تفسير سورة الأنفال

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

بقوله تعالى: ﴿يسألونك﴾ أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك - وسيأتي بيانه، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة، والذين عندك إنما جعلتهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون ﴿عن الأنفال﴾ التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها - كما نبه عليه آخر الأعراف - لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد، وهو جمع نفل - بالتحريك، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه، والمراد بها هنا الغنيمة، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سميت هنا بذلك لأن أصلها في اللغة الزيادة، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم.
ولما كان السؤال عن حكمها، كان كأنه قيل: فماذا يفعل؟ فقال
217
دالاًّ على أنهم سألوا عن مصرفها وحكمها - ليطابق الجواب السؤال: ﴿قل﴾ أي لهم في جواب سؤالهم ﴿الأنفال لله﴾ أي الذي ليس النصر إلا من عنده لما له من صفات الكمال ﴿والرسول﴾ أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بمواقعة العدى؛ قال أبو حيان: ولا خلاف أن الآية نزلت في يوم بدر وغنائمه، وقال ابن زيد: لا نسخ، إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث إنها ملكه ورزقه، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله والصادع فيها بأمره ليقع التسليم من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك - انتهى.
ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله، وكان ذلك موحباً لتوقفهم إلى بروز أمره سبحانه على لسانه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفاً حتى يأتي الدليل الذي يجسّر على المشي وراءه، سبب عن ذلك قوله: ﴿فاتقوا الله﴾ أي خافوا خوفاً عظيماً في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه، فلا تطلبوا شيئاً بغير أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تتخاصموا، فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وإنزال كتاب لعصمتكم غير مهمل ما يصلحكم، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه
218
لكم، ويمنعكم ما ليس لكم ﴿وأصلحوا ذات بينكم﴾ أي الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم، فإن أغلب أمرها البين الذي هو القطيعة، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبه فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الأمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء، القوي والضعيف سواء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، لتجتمع كلمتكم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمع المفسدين ﴿وأطيعوا الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿ورسوله﴾ أي الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنفيل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده.
ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبيناً كون الإيمان مستلزماً للطاعة: ﴿إن كنتم مؤمنين*﴾ أي صادقين في دعوى الإيمان، فليس كل من يدعي شيئاً يكون صادقاً في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان، ولذلك وصل به قوله مؤكداً غاية التأكيد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر: ﴿إنما المؤمنون﴾ أي الراسخون في وصف الإيمان ﴿الذين﴾ أي يقيمون الدليل على دعوى الإيمان بتصديق أفعالهم لأقوالهم فيكونون ﴿إذا ذكر الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال مجرد ذكر في نحو قوله ﴿الأنفال لله﴾ ﴿وجلت﴾ أي خافت خوفاً عظيماً يتخلل صميم عظامهم ويجول في سائر معانيهم وأجسامهم ﴿قلوبهم﴾ أي
219
بمجرد ذكره استعظاماً له ﴿وإذا تليت﴾ أي قرئت على سبيل الموالاة والاتصال من ايّ تال كان ﴿عليهم آياته﴾ أي كما يأتي في إقامة الأدلة على ذلك الحكم الذي ورد ذكره فيه ﴿زادتهم إيماناً﴾ أي بإيمانهم بها وبما حصل لهم من نور القلب وطمأنينة اليقين بسببها، فإنها هي الدالة على الله بما تبين من عظيم أفعاله ونعوت جلاله وجماله، وتظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وكمال قدرة الله تعالى إنما يعرف بواسطة آثار حكمته في مخلوقاته، وذلك بحر لا ساحل له، ولما كانت المراتب لا نهاية لها، كانت مراتب التجلي والمعرفة لا نهاية لها، فالزيادة في أشخاص التصديق ﴿وعلى﴾ أي والحال أنهم على ﴿ربهم﴾ أي الدائم الإحسان إليهم وحده ﴿يتوكلون﴾ أي يجددون إسناد أمورهم إليه مهما وسوس لهم الشيطان بالفقر أو غيره ليكفيهم من حيث لا يحتسبون، فإن خزائنه واسعة، ويده سحاء الليل والنهار، كما أنهم لما توكلوا عليه في القتال نصرهم وقد كانوا في غاية الخوف من الخذلان، وكان حالهم جديراً بذلك لقلقهم وخوفهم وقتلهم وضعفهم.
ولما وصفهم بالإيمان الحامل على الطاعة والتوكل الجامع لهم الدافع للمانع منها، منتقلاً من عمل الباطن إلى عمل الظاهر مبيناً أن همتهم إنما هي العبادة والمكارم: ﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي يفترون عن تجديد ذلك؛ ولما كانت صلة بين الخلق والخالق، أتبعها الوصلة بين
220
الخلائق فقال: ﴿ومما رزقناهم﴾ أي على عظمتنا وهو لنا دونهم ﴿ينفقون*﴾ ولو كانوا مقلين اعتماداً على ما عندنا فالإنفاق وإهانة الدنيا همتهم، لا الحرص عليها، فحينئذ يكونون كالذين عند ربك في التحلي بالعبادة والتخلي من الدنيا إعراضاً وزهادة، وهو تذكير بوصف المتقين المذكور أول الكتاب بقوله: ﴿الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾.
221
ولما حققوا إيمانهم بأفعال القلوب والجوارح والأموال، فاستوفوا بذلك جميع شعب الدين، عظم سبحانه شأنهم بقوله: ﴿أولئك﴾ أي العالو الهمم ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿المؤمنون﴾ وأكد مضمون الجملة بقوله: ﴿حقاً﴾.
ولما كانت صفاتهم الخمس المذكورة المشتملة على الأخلاق والأعمال لها تأثيرات في تصفية القلوب وتنويرها بالمعارف الإلهية، وكلما كان المؤثر أقوى كانت التأثيرات أعلى، فلما كانت هي درجات كان جزاؤها كذلك، فلهذا قال سبحانه تعالى في جواب من كأنه قال: فما جزاؤهم على ذلك؟ ﴿لهم درجات﴾ ولما كثرها بجمع السلامة بما دل عليه سياق الامتنان، عظمها بقوله: ﴿عند ربهم﴾ أي بتسليمهم لأمره.
ولما كان قدر الله عظيماً، وكان الإنسان عن بلوغ ما يجب عليه من ذلك ضعيفاً حقيراً، وكان بأدنى شيء من أعماله يستفزه الإعجاب، أشار سبحانه إلى أنه لا يسعه إلا العفو ولو بذل فوق الجهد فقال:
221
﴿ومغفرة﴾ أي لذنوبهم إن رجعوا عن المنازعة في الأنفال وغيرها، ﴿ورزق كريم*﴾ أي لا ضيق فيه ولا كدر بوجه ما من منازعة ولا غيرها، فهو يغنيهم عن هذه الأنفال، ويملأ أيديهم من الأموال من عنائم فارس والروم وغير ذلك، هذا في الدنيا، واما في الآخرة فما لا يحيط به الوصف؛ قال أبو حيان: لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وهي الوجل وزيادة الإيمان والتوكل - وبدنية ومالية، ترتب عليها ثلاثة أشياء، فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات والبدنية بالغفران، وقوبلت المالية بالرزق الكريم، وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البديع - انتهى. ولما كان الإيمان عند الشافعي رحمه الله الاعتقاد والإقرار والعمل جوز أن يقال: مؤمن إن شاء الله، لأن استيفاء الأعمال مشكوك فيه وإن كان الاعتقاد والإقرار يقيناً، وعند أبي حنيفة رحمه الله الإيمان الاعتقاد والإقرار فقط، فلم يجوز الاستثناء، فالخلاف لفظي، هذا إذا كان الاستثناء للشك، وإن كان لغيره كان لكسر النفس عن التمدح، وللشهادة بالجنة التي هي للمؤمن، وللحكم على حالة الموت، على أن هذه الكلمة لا تنافي الجزم، فهي بمجرد التبرك كقوله تعالى ﴿لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين﴾ [الفتح: ٢٧] ذكر ذلك الإمام فخر الدين.
ولما كان ترك الدنيا شديداً على النفس، وترك النزاع بعد الانتساب فيه أشد، شرع يذكر لهم ما كانوا له كارهين ففعله بهم
222
وأمرهم به لعلمه بالعواقب فحمدوا أثره، ليكون ادعى لتسليمهم لأمره وازدجارهم بزجره، فشبه حال كراهتهم لترك مرادهم في الأنفال بحال كراهتهم لخروجهم معه ثم بحال كراهتهم للقاء الجيش دون العير، ثم إنهم رأوا أحسن العاقبة في كلا الأمرين فقال: ﴿كما﴾ أي حالهم في كراهية تسليم الأنفال - مع كون التسليم هو الحق والأولى لهم - كما كانت حالهم إذ ﴿أخرجك ربك﴾ أي المحسن إليك بالإشارد إلى جميع مقاصد الخير ﴿من بيتك بالحق﴾ أي الأمر الفيصل الفارق بين الثابت والمزلزل ﴿وإن﴾ أي والحال أن ﴿فريقاً﴾ عبر به لأن آراءهم كانت تؤول إلى الفرقة ﴿من المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان ﴿لكارهون*﴾ ثم ذكر دليل كراهتهم فقال: ﴿يجادلونك﴾ أي يكررون ذلك إرادة أن يفتلوك عن اللقاء للجيش إلى الرجوع عنه.
ولما كان الجيش امراً قد حتمه الله فلا بد من وقوعه مع أنه يرضيه، قال: ﴿في الحق﴾ أي الذي هو إيثار الجهاد ﴿بعد ما تبين﴾ أي وضح وضوحاً عظيماً سهلاً من غير كلفة نظر بقرائن الأحوال بفوات العير وتيسير أمر النفير وبإعلام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم تارة صريحاً وتارة تلويحاً كقوله «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع فلان وذلك مصرع فلان».
ولما كان سبحانه قد حكم باللقاء والنصرة تأييداً لوليه وإعلاء لكلمته مع شدة كراهتهم لذلك، شبه سوقه لهم إلى مراده.
223
فقال بانياً للمفعول لأن المكروه إليهم السوق لا كونه من معين: ﴿كأنما يساقون﴾ أي يسوقهم سائق لا قدرة لهم على ممانعته ﴿إلى الموت وهم ينظرون*﴾ لأنها كانت أول غزوة غزاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فيها لقاء، وكانوا غير متأهبين للقتال غاية التأهب، إنما خرجوا للقاء العير، هذا مع أنهم عدد يسير، وعدد أهل النفير كثير، وكانوا في غاية الهيبة للقائهم والرعب من قتالهم، وكل هذا تذكير لهم بأنه لم ينصرهم إلا الله بلا صنع منهم، بل كانوا في يد قدرته كالآلة في يد أحدهم، لينتج ذلك أنه ليس لهم أن ينازعوا في الأنفال.
ولما لانوا بهذا الخطاب، وأقبلوا على الملك التواب، أقبل عليهم فقال: ﴿وإذ﴾ أي اذكروا هذا الذي ذكره الله لكم وقد كان حالكم فيه ما ذكره، ثم أفضى إلى سعادة عظيمة وعز لا يشبهه عز، واذكروا إذ ﴿يعدكم الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿إحدى الطائفتين﴾ : العير أو النفير، وأبدل من الإحدى - ليكون الوعد بها مكرراً - قوله: ﴿أنها لكم﴾ أي فتكرهون لقاء ذات الشوكة ﴿وتودون﴾ أي والحال أنكم تحبون محبة عظيمة ﴿أن غير ذات الشوكة﴾ أي السلاح والقتال والكفاح الذي به تعرف الأبطال ويميز بين الرجال من ذوات الحجال ﴿تكون لكم﴾ أي العير لكونها لم يكن فيها إلا ناس قليل، يقال: إنهم أربعون رجلاً، جهلاً منكم بالعواقب، ثم تبين لكم أن ما فعله الله خير لكم بما لا يبلغ كنهه، فسلموا له الأمر في السر والجهر
224
تنالوا الغنى والنصر، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير العاصمي في مناسبة تعقيب الأعراف بهذه السورة ومناسبة آخر تلك لأول هذه ما نصه: لما قصَّ سبحانه على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سوة الأعراف أخبار الأمم، وقطع المؤمنون من مجموع ذلك بأنه لا يكون الهدى إلا بسابقة السعادة، لافتتاح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام، وكلاهما كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى منه على بلعام بقوله سبحانه ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أضل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جملة فقال تعالى
﴿يسألونك عن الأنفال﴾ [الأنفال: ١] الآية، فكان قد قيل لهم: اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم، وفوضوا في أمره لله وللرسول، فذلك أسلم لكم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم وترك أمور ربكم وقد ألف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيراً وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر والقطرة، والخطبة في العدة واعتداد النوم الثقيل ناقضاً، فهذه مظان لم يقع الحكم فيها على ما هو لأنفسها ولا بما هي كذا، بل بما هي مظان ودواع لما منع لعينه
225
أو استوجب حكماً لعينه وعلته الخاصة به، ولما أمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر إذ كان المقاتلة قد هموا بأخذها وحدثوا أنفسهم بالأنفراد بها ورأوا أنها من حقهم وأن من لم يباشر قتالاً من الشيوخ ومن انحاز منه لمهم فلا حق له فيها، ورأى الآخرون أيضاً أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فيه للمقاتلين عدة وملجأ وراء ظهورهم، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله رسوله من باب حسم الذرائع لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرئاسة النفوس واستسهال اتباع الأهواء، فأمرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض الله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الأتباع ﴿فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ [الأنفال: ١] الآية، ثم ذكروا بما ينبغي لهم يلتزموا فقال تعالى ﴿إنما المؤمنون﴾ [الأنفال: ٢]- إلى قوله: ﴿زادتهم إيماناً﴾ [الأنفال: ٢] ثم نبهوا على أن أعراض الدنيا من نفل أو غيره لا ينبغي للمؤمن أن يعتمد عليه اعتماداً يدخل عليه ضراراً من الشرك أو التفاتاً إلى غير الله سبحانه بقوله: ﴿وعلى ربهم يتوكلون﴾ ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق ثم قال ﴿أولئك هم المؤمنون حقاً﴾ تنبيهاً على أن من قصر في هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره، وكان في هذا إشعار بعذرهم في كلامهم في الأنفال وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب وشرب من
226
التمسك والأتباع، ولكن أعلى الدرجات ما بين لهم ومنحوه، وأنه الكمال والفوز، ثم نبههم سبحانه بكيفية أمرهم في الخروج إلى بدر وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم وهو سبحانه يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم، فقد كانوا تمنوا لقاء العير، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء ذلك
﴿ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين﴾ [الأنفال: ٧] إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً﴾ [الأنفال: ٢٩] الاية، وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معاً في قوله ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ [الأنفال: ٢٩] بعد تفصيل ما إليه إسراع المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه تنزيهاً للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات، والغفران من ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلاً مع ما لا يجانسه ولا يشاكله ﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ [العنكبوت: ٦٤] ثم التحمت الآي، ووجه آخر وهو
227
أنه تعالى لما قال ﴿وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له﴾ بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله﴾ [الأنفال: ٢] الآية، فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيماناً، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا ﴿ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون﴾ [الأنفال: ٢١] ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أعراضهم وشهواتهم ﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ [الأعراف: ١٦٩] ﴿ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه﴾ [الأعراف: ١٧٦] وهذه بعينها كانت آفة إبليس، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال ﴿لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون﴾ [الحجر: ٣٣] فلما كان اتباع الهوى أصلاً في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء، والتسليم فيما لهم به تعلق وغن لم يكن هوى مجرداً لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها ما يشاء ﴿فاتقوا الله﴾ واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره ﴿وأصلحوا ذات بينكم﴾ برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي
228
عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله ﴿إنما المؤمنون﴾ - الآيات، ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصاً بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا﴾ [البقرة: ١٠٤] ولما كان قصصهم مفتتحاً بذكر تفضيلهم ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين﴾ افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم، وتأمل ما بين ﴿يا بني إسرائيل﴾ و ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وأمر أولئك بالإيمان ﴿وآمنوا بما أنزلت﴾ [البقرة: ٤١] وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل ﴿وقولوا انظرنا واسمعوا﴾ [البقرة: ١٠٤] ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيها، أعقبت بقوله تعالى؛ ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين﴾ [آل عمران: ١٠٠] ثم أعقبت السورة بقوله ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة﴾ [النساء: ١] وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار ﴿هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً﴾ [النساء: ٥١] فهذا بهت، ومنها قولهم ﴿الله فقير ونحن أغنياء﴾ [آل عمران: ١٨١] إلى
229
ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم، فعدل عن ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ إلى ﴿يا أيها الناس﴾ ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات﴾ [النساء: ١٦٠]- إلى قوله: ﴿وأكلهم أموال الناس بالباطل﴾ [النساء: ١٦١] أتبعت بقوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ [المائدة: ٥١] ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة، وبين فيها اعتداءهم، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا﴾ [الأعراف: ٢٠١] ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعاً فيما كان منهم، فكان قد قيل لهم: ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآي، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه، والحمد لله - انتهى.
ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما يقسمه الله لهم لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره، فقال تعالى عاطفاً على ﴿وتودون﴾ :﴿ويريد الله﴾ أي بما له من العز والعظمة والعلم ﴿أن يحق الحق﴾
230
اي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب، وهو هنا إصابة ذات الشوكة ﴿بكلماته﴾ أي التي أوحاها إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر ﴿ويقطع دابر﴾ أي آخر ﴿الكافرين*﴾ أي كما يقطع أولهم، أي يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد يشاقق أهل حزبه فهو يدبر أمركم على ما يريد، فلذلك اختار لكم ذات الجد والشوكة ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم ﴿ليحق الحق﴾ أي الذي هو دينه القيم وفيه فوز الدارين ﴿ويبطل الباطل﴾ وهو كل ما خالفه ﴿ولو كره﴾ أي ذلك ﴿المجرمون*﴾ أي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويكسر قوتهم بضعفكم ويفني كثرتهم بقلتكم ويمحق عزهم بذلتكم فيظهر علو أمره ويخضع الأعناق لذكره ﴿إذ﴾ ظرف ﴿ليحق الحق﴾ ﴿تستغيثون ربكم﴾ أي تطلبون إغاثة المحسن إليكم، وهو بدل من ﴿إذ يعدكم﴾ فهو من البيان لكراهتهم لقاء ذات الشوكة بشدة جزعهم الموجب لهم الاستغاثة مع إسفار العاقبة عن أن الخير فيما كرهوه، وأنه أحق الحق وأظهر الدين وأوهن أمر المشركين.
ولما أسرع سبحانه الإجابة، دل على ذلك بقوله: ﴿فاستجاب﴾ أي فأوجد الإجابة إيجاد من هو طالب لها شديد الرغبة فيها ﴿لكم﴾ بغاية ما تريدون تثبيتاً لقلوبكم ﴿أني﴾ أي بأني ﴿ممدكم﴾ أي موجد
231
المدد «لكم» أي بإمدادكم، ولعله حول العبارة لما في التصريح بضميره من العظمة والبركة ﴿بألف من الملائكة﴾ حال كونهم ﴿مردفين*﴾ أي متبعين بأمثالهم.
232
ولما كانت نصرة المسلمين في هذه الغزوة ظاهرة جداً، قال: ﴿وما جعله الله﴾ اي الإمداد والوعد به على ما له سبحانه من العظمة التي من راقبها لم يهب شيئاً ﴿إلا بشرى﴾ أي لتستبشر به نفوسكم، ولم يحتج إلى تقييد بأن يقال: لكم، وأما في قصة أحد فقد كان المقتول منهم أكثر من المقتول من الكفار فلولا قوله «لكم» لربما طرق بعض الأوهام حين سماع أول الكلام أن الإمداد بشرى للكفار.
ولما كان الذي وقع الحكم به هنا على الإمداد أنه بشرى نفسه من غير قيد، علم أن العناية به أشد، فكان المحكوم به الطمأنينة كذلك، فكان أصل الكلام: إلا بشرى هو وطمأنينة هو، فلذلك وجب تقديم ضميره في قوله «به» على القلوب تأكيداً لأمره وتفخيماً لشأنه، وإشارة إلى إتمامه على عادة العرب في تقديم ماهم به أعنى وهو عندهم أهم فقال: ﴿ولتطمئن﴾ أي وطمأنينة لتطمئن ﴿به﴾ أي وحده من غير نظر إلى شيء من قوتكم ولا غيرها ﴿قلوبكم﴾ فالآية من الاحتباك، وأما في قصة أحد فلما قيدت البشرى بالإمداد بلكم لما تقدم، علم الطمأنينة كذلك، فكان الأنسب تأخير ضميره وتقديم القلوب الملابسة لضميرهم موازنة لقوله «لكم».
232
ولما كان ذلك مفهماً أن النصر ليس إلا بيده وأن شيئاً من الإمداد أو غيره لا يوجب النصر بذاته، صرح به في قوله: ﴿وما النصر﴾ أي حاصلاً وموجوداً بالملائكة وغيرهم من الأسباب ﴿إلا من عند الله﴾ أي لأن له وحده صفات الكمال، فما عنده ليس منحصراً في الإمداد بالملائكة فالنصر وإن كان بها فليس من عندها، فلا تعتمدوا على وجودها ولا تهنوا بفقدها اعتماداً عليه سبحانه خاصة، فإن ما عنده من الأسباب لا يحيط به علماً، هذا إذا أراد النصر بالأسباب، وإن أراد بغير ذلك فعل فكان التعبير بعند لإفهام ذلك.
ولما كانت هذه الغزوة في أول الأمر، وكانوا بعد بروز الوعد الصادق لهم بإحدى الطائفتين كارهين للقاء ذات الشوكة جداً، ثم وقع لهم ما وقع من النصر، كان المقام مقتضياً لإثبات عزة الله وحكمته على سبيل التأكيد إعلاماً بأن صفات الكمال ثابتة له دائماً، فهو ينصر من صبر واتقى بعزته، ويحكم أمره على أتم وجه بحكمته، هذا فعله دائماً كما فعل في هذه الغزوة فلذلك قال معللاً لما قبله مؤكداً: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿عزيز﴾ أي هو في غاية الامتناع والقهر لمن يريد قهره أزلاً وأبد. لا يغلب ولا يحوج وليه إلى زيادة العدد ولا نفاسة العدد ﴿حكيم﴾ أي إذا قضى أمراً كان في غاية الإتقان والإحكام، فلا يستطيع أحد نقص شيء منه، هذا له دائماً، فهو يفعل في نصركم هكذا مهما استأنستم
233
إلى بشراه ولم تنظروا إلى قوتكم ولا غيرها مما سواه فلا تقلقوا إذا أمركم بالهجوم على البأس ولو كان فيه لقاء جميع الناس.
ولما أكد هنا، لم يحتج إلى إعادة تأكيده في آل عمران فقيل ﴿العزيز الحكيم﴾ [آل عمران: ١٢٦] أي الذي أخبركم عن عزته وحكمته في غزوة بدر بما يليق بذلك المقام من التأكيد، وأخبركم أنكم إن فاديتم الأسرى قتل منها في العام المقبل مثل عددهم، فوقوع الأمر على ما قال مغن عن التأكيد، ولم يكن أحد من المسلمين في أحد متردداً في اللقاء ولا هائباً له الإ ما وقع من الهم بالفشل من الطائفتين والعصمة منه في الحال، وقد مضى في آل عمران لهذا مزيد بيان.
ولما ذكر البشرى والطمأنينة بالإمداد، ناسب أن يذكر لهم أنه أتبع القول الفعل فألقى في قلوبهم بعزته وحكمته الطمأنينة والأمن والسكينة بدليل النعاس الذي غشيهم في موضع هو أبعد الأشياء عنه وهو موطن الجلاد ومصاولة الأنداد والتيقظ لمخاتلة أهل العناد، وكذا المطر وأثره، فقال مبدلاً أيضاً من ﴿إذ يعدكم﴾ أو معلقاً بالنصر أو بما في الظرف من رائحة الفعل مصوراً لعزته وحكمته: ﴿إذ يغشاكم﴾ بفتح حرف المضارعة في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فالفاعل ﴿النعاس﴾ وضم الباقون الياء،
234
وأسكن نافع الغين وفتحها الباقون وشددوا الشين المكسورة، فالفاعل في القراءة الأولى مفعول هنا، والفاعل ضمير يعود على الله، ولما ذكر هذه التغشية الغريبة الخارقة للعوائد، ذكر ما فعلت لأجله فقال: ﴿أمنة﴾ ولما كان ذلك خارقاً للعادة، جاء الوصف بقوله: ﴿منه﴾ أي بحكمته لأنه لا ينام في مثل تلك الحال إلا الآمن، ويمنع عنكم العدو وأنتم نائمون بعزته، ولم يختلف فاعل، الفعل المعلل في القراءات الثلاث لأن كون النعاس فاعلاً مجاز، ويصح عندي نصبها على الحال.
ولما كان النعاس آية الموت، ذكر بعده آية الحياة فقال: ﴿وينزل عليكم﴾ وحقق كونه مطراً بقوله: ﴿من السماء ماء﴾ ووقع في البيضاوي وأصله وكذا تفسير أبي حيان أن المشركين سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه، وليس كذلك بل الذي سبق إلى بدر وغلب على مائها المؤمنون كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، فيكون شرح القصة أنم مطروا في المنزل الذي ساروا منه إلى بدر فحصل للمسلمين منه ما ملؤوا منه أسقيتهم فتطهروا من حدث أو جنابة ولبد لهم الرمل وسهل عليهم المسير، وأصاب المشركين ما زلق أرضهم حتى منعهم المسير، فكان ذلك سبباً لسبق المسلمين لهم إلى المنزل وتمكينهم من بناء الحياض وتغوير
235
ما وراء الماء الذي نزلوا عليه من القلب كما هو مشهور في السير، ويكون رجز الشيطان وسوسته لهم بالقلة والضعف والتخويف بكثرة العدو، والربط على القلوب طمأنينتهم وطيب نفوسهم بما أراهم من الكرامة كما يوضح ذلك جميعه قول ابن هشام ﴿وينزل عليكم من السماء﴾ ماء للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركين أن يسبقوا إلى الماء وخلى سبيل المؤمنين إليه ﴿ليطهركم به﴾ أي من كل درن، وابتدأ من فوائد الماء بالتطهير لأنه المقرب من صفات الملائكة المقربين من حضرات القدس وعطف عليه - بقوله: ﴿ويذهب عنكم﴾ أي لا عن غيركم ﴿رجز الشيطان﴾ بغير لام ما هو لازم له، وهو العبد الذي كان مع الحدث الذي منه الجنابة المقربة من الخبائث الشيطانية بضيق الصدر والشك والخوف لإبعاد من الحضرات الملائكة «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب» والرجز يطلق على القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك، فقد كان الشيطان وسوس لهم، ولا شك أن وسوسته من أعظم القذر فإنها تجر من تمادى معها إلى كل ما ذكر؛ ثم عطف عليه ما تهيأ له القلب من الحكم الإلهية وهو إفراغ السكينة فقال: ﴿وليربط﴾ أي بالصبر واليقين.
ولما كان ذلك ربطاً محكماً غالباً عالياً، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: ﴿على قلوبكم﴾ أي بعد إسكانها الوثوق بلطفه عند كل ملمة حتى
236
امتلأت من كل خير وثبت فيها الربط، فشبهها بجراب ملىء شيئاً ثم ربط رأسه حتى لا يخرج من ذلك الذي فيه شيء، وأعاد اللام إشارة إلى أنه المقصد الأعظم وما قبله وسيلة إليه وعطف عليه بغير لام لازمه من التثبيت فقال: ﴿ويثبت به﴾ أي بالربط بالمطر ﴿الأقدام*﴾ أي لعدم الخوف فإن الخائف لا تثبت قدمه في المكان الذي يقف به، بل تصير رجله تنتقل من غير اختيار أو بتلبيد الرمل.
ولما ذكر حكمة الإمداد وما تبعه من الآثار المثبتة للقلوب والأقدام، ذكر ما أمر به المدد من التثبيت بالقول والفعل فقال: ﴿إذ﴾ بدلاً ثالثاً من ﴿إذ يعدكم﴾ أو ظرفاً ليثبت ﴿يوحي ربك﴾ أي المحسن إليك بجميع ذلك ﴿إلى الملائكة﴾ وبين أن النصر منه لا من المدد بقوله: ﴿أني معكم﴾ أي ومن كنت معه كان ظافراً بجميع مأموله ﴿فثبتوا﴾ أي بسبب ذلك ﴿الذين آمنوا﴾ أي بأنواع التثبيت من تكثير سوادهم وتقوية قلوبهم وقتال أعدائهم وتقليلهم في أعينهم وتحقير شأنهم؛ ثم بيّن المعية بقوله: ﴿سألقي﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿في قلوب الذين كفروا﴾ أي أوجدوا الكفر ﴿الرعب﴾ فلا يكون لهم ثبات ﴿فاضربوا﴾ أي أيها المؤمنون من الملائكة والبشر غير هائبين بسبب ذلك.
237
ولما كان ضرب العنق والراس أوحى مهلك للإنسان، وكان العنق يستر في الحرب غالباً، عبر بقوله: ﴿فوق الأعناق﴾ أي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح.
ولما كان إفساد الأصابع أنكى ما يكون بعد ذلك لأنه يبطل قتال المضروب أو كمال قتاله، قال: ﴿واضربوا منهم كل بنان﴾ أي فإنه لا مانع من ذلك لكوني معكم، ثم علل تسليطهم عليهم بقوله: ﴿ذلك﴾ أي التسليط العظيم، وأخبر عنه بقوله: ﴿بأنهم﴾ أي الذي تلبسوا الآن بالكفر ولو كانوا ممن يقضي بايمانه بعد ﴿شاقوا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا يطاق انتقامه ﴿ورسوله﴾ أي طلبوا أن يكونوا بمخالفة الأوامر والنواهي في شق غير الذي فيه حزب الهدى في مكر منهم وخداع، وشاقوه باشتهار السيف جهراً - ثم بين ما لفاعل ذلك، فقال عاطفاً على تقديره: فمن شاق الله ورسوله فافعلوا به ذلك، فإني فاعل به ما فعلت بهؤلاء، وأظهر الإدغام في المضارع لأن القصة للعرب وأمرهم في عداوتهم كان بعد الهجرة شديداً ومجاهرة، وأدغم في الماضي لأن ما مضى قبلها كان ما بين مساترة بالمماكرة ومجاهرة بالمقاهرة، وعبر بالمضارع ندباً إلى التوبة بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأدغم في الحشر في الموضعين لأن القصة لليهود وأمرهم كان ضعيفاً
238
ومساترة في مماكرة: ﴿ومن يشاقق الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ويشاقه سراً أو جهراً ﴿ورسوله﴾ بأن يكون في شق غير الشق الذي يرضيانه ﴿فإن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿شديد العقاب*﴾ أي له هذه الصفة، فليتوقع مشاققه عذابه، فالآية من الاحتباك: ذكر الفعل المدغم أولاً دليل على حذف المظهر ثانياً، والمظهر ثانياً على حذف المدغم أولاً.
ولما ختم الآية ببيان السبب الموجب لإهانة الذين كفروا وبما له من الوصف العظيم، أتبعه ما يقول لهم لبيان الحال عند ذلك بقوله التفاتاً إليهم لمزيد التبكيت والتوبيخ.
239
﴿ذلكم﴾ أي هو سبحانه بما له من هذا الوصف الهائل يذيق عدوه من عذابه ما لا طاقة لهم به ولا يدان، فيصير لسان الحال مخاطباً لهم نيابة عن المقال: الأمر الذي حذرتكم منه الرسل وأتتكم به الكتب وكنتم تستهزئون به أيها الكفرة هو هذا الأمر الشديد وقعه البعيد على من ينزل عليه دفعه دهمكم، فما لكم لا تدافعونه! كلا والله شغل كلاًّ ما قابله ولم يقدر أن يزاوله.
ولما كان ما وقع لهم في وقعة بدر من القتل والأسر والقهر يسيراً جداً بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، سماه ذوقاً لأنه يكون بالقليل ليعرف به حال الكثير فقال: ﴿فذوقوه﴾ أي باشروه قهراً مباشرة
239
الذائق واعلموا أنه بالنسبة إلى ما تستقبلونه كالمذوق بالنسبة إلى المذوق لأجله ﴿وأنَّ﴾ أي والأمر الذي أتتكم به الرسل والكتب أن لكم مع هذا الذي ذقتموه في الدنيا، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال: ﴿للكافرين﴾ أي على كفرهم وإن لم يظهروا المشاققة ﴿عذاب النار*﴾ وهو مواقعكم وهو أكبر وسترون.
ولما قرر إهانتهم في الدنيا والآخرة بما حسر عليهم القلوب، حسن أن يتبع ذلك نهي من ادعى الإيمان عن الفرار منهم وتهديد من نكص عنهم بعد هذا البيان وهو يدعي الإيمان فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي بما أتاهم من عند ربهم ﴿إذا لقيتم الذين كفروا﴾ أي بآيات ربهم فشاققوه، وعبر عن حال لقائهم بالمصدر مبالغة في التشبيه فقال: ﴿زحفاً﴾ أي حال كونهم زاحفين محاربين وهم من الكثرة بحيث لا يدرك من حركتهم - وإن كانت سريعة - إلا مثلل الزحف ﴿فلا تولوهم الأدبار*﴾ أي هرباً منهم وإن كنتم أقل منهم ﴿ومن يولهم﴾ ولما كان الأغلب في وقوع القتال النهار، وكان التولية مما لا يكون الظرف معياراً له لأنها مما لا يمتد زمنه، فالعصيان يقع بمجرد الالتفات بقصد الفرار، والتمادي تكرير أمثال، لا شرط في صحة
240
إطلاق الاسم، عبر باليوم، وجرده عن «في» ندباً إلى الكر بعد الفر مع عدم الالتباس، فإن الظرف لا يكون معياراً للفعل إلا إذا كان ممتد الزمان كالصوم فقال ﴿يومئذ﴾ أي إذ لقيتم على هذه الحالة في أيّ وقت كان من أوقات القتال من ليل كان أو نهار ﴿دبره﴾ أي يجعل ظهره إليهم لشيء من الأشياء تولية لا يريد الإقبال إلى القتال منها ﴿إلا﴾ أي حال كونه ﴿متحرفاً﴾ أو الحال التحرف، وهو الزوال عن جهة الاستواء ﴿لقتال﴾ أي لا يتسهل له إلا بذلك يخيل إلى عدوه أنه منهزم خداعاً له ثم يكر عليه ﴿أو متحيزاً﴾ أي متنقلاً من حيز إلى آخر ومتنحياً ﴿إلى فئة﴾ أي جماعة أخرى من أهل حزبه هم أهل لآن يرجع إليهم ليستعين بهم أو يعينهم.
ولما كان هذا محل توقع السامع للجواب وتفريغ ذهنه له، أجاب رابطاً بالفاء إعلاماً بأن الفعل المحدث عنه سبب لهذا الجزاء فقال: ﴿فقد باء﴾ أي رجع ﴿بغضب من الله﴾ اي الحائز لجميع صفات الكمال ﴿ومأواه جهنم﴾ أي تتجهمه كما أنه هاب تجهم الكفار ولقاء الوجوه العابسة بوجه كالح عابس ﴿وبئس المصير*﴾ هذا إذا لم يزد الكفار عن
241
الضعف - كما سيأتي النص به.
ولما تقدم إليهم في ذلك، علله بتقرير عزته وحكمته، وأن النصر ليس إلا من عنده، فمن صح إيمانه لم يتوقف عن امتثال أوامره، فقال مسبباً عن تحريمه الفرار وإن كان العدو كثيراً، تذكيراً بما صنع لهم في بدر، ليجريهم على مثل ذلك، ومنعاً لهم من الإعجاب بما كان على أيديهم في ذلك اليوم من الخوارق ﴿فلم تقتلوهم﴾ أي حلَّ على المدبر الغضب لأنه تبين لكل مؤمن أنه تعالى لا يأمر أحداً إلا بما هو قادر سبحانه على تطويقه له، فإنه قد وضح مما يجري على قوانين العوائد أنكم لم تقتلوا قتلى بدر وإن تعاطيتم أسباب قتلهم، لأنكم لم تدخلوا قلوب ذلك الجيش العظيم الرعب الذي كان سبب هزيمتهم التي كانت سبب قتل من قتلتم، لضعفكم عن مقاومتهم في العادة، وفيه مع ذلك زجر لهم عن أن يقول أحد منهم على وجه الافتخار: قتلت كذا وكذا رجلاً وفعلت كذا ﴿ولكن الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا يخرج شيء عن مراده ﴿قتلهم﴾ أي بأن هزمهم لكم لما رأوا الملائكة وامتلأت أعينهم من التراب الذي رماهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقلوبهم جزعاً حتى تمكنتم من قتلهم خرق عادة كان وعدكم بها، فصدق مقاله وتمت أفعاله.
ولما رد ما باشروه إليه سبحانه، أتبعه ما باشره نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دلالة على ذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى قريشاً مقبلة قال: اللهم! هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، فقال
242
جبرائيل عليه السلام: خذ قبضة من تراب فأرمهم بها، ففعل فملأت أعينهم فانهزموا فقال: ﴿وما رميت﴾ أي يا سيد المؤمنين الرمل في أعين الكفار ﴿إذ رميت﴾ أي أوقعت صورة قذفه من كفك، لأن هذا الأثر الذي وجد عن رميك خارق للعادة، فمن الواضح أنه ليس فعلك، وهذا هو الجواب عن كونه لم يقل: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، لأن زهوق النفس عن الجراح المثخن هو العادة، فهم الذين قتلوهم حين باشروا ضربهم، فلا يصح: فلم تقتلوهم حتى قتلتموهم، والمنفيّ إنما هو السبب المتقدم على القتل الممكن من القتل، وهو تسكين قلوبهم الناشىء عند إقدامهم وإرعاب الكفار الناشىء عند ضعفهم وانهزامهم الممكن منهم، فالمنفي عنهم البداية والمنفي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغاية، أو أن الملائكة عليهم السلام لما باشرت قتل بعضهم صح أن ينفي عنهم قتل المجموع مطلقاً، أو أنهم لما افتخر بعضهم بقتل من قتل نفاه سبحانه عنهم مطلقاً لأن مباشرتهم لقتل من قتل في جنب ما أعد لهم من الأسباب وأيدهم به من الجنود عدم، وأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه فعل ما أمر به من رمي الرمل ولم يعد فعله ولا ذكره، فأثبته سبحانه له مع نفي تأثيره عنه وإثباته لمن إليه ترجع الأمور تأديباً منه سبحانه لهذه الأمة، أي لا ينظر أحد إلى شيء من طاعته، فإنا قد نفينا هذا الفعل العظيم عن أكمل الخلق مع أنه عالم مقر بأنه منا فليحذر الذي يرى له فعلاً من عظيم سطواتنا، ولكن لينسب جميع أفعاله الحسنة إلى الله تعالى كما نسب الرمي إليه بقوله: ﴿ولكن الله﴾
243
أي الذي لا راد لأمره ﴿رمى﴾ لأنه الذي أوصل أثره بما كان هازماً للكفار، فعل ذلك كله ليبلي الكفار منه بأيدي من أراد من عباده بلاء عاقبته سيئة ﴿وليبلي المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان ﴿منه﴾ أي وحده ﴿بلاء حسناً﴾ أي من النصر والغنيمة والأجر، ومادة بلاء يائية أو واوية بأيّ ترتيب كان تدور على الخلطة، وتارة تكون مطلقة نحو أبلاه عذراً، وتارة بكثرة ومحاولة وعناء وهو أغلب أحوال المادة، وتارة تكون للامتحان وأخرى لغيره، وماأباليه بالة - أظنه من البال الذي هو الخاطر فهو من بول لا بلو، أجوف لا من ذوات الأربعة، ومعناه: ما أفاعله بالبال، أي ما أكترث به فما أصرف خاطري إلى مخالطة أحواله حيث يصرف خاطره إليّ أي ما أفكر في أمره لهوانه عليّ وسيأتي بسط معاني المادة إن شاء الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى
﴿ما بال النسوة﴾ [يوسف: ٥٠] وهذه المادة معناها ضد الدعة، لأن هذه يلزمها شغل الخاطر الذي عنه ينشأ التعب بمدافعة الملابس، والدعة يلزمها هدوء السر وفراغ البال الذي هو منشأ الراحة، فمعنى الآية أنه تعالى فعل ذلك من الإمكان من إذلال الكفار ليخالطهم من شؤونه ما يكون لهم في مدافعته عاقبة سيئة، وليخالط المؤمنين من ذلك ما يكون لهم في مزاولته عاقبة حسنة بل أحسن من الراحة، لأنه يفضي بهم
244
إلى راحة دائمة، والدعة تقضي إلى تعب طويل - والله موفق.
ولما ثبت بما مضى أن له تعالى الأفعال العظيمة والبطشات الجسمية. ودلت أقوال من قال من المؤمنين: إنا لم نتأهب للقاء ذات الشوكة، على ضعف العزائم؛ ختم الآية بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ﴿سميع﴾ أي لأقوالكم من الاستعانة في المعونة على النصرة وغيرها ﴿عليم*﴾ أي بعزائمكم وإن لم تتكلموا بها، فهو يجازي المؤمن على حسب إيمانه والكافر على ما يبدي ويخفي من كفرانه، الأمر ﴿ذلكم﴾ العظيم الشأن البعيد المتناول الذي أمركم فيه بأوامره ونهاكم به عن مناهيه وأبلاكم فيه البلاء الحسن، وأراكم بأعينكم توهينه لهذه الطائفة التي قصدتكم وأنتم عندها أكلة جزور وعصفور بين يدي صقور، وبين لكم من علل ذلك وعجائب مقدوره ما لم يبق معه عذر لمؤمن، فألزموا طاعته وسابقوا في طاعة رسوله ولا تنظروا في عاقبة شيء مما يأمر به، فإنه ما ينطق عن الهوى بل إنما يأمر عنا، ونحن لم نأمر بشيء إلا بعد تدبيره على أحكم الوجوه وأتقنها ﴿وأنَّ﴾ أي والأمر أيضاً أن ﴿الله﴾ أي الحاوي لجميع صفات العز والعظمة ﴿موهن﴾ أي مضعف إضعافاً شديداً ثابتاً دائماً أبداً ﴿كيد الكافرين*﴾ أي الراسخين في الكفر جميعهم، فلا تهنوا في ابتغاء القوم وإن نالكم قرح فإنا نجعله لكم تطهيراً وللكافرين تدميراً والعاقبة للتقوى، فنطلعكم على عوراتهم ونلقي الرعب
245
في قلوبهم ونفرق كلمتهم وننقض ما أبرموا.
ولما تضمن ذلك إيقاع الإهانة بالكفار بهذه الوقعة، والوعد بإلزامهم الإهانة فيما يأتي، كان ذلك مفصلاً للالتفات إلى تهديدهم في قالب استجلائهم والاستهزاء بهم وتفخيم أمر المؤمنين فقال: ﴿إن تستفتحوا﴾ أي تسألوا الفتح أيها الكفار بعد هذا اليوم كما استفتحتم في هذه الوقعة عند أخذكم أستار الكعبة وقت خروجكم بقولكم: اللهم انصر أهدى الحزبين، وأكرم الجندين، وأعلى الفئتين، وأفضل الدينين، ووقت ترائي الجمعين؛ بقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة؛ أتاكم الفتح كما أتاكم في هذا اليوم ﴿فقد جاءكم﴾ أي في هذا اليوم بنصر المؤمنين ﴿الفتح﴾ أي الذي استفتحتم له لأنهم أهدى الفئتين وأكرم الطائفتين ﴿وإن تنتهوا﴾ أي بعد هذا عن مثل هذه الأقوال والأفعال المتضمنه للشك أو العناد ﴿فهو خير لكم﴾ وقد رأيتم دلائل ذلك ﴿وإن تعودوا﴾ أي إلى المغالبة لأنكم لم تنتهوا ﴿نعد﴾ أي إلى خذلانكم ﴿ولن تغني عنكم﴾ أي أبداً ﴿فئتكم﴾ أي جماعتكم التي ترجعون إليها للاعتزاز بها ﴿شيئاً﴾ أي من الإغناء ﴿ولو كثرت﴾ لأن الله على الكافرين ﴿وأنَّ الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿مع المؤمنين*﴾ أي الراسخين في الإيمان، ولعله عبر المستقبل في الشرط والماضي في الجزاء
246
إشارة إلى أنكم استفتحتم في بدر وجاءكم من الفتح ما رأيتم، فإن كان أعجبكم فألزموه في المستقبل، فإني لا أجيئكم أبداً ما دمتم على حالكم إلا بما جئتكم به يومئذ، والفتح يحتمل أن يكون بمعنى النصر فيكون تهكماً بهم، وأن يكون بمعنى القضاء.
ولما كان سبب ما أحله بالكفار - من الإعراض عن إجابتهم فيما قصدوا من دعائهم ومن خذلانهم في هذه الوقعة وإيجاب مثل ذلك لهم أبداً - هو عصيانهم الرسول وتوليهم عن قبول ما يسمعونه منه من الروح؛ حذر المؤمنين من مثل حالهم بالتمادي في التنازع في الغنيمة أو غيرها فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك ﴿أطيعوا الله﴾ أي الذي له جميع العز والعظمة ﴿ورسوله﴾ تصديقاً لدعواكم الإيمان.
ولما كانت طاعة الرسول هي طاعة الله لأنه إنما يدعوه إليه وإنما خلقه القرآن، وحد الضمير فقال: ﴿ولا تولوا عنه﴾ أي عن الرسول في حال من الأحوال، في أمر من الأوامر من الجهاد وغيره، من الغنائم وغيرها، خف أو ثقل، سهل أو صعب ﴿وأنتم﴾ اي والحال أنكم ﴿تسمعون*﴾ أي لكم سمع لما يقوله، أو وأنتم تصدقونه، لأن ارتكاب شيء من ذلك يكذب دعوى الإيمان وينطبق علىأحوال الكفار، وإلى ذلك إشارة بقوله: ﴿ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا﴾ أي بآذاننا ﴿وهم لا يسمعون*﴾ أي لا يستجبون فكأنهم لم يسمعوا، لما انتفت
247
الثمرة عد المثمر عدماً.
248
ولما كانت حال من هذا شأنه مشابهة لحال الأصم في عدم السماع لعدم الانتفاع به، والأبكم في عدم كلامه لعدم تكلمه بما ينفع، والعادم للعقل في عدم عقله لعدم انتفاعه به، قال معللاً لهذا النهي معبراً بأنسب الأشياء لما وصفهم به: ﴿إن شر الدواب﴾ أي التي تدب على وجه الأرض، جعلهم من جنس الحشرات أو البهائم ثم جعلهم شرها.
ولما كان لهم من يفضلهم، وكانت العبرة بما عنده سبحانه، قال تعالى: ﴿عند الله﴾ أي الذي له جميع الكمال من إحاطة العلم والقدرة وغيرها ﴿الصم البكم﴾ أي الطرش الخرس طرشاً وخرساً بالغين ﴿الذين لا يعقلون*﴾ أي لا يتجدد لهم عقل، ومن لم ينتفع بسماع الداعي كان كذلك.
ولما كان ذلك ربما دعا السامع إلى أن يقول: ما للقادر لم يقبل بمن هذا شأنه إلى الخير؟ أجاب بأنه جبلهم من أول الأمر - وله أن يفعل في مِلكه ومُلكه ما يريد - جبلة عريقة في الفساد، وجعل جواهرهم شريرة كجوهر العقرب التي لا تقبل التأديب بوجه ولا تمر بشيء إلا لسبته، فعلم سبحانه أنه لا خير فيهم فتركهم على ما علم منهم ﴿ولو علم الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿فيهم خيراً﴾ أي قبولاً للخير ﴿لأسمعهم﴾ أي إسماعاً هو الإسماع، وهو ما تعقبه الإجابة المستمرة.
248
ولما كان علم الله تعالى محيطاً، وجب أن يعلم كل ما كان حاصلاً، فكان عدم علمه بوجود الشيء من لوازم عدمه، فلا جرم كان التقدير هنا: ولكنه لم يعلم فيهم خيراً، بل علم أنه لا خير فيهم فلم يسمعهم هذا الإسماع ﴿ولو أسمعهم﴾ وهم على هذه الحالة من عدم القابلية للخير إسماعاً قسرهم فيه على الإجابة ﴿لتولوا﴾ أي بعد إجابتهم ﴿وهم معرضون*﴾ أي ثابت إعراضهم مرتدين على أعقابهم، ولم يستمروا على إجابتهم لماة جبلوا عليه من ملاءمة الشر ومباعدة الخير، فلم يريدوا الإسلام وأهله بعد إقبالهم إلا وهناً، وكما كان لأهل الردة الذين قتلوا مرتدين بعد أن كانوا دخلوا في الإسلام خوفاً من السيف ورغبة في المال وهو من وادي ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام: ٢٨] فإن علم الله تعالى أربعة أقسام: جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وأن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً كيف يكون حاله، وأن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله، والقسمان الأولان علم بالواقع، والآخران علم بالقدر، والآية من القسم الأخير، ولعمري إنا دفعنا إلى زمان أغلب من فيه على قريب من هذا الأمر، أجرأ الناس على الباطل، وأثبتهم في المصاولة فيه، وأوسعهم حبلاً في التوصيل إليه، وأجبنهم عند الدعوة
249
إلى الحق، وأسرعهم نكوصاً عند الإقدام بعد جهد عليه، وألكنهم عند الجدال له، فصار ما كان مقدراً مفروضاً حاصلاً وموجوداً، وكلمة ﴿لو﴾ هنا يحتمل أن تكون هي التي يعلق بها أمر على آخر هو بضده أولى فيكون المراد أن المعلق.
وهو الثاني - موجود دائماً مثل قول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب رضي الله عنه! لو لم يخف الله لم يعصه، فالمراد هنا على هذا أنهم إذا كانوا يتولون مع الإسماع والإجابة، فتوليهم مع عدمهما أولى - نبه على ذلك الرازي، ويحتمل أن يكون على بابها من أن الجزءين بعدها منفيان، وانتفاء التولي إنما يكون خيراً إذا نشأ عن الإسماع المترتب على علم الخير فيهم، وأما عدمه لعدم إسماعهم الإسماع الموصوف لأنه لا خير فيهم فليس من الخير في شيء بل هو شر مخص، التولي المنفي عنهم ليس هو الموجود منهم، بل هو الناشىء عن الإسماع الموصوف فلا يناقض ادعاؤه تحقق عنادهم وعدم انقيادهم، وتحقيقه أن المنفي إنما هو زيادة التولي الناشئة عن الإسماع، فالمعنى: ولو أسمعهم لزادوا إعراضاً، فالمنفي في هذا السياق تلك الزيادة - والله الموفق.
250
ولما كان ما مضى من نكال الكافرين مسبباً عن عدم الاستجابة، أمر المؤمنين بها تحذيراً من الكون الكفرة في مثل حالهم فيحشروا معهم في مآلهم فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ﴿استجيبوا﴾ أي صدقوا دعواكم ذلك بإيجاد الإجابة إيجاد من هو في غاية الرغبة فيها ﴿لله﴾ أي واجعلوا إجابتكم هذه خاصة للذي له جميع صفات الكمال ﴿وللرسول﴾ الذي أرسله إلى جميع الخلق.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوهم لا محالة لأن الله تعالى أمره بدعائهم، وكان لا يدعوهم إلا إلى ما أمره الله به، وكان سبحانه لا يدعو إلا إلى صلاح ورشد؛ عبر بأداة التحقيق ووحد الضمير وشوق بإثمار الحياة فقال: ﴿إذا دعاكم﴾ أي الرسول بالندب والتحريض.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب، نبه على ذلك باللام دون «إلى» فقال: ﴿لما يحييكم﴾ أي ينقلكم بعز الإيمان والعلم عن حال الكفرة من الصمم والبكم وعدم العقل الذي هو الموت المعنوي إلى الحياة المعنوية، ولا يعوقكم عن الاستجابة في أمر من الأمور أن تقولوا: إنا استجبنا إلى الإيمان وكثير من شرائعه، فلولا أن ربنا علم فينا الخير ما أسمعنا، فنحن ناجون؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد ابن المعلي رضي الله عنه قال: «كنت أصلي فمر بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا﴾ -
251
الآية، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد، فذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخرج فذكرت له فقال: هي ﴿الحمد لله رب العلمين﴾ [الفاتحة: ١] » هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته «»
وللترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أبي بن كعب رضي الله عنه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبيّ! وهو يصلي، فالتفت أبيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: السلام عليك يارسول الله! فقال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبيّ! وهو يصلي، فالتفت أبيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعليك السلام، ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك، فقال: يا رسول الله! إني كنت في الصلاة، قال: فلم تجد فيما أوحي الله إليّ أن ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ [الأنفال: ٢٤] قال: بلى! ولا أعود إن شاء الله! قال: تجب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم، يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده! ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته» - هذا حديث حسن صحيح.
ولما كان الإنسان إذا كان على حالة يستعبد جداً أن يصبر على
252
غيرها، قال تعالى مرغباً مرهباً: ﴿واعلموا أن الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿يحول﴾ أي بشمول علمه وكمال قدرته ﴿بين المرء وقلبه﴾ فيرده إلى ما علم منه فيصير فيما كشفه الحال كافراً معانداً بعد أن كان في ظاهر الحال مؤمناً مستسلماً فيكون ممن علم الله أنه لا خير فيه وقسره على الإجابة فلم يستمر عليها، ويرد الكافر بعد عناده إلى الإيمان بغاية ما يرى من سهولة قيادة، فكنى سبحانه بشدة القرب اللازم للحيلولة عن شدة الاقتدار على تبديل العزائم والمرادات، وهو تحريض على المبادرة إلى اتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دامت القلوب مقبلة على ذلك خوفاً من تغييرها.
ولما خوفهم عاقبة الحال، حذرهم شأن المآل فقال: ﴿وأنه﴾ أي واعلموا أنه تعالى ﴿إليه تحشرون*﴾ لا إلى غيره، فيحشر المستجيبين في زمرة المؤمنين، والمعرضين في عداد الكافرين وإن أبوا حكماً واحداً، لأن الدين لا يتجزأ، وقدم علم أن «إذا» ليست قيداً وإنما هي تنبيه على وجوب اتباعه في كل ما يدعو إليه لعصمته، وحكمة الإتيان بها الإعلام بأنه ما ترك خيراً إلا دعا إليه؛ قال الحرالي في أواخر كتاب له في أصوال الفقه: ولها - أي العصمة - معنيان: أحدهما عصمة الحفظ، وهو معنى ينشأ من التزام الحكم عليه بماضي شرعته، وهي العصمة العامة للأنبياء، وفي هذه الرتبة يقع الكلام في الحفظ من الصغائر بعد
253
الاتفاق على الحفظ عما يخل بالتبليغ ويحط الرتبة والكبائر، وحقيقة الصغائر مقدمات الذنوب التي لم تتم، فيكون تمامها كبيرتها، وعلى ذلك بنى قوم احتمال وقوع الفعل محظوراً من نبي، وكل ذلك - وإن كان من أحوال أنبياء - فإن المتحقق من أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو علو عن هذا المحل؛ المعنى الثاني من العصمة رفع الحكم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما حفظه الحافظ من ماضي ظاهر شرعته وبما بلغ إليه فهمه من مبادىء التنشؤ من سننه، واتخاذ فعله مبدأ للأحكام في كل آن من غير التفات لما تقرر في ماضي الزمان، وهذه هي العصمة الخاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامع، فلا يكون لفعله حكم إلا ما يفهمه إنباؤه عن حال وقوعه، ويكون الأحكام تبعاً لفعله، لا أن فعله يتبع حكماً، فهذا وجه عصمته الخاصة الممتنع عليها جواز الخروج عنها، فمن كان يسبق إليه من أكابر الصحابة نحو من هذا المعنى لا يتوقف في شيء من أمره كالصديق رضي الله عنه وكما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في اقتدائه حتى في إدارة راحلته وصبغه بالصفرة ولبسه النعال السبتية ونحو ذلك من أمره وأمر من حذا منهم هذا الحذو، ومن كان يتوهم الحكم عليه بمقتضى علمه وفهمه من أمر شرعته لا يكاد يسلم من وقوع في أمر يرد عليه انتحاله كما حكم أبيّ رضي الله عنه لما كان يصلي بإمضاء عمل الصلاة إذ دعاه حتى بين له قصور فهمه عن الله
254
في حقه أي بقوله: ألم تسمع الله يقول ﴿استجيبوا لله وللرسول﴾ وكالذي قال: انزل فاجدع لنا، فقال: إن عليك نهاراً، فقال له في الثالثة أو الرابعة: انزل فاجدع لنا ويلك أو ويحك! فإذا وضح أن فعله مبدأ الحكم ومعلم الإنباء لزم صحة التأسي به في جميع أحواله، إما على بيان من تعين رتبة الحكم من وجوب أو ندب أو أباحة، أو على مطلق التأسي مع إبهام رتبة الحكم والاتكال على ما عنده هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم، فنية التأسي به على إبهام في الحكم ربما كان أتم من العمل بما تبين حكمه، أحرم علي رضي الله عنه وهو باليمن، توجه إلى مكه بإحرام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يتطرق لشيء من أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما وقع من كونه يفتي بأمر ثم يوافق في غيره، لأن الآخذ في ذلك عن قصور في العلم بمكانته من علم رحمانية الله وكلمته وتنزيله إلى موافقة أمر سنة الله وحكمته نحو الذي أفتاه بتكفير الجهاد كل ذنب بناء على علمه برحمانية الله وإمضاء كلمته، ثم ذكر له ما قال جبرائيل عليه السلام من استثناء الدين الدين مما أنزل على حكم أمر الله في محكم شرعته وسنته، يعني - والله أعلم - أن من صح جهاده تكفر كل ذنوبه، وأن توقف الدين على إرضاء الله لخصمه، فالإخبار بالكفارة ناظر إلى المآل، والإخبار بنفيها ناظر إلى الابتداء، وكذلك أفتى بترك التلقيح بناء على إنفاذ كلمة الله، وردهم غلى عادة دنياهم حين لم يتجشموا الصبر
255
إلى ظهور كلمة الله على مستمر عادته، فقد عمل بأول فتياه غير واحد ممن لم يسترب في نفاذ حكمه وصحته فأخفق ثمرات ثلاث سنين ثم عاد - في غنى عن التلقيح - إلى أحسن من حاله في متقدم عادته، ولا يتقاصر عن إدراك ذلك من أمره في كل نازلة من نحوه إلا من لم يسم به التأييد إلى معرفة حظ من مكانته، فإذا وضح ذلك فكل فعل فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كان بياناً لواجب فهو منج من عقاب الله، وإن كان تعليماً لقربي من الله فهو وصلة إلى محبة الله كما قال تعالى
﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ [آل عمران: ٣١] وإن لم يتضح له مجمل منهما تأسى بها على إبهام يغنيه عمله وتعلو به نيته، وما كان مختصاً به فلا بد من إظهار أمر اختصاصه بخطاب من الله سبحانه أو منه عليه السلام كما قال تعالى ﴿خالصة لك من دون المؤمنين﴾ [الأحزاب: ٥٠]-انتهى.
256
ولما كان لمجيب ربما قال: ليس عليّ إلا الإجابة في خاصة نفسي، وليس عليّ تعريض نفسي للأذى بالأخذ على يد غيري، نبَّه سبحانه على أن ذلك منابذة للدين واجتثاث له من أصله، لأن ترك العاصي على عصيانه كترك الكافر على كفرانه، وذلك موجب لعموم البلاء، ومزيد القضاء فقال تعالى: ﴿واتقوا فتنة﴾ أي بلاء مميلاً محيلاً إن لا تتقوه يعمكم، هكذا كان الأصل، لكن لما كان نهي الفتنة على إصابتهم
256
أروع من سوق ذلك مساق الشرط ومن نهيهم عن التعريض لها لما فيه من تصوير حضورها وفهمها للنهي أتى به، ولما كان نهيها عن تخصيص الظالم أشد روعة لإفهامه، أمرها بأن تعم؛ قال مجيباً للأمر: ﴿لا تصيبن﴾ ولحقه نون التأكيد لأن فيه معنى النهي ﴿الذين ظلموا﴾ أي فعلوا بموافقة المعصية ما لا يفعله إلا من لا نور له ﴿منكم﴾ أيها المأمورن بالتقوى ﴿خاصة﴾ أي بل تعمكم، فهو نهي للفتنة والمراد نهي مباشرتها، أي لا يفعل أحد منكم الذنب يصبكم أثره عموماً أو لا يباشر أسباب العذاب بعضكم والبعض الآخر مقر له يعمكم الله به، وذلك مثل: لا أرينك هاهنا، والمعنى فكن هاهنا فأراك فالتقدير: واجعلوا بينكم وبين البلاء العام وقاية بإصلاح ذات بينكم واجتماع كلمتكم على أمر الله ورد من خالف إلى أمر الله ولا تختلفوا كما اختلفتم في أمر الغنيمة فتفشلوا فيسلط عليكم عذاب عام من أعدائكم أو غيرهم، فإن كان الطائع منكم أقوى من العاصي أو ليس أضعف منه فلم يرده فقد اشترك الكل في الظلم، ذلك بفعله وهذا برضاه، فيكون العذاب عذاب انتقام للجميع؛ روى أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترميذي عن أبي الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتأولونها على خلاف تأويلها ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم﴾ [المائدة: ١٠٥] إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من قوم
257
عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» ؛ وللترمذي وحسنه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والذي نفسي بيد! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» ؛ وللإمام أحمد عنه رضي الله عنه أنه قال: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعاً بعذاب أو ليؤمرن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم. وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي، فإن كان الطائع أضعف من العاصي نزل على ما روى أبو داود والترمذي - وحسنه - وابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قيل له:
«كيف تقول في هذه الآية ﴿عليكم أنفسكم﴾ [المائدة: ١٠٥] فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودينا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قال: يارسول الله! أجر خمسين رجلاً منهم؟ قال: أجر خمسين منكم» والأحاديث في مثله كثيرة،
258
وحينئذ يكون العذاب للعاصي نقمة وللطائع رحمة ويبعثون على نياتهم.
ولما حذرهم سبحانه عموم البلاء، أتبعه الإعلام بأنه قادر مربوب ليلزموا سبيل الاستقامه فقال: ﴿واعلموا أن الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات العظمة ﴿شديد العقاب*﴾.
ولما كان من أشد العقاب الإذلال، حذرهموه بالتذكير بما كانوا فيه من الذل، لأنه أبعث على الشكر وأزجر عن الكفر فقال: ﴿واذكروا﴾ وذكر المفعول به فقال: ﴿إذ أنتم﴾ أي في أوائل الإسلام ﴿قليل﴾ أي عددكم.
ولما كان وجود مطلق الاستضعاف دالاً على غاية الضعف بنى للمفعول قوله: ﴿مستضعفون﴾ أي لا منفذ عندكم ﴿في الأرض﴾ أطلقها والمراد مكة، لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، ولأن حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولذلك عبر الناس في قوله: ﴿تخافون﴾ أي في حال اجتماعكم فكيف عند الانفراد ﴿أن يتخطفكم﴾ أي على سبيل التدريج ﴿الناس﴾ أي كما تتخطف الجوارح الصيود، فحذرهم سبحانه - بالتنبيه على قادر على أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه - من هذه الأحوال بالمخالفة بين كلمتهم وترك التسبب إلى اجتماعها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك
259
أيضاً إشارة إلى أنهم لما كانوا في تلك الحالة التي هي في غاية الضعف، وكانت كلمتهم مجتمعه على أمر الله الذي هو توحيده وطاعة رسوله، أعقبهم الإيواء في دار منيعة، قد أيدهم بالنصر وأحسن رزقهم، وذلك معنى قوله تعالى مسبباً عما قبله: ﴿فآواكم﴾ أي في دار الهجرة رحمة لكم ﴿وأيدكم بنصره﴾ أي بأهلها مع الملائكة ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ أي الغنائم الكاملة الطيبة بالإحلال وعدم المنازع التي لم تحل لأحد قبلكم وغيرها ﴿لعلكم تشكرون*﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى شكره، فيكون بعيداً عن المنازعه في الأنفال، وذلك إشارة إلى أنهم مهما استمروا على تلك الحالة، كان - بإقبالهم على مثل ما أتاهم به وزادهم من فضله - أن جعلهم سادة في الدارين بما يهب لهم من الفرقان الآتي في الآية بعدها والتوفيق عند إتيانه، فالآية منصبة إلى الصحابه بالقصد الأول وهي صالحة للعرب كافة فتنصرف إليهم بالقصد الثاني؛ قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطناً وأعراهم جلداً وأبينهم ضلالاً، من عاش شقياً ومن مات منهم تردى في النار معكوفين على رأس الحجرين الشديدين: فارس والروم، يؤكلون ولا يأكلون، وما في بلادهم شيء عليه يحسدون حتى جاء الله بالإسلام، فمكن لهم من البلاد ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً على قارب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على
260
نعمه، فإن ربكم يحب شكره والشاكر في مزيد من الله تعالى.
ولما ختم الآية هو في غاية النصيحة منه تعالى لهم من الإيواء والنصر والرزق الطيب المشار به إلى الامتنان بإحلال المنعم، وختم ذلك بالحث على الشكر؛ نهانا عن تضييع الشكر في ذلك بالخيانة في أوامره بالغلول أو غيره فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ تذكيراً بما ألزموا به أنفسهم من الوفاء ﴿لا تخونوا الله﴾ أي تنقصوا من حقوق الملك الأعظم، فإن أصل الخون النقص ثم استعمل في ضد الأمانه والوفاء فصارت نقصاً خاصاً ﴿والرسول﴾ بغلول ولا غيره، بل أدوا الأمانه في جميع ذلك، ولعله كرر العامل في قوله: ﴿وتخونوا آماناتكم﴾ من الفرائض والحدود والنوافل وغيرها إشارة إلى أن الخيانتين مختلفتان، فخيانتهم لله حقيقة، وخيانتهم للأمانه استعارة، لأن حاملها لما أخلَّ بها كان كأنه خانها؛ وخفف عنهم بقوله: ﴿وأنتم تعلمون*﴾ حال الغفلة ونحوها، ويجوز أن يكون المفعول غير مراد فيكون المعنى: وأنتم علماء، ويكون ذلك مبالغة في النهي عنها بأنهم جديرون بأن لا يقبل منهم عذر بجهل ولا نسيان لأنهم علماء، والعالم هو العارف بالله، والعارف لا ينبغي أن ينفك عن المراقبة.
261
ولما كان سبب الخيانة غالباً محبة المال أو الولد، وكان سبب التقاول المسبب عنه إنزال هذه السورة - كما سلف بيانه أولها - الأموال من
261
الأنفال، وكان من أعظم الخيانة في الأنفال الغلول، وكان الحامل على الغلول المحنة بحب جمع المال إما استلذاذاً به أو لإنفاقه على محبوب، وكان الولد أعز محبوب؛ حسن كل الحسن إيلاء ذلك قوله: ﴿واعلموا﴾ وهي كلمة ينبه بها السامع على أن ما بعدها مهم جداً ﴿أنما أموالكم﴾ قلّت أو جلّت هانت أو عزّت ﴿وأولادكم﴾ كذلك ﴿فتنة﴾ أي سببها، يفعل الله بها فعل المختبر لينكشف للعباد من يغتر بالعاجل الفاني ممن تسمو نفسه عن ذلك، فلا يحملنكم ذلك على مخالفة أمر الله فتهلكوا ﴿وأن الله﴾ أي المحيط بكل كمال ﴿عنده أجر عظيم*﴾ عاجلاً وآجلاً لمن وقف عند حدوده، فيحفظ له ماله ويثمر أولاده ويبارك له فيهم مع ما يدخر له في دار السعادة، وعنده عذاب أليم لمن ضيعها، فأقبلوا بجميع هممكم إليه تسعدوا، وزاد وضعها هنا حسناً سبب نزول التي قبلها من قصة أبي لبابة رضي الله عنه الحامل عليها ماله وولده، وكانت قصته في قريظة سنة خمس وغزوة بدر في السنة الثانية.
ولما ذكرهم ما كانوا عليه قبل الهجرة من الضعف، وامتنَّ عليهم بما أعزهم به، وختم هذه بالتحذير من الأموال والأولاد الموقعة في الردى، وبتعظيم ما عنده الحامل على الرجاء، تلاها بالأمر بالتقوى الناهية عن الهوى بالإشارة إلى الخوف من سطواته إشارة إلى أنه يجب الجمع
262
بينهما، وبين تعالى أنه يتسبب عنه الأمن من غيره في الأولى والنجاة من عذابه في الأخرى فقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ تكريراً لهذا الوصف تذكيراً بما يلزم بادعائه ﴿إن تتقوا الله﴾ بإصلاح ذات بينكم، وذلك جامع لأمر الدين كله ﴿يجعل لكم فرقاناً﴾ أي نصراً، لأن مادة «فرق» ترجع إلى الفصل، فكأن الشيء إذا كان متصلاً كان كل جزء منه مقهوراً على ملازمة صاحبه، فإذا جعل له قوة الفرق قدر على الاتصال والانفصال، فحقيقته: يجعل لكم عزاً تصيرون به بحيث تفترقون ممن أردتم متى أردتم وتتصلون بمن أردتم متى أردتم لما عندكم من عزة الممانعة، وتفرقون بين من أردتم متى أردتم لما لديكم من قوة المدافعة، أي يجعل لكم ما يصير لكم به قوة التصرف فيما تريدون من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إلى قولهم عند التنازع، لا كما كنتم في مكة، لا تأمنون في المقام ولا تقدرون على الكلام - فضلاً عن الخصام - إلا على تهيب شديد، ومع ذلك فلا يؤثر كلامكم أثراً يسمى به فارقاً، والفاروق من الناس الذي يفرق بين الأمور ويفصلها، وبه سمي عمر رضي الله عنه لأنه أظهر الإسلام بمكة إظهاراً فيه عز وقوة، جعل فيه الإيمان مفارقاً للكفر لا يخافه، وفرق - بالكسر بمعنى خاف - يرجع إلى ما دارت عليه المادة، فإن المراد به: تفرقت همومه من اتساع الخوف، والفرق الذي هو المكيال الكبير كأنه هو الفارق بين الغني والفقير، قال الهروي: هو اثنا عشر مداً: وأفرق من علته -
263
إذا برىء، أي صارت له حالة فرقت بين صحته ومرضه الذي كان به، ومنه الفريقة وهي تمر وحلبة يطبخ للنفساء؛ وقرفت الشيء - بتقديم القاف: قشرته، والقرف: الخلط، كأنه من الإزالة، لأنهم قالوا: إن «فعل» يدخل في كل باب، ومنه: قرف الشيء واقترافه: اكتسبه، والاقتراف بمعنى الجماع، ويمكن أن يرجع إلى الوعاء لأن القرف الوعاء، لأنه يفصل مظروفه عن غيره، وفلان قرفتي، أي موضع ظني منه كأنه صار وعاء لذلك، وفرس مقرف، أي بيّن القرفة، أي هجين لأنه واضح التميز من العربي، وقرف بسوء: رمى به، أي جعل وعاء له أو فرق همومه؛ والقفر - بتقديم القاف: المكان الخالي لانفصاله من الناس، وأقفر المكان: خلا، وأقفر الرجل من أهله: انفرد عنهم، وقفر الطعام: خلا من الأدم، ورجل قفر الرأس: لا شعر عليه لانفصاله عنه، وقفر الجسد: لا لحم عليه، والقفار: الطعام لا أدم له، واقتفرت الأثر: اتبعته لتفصله من غيره؛ والفقرة - بتقديم الفاء - والفقار: ما تنضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب لتميز كل واحدة عن أختها، وفقرت الأرض فقراً: حفرتها حفراً،
264
فصارت كل واحدة منفصلة من الأخرى، والفاقرة: الداهية الكاسرة للفقار، ومنه الفقر والافتقار للحاجة، وأفقرني دابته: أعارني ظهرها، وراميته من أدنى فقرة: من أدنى معلم لأن المعالم منفصل بعضها عن بعض، والتقفر في رجل الدابة بياض لانفصاله عن بقية لونها، ورفقت بالأمر: لطفت به، ولا يكون ذلك إلا بفصله عما يضره، ومنه الرفيق للصاحب من الرفقة، والمرفق من ذلك لما يحصل به من اللطف.
ولما كان الإنسان محل النقصان فلا يخلو من زلة أو هفوة، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿ويكفِّر عنكم سيئاتكم﴾ أي يسترها ما دمتم على التقوى ﴿ويغفر لكم﴾ أي يمحو ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً، وفيه تنبيه لهم على أن السادات على خطر عظيم لأنهم مأمورون بالمساواة بين الناس، والنفس مجبولة على ترجيح من لاءمها على من نافرها، وإشارة إلى أن الحكم بالعدل في أعلى الدرجات لا يتسنمه إلا الفرد النادر، وقوله: ﴿والله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ذو الفضل العظيم*﴾ مرّج للزيادة على الكفارة والمغفرة من فضله، ومعلم بأنه لا يمتنع عليه شيء، فمن الممكن أن يلزم كلاً منهم طريق العدل وإن كانت من خرق العادة في أعلى محل، وفي الآية أعظم مناسبة لقصة أبي لبابة رضي الله عنه لأنه لما كان الحامل له على ما فعل بنفسه من العقوبة التقوى، فكفرت عنه خطيئته وغفر له،
265
عقبت بها ترغيباً لغيره في الإسراع بالتوبة عند مواقعة الهفوة، وختم هذه الآية بالفضل على ما كان من نقص، إشارة إلى تفضله سبحانه بما رزق أهل الإسلام من علو المنزلة وانتشار الهيبة وفخامة الأمر في قلوب المخالفين كما هو مشاهد، وختم الآية المحذرة من المداهنة بشديد العقاب، إشارة إلى ما ألبسهم من الأحوال المذكورة في التي تليها من قلة منعتهم واستضعافهم وخوفهم من تخطف المخالفين لهم، ولكنه تعالى رحمهم بأن جعل ذلك من بعضهم ممن يشمله اسم الإسلام لبعض، لا من غيرهم فلبسهم شيعاً وأذاق بعضهم بأس بعض، فكل خائف من الآخر، وصار المتقي من كثرة المخالف لا يزال من المعاطب والمتالف خائفاً يترقب، ومباعداً لا يقرب، على أنهم لا يعدمون أنصاراً يؤيدهم الله بهم، ولا يزال أهل الظلم يختلفون فيما بينهم فيرجع الفريقان إليهم ويعولون عليهم، فمن نصروه فهو المنصور، فكلامهم عند المضايق هو الفرقان، ولهم في قلوب الظالمين هيبة وإن نزلت بهم الحال أكثر مما للظلمة في قلوبهم من الهيبة ليتيقن الكل أنهم على الحق الذي الله ناصره، وأن أهل الشر على الباطل الذي الله خاذله، قال الحسن البصري رحمه الله في حق العالين في الأرض: أما والله! إن للمعصية في قلوبهم لذلاً وإن طفطف
266
بهم اللحم، فقد انقسم الخوف بينهم نصفين وشتان ما بين الحزبين، فخوفهم يزيدهم الله به أجراً ويجعله لهم ذخراً، وخوف أهل الباطل يزيدهم به وزوراً ويجعله لدينه أزراً، فهذه حقيقة الحال في وصف أهل الحق والمحال.
ولما وعد سبحانه بهذا الفضل العظيم والنبأ الجسيم، ذكرهم من أحوال داعيهم وقائدهم وهاديهم عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام بما يدعوهم إلى ملازمة أسبابه في سياق المخاطبة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تذكيراً بنعمته وإشارة إلى دوام نصرته فقال تعالى عاطفاً على ﴿إذ أنتم﴾ ﴿وإذ يمكر بك﴾ أي يدبر في أذاك على وجه الستر ﴿الذين كفروا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف، وفيهم من لم يكن راسخ القدم فيه؛ ثم بيَّن غاية مكرهم فقال: ﴿ليثبتوك﴾ أي ليمنعوك من التصرف بالحبس في بيت يسدون عليك بابه - كما هو واضح من قصة مشاورتهم في دار الندوة في أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السير، ومن قرأها بالموحدة ثم التحتانية من البيات الذي معناه إهلاك العدو ليلاً، فعطفُ ﴿أو يقتلوك﴾ عنده بمعنى القتل نهاراً جهاراً، وكأنه عد البيات للاستخفاء به عدماً بالنسبة غلى المجاهرة ﴿أو يخرجوك﴾ أي من مكة ﴿ويمكرون﴾ أي والحال أنهم يمكرون بإخفاء ما يريدون بك من ذلك وغيره من الكيد ﴿ويمكر الله﴾ أي يفعل المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في أمرهم فعل من يمكر بإخفاء
267
ما يقابلهم به ﴿والله خير الماكرين*﴾ لأنه لا يمكن أحداً علم ما يريد إخفاءه لأنه الملك الأعلى المحيط بالجلال والجمال، فالنافذ إنما هو مكرُه، والعالي إنما هو نصره، فكأنه تعالى يقول: انظروا إلى مصداق ما وعدتكم به في أحوال نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كان وحده وجميع الناس يخالفونه فثبت على أداء الرسالة إليهم وإبلاغ النصيحة لهم على ما يصله منهم من الأذى ولا يزيده أذاهم له إلا اجتهاداً في أداء ما ينفعهم إليهم.
268
ولما ذكر مكرهم بالرسول، ذكر مكرهم بما أرسل به، فقال عاطفاً على «إذ أنتم» :﴿وإذا تتلى﴾ أي من أي تال فرض ﴿عليهم آياتنا﴾ أي التي هي الفرقان جلالة وعظماً لم يدعوها تؤثر في تلك الحالة، بل ﴿قالوا﴾ إظهاراً لعنادهم لها وتشيعاً بما لم يعطوا وادعاء لما لمن ينالوا ﴿قد سمعنا﴾ ولما لم يتأثر عن سماعهم الإذعان، تشوف السامع إلى علة إعراضهم فقال معللاً أو مستأنفاً: ﴿لو نشاء﴾ أي في أيّ وقت أردنا ﴿لقلنا مثل هذا﴾ أي لأنه ليس قول الله كما يزعم محمد ﴿إن﴾ أي ما ﴿هذا﴾ الذي يتلى عليكم ﴿إلا أساطير﴾ جمع سطور وأسطار جمع سطر ﴿الأولين*﴾ أي من بني آدم، سطروا فيها علومهم وأخبارهم فهو من جنس كلامنا وقائله من جنسنا، وهذا غاية المكابرة لأنه قد تحداهم بقطعة من مثله إن كان له - كما يزعمون - مثل، وبالغ في تقريعهم فما منعهم - من إبراز شيء مما يدعون وليس بينهم وبينه بزعمهم إلا أن يشاؤوا،
268
مع انتقالهم إلى أشد الأمور: السيف الماحق على تهالكهم على قهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما لهم من فرط الأنفة من العار والبعد مما يقضي عليهم بالغلب أو أن يوصفوا بالكذب - إلا علمهم بأن ذلك فاضحهم، ومخزيهم مدى الدهر وقائحهم، والمعنى أني أثبت هذا النبي الكريم على صبره على ذلك ومثابرته على أداء الأمانة بالاجتهاد في النصيحة على ما يلقى إن نجيته منهم ومنعته من جميع ما كادوه به، وكنت لا أزل أؤيده باتباع من أعلم فيه الخير إلى أن هيأت له داراً وخبأت له أنصاراً، وجعلت داره بالأصحاب منيعة، وبنيت لها أعمدة بصوارم الأحباب ثابتة رفيعة، نقلته إلى ذلك مع اجتهاد أهل العناد وهم جميع أهل الأرض في المنع، فلم يؤثر كيدهم، ولا أفادهم مع أيدي أيدهم، وجعلت نفس نقلته له فرقاناً يفرق بها بين الحق والباطل، وصار إلى ما ترون من قبول الأمر وجلالة القدر ونفاذ الفصل بين الأمور وظهر دينه أيّ ظهور، فلازموا التقوى ملازمته وداوموا على الطاعة مدوامته أهب لكم من سيادته وأحملكم بملابس إمامته.
ولما كان ذلك موضع عجب من عدم إعجال الضُلال بالعذاب وإمهالهم إلى أن أوقع بهم في غزوة بدر لا سيما مع قوله ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ بيّن السر في ذلك وإن بالغوا في استعجاله
269
فقال: ﴿وإذ قالوا﴾ أي إرادة المكابرة بالتخييل إلى الناس أنهم على القطع من أنه باطل وإلا لما دعوا بهذا الدعاء ﴿اللهم﴾ أي يا من له تمام المُلك وعموم الملك ﴿إن كان هذا﴾ أي الأمر الذي أتانا به محمد ﴿هو﴾ أي لا ما نحن عليه ﴿الحق﴾ حال كونه منزلاً ﴿من عندك﴾ وقال الزجاج: إنه لا يعلم أحداً قرأ ﴿الحق﴾ بالرفع - أفاده أبو حيان ﴿فأمطر علينا حجارة﴾ ولعل تقييده بقوله: ﴿من السماء﴾ مع أن الأمطار لايكون إلا منها - لإزالة وهم من يتوهم أن الإمطار مجاز عن مطلق الرجم وأنه إنما ذكر لبيان أن الحجارة المرجوم بها في الكثرة مثل المطر ﴿أو ائتنا بعذاب أليم*﴾ أي غير الحجارة، ولعل مرادهم بقولهم ذلك الإشارة إلى أن مجيء الوحي إليك من السماء خارق كما أن إتيان الحجارة منها كذلك، فإن كنت صادقاً في إتيان الوحي إليك منها فأتنا بحجارة منها كما أتت الحجارة منها أصحاب الفيل صوناً من الله لبيته الذي أراد الجيش انتهاك حرمته وإعظاماً له - أشار إلى ذلك أبو حيان، وهذه الآية والتي قبلها في
«النضر بن الحارث أسره المقداد يوم بدر فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله فقال المقداد: أسيري يا رسول الله! فقال: إنه كان يقول في كتاب الله تعالى ما يقول، فعاد المقداد رضي الله عنه لقوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم أغن
270
المقداد من فضلك، فقال: ذاك الذي أردت يا رسول الله! فقتله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنشدت أخته قتيلة أبياتاً منها:»
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المخنق
«فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه» وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا ﴿إن كان هذا هو الحق من عندك﴾ [الأنفال: ٣٢] وما قالوا: فاهدنا به، والسر الذي بينه في هذه الآية في إمهالهم هو أنه ما منعه من الإسراع في إجابة دعائهم كما فعل في وقعة بدر إلا إجلال مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم فقال: ﴿وما كان الله﴾ أي مع ما له من صفات الكمال والعظمة والجلال، وأكد النفي بقوله: ﴿ليعذبهم﴾ أي ليجدد لهم ذلك في وقت من الأوقات ﴿وأنت﴾ أي يا أكرم الخلق ﴿فيهم﴾ فإنه لعين
تجازي ألف عين وتكرم... ولما بين بركة وجوده، أتبعه ما يخلفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غاب في العباد من العذاب فقال: ﴿وما كان الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿معذبهم﴾ أي مثبتاً وصف تعذيبهم بحيث يدوم ﴿وهم يستغفرون*﴾ أي يطلبون الغفران بالدعاء أو يوجدون هذا اللفظ فيقولون: أستغفر الله،
271
فإن لفظه وإن كان خبراً فهو دعاء وطلب، فوجوده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم أبلغ من نفي العذاب عنهم، وهذا الكلام ندب لهم إلى الاستغفار وتعليم لما يدفع العذاب عنهم كما تقول: ما كنت لأضربك وأنت تطيعني، أي فأطعني - نبه عليه الإمام أبو جعفر النحاس، وفي ذلك حث عظيم لمن صار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم من المسلمين صادقهم ومنافقهم على الرغبة في مواصلته والرهبة من مفارقته، وتعريف لهم بما لهم في حلول ذاته المشرقة في ساحتهم من جليل النعمة ترغيباً في المحبة لطول عمره والاستمساك بعزره في نهيه وأمره إذ المراد - والله أعلم - بالاستغفار طلب المغفرة بشرطه من الإيمان والطاعة، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان في هذه الأمة أمانان، أما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد مضى، وأما الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة.
ولما كان هذا ليس نصاً في استحقاقهم العذاب، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: وليعذبهم الله إذ هاجرت عنهم ولم يؤمنوا فيستغفروا: ﴿وما لهم﴾ قال أبو حيان: الظاهر أن «ما» استفهامية، أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب، وهو استفهام معناه التقرير، أي كيف لا يعذبون وهم متصفون بهذه الصفة المتقضية للعذاب وهي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت - انتهى. وتقدير الكلام: وأيّ حظ لهم في ﴿ألا يعذبهم الله﴾ أي الذي له كمال العز والعظمة على
272
الظالم والإكرام والرفق بالطائع عاجلاً ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم مستحقون للعذاب فهو واقع بهم لا محالة وإن تأخر مدة إبانه وأبطأ عنهم أوانه وقوعاً ينسيهم ما نالوه من اللذات وإن عظم عندهم شأنها وامتد طويلاً زمانها لأنهم ﴿يصدون﴾ أي يوجدون الصد ﴿عن المسجد﴾ أي من أراد تعظيمه بالصلاة التي وضع المسجد لها وغيرها ﴿الحرام﴾ أي العظيم حرمته عند كل أحد فلا اختصاص به لشخص دون آخر، أي شأنهم فعل حقيقة الصد في الماضي والحال والمآل، لا ينفكون عن ذلك، كما كانوا يمنعون من شاؤوا من دخول البيت ويقولون: نحن ولاته، نفعل ما نشاء، ويصدون المؤمنين عن الطواف به التعذيب والفتنة وصدوا رسول الله عليه وسلم ومن معه بالإخراج ثم صدوهم عام الحديبية عن الوصول إلى البيت وعام عمرة القضية عن الإقامة بعد الثلاثة الأيام ﴿وما﴾ أي والحال أنه لم يكن لهم ذلك لأنهم ما ﴿كانوا أولياءه﴾ أي أهلاً لولايته بحيث إن صدهم ربما يقع موقعه؛ روى البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: ﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ [الأنفال: ٣٢] فنزلت ﴿وما كان الله ليعذبهم﴾ [الأنفال: ٣٣] إلى ﴿عن المسجد الحرام﴾ [الأنفال: ٣٣].
ولما نفى عنهم الولاية. ذكر أهلها فقال؛ ﴿إن﴾ أي ما ﴿أولياؤه﴾ أي بالاستحقاق ﴿إلا المتقون﴾ أي العريقون في هذا الوصف بما يجعلون
273
بينهم وبين سخط الله من وقايات الطاعات، لا كل من آمن بل خاصة المؤمنين، وهم ليسوا كذلك لتلبسهم الآن بالكفر ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون*﴾ أي ليس لهم علم بالأمور ليميزوا بين الحق والباطل والمتقي والفاسق وحسن العواقب وسيئها، ولعله عبر بالأكثر إعلاماً بأن فيهم المعاند، ولأنه كان منهم من آمن بعد ذلك فصار من أولي العلم.
ولما كانوا يفعلون عند البيت ما ينزه البيت عنه مما هو غاية في الجهل، قال مبيناً لجهلهم واستحقاقهم للنكال وبعدهم عن استحقاق ولايته: ﴿وما كان صلاتهم﴾ أي التي ينبغي أن تكون مبنية على الخشوع، وزاد في التبشيع عليهم بقوله: ﴿عند البيت﴾ أي فعلهم الذي يعدونه صلاة أو يبدلونها به ﴿إلا مكاء﴾ أي صفيراً يشبه صفير الطير والدبر بريح الحدث - من مكا يمكو مكواً ومكاء - إذا صفر بفيه أو شبك أصابعه ونفخ فيها، ومكت الشجرة بريحها: صوتت، والدبر بريح الحدث: صوت - قال أبو حيان: وجاء على فعال أي بالضم ويكثر فعال في الأصوات كالصراخ - انتهى. ﴿وتصدية﴾ أي وتصفيقاً، كان أهل الجاهلية يطوفون عراة ويصفرون بأفواههم ويصفقون بأيديهم مقصورة، فيكون تصويتهم ذلك يشبه الذي
274
رجّع الصوت في المكان الخالي، فهو كناية عن أن صلاتهم لا معنى لها، وأصله صدد - مضاعف - إذا أعرض ومال مثل التظني من ظنن -، فهذا لهو لا عبادة وهزء لا جد مع أن الأمر جد وأيّ جد كما قال تعالى: ﴿أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون﴾ [النجم: ٥٩- ٦١] أي ولا تبكون في حال جدكم بدأبكم في العمل الصالح، فهذا الذي يعملونه مناف لحال البيت فهو تخريب لا تعمير، قال مقاتل: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه يصفران ويصفقان، ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا عليه صلاته، وتقدير الكلام على قراءة الأعمش: صلاتهم - بالنصب: وما كان شيء إلا مكاء وتصدية صلاتهم، فنفى عما يجعلونه صلاة كل شيء إلا المكاء والتصدية، فالصلاة مقصورة عليهما بهذا الاعتبار، فقد صارت بهذا الطريق بمعنى القراءة المشهورة سواء فتأمله فإنه نفيس جداً، وخرج عليه الخلاف في آية الأنعام ﴿ثم لم تكن فتنتهم﴾ [الأنعام: ٢٣] وغيره، وقد مضى هناك ما ينفع هنا، ومما يجب أن يعلم أن هؤلاء لم يذمهم الله لأنه أعلى الذم، بل ذمهم لكونهم اتخذوا العبادة لعباً لينبه بذلك على ذم من أشبههم في ذلك فعمد إلى ما هو مباح في أصله فاتخذه ديناً فكيف إذا كان مكروهاً أم كيف إذا كان حراماً، فقبح الله قوماً ادعوا أنهم أعرضوا عن الدنيا ثم اتخذوا الطبول والغنى والتصدية شعارهم ثم ضربوا به حتى فعلوه في
275
المساجد وزادوا على فعل الجاهلية الرقص الذي ابتدعه قوم السامري لما عبدوا العجل، فأخذوا أنواعاً من أفعال أنواع من الكفرة وجعلوها عادتهم وشعارهم وديانتهم، فلقد انتهكوا حرمات الشريعة وبدلوها واستهانوا بها واسترذلوها.
ولما كان مساق الكلام لبيان استحقاقهم العذاب، وأنه لا مانع لهم منه وكان قد أوقع بهم في هذه الغزوة مباديه، وكانت المواجهة بالتعنيف وقت إيقاع ما لا يطاق بالعدو إنكاء، قال مسبباً عن قبيح كا كانوا يرتكبونه: ﴿فذوقوا العذاب﴾ أي الذي توعدكم الله والذي رأيتموه ببدر وطلبتموه في استفتائكم حكم الاستهانة به ﴿بما كنتم تكفرون*﴾ اي إنكم قد صرتم بهذا الفعل أهلاً لذوقه بما تسترون مما دلتكم عليه عقولكم من هذا الحق الواضح.
276
ولما أخبر سبحانه عن أحوال الكفار في الأعمال البدنية، وكان غلبهم مع كثرتهم وقوتهم مستبعداً، أخبر بما يقربه مبيناً لأعمالهم المالية فقال: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي مع كثرتهم لأنهم ستروا مرائي عقولهم التي هي الإنسان بالحقيقة فنقصوا بذلك نقصاً لا يدرك كنهه ﴿ينفقون أموالهم﴾ أي يعزمون على إنفاقها فيما يأتي ﴿ليصدوا﴾ أي بزعمهم أنفسهم وغيرهم ﴿عن سبيل الله﴾ أي عن سلوك طريق - الذي لا يدني عظمته عظمة مع اتساعه ووضوحه وسهولته ﴿فسينفقونها﴾
276
أي بحكم قاهر لهم لا يقدرون على الانفكاك عنه ﴿ثم تكون﴾ أي بعد إنفاقها بمدة، وعبر بعبارة ظاهرة في مضرتها فقال: ﴿عليهم﴾ وأبلغ في ذلك بأن أوقع عليها المصدر فقال: ﴿حسرة﴾ أي لضياعها وعدم تأثيرها ﴿ثم يغلبون*﴾ أي كما اتفق لهم في بدر سواء، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوة ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً مما أراد الله بهم، بل كان وبالاً عليهم، فإنه كان سبباً لجرأتهم حتى أقدموا نظراً إلى الحاضر وقصوراً عن الغائب كالبهائم فهلكوا، وكان ذلك قوة للمؤمنين فما كان في الحقيقة إلا لهم، وهذا الكلام منطبق على ما كان سبب نزوله الآية وعلى كل ما شاكله، وذلك أنهم لما قهروا في بدر قال لهم أبو سفيان: إنه ينبغي أن تنفقوا مال تلك العير - يعني التي كانت معه - ونحث على حرب محمد، فأجابوا وأنفقوه على غزوة أحد فحصل لهم فيها بعض ظفر ثم تعقبه الحسرة والمغلوبية في بدر الموعد وكل ما بعدها؛ ثم أظهر وصفهم الذي استحقوا به ذلك تعليقاً للحكم به وتعميماً منذراً لهم بما هو أشد من ذلك فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي حكم بدوام كفرهم عامة سواء زادوا على الكفر فعل ما تقدم أم لا ﴿إلى جهنم﴾ أي لا إلى غيرها.
ولما كان المنكى هو الحشر، لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: ﴿يحشرون*﴾ أي بعد الموت فهم في خزي دائم دنيا وأخرى، ويجوز أن يتجوز بجهنم عن أسبابها فيكون المعنى أنهم يستدرجون بمباشرة أسبابها
277
إليها ويحملون في الدنيا عليها، وهذه الآيات - مع كونها معلمة بما لهم في الدنيا وما لهم في الآخرة من أن آخر أمرهم في الدنيا الغلب كما كشف عنه الزمان علماً من أعلام النبوة وفي الآخرة جهنم - هي مبينة لكذبهم في قولهم ﴿لو نشاء لقلنا مثل هذا﴾ [الأنفال: ٣١] فإنهم لو كانوا صادقين في دعواهم لقالوا مثله ثم قالوا: لو كان هذا هو الحق لا غيره لما قلنا مثله، موضع قولهم ﴿إن كان هذا هو الحق﴾ [الأنفال: ٣٢] إلى آخره، وأما آية المكاء والتصدية فكأنها تقول: هذا القرآن في أعلى درج البلاغة ولم تؤهلوا أنتم - مع ادعائكم السبق في البلاغة - لأن تعارضوا بشيء له أهلية لشيء من البلاغة، بل نزلتم إلى أصوات الحيوانات العجم حقيقة، فلا أجلى من هذا البيان على ما ادعيتم من الزور والبهتان، وأما آية الإنفاق فقائلة: لو قدرتم في معارضته على إنفاق الأقوال لما عدلتم عنه إلى إنفاق الأموال المفضي إلى مقاساة الأهوال وفساد الأشباح ونفوق ما حوت من الأرواح المؤدي إلى الذل السرمد بالعذاب المؤبد.
ولما ذكر حشر الكافرين ذكر علته فقال معلقاً بيحشرون: ﴿ليميز الله﴾ أي الذي له صفات الكمال بذلك الحشر ﴿الخبيث من الطيب﴾ أي إنما جعل للكفار داراً تخصهم ويخصونها لإظهار العدل والفضل بأن يميز الكافر من المؤمن فجعل لكل دار يتميز بها عدلاً في الكافرين وفضلاً على المؤمنين، فيجعل الطيب في مكان واسع حسن ﴿ويجعل الخبيث﴾ أي الفريق المتصف بهذا الوصف ﴿بعضه على بعض﴾ والركم: جمع الشيء
278
بعضه فوق بعض، فكأن قوله: ﴿فيركمه جميعاً﴾ عطف تفسير يؤكد الذي قبله في إرادة الحقيقة مع إفهام شدة الاتصال حتى يصير الكل كالشيء الواحد كالسحاب المركوم، والنتيجة قوله: ﴿فيجعله في جهنم﴾ أي دار الضيق والغم والتهجم والهم.
ولما كان هذا أمراً لا فلاح معه، استأنف قوله جامعاً تصريحاً بالعموم: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء الذين أفهمهم اسم الجنس في الخبيث ﴿هم الخاسرون*﴾ أي خاصة لتناهي خسرانهم، لأنهم اشتروا بأموالهم إهلاك أنفسهم بذلك الحشر.
ولما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية، وكان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء، كان ذلك موهماً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال: أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة ﴿قل للذين﴾ أي لأجل الذين ﴿كفروا﴾ أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله ﴿إن ينتهوا﴾ أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره ﴿يغفر لهم﴾ بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو
279
محو الذنب ﴿ما قد سلف﴾ أي مما اجترحوه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب ﴿وإن﴾ أي وإن يثبتوا على كفرهم و ﴿يعودوا﴾ أي إلى المغالبة ﴿فقد مضت سنت﴾ أي طريقة ﴿الأولين*﴾ أي وجدت وانقضت ونفذت فلا مرد لها بدليل ما سمع من أخبار الماضين وشوهد من حال أهل بدر مما أوجب القطع بأن الله مع المؤمنين وعلى الكافرين، ومن كان معه نصر، ومن كان عليه خذل وأخذ وقسر ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١]
﴿ولينصرن الله من ينصره﴾ [الحج: ٤٠] ﴿والعاقبة للمتقين﴾ [القصص: ١٢٨] وإن كانت الحرب سجالاً.
ولما أشار ختم الآية قتالهم إن أصروا، وكان التقدير: فأقدموا عليهم حيثما عادوكم إقدام الليوث الجريئة غير هائبين كثرتهم ولا قوتهم فإن الله خاذلهم، عطف عليه قوله مصرحاً بالمقصود: ﴿وقاتلوهم﴾ أي دائماً ﴿حتى لا تكون فتنة﴾ أي سبب يوجب ميلاً عن الدين أصلاً ﴿ويكون الدين﴾.
ولما كانت هذه الوقعة قد سرت كتائب هيبتها في القلوب فوجبت أيما وجبت، فضاقت وضعفت صدور الكافرين، وانشرحت وقويت قلوب المؤمنين؛ اقتضى هذا السياق التأكيد فقال: ﴿كله لله﴾ أي الملك الأعظم خالصاً غير مشوب بنوع خوف أو إغضاء على قذى، وأصل الفتن: الخلطة المحيلة، ويلزم ذلك أن يكون السبب
280
عظيماً لأن الشيء لا يحول عن حاله إلا لأمرعظيم لأن مخالفة المألوف عسرة، ومنه النتف، وكذا نفت القدر، وهو أن يغلي المرق فيلزق بجوانبها، والتنوفة: القفر، لأنه موضع ذلك، ويلزمه الإخلاص، من فتنت الذهب - إذا أذبته فتميز جيده من رديئه، وتارة يكون الميل إلى جهة الرديء وهو الأغلب، وتارة إلى الجيد، ومنه ﴿وفتناك فتوناً﴾ [طه: ٤٠].
ولما كان لهم حال اللقاء حالان: إسلام وإقبال، وكفر وإعراض وإخلال، قال مبيناً لحكم القسمين: ﴿فإن انتهوا﴾ أي عن قتالكم بالمواجهة بالإسلام فاقبلوا منهم وانتهوا عن مسهم بسوء ولا تقولوا: أنتم متعوذون بذلك غير مخلصين، تمسكاً بالتأكيد بكله، فأنه ليس عليكم إلا ردهم عن المخالفة الظاهرة، وأما الباطن فإلى الله ﴿فإن الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، وقدم المجرور اهتماماً به إفهاماً لأن العلم به كالمختص به فقال: ﴿بما يعملون﴾ أي وإن دقَّ ﴿بصير*﴾ فيجاريهم عليه، وأما أنتم فلستم عالمين بالظاهر والباطن معاً فعليكم قبول الظاهر، والله بما تعملون أنتم أيضاً - من كف عنهم وقتل لله أو لحظّ
281
نفس - بصير، فيجازيكم على حقائق الأمور وبواطنها وإن أظهرتم للناس ما يقيم عذركم، ويكمل لكل منكم أجر ما كان عزم على مباشرته من قتالهم لو لم ينتهوا، وإن لم ينتهوا بل أقدموا على قتالكم، هكذا كان الأصل، ولكنه سبحانه عبر بقوله: ﴿وإن تولوا﴾ أي عن الإجابة تبشيراً لهم بهزيمتهم وقلة ثباتهم لما ألقى في قلوبهم من الرعب، ويؤيد ذلك قوله: ﴿فاعلموا أن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿مولاكم﴾ أي متولي أموركم فهو يعمل معكم ما يعمل من يتولى امر من يحبه من الاجتهاد في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره فهو لا محالة ناصركم؛ ثم استأنف مدحه بما هو أهله تعريفاً بقدره وترغيباً في تولية فقال: ﴿نعم المولى﴾ ولم يدخل فاء السبب هنا لأن المأمور به العلم، واعتقاد كونه مولى واجب لذاته لا لشيء آخر، بخلاف ما في آخر الحج، فإن المأمور هناك الاعتصام ﴿ونعم النصير*﴾ أي فلا تخافوهم أصلاً وإن زادت كثرتهم وقويت شوكتهم فلا تبارحوهم حتى لا يكون إلا كلمة الله.
282
ولما كان التقدير: فإذا أعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسبوا إلى أنفسكم فعلاً، بل اعلموا أنه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تتنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته، عطف عليه قوله:
282
﴿واعلموا﴾ ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه ﴿أنَّما﴾ أي الذي ﴿غنمتم﴾ الغنيمة لغة: الفوز بالشيء، وشرعاً ما دخل في أيدي الملسمين من مال الكفار قهراً بالخيل والركاب، وزاد في التعميم حتى لأقل ما يمكن بقوله: ﴿من شيء﴾ أي حتى الخيط والمخيط فإنه كله له، لأنه الناصر وحده وإنما أنتم آلة لا قدرة لكم على مقاومة الأعداء لأنهم جميع أهل الأرض ولا نسبة لكم منهم في عدد ولا قوة أصلاً، فالجاري على منهاج العدل المتعارف عندكم أن يأخذه كله ولا يمكنكم من شيء منه كما كان فيمن قبلكم، يعزل فتنزل نار من السماء فتأكله، ولكنه سبحانه - علم ضعفكم فمنّ عليكم به ورضي منكم منه بالخمس فسماه لنفسه ورده عليكم، وهو معنى قوله: ﴿فأن لله﴾ أي الذي له كل شيء ﴿خمسه﴾.
ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجلّ من أن يناله نفع أو ضر، كان من المعلوم أن ذكر اسمه سبحانه إنما هو للإعلام بأن إسلام هذا الخمس والتخلي عنه لا حظ للنفس فيه، وإنما هو لمحض الدين تقرباً إليه سبحانه، فذكر مصرفه بقوله: ﴿وللرسول﴾ أي يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حياً ليصرفه في مصالح المسلمين، ويصرف بعده إلى القائم مقامه، يفعل فيه ما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله ﴿ولذي القربى﴾ أي من الرسول، وهم الآل الذين تحرم عليهم الزكاة: بنو هاشم وبنو المطلب ﴿واليتامى﴾ أي لضعفهم ﴿والمساكين﴾ لعجزهم ﴿وابن السبيل﴾ أي المسافر لأن الأسفار مظنات الافتقار، فالحاصل أنه سبحانه لم يرزأكم من
283
المغنم شيئاً، فاعرفوا فضله عليكم أولاً بالإنعام بالنصر، وثانياً بحل المغنم، وثالثاً بالإمكان من الأربعة الأخماس، ورابعاً برد الخمس الخامس فيكم، فاشتعلوا بشكره فضلاً عن أن تغفلوا عن ذلك فضلاً عن أن تتوهموا أن بكم فعلاً تستحقون به شيئاً فضلاً عن أن تفعلوا من المنازعة في المغنم فعل القاطع بالاستحقاق، اعلموا ذلك كله علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل ﴿إن كنتم﴾ صادقين في أنكم ﴿آمنتم بالله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه ﴿وما﴾ أي وبالذي ﴿أنزلنا﴾ أي إنزالاً واحداً سريعاً لأجل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه ﴿على عبدنا﴾ أي الذي يرى دائماً أن الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئاً إلا بنا ﴿يوم الفرقان﴾ أي يوم بدر الذي جعلنا لكم فيه عزاً ينفذ به أقوالكم وأفعالكم في فصل الأمور.
ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيراً لهم بالنعمة، بينه بما صور حالهم إتماماً لذلك - أو أبدل منه - فقال: ﴿يوم التقى﴾ أي عن غير قصد من الفريقين بل بمحض تدبير الله ﴿الجمعان﴾ أي اللذان أحدهما أنتم وكنتم حين الترائي - لولا فضلنا - قاطعين بالموت، وثانيهما أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد، ولو قيل: يوم بدر، لم يفد هذه الفوائد.
ولما كان انعكاس الأمر في النصر محل عجب، ختم الآية بقوله:
284
﴿والله على كل شيء﴾ أي من نصر القليل على الكثير وعكسه وغير ذلك من جميع الأمور ﴿قدير*﴾ فكان ختمها بذلك كاشفاً للسر ومزيلاً للعجب ومبيناً أن ما فعل هو الجاري على سنن سنته المطرد في قديم عادته عند من يعلم أيامه الماضية في جميع الأعصر الخالية.
ولما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من ﴿يوم الفرقان﴾ ﴿إذ أنتم﴾ نزول ﴿بالعدوة الدنيا﴾ أي القربى إلى المدينة ﴿وهم﴾ أي المشركون نزول ﴿بالعدوة القصوى﴾ أي البعدى منها القريبة إلى البحر، والقياس قلب واوه ياء، وقد جاء كذلك إلا أن هذا أكثر كما كثر استصوب وقلّ استصاب، والعدوة - بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها - بأي ترتيب كان - تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو ﴿والركب﴾ أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب
285
على الظرف قوله: ﴿أسفل منكم﴾ أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال - كما قال البغوي، وهو كان قصدهم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه - لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم - جواباً له «أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم» مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب أيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله، وما في البيضاوي تبعاً للكشاف من أن العدوة الدنيا كانت تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها تقدم رده أول السورة بأن المشهور في صحيح مسلم والسير وغيرها أن المؤمنين هم السابقون إلى الماء، وأن جميع أرض ذلك المكان كانت رملاً تسوخ فيه الأقدام، فأتى المسلمين به من المطر ما لبد لهم الأرض،
286
وأتى المشركين منه ما لم يقدروا معه على الحركة ﴿ولو تواعدتم﴾ أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد ﴿لاختلفتم في الميعاد﴾ أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءكم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل - كما يزعم محمد - الله فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمداً صادق وما كذب قط، فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه ﴿ولكن﴾ أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهماً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة
287
والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان - ﴿ليقضي الله﴾ أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعرازكم زإذلالهم ﴿أمراً كان﴾ كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام ﴿مفعولاً﴾ أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: ﴿ليقضي الله﴾ علل تلك العلة بقوله: ﴿ليهلك﴾ أي لعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة ﴿من هلك﴾ أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً ﴿عن﴾ حالة ﴿بينة﴾ لما بان من صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات ﴿ويحيى من حيّ﴾ أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشير
288
إليه إدغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة ﴿عن﴾ حالة ﴿بينة﴾ أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون ﴿غر هؤلاء دينهم﴾ [الأنفال: ٤٩] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: ﴿وإن الله لسميع﴾ أي لما كنتم تقولونه وغيره ﴿عليم*﴾ بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته، ثم أتم سبحانه تصوير حالتهم بقوله مبيناً ما أشار إليه من لطف تدبره: ﴿إذ﴾ أي اذكر إذ أردت علم ذلك حين ﴿يريكهم الله﴾ أي الذي له صفات الكمال فهو يفعل ما يشاء ﴿في منامك قليلاً﴾ تأكيداً لما تقدم إعلامه به من أن المصادمة - فضلاً عما نشأ عنها - ما كان إلا منه وأنهم كانوا كالآلة التي لا اختيار لها، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآهم في منامه قليلاً فحدث أصحاب رضي الله عنهم بذلك فاطمأنت قلوبهم وشجعهم ذلك؛ وعين ما كان يحصل من الفساد لولا ذلك فقال: ﴿ولو أراكهم﴾ أي في منامك أو غيره ﴿كثيراً﴾.
ولما كان الإخبار بعد الوقعة بضد ما وقع فيها مما يقتضي طبع البشر التوقف فيه، أكد قوله: ﴿لفشلتم﴾ أي جبنتم ﴿ولتنازعتم﴾ أي اختلفتم فنزع كل واحد منزعاً خلاف منزع صاحبه ﴿في الأمر﴾ أي فوهنتم فزادكم ذلك ضعفاً وكراهة للقائهم ﴿ولكن الله﴾ أي الذي
289
أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿سلم﴾ أي ولكن لم يركهم كذلك فحصلت السلامة عما كان يتسبب عنها من النكوص، ثم بين العلة في ترتيبه ذلك وإخباره بهذا الأمر المفروض بقوله: ﴿إنه عليم﴾ أي بالغ العلم ﴿بذات الصدور*﴾ أي ضمائرها من الجراءة والجبن وغيرهما قبل خطورها في القلوب.
ولما بين ما نشأ عن رؤيته صلى الله عليه والسلم من قلتهم وما كان ينشأ عن رؤيته الكثرة لو وقعت، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هو عليه من النصيحة والشفقة - كان يخبرهم بما رأى كما أخبرهم في غزوة أحد بالبقر المذبحة؛ أتبعه ما فعل من اللطف في رؤيتهم بأنفسهم يقظة فقال: ﴿وإذ﴾ أي واذكروا أيضاً إذ ﴿يريكموهم﴾ أي يبصركم أياهم ﴿إذ﴾ أي حين ﴿التقيتم﴾ ونبه على أن الرؤية ليست على حقيقة ما هم عليه بقوله: ﴿في أعينكم﴾ أي لا في نفس الأمر حال كونهم ﴿قليلاً﴾ أي عددهم يسيراً أمرهم مصدقاً لما أخبركم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رؤياه لتجترئوا عليهم؛ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، قال الحرالي في آل عمران: فجعل القليل وصفاً لهم لازماً ثابتاً دائماً عليهم بما أوجب فيهم من نقص ذواتهم بخفاء فطرتهم وما وراء خلق الفطرة
290
من الذوات، قال تعالى: ﴿ويقللكم﴾ صيغة فعل واقع وقت لا وصفاً لهم من حيث إنه لو أراهم أياهم على الإراءة الحقيقية لزادهم مضاعفين بالعشر، فكانوا يرونهم ثلاثة آلاف ومائتين وثلاثين - انتهى.
﴿في أعينهم﴾ قبل اللقاء ليجترئوا على مصادمتكم حتى قال أبو جهل: إنما هم أكلة جزور، ثم كثركم في أعينهم حين المصادفة حتى انهزموا حين فاجأتهم الكثرة فظنوا الظنون؛ قال الحرالي: قللهم حين لم يرهم أياهم على الإراءة - الحقيقية العشرية، ولا أراهم أياهم على الصورة الحسية؛ فكان ذلك أية للمؤمنين على قراءة ياء الغائب - أي في آل عمران - وكانت آية للكفار على قراءة ﴿ترونهم﴾ - بتاء الخطاب، فكان في ذلك في إظهار الإراءة في اعين الفئتين نحو مما كان من الإراءتين الواقعة بين موسى عليه السلام والسحرة في أن موسى عليه السلام ومن معه خيل إليهم من سحرهم أنها تسعى وأن فرعون ومن معه رأوا ثعباناً مبيناً يلقف ما يأفكون رؤية حقيقة، فتناسب ما بين الأيات الماضية القائمة لهذه الآية بوجه ما، وكان هذه الآية أشرف وألطف بما هي في مدافعة بغير آلة من عصى ولا حبل في ذوات الفئتين وإحساسهم - انتهى.
ولما ذكر ما أحاله سبحانه من إحساس الفئتين، علله بقوله: ﴿ليقضي الله﴾ أي الذي له العزة البالغة والحكمة الباهرة من نصركم وخذلانهم بأن تفاجئهم كثرتكم بعد رؤيتكم قليلاً فيشجعهم ذلك، ويهزمهم
291
﴿أمراً كان مفعولاً﴾ أي من إعجالهم - بما فجعهم من الكثرة بعد القلة - عن الحذر والاستعداد لذلك وبما فعل بأيديكم في هذه الغزوة من القتل والأسر والهزيمة المثمر لذل جميع أهل الكفر، كان مقدراً في الأزل فلا بد من وقوعه على ما حده لأنه لا راد لأمره ولا يبدل القول لديه، فعل ذلك كله وحده.
ولما كان التقدير: فبيده سبحانه ابتداء الأمور بتقديره أياها في الأزل لا بيد أحد غيره، عطف عليه قوله: ﴿وإلى الله﴾ أي الملك الأعلى الذي بيده وحده كل أمر ﴿ترجع الأمور*﴾ أي كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه، فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وهو من قولك: هذا الأمر راجع إليك، أي مهما أردته فيه مضى، ولو فرض أن غيرك عالجه لم يؤثر فيه؛ ولا يزال كذلك حتى يرجع إليك فيمضي، فالحاصل أن فيه قوة الرجوع بهذا الاعتبار وإن لم يكن هناك رجوع بالفعل، وفي هذا تنبيه على أن أمور الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد، ولما تقرر ذلك وتم على هذا السبيل الأحكم والمنهاج الأقوم، كان علة لمضمون قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ الآيتين، فكانتا نتيجته، لأنه إذا علم أن الأمر كله له ولا أثر لقلة ولا كثرة أثمر لمن هو في أدنى درجات الإيمان فضلاً عن غيره قلة المبالاة بالظالمين وإن تجاوزت قواهم الحد، وزادوا كثرة على
292
العد، والآيتان تذكّرانهم بحالتهم التي أوجبت نصرهم ليلزموها في كل معترك ولا يتنازعوا كما تنازعوا في المغنم ﴿إذا لقيتم﴾ أي قاتلتم لأن اللقاء اسم للقتال غالب ﴿فئة﴾ أي طائفة مستحقة للقتال كما أغنى عن وصفها بذلك وصفهم بالإيمان ﴿فاثبتوا﴾ أي في لقائها بقتالها كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار ﴿واذكروا الله﴾ أي الذي له كل كمال فكل شيء يطلب فهو عنده يوجد ﴿كثيراً﴾ أي كما صنعتم ثَمَّ، لأن ذلك أمارة الصدق في الاعتماد عليه وحده، وذلك موجب للنصر لا محالة كما في الحديث القدسي
«إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه»
ولما أمر بذلك، علله بأداة الترجي، ليكون أدل على أنه سبحانه لا يجب عليه شيء فيكون للإيمان فقال: ﴿لعلكم تفلحون*﴾ أي لتكونوا على رجاء من الفلاح وهو الظفر بالمراد من النصر والأجر وكما كنتم إذ ذاك ﴿وأطيعوا الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق فلا يقبل إلا الخالص والكمال الأكمل فلا يفعل إلا ما يريد ﴿ورسوله﴾ أي في الإقدام والإحجام لجهلكم بالعواقب، وتلك الطاعة أمارة إخلاصكم في الذكر ﴿ولا تنازعوا﴾ بأن يريد كل واحد نزع مال صاحبه من رأي وغيره وإثبات ما له، وأشار إلى عظيم ضرر التنازع ببيان ثمرته المرة فقال؛ ﴿فتفشلوا﴾ أي تضعفوا؛ قال في القاموس: فشل كفرح،
293
فهو فشل، كسل وضعف وتراخي وجبن - انتهى. والمادة راجعة إلى الفيشلة وهي الحشفة، ومن لازمها الرخاوة وينشأ عن الرخاوة الجبن مع الصلف والخفة والطيش.
ولما كان الفشل ربما كان معه الظفر لفشل في العدو أكثر منه أو غير ذلك، عطف ما يلزمه غالباً بالواو دون الفاء فقال: ﴿وتذهب ريحكم﴾ أي غلبتكم وقوتكم، وأصله أن الريح إذا كانت في الحرب من جهة صف كانت في وجوه أعدائهم فمنعتهم بما يريدون فخذلوا فصارت كأنها قوة من أتت من عنده، فصارت يكنى بها عنها؛ ثم ختم هذه الأسباب بالجامع لشملها الناظم لمقاصد أهلها فقال؛ ﴿واصبروا﴾ أي على ما يكون من تلك المشاق فإنكم إن تكونوا تألمون فإن أعداءكم كذلك، وأنتم ترجون من الله ما لا يرجون؛ ثم علله بما يكون النصر في الحقيقة فقال: ﴿إن الله﴾ أي الميحط بصفات الكمال ﴿مع الصابرين*﴾ أي لأنهم لا يصبرون إلا اعتماداً عليه، ومن كان معه عز، وهذه الجملة فيها - كما قال الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في آخر كتاب الفروسية المحمدية - تدبير الحروب أحسن جمع على أتم وجه، فأمر فيها بخمسة أشياء ما اجتمعت قط في فئة إلا انتصرت وإن قلت في جنب عدوها، وخامسها ملاك ذلك وقوامه وأساسه وهو الصبر، فعلى هذه الدعائم الخمس تبنى قبة النصر، ومتى زالت
294
أو بعضها زال من النصر بحسبه، وإذا اجمتعت قوى بعضها بعضاً وصار لها أثر عظيم، لما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم لم تقم لهم أمة من الأمم، ففتحوا البلاد شرقاً وغرباً ودانت لهم العباد سلماً وحرباً، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر قليلاً قليلاً إلى ما ترى - فلا قوة إلا بالله، والجامع لذلك كله طاعة الله ورسوله فإنها موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته، وذلك سر قول أبي الدرداء رضي الله عنه الذي رواه البخاري في باب «عمل صالح قبل القتال» : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم؛ وهو شرع قديم، قال في أثناء السفر الخامس من التوارة: وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وتحفظتم وعملتم بكل هذه الوصية التي آمركم بها اليوم يبارك عليكم الله ربكم كما قال لكم، وترزقون إن تقرضوا شعوباً كثيرة ولا تقرضون، وتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلطون عليكم.
295
ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمراً لهم بالثبات عليه، ذكر لهم حال أعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهياً عنه تعريضاً بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا، ويوشك - إن تمادت - أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذي محط نظرهم الدنيا فقال: ﴿ولا تكونوا﴾ أي يا معشر
295
المؤمنين ﴿كالذين﴾ وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال: ﴿خرجوا من ديارهم﴾ أي كل واحد من داره وهم أهل مكة، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم، ولذا عبر بالوصف ليعم ﴿بطراً﴾ أي طغياناً وتكبراً على الحق، ومادة بطر - بأيّ ترتيب اتفق - تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط، فإنه لولا الضعف ما استوثق من المربوط، ومنه بطر الجرح - وهو شقه - والبيطار، وتارة يكون ذلك اللين عن دهش. ومنه أبطرت حلمه أي أدهشته عنه، وذهب دمه بطراً أي باطلاً للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة، ومنه بطر النعمة - إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك ما قال عمر رضي الله عنه: العدل وإن رئي ليناً أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديداً - أو كما قال رضي الله عنه. وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال.
ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال: ﴿ورئاء الناس﴾ أي خرجوا يرون الناس
296
خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه، فإنهم لما قيل لهم؛ قد نجى الله عيركم فارجعوا، بطروا النعمة تبعاً لأبي جهل حيث قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً! فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا الحمر، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان.
ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق، وعن الثمرة بالمضارع تنبيهاً على أنهم لا يزالون يجددونها فقال: ﴿ويصدون﴾ أي يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم ﴿عن سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلاً وبنيانهم واهياً، فإنها من عمل الشيطان، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلاً، فإن العاملين عبيد الله ﴿والله﴾ أي فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه ﴿بما﴾ أو يكون ذلك معطوفاً على تقديره: فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما ﴿يعملون محيط*﴾ فهم في قبضته، فأوردهم - إذ خرجوا يحادونه - بدراً فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كؤوس المنايا، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدة إحاطته بأعمالهم كأنه
297
لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها.
ولما كان بين لهم فساد أعمالهم لفساد نياتهم تنفيراً منها، زاد في التنفير بالإشارة إلى الأمر بدوام تذكرها بعاطف على غير معطوف عليه مذكور فقال؛ ﴿وإذ﴾ فعلم أن التقدير قطعاً: اذكروا ذلك واذكروا إذ، وزاد في التنفير بذكر العدو المبين والتنبيه على أن كل ما يأمر به إنما هو خيال لا حقيقة له كما كان ما سول لهم في هذا الأمر فقال: ﴿زين لهم الشيطان﴾ أي العدو المحترق البعيد من الخير ﴿أعمالهم﴾ التي أتقنوها بزعمهم في معاداة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني حين خافوا من قومه بني كنانة أن يخلفوهم في أهليهم بسوء لما كان بينهم مما يوجب ذلك، فكاد ذلك أن يثبطهم عن الميسر ﴿وقال﴾ غارّاً لهم في أنفسهم ﴿لا غالب لكم﴾ والجار خبر ﴿لا﴾ وإلاّ لا انتصب اسمها لكونه يكون إذ ذاك شبيهاً بالمضاف ﴿اليوم من الناس﴾ وغارّاً لهم فيمن خلفوه بقوله: ﴿وإني جار لكم﴾ من أن تخلفكم كنانة بشيء تكرهونه، وسار معهم إلى بدر ينشطهم وينشدهم ويسلطهم بهذا القول الظاهر إلى ما يوسوس لهم به في الصدور ﴿فلما تراءت الفئتان﴾ أي رأت كل فئة الأخرى ورأى جبريل عليه السلام في جنود الله ﴿نكص﴾ أي رجع يمشي القهقرى وبطل كيده وآثار وسوسته ﴿على عقبيه﴾ أي إلى ورائه، فقالوا
298
أين أي سراق؟ ولا يظنونه إلا سراقة، فمر ولم يجبهم ولا عرج عليهم ﴿وقال﴾ أي بلسان الحال أو القال وهو يسمعونه أو لا يسمعونه ﴿إني بريء منكم﴾ ثم علل براءته منهم بقوله: ﴿إني أرى﴾ أي بعين بصري ﴿ما لا ترون﴾ أي من الملائكة والغضب الذي هو نازل بكم، فقال له الحارث بن هشام وكانت يده في يده: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب! فاستأنف قوله مؤكداً لإنكارهم لذلك: ﴿إني أخاف الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً أن يهلكني معكم بالمعاجلة بالعقاب ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿شديد العقاب*﴾ فكانوا يقولون: انهزم بنا سراقة، فقال؛ بلغني أنكم تقولون كذا! والله ما علمت بمسيركم هذا إلا عندما بلغني انهزامكم فكانوا يكذبونه حتى أسلموا فعلموا أن الذي غرهم الشيطان، وذلك مشهور في السير، وهو أولى من أن يحمل على مجرد الوسوسة، وفي الحديث «ما رئي إبليس يوماً أصغر ولا أحقر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر».
299
ولما استوفى ما كان يقطع به في حق أولئك مما هو من أنفسهم ومما هو من تزيين الشيطان، أبدل منه ما كان يقطع به في حقهم من أهل الجهل بالله وبأيامه الماضية وآثاره عند أوليائه وأعدائه فقال: ﴿إذ يقول المنافقون﴾ أي من العرب وبني إسرائيل قولاً يجددونه كل وقت لما لهم فيه من الرغبة ﴿والذين في قلوبهم مرض﴾ أي ممن
299
لم يرسخ الإيمان في قلبه ممن آمن ولم يهاجر أو من اليهود المصارحين بالكفر حين يرون الكفار وقوتهم وكثرتهم والمؤمنين وضعفهم وقلتهم ﴿غرَّ هؤلاء﴾ مشيرين إليكم ﴿دينهم﴾ أي في إقدامهم على ما يقطع فيه بهلاكهم ظناً منهم أن الله ناصرهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ملوك العرب، فيغيظكم ذلك، فكذبهم الله وصدق أمركم بتوكلكم عليه وصبركم على دينكم ﴿ومن﴾ أي قالوا ذلك عالمين بأنكم متوكلون عليه وصبركم على دينكم ﴿ومن﴾ أي قالو ذلك عالمين بأنكم متوكلون على من تدينون له والحال أنه من ﴿يتوكل على الله﴾ أي الذي له الإحاطة الشاملة، فهو يفعل ما يشاء منكم ومن غيركم بشرطه من الإيمان والسعي في الطاعة كما فعلتم فإنه معز ومكرم.
ولما كان سبحانه محيطاً بكل صفة كمال على الإطلاق من غير قيد توكل ولا غيره، أظهر تعالى فقال عاطفاً على تقديره: فإن الله قادر على نصره: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الكمال المطلق ﴿عزيز﴾ أي غالب لكل من يغالبه فهو جدير بنصره ﴿حكيم*﴾ أي متقن لأفعاله فهو حقيق بأن يأخذ عدو المتوكل عليه من الموضع الذي لا ينفعه فيه حيلة.
ولما ذكر ما سرّهم من حال أعدائهم المجاهرين والمساترين في الدنيا مرصعاً ذلك بجواهر الحكم وبدائع الكلم التي بملازمتها تكون السعادة وبالإخلال بها تحل الشقاوة، أتبعه ما يسرهم من حال أعدائهم عند الموت وبعده، فقال مخاطباً لمن لو كشف الغطاء لم يزدد يقيناً، حادياً بتخصيصه بالخطاب كل سامع على قوة اليقين ليؤهل لمثل هذا الخطاب
300
حكاية لحالهم في ذاك الوقت ﴿ولو﴾ أي يقولون ذلك والحال أنك ﴿لو ترى﴾ يا أعلى الخلق ﴿إذ يتوفى﴾ أي يستوفي إخراج نفوس ﴿الذين كفروا﴾ أي من هؤلاء القائلين ومن غيرهم ممن قتلتموهم ببدر ومن غيرهم بعد ذلك وقبله ﴿الملائكة﴾ أي جنودها الذي وكلناهم بهم حال كونهم ﴿يضربون﴾.
ولما كان ضرب الوجه والدبر أدل ما يكون على الذل والخزي، قال: ﴿وجوههم وأدبارهم﴾ أي أعلى أجسامهم وأدناها فغيره أولى ﴿و﴾ حال كونهم يقولون لهم: ذوقوا ما كنتم به تكذبون ﴿ذوقوا عذاب الحريق*﴾ أي لرأيتم منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً. فسركم ذلك غاية السرور، وما أثر كلامهم في غيظهم، فإنهم يعلمون حينئذ من الذي غره دينه و «لو» وإن كانت تقلب المضارع ماضياً فلا يخلو التعبير بالمضارع في حيزها من فائدة، وهي ما ذكر من الإشارة إلى أن هذا لا يخص ميتاً منهم دون ميت، بل لا فرق بين متقدمهم ومتأخرهم، من مات ببدر أو غيرها وليس في الكلام ما يقتضي أن يكون القائلون ﴿غر هؤلاء دينهم﴾ حضروا بدراً، بل الظاهر أن قائليه كانوا بالمدينة وتعبيرهم ب ﴿هؤلاء﴾ التي هي أداة القرب للتحقير واستسهال أخذهم كما أن أداة البعد تستعمل للتعظيم ببعد الرتبة، وعلى مثل هذا يتنزل قول فرعون بعد أن سار
301
بنو إسرائيل زماناً أقله ليلة وبعض يوم كما حكاه الله عنهم
﴿إن هؤلاء لشرذمة قليلون﴾ [الشعراء: ٥٤] على أن البغوي قد نقل في تفسير قوله تعالى ﴿يرونهم مثليهم رأي العين﴾ [آل عمران: ١٣] أن جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة. وإذا تأملت هذا مع قوله تعالى ﴿كدأب آل فرعون﴾ علمت أن جلَّ المقصود من هذه الآيات إلى قوله ﴿ذلك بأنهم قوم لا يفقهون﴾ اليهود، وفي تعبيره ب ﴿لا يفقهون﴾ تبكيت شديد لهم كما قال تعالى في آية الحشر ﴿لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون﴾ [الحشر: ١٣].
ولما عذبوهم قولاً وفعلاً، عللوا لهم ذلك بقولهم زيادة في تأسيفهم: ﴿ذلك﴾ أي هذا الفعل العظيم الذي يفعله بكم من العذاب الأليم ﴿بما قدمت أيديكم﴾ أي من الجراءة على الله ﴿وأن﴾ أي وبسبب أن له أن يفعل ذلك وإن لم تقدموا شيئاً فإن ﴿الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿ليس بظلام﴾ أي بذي ظلم ﴿للعبيد*﴾ فإن ملكه لهم تام. والمالك التام المُلك على ما يملكه المِلك الذي لا شيء يخرج عن دائرة ملكه، وهو الذي جبلكم هذه الجبلة الشريرة التي تأثرت عنها هذه الأفعال القبيحة، وهو لا يُسأل عما يفعل، من الذي يسأله! ويجوز أن يكون المعنى: وليس بذي ظلم لأنه لا يترك الظالم يبغي على المظلوم من
302
غير جزاء لكم على ظلمكم لأهل طاعته، وسيأتي في «فصلت» حكمة التعبير بصيغة تحتمل المبالغة.
ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه، وبين أن من خالف ذلك هلك كائناً من كان؛ أتبعه بما يبين أن هذا من العموم والاطراد بحيث لا يخص زماناً دون زمان ولا مكاناً سوى مكان فقال تعالى: ﴿كدأب﴾ أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمونوا عليه كعادة ﴿آل فرعون﴾ أي الذين هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم ﴿والذين﴾ ولما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: ﴿من قبلهم﴾ وهو مع ذلك من أدلة ﴿فلم تقتلوهم﴾ لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد، فكأنه يقول: لا ينسب أحد لنفسه فعلاً، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره، الكل بفعلي، لولا أنا ما وقع، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده، أو نازع في النفل، وهو راجع إلى قوله تعالى
﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ [الحديد: ٢٣] وفي ذلك حث على التمرن على عدم
303
الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأموراً فيه بالتشريع، بل يقول: قتلهم الله، صرفهم الله، نصرنا الله، كفى الله، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقاً أفضى بهم إلى مدح الخالق والمخلوق لهم كما قال كعب بن زهير رضي الله عنه في مدحهم:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قبلهم بقوله: ﴿كفروا بآيات الله﴾ أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله: ﴿فأخذهم الله﴾ اي الذي له مجامع الكبر ومقاعد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة ﴿بذنوبهم﴾ كما أخذهم فإنهم تجرؤوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق، فنزلت بهم صواعق هيبتها، وأناخت عليهم صروف عظمتها، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تحس إلا ملاعبهم وأمكاكنهم.
ولما أخبر بأخذهم، علله بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الشامله ﴿قوي﴾ أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿شديد العقاب*﴾.
304
ولما كان كأنه قيل: فما له يمهلهم ولا يعالجهم بالأخذ قبل النكاية
304
في أوليائه وأهل وده وأصفيائه؟ قال: ﴿ذلك﴾ أي الأخذ على هذه الحالة ﴿بأن الله﴾ أي بسبب أنهم غيروا ما في أنفسهم، وقد كان له سبحانه أن يأخذهم قبل أن يغيروا لعلمه بما في ضمائرهم، ولكنه تعالى أجرى سنته الإلهية لتمام علمه وكمال قدرته وإحاطته بجميع صفات الكمال بأنه ﴿لم يك﴾ هكذا كان الأصل، ولكن حذف اختصاراً تقريباً لبيان تعميم العلة وإبعاد للسامع من مثل ذلك، وحذف نون «يكن» إرشاداً إلى أن هذه الموعظة خليقة بأن يوجز بها غاية الإيجاز فيبادر إلى إلقائها لما في حسن تلقيها من عظيم المنفعة، لأن من خالفها جدير بتعجيل الانتقام ﴿مغيراً نعمة﴾ أي قلت أو جلت، وبين أنه لا نعمة على أحد إلا منه فقال: ﴿أنعمها على قوم﴾ أي من أيّ طائفة كانوا ﴿حتى يغيروا﴾ أي يبدلوا ﴿ما﴾ يعتقدونه ﴿بأنفسهم﴾ بغيره مما هو غريزة لهم وهو حفي عنهم، يظنون اتصافهم بضده مما هو ظاهر لهم اتصافاً غريزياً ﴿وأنّ﴾ أي وبسبب أن ﴿الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿سميع﴾ أي لما يكذبون به الرسل ولأقوالهم: إن ما يظهرونه وصفهم الحقيقي ﴿عليم*﴾ أي بما تكّن ضمائرهم من غيره وإن جهلوه هم فيبتليهم ببلاء يظهر به ذلك المكنون ويبرز به كل سر مصون، فإذا تعلق به العلم ظاهراً علق به الحكم قاهراً لتمام قيام الحجة، ولتمام علمه بحالهم أمهلهم، وإنما يستعجل من يخاف أن تخيب فراسته أو يتغير علمه، وأما الذي علمه
305
بالظواهر والضمائر على حد سواء فالحالتان عنده سيان، فهو يمهل لإتمام الحكمة ولا يهمل من استحق النقمة، وذلك التغيير الذي أظهره البلاء هو التكذيب بالحق عناداً والبعد عما كانوا يدعونه من العدل والمشي على مناهيج العقل والاستحياء من العناد، والتنزه من طرق الفساد، هكذا كانت كل أمة أرسلت إليها الرسل تدعي وما عندها من خلاف ذلك مستور في ضمائرها مكنون في سرائرها، لا تعلمه كما تشاهد أكثر من تعاشره، يظن في نفسه ما ليس فيها، وعند الامتحان يكذبه العيان، فلما جاءتهم الرسل وأوضحوا لهم الأمر إيضاحاً ليس معه، لبس فكذبوهم، غيروا ما كان في نفوسهم مما كانوا يزعمون؛ ثم كرر قوله: ﴿كدأب آل فرعون﴾ أي فرعون وقومه فإنهم أتباعه فلا يخيل انهم يفعلون شيئاً إلا وهو قائدهم فيه ﴿والذين من قبلهم﴾ - لدقيقة، وهي أنه قد تقدم أنه ما من أمة إلا ابتليت بالضراء والسراء، فالأولى ينظر إليها مقام الإلهية الناظر إلى العظمة والكبرياء والقهر والانتقام، والثانية ثمرة مقام الربوبية الناشىء عنه التودد والرحمة والرأفه والإكرام، لذا عبر في الأولى باسم الذات الجامع لجميع الصفات الذي لفظه - عند من يقول باشتقاقه - موضوع لمعنى الإلهية إشارة إلى أنهم أعرضوا في حال الضراء عن التصديق وعاملوا بالتجلد والإصرار، ولذا عبر في هذه الثانية باسم الرب فقال: ﴿كذبوا﴾ أي
306
عناداً زيادة على تغطية ما دل عليه العقل بالتكذيب بالنقل ﴿بآيات ربهم﴾ فأشار بذلك إلى بطرهم بالنعم وتكذيبهم أنها بسبب دعاء الرسل.
ولما أشار بالتعبير به إلى أنه غرهم معاملته بالعطف والإحسان، قال: ﴿فأهلكناهم﴾ أي جميعاً ﴿بذنوبهم وأغرقنا﴾ فأتى بنون العظمه إشارة إلى أنه أتاهم بما أنساهم ذلك البر ﴿آل فرعون﴾ وإشارة إلى أنهم نسوا أن الرب كما أنه يتصف بالرحمة فلا بد أن يتصف بالعظمة والنقمة وإلا لم تتم ربوبيته، وهذا واضح مما تقدم في الأعراف عن التوراة في شرح ﴿فأرسلنا عليهم الطوفان﴾ [الأعراف: ١٣٣]- إلى آخرها، من أن فرعون كان يسأل موسى عليه السلام عند كل نازلة الدعاء برفعها معتلاً بأن الرب ذو حلم وأناة ورحمة، وقدم الأولى إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في الجرأة، والتعبير فيها ب ﴿كفروا﴾ يؤيد لذلك، أي أن مجرد الستر للآيات بالإعراض عنها كافٍ في إيجاب الانتقام ولو لم يصرح بتكذيب لعظم المقام، ومادة كفر - بأيّ ترتيبة كان - تدور على الخلطة المميلة المحيلة، وبخصوص هذا الترتيب تدور على الستر، أي غطوا التصديق بآيات ربهم، ويجوز - وهوالأحسن - أن يكون دورانها - مطلقاً لا بقيد ترتيب - على الفكر، وهو إرسال عين البصيرة في طلب أمر ويلزمه
307
الكشف والستر لأنه تارة يرفع أذيال الشبه عن ذلك الأمر فينجلي ويتحقق، وتارة يسلط قواطع الأدلة عليه فينعدم ويتمحق، وربما أرخى أذيال الشبه عليه فأخفى بعد أن كان جلياً كما كان شمرها عنه فألقى وقد كان خفياً.
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم، أخبر بالوصف الجامع لهم بالهلاك فقال: ﴿وكل﴾ أي من هؤلاء ومن تقدمهم من آل فرعون ومن قبلهم ﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿ظالمين *﴾ أي لأنفسهم وغيرهم واضعين الآيات في غير مواضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل؛ ثم علل اتصافهم بالظلم أو استأنف بياناً له بقوله: ﴿إن شر الدواب﴾ أي ظلموا لأنهم كفروا بآيات ربهم الذي تفرد بالإحسان إليهم وشر الدواب ﴿عند الله﴾ أي في حكم الحكم العدل الذي له الأمر كله وفي علمه ﴿الذين كفروا﴾ أي منهم ومن غيرهم، أي حكم عليهم بلزوم الكفر لما ركب فيهم من فساد الأمزجة لعدم الملاءمة للخير، فكانوا بذلك قد نزلوا عن رتبة الإنسان إلى رتبة مطلق الحيوان، ثم إلى دركة الحشرات والديدان بل العجلان، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود ﴿فهم﴾ أي بسبب ذلك ﴿لا يؤمنون*﴾ أي لا يتجدد منهم إيمان يستمرون عليه لما سبق من علم الله فيهم، فلم ينتفعوا بما أتاهم من صفة الربوبية فمحقتهم صفة الإلهية،
308
ولعله إنما خص آل فرعون تذكيراً - لأكثر من كان يقول ﴿غرَّ هؤلاء دينهم﴾ وهم - اليهود - بأنهم كانوا بالنسبة إلى فرعون وآله أضعف من الصحابة رضوان الله عليهم بالنسبة إلى قريش وأتباعهم، فإن اليهود مع قلتهم عندهم كانوا قد دانوا لهم بذل العبيد لمواليهم بل أعظم، ومع ذلك فإنهم نصروا عليهم لما كان الله معهم، وإعلاماً لهم بأنهم الآن كآل فرعون في العناد مع ما هم فيه من القلة والذلة، فقد جمعوا من كل قوم أخس صفاتهم وأردأ حالاتهم، ولذلك أبدل من عموم ﴿الذين كفروا﴾ ﴿الذين عاهدت منهم﴾ وهم اليهود بلا شك، إما بنو قينقاع أو النضير أو قريظة أو الجميع بحسب التوزيع، فكل منهم نقض ما كان أخذ عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العهود، وأخلف ما كان أكده من الوعود.
ولما كان العهد جديراً بالوفاء ولا سيما من العلماء، عبر بقوله: ﴿ثم ينقضون عهدهم﴾ أي يجددون نقضه كلما لاح لهم خلب برق أو زَور بطل يغير في وجه الحق؛ ثم عظم الشناعة عليهم بقوله: ﴿في كل مرة﴾ ثم نبه على رضاهم من رتبة الشرف العلية القدر وهدةَ السفه والسرف بعدم الخوف من عاقبة الغدر بقوله: ﴿وهم لا يتقون*﴾ أي الناس في الذم لهم على ذلك ولا الله في الدنيا بأن يمكن منهم، ولا في الآخرة بأن يخزيهم ثم يركسهم بعد المناداة بالعار في النار.
309
ولما أيأسه من تقواهم بما اشتملوا عليه من تكرير النقض الناشىء عن غاية الحسد وصلابة الرقاب وقساوة القلوب والقساوة على الكفر، أمره بما يوهن قواهم ويحل عراهم من إلباس اليأس بإنزال البأس كما جرت عادته سبحانه أنه يوصيه بالرفق ببعض الناس لعلمه أن عمله يزكو لبنيانه على أحسن أساس، فقال مؤكداً لأجل ما جبل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محبة الرفق: ﴿فإما تثقفنهم﴾ أي تصادفنهم وتظفرن بهم ﴿في الحرب﴾ أي التي من شأنها أن يحرب فيها المبطل، ويربح المحق المجمل ﴿فشرد بهم من خلفهم﴾ أي فنكل بهم تنكيلاً يصدع ويفرق عن محاربتك من وراءهم ممن هو على مثل رأيهم في المنافرة لك ولا تتركنهم أصلاً لأن أتباعك أمهر منهم وأحذق، فهم لذلك أثبت وأمكن، فإذا أوقعت بهم ذلك لم يجسر عليك أحد بعده اتعاظاً بهم واعتباراً بحالهم؛ ومادة شرد بكل ترتيب تدور على النفوذ، فإن كان على قصد وسنن فهو رشد ويلزمه الاجتماع، وإن كان على غير سنن وجامع استقامة فهو شرود، ودرشة، أي لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شروداً وشردت به تشريداً، فأما قوله لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شروداً وشردت به تشريداً، فأما قوله ﴿فشرد بهم﴾ فالمراد نكل بهم
310
وسمّع، قال القزاز: شردت الرجل تشريداً - إذا طردته، وشردت به - إذا سمّعت به وذكرت عيوبه للناس، وقوله تعالى ﴿فشرد بهم﴾ أي اجعلهم مطردين - انتهى.
فالمراد المبالغة في الإيقاع بهم لأنهم إذا ضربوا ضربة تفرقوا فيها على غير وجه ولا انتظام علم من شردوا إليه ممن وراءهم أنه قد تناهى بهم الذعر فذعر هو فوقع في الشرود قوة أو فعلاً، فعلى قراءة من جعل «من» حرف جر يكون المفعول محذوفاً، والتقدير: أوقع - بما تفعل بهؤلاء من الأمور الهائلة - التشريدَ في المكان الذي خلفهم بشرود من فيه قوة أو فعلاً بما سمعوا أو رأوا من حال هؤلاء حين واجهوك للقتال، وعلى قراءة من جعلها اسماً موصولاً تكون هي المفعول، فالمعنى: شرد الذين خلفهم من أماكنهم إما بالفعل أو بالقوة بأن تفترق قلوبهم بما تفعل بهولاء فتصير - بما ترى من قبيح حالهم - قابلة للشرود، ويكون اختلاف المعنى بالتبعيض في جعل «من» حرف جر والتعميم في جعلها موصولاً بالنظر إلى القوة أو الفعل.
ولما ذكر الحكم، ذكر ثمرته بأداة الترجي إدارة له على الرجاء فقال: ﴿لعلهم﴾ أي المشردين والمشرد بهم ﴿يذكرون*﴾ ما سبق من أيام الله فيعلموا أن هذه أفعاله، وهؤلاء رجاله، فينفعهم ذلك فلا ينقضوا عهداً بعده ولقد فعل بهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فإنهم إن كانوا بني قريظة فقد ضربهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربة لم يفلت منهم مخبر، بل
311
ضرب أعناقهم في حفائر في سوق المدينة وكانوا نحو سبعمائة على دم واحد. إلا من أسلم منهم وهم يسير، وسبى ذراريهم ونساءهم وغنم أموالهم، وإن كانوا قينقاع فقد نزل بساحتهم بعد نقضهم وإظهارهم غاية الاستخفاف والعناد فلم يكبتهم الله أن جعلهم في قبضته وما بقي إلا ضرب أعناقهم كما وقع لبني قريظة فسأله فيهم عبد الله بن أبي المنافق وألح عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرهم وكان يألفه ويتألف به فتركهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجلاهم من المدينة، وكانت واقعتهم أول وقائع اليهود بالمدينة، وإن كانوا بني النضير فقد نقضوا أيضاً فأحاط بهم، ومنّاهم المنافقون الغرور فقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجليهم ويكف عن دمائهم ففعل، ثم أتم الله له الأمر فيهم في خيبر ووادي القرى وغيرهما إلى أن لم يدع منهم في جزيرة العرب فريقاً إلا ضربه بالذل وأجرى عليه الهوان والصغار، ووقائعه فيهم مشهورة الخبر معروفه في السير.
312
ولما أمره بما يفعل تحقق نقضه، أرشده إلى ما يفعل بمن خاف غدره فقال: ﴿وإما تخافن﴾ وأكده إشارة ظهور القرائن ووضوح الأمارت ﴿من قوم﴾ أي ذوي قوة، بينك وبينهم عهد ﴿خيانة﴾ أي في ذلك العهد ﴿فانبذ﴾ أي اطرح طرح مستهين محتقر ﴿إليهم﴾ أي ذلك العهد نبذاً كائناً ﴿على سواء﴾ أي أمر مستوٍ في العلم بزواله بينكم وبينهم وعدل ونصفه ولا تناجزوهم وهم على توهم من بقاء
312
العهد، وهذا إشارة إلى أن يكونوا على غاية الحذر والفحص عن أخبار العدو بحيث لا يتركونه إلى أن ينقض ثم يعلمون ميله إلى النقض فينبذون إليه عهده لأن ذلك أردع له، فهو أدعى إلى السلم؛ ثم علل جواز النبذ ووجوب النصفة بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿لا يحب الخائنين*﴾ أي لا يفعل بهم فعل المحب لا منكم ولا من غيركم.
ولما كان نبذ العهد مظنة الخوف من تكثير العدو وإيقاظه، وكان الإيقاع أولى بالخوف، أتبع سبحانه ذلك ما يجري عليه ويسلي عن فوت من هرب من الكفار في غزوة بدر فلم يقتل ولم يؤسر فقال: ﴿ولا يحسبن﴾ بالياء غيباً على قراءة ابن عامر وحمزة وحفص، أي أحد من أتباعك في وقت من الأوقات، ووجه قراءة الباقين بالخطاب أن أمر الرئيس ونهيه أوقع في نفوس الأتباع وأدعى لهم إلى السماع ﴿الذين كفروا﴾ أي عامة من نبذ ومن لم ينبذ ﴿سبقوا﴾ أي وقع لهم السبق، وهو الظفر في وقت ما، فإنهم لم يفوتوا شيئاً من أوامرنا؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنهم لا يعجزون*﴾ أي لا يفوتون شيئاً مما يزيد تسليطه عليهم، أي لا يغرنك علوهم وكثرتهم وجرى كثير من الأمور على مرادهم فكل ذلك بتدبيرنا، ولا يخرج
313
شيء عن مرادنا، ولا بد أن نهلكهم فإنهم في قبضتنا، لم يخرجوا منها ولا يخرجون فضلاً عن أن يفوتوها فاصبر.
ولما كان هذا ربما أدى إلى ترك المناصبة والمحاربة والمغالبة اعتماداً على الوعد الصادق المؤيد بما وقع لهم في بدر من عظيم النصر مع نقص دعوى العِدة والعُدة، أتبعه ما يبين أن اللازم ربط الأسباب بمسبباتها، وليتبين الصادق في دعوى الإيمان من غيره فقال: ﴿وأعدوا لهم﴾ أي للأعداء ﴿ما استطعتم﴾ أي دخل في طاعتكم وكان بقوة جهدكم تحت مقدروكم وطاقتكم ﴿من قوة﴾ أيّ قوة كانت، وفسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرمي إشارة إلى أنه أعظم عدده على نحو «الحج عرفة» وفي أمرهم بقوله ﴿ومن رباط الخيل﴾ إيماء إلى باب من الامتنان بالنصر في بدر لأنهم لم يكن معهم فيه غير فرسين، والرباط هو الخيل التي تربط في سبيل الله الخمس منها فما فوقها، وخصها مع دخولها فيما قبل إشارة إلى عظيم غنائها، والرباط أيضاً ملازمة تغر العدو وربط الخيل به إعداداً للعدو؛ ثم أجاب من كأنه قال: لم نفعل ذلك وما النصر إلا بيدك؟ بقوله: ﴿ترهبون﴾ أي تخافون تخويفاً عظيماً باهراً يؤدي إلى الهرب على ما أجريت من العوائد ﴿به﴾ أي بذلك الذي أمرتكم به من المستطاع أو من الرباط ﴿عدو الله﴾ أي الذي له العظمة كلها لأنه الملك الأعلى ﴿وعدوكم﴾ أي المجاهدين، والأليق بقوله -: ﴿وآخرين﴾ أي وترهبون بذلك آخرين ﴿من دونهم﴾ - أي يحمل على المنافقين
314
لوصفهم بقوله: ﴿لا تعلمونهم﴾ كما قال تعالى
﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم﴾ [التوبة: ١٠١] ولأنهم لا يكونون دونهم إلا إذا لم يكونوا في العدواة مثلهم، وكل من فرض غير المنافقين مظهرون للعدواة، وأما المنافقون فإنهم مدعون بإظهار الإسلام أنهم أولياء لا أعداء ﴿الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يعلمهم﴾ أي فهو يكفيكم ما يظن من أمرهم، وليس عليكم إلا الجهد بحسب ما تعلمون، والآية بالنسبة إلى ما تقدمها من باب «اعقلها وتوكل» والمعنى لا تظنوا أن الكفار فاتونا وأفلتوا من عذابنا بامتناعهم منكم فإنهم في قبضتنا أينما توجهوا وحيثما حلوا فسوف نهلكهم ولا يعجزوننا، ومع ذلك فلا يحملنكم الاتكال على قوتنا على ترك أسباب مغالبتهم بما أعطيناكم من القوى بل ابذلوا جهدكم وطاقتكم في إعداد مكايد الحرب وما يتعلق بالرمي من القوة وبالخيل من الطعن والضرب والفروسية لنلقي بذلك رعبكم في قلوب عدوكم القريب والبعيد من تعلمونه منهم ومن لا تعلمونه.
ولما كان أغلب معاني هذه الأية الإنفاق، لأن مبنى إعداد القوة
315
عليه، رغب فيه بقوله: ﴿وما تنفقوا من شيء﴾ أي من الأشاء وإن قلَّ ﴿في سبيل الله﴾ أي طريق من له صفات الكمال من الجهاد وغيره ﴿يوف إليكم﴾ أي أجره كاملاً في الدنيا والآخرة أوفى ما يكون مضاعفاً أحوج ما تكونون إليه ﴿وأنتم لا﴾.
ولما كان المخوف مطلق النقص، بنى للمفعول قوله: ﴿تظلمون*﴾ أي لا تنقصون شيئاً منه، وأما الزيادة فلا بد منها وهي على قدر النية.
ولما كان ضمان النصر والحلف في النفقة موجباً لدوام المصادمة والبعد من المسالمة، أتبعه قوله أمراً بالاقتصاد: ﴿وإن جنحوا﴾ اي مالوا وأقبلوا في نشاط وطلب حازم ﴿للسلم﴾ أي المصالحة، والتعبير باللام دون «إلى» لا يخلو عن إيماء إلى التهالك على ذلك ليتحقق صدق الميل ﴿فاجنح﴾ ولما كان السلم مذكراً يجوز تأنيثه، قال: ﴿لها﴾ أي المصالحة، أو يكون تأنيثه بتأنيث ضده الحرب، وكأنه اختير التأنيث إشارة إلى أنه يقتصر فيه على أقل ما يمكن من المدة بحسب الحاجة، هذا إذا كان الصلاح للمسلمين في ذلك بأن يكون بهم ضعف، وأقصى مدة الجواز عشر سنين اقتداء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تجوز الزيادة.
316
ولما كان ذلك مظنة أن يقال: إنه قد عهد منهم من الخداع ما أعلم انهم مطبوعون منه على ما لا يؤمنون معه فمسالمتهم خطر بغير نفع، لوح إلى ما ينافي ذلك بقوله: ﴿وتوكل على الله﴾ أي الذي له مجامع العظمة فيما تعهده من خداعهم فإنه يكفيك أمره ويجعله سبباً لدمارهم كما وقع في صلح الحديبية فإن غدرهم فيه كان سبب الفتح، وحرف الاستعلاء في هذا وأمثاله معلم بأنه يفعل مع المتوكل فعل الحامل لما وكل إليه المطيق لحمله؛ ثم علل الأمر بالتوكل الذي معناه عدم الخوف من عاقبة أمرهم في ذلك بقوله: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ أي البالغ السمع، فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك وغيره سراً كما يسمعه علانية ﴿العليم*﴾ أي البالغ العلم وحده فهو يعلم كل ما أخفوه كما أنه يعلم ما أعلنوه؛ ثم صرح بالاستهانة بكيدهم فقال: ﴿وإن يريدوا﴾ أي الكفار ﴿أن يخدعوك﴾ أي بما يوقعون من الصلح أو بغيره ﴿فإن حسبك﴾ أي كافيك ﴿الله﴾ أي الذي له صفات العز كلها، ثم علل كفايته أو استأنف بيانها بقوله: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي أيدك بنصره﴾ أي إذ كنت وحدك ﴿وبالمؤمنين*﴾ أي بعد ذلك في هذه الغزوة التي كانت العادة قاضية فيها بأن من معك لا يقومون للكفار فواق ناقة، ولعل هذا تذكير بما كان من الحال في أول الإسلام، أي إن الذي
317
أرسلك مع وحدتك في مكة بين جميع الكفار وغربتك فيهم - وإن كانوا بني عمك - بسبب دعوتك إلى هذا الدين وعلوك عن أحوالهم البهيمية إلى الأخلاق الملكية، هو الذي قواك وحده بالنصر عليهم حتى لم يقدروا على أذى يردك عن الدعاء إلى الله مع نصب جميعهم لك ولمتبعيك شباك الغدر ومدهم إليكم أيدي الكيد ثم سلّكم من بين أظهرهم كما تسل الشعرة من العجين مع اجتهادهم في منعكم من ذلك، وأيدكم بالأنصار وجمع بين كلمتهم بعد شديد العدواة ﴿وألف بين قلوبهم﴾ بعد غاية التباغض، فصار البعيد منهم قريباً والبغيض حبيباً والعدو صديقاً، وكانوا على قلب واحد؛ ثم استأنف الإخبار بما دل على تعذر ألفتهم لولا هو فقال: ﴿لو أنفقت﴾ أي وأنت أتقن الخلق لما تصنعه ﴿ما في الأرض جميعاً﴾ أي في إرادة ذلك ﴿ما ألفت بين قلوبهم﴾ ثم أكد ذلك بقوله: ﴿ولكن الله﴾ أي وهو الذي له جميع صفات الكمال ﴿ألف بينهم﴾ ثم علل نفوذ فعله وأمره فيه بقوله: ﴿إنه عزيز حكيم*﴾ أي لأنه لولا عزته التي تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء وحكمته التي يتقن بها ما أراد بحيث لا يمكن لأحد أن يغير شيئاً منه لما تألفوا بعد أن كان قبل كل أحد من فريقيهم للآخر أشهى من لذيذ الحياة وصافي العيش لما بينهم من الإحن التي لا تزال تثور فتغلي لها الصدور حتى تفور بقتل الأحباب من الوالدين والأولاد والقهر بأنواع الأذى مع
318
المجاورة المقتضية لدوام التحاسد وإثارة الضغائن، وكذا فعل سبحانه بجميع العرب بعدما كان بينهم من القتل المنتشر مع ما لهم من الحمية والأنفة الحاملة على الانتقام.
والذي أمدك بهذه الألطاف حي لا يموت باق على ما كان عليه من القدرة والقوة، فهو الكفيل بحراستك ممن يريد خداعك، فإذا أمركم بأمر فامتثلوه غير مفكرين في عاقبته، فإنه قد بينه بعزته وأتقنه بحكمته وستعلمون.
319
ولما صرح بأن الله كافيه، وكانت كفاية الله للعبد أعظم المقاصد، التفتت الأنفس إلى أنه هل يكفيه مطلقاً أو هو فعل مع المؤمنين أيضاً مثل ذلك، فأتبعها بقوله معبراً بوصف النبوة الذي معناه الرفعة والاطلاع من جهة الله على ما لا يعلمه العباد، لأنه في سياق الإخبار ببعض المغيبات والتصرف في الملكوت: ﴿يا أيها النبي﴾ أي العالي القدر الذي نعلمه بعواقب أموره ﴿حسبك﴾ أي كافيك ﴿الله﴾ أي الذي بيده كل شيء ﴿ومن﴾ أي مع من ﴿اتبعك من المؤمنين*﴾ يجوز أن يكون المعية من ضميره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون المؤمنون مكفيين، وأن يكون من الجلالة فيكونوا كافين، حتى يكون المعنى: فهو كافيهم أيضاً وهم كافوك لأنه معهم، وساق سبحانه هذا هكذا تطييباً لقلوبهم وجبراً لخواطرهم وبالمعنى الثاني - لتضمنه الأول وزيادته عليه - قال ابن زيد والشعبي:
319
حسبك الله وحسبك من اتبعك، وساقها سبحانه على وجه مكرر لكفاية نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتمل لأن فيمن كان على اتباعه في ذلك الوقت لئلا يستقلوا بالنسبة إلى كثرة أعدائهم.
ولما بين أنهم كافون مكفيون، وكان ذلك مشروطاً بفعل الكيس والحزم وهو الاجتهاد بحسب الطاقة، أمره بأن يأمرهم بما يكونون به كافين من الجد في القتال وعدم الهيبة للأبطال في حال من الأحوال، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى جهة التلقي عن الله ليشتد وثوق السامع لما يسمعه: ﴿يا أيها النبي﴾ أي الرفيع المنزلة عندنا الممنوح من إخبارنا بكل ما يقر عينه وعين أتباعه ﴿حرض المؤمنين﴾ أي الغريقين في الإيمان ﴿على القتال﴾ أي بالغ في حثهم عليه وندبهم بكل سبيل إليه، ومادة حرض - بأيّ ترتيب كان - حرض، حضر، رحض، رضح، ضرح؛ ترجع إلى الحضور ويلزمه الخفض والدعة، ويلزم الكسل فيلزمه الضعف فيلزمه الفساد، ومنه الحرض الذي أشفى على الهلاك، أي حضر هلاكه وحضر هو موضعه الذي هو فيه فصار لما به لا يزايله ما دام حياً، ورخص الثوب، أي غسله، من الدعه التي هي شأن الحضور غير المسافرين، والرحضاء عرق الحمى تشبيه بالمغسول، والمرضاح الحجر الذي لا يزال حاضراً لرضح النوى، والضريح شق مستطيل يوضع فيه الميت فيكون حاضره لازماً له دائماً إلى الوقت المعلوم، ويلزمه الرمي
320
والطول، ومنه المضرحي للطويل الجناحين من الصقور لأن كل صيد عنده حاضر لقوة طيرانه، والرجل الكريم لعلو همته، وأحضرت الدابة: عدت فجعلت الغائب حاضراً، والتحريض الحث على حضور الشيء، فحرض على القتال: حث على الطيران إليه بتعاطي أسبابه والاستعداد لحضوره حتى يصير المحثوث كأنه حاضر، متى قيل: يا صباحاه! طار إلى المنادي، وكان أول حاضر إلى النادي، لأنه لا مانع له من شيء من الأشياء بل استعداده استعداد الحاضر في الصف؛ وقال الإمام أبو الحسن علي ابن عيسى الرماني في تفسيره: والتحريض: الدعاء الوكيد لتحريك النفس على أمر من الأمور، والحث والتحريض والتحضيض نظائر، ونقيضه التفسير، والتحريض ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه - انتهى.
فهذه حقيقته، لا ما قال في الكشاف وتبعه عليه البيضاوي.
ولما ندبهم إلى القتال، أعلمهم بأنهم منصورون فيه إن لازموا آلة النصر، فقال اسئنافاً جواباً لمن قال: ما عاقبتهم إذا رغبوا فبادروا إلى ذلك؟ :﴿إن يكن﴾ ولما كانت لذة الخطاب تثير الهمم وتبعث العزائم وتوجب غاية الوثوق بالوعد، عدل عن الغيبة فقال: ﴿منكم عشرون﴾ أي رجلاً: ﴿صابرون﴾ أي الصبر المتقدم ﴿يغلبوا مائتين﴾ أي من
321
الكفار، والآية من الوعد الصادق الذي حققه وقائع الصحابة رضي الله عنهم ﴿وإن يكن منكم مائة﴾ أي صابرة ﴿يغلبوا ألفاً﴾ أي كائنين ﴿من الذين كفروا﴾ فالآية من الاحتباك: أثبت في الأول وصف الصبر دليلاً على حذفه ثانياً، وفي الثاني الكفر دليلاً على حذفه أولاً؛ ولعل ما أوجبه عليهم من هذه المصابرة علة للأمر بالتحريض، أي حرضهم لأني أعنت كلاً منهم على عشرة، فلا عذر لهم في التواني؛ وعلل علوهم عليهم وغلبتهم لعن على هذا الوجه بقوله: ﴿بأنهم﴾ أي هذا الذي أوجبته ووعدت بالنصر عنده بسبب أنهم، أي الكفار ﴿قوم لايفقهون*﴾ أي ليس لهم فقه يعلمون به علم الحرب الذي دربه أهل الإيمان وإن كنتم ترونهم أقوياء الأبدان فيهم كفاية للقيام بما ينوبهم من أمر الدنيا لأنهم أبدان بغير معان، كما أن الدنيا كذلك صورة بلا روح، لأنهم لم يبنوا مصادمتهم على تلك الدعائم الخمس التي قدمتها لكم وألهمتكم إياها في بدر، فمن لم يجمعها لم يفقه الحرب، لأن الجيش إن لم يكن له رئيس يرجع إليه لم يفلح، وذلك الرئيس إن لم يكن أمره مستنداً إلى ملك الملوك كان قلبه ضعيفاً، وعزمه - وإن كثرت جموعه - مضطرباً، فإنهم يكونون صوراً لا معاني لها، والصور منفعله لا فعالة، والمعاني هي الفعالة، والمعتمد على الله صورته مقترنة بالمعنى، فأقل ما يكون في مقابلة اثنين من أعدائه كما حط عليه الأمر
322
في الجهاد، ولعل هذا هو السر في انتصار الخوارج - من أتباع شبيب وأنظاره على قلتهم - على الجيوش التي كانوا يلقونها عن ملوك زمانهم على كثرتهم، فإن الخوارج معتقدون أن قتالهم لله مستندين في هذا الاعتقاد إلى ظلم أولئك الملوك وخروجهم عن أمر الله، والذين يلقونهم عن أولئك الملوك وإن اعتقدوا أنهم أهل طاعة لطاعتهم الإمام الواجب طاعته، لكنهم يعلمون أن استناد إمامهم إلى الله ضعيف لمخالفته لمنهاج الاستقامه، وذلك الرئيس نفسه معتقد ذلك وأن ولايته مفسدة، وأن تحريم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقتاله إنما هو درء لأعظم المفسدتين، فصار استناد الخوارج إلى الملك الملوك اعظم من استناد أولئك، ولهذا نشأ عن استناد الخوارج الزهد الذي هو أعظم أسباب النصر، ونشأ عن استناد أولئك الملوك الإخلاد إلى الدنيا الذي هو أعظم الموجبات للخذلان، مصداق ذلك أنهم لما خرجوا على علي رضي الله عنه فسار فيهم بسنة الله من اللطف بهم وتقديم وعظهم والإعذار إليهم وردهم إلى الله فلما لم يقبلوا قصدهم في ساعة، قال له بعض من كان يعتني بالنجوم: إنها ساعة نحس، أن سار فيها حذل، فقال: سيروا فيها فإنه ما كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجمون، فلما لقي الخوارج لم يواقفوه حلب ناقه ولا أفلت منهم أحد ولا قتل من جماعته إنسان؛ وفهم الإيجاب في قوله تعالى ﴿إن يكن منكم عشرون﴾ - الآية وأن الخبر فيه بمعنى الأمر من قوله: ﴿الآن خفف الله﴾ أي الملك الذي له الغنى المطلق صفات الكمال ﴿عنكم﴾ أي
323
رحمة لكم ورفقاً بكم ﴿وعلم﴾ أي قبل التخفيف وعده ﴿أن فيكم ضعفاً﴾ أي في العَدد والعُدد، ولكنه أوجب عليكم ذلك ابتلاء، فبعد التخفيف علم ضعفهم واقعاً وقبله علم أنه سيقع، وتصديره هذه الجملة ب ﴿الآن﴾ يشير إلى أن النسخ كان قبل أن تمضي مدة يمكن فيها غزو، وفائدة الأمر المعقب بالنسخ حيازة الأجر بقبوله والعزم على امتثاله، وقيل: ما كان النسخ إلا بعد مدة بعد أن سألوا في التخفيف؛ وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: ﴿الآن خفف الله عنكم﴾ - الآية؛ فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
والمعنى أنه كان كتب مقدراً من الصبر لكل مؤمن، فلما خفف أزال ذلك بالنسبة إلى المجموع، وهذا لا يمنع استمرار البعض على ما كان كما فعل سبحانه بالصحابة رضوان الله عليهم في غير موضع منها غزوة مؤته، فقد كانوا فيها ثلاثة آلاف، وكان من لقوا من جموع هرقل مائتي ألف: مائة من الروم ومائة من العرب المستنصرة، فصبروا لهم ونصروا عليهم كما في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال مخبراً عنهم في هذه الغزوة «ثم أخذ الراية عن غير إمرة سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه» ولما توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتد عامة الناس
324
حتى لم يثبت على الإسلام عشر العشر فصبر الصحابة رضوان الله عليهم لهم ونصروا عليهم، بل الذي صبر في الحقيقة أبو بكر رضي الله عنه وحده، ثم أفاض الله من صبره ونوره على جميع الصحابة رضي الله عنهم فصبروا، ثم جهز الجيش وأميرهم الذي سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيف الله، فأخمد الله به نار الشرك وقطع بصبره وحسن نيته جاذرة الكفر فلم تمض سنة وفي بلاد العرب مشرك.
فلما جمع الله العرب بهذا الدين على قلب رجل واحد قصدوا الأعاجم من الفرس والروم والقبط، فقاتلوا أهل فارس في عدة وقائع منها القادسية، وكان الصحابة رضي الله عنهم فيها دون أربعين ألفاً، وكان المجوس أكثر من أربعمائة ألف، وقاتلوا الروم كذلك فكانوا في اليرموك دون أربعين ألفاً وكان الروم نحو أربعمائة ألف - إلى غير ذلك من الوقائع وقد صبروا في أكثرها ونصروا، ثم كانت لهم العاقبة فطردوا الشرك وأهله، وأظهر الله لهم دينه كما وعد به سبحانه، وما اجتمع أهل الإسلام وأهل الضلال قط في معرك إلا كانت قتلى الكفار أضعاف قتلى المسلمين غير أن الله تعالى جده وتبارك اسمه وتمت كلمته ألطف بالعرب علماً منه بأنهم خلاصة الناس بما طبعهم سبحانه عليه من الخصال الحميدة والأخلاق السديدة فأسلم كل من اشتملت عليه جزيرتهم بعد وقائع في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزمان الردة، ولم تبلغ قتلاهم فيما أظن عشرة الآف إنسان، ثم لما
325
جاهدوا الأعاجم من فارس والروم وغيرهم كانت قتلى الكفار تبلغ في المعركة الواحدة مائة ألف ومائتي ألف - كما هو مشهور في كتب الفتوح للمدائني وسيف وابن عبد الحكم والبلاذري وغيرهم، وقد جمع أشتات ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي وشيخه ابن حبيش، ولعله حذف في الثانية التقييد بالكفار ليشمل كل ما استحق القتال من البغاة وغيرهم، فقال تعالى مسبباً عن التخفيف المذكور راداً الأمر من إيجاب مصابرة عشرة إلى الأمر بمصابرة الضعف، فإن زاد العدد على الضعف جاز الفرار والصبر أحسن: ﴿فإن يكن منكم مائة صابرة﴾ أي الصبر الذي تقدم التنبيه عليه ﴿يغلبوا مائتين﴾ أي من غيركم بإذن الله ﴿وإن يكن منكم ألف﴾ أي على النعت المذكور وهو الصبر ﴿يغلبوا ألفين﴾ ثم أرشد إلى أن المراد بالصبر هو كل المأمور به في آية ﴿إذا لقيتم فئة فاثبتوا﴾ [الأنفال: ٤٥] فقال: ﴿بإذن الله﴾ أي بإرادة الذي له جميع الأمر، ذلك وإباحته لكم وتمكينه، فإن لم يقع الإذن لم يقع الظفر، فالآية من الاحتباك: ذكر في الأول صابرة دلالة على حذفه ثانياً، وذكر ثانياً الإذن دليلاً على حذفه أولاً؛ ثم نبه على عموم الحكم بقوله: ﴿والله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿مع الصابرين*﴾ أي بنصره ومعونته، ومن ثم قال ابن شبرمة: وأنا أرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك. ومادة «إذن» - مهموزة وغير مهموزة وواوية ويائية بتقاليبها الأربعة: إذن ذان ذون ذين -
326
ترجع إلى العلم الناشىء عن حاسة السمع المتعلق بجارحة الأذن، وتارة يثمر الإباحة وتارة المنع، فأذن بالشيء - كسمع: علم به «فأذنوا بحرب» أي كونوا على علم من أن حربكم أبيح.
وأذن له بالشيء - كسمع أيضاً: أباحه له، وآذنه الأمر وبه: أعلمه - وزناً ومعنى، فجعله مباحاً له أو ممنوعاً منه، وأذّن فلاناً تأذيناً: عرك أذنه، وأذّنه: رده عن الشرب فلم يسقه، كأن التفعيل فيه للإزالة، وآذن النعل وغيرها: جعل لها أذناً، وفعله بإذني: بعلمي وتمكيني، وأذن إليه وله - كفرح: استمع بأذنه، أي أباح ذلك سمعه وقلبه، وأذن لراتحة الطعام: اشتهاه كأنه أباحه لنفسه، وآذنه إيذاناً: أعجبه، مثل ذلك سواء، وآذنه أيضاً: منعه، كأنه الهمزة للإزالة، والأذن: الجارحة المعروفة - بضمة وبضمتين - والمقبض والعروة من كل شيء وجبل، لأن كلاً من ذلك سبب للتمكن من حمل ما هو فيه، والأذن: الرجل المستمع القابل كل ما يقال له كأنه لما قبله أباحه قلبه ومكنه منه، والأذان: النداء إلى الصلاة لأنه إعلام بإباحتها والمكنة منها، وتأذن: أقسم وأعلم، وتارة يتأثر عنه إباحة ومكنة من الشيء وتارة منع وحرمة، فيكون من الإزالة، وآذن العشب: بدأ يجف فبعضه رطب وبعضه يابس كأنه أمكن من جره وجمعه ببدو صلاحه، والآذن: الحاجب، لأنه للتمكين والمنع، والأذنة محركة: صغار الإبل والغنم كأنها تبيح كل أحد ما يريد منها، وطعام لا أذنة له: لا شهوة لريحه، فكأنه
327
ممنوع منه لعدم اشتهائه، وتأذن الأمير في الناس: نادى فيهم بتهدد، فهو يرجع إلى المنع والزجر عن شيء تعزيراً، والذين - بالكسر والياء: العنب، وكذا الذان - بالألف منقلبة عن واو: العنب، كأنه لسهولة تناوله ولذة مطعمه أمكن من نفسه، والتذوّن - بالواو مشددة: الغنى والنعمة، كأنهما سبب للإمكان مما يشتهي، والذؤنون - مهموزاً كزنبور: نبت من نبات الأرض؛ والمعنى أنه إنما أذن لكم في ذلك إذا فعلتم الشرط المذكور لأنكم فقهتم على الحرب وبنيتم أمركم فيه على دعائمها الخمس التي ملاكها والداخل في كل منها الصبر، فكان الله معكم، وهو مع كل صابر هذا الصبر المثبت في الدعائم الخمس في كل أوان، ومما يسأل عنه في الآية أنه ابتدىء في العشرات بثاني عقودها، وفي المئات والآلاف بأولها. سألت شيخنا الإمام الراسخ محقق زمانه شمس الدين محمد بن علي القاياتي قاضي الشافعية بالديار المصرية: ما حكمته؟ فقال: الأصل الابتداء بأول العقود، لكن لو قيل: إن يكن منكم عشرة صابرة يغلبوا مائة، لربما توهم انه لا تجب مصابرة الواحد للعشرة إلا عند بلوغ المؤمنين هذا العقد، فعدل إلى الابتداء بثاني عقود هذه المرتبة لينتفي هذا المحذور، فلما انتفى وعلم أنه يجب مصابرة كل واحد لعشرة، ذكر باقي المراتب في الباقي
328
على الأصل المعتاد، وأما تكرير المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين: قبل التخفيف وبعده فللدلالة - كما قال في الكشاف - على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت وإن كان قد يظن تفاوته، وكأنه لم يذك الآحاد بشارة بكثرة هذه الأمة واجتماعها وبدأ بالعشرات وختم بالألوف ليستوفي مراتب الأعداد الأصلية - والله أعلم.
ولما تقدم الأمر بالإثخان في ﴿فشرد بهم﴾ ثم بإعداد القوة، ثم التحريض على القتال بعد الإعلام بالكفاية ثم إيجاب ثبات الواحد لعشرة ثم إنزال التخفيف إلى اثنين؛ كذن ذلك مقتضياً للإمعان في الإثخان، فحسن عتاب الأحباب في اختيار غير ما أفهمه هذا الخطاب، لكون ذلك أقعد في الامتنان عليهم بالعفو والغفران بسبب أن أكثرهم مال إلى فداء الأسارى فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشارهم فيهم فأشار أبو بكر رضي الله عنه بالمفاداة ومال معه الأكثر، وأشار عمر رضي الله عنه بضرب أعناقهم، وروي أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو نزل من السماء عذاب - أي في هذا - ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ رضي الله عنهما» فقال تعالى استئنافاً واستنتاجاً: ﴿ما كان﴾ أي ما صح وما استقام ﴿لنبي﴾ أي في شرع نبي الأنبياء مستقل ولا مقر، ولعله عبر
329
بوصف النبوة ليفيد مع العموم أن كلاً من رفعه القدر والإخبار من الله يمنع من الإقدام على فعل بدون إذن خاص ﴿أن يكون له أسرى﴾ أي أن يباح له أسر العدو ﴿حتى يثخن في الأرض﴾ أي يبالغ في قتل أعدائه، فهو عتاب لمن أسر من الصحابة غير من نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله من المشركين أو رضي بذلك، وإنما أسند إلى نبي - وقرىء شاذاً بالتعريف - ولم يقل: ما كان في شرع نبي، تهويلاً للأسر تعظيماً للعفو للمبالغة في القيام بالشكر، وهذا كان يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله سبحانه وتعالى ﴿فإما منّاً بعد وإما فداء﴾ [محمد: ٤] قاله ابن عباس رضي الله عنهما، ومادة ثخن تدور على الضخامة، وتارة يلزمها اللين والضعف، وتارة الصلابة والقوة، فحقيقته: يبالغ في القتل فيغلط أمره فيقوى، ويلين له أعداؤه ويضعفوا؛ ثم بين لهم أن الميل عن ذلك إنما هو لإرادة الأعراض الدنيوية المبكت به اليهود في آخر التي قبلها بقوله تعالى ﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ [الأعراف: ١٩٦] كما أن النزاع في الأنفال ميل إلى الدنيا، وكل ذلك بمعزل عن معالي الأخلاق وكرائم السجايا، معللاً لعدم الكون المذكور بما تقديره: لأن الأسر إنما يراد به الدنيا، هكذا الأصل ولكنه أبرز في أسلوب الخطاب لأنه أوقع في النفس فقال: ﴿تريدون﴾ أي أنها المؤمنون المرغبون في
330
الإنفاق لا في الجمع، باستبقائهم ﴿عرض الدنيا﴾ قال الراغب: العرض ما لا ثبات له، ومنه استعاره المتكلمون لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة، أي المتاع الفداء بأخذ الرجال ﴿والله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿يريد﴾ أي لكم ﴿الآخرة﴾ اي جوهرها لأنه يأمر بذلك أمراً هو في تأكيده ليمتثل كالإرادة التي لا يتخلف مرادها، وذلك بالإثخان في قتلهم لظهور الدين الذي تريدون إظهاره والذي به تدرك الآخرة، ولا ينبغي للمحب أن يريد إلا ما يريد حبيبه ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿عزيز﴾ أي منزه جنابه العلي عن لحاق شيء مما فيه أدنى سفول ﴿حكيم*﴾ أي لا يصدر عنه فعل إلا وهو في غاية الإتقان فهو يأمر بالإثخان عند ظهور قوة المشركين، فإذا ضعفت وقوي المسلمون فأنتم بالخيار، ولا يصح ادعاء ولايته إلا لمن ترقى في معارج صفاته، فيكون عزيزاً في نفسه فلا يدنسها بالأطماع الفانية، وفعله فلا يحطه عن أوج المعالي إلى حضيض المهاوي، وحكيماً فلا ينشأ عنه فعل إلا وهو في غاية الإتقان.
331
ولما علم من الآية ما أشرت إليه، فكان كأنهم قالوا رضي الله عنهم: تقتضي عزته وحكمته سبحانه من تطهيرنا عما تدنسنا به؟ استأنف تعالى الجواب عن ذلك ممتناً غاية لامتنان ومحذراً من التعرض لمواقع الخسران فقال: ﴿لولا كتاب﴾ أي قضاء حتم ثابت مبرم ﴿من الله﴾
331
أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء قدرة وعلماً ﴿سبق﴾ أي في أم الكتاب من الحكم بإسعادكم، ومن أنه لا يعذب أحداً إلا بعد التقدم إليه بالنهي، ومن أنه سيحل لكم الفداء والغنائم التي كانت حراماً على من قبلكم تشريفاً لكم - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ﴿لمسكم فيما أخذتم﴾ أي من الأسرى المراد بهم الفداء ﴿عذاب عظيم*﴾ ولكن سبق حكمي بأن المغنم - ولو بالفداء - لكم حل وإن تعجلتم فيه أمري.
ولما ساق سبحانه هذه البشارة في النذارة، سبب عنها قوله: ﴿فكلوا مما غنمتم﴾ أي من الفدية وغيرها حال كونه ﴿حلالاً﴾ أي لا درك ولا تبعة فيه من جهتي ﴿طيباً﴾ أي شهياً لكم ملائماً لطباعكم، وهذا إذا كان مع الشروط التي أقمتها لكم من عدم الغلول والخيانة بوجه من الوجوه والاستثار وشديد الرغبة السائقة إلى ما لا يليق من التنازع وغيره، ذلك فيما تقدمت فيه إليكم ﴿واتقوا الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال في جميع ذلك فلا تغلوا ولا تنازعوا ولا تقدموا إلا على ما يبيحه لكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إن الله﴾ أي المتصف بالجلال والإكرام ﴿غفور﴾ أي لمن يعلم من قبله أنه من أهل التقوى ﴿رحيم*﴾ أي له، فلأجل ما علم في قلوبكم من الخير غفر لكم فلم يعذبكم بتسرعكم إلى إسار من لم يأمركم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمفاداة دون توقف على إذنه، ورحمكم فأحسن إليكم فأحل لكم الغنائم،
332
انظر إلى قوله تعالى ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم﴾ تعرف حسن تعليل الأمر بالتقوى بالمغفرة والرحمة، ويجوز أن يكون علة للأكل، أي كلوا فإن الله قد غفر لكم ما عاتبكم عليه، وفائدة الأمر بالتقوى التحذير من العود اعتماداً على سعة الحلم، وايضاً فقد تقدم تهديد ومغفرة فناسب أن يدلهم على أن علة المغفرة التقوى، فكان ترجمة ذلك انه لما رهبهم بمس العذاب عند أخذ الفداء لولا سبق الكتاب، رغبهم بأنه كلما صدهم عن جنابه صارف ذنب فردهم إليه عاطف تقوى، أسبل عليهم ذيل المغفرة والرحمة، ولما علم من هذا إباحة ما يؤخذ من الأسر من الفداء، وكان ما يؤخذ منهم تعظم مشقته عليهم، أقبل عليهم مستعطفاً لهم ترغيباً في الإسلام، فأقبل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمر بمخاطبتهم تنبيهاً على أنهم ليسوا بأهل لخطابه سبحانه بما أبعدوا أنفسهم عنه من اختيارهم الكون في زمرة الأعداء على الكون في عداد الأولياء، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى تلقي العلم ترغيباً في التلقي منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿يا أيها النبي﴾ أي الذي أنبئه بكل معنى جليل، يظهر دينه ويزكي أمته مع رفع مقداره وإتمام أنواره ﴿قل لمن في أيديكم﴾ أي في أيدي أصحابك وأهل دينك، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ﴿من الأسرى﴾ ترغيباً لهم فيما عند الله ﴿إن يعلم الله﴾ بما له من
333
صفات الجلال والجمال ﴿في قلوبكم خيراً﴾ أي شيئاً من تقواه الحاملة على الإيمان الذي هو رأس الخير وعلى كل خير ﴿يؤتكم خيراً مما أخذ منكم﴾ أي مما يفتح به عليكم من المغانم في الدنيا ويدخره لكم من الثواب في الأخرى ﴿ويغفر لكم﴾ أي ما سلف من ذنوبكم ﴿والله﴾ أي الذي بيده كل شيء ﴿غفور رحيم﴾ أي من شأنه ذلك، والمعنى على ما علم من قصة العباس الآتيه رضي الله عنه أنه سبحانه يعاملكم وأمثالكم في غير ما يأخذه منكم جنده بالكرم، وأما إنه يحكم بإسقاط الفداء عنكم ويأمرهم بتركه وإطلاقكم مجاناً بما يعلم في قلوبكم من خير وإيمان كنتم تكتمونه فلا تطمعوا فيه لأن ذلك يفتح باب الدعاوى الباطلة المانعة من الغنائم الموهنة للدين؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في سيرته: قال ابن عباس وسعيد بن المسيب:
«كان
العباس
رضي
الله
عنه
في الأسرى فقال له رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افد نفسك وابني أخيك عقيلاً ونوفلاً وخليتك فإنك ذو مال، فقال: يارسول الله! إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أعلم بإسلامك، إن كان حقاً ما تقول فالله يجزيك به، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال: ليس لي مال، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأين المال الذي وضعت عند أم الفضل حين خرجت وليس معك أحد؟
334
ثم قلت: إن أصبت في سفري هذا فأعطي الفضل كذا وعبد الله كذا! فقال: والذي بعثك بالحق! ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس، وأسلم وأمر عقيلاً فأسلم، ولم يسلم من الأساري غيرهما».
ولما كان التقدير: فإن صدقوك وقبلوا - بشرى الله، وفي لهم، عطف عليه قوله: ﴿وإن يريدوا﴾ أي الأسرى والكفار كلهم أو واحد منهم كأبي عزة ﴿خيانتك﴾ أي وأنت أعلى الخلق في عهد من إسلام أو غيره يوثقونه لك ترضى به في المن على أحد منهم، بغير فداء، يرد الله أن يكون وبال ذلك راجعاً إليهم فيمكن منهم، فلا تخش من أمرهم ﴿فقد خانوا الله﴾ أي الملك الأعظم؛ ولما كانت خيانتهم غير مستغرقة للزمن، أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي من قبل هذا الوقت بالكفر وغيره من أنواع الفسق ﴿فأمكن﴾ أي فأوجد الإمكان منهم، وقصره ليدل على أنهم صاروا سلماً لكل أحد ﴿منهم﴾ أي يوم بدر بسبب خيانتهم، فمثل ما أمكن منهم عند وقوع الخيانة سيمكنك منهم إذا أرادوا الخيانة، فإن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم مطلقاً فهو يعلم الأشياء كلها
335
التي منها أحوالهم ﴿حكيم*﴾ أي بالغ الحكمة فهو يتيقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة، وكذا فعل سبحانه في أبي عزة الجمحي فإنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المن عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحداً ومدحه ثم خان فظهر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيراً، فاعتذر له وسأله في العفو عنه فقال: ألا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت بمحمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، وأمر به فضربت عنقه، وقال أبو حيان في الخيانه: هي كونهم اظهر بعضهم الإسلام ثم رجعوا إلى دينهم.
336
ولما بين للأسرى أن الخير الذي لم يطلع عليه من قلوبهم غير الله لا ينفعهم في إسقاط الفداء عنهم لأنه لا دليل عليه، وكل ما لا دليل عليه فحكمه حكم العدم، لأن مبنى الشرع على ما يمكن المكلف معرفته وهو الظواهر، وختم بصفتي العلم والحكمة، شرع يبين الخبر الذي يفيد القرب الذي تنبني عليه المناصرة وكل خير، فقال مقسماً أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أقسام: قسم جمع الإيمان والهجرة أولاً والجهاد، وقسم آوى، وقسم آمن ولم يهاجر، وقسم هاجر من بعد: ﴿إن الذين آمنوا﴾ أي بالله ورسوله ﴿وهاجروا﴾ أي واقعوا الهجرة
336
من بلاد الشرك، وهم المهاجرون الأولون، هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وجاهدوا﴾ أي واقعوا الجهاد، وهو بذل الجهد في توهين الكفر وأهله.
ولما كانت الآيات المتقدمه في آلات الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند فقده، كان الأنسب تقديم قوله: ﴿بأموالهم﴾ أي بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها ﴿وأنفسهم﴾ بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم؛ وقدم المال لأنه سبب قيام النفس، وكان في غاية العزة في أول الأمر، وأخر قوله: ﴿في سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم لذلك، «وفي» سببية أي جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع، ولعله عبر ب «في» إعلاماً بأنه ينبغي أن يكون متمكناً من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالباً عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه، وأما في سورة براءة فلما كان السياق في بعض الأماكن بها للسبيل قدم - كما سيأتي، وأيضاً فإن هذه السورة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعه بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان الحال إذ ذاك شديداً جداً، والأموال في غاية القلة، والأعداء لا يحصون، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس
337
فقدما ترغيباً في بذلهما، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع، فكان المال قد اتسع، والدين قد عز وضخم وقوي وعظم، وأسلم غالب الناس، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال، فناسب البداءة هناك بالسبيل.
ولما ذكر أهل الهجرة الأولى، أتبعهم أهل النصرة، وهم القسم الثاني من المؤمنين الذين كانوا على زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿والذين آووا﴾ أي من هاجر إليهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم فأسكنوهم في ديارهم، وقسموا لهم من أموالهم، وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوجوهن، وأنما قصر الفعل إشارة إلى تعظيم فعلهم بحيث كأنه لا إيواء في الوجود غير ما فعلوا، وكذا قوله: ﴿ونصروا﴾ أي الله ورسوله والمؤمنين، وهم الأنصار رضي الله عنهم، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من كلتي الحسنيين، ولولا إيواؤهم ونصرهم لما تم المقصود، والمهاجرون الأولون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأوطان والعشائر.
وأشار إلى القسمين بأداة البعد لعلو مقامهم وعز مرامهم فقال: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ أي في الميراث دون القرب العاري عن ذلك، فبين أن الإيمان
338
إن لم يقترن بشهيدين هما الهجرة والجهاد من الغرب عن المدينة وشهيدين هما الإيواء والنصرة من أهل المدينة، كان عائقاً عن مطلق القرب بل مانعاً من نفوذ لحمه النسب كل النفوذ، فكأن من آمن ولم يهاجر لم يرث ممن هاجر قاله ابن عباس رضي الله عنهما، ومادة ولي بجميع تصاريفها ترجع إلى الميل، ويلزم منه القرب والبعد، وربما نشأ عن كل منهما الشدة، وترتيب ولي بخصوصه يدور على القرب، ومن لوازمه النصرة، فالمعنى بعضهم أقرباء بعض، يلزم كلاً منهم في حق الآخر من المناصرة وغيره ما يلزم القريب لقريبه، فمتى جمعهم وصف جعلهم شركاء فيما يثمره، فوصف الحضور في غزوة يشرك بينهم في الغنائم، لأن أنواع الجهاد كثيرة، وكل واحد منهم باشر بعضها، فعن حضور الكل نشأت النصرة، والمهاجر في الأصل من فارق الكفار بقلبه ولاواهم، ورافق المؤمنين بحبه ولبه ووالاهم، لكن لما كان هذا قد يخفى، نيط الأمر بالمظنة وهي الدار، لأنها أمر ظاهر، فصار المهاجر من باعد دار المشركين فراراً بدينه، ثم صار شرط ذلك بعد هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون النقلة إلى دار هجرته: المدينة الشريفة هذا حكم كل مهاجر إلا ما كان من خزاعة فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد علم من مؤمنهم وكافرهم حبه ونصحه وبغض عدوه فلم يلزم مؤمنهم النقلة؛ قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتاب المدخل إلى
339
الاستيعاب؛ ويقال لخزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم حلفاء بني هاشم وقد أدخلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتاب القضية عام الحديبية - إلى أن قال: وأعطاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة لم يعطها أحداً من الناس أن جعلهم مهاجرين بأرضهم وكتب لهم بذلك كتاباً - انتهى. وقال شاعرهم نجيد بن عمران الخزاعي يفخر بذلك وغيره مما خصهم الله به على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا ركام سحاب الهيدب المتراكب
وهجرتنا في أرضنا عندنا بها كتاب أتى من خير ممل وكاتب
ومن أجلنا حلت بمكة حرمة لندرك ثأراً بالسيوف القواضب
ذكر ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في غزوة الفتح من سيرته، والذي تولى حلفهم أولاً هو عبد المطلب جد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الواقدي في أول غزوة الفتح: وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك عارفاً، لقد جاءته يومئذ - يعني يوم الحديبية - خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه وهو «باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذ قدم عليه وسراتهم
340
وأهل الرأي، غائبهم مقر بما قضى عليه شاهدهم، إن بيننا وبينكم عهد الله وعقوده، ما لا ينسى أبداً، اليد واحدة والنصر واحد، ما أشرف ثبير وثبت حراء، وما بل بحر صوفة، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً، الدهر سرمداً» فقرأة عليه أبيّ بن كعب رضي الله عنه فقال: «ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام» ؛ قال الواقدي: «وجاءته أسلم هو بغدير الأشطاط» جاء بهم بريده بن الحصيب فقال: يارسول الله هذه أسلم وهذه محالّها وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قوم منهم في مواشيهم ومعاشهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم مهاجرون حيث كنتم، ودعاء العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً فكتب «هذا كتاب من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسلم لمن آمن منهم بالله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإنه آمن بأمان الله، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإن أمرنا وأمركم واحد على من دهمنا من الناس بظلم، اليد واحدة والنصر واحد، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم
341
وهم مهاجرون حيث كانوا» وكتب العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه عظيم البركة عليهم، مررنا به ليلة مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم وأسلم معه من قومه من أسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه يا أبا بكر إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم، فإنة الإثم لا خير فيه «انتهى. وأسلم شعب من أربعة شعوب من خزاعة. ولما فتحت مكة، انقطعت الهجرة لظهور الدين وضعف المشركين، وقام مقام الهجرة النية الخالصة المدلول عليها بالجهاد كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية «وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»
فإن كان المؤمن لا يتمكن من إظهار دينه وجبت عليه النقلة.
ولما بين سبحانه تعالى أمر من جمع الشروط، شرع يبين حكم من قعد عن بعضها وهو القسم الثالث فقال؛ ﴿والذين آمنوا﴾ أي اشتهر إيمانهم ﴿ولم يهاجروا﴾ أي قبل الفتح بل استمروا في بلادهم ﴿ما لكم من ولايتهم﴾ وأغرق في النفي فقال: ﴿من شيء﴾ أي في التوارث ولا في غيره؛ ورغبهم في الهجرة بقوله: ﴿حتى يهاجروا﴾ أي يواقعوا الهجرة لدار الشرك ومن فيها ﴿وإن استنصروكم﴾ أي طلبوا نصركم ﴿في الدين﴾ أي
342
بسبب أمر من أموره وهم متمكنون من الدين تمكن المظروف من الظرف ﴿فعليكم النصر﴾ أي واجب عليكم أن تنصروهم على المشركين، فالمعنى أنه ليس لهم عليكم حق القريب إلا في الاستنصار في الدين، فإن ترك نصرهم يجر إلى مفسدة كما أن موالاتهم تجر إلى مفاسد؛ ثم استثنى من الوجوب فقال: ﴿إلا على قوم﴾ وقع وكان ﴿بينكم وبينهم ميثاق﴾ أي لأن استنصارهم يوقع بين مفسدتين: ترك نصرة المؤمن ونقض العهد وهو أعظمهما فقدمت مراعاته وتركت نصرتهم، فإن نصرهم الله على الكفار فهو المراد من غير أن تدنسوا بنقض، وإن نصر الكفار حصل لمن قتل من إخوانكم الشهادة ولمن بقي الضمان بالكفاية، وكان ذلك داعياً لهم إلى الهجرة، ومن ارتد منهم أبعده الله ولن يضر إلا نفسه والله غنى حميد، فقد وقع - كما ترى - تقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام: أعلاها المهاجر، ويليه الناصر، وأدناها القاعد القاصر، وبقي قسم رابع ياتي؛ قال أبو حيان: فبدأ بالمهاجرين - أي الأولين - لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب لله تعالى، فهاجر قوم إلى المدنية، وقوم إلى الحبشة، وقوم إلى ابن ذي يزن، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدين «من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامه» وثنى بالأنصار لأنهم ساووهم
343
في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل بالهجرة الإيواء والنصرة، وانفرد المهاجرون بالسبق، وذكر ثالثاً من آمن ولم ينصر، ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا، ثم قال: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة - انتهى. لكن ما ذكر ابن عبد البر - كما سيأتي - من أن حكم ذلك زال بوقعه بدر أولى للآية الآتية آخر السورة مع ما يؤيد ذلك من آية الأحزاب.
ولما كان التقدير: فالله بمصالحكم خبير، وكان للنفوس دواع إلى مناصرة الأقارب والأحباب ومعاداة غيرهم خفية، ولها دسائس تدرك، حذر من ذلك بقوله عاطفاً على هذا المقدر: ﴿والله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، ولما كان السياق لبيان المصالح التي تنظم الدين وتهدم ما عداه، وكان للنفوس - كما تقدم - أحوال، اقتضى تأكيد العلم بالخفايا فقدم الجار الدال على الاختصاص الذي هو هنا كناية عن إحاطة العلم فقط مرهباً: ﴿بما تعملون بصير*﴾ وفي ذلك أيضاً ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة والنصرة والإنفاق والتحري
344
في جميع من ذلك وترهيب من العمل بأضدادها، وفي «البصير» إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص.
ولما بين شرط موالاة المسلم، بين مولاة الكافر وما يجب من مناظرتهم ومباراتهم فيها، وأنه لا شرط لها غير مطلق الكفر فإنه وإن اختلفت أنواعه وتباعدت أنحاؤه - يجمعه عداوة الله وولاية الشيطان فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف على أي حال كانوا فيه ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ أي في الميراث والنصرة وغيرهما، وهو خبر محض مشير إلى نهي المسلم عن موالاتهم، وأما الذي مضى في حق المؤمنين فهو أمر في صورة الخبر وصيغته، يعني أن في كل من الكفار قوة الموالاة للآخر عليكم والميل العظيم الحاث لهم على المسارعة في ذلك وإن اشتدت عداوة بعضهم لبعض لأنكم حزب وهم حزب، يجمعهم داعي الشيطان بوصف الكفران كما يجمعكم داعي الرحمن بوصف الإيمان، قال أبو حيان: كانوا قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربصون بهم الدوائر، فصاروا بعد بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوالي بعضاً وإلباً واحداً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى. وما ذكره مذكور في السير مشهور عند أهل الأثر ﴿إلا تفعلوه﴾ أي مثله من تولي المؤمنين ومعاداة الكافرين
345
كما يفعل الكفار بالتعاضد والتعاون بالنفس والمال كما أرصدوا مال العير الذي فاتكم حتى استعانوا به على قتالكم في أحد، فاللائق بكم أن تكونوا أعظم منهم في ذلك، لأنهم يريدون بذلك رم واهي دنياهم الفانية وأنتم تبنون آخرتكم الباقية، وداعيكم ولي غنى وداعيهم عدو دنى فضلاً عن أن تنزلوا إلى حضيض التنازع في الغنائم ﴿تكن فتنة﴾ أي عظيمة ﴿في الأرض﴾ اي خلطة مميلة للمقاصد عن وجوهها ﴿وفساد كبير*﴾ أي ينشأ عن تلك الفتنة، والكبير ناظر إلى العظم، وقرىء شاذاً بالمثلثة فيكون عظمة حينئذ مخصوصاً بالأنواع، وبيان الفساد أنه إذا قارب المؤمن الكافر والكافر المؤمن وتناصروا أو ترك المؤمنون التناصر فيما بينهم انخّل النظام فاختل كل من النقض والإبرام، فاختلف الكلام فتباعدت القلوب، فتزايدت الكروب، فالواجب عليكم أن تكونوا إلباً واحداً ويداً واحدة في الموالاة وتقاطعوا الكفار بكل اعتبار ليقوم أمركم وتطيب حياتكم، وتصلح غاية الصلاح دنياكم وآخرتكم، والآية شاملة لكل ما يسمى تولياً حتى في الإرث وقتال الكفار ومدافعة المسلمين بالأمر والإنكار، ولما ترك بعض العلماء إعانة بعض فئة حصل ما خوف الله تعالى منه من الفتنة والفساد حتى صار الأمر إلى ما ترى من علو المفسدين وضعف أهل الدين، فالأمر بالمعروف فيهم في غاية الذل والغربة، يرد عليه أدنى الناس فلا يجد له ناصراً، ويجد ذلك الآخر له على
346
الرد أعواناً كثيرة، وصار أحسن الناس حالاً مع الأمراء وأعظمهم له محبة من يقنع بلومه على فعله ظناً منه أن ذلك شفقة عليه - والله المستعان.
347
ولما تقدمت أنواع المؤمنين: المهاجر والناصر والقاعد، وذكر أحكام موالاتهم، أخذ يبين تفاوتهم في الفضل فقال: ﴿والذين آمنوا﴾ أي بالله وما أتى منه ﴿وهاجروا﴾ أي فيه من يعاديه سابقين مع نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وجاهدوا﴾ أي بما تقدم من المال والنفس أو بأحدهما ﴿في سبيل الله﴾ أي الذي له صفات الكمال فبذلوا الجهد في إذلالهم كما بذل الأعداء الجهد في إذلالهم، ولم يذكر آلة الجهاد لأنها - مع تقدم ذكرها لازمة ﴿والذين آووا﴾ أي من هاجر إليهم ﴿ونصروا﴾ أي حزب الله، وأعلم بقوله: ﴿أولئك﴾ أي الصنفين الأولين خاصة ﴿هم المؤمنون حقاً﴾ أي حق الإيمان، لأنهم حققوا أيمانهم: المهاجر بالانسلاخ من كل ما يحبه من الأمور الدنيوية، والناصر من جميع أهل الكفر بإيواء أهل الله ونصرتهم.
ولما بين وصفهم، بين ما حباهم به بقوله دالاً على أن الإنسان محل النقصان، فهو - وإن اجتهد حتى كان من القسم الأعلى - لا ينفك عن مواقعة ما يحتاج فيه إلى الغفران: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لزلاتهم وهفواتهم، لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عنه التقصير وإن اجتهد، والدين متين فلن يشاده أحد إلا غلبه؛ ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة، ذكر
347
تزكيتهم بالرحمة فقال: ﴿ورزق﴾ أي من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة ﴿كريم*﴾ أي لا كدر فيه بوجه، لا في قطعه ولا في نقصانه ولا في شيء من شأنه.
ولما حصر المؤمنين حقاً في الموصوفين، بين أن من ترك ما هو عليه من لزوم دار الكفر والقعود عن الجهاد، لحق بمطلق درجتهم وإن كانوا فيها أعلى منه فقال ذاكراً القسم الرابع: ﴿والذين آمنوا﴾ ولما كانوا قد تأخروا عن دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدة، أدخل الجار فقال: ﴿من بعد﴾ أي من بعد تأخر إيمانهم عن السابقين ﴿وهاجروا﴾ أي لاحقين للسابقين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية، قال: وهي الهجرة الثانية ﴿وجاهدوا معكم﴾ أي من تجاهدونه من حزب الشيطان ﴿فأولئك منكم﴾ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها، لأن الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم كما أفهمته أداة البعد.
ولما بين أنهم منهم، بين أنه متى جمعهم الوصف المحصل للولاية، كان القرب في الرحم أولى من غيره فقال: ﴿وأولو الأرحام﴾ أي من المؤمنين الموصوفين ﴿بعضهم أولى ببعض﴾ أي في الإرث وغيره من المتصفين بولاية الدين الخالية عن الرحم ﴿في كتاب الله﴾
348
أي القرآن أو في حكمه وقسمه الذي أنزله إليكم الملك الأعظم في آيات الإرث، وهي مقيدة بالعصبات فنسخت الولاية فلا دلالة على توريث غيرهم، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة المنذر بن عمرو أن بدراً قطعت المواخاة بين الصحابة رضي الله عنهم، يعني فتكون هذه الآية ناسخة آية ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ وتكون تلك حينئذ مبينة أمر ما كان قبل غزوة بدر - وهو حسن، والآية التي في سورة الأحزاب مؤيدة له، ثم علل سبحانه ما ذكر بما يرغب فيه فقال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال كلها ﴿بكل شيء عليم*﴾ فهو يعلم أن هذا هو الذي تدور عليه المصلحة وتدوم به الألفة كما علم في أول الأمر أن نوط الإرث وغيره من لوازم القرب بالأخوة الإسلامية أولى لما في ذلك من تكثير قلتكم ونصر ذلتكم وجمع شتاتكم وجعل ما بينكم من الأخوة كلحمة النسب، فأما الآن فقد ضرب الدين بجرانه، وثبت بقواعده وأركانه، وولى الكفر بسلطانه، ونكص مدبراً بأعوانه، فتوارثوا بالإسلام والقرابة وتقاطعوا الكفار، وقربوا وبعدوا، وانحازوا عنهم كما انحازو عنكم، وتبرؤوا منهم كما تبرؤوا منكم، فقد انطبق آخر السورة بالإعراض عن الدنيا وإصلاح ذات البين وبيان المؤمنين حقاً وتقليد العليم في جميع الأعمال من غير اعتراض - على أولها، وببيان من يوالي ومن يعادي على أول براءة - والله الموفق.
349
(سورة التوبة)
مقصودها معاداة من أعرض عما دعت إليه السورة الماضية من اتباع الداعي إلى
الله في توحيده وأتباع ما يرضيه، وموالاة من أقبل عليه، وأدل ما فيها على الإبلاغ في هذا المقصد فصة المحلفين فإنهم - لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك المحتمل على وجه بعيد منهم رضي الله عنهم للاعراض بالقلب - هجروا، وأعرض عنهم بكل اعتبار حتى بالكلام، فذلك معنى تسميتها بالتوبة، وهو يدل على البراءة لأن البراءة منهم ٠ بهجرانهم حتى رد السلام، كان سبب التوبة، فهو من إطلاق المسبب على السبب وتسميتها براءة واضح أيضا فيما ذكر من مقصودها، وكذا الفاضحة لأن من افتضح كان أهلا للبراءة منه، والبحوث لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض، والمبعثرة هو المنفرة والمثبرة والحفارة والمخزية والمهلكة والمشردةة والمدمدمة والمنكلة لأنه لا يبعثر إلا حال وكذا بعده، والمشردة عظيمة المناسبة مع ذلك عظيمة المناسبة مع ذلك لما أشارت إليه الأنفال في) فشرد بهم من خلفهم ْ [الأنفال: ٥٧] وسورة العذاب أيضا واضحة في مقصودها، وكذا المقشقشة لأنهم قالوا: إن معناه
350
المبرئة من النفاق، من تقشقشت قروحه، إذا تقشرت للبرء، وتوجيهه أن من عرف أن الله برئ منه ورسوله والمؤمنون لأمر فهو جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر
، وعندي أيضا أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع، لأنها جمعت أصناف المنافقين وأحوالهم وعليه خرج ما في وصف أبي جهم بن حذيفة لمن أراد نكاحها: أخاف عليك قشقاشته، أي تتبعه لمذاق الأمور، أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من هنا هنا وها هنا، أو عصاه التي هي غاية ذلك، ومادة قش ومقلوبها شق ةمضاعفهما قشقش وشقشق تدور على الجمع وتلازمه الفرقة فإنه لا يجتمع إلا ما كان مفرقا ولا يفرق إلا ما كان مجتمعا، وقد اقتسم هذان المثالان المعنيين إلا قليلا، فقش القوم: صلحوا وأحبوا بعد الهزال يجمع اللحم، والرجل: أكل من ها هنا ولف ما قدر عليه مما على الخوان، واضح في ذلك،
وأفشوا وانفشوا - إذا انطلقوا فجفلوا ومروا ذاهبين - وقد انقشوا إذا مروا وذهبوا مسرعين لاجتماعهم في ذلك وجمعهم ما قدروا عليه من متاعهم، والقش والإقشاش: طلب المأكول من ها هنا وها هنا لجمعه، والقشة - بالكسر: القردة كأنها لجمعها ما رأت مما يؤكل في فيها، والصبية الصغيرة الجثة التي لا تكاد تثبت كأنها
351
لاجتماعها في نفسها، وكذا القشيش: الصغير من الصبيان، ودويبة كالجعل إما لاجتماعها في نفسها أو لجمعها القاذورات، والقشيش كأمير: الفقاطة لأنها بجمعها اللقاطون، وصوت جلد الحية يحك بعضها ببعض، لأنه لا يكون إلا عند التثني والتجمع، وقش من الجدري: برئ منه كتقشقش يصلح أن يكون من الفرقة لآنه فارقه، ومن الجمع لأن البرء جمعه كله فأزاله، ويمكن أن تكون همزته للإزالة، وتقششت القروح وتقشقشت - إذا تقشرت للبرء، إما من الجمع لاجتماع القوى للصحة، وإما من الفرقة والزوال، وكذا تقشقش البعير - إذا برئ من الجرب، ويقال: قششهم بكلامه - إذا تكلم بقبيح الكلام وآذاهم، أي لجمعه همومهم على بغضه أو معايبهم، وكذا قش الشيء: جمعه بيده حتى يتحات، أي قشره جميعه، فهو يصلح للفرقة والجمع، وقش: مشى مشى المهزول أي اضطرب، وهو يوجب الإسراع والتثني فيصلح للجمع ةالفرقة، وقش: أكل مما يلقيه الناس على المزابل أو أكل كسر الصدقة، لأن ذلك غاية في الجمع، وقش النبات: يبس، فاستحق أن يمجع، والقش: ردئ التمر كالدقل ونحوه لأنه، يجمع في نفسه، والدلو
352
الضخم لكثرة ما يجمع، وفي الحديث) قل يا أيها الكافرون (و) قل هو الله أحد (المقشقشان، أي المبرئتان من الشرك لما في الحديث: اقرأ) قل يا أيها الكافرون (عند منامك فإنها براءة من الشرك، فالمعنى أنهما تجمعان كل شركط ونفاق دقيق أو جليل فتنزيلاته، والقشقشة يحكى بها الصوت قبل الهدير في محض الشقشقة قبل أن نرعد بالهدير، لأن مبادئ صوت الهدير زائد الضخامة، فكأنه جامع، فكذا ما يحكيه، والقشقاشة: العصا، لجمعها ما يراد بها أو لأنها يقشر عنها لحاؤها كما يقشر جلد الحية وأما مقلوبة فيقال فيه: شقة: صدعة أي فرقة، وقال الخليل: الصدع ربما كان في أحد الوجهين غير نافذ، والشق لا يكون إلا نافذا، وشق ناب البعير: طلع، لأنه فرق اللحم،
وشق العصا: فرق باثنيتين وفرق بين الجماعة، وشق عليه الأمر: صعب ففرق نفسه، وشق عليه: أوقعه في مشقة، وشق بصر المحتضر: نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، لأنه لتصويبه إلى جهة واحدة مفترق من بقية الجهات، والشق واحد الشقوق، والصبح لأنه يفرق جيش الظلام، وجوبة ما بين الشفرين من جهاز المرأة، والتفريق ومنه شق عصا المسلمين، واستكالة البرق إلى وسط السماء من غير أن يأخذ يمينا وشمالا لأنه يشق السحاب مستقيما كما يشق اللوح والعصا، - بالكسر: الجانب لأنه مفارق للجانب الآخر،
353
واسم لما نظرت إليه لأنه في جانب واحد، وجنس من أجناس الجن لأنه فرقة منهم، ومن كل شيء نصفه - ويفتح - ويفتح، والمال بيني وبينك شق الشعرة - ويفتح: نصفان سواء، والشقة - بالكسر: شظية من لوح، ومن العصا والثوب وغيره ما شق مستطيلا، والشقية: ضرب من الجماع كأنه على شق واحد، والشقة بالضم والكسر: البعد والناحية يقصدها المسافرؤ، والسفر البعيد، وكله واضح في الفرقة، والمشقة أيضا لأنها تأخذ أحد شقى النفش، والفرس البعيد ما بين الفروج والطويل، كأن أجزاءه تفرقت فطال ضد ما تقدم في الصبية الصغيرة، والأشق أيضا: العجل إذا استحكم كأنه لما تأهل من شق الأرض بالحراثة، وكل ما اشتق نصفين، والشقيقة كسفينة: الفرجة بين الجبلين تنبت العشب، لأنها فرقت بين الجبلين وفرقت عشبها بين ملتم أرضها، والمطر، الوابل المتسع لأن الغيم نشقق عنه، ومن البرق ما نتشر من الأفق لأنه يشق السحاب، ووجع يأخذ نصف الرأس والوجه، وشقائق النعمان معروف سميت لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق، كذا قالوا، وعندي أنها سميت لتفرق أوراقها وتصفقها فكأنها مشققة مع التجمع، والشقاق كغراب: تشقق يصيب أرساغ الدواب - والشقشقة بالكسر: شيء كالرثة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، كأنه بشق حلقه فيخرج ويوجب هديره الذي يشق
354
انطباق تجويفه ليصوت، ومنه شقشق الفحل: هذر، والعصفور: صوت، وشقق الكلام: أخرجه أحسن مخرج، وشقق الحطب: فرق كل واحدة باثنتين أو أكثر، وانشقت العصا: تفرق الأمر، والاشتقاق: أخذ شق الشيء والأخذ في الكلام وفي الخصومة يمينا وشمالا مع ترك القصد، لأنه يشق جهات المعاني، وه أيضا أخذ الكلمة من الكلمة، فكأنه فرق بين أجزائها، وهذا أخي وشق نفسي وشقيقي كأنه يشق نسبه من نسبه أو كأنه شقه منه، وهذه السورة آخر سورة نزلت روى البخاري في التفسير وغيره من صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال: آخر آية نزلت) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة (وآخر سورة نزلت براءة.
ولما كانت مناسبة أولها - الداعي إلى البراءة مم ن يخشى نقضه - لآخر الأنفال المبين لمن يصلح للولاية المختتم بشمول العلم في حد عظيم من الظهور مع ما تقدم من بيان مناسبة آخر الأعراف لأول الأنفال، قدمت الأنفال مع قصرها على براءة مع طولها واشتباه أمرها على الصحابة في كونها سورة مستقلة أو بعض سورة كما قدمت آل عمران
355
مع قصرها على النساء لمثل ذلك من المناسبة، فكان ما ذكر في براءة من البراءة والتولي شرحا لآخر الأنفال، روى الإمام أحمد يفي المسند وأبو داود في السنن والترمذي في الجامع وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى والبزار والبيهق يوالإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستس القاضي في تفسيره - بسند الترمذي والبيهقي - والإمام أبو جعفر النحاس بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عندتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مما - وقال الستي: ربما - يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت فصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولم يبين لنا أنها منها، قال النحاس: وذهب عني أ، أسأله عنعا، فمن أجل ذلك قرنت بينهما
356
ولم أكتب بينهما سطر) بسم الله الرحمن الرحيم (فوضعتها في السبع الطول - زاد ابن راهويه: وكانتا تدعيان القرينتين - انتهى. فبين أنهما اشتبها عليه وأنه وضعهما في الطول لمناسبتهما لها على تقدير كونها سورة واحدجة، قال في القاموس: والسبع الطول - كصرد - من البقرة إلى الأعراف، والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعا لأنهما سورة واحدة - انتهى. وقال في الكشاف: وقيل: سورة الأنفال والتوية سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان اتلسابعة من الطول ةبعدها المئون، وهذا قول ظاهر لأنهما معا مائتان وست فهما بمنزلة سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من يقول: هما سورتان، وتركت " بسم "
لقول من يقول: هما سورة واحدة. انتهى. وعن أبي كعب رضي الله عنه أنه قال: إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، ووضعت إحداهما بجنب الأخرى، والمراد بالمثاني هنا ما دون المئين وفوق المفصل، قال أبو عبيد الهروي: قيل لها مثاني لأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني - انتهى. والأحسن كون ذلك بالنسبة إلى اغلمفصل من وجهين: الأول أن المفصل أول لقب جامع للسور باعتبار القصر وفوقه المثاني ثم المئون ثم الطول، فالمثاني ثانية له حقيقة، وما هي ثانية للمئين إلا أن ألفينا البداءة بالطول
357
من الطرف الآخر، الثاني أنها لما زادت على المفصل كانت قسمة السورة منها في ركعتين من الصلاة كقراءة سورتين من المفصل فكانت مثاني لتثنيتها في مجموع الصلاة باعتبار قراءة بعضها في كل من الركعتين، قال أبو جعفر النحاس: قال أبو إسحاق: جدثني بعض أصحابنا عن صاحبنا محمد بن يزيد أنه قال: لم تكتب في أولها بسم الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت عليا رضي الله عنه: لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ها هنا؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم " أمان - انتهى. وبهذا أخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي في قصيدته حيث قال:
ومهما تصلها أو بدأت براءة
تنزيلها بالسيف لست مبسملا
وقال في الكشاف: وسئل ابن عيينة فقال: اسن الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال الله تعالى) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) [النساء: ٩٤] قيل: فإن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قد كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: إنما ذلك ابتداء، يدعوهم
358
ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول " سلام على من اتبع الهدى " فمن دعى إلى الله فأجاب ودعى إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى، وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة - انتى. ولا يعارض هذا خبر ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهما، بل هو شبيه لما نزلت من غير بسملة للمعنى المذكور، اشتبه أمرها على الصحابة رضوان الهل عليهم، ولم يقع سؤال عنها حتى توفي رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فكانت موافقتهم للسور في تسميتها باسم يخصها دليلا على أنها سورة برأسها، ومخلفتهعم في ترك إنزال البسملة في أولها مع احتمال أنها تركت للمعنى المذكور أو لغيره دليلا على أنها بعض سورة، فقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لا يعرف فصل السورة - وفي رواية: لا يعلم انقضاء السورة
حتى ينزل عليه) بسم الله الرحمن الرحيم (قال الحافظ أبو شامة: هذا حديث حسن وللحاكم في المستدرك أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهعما قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاؤء السورة حتى ينزل ": بسم الله الرحمن الرحيم " فلما نزل علم أن السورة قد انقضت فلما اشتبه أمرها تركوا كتابة البسملة في أولها وفصلوها عن الأنفال قليلا - والله الموفق. هذا وقد مضى بيان تشابه فصتيهما في أول الأنفال وأثناء الأعراف إجمالا، وأما تفصيلا فلما
359
في كل منهما من نبذ العهد إلى من خيف نقضه، وأن المسجد الحرام لا يصلح لولايته إلا المتقون، وأن المشركين نجس لا صلاحية فيهم لقربانه، وأن قلة حزب الله لا تضرهم إذا لزموا دعائم النصر الخمس وكثرتهم لا تغنيهم إذا حصل في ثباتهم لبس، والحث على الجهاد في غيبر موضع، وضمان الغنى كما أشار إليه في الأنفال بقوله) لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) [الأنفال: ٤] وذك أحكام الصدقات التي هي من وادي الغنائم، وعد أصناف كل، والأمر بالإنفاق المشار إليه في الإنفاق وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى به على غزوة أحد المشار إليهفي الأنفال بقوله)) والذين كفروا ينفقون أموالهم) [الأتفال: ٧٣] أي بالتناصر في الأنفال وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى استعانوا به على غزوة أحد المشار إليه بآية) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم) [الأنفال: ٣٦] مع آية) إلا تفعلوه) [الأنفال: ٤٩] والأمر الجامع للكل أنهما معا في بيان حال النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في أول أمره وأثنائه ومنتهاه، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في كتابه: اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف بتوجيهه حتى أن شدة المشابهة والالتئام - مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بين انفصالهما - أوجب أن لا يفصل بينهما [) بسم الله الرحمن الرحيم (، وذلك أن الأنفال قد تضمنت الأمر بالقتال) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) [الأنفال: ٣٩] وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوب فيها بالثبوت ولحوق التأثيم للفار
360
وأنها على حكم الضعف وحكم الأسرى وحكم ولاية المؤمنين وما يدخل تحت هذه الولاية ومن يخرج عنها، ثم ذكر يفي السورة الأخرى حكم من عهد إليه من المشركين والبراءة منهم إذا لم يوفوا، وحكم من استجار منهم إلى ما يتعلق بهذا، وكله باب واحد، وأحكام متواردة على قصة واحدة، وهو تحرير حكم المخالف، فالتحمت السورتان
أعظم التحام، ثم عاد الكلام إلى حكم المنافقين وهتك أستارهم، انتهى. وأما تطابق آخر الأنفال مع أولها فقد ظهر مما مضى، وأيضا فلما ذكر في آخر التي قبلها أمر العهد تارة بنبذه إلى من خيفت خيانته كائنا من كان يفي قوله) فانبذ إليهم على سواء) [الأنفال: ٥٨] وتارة بالتمسك به عند الأمن من ذلك في وقه) إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) [الأنفال: ٧٢] وبين من يصلح للموالاة ومن لا يصلح، وختمت بالإخبار بشمول علمه، ابت
ئت هذه السورة بالأمر بالنبذ إى ناس بأعيانهم نقضوا أو خيف منهم ذلك وذلك تصريح بما أفهمته آيات الموالاة في التي قبلها من أن إحدى الفرقتين لا تصلح لموالاة الأخرى فقال تعالى:
361
Icon