فِرقٍ، فرقةٌ عملت بالسوءِ، وفرقة نهت عن السوءِ، وفرقةٌ أمسكت عن النهي.
وقيل كانوا فرقتين، فرقة نَهتْ عن السوءِ وفرقة عملت بالسوءِ، وبعض الفرقة التي فيها من نهى عن السوءِ مؤمن غير راض بما فَعَل أهلُ السُّوءِ فدخلوا في النجاة مع الذين ينهون عن السوءِ، ونَزَلَ العَذابُ بالذِينَ عَدَوْا في السبت.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)
العاتي: الشديدُ الدخولِ في الفساد، المتمرد الذي لا يَقْبَلُ موعِظة.
وقوله: (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
جائز أن يكونُوا أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سُمِعَ، فيكون أبلغ في
الآية والنازلة بِهِمْ، وجائز أن يكون " فقلنا لهم " من قوله:
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢).
ومعنى " خَاسِئينَ ": أي مُبْعَدِينَ.
وقال قوم: جائز أن تكون هذه القردة المتوَلِّدةُ أصلها منهم
وقال قوم المسخُ لا يبقى ولا يَتَولد، والجملة أنا أخْبِرْنَا بأنهُمْ جُعِلُوا قردة، والقِردةُ هي التي نعرفها.
وهي أكثر شيءٍ في الحيوان شبهاً بابن آدم، واللَّهُ أعلم كيف كانَ
أمْرُهُمْ بعدَ كونهم قِرَدَة.
* * *
وقوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
قال بَعضهم: تَأَذَّنَ: تَألَّى ربك ليبعثن عَليْهم، وقيل: إن تَأَذَّنَ أعلم.
والعرب تقول: تعلم أن هذا كذا، في معنى أعلم.
قال زهير:
تَعلَّمْ أن شرَّ الناسِ حي... ينادي في شعارهمو يسار
وقال زهير أيضاً:
فقلت تَعَلَّمْ أن للصيد غِرةً... وإِلا تضيعها فإنك قَاتله.
وقوله: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).
أي من يوليهم سوءَ العذاب.
فإِن قال قائل قد جعلوا قِردةً فكيف يبْقَون إِلى يوْمِ القِيَامَةِ؟
فالمعنى أن الذكر لليهودِ، فمنهم من مُسخ، وجُعِل منهم القِردة والخنَازيرَ ومن بقي فمعانِدٌ لأمر اللَّه، فهم مُذَلُّون بالقتل، إِلا أن يُعْطُوا الجزية، فهم مذَلَّون بها وهم في كل مكان أذلُّ أهلِه.
قال الله عزَّ وجلَّ: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).
أي إِلا أن يعطوا الذَمَّةَ والعَهدَ.
* * *
وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
يقال للذي يجىءُ في أثر قرنٍ خَلْف.
والخَلَفُ ما أخْلفَ علَيْكَ بدَلًا مما أخذ منك، وُيقَالُ: في هذا خَلَفٌ أيضاً، فأمَّا ما أخلف عليك بدلًا مما ذهب منك فهو الخَلَفُ بفتح اللام.
وقوله: (وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى).
قيل إنهم كانوا يَرْتَشون على الحكم، ويحكمون بجورٍ، وقيل إِنهم كانوا
يرتشون ويحكمون بحق، وكل ذلك عرَضٌ خسيس.
وقوله: (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ).
فالفائدة أنهم كانوا يذنبون بأخذهم الرشِيَ، ويقولوا سيغفر لنا من غير
أن يَتُوبُوا، لأن قوله: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)
دليل على إِصرارهم على الذنب، واللَّه جلَّ وعزَّ وَعَدَ بالمغْفِرَةِ في العظائم التي توجب النار مع التوبة. فقال:
(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
أي فهم ذاكرون لما أخِذَ عليهم.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
" الذين " في موضع رفع، وفيها قولان، أعني في (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، قال قوم: إِنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، وهو الذي نختار
لأن كل من كان غير مؤمن وأصلح فأجره ساقط، قال اللَّه جلَّ وعزَّْ:
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
وقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤).
فالمعنى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) أي يؤمنون به، ويحكمون بما فيه
إنا لا نضيع أجر المصلح منهم والمصلح المقيم على الِإيمان المؤَدَّى
فرائضه اعتقاداً وعَمَلاً، ومثله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)
أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عمَلاً.
وقال قوم: المصلحون لفظ يخالف لفظ الأول، ومعناه معنى الأول فَعَادَ
الذكر في المعنى وإن لم يكن عائداً في اللفظ، ولا يجيز هؤلاءِ زيد قام أبو
عمرو. لأن أبا عمرو لا يوجبه لفظ زيد.
فإن قال قائل: المؤْمن أنا أكرم من اتقى اللَّه، جاز، لأن معنى من اتقى
اللَّه معنى المؤمن، فقد صار بمنزلة قولك زيد ضربته، لأن الذكر إِذا تقدَّم
فالهاء عائدة عليه، لا محالة، وإِن كان لفظها غير لفظه، لأن ضمير الغائب لا
يكون إلا هاءً في النصبِ.
* * *
وقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢)
موضع (إِذ) نصب. المعنى واذكر (إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ).
(مِنْ ظُهُورِهِمْ) بَدل من قوله: (مِنْ بَنِي آدَمَ) المعنى وإذ أخذ ربك
ذُزيتِهُمْ وذرياتِهمْ جميعاً.
وقوله: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
قال بعضهم: خلق اللَّه الناسَ كالذَّرِ من صلب آدَمَ، وأشهدَهُمْ على
توحيده، وهذا جائز أن يكون جعل لأمثَال الذَّرِ فهْماً تعقل به أمره.
كما قال:
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
وكما قال: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ).
وكل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة معناه أنه يُولَدُ وفي قلبه توحيد
اللَّه، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه.
وقال قوم: معناه أنَّ الله جَل ثَنَاؤُه، أخرج بني آدم بعضهم من ظهور
بعض.
ومعنى (وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ).
أن كلَّ بالغ يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ واحدٌ، لأن كل ما خلق الله تعالى دليل على
توحيده، وقالوا لولا ذلك لم تكن على الكافر حجة.
وقالوا فمعنى (وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ) دَلَّهُمْ بخَلْقِه على توحيده.
* * *
وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥)
هذا نسق على ما قبله، المعنى اتلُ عليهم إِذ أخذ ربك من بني آدم.
واتْلُ عَليهْمْ نبَأ الذِي آتَيْناهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ منْها).
هذا فيه غير قول، قيل إِنه كان عنده اسم اللَّه الأعظَم فدعا به على
موسى وأصحابه، وقيل إنه أمَيَّةُ بن أبِي الصلت، وكان عنده علم من الكتب، وقيل إنه يعني به منافقو أهل الكتَاب.
وقوله: (فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ).
أي الفاسدين الهالكينَ.
* * *
وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)
أي لو شئنا أن نحول بينه وبين المعْصِيةِ لفعلْنا، (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ).
معناه ولكنه سكن إلى الدنيا، يقال أخْلدَ فلان إلى كذا وكذا، وخلد إلى
كذا وكذا، وأخْلدَ أكْثرُ في اللغة، والمعنى أنه سكن إلى لذات الأرْض.
(وَاتبَعَ هَوَاهُ).
أي لم يرفعه بها لاتباعه هواه.
وقوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ).
ضرب اللَّه عزَّ وجلَّ: بالتارِك لآياته والعَادِلِ عنها. أحسن مثل في أخَسِّ
أحْوالِه، فقال عزْ وجل: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) إذا كان الكلب لهثان، وذلك أن الكلب إذا كان يلهث فهو لا يقدر لنفسه على ضَر وَلَا نَفْع، لأن التمثيل به على أنه يلهث على كل حال حملت عليه أوتركته، فالمعنى فمثله كمثل الكلب لاهثاً ثم قال:
(ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
* * *
وقال: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
المعنى: ساءَ مثلاً مَثَلُ القوْم.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩)
(أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وصفهم بأنهم لا يُبْصرون بعُيُونهِم ولا يعقلون بقلوبهم. جَعَلَهُم في
تركهم الحق وإعراضهم عنه، بمنزلة من لا يُبْصر ولا يعقل.
ثم قال جلَّ وعزَّ (بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وذلك أن الأنعام تُبْصرُ منافِعَها ومضارَّها فتلزم بعض ما لا تُبصِرُه.
وهُؤلاءِ يعلم أكثَرُهُمْ أنَّه مُعَاندٌ فيقدمُ عَلى النَار.
وقال جلَّ وعزَّ: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
أي على عمل أهل النار.
* * *
وقوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
لا ينبغي أن يدعوه أحد بما لم يصف نفسه به، أو لم يسم به نَفْسَه.
فيقول في الدعاءِ. يا الله يَا رَحْمَنُ يَا جَوَادُ، ولا ينبغي أن يقول:
" يا سبحان " لأنه لم يصف نفسه بهذه اللفظة. وتقول يا رحيم، ولا
يقول: يا رفيق، وتقول يا قوي، ولا تقول يا جَلْدُ.
* * *
وقوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
أي ألم يَسْتدِلوا بما أنبأهم به من ملكوت السَّمَاواتِ والأرْض.
(وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ).
أي إن كانوا يُسَوفُونَ بالتوبة فعسى أن يكون قدْ اقترب أجَلهُمْ.
فالمعنى: أولمْ ينظروا فيما دَلَّهم اللَّه جل ثناؤه على توحيده فكفروا به
بذلك فَلعلَّهُم قد قرُبَتْ آجالُهم فيموتون على الكفر.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).
وقوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
الطغيانُ: الغلو في الكفر.
ويعمهون: يتحيَّرون.
ويجوز الجزمُ والرفعُ في (يَذَرُهُمْ). فمن جَزَمَ عطف على موضع الفاء.
المعنى من يضلل الله يذرهُ في طغيانه عَامهاً.
ومن قرأ (ويذَرُهُمْ) فهو رفع على الاستئناف.
* * *
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
والساعة ههنا التي يموت فيها الخلق.
ومعنى مُرساها مُثَبِّتها، يقال - رسا الشيء يرسو إِذا ثبت فهو راسٍ
وكذلك جبالٌ راسيات، أي ثابتات. وأرْسيْته إِذا أثبتُّه.
فالمعنى يسألونك عن الساعة متى وقوعها.
وقوله: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ).
أي لا يظهرها في وقتها إلا هو.
ومعنى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
قيل فيه قولان، قال قوم: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ثقل وقوعها
على أهل السماوات والأرْضِ.
ثم أعلم جلَّ ثناؤه كيف وقوعها فقال جلَّ وعزَّ:
(لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).
أي إلا فجأة.
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).
المعنى - واللَّه أعلم - يسألونك عنها كأنك فَرحٌ بسَؤالهم، يقال تحفيتُ بفلان
في المسْألَةِ إِذا سألت سؤالًا أظهرت فيه المحببَّةَ والبِربهِ، وأحْفَى فُلان بفُلانٍ
في المسألة، وإِنما تأويله الكثرة ويقال حَفِت الدَّابَّةُ تَحْفَى حَفىً، مَقْصُور إذا
كثر المشي حتى يؤلمها
والحفاء ممدود أن يَمْشِيَ الرجُلُ بغيرِ نَعْلٍ.
وقيل: (كَأنَّكَ حَفِيٌ عَنْهَا)، كأنك أكثرت المسألة عنها.
وقوله: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ).
مَعْنَى (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) لا يعلمها إِلا هوَ.
* * *
وقوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ).
أي لادَّخَرتُ زمن الخِصْبِ لزمن الجَدْب.
وقيل (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي لو كنتُ أعلم ما أسأل عنه من الغيب في
الساعة وغيرها.
وقوله: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).
أي لم يَلْحَقْني تكذيبٌ.
وقيل أيضاً: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي ما بي من جُنُون، لأنهم نسبوا
النبي - ﷺ - إِلى الجنون، فقال: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
ثم بَيَّن لهم مادَلَّهُم عَلى توحيدِ الله عزَّ وجلَّ فقال:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ).
يعني آدمَ.
(وجَعَلَ مِنْها زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)
(فَلَمَّا تَغَشَّاهَا).
كناية عن الجماع أحسن كناية.
(حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً).
يعني المَني، والحمْل ما كان في البَطْن - بفَتْح الحاءِ - أو أخرجَته
الشجرة، والحمْلُ بكسر الحاءِ ما يُحْمَلُ.
وقوله: (فَمَرَّتْ بِهِ).
معنى مرت به استمرت، قعدت وقامت لَمْ يُثْقِلهَا.
(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ).
أي دَنت ولَادَتُها، لأنه أولَ أمره كان خفيفاً، فلما جُعِل إنساناً ودنت
الولادة أثْقلتْ.
وقوله: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا).
أي دعا آدم وحواءٌ رَبهمَا.
(لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
يروى في التفسير أنَّ إِبليس - عليه اللعنة - جاء إلى حواءَ فقال: أتدرين
ما في بطنك؟ فقالت لا أدري، قال فَلعله بهيمة ثم قال: إن دعوت الله أن
يجعله إِنساناً أتَسمِينَه باسمي؟: فقالت، نعم فسمته عَبْد الحارِث، وهو
الحارث. وهذا يروى في التفسير.
وقيل إن آدمَ وحواءَ أصْل. فضرب، هذا مثلاً لمشركي العرب وَعُرَفُوا
كيف بَدَأ الخلقَ، فقيل فلما آتاهما اللَّه - لكل ذَكر وأنْثى - آتاه اللَّهُ ولداً ذكراً أو أُنثى - هو خَلَقَه وصوَّره.
(جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ) يعني الذين عبدوا الأصنام.
(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
الأول هو الذي عليه التفسير، ومن قرأ " شِرْكاً "
فهو مصدرُ شَرِكْتً الرجلَ أشركه شِرْكاً.
قال بعضُهم: كان يَنْبغِي أنْ يكونَ على قراءَة من قرأ شِرْكاً جعلا لَغَيرِه
شِرْكاً، يقول لأنهما لا ينكران أن الأصل الله عزَّ وجلَّ فالشرك إِنما يجعل
لغيره، وهذا على معنى جعلا له ذَا شرْك فحذف ذا مثل (وَاسْأَل الْقَرْيَةَ) (١).
* * *
وقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)
والعفوُ الفضل، والعفوُ ما أتى بغير كُلْفَة.
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ).
أي بالمعروف.
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
* * *
وقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
لادنى حركة تكون، تقوك: قد نَزَغْتهُ إِذَا حركْته.
فالمعنى إِنْ نَالَك مِن الشيطان أدْنى نزغ أي وسْوسة.
وقوله: (مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ).
يقال: طفْت أطُوفُ، وطاف الخيالُ يَطيفً.
وقوله: (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
أي تفكروا فيما هو أوضح لهم من الحجة.
(فإِذا هم مُبْصِرونَ) على بصيرة.
* * *
وقوله: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
(١) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه:
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المروي عن ابن عباس ﴿هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة﴾ وهي نفس آدم ﴿وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ آدم ﴿حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت﴾ أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك؟ فخافت حواء، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله: ﴿فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما﴾ أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً، والمراد به الحرث هذا تمام القصة.
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قال: ﴿فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.
الثاني: أنه تعالى قال بعده: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: ١٩١] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: (أيشركون من لا يخلق شيئاً)، ولم يقل (ما لا يخلق شيئاً)، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة «من» لا بصيغة «ما» الرابع: أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا﴾ فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم؟ الخامس: أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار.
فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله: ﴿وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١] وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس: أن بتقدير أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له، أو جعله صفة له، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من قبله.
فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم، وذلك لا يقوله عاقل.
فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه.
إذا عرفت هذا فنقول: في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد.
التأويل الأول: ما ذكره القفال فقال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك.
فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام.
ثم قال تعالى: ﴿فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزه الله عن ذلك الشرك، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد.
التأويل الثاني: بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، والمراد من قوله: هو الذى خلقكم من نفس قصي وَجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في ﴿يُشْرِكُونَ﴾ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
التأويل الثالث: أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه: الأول: أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام، وحكى عنهما أنهما قالا: ﴿لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال: ﴿فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء﴾ فقوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء﴾ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، والتقرير: فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: ﴿فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم يقال لذلك المنعم: أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك، فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا ههنا.
الوجه الثاني: في الجواب أن نقول: أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله: ﴿فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما﴾ فنقول: التقدير، فلما آتاهما ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذا فيما آتاهما، أي فيما آتى أولادهما ونظيره قوله: ﴿واسئل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] أي واسأل أهل القرية.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء﴾.
قلنا: لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله: ﴿جَعَلاَ﴾ المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع، وهو قوله تعالى: ﴿فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
الوجه الثالث: في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما﴾ عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام، إلا أنه قيل: إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق.
ثم بدا لهم في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته.
وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا قال تعالى: ﴿فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» وعلى هذا التقدير: فالإشكال زائل.
الوجه الرابع: في التأويل أن نقول: سلمنا صحة تلك القصة المذكورة، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث، وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم.
يقال في المثل: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان: كتابة عبد وده فلان.
قال الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا.. ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية.
أهـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٥ صـ ٧٠ - ٧٢﴾
هذا معناه التًقْدِيمُ، المعنى (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ).
يعني الشياطين، لأنَّ الكفار إخوانُ الشياطين، والْغَيُّ الْجَهْلً، والوقوع
في الحركة. ويقال أقصر يُقصِرُ، وقَصَّرَ، يُقَصر.
* * *
وقوله: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
أي هلا اختلقتها، أي هلا أتَيْتَ بها من نفسك، فأعْلمَهُم - ﷺ - أن الآيات من قِبل اللَّه جل ثناؤه.
وقوله: (إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي هذا القرآن الذي أتَيْت به بصائر من ربكم، واحدة البصائر بصيرة.
والبصيرة والبصائر طرائق الدَّم، قال الأشْعَر الْجُعْفِي.
راحوا بصائرهم على أكْتَافِهمْ... وَبَصِيرَتي يَعْدُو بها عَتَدُ وَأيُّ
والبصيرة التُّرْس، وجمعها بصائر.
وجميع هذا أيضاً معناه ظهور الشيء وبيانه.
وقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
يروى أن الكلام في الصلاة كان جائِزاً، فكان يدخل الرجلُ فيقول: كم
صَلَّيْتُمْ فيقال: صلينا كذا. فلما نزلت فاستمعوا له وأنصِتوا حرم الكلامُ في
الصلاة إِلا ما كان مما يتقرب به إِلى اللَّه جل ثناؤُه. ومما ذكَرَتْهُ الفقهاءُ نحو
التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار وما أشبه ذلك. من ذكر الله جلَّ وعز
ومسألته العفو.
ويجوز أن يكون فاستمعوا له وأنصِتُوا، اعملوا بما فيه ولا تجاوزوا لأن
معنى قول القائل: سمع اللَّه دُعاءَكَ. تأويله: أجاب الله دعَاءَك، لأن اللَّه
جلّ ثناؤُه سميع عليم.
* * *
وقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥)
(بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
الآصال جمع. أصُلٍ، والأصل جمع أصيل، فالآصال جمع الجمع.
والآصال العَشِيات.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
يعنى به الْملاَئكة.
(وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهُونَهُ عَن السوءِ.
فإِن قال قائل: الله جل ثناؤُه في كل مكانٍ، قال الله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)
فمن أين قيل للملائكة: (عِنْدَ رَبِّكَ)، فتأويله إنَهُ من قَرُب من رحمة الله وَمِنْ تَفَضُلِهِ وإِحسانه.
Icon