تفسير سورة الأنفال

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال :« لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب القبض بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال ».
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر.
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ إلى ﴿ مع الصابرين ﴾ نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين إن آيات ﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾ إلى ﴿ لا يفقهون ﴾ نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله ﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ بمكة إثر قولهم ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ ونزل قوله ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله ﴿ وما لهم أن لا يعذبهم الله ﴾ بعد بدر.
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.
أغراض هذه السورة
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
والتحذير من المنافقين.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام الأسرى.
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.

[١]

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
افْتِتَاحُ السُّورَة ب يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْلَمُوا مَاذَا يَكُونُ فِي شَأْنِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمُ الْأَنْفالِ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَّهُمْ حَاوَرُوا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِصَرِيحِ السُّؤَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَاصِمُ أَوْ يُجَادِلُ غَيْرَهُ بِمَا يُؤْذِنُ حَالُهُ بِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ فَهْمًا فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتِ الْحَوَادِثُ يَوْمَئِذٍ:
فَفِي «صَحِيح مُسلم»، و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ- أَصَبْتُ سَيْفًا لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ نَفِّلْنِيهِ، فَقَالَ: ضَعْهُ (فِي الْقَبَضِ)، ثُمَّ قُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ ضَعْهُ حَيْثُ أَخَذْتَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ: ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذته، فَنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ»
وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ، و «سيرة ابْنِ إِسْحَاقَ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ يَوْمَ بَدْرٍ فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا حِينَ سَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا فَرَدَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَقَسَمَهُ بَيْنَنَا عَلَى بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
«لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ذَهَبَ الشُّبَّانُ لِلْقِتَالِ وَجَلَسَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ فَلَمَّا كَانَتِ الْغَنِيمَةُ جَاءَ الشُّبَّانُ يَطْلُبُونَ نَفَلَهُمْ فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا تَحْتَ الرَّايَاتِ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ لَكُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، وَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
وَالسُّؤَالُ حَقِيقَتُهُ الطَّلَبُ، فَإِذا عدّي ب (عَن) فَهُوَ طَلَبُ معرفَة الْمَجْرُور ب (عَن) وَإِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ طَلَبُ إِعْطَاءِ الشَّيْءِ، فَالْمَعْنَى، هُنَا: يَسْأَلُونَكَ مَعْرِفَةَ الْأَنْفَالِ، أَيْ مَعْرِفَةَ حَقِّهَا فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِاسْمِ ذَاتٍ، وَالْمُرَادُ حَالُهَا بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حُكْمِهَا صَرَاحَةً وَضِمْنًا فِي ضِمْنِ سُؤَالِهِمُ الْأَثَرَةَ بِبَعْضِهَا.
وَمَجِيءُ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دَالٌّ عَلَى تَكَرُّرِ السُّؤَالِ، إِمَّا بِإِعَادَتِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى مِنْ سَائِلَيْنِ مُتَعَدِّدَيْنِ، وَإِمَّا بِكَثْرَةِ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ الْمُحَاوَرَةِ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْله يَسْئَلُونَكَ موذنا بتنازع بَين الْجَيْش فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ
كَانَتْ لَهُمْ عَوَائِدُ مُتَّبَعَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْغَنَائِمِ وَالْأَنْفَالِ أَرَادُوا الْعَمَلَ بِهَا وَتَخَالَفُوا فِي شَأْنِهَا فَسَأَلُوا،
248
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ السَّامِعِينَ حِينَ نزُول الْآيَة.
و (الْأَنْفَال) جَمْعُ نَفَلَ- بِالتَّحْرِيكِ- وَالنَّفَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّافِلَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَطَاءِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْعَرَبُ فِي الْقَدِيمِ الْأَنْفَالَ عَلَى الْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَرْبِ هُوَ إِبَادَةُ الْأَعْدَاءِ، وَلِذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ صَنَادِيدُهُمْ يَأْبَوْنَ أَخْذَ الْغَنَائِمِ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
يُخْبِرُكِ مَنْ شَهِدَ الْوَقِيعَةَ أَنَّنِي أَغْشَى الْوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ
وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَإِطْلَاقُ الْأَنْفَالِ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ مَشْهُورٌ قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّا إِذا احمرا الْوَغَى نَرْوِي الْقَنَا وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ
وَقَدْ قَالَ فِي الْقَصِيدَةِ الْأُخْرَى:
وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ فَعَلَّمَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْأَنْفَالِ الْمَغَانِمَ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ الْأَسَدِيُّ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
نَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ثُمَّ جِئْتُمُو تَرْجُونَ أَنْفَالَ الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ
وَيَقُولُونَ نَفَّلَنِي كَذَا يُرِيدُونَ أَغْنَمَنِي، حَتَّى صَارَ النَّفَلُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُعْطَاهُ الْمُقَاتِلُ مِنَ الْمَغْنَمِ زِيَادَةً عَلَى قِسْطِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ لِمَزِيَّةٍ لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَالْغَنَاءِ أَوْ عَلَى مَا يَعْثُرُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَتِيلِهِ، وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْمَغَانِمِ.
فَالْمَغَانِمُ، إِذَنْ، تَنْقَسِمُ إِلَى: مَا قَصَدَ الْمُقَاتِلُ أَخْذَهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ مِثْلَ نَعَمِهِمْ، وَمِثْلَ مَا عَلَى الْقَتْلَى مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاتِلِ، وَفِيمَا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُقَاتِلُونَ مِمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِثْلَ لِبَاسِ قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَاحْتَمَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَغَانِمِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَا يُزَادُ لِلْمُقَاتِلِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ سُؤَالًا عَنْ تَنْفِيلٍ بِمَعْنَى زِيَادَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَكَى وُقُوعَ اخْتِلَافٍ فِي قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشَارِكَةَ فِي الْمَغْنَمِ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ تَنْفِيلٍ، فَيَبْقَى النَّفَلُ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَلِأَجْلِ التَّوَسُّعِ فِي أَلْفَاظِ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ تَرَدَّدَ السَّلَفُ فِي الْمَعْنِيِّ مِنَ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ «الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالدِّرْعُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: «وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ» وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقُوا النَّفَلَ أَيْضًا عَلَى مَا صَارَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِدُونِ انْتِزَاعٍ وَلَا افْتِكَاكٍ كَمَا يُوجَدُ الشَّيْءُ لَا يَعْرَفُ مَنْ
249
غَنِمَهُ، وَكَمَا يُوجَدُ الْقَتِيلُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَيَدْخُلُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْتَ جِنْسِ الْفَيْءِ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [٦، ٧] بِقَوْلِهِ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ- إِلَى قَوْلِهِ- بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَذَلِكَ مِثْلُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي سَلَّمُوهَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَفَرُّوا.
وَبِهَذَا تَتَحَصَّلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ:
الْمَغْنَمُ، وَالْفَيْءُ، وَهُمَا نَوْعَانِ، وَالنَّفَلُ. وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمَةِ وَكَانَتْ مُتَدَاخِلَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْغَزْوِ فِي الْمُسْلِمِينَ خُصَّ كُلُّ اسْمٍ بِصِنْفٍ خَاصٍّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ، وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ أَيْ تَخْصِيصُ اسْمِ الْغَنِيمَةِ بِمَالِ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَلَكِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ فَسَمَّى الْوَاصِلَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِاسْمَيْنِ (أَيْ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) غَنِيمَةً وَفَيْئًا يَعْنِي وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ مَقْسُومِ الْغَنِيمَةِ لَا لِنَوْعٍ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّفَلَ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِمَنْ يَرَى إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ، مِمَّنْ لَمْ يَغْنَمْ ذَلِكَ بِقِتَالٍ.
فَالْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمَغْنَمِ. فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ يَصْرِفُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُعْطِيهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْبَطَلِ، أَوْ لِخَصْلَةٍ عَظِيمَةٍ يَأْتِي بِهَا، أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ.
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
وَقَدْ جَعَلَهَا الْقُرْآنُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ أَوْ لِمَا يَرَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» «وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَا بَلَغَنَا عَنِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ» (يَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَرَادَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِيَوْمِ حُنَيْنٍ).
فَالْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَيَكُونُ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا إِذْ لَا تَدَاخُلَ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.
250
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْغَنَائِمُ مُطْلَقًا. وَجَعَلُوا حُكْمَهَا هُنَا أَنَّهَا جُعِلَتْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ أَيْ أَنْ يُقَسِّمَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، بِلَا تَحْدِيدٍ وَلَا اطِّرَادٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِبَدْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ إِذْ كَانَ قَدْ عَيَّنَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْجَيْشِ، فَجَعَلَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْخُمُسَ، وَجعل أَرْبَعَة الْأَخْمَاس حَقًّا لِلْمُجَاهِدِينَ. يَعْنِي وَبَقِيَ حُكْمُ الْفَيْءِ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَلَا نَاسِخٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ عَلَى الِاجْتِهَادِ مِنَ الْإِمَامِ وَقَالَ مَالِكٌ: «إِعْطَاء السَّلَبِ مِنَ التَّنْفِيلِ»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَنْفَالُ هِيَ خُمُسُ الْمَغَانِمِ وَهُوَ الْمَجْعُولُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْأَنْفَالِ: لَامُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ النَّفَلَ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حَقِّ الْغُزَاةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهُ، فَيُقَالُ هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَيُعْطِيهِ الرَّسُولُ لِمَنْ شَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي «التِّرْمِذِيِّ» إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْف- معنى السَّيْفَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ- وَلَمْ يَكُنْ لِي وَقَدْ صَارَ لِي فَهُوَ لَكَ».
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَغَانِمِ، فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ: الْأَنْفَالُ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ حُكْمُهَا وَصَرْفُهَا، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ (إِلَى). تَقُولُ: هَذَا لَكَ أَيْ: إِلَى حُكْمِكَ مَرْدُودٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَ ذَلِكَ الْقَوْلِ رَأَوْا أَنَّ الْمَغَانِمَ لَمْ تَكُنْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُخَمَّسَةً بَلْ كَانَتْ تُقْسَمُ بِاجْتِهَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خُمِّسَتْ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ.
وَعُطِفَ «وَلِلرَّسُولِ» عَلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: الْأَنْفَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُهَا فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ حَقًّا لِلْغُزَاةِ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَنْ يُعَيِّنُهُ اللَّهُ بِوَحْيِهِ فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِفَائِدَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْأَنْفَالِ بِإِذن الله توقيفا أَوْ تَفْوِيضًا. وَالثَّانِيَةُ: لِتَشْمَلَ الْآيَةُ تَصَرُّفَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ فِي غَيْبَةِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ كَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِخُلَفَائِهِ.
251
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ يُعْذَرُونَ عَلَيْهِ لِسِعَةِ الْإِطْلَاقِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْحَاصِلَةِ لِلْغُزَاةِ، فَقَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: النَّفَلُ إِعْطَاءُ بَعْضِ الْجَيْشِ أَوْ جَمِيعِهِ زِيَادَةً عَلَى قِسْمَةِ أَخْمَاسِهِمُ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خُمُسِ الْمَغْنَمِ الْمَجْعُولِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ وَأُمَرَائِهِ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ فَلَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ الْمَجْعُولِ لِاجْتِهَادِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَعِلَّةُ ذَلِكَ تَجَنُّبُ إِعْطَاءِ حَقِّ أَحَدٍ لِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَادِ الْإِحَنِ فِي نُفُوسِ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَبْعَثُ الْجَيْشَ عَلَى عِصْيَانِ الْأَمِيرِ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي تَنْفِيلِ بَعْضِ الْجَيْشٍ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ، لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ وَجَعَلَ مَا صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ
قَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
خُصُوصِيَّةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ لِمَنْ سِوَاهُ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْجَوْرِ وَبِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَعَلَاهُ فِي فُتُوحِهِمَا.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ: فِي أَنَّ النَّفَلَ هَلْ يَبْلُغُ جَمِيعَ الْخُمُسِ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَقَالَ مَالِكٌ مِنَ الْخُمُسِ كُلِّهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: النَّفَلُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ خُمُسَ الْمَغْنَمِ أَهْوَ مُقَسَّمٌ عَلَى مَنْ سَمَّاهُ الْقُرْآنُ أَمْ مُخْتَلِطٌ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي «الْمُوَطَّأ» أَنهم غَزْو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَأُعْطِيَ النَّفَلُ جَمِيعَ أَهْلِ الْجَيْشِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ التَّنْفِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ وَهَؤُلَاءِ يُخَصِّصُونَ عُمُومَ آيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الْأَنْفَال: ٤١] بِآيَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَالْمَغَانِمُ الْمُخَمَّسَةُ مَا كَانَ دُونَ النَّفَلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ وَأَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ وَأَوْفَقُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُبْسَطُ فِي الْفِقْهِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمُفَسِّرِ إِلَّا الْإِلْمَامُ بِمَعَاقِدِهَا مِنَ الْآيَةِ.
وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى جُمْلَةِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ
252
رَفْعًا لِلنِّزَاعِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، أَوْ فِي طَلَبِ التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ بِأَنَّ أَمْرَ قِسْمَتِهَا مَوْكُولٌ لِلَّهِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِتِلْكَ الْأَنْفَالِ مِمَّنْ أُعْطِيَهَا، تَبَعًا لِعَوَائِدِهِمُ السَّالِفَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ قَدْ وَجَبَ الرِّضَى بِمَا يُقَسِّمُهُ الرَّسُولُ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمَقُولِ.
وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهَا جَامِعُ الطَّاعَاتِ.
وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا وَاشْتَجَرُوا فِي شَأْنِهَا كَمَا قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: «اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقَنَا» فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّصَافُحِ، وَخَتَمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيِ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاء: ٦٥].
وَالْإِصْلَاحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ، فَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ فَسَادُ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ.
وذاتَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنَّثُ (ذُو) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَتَكُونُ أَلِفُهَا مُبْدَلَةً مِنَ الْوَاوِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ مُضَافًا إِلَى الْجِهَاتِ وَإِلَى الْأَزْمَانِ وَإِلَى غَيْرِهِمَا، يُجْرُونَهُ مَجْرَى الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٨]، عَلَى تَأْوِيلِ جِهَةٍ، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَلَقِيتُهُ ذَاتَ صَبَاحٍ، عَلَى تَأْوِيلِ الْمُقَدَّرِ سَاعَةَ أَوْ وَقْتَ، وَجَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مُلَازَمَتِهَا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (ذَاتَ) أَصْلِيَّةُ الْأَلْفِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا أَعْرِفُ ذَاتَ فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَذَا فَسَّرَهَا الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَتَكُونُ كَلِمَةً مُقْحَمَةً لِتَحْقِيقِ الْحَقِيقَةِ، جُعِلَتْ مُقَدَّمَةً، وَحَقُّهَا التَّأْخِيرُ لِأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: جَاءَنِي بِذَاتِهِ، وَمِنْهُ يَقُولُونَ: ذَاتُ الْيَمِينِ وَذَات الشمَال، قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
فَالْمَعْنَى: أَصْلِحُوا بَيْنَكُمْ، وَلِذَا فَ (ذَاتَ) مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى أَنَّ (بَيْنَ) فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ فَخَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَجعل اسْما منتصرفا، كَمَا قُرِئَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ. فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ (ذَاتَ) فَصَارَ الْمَعْنَى: أَصْلِحُوا حَقِيقَةَ بَيْنِكِمْ
253
أَيِ اجْعَلُوا الْأَمْرَ الَّذِي يَجْمَعُكُمْ صَالِحًا غَيْرَ فَاسِدٍ، وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يُنَزَّلَ فِعْلُ أَصْلِحُوا مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ قَصْدًا لِلْأَمْرِ بِإِيجَادِ الصَّلَاحِ لَا بِإِصْلَاحِ شَيْءٍ فَاسِدٍ، وَتُنْصَبُ ذَاتَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْجِدُوا الصَّلَاحَ بَيْنَكُمْ، كَمَا قَرَأْنَا لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِنَصْبِ بَيْنَكُمْ أَيْ لَقَدْ وَقَعَ التَّقْطِيعُ بَيْنَكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْتِعْمَالِ (ذَاتِ بَيْنِ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ
مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمَلُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا وَقَعَ عقب تِلْكَ الْحمل كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَمَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْإِنْشَائِيَّةِ: إِنَّا أَمَرْنَاكُمْ بِمَا ذُكِرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا لَا نَأْمُرُ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِلْهَابٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَلَا تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا يَسْمَحُ بِمِثْلِهِ الِاسْتِعْمَالُ.
وَلَيْسَ الْإِتْيَانُ فِي الشَّرْط بِأَن تَعْرِيضًا بِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَلَا بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَأْنَ (إِن) عدم الجرم بِوُقُوعِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِذَا) عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعَانِي، وَلَكِنَّ اجْتِلَابَ (إِنْ) فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى إِظْهَارِ الْخِصَالِ الَّتِي يَتَطَلَّبُهَا الْإِيمَانُ وَهِيَ: التَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِخِصَالِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَالرِّضَى بِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَالْمَقْصُودُ التَّحْرِيضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ فِي أَحْسَنِ صُوَرِهِ وَمَظَاهِرِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الشَّرْطَ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَال: ٢] كَمَا سَيَأْتِي.
[٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ إِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الْأَمْرِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ،
254
وَقَدِ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْقِصَرِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِلْ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَلَمْ تَزِدْهُ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُقِمِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ، لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْقُضُهُ الْإِخْلَالُ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٤] فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ الْإِيمَانِ الَّذِي عُدِمَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ،
وَهُوَ قَصْرٌ مَجَازِيٌّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الْجَانِبُ الْمَنْفِيُّ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ بِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَطُوِيَ ذِكْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ وَهُوَ حَصْرُ الْإِيمَانِ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُشبه بِهِ، ويئول هَذَا إِلَى مَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الْإِيمَانِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُبَالَغَةً، وَحَرْفُ (الْ) فِيهِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِالدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ.
وَقَدْ تَكُونُ جُمْلَةُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] بِأَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ بَعْدَ مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَلْ يُمْتَرَى فِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيُجَابُوا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ فَتَنْبَعِثَ نُفُوسُهُمْ إِلَى الِاتِّسَامِ بِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مَوَانِعِ زِيَادَتِهِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاحْتِمَالَانِ غَيْرَ مُتَنَافِيَيْنِ صَحَّ تَحْمِيلُ الْآيَةِ إِيَّاهُمَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ فَإِنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ مِمَّا يَصح كَونه استينافا بَيَانِيًّا.
وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الرَّبْطِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءِ بِاخْتِلَافِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْبَلَاغِيَّةُ يَصِحُّ تَعَدُّدُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَوْقِعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا اعْتِبَارَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَيْسَتْ كَيْفِيَّاتٍ لَفْظِيَّةً فَتَحَقَّقْهُ حَقَّ تَحَقُّقِهِ.
وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُ إِيمَانُهُمْ إِلَّا أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي يَعْرِفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَحَقُّقَهَا فِيهِ أَوْ عَدَمَهُ مِنْ عَرْضِ نَفْسِهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ وَارِدًا
255
مَوْرِدَ الْأَمْرِ بِالتَّخَلُّقِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَةِ أَمَارَاتِ هَذَا التَّخَلُّقِ عَلَى صِفَاتٍ يَأْنَسُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِذَا عَلِمُوهَا.
وَالذِّكْرُ حَقِيقَتُهُ التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ، وَإِذَا عُلِّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الذَّاتِ أَسْمَاؤُهَا، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إِذَا نَطَقَ نَاطِقٌ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ بشأن من شؤونه، مِثْلِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ جَرَيَانِ اسْمِهِ أَوْ ضَمِيرِهِ أَوْ مَوْصُولِهِ أَوْ إِشَارَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ ذَاتِهِ.
وَالْوَجَلُ خَوْفٌ مَعَ فَزَعٍ فَيَكُونُ لِاسْتِعْظَامِ الْمَوْجُولِ مِنْهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِعْلُ وَجِلَ فِي الْفَصِيحِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الِانْفِعَالِ الْبَاطِنِيِّ مِثْلَ فَرِحَ، وَصَدِيَ، وَهَوِيَ، وَرَوِيَ.
وَأُسْنِدَ الْوَجَلُ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى إِحْسَاسِ الْإِنْسَانِ وَقَرَارَةِ إِدْرَاكِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْعُضْوَ الصَّنَوْبَرِيَّ الَّذِي يُرْسِلُ الدَّمَ إِلَى الشَّرَايِينِ.
وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ ذِكْرَ اللَّهِ إِجْمَالًا بَدِيعًا لِيُنَاسِبَ مَعْنَى الْوَجِلِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَكُونُ: بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَبِذِكْرِ عِقَابِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَبِذِكْرِ ثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَهُ الْوَجَلُ فِي قُلُوبِ كُمَّلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَهُ اسْتِحْضَارُ جَلَالِ اللَّهِ وَشِدَّةِ بَأْسِهِ وَسِعَةِ ثَوَابِهِ، فَيَنْبَعِثُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْضَارِ تَوَقُّعُ حُلُولِ بَأْسِهِ، وَتَوَقُّعُ انْقِطَاعِ بَعْضِ ثَوَابِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ وَجَلٌ يَبْعَثُ الْمُؤْمِنَ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ وَتَوَقِّي مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَمُلَاحَظَةِ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ».
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ حَثَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرِّضَى بِمَا قَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنايم بَدْرٍ، وَأَنْ يَتْرُكُوا التَّشَاجُرَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، نَاسَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَجِلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْوَجَلُ حَالَيْنِ يَحْصُلَانِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْحَالُ الْآخَرُ هُوَ الْأَمَلُ وَالطَّمَعُ فِي الثَّوَابِ فَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِلْزَامِ الْوَجَلِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ مِنَ الْوَجَلِ أَنْ يَجِلَ، مِنْ فَوَاتِ الثَّوَابِ أَوْ نُقْصَانِهِ.
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً.
التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَاسْتِظْهَارُ مَا يَحْفَظُهُ التَّالِي مِنْ كَلَامٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ يَحْكِيهِ لِسَامِعِهِ،
256
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَآيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، سُمِّيَتْ آيَاتٌ، لِأَنَّ وَحْيَهَا إِلَى النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَجْزَ قَوْمِهِ، خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ آيَاتٌ.
وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ كُلُّهُ آيَةً أَيْضًا بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ جُمْلَتِهِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِلْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، وَهُوَ تِلَاوَتُهَا لِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِهَا فِي صَدْرِ غَيْرِ الْمَتْلُوَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْرَفِ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، إِذْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ كَيْفِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ
عَارِضَةٌ، لِلْيَقِينِ، لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ انْقِدَاحِهَا فِي الْعَقْلِ، وَغَايَةُ مَا يُعْرَفُ أَنْ يُقَالَ: ازْدَادَ إِيمَانُ فُلَانٍ، أَوِ ازْدَادَ فُلَانٌ إِيمَانًا، بِطَرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَحْوَالِ، كُلِّهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ لُوحِظَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الْكَلَامُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ عَقْلِيَّيْنِ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ من يَأْتِي بِالْفِعْلِ وَيَصْنَعُهُ كَالْكَاتِبِ لِلْكِتَابَةِ وَالضَّارِبِ بِالسَّيْفِ لِلْقَتْلِ.
وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ النَّفْسِ بِثُبُوتِ نِسْبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، أَوْ بِانْتِفَاءِ نِسْبَةِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، تَصْدِيقًا جَازِمًا لَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا فِي الْيَقِينِ بِالنِّسْبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ وُجُودَ اللَّهِ وَوُجُودَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْمُقْتَضِيَةُ مَجِيءَ رَسُولِ اللَّهِ مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَثُبُوتَ صِفَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي لَا يَتِمُّ مَعْنَى رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ بِدُونِهَا: مِثْلَ الصِّدْقِ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَالْعِصْمَةِ عَنِ اقْتِرَافِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: قُوَّةُ الْيَقِينِ فِي نَفْسِ الْمُوقِنِ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِيهَا، وَدَفْعِ الشَّكِّ الْعَارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى وَأَجْلَى مُقَدِّمَاتٍ كَانَ الْيَقِينُ أَقْوَى، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَتَفَاوُتُهَا تَدَرُّجٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى قِلَّةُ التَّدَرُّجِ فِي الْأَدِلَّةِ نَقْصًا لَكِنَّهُ نَقْصٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ أَصْلِ حَقِيقَةِ
257
الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا لَوْ نَقَصَتْ عَنِ الْيَقِينِ لَبَطَلَتْ مَاهِيَّةُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «بَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ» فَلَوْ أَنَّ نَقْصَ الْأَدِلَّةِ بَلَغَ بِصَاحِبِهِ إِلَى انْخِرَامِ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لَهُ إِيمَانًا، حَتَّى يُوصَفَ بِالنَّقْصِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ بِالزِّيَادَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرِيعَةِ ذِكْرُ نَقْصِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِذَا قَالُوا الْإِيمَانَ يَزِيدُ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا ينقص، وَهُوَ عِبَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَلَكِنَّ الِاسْمَ الْمَضْبُوطَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ اسْمُ (الْإِسْلَامِ) كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ حَدِيثُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَالْإِيمَانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُوصَفُ بِالنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْإِقْلَالِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا
فِي نَظَائِرِهَا مِنْ آيَاتِ الْكتاب وأقوال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُرِيدُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فَيَقُولُ:
الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْوَصْفُ بِالزِّيَادَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي قَوْلِهِ «بَابُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ».
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ»، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْ إِقْرَارِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ، فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ بِالنَّقْصِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ لِعَدَمِ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَكَيْفِيَّةُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: أَنَّ دَقَائِقَ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ كُلُّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنْهَا أَوْ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَسْمَاعِ سَامِعَهَا يَقِينًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَزِيدُهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الضَّرُورَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي تَوَاتُرِ الْخَبَرِ مِنَ الْيَقِينِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، وَيَحْصُلُ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِ الْقُلُوبِ ثُمَّ فِي
258
الْعَمَلِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، حَتَّى يَحْصُلَ كَمَالُ التَّقْوَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ لِكُلِّ آيَةٍ تُتْلَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ زِيَادَةٌ فِي عَوَارِضِ الْإِيمَانِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَتَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ فَهَذَا وَصْفٌ رَاسِخٌ لِلْآيَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا زِيَادَةُ إِدْرَاكٍ لِلْمَعَانِي الْمُؤْمَنِ بِهَا، كَمَا فُسِّرَتْ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ، الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذْ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتُ تَعَلُّقَاتٌ بَعْضُهَا حِسِّيٍّ وَبَعْضُهَا عَقْلِيٌّ.
وَحَظُّ الْمَقَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ أَنَّ سَمَاعَ آيَاتِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ يَزِيدُ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةً، بِنَبْذِ الشِّقَاقِ والتشاجر الطَّارِئ ببينهم فِي أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُكْتَسَبُ مِنْ سُيُوفِهِمْ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي»
(١) وَبِذَلِكَ تَتَّضِحُ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، وَتَعْقِيبِهِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَجُعِلَتْ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَوَصْفُهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمَسَاعِي لِيُقَدِّرَ لِلْمُتَوَكِّلِ تَيْسِيرًا مَرَّةً وَيُعَوِّضُهُ عَنِ الْكَسْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَمُنَاسِبَةُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْغَرَضِ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّخَلِّي عَنِ الْأَنْفَالِ، وَالرِّضَى بِقِسْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَمَنْ كَانَ قَدْ حُرِمَ مِنْ نَفَلِ قَتِيلِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي تَعْوِيضِهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِمَّا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصَاحَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِمَّا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى إِعَانَةِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مَرْيَم: ٨١] فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَدْحًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْرِيضًا بِذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ تَبْقَى فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ آثَارٌ مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا نُهُوا عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِ، لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَوَّتُوهُ فَقَدْ أَضَاعُوا خَيْرًا من الدُّنْيَا.
[٣]
_________
(١) ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا فَقَالَ: وَيذكر عَن ابْن عمر عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
259

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣]

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ جَاءَ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ، كَمَا أُعِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤]، وَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ، فِي وَصْفِهِمْ، إِلَى غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي اجْتُلِبَ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ هُنَا غَرَضُ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى رُكْنَيِ الْإِيمَانِ: وَهُمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَا عَلَاقَةَ لِلصِّلَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ وَالرِّضَى بِقَسْمِهَا، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ الْمَدْحِ، وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الصَّلَاةِ بِالْإِقَامَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣]. وَجِيءَ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ فِي يُقِيمُونَ ويُنْفِقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَتُجَدُّدِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَبَرِ بِالصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، الَّتِي مَوْصُولُهَا خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ أَنْ تُعْتَبَرَ خَبَرًا بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَخْبَارٍ مُتَكَرِّرَةٍ، وَمُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعْتَبَرُ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا عَنِ الْمُبْتَدَأِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كُلُّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ مَحْصُورٌ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ أَيْ حَالُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى،
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا. وَهَكَذَا فَمَتَى اخْتَلَّتْ صِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ اخْتَلَّ وَصْفُ الْإِيمَانِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْرِ الْمُبَالِغَةَ الْآيِلَةَ إِلَى مَعْنَى قَصْرِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ عَلَى صَاحِبِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْخِبْرَيْنِ، لِظُهُورِ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ لَا يُسْلَبُ مَنْ أَحَدٍ ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهُ فَلَا يَجِلُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً مَنْ أَصُولُ الدِّينِ تُنَافِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] عَلَى إِرَادَةِ أَصْحَابِ الْإِيمَان الْكَامِل.
[٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤]
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٢] إِلَى آخِرِهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
260
وَعُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ صِفَاتٍ لِتَدُلَّ الْإِشَارَةُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْمُسْنَدِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَكَأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَمَيَّزُوا لِلسَّامِعِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَصَارُوا بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرٌ آخَرُ يُشْبِهُ الْقَصْرَ الَّذِي قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] حَيْثُ قُصِرَ الْإِيمَانُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَكِنَّهُ قُرِنَ هُنَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ الْمَقْصُورِ وَهُوَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحِقَّاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَالْحَقُّ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَقَّ بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ لِلشَّيْءِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢].
وَيُطْلَقُ كَثِيرًا، عَلَى الْكَامِلِ فِي نَوْعِهِ، الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ نَوْعِهِ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِابْنِهِ الْبَارِّ بِهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أبنائه لَيْسُوا لرشدة وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْتَ بُنُوَّتُكَ وَاضِحَةٌ آثارها، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ فَاسْمُ الْحَقِّ يَجْمَعُ مَعْنَى كَمَالِ النَّوْعِ.
وَلِكُلِّ صِيغَةِ قَصْرٍ: مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهَا هُنَا أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّلَاتُ هُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لَمْ
يَكُنْ مُؤْمِنًا كَامِلًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ إِحْدَاهَا كَانَ مُؤْمِنًا كَامِلًا، إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، فَمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقًّا أَيْ كَامِلًا.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْكَلَامِ دَعَا إِلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدِيدِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنْ ثُبُوتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِكُلِّ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَتِلْكَ الْأَدِلَّةُ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ لَا يَسْلِبُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْقَصْرِ عَلَى الِادِّعَائِي هُنَا مُجَرّد صنع بِالْيَدِ، أَوْ ذَهَابٍ مَعَ الْهَوَى عَلَى أَنَّ شَأْنَ الِاتِّصَافِ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْفَضَائِلِ أَنْ يَتَنَاسَقَ مَعَ نَظَائِرِهَا فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ زَادَتْهُ إِيمَانًا، فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصْرَيْنِ.
261
وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وُضُوحًا مَا
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ يَا حَارِثُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ اعْلَمْ مَا تَقُولُ- أَوِ انْظُرْ مَا تَقُولُ- إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ، وَكَأَنِّي أسمع عوراء أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ لَهُ يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ ثَلَاثًا
وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ.
فَقَوْلُ الْحَارِثِ «أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ مُؤْمِنًا كَامِلًا وَكَذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ»
ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَا كَانَ بِهِ إِيمَانُهُ كَامِلًا وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ أَصْلِ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا سعيد أمومن أَنْتَ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهِ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٢- ٤] فو الله مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا؟.
وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ على أَنه موكد لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ ثُبُوتُ الْإِيمَانِ لَهُمْ حَقٌّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ،
وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْقَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ بِالتَّأْكِيدِ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، بَلِ التَّأْكِيدُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ هُمْ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي وُقُوعِ الْمَصْدَرِ حَالا مثل أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [يُوسُف: ١٠٧]، أَيْ مُحَقِّقِينَ إِيمَانَهُمْ بِجَلَائِلِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٢٢].
وَجُمْلَةُ: لَهُمْ دَرَجاتٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
262
وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ دَرَجَاتٌ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ لِلشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ حَقِيقَتُهَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ لِإِمْكَانِ تَخَطِّي الصَّاعِدِ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٨]، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتُسْتَعَارُ الدَّرَجَةُ لِعِنَايَةِ الْعَظِيمِ بِبَعْضِ مَنْ يَصْطَفِيهِمْ فَتَشَبُّهُ الْعِنَايَةِ بِالدَّرَجَةِ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، لِأَنَّ الدُّنُوَّ مِنَ الْعُلُوِّ عُرْفًا يَكُونُ بِالصُّعُودِ إِلَيْهِ فِي الدَّرَجَاتِ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ الدُّنُوُّ بِدَرَجَاتٍ وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ قَرِينَةُ الْمَجَازِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَعَارَ الدَّرَجَةُ هُنَا لِمَكَانِ جُلُوسِ الْمُرْتَفِعِ كَدَرَجَةِ الْمِنْبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] وَالْقَرِينَةُ هِيَ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَوْجِيهِ عِنَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الْعَظِيمِ.
وَتَنْوِينُ دَرَجاتٌ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ.
وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُرْزَقُ أَيْ يُعْطَى لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، وَوَصْفُهُ بِكَرِيمٍ بِمَعْنَى النَّفِيسِ فَهُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلرِّزْقِ، وَفِعْلُهُ كَرُمَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْكَرَمِ فِي كُلِّ شَيْء الصِّفَات المحمودية فِي صِنْفِهِ أَوْ نَوْعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩]، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْكَرَمِ عَلَى السَّخَاءِ وَالْجُودِ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ كَرِيمٌ، وَتَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا عَلَى أَنَّ وَصْفَ الرِّزْقِ بِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ كِرِيمٌ رَازِقُهُ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ يَرْزُقُ بِوَفْرَةٍ وَبِغير حِسَاب.
[٥، ٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
تَشْبِيهُ حَالٍ بِحَالٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ: إِمَّا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ
لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَالُ كَحَالِ مَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ كَرَاهِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْوَاقِعِ
263
وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ مَصْدَرٍ لِفِعْلِ الِاسْتِقْرَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْخَبَرُ بِالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ١] إِذِ التَّقْدِيرُ: اسْتَقَرَّتْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ اسْتِقْرَارًا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، أَيْ فِيمَا يَلُوحُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ وَالِامْتِعَاضِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَوَالِهِمُ النَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ، فَالتَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيٌّ وَلَيْسَ مُرَاعًى فِيهِ تَشْبِيهُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، أَيْ أَنَّ مَا كَرِهْتُمُوهُ مِنْ قِسْمَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى خِلَافِ مُشْتَهَاكُمْ سَيَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ لَكُمْ، حَسَبَ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى مُخَالَفَةِ مُشْتَهَاهُمْ قَوْلُهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.
فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فَرِيقاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ هَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ كَافِ التَّشْبِيهِ بِمَا قبلهَا على مَا الْأَظْهَرِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَتِ الْعِشْرِينَ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ عَادِلٍ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ، وَبَعْضُهَا مُتَّحِدُ الْمَعْنَى وَبَعْضُهَا مُخْتَلِفُهُ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَتَقْدِيرُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ: الِانْتِقَالُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمَا ظَهَرَ فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْإِخْرَاجُ: إِمَّا مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ، وَإِمَّا تَقْدِيرُ الْخُرُوجِ لَهُمْ وَتَيْسِيرُهُ.
وَالْخُرُوجُ مُفَارَقَةُ الْمَنْزِلِ وَالْبَلَدِ إِلَى حِينِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خُرِجَ مِنْهُ، أَوْ إِلَى حِينِ الْبُلُوغِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ.
وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْبَيْتِ: هُوَ الْإِخْرَاجُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي خَرَجَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا إِلَى بَدْرٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ إِخْرَاجًا مُصَاحِبًا لِلْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُنَا الصَّوَابُ، لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ اسْمَ الْحَقِّ جَامِعٌ لِمَعْنَى كَمَالِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَامِدِ نَوْعِهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ أَمْرًا مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ فِي حَالِ كَرَاهَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ.
264
وَقَدْ أَشَارَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي خرج بِهِ الْمُسلمُونَ إِلَى بَدْرٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ أَنْ قَفَلَتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ لَهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، رَاجِعَةً إِلَى مَكَّةَ، وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي زُهَاءِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا فَانْتَدَبَ بَعْضُهُمْ وَتَثَاقَلَ بَعْضٌ، وَهُمُ الَّذِينَ كَرِهُوا الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَثَاقَلُوا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ظَهْرُهُمْ أَيْ رَوَاحِلُهُمْ فَسَارَ وَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ خَرَجُوا يَوْمَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حَرْبًا وَأَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى الْعِيرِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ، وَبَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ خَبَرُ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ صَارِخًا يَسْتَصْرِخُ قُرَيْشًا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ، فَتَجَهَّزَ مِنْهُمْ جَيْشٌ، وَلِمَا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ وَادِي ذَفِرَانَ بَلَغَهُمْ خُرُوجُ قُرَيْشٍ لِتَلَقِّي الْعِيرِ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْمُضِيِّ فِي سَبِيلِهِ وَكَانَتِ الْعِيرُ يَوْمَئِذٍ فَاتَتْهُمْ، وَاطْمَأَنَّ أَبُو سُفْيَانَ لِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ نَجَّى عِيرَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا (وَكَانَ بَدْرٌ مَوْضِعَ مَاءٍ فِيهِ سُوقٌ لِلْعَرَبِ فِي كُلِّ عَامٍ) فَنُقِيمُ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ وَنَسَقِي الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَتَسَامَعُ الْعَرَبُ بِنَا وَبِمَسِيرِنَا فَلَا يَزَالُوا يَهَابُونَنَا وَيَعْلَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُصِبِ الْعِيرَ، وَأَنَّا قَدْ أَعْضَضْنَاهُ، فَسَارَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بدر وتنبكت عِيرُهُمْ عَلَى طَرِيقِ السَّاحِلِ وَأَعْلَمَ اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَقَالَ: الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمِ النَّفِيرُ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِشَارَتَهُمْ فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ قَائِلِينَ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ فَإِنَّا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ فَظَهَرَ الْغَضَبُ عَلَى وَجْهِهِ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ، فَفَوَّضُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا يَرَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْقَوْمِ بِبَدْرٍ فَسَارُوا. وَكَانَ النَّصْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي هَزَّ بِهِ الْإِسْلَامُ رَأْسَهُ.
فَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَلَى نِيَّةِ التَّعَرُّضِ لِلْعِيرِ، وَأَنْ لَيْسَ دُونَ الْعِيرِ قِتَالٌ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْ تَجَمُّعِ قُرَيْشٍ لِقِتَالِهِمْ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَحْسَنَ، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ
265
فَقَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنِ يَديك وخلفك، فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى (بَرْكِ الْغِمَادِ) (بِفَتْحِ بَاءِ بَرْكِ وَغَيْنُ الْغِمَادِ ومعجمة مَكْسُورَةٌ مَوْضِعٍ بِالْيَمَنِ بَعِيدٍ جِدًّا عَن مَكَّة) لجادلنا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا
عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»

وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا يَوْمئِذٍ «إِنَّا برءاء مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَإِنَّكَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا» فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ لَا يَرَوْنَ نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ «وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْر فخصته لَخُضْنَاهُ مَعَكَ وَمَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ بِنَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ» فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَابْشُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ- أَيْ وَلَمْ يَخُصَّ وَعْدَ النَّصْرِ، بِتَلَقِّي الْعِيرِ فَقَطْ- فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ زَالَ مِنْ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ
، وَقَوْلُهُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي أَفَادَتْهُ، (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثَاقَلُوا وَقْتَ الْعَزْمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالَّذِينَ اخْتَارُوا الْعِيرَ دُونَ النَّفِيرِ حِينَ اسْتِشَارَةِ وَادِي ذَفِرَانَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ كَانَ مُمْتَدًّا فِي الزَّمَانِ، فَجُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ أَخْرَجَكَ.
وَتَأْكِيدُ خَبَرِ كَرَاهِيَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ غَيْرِ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِمَّا
266
شَأْنُهُ أَنْ لَا يَقَعَ، إِذْ كَانَ الشَّأْنُ اتِّبَاعُ مَا يُحِبُّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْرَهُوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ. وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا التَّنْزِيلُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْكَرَاهِيَةِ فَيَكُونُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مِنْ فَرِيقاً فَالضَّمِيرُ لِفَرِيقٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ حَالِ الْمُجَادَلَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْهَا، وَهَذَا التَّعْجِيبُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤] إِذْ قَالَ يُجادِلُنا وَلَمْ يَقِلْ «جَادَلَنَا».
وَقَوله: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَوْمٌ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي الْخُرُوجِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الْخُرُوجُ
لِلنَّفِيرِ وَتَرْكُ الْعِيرِ، بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَيْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ النَّصْرَ، وَهَذَا التَّبَيُّنُ هُوَ بَيِّنٌ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ شَعَرَ بِهِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا أَذْكِيَاءَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ أَصْفِيَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: طَائِفَةِ الْعِيرِ أَوْ طَائِفَةِ النَّفِيرِ، فَنَصْرُهُمْ إِذَنْ مَضْمُونٌ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ قَدْ أَخْطَأَتْهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ النَّفِيرُ، فَكَانَ بَيِّنًا أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا النَّفِيرَ يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثمَّ رَأَوْا كَرَاهَة النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اخْتَارُوا الْعِيرَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْيَقِينِ بِأَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ فَضَّلُوا غَنِيمَةَ الْعِيرِ عَلَى خَضْدِ شَوْكَةِ أَعْدَائِهِمْ وَنُهُوضِ شَوْكَتِهِمْ بِنَصْرِ بَدْرٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى تَبَيُّنِ الْحَقِّ أَيْ رُجْحَانِ دَلِيلِهِ فِي ذَاتِهِ، وَمَنْ خُفِيَ عَلَيْهِ هَذَا التبيّن مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْذُرْهُ اللَّهُ فِي خَفَائِهِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤْخَذُ حُكْمُ مُؤَاخَذَةِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا قَصَّرَ فِي فَهْمِ مَا هُوَ مَدْلُولٌ لِأَهْلِ النَّظَرِ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَأَجَابَهُ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. فَلَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَمَعَّرَ وَجْهُهُ
وَقَالَ «مَالَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»
وَرَوَى مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ»، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرَّ بِقَوْمٍ مُحْرِمِينَ فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا أُنَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ فَأَفْتَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ
267
ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ قَالَ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ فَقَالَ: «لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ».
وَجُمْلَةُ: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُجادِلُونَكَ أَيْ حَالَتُهُمْ فِي وَقْتِ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكَ تُشْبِهُ حَالَتُهُمْ لَوْ سَاقَهُمْ سَائِقٌ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْتِ الْحَالَةُ الْمُضَادَّةُ لِلْحَيَاةِ وَهُوَ مَعْنًى تَكْرَهُهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ، وَيُصَوِّرُهُ كُلُّ عَقْلٍ بِمَا يَتَخَيَّلُهُ مِنَ الْفَظَاعَةِ وَالْبَشَاعَةِ كَمَا تَصَوَّرَهُ أَبُو ذُؤَيْبٍ فِي صُورَةِ سَبُعٍ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا وَكَمَا تَخَيَّلَ، تَأَبَّطَ شَرًّا الْمَوْتَ طَامِعًا فِي اغْتِيَالِهِ فَنَجَا مِنْهُ حِينَ حَاصَرَهُ أَعْدَاؤُهُ فِي جُحْرٍ فِي جَبَلٍ:
فَخَالَطَ سَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ يَكْدَحِ الصَّفَا بِهِ كَدْحَةً وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تَشْبِيهٌ لِحَالِهِمْ، فِي حِينِ الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّحَاقِ بِالْمُشْرِكِينَ، بِحَالِ مَنْ يُجَادِلُ وَيُمَانِعُ مَنْ يَسُوقُهُ إِلَى ذَاتِ الْمَوْت.
وَهَذَا التَّفْسِير أَلْيَقُ بِالتَّشْبِيهِ لِتَحْصُلَ الْمُخَالِفَةُ الْمُطْلَقَةُ بَيْنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَهُمْ فِي قِلَّةٍ، إِرْجَاءٌ بِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَوْتٌ مَظْنُونٌ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَتَأَوَّلُوا الْمَوْتَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَوْتُ الْمُتَيَقَّنُ فَيَكُونُ التَّخَالُفُ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ تَخَالُفًا بِالتَّقْيِيدِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُساقُونَ وَمَفْعُولُ يَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَى الْمَوْتِ أَيْ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمَوْتَ، لِأَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُخَوِّفِ إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْهَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسَاقُ إِلَيْهِ وَلَا يَرَاهُ، لِأَنَّ لِلْحِسِّ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَى الْإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ التَّعَقُّلِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ:
يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَفِي عَكْسِهِ فِي الْمَسَرَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٥٠].
268

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ مَعْطُوفًا عَلَى كَما أَخْرَجَكَ [الْأَنْفَال: ٥] عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُشَبَّهًا بِهِ التَّشْبِيهُ الْمُفَادُ بِالْكَافِ وَالْمَعْنَى: كَإِخْرَاجِكَ اللَّهُ مِنْ بَيْتِكَ وَكَوَقْتِ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْآيَةَ وَاسْمُ الزَّمَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَتُؤَوَّلُ بِمَصْدَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَوَقْتِ وَعْدِ اللَّهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَ إِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُتَصَرِّفٌ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَجْرُورِ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِذْ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ شَأْنَ إِذْ الْوَاقِعَةِ فِي مُفْتَتَحِ الْقَصَصِ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ [الْأَنْفَالُ: ١] وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى خَطَأِ رَأْيِهِمْ وَأَنَّ مَا كَرِهُوهُ هُوَ الْخَيْر لَهُم.
و «الطَّائِفَة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَجُمْلَةُ: أَنَّها لَكُمْ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ:
يَعِدُكُمْ مَصِيرَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَكُمْ، أَيْ كَوْنُهَا مُعْطَاةً لَكُمْ، وَهُوَ إِعْطَاءُ النَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهَا بَيْنَ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَهُوَ هُنَا مِلْكٌ عُرْفِيٌّ، كَمَا يَقُولُونَ كَانَ يَوْمُ كَذَا لِبَنِي فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ لَهُم فِيهِ غَلَبَةَ حَرْبٍ وَهِيَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَتَوَدُّونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى يَعِدُكُمُ أَيْ إِذْ يَقَعُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَالْوُدُّ مِنْكُمْ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي حَالِ وُدِّكُمْ لِقَاءَ الطَّائِفَةِ غَيْرِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهَذَا الْوُدُّ هُوَ مَحَلُّ التَّشْبِيهِ الَّذِي أَفَادَهُ عَطْفُ وَإِذْ يَعِدُكُمُ، مَجْرُورِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الْأَنْفَال: ٥] فَهُوَ مِمَّا شُبِّهَ
269
بِهِ حَالُ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْأَنْفَالِ سُؤَالًا مَشُوبًا بِكَرَاهِيَةِ صَرْفِ الْأَنْفَالِ عَنِ السَّائِلَيْنِ عَنْهَا الرائمين أَخذهَا.
و «الود» الْمَحَبَّةُ وذاتِ الشَّوْكَةِ صَاحِبَةُ الشَّوْكَةِ وَوَقَعَ ذاتِ صِفَةً لِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ الطَّائِفَةُ غَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، أَيِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ.
والشَّوْكَةِ أَصْلُهَا الْوَاحِدَةُ مِنَ الشَّوْكِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ أَعْوَادٍ دَقِيقَةٍ تَكُونُ مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ كَالْإِبَرِ، فَإِذَا نَزَغَتْ جِلْدَ الْإِنْسَانِ أَدْمَتْهُ أَوْ آلَمَتْهُ، وَإِذَا عَلِقَتْ بِثَوْبٍ أَمْسَكَتْهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا فِي وَرَقِ الْعَرْفَجِ، وَيُقَالُ هَذِهِ شَجَرَةٌ شَائِكَةٌ، وَمِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ ظُهُورِ الشَّرِّ قَوْلُهُمْ: «إِنَّ الْعَوْسَجَ قَدْ أَوْرَقَ»، وَشَوْكَةُ الْعَقْرَبِ الْبَضْعَةُ الَّتِي فِي ذَنَبِهَا تَلْسَعُ بِهَا.
وَشَاعَ اسْتِعَارَةُ الشَّوْكَةِ لِلْبَأْسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، أَيْ ذُو بَأْسٍ يُتَّقَى كَمَا يُسْتَعَارُ الْقَرْنُ لِلْبَأْسِ فِي قَوْلِهِمْ: أَبْدَى قَرْنَهُ، وَالنَّابُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ: كَشَّرَ عَنْ نَابِهِ، وَذَلِكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ أَيْ تَوَدُّونَ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَا يُخْشَى بَأْسُهَا تَكُونُ لَكُمْ أَيْ مِلْكَكُمْ فَتَأْخُذُونَهُمْ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي قِصَّةِ بَدْرٍ حِينَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِانْصِرَافِ عِيرِ قُرَيْشٍ نَحْوَ السَّاحِلِ وَبِمَجِيءِ نَفِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا النَّفِيرُ وَعْدًا مُعَلَّقًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيَخْتَارُونَ اللَّحَاقَ بِالْعِيرِ أَمْ يَقْصِدُونَ نَفِيرَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا خَرَجْنَا لِأَجْلِ
الْعِيرِ، وَرَامُوا اللِّحَاقَ بِالْعِيرِ وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُوا لِمُقَاتَلَةِ جَيْشٍ، وَكَانَتِ الْعِيرُ لَا تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَكَانَ النَّفِيرُ فِيمَا قيل يشْتَمل عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مُسَلَّحٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ تَوَدُّونَ غَنِيمَةً بِدُونِ حَرْبٍ، فَلَمَّا لَمْ يَطْمَعُوا بِلِقَاءِ الْجَيْشِ وَرَامُوا لِقَاءَ الْعِيرِ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ غَنِيمَةُ الْعِيرِ وَلَعَلَّ الِاسْتِشَارَةَ كَانَتْ صُورِيَّةً، أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا تَهِنَ قُوَّتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ إِنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ ذَاتَ الشَّوْكَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتَوَدُّونَ عَلَى احْتِمَالَيْ
270
أَنَّ وَاوَهَا لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ إِظْهَارُ أَنَّ مَا يَوَدُّونَهُ لَيْسَ فِيهِ كَمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَهُمْ مَا فِيهِ كَمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُرْهِبُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْأَصْلَحِ بِهِمْ. فَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِرَادَةِ هُنَا إِرَادَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَالتَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] أَيْ يُسْرٌ بِكُمْ.
وَمَعْنَى يُحِقَّ الْحَقَّ: يُثْبِتُ مَا يُسَمَّى الْحَقُّ وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ يُقَالُ: حَقَّ الشَّيْءُ، إِذَا ثَبَتَ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩].
وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ. هُنَا: دِينُ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَقِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: ٢٩] الْآيَة.
وإحقاقه باستيصال مُعَانِدِيهِ، فَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ نَفْعًا قَلِيلًا عَاجِلًا، وَأَرَادَ اللَّهُ نَفْعًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ جِنَاسُ الِاشْتِقَاقِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْحَقِّ هُوَ فِعْلُ حَقَّ. وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْبَاطِلِ هِيَ فِعْلُ بَطَلَ. وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ قَالُوا فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ
. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ وَعَلَى كَلَامِهِ النَّفْسِيِّ، حَقِيقُهُ مِنْ أَقْوَالٍ لَفْظِيَّةٍ يَخْلُقُهَا خَلْقًا غَيْرَ مُتَعَارَفٍ لِيَفْهَمَهَا أَحَدُ الْبَشَرِ وَيُبَلِّغَهَا عَنِ اللَّهِ، مِثْلَ الْقُرْآنِ، أَوْ مَجَازًا مِنْ أَدِلَّةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ، مِثْلَ مَا يُخَاطِبُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: ٢٣] وَفَسَّرَهُ
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالَ لِلَّذِي قَالَ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
. وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَقَوْلُهُ: بِكَلِماتِهِ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الَّذِي يُوحِي بِهِ اللَّهُ الدَّالِّ عَلَى إِرَادَتِهِ تَثْبِيتَ الْحَقِّ. مِثْلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَمَا أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُصْرَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.
271
وَالْبَاءُ فِي بِكَلِماتِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ لِلتَّنْوِيهِ بِإِحْقَاقِ هَذَا الْحَقِّ وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ وَيَسَّرَهُ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَمْرِ، لِيَقُومَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمَأْمُورِينَ بِمَا هُوَ حَظُّهُ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ كَلِمَاتِ الله لَا تتخلف كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْح:
١٥]، وَلِمَدْحِ هَذَا الْإِحْقَاقِ بِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِ اللَّهِ.
وَقَطُعُ دَابِرِ الشَّيْءِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ كُلِّهِ إِزَالَةً تَأْتِي عَلَى آخِرِ فَرْدٍ مِنْهُ يَكُونُ فِي مُؤَخِّرَتِهِ مِنْ وَرَائِهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٥].
وَالْمَعْنَى: أَرَدْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَأَرَادَ اللَّهُ إِظْهَار أَمركُم وخضذ شَوْكَةِ عَدُوِّكُمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَحْرِمُكُمُ الْغِنَى الْعَارِضَ فَإِنَّ أَمْنَكُمْ وَاطْمِئْنَانَ بَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْسَبُونَ أَنْ لَا تَسْتَطِيعُوا هَزِيمَةَ عَدُوِّكُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أَيْ إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ وَكَوَّنَ أَسْبَابَهُ بِكَلِمَاتِهِ لِأَجْلِ تَحْقِيقِهِ الْحَقَّ وَإِبْطَالِهِ الْبَاطِلَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْصُولُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ عَيْنَ مَحْصُولِ الْمُعَلَّلِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَشَأْنُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْمُعَلِّلِ، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فَائِدَةُ التَّعْلِيلِ إِظْهَارُ الْغَرَضِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْفَاعِلُ مِنْ فِعْلِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْلِيلُ الْفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَا يَجْهَلُ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ مَا فَعَلَ فِعْلًا إِلَّا وَهُوَ مُرَادٌ لَهُ، فَإِذَا سَمِعْنَا مِنْ كَلَامِ الْبَلِيغِ تَعْلِيلَ الْفِعْلِ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَّا لِذَاتِ الْفِعْلِ، لَا لغَرَض آخر عَائِد عَلَيْهِ، فَإِفَادَةُ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْحَصْرِ حَاصِلَةٌ مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمُعَلَّلِ.
وَالْحَصْرُ هُنَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرْكِيبِ، وَلَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَافْهَمْهُ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ وَقَدْ
وَقَعَتْ فِيهِ غَفَلَاتٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إِحْقَاقَ الْحَقِّ عُمُومًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَهُوَ ضِدُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ
272
مَعْنَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الْحَقُّ ذَهَبَ الْبَاطِلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاء: ١٨]، وَلَمَّا كَانَ الْبَاطِلُ ضِدَّ الْحَقِّ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ. وَمِنْ لَطَائِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: كَمْ سِنُّكَ فَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وُلِدْتُ يَوْمَ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَيُّ حَقٍّ رُفِعَ وَأَيُّ بَاطِلٍ وُضِعَ» أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ ذكر بَعْدَ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ لِيُحِقَّ الْحَقَّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٠].
وَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمِنْ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ، مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ ثُمَّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ- بِقَوْلِهِ- وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ شَرْطٌ اتِّصَالِيٌّ. ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يُرِيدُ اللَّهُ، أَوْ عَلَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ أَيْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصُدُّ مُرَادَهُ مَا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْ قُوَّةٍ بِأَنْ يَكْرَهَهُ الْمُجْرِمُونَ وهم الْمُشْركُونَ.
وَالْكَرَاهَة هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ لَوَازِمِهَا وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِمُقَاوَمَةِ الْمُرَادِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، يُرِيدُونَ إِحْقَاقَ الْبَاطِلِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَنْفُذُ بالرغم على كَرَاهَة الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْكَرَاهَةِ فَلَيْسَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَحْوَالِ نُفُوذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْقَاقَ الْحَقِّ: لِأَنَّهُ إِحْسَاسٌ قَاصِرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى مُدَافَعَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَانَتْ أَسْبَابُ الْمُدَافِعَةِ هِيَ الْغَايَةَ لِنُفُوذِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْكَارِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَوِ الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٧٠].
[٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٩]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
يَتَعَلَّقُ ظَرْفُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بِفِعْلِ يُرِيدُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٧] لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُسْتَمِرٌّ تَعَلُّقُهَا
273
بِأَزْمِنَةٍ مِنْهَا زَمَانُ اسْتِغَاثَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ رَبَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، حِينَ لِقَائِهِمْ مَعَ عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَتِ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُمْ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ، مِنْ مَظَاهِرِ إِرَادَتِهِ تَحْقِيقَ الْحَقِّ فَكَانَتْ الِاسْتِغَاثَةُ يَوْمَ الْقِتَالِ فِي بَدْرٍ وَإِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ حَصَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَرَشَّحَ لَهُمْ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ذَاتَ الشَّوْكَةِ، وَبَيْنَ وَقْتِ الْإِرَادَةِ وَوَقْتِ الِاسْتِغَاثَةِ مُدَّةُ أَيَّامٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْإِرَادَةُ مُسْتَمِرَّةً إِلَى حِينِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ صَحَّ تَعْلِيقُ ظَرْفِ الِاسْتِغَاثَةِ بِفِعْلِهَا، لِأَنَّهُ اقْترن بِبَعْضِهَا فِي امْتِدَادِهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي مُتَعَلِّقٍ هَذَا الظَّرْفِ أَوْ مَوْقِعِهِ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ «نَظَرَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ [لَا] (١) تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ أَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَةَ رَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أَيْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ ضَمِيرُ تَسْتَغِيثُونَ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بضمير الْجَمَاعَة لِأَن كَانَ يَدْعُو لِأَجْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُعْلِنًا بِدُعَائِهِ وَهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَدْعُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا بِبَدْرٍ وَرَأَوْا كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَغَاثُوا اللَّهَ تَعَالَى فَتَكُونُ الِاسْتِغَاثَةُ فِي جَمِيعِ الْجَيْشِ وَالضَّمِيرُ شَامِلًا لَهُمْ.
وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى رَفْعِ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَلَمَّا كَانُوا يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةٍ وَدَعَوْا بِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ الْقَوِيِّ كَانَ دُعَاؤُهُمُ اسْتِغَاثَةً.
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَيْ وَعَدَكُمْ بِالْإِغَاثَةِ.
وَفِعْلُ اسْتَجَابَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الطَّلَبِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ تَحْقِيقُ الْمَطْلُوبِ.
_________
(١) زِيَادَة من «سنَن التِّرْمِذِيّ» ٥/ ٢٦٩. كتاب «تَفْسِير الْقُرْآن» (٩) بَاب، وَمن سُورَة الْأَنْفَال، رقم (٣٠٨١).
274
وَقَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ هُوَ الْكَلَامُ الْمُسْتَجَابُ بِهِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ أَصْلَهُ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ أَيْ فَحَذَفَ الْجَارَ وسلط عَلَيْهِ فَاسْتَجابَ فَنَصَبَ مَحَلَّهُ.
وَأَرَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةَ النُّونِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً لِلتَّفْسِيرِ مَعَ التَّأْكِيدِ كَمَا كَانَتْ تُفِيدُ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ التَّأْكِيدِ، فَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنِ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ، يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْكِيبُهَا مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ، وَأَعْتَضِدُ بِمَا فِي «اللِّسَانِ» مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: «إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ:) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْقَوْلِ كَانَتْ حِكَايَةً، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا (أَيُّ الْقَوْلِ) فَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ نَصَبَتْهَا وَمِثْلُهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاك شرِيف، فحت أَنَّ لِأَنَّهَا فَسَرَّتِ الْكَلَامَ. قُلْتُ: وَوُقُوعُ (أَنَّ) مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ كَثِيرٌ: فِي الْكَلَامِ. وَفِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَةَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بِإِنْصَافٍ وَجَدَ مَتَانَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي كَوْنِ (أَنَّ) تَفْسِيرِيَّةً، دُونَ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. مَعَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَرْفِ غَيْرُ بَيِّنٍ.
وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الشَّيْءِ النَّافِعِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ مُرْدِفِينَ أَي يرد فهم غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ تَكُونُ الْأَلْفُ رَادِفًا لِغَيْرِهِمْ قَبْلَهُمْ.
وَالْإِرْدَافُ الِاتْبَاعُ وَالْإِلْحَاقُ فَيَكُونُ الْوَعْدُ بِأَلْفٍ وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ إِعْدَادِ نَجْدَةٍ لِلْجَيْشِ عِنْدَ الْحَاجَةِ تَكُونُ لَهُمْ مَدَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّهُمْ بِآلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلَغُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَلْفٍ هَنَا مُطْلَقُ الْكَثْرَةِ فَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: بِثَلاثَةِ آلافٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٤]، وَهُمْ مُرْدَفُونَ بِأَلْفَيْنِ، فَتِلْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْحَرْبِ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ عَظِيمًا أَنْ يَبْعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُ ثُمَّ يُعْقِبُوهَا بِأُخْرَى لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ.
275
وَيُوَجِّهُ سُيُوفَهُمْ، وَحُلُولُ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ كَانَ بِكَيْفِيَّةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى: إِمَّا
بِتَجْسِيمِ الْمُجَرَّدَاتِ فَيَرَاهُمْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرُؤْيَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِرَاءَةِ اللَّهِ النَّاسَ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يرى عَادَة.
[١٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مَا جَعَلَ جَوَابَكُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا لِيُبَشِّرَكُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ أَنْ يَضْمَنَ لَكُمُ النَّصْرَ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ بِإِمْدَادٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفَائِدَةُ التَّبْشِيرِ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ لَقِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا قَوِيًّا وَجَيْشًا عَدِيدًا، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِكَيْفِيَّةِ النَّصْرِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَهُمْ بِأَنَّهُ بِجَيْشٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ أَمْيَلُ إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ، فَالنَّصْرُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي يَدِقُّ إِدْرَاكُهُ وَسُكُونُ النَّفْسِ لِتُصَوُّرِهِ بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ مِنْ تَصْوِيرِ مَدَدِ الْمَلَائِكَةِ وَرُؤْيَةِ أَشْكَالِ بَعْضِهِمْ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا لِتَعَرُّضٍ لِمَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ اخْتِلَافٍ فِي تَرْتِيبِ النَّظْمِ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٢٦] : إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَحَذَفَ (لَكُمْ) هُنَا دَفْعًا لِتَكْرِيرِ لَفْظِهِ لَسَبْقِ كَلِمَةِ لَكُمْ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْبُشْرَى لَهُمْ، فَأَغْنَتْ لَكُمْ الْأَوْلَى، بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، عَنْ ذِكْرِ لَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِأَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ سِيقَتْ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ فِي حِينِ الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ، فَكَانَ تَقْيِيدُ بُشْرى بِأَنَّهَا لِأَجْلِهِمْ زِيَادَةً فِي الْمِنَّةِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بُشْرَى لِأَجْلِكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْعِتَابِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَعَلَى اخْتِيَارِ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُلَاقِيهِمْ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، فَجَرَّدَ
بُشْرى عَنْ أَنْ يُعَلِّقَ بِهِ لَكُمْ إِذْ كَانَتِ الْبُشْرَى لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آلِ عِمْرَانَ.
ثَانِيهَا: تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بِهِ قُلُوبُكُمْ وَهُوَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لَا بِغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَعْرِيضٌ بِمَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْوَجَلِ مِنَ الطَّائِفَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَقَنَاعَتِهِمْ بِغَنْمِ الْعُرُوضِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْعِيرِ، فَعَرَّضَ لَهُمْ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَهَّمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ اسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ سَلَكَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَوْعُودَ بِهَا تَمَحَّضَتْ أَنَّهَا طَائِفَةُ النَّفِيرِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَظُنُّوا بِوَعْدِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَسْكِينَ رَوْعِهِمْ، وَعَدَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا بِأَنَّهُ لَا يُطَمْئِنُ قُلُوبَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْفَخْرُ: التَّقْدِيمَ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّقْدِيمِ لَكِنَّهُ وَجَّهَ تَأْخِيرَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٦] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَصَاغَ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ فِي صِيغَةِ النَّعْتِ، وَجَعَلَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ، إِذْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَنَزَّلَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: وَهُمَا الْعِزَّةُ، الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّهُ إِذَا وَعَدَ بِالنَّصْرِ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ، وَالْحِكْمَةُ، فَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِهِ غَوْصُ الْأَفْهَامِ فِي تَبَيُّنِ مُقْتَضَاءِهِ، فَكَيْفَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَعَدَهُمُ الظَّفَرَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ فَاتَتْهُمُ الْعِيرُ أَنَّ ذَلِكَ آيِلٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالظَّفَرِ بِالنَّفِيرِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا جُعِلَتْ كَالْإِخْبَارِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُوم لَهُم.
[١١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
لَقَدْ أَبْدَعَ نَظْمُ الْآيَاتِ فِي التَّنَقُّلِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ
277
تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، فَقَرَنَهَا، فِي قَرْنِ زَمَانِهَا، وَجَعَلَ يَنْتَقِلُ مِنْ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى بِوَاسِطَةِ إِذِ الزَّمَانِيَّةُ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فِيمَا أَحْسَبُ.
وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظَّرْفُ مَفْعُولًا فِيهِ لِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ [الْأَنْفَال: ١٠] فَإِنَّ إِغْشَاءَهُمُ النُّعَاسَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ وَقت حُصُوله طرفا لِلنَّصْرِ.
وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ كَوْنُ الشَّيْءِ غَاشِيًا أَيْ غَامًّا وَمُغَطِّيًا، فَالنَّوْمُ يُغَطِّي الْعَقْلَ.
وَالنُّعَاسُ النَّوْمُ غَيْرُ الثَّقِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ السِّنَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُغَشِّيكُمُ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُضَارِعُ أَغْشَاهُ وَبِنَصْبِ النُّعاسَ وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يُغْشِيكُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ، وَالنُّعَاس
مفعول ثَانِي لِيَغْشَى بِسَبَبِ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَبِرَفْعِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّ يَغْشَاكُمْ مُضَارِعُ غَشِيَ وَالنُّعَاسُ فَاعِلٌ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّحْتِيَّة وَفتح الْغَيْن وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَنَصْبِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ غَشَّاهُ الْمُضَاعَفِ وَالنُّعَاسُ مَفْعُولٌ ثَانٍ.
فَإِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ أَوِ التَّغْشِيَةِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ أَنْ يَنَامُوا فِي وَقْتٍ لَا يَنَامُ فِي مِثْلِهِ الْخَائِفُ، وَلَا يَكُونُ عَامًّا سَائِرَ الْجَيْشِ، فَهُوَ نَوْمٌ مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ لِفَائِدَتِهِمْ.
وَإِسْنَادُ الْغَشْيِ إِلَى النُّعَاسِ حَقِيقَةٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ أَمَنَةً مِنْهُ.
و (الأمنة) الْأَمْنُ، وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ (النُّعَاسَ)، وَعَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ (النُّعَاسَ).
وَإِنَّمَا كَانَ (النُّعَاسُ) أَمْنًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا زَالَ أَثَرُ الْخَوْفِ مِنْ نُفُوسِهِمْ فِي مُدَّةِ النَّوْمِ فَتِلْكَ نِعْمَةٌ، وَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا وَجَدُوا نَشَاطًا، وَنَشَاطُ الْأَعْصَابِ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ شَجَاعَةً وَيُزِيلُ شُعُورِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فُتُورُ الْأَعْصَابِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُغَشِّيكُمُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
278
وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ وصف ل (أَمَنَة) لِإِفَادَةِ تَشْرِيفِ ذَلِكَ النُّعَاسِ وَأَنَّهُ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ، فَهُوَ لُطْفٌ وَسَكِينَةٌ وَرَحْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَيَتَأَكَّدُ بِهِ إِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ إِلَى اللَّهِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبُوا (النُّعَاسَ)، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِسْنَادٌ مَخْصُوصٌ، وَلَيْسَ الْإِسْنَادُ الَّذِي يَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعُوا (النُّعَاسَ) يَكُونُ وَصْفُ الْأَمَنَةِ بِأَنَّهَا مِنْهُ سَارِيًا إِلَى الْغَشْيِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَشْيٌ خَاصٌّ قُدْسِيٌّ، وَلَيْسَ مِثْلَ سَائِرِ غَشَيَانِ النُّعَاسِ فَهُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ كَانَ كَرَامَةً لَهُمْ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَصَلَ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٤]، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: «كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا».
وَذَكَرَ اللَّهُ مِنَّةً أُخْرَى جَاءَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ: وَهِيَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِسْنَادُ هَذَا الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ فِي وَقْتِ
احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ فِيهِ نُزُولُ الْأَمْطَارِ فِي أُفُقِهِمْ، قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ اقْتَرَبُوا مِنْ بَدْرٍ رَامُوا أَنْ يَسْبِقُوا جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ دَهْسَاءَ أَيْ رَمْلًا لَيِّنًا، تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِسْرَاعُ السَّيْرِ إِلَى الْمَاءِ وَكَانَتْ أَرْضُ طَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ مُلَبَّدَةً، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ تَلَبَّدَتِ الْأَرْضُ فَصَارَ السَّيْرُ أَمْكَنَ لَهُمْ، وَاسْتَوْحَلَتِ الْأَرْضُ لِلْمُشْرِكِينَ فَصَارَ السَّيْرُ فِيهَا مُتْعِبًا، فَأَمْكَنَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبْقُ إِلَى الْمَاءِ مِنْ بَدْرٍ وَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَادَّخَرُوا مَاءً كَثِيرًا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَتَطَهَّرُوا وَشَرِبُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ.
و (الرجز) الْقَذَرُ، وَالْمُرَادُ الْوَسَخُ الْحِسِّيُّ وَهُوَ النَّجَسُ، وَالْمَعْنَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِالْحَدَثِ. وَالْمُرَادُ الْجَنَابَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْجَيْشَ كُلَّهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْجَيْشِ لَمَّا نَامُوا احْتَلَمُوا فَأَصْبَحُوا عَلَى جَنَابَةٍ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ يُخَيِّلُهَا لِلنَّائِمِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ طَهَارَتَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ طَمَعًا فِي تَثَاقُلِهِ عَنِ الِاغْتِسَالِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ فُقْدَانَ الْمَاءِ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْبَقَاءِ فِي تَنَجُّسِ الثِّيَابِ وَالْأَجْسَادِ
279
وَالنَّجَاسَةُ تُلَائِمُ طَبْعَ الشَّيْطَانِ.
وَتَقْدِيرُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى مَدٍّ وَحَرْفٍ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ يُؤَمِّنَكُمْ بِكَوْنِكُمْ وَاثِقِينَ بِوُجُودِ الْمَاءِ لَا تَخَافُونَ عَطَشًا وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي الرَّمْلِ، بِأَنْ لَا تَسُوخَ فِي ذَلِكَ الدَّهْسِ الْأَرْجُلُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ حُصُوله بالمطر.
و (الرَّبْط) حَقِيقَتُهُ شَدُّ الْوَثَاقِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّثْبِيتِ وَإِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ وَلَهُ رَبَاطَةُ جَأْشٍ.
وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ الرَّبْطِ فَهِيَ ترشيح للمجاز.
[١٢، ١٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
[الْأَنْفَال: ٩].
وَجَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطُّفًا بِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَفْصِيلِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَحَقُّ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ هَذَا الْعِلْمِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَهُمُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَصْرُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَقَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ مِنْ آيَةِ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَغَاثَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ عُرِّفَ اللَّهُ هَنَا بَاسِمِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَافِقَ أُسْلُوبَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِقَدْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لُطْفًا بِهِ وَرَفْعًا لِشَأْنِهِ.
وَالْوَحْيُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ إِلْقَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فِي نُفُوسِهِمْ بِتَكْوِينٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا بِإِبْلَاغِهِمْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.
280
وَ (أَنِّي مَعَكُمْ) قِيلَ هُوَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ مَفْعُولُ يُوحِي، أَيْ يُوحِي إِلَيْهِمْ ثُبُوتَ مَعِيَّتِهِ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ، مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِيُوحِيَ، بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ.
وَأَنْتَ عَلَى ذِكْرٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَال: ٩] مِنَ تَحْقِيقِ أَنْ تَكُونَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ النُّونِ مُفِيدَةً مَعْنَى (أَنَّ) التَّفْسِيرِيَّةِ، إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَالْمَعِيَّةُ حَقِيقَتُهَا هُنَا مُسْتَحِيلَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْمَعِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ، فَقَدْ يكون مَعْنَاهَا توجه عِنَايَتِهِ إِلَيْهِمْ وَتَيْسِيرِ الْعَمَلِ لَهُمْ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُ (مَعَ) بِمِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: ٤].
وَإِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْرِيفُهُمْ وَتَشْرِيفُ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُكَلَّفُونَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تُؤْذِنُ إِجْمَالًا بِوُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَدْعِي الْمُصَاحَبَةَ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَهُمْ: أَنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةً لِلتَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ شَرِيفٍ وَلِذَلِكَ يَذْكُرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعِيَّةُ لِأَنَّهُ سَيُعْلَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ، أَيْ أَنِّي مَعَكُمْ فِي عَمَلكُمْ الَّذِي أكفلكم بِهِ.
وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنِّي مَعَكُمْ مِنَ التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي التَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ إِبْدَالٌ لِلْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ بِاقْتِلَاعِهَا وَوَضْعِ أَضْدَادِهَا لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجُبْنَ شَجَاعَةً، وَالْخَوْفَ إِقْدَامًا
وَالْهَلَعَ ثَبَاتًا، فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُ الْعِزَّةَ رُعْبًا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ الْمُعْتَادَةِ فَكَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَهِدَ لِلْمَلَائِكَةِ عَمَلَهَا خَوَارِقَ عَادَاتٍ.
وَالتَّثْبِيتُ هُنَا مَجَازٌ فِي إِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ النَّفْسَانِيِّ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْخَوْفِ وَمِنْ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَاطْمِئْنَانِهِ.
وَعَرَّفَ الْمُثَبَّتُونَ بالموصول لما تومىء إِلَيْهِ صِلَةُ آمَنُوا مِنْ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِعِنَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ وَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَتَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ إِيقَاعِ ظَنٍّ فِي نُفُوسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِلْهَامًا وَتَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَإِزَالَةٌ لِلِاضْطِرَابِ الشَّيْطَانِيِّ، وَإِنَّمَا
281
يَكُونُ خَيْرًا إِذَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ خَاطِرًا كَاذِبًا، وَإِلَّا صَارَ غُرُورًا، فَتَشْجِيعُ الْخَائِفِ حَيْثُ يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُ الشَّجَاعَةَ خَاطِرٌ مَلَكِيٌّ وَتَشْجِيعُهُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّى وَيَخَافَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ وَوَسْوَسَةٌ، لِأَنَّهُ تَضْلِيلٌ عَنِ الْوَاقِعِ وَتَخْذِيلٌ.
وَلَمْ يُسْنِدْ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى الْمَلَائِكَةِ بَلْ أَسْنَدَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مَلَائِكَةَ نَصْرٍ وَتَأْيِيدٍ فَلَا يَلِيقُ بِقُوَاهُمْ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ، لِأَنَّ الرُّعْبَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ ذَمِيمٌ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِوَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَسْنَدَ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ دُونَ بَيَانٍ لِكَيْفِيَّةِ إِلْقَائِهِ، وَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي الْعَالَمِ هُوَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَأَشَارَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْإِهَانَةِ وَبِالِاسْتِدْرَاجِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَصْدِ تَحْقِيرِ الشَّيْطَانِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَصَدَ تَشْرِيفَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُبَارَكٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ خَارِقَ عَادَةٍ، لِأَنَّ أَسْبَابَ ضِدِّهِ قَائِمَةٌ، وَهِيَ وَفْرَةُ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى حِمَايَةِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْعِيرُ.
فَجُمْلَةُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا إِخْبَارًا لَهُمْ بِمَا
يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ الَّذِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُمْ تَخْذِيلَ الْكَافِرِينَ بِعَمَلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي كَلَّفَ الْمَلَائِكَةَ بِعَمَلِهِ، فَلَيْسَتْ جُمْلَةُ سَأُلْقِي مُفَسِّرَةً لِمَعْنَى أَنِّي مَعَكُمْ.
وَلَمْ يُقِلْ سَنُلْقِي لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُخَاطَبِينَ سَبَبًا فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَتَفْرِيعُ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ عَلَى جُمْلَةِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
282
الْمُفَرَّعَةِ هُنَا أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَعْنَى، يُؤْذِنُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مِنْ تَخْفِيفِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ إِجْمَالًا قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَوْقَ الْأَعْناقِ على الظَّرْفِيَّة لَا ضربوا.
والْأَعْناقِ أَعْنَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَاللَّامُ فِيهِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ لِلْجِنْسِ أَوْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
وَالْبَنَانُ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْإِصْبَعُ وَقِيلَ طَرْفُ الْإِصْبَعِ، وَإِضَافَةُ (كُلٍّ) إِلَيْهِ لِاسْتِغْرَاقِ أَصْحَابِهَا.
وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْأَعْنَاقُ وَالْبَنَانُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ إِتْلَافٌ لِأَجْسَادِ الْمُشْرِكِينَ وَضَرْبُ الْبَنَانِ، يُبْطِلُ صَلَاحِيَةَ الْمَضْرُوبِ لِلْقِتَالِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ السِّلَاحِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَدُ أَوْ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْأَصَابِعُ، عَنْ ذِكْرِ السَّيْفِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَأَنَّ تِلَادِي أَنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إِلَيَّ الْأَنَامِلُ
يَعْنِي سَيْفَهُ، وَقَالَ أَبُو الْغُولِ الطَّهْوِيُّ:
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي فَوَارِسَ صُدِّقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي
يُرِيدُ السَّيْفَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَضَرْبُ الْبَنَانِ يَحْصُلُ بِهِ تَعْطِيلُ عَمَلِ الْيَدِ فَإِذَا ضُرِبَتِ الْيَدُ كُلُّهَا فَذَلِكَ أَجْدَرُ.
وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً بِتَكْوِينِ قَطْعِ الْأَعْنَاقِ وَالْأَصَابِعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ حَقِيقَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَسْدِيدِ ضَرَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْجِيهِ
الْمُشْرِكِينَ إِلَى جِهَاتِهَا، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، وَقَدْ قِيلَ:
الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْكِشَافِ الملحمة.
وَجُمْلَة: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
تَعْلِيلٌ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله أَنَّهُمْ
بَاءُ السَّبَبِيَّةِ
283
فَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ.
وَالْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِمَّا الْمَلَائِكَةُ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ إِطْلَاعًا لَهُمْ عَلَى حِكْمَةِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. لِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِمْ، وَلَا يَرِيبُكَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِشَارَةِ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِالْمُتَعَيِّنِ، وَإِمَّا مَنْ تَبْلُغُهُمُ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَا فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِفْرَادِ الْكَافِ هُوَ هُوَ إِذِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْمُرَادُ نَوْعٌ خَاصٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْأَعْنَاقِ وَقَطْعِ الْبَنَانِ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْمُشَاقَّةُ الْعَدَاوَةُ بِعِصْيَانٍ وَعِنَادٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَشْقُوقِ أَيِ الْمُفَرَّقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ وَالْمُعَادِي يَكُونُ مُتَبَاعِدًا عَنْ عَدُوِّهِ فَقَدْ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ آخَرَ، أَيْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ بِسَبَبِ الِانْتِقَامِ تَعْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَسْتَزِيدُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ هَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَيُوشِكُ مَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِلرَّسُولِ بِدُونِ مُشَاقَّةٍ أَنْ يُوقِعَ فِي عَذَابٍ دُونَ ذَلِكَ، وَخَلِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ ضِدَّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ.
وَجُمْلَةُ: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تَذْيِيلٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَيَعُمُّ أَصْنَافَ الْعَقَائِدِ.
وَالْمُرَادُ من قَوْله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
الْكِنَايَةُ عَنْ عِقَابِ الْمُشَاقِّينَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ تَعَلُّقِ مَضْمُونِ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، كَقَوْلِ عنترة:
إِن تغد فِي، دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
يُرِيدُ فَإِنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَنْ يَسْتُرُ وَجْهَهُ مِنِّي وَأَنِّي أتوسّمه وأعرفه.
[١٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
الْخِطَابُ فِي ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذين قتلوا، وَالَّذين قُطِعَتْ بَنَانُهُمْ أَيْ يُقَالُ
284
لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ حَيْثُ تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ وَبَنَانُهُمْ بِأَنْ يُلْقَى فِي نُفُوسِهِمْ حِينَمَا يُصَابُونَ إِنَّ إِصَابَتَهُمْ كَانَتْ لِمُشَاقَّتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَوَعُّدَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْبَطْشِ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦] وَقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: ٣٤] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنَ اخْتِلَاجِ الشَّكِّ نُفُوسَهُمْ، فَإِذَا رَأَوُا الْقَتْلَ الَّذِي لَمْ يَأْلَفُوهُ، وَرَأَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ مَضْرُوبًا بِالسَّيْفِ، ضَرْبًا لَا يَسْتَطِيعُ لَهُ دِفَاعًا، عَلِمَ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ تَحَقَّقَ فِيهِ، فَجَاشَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمُشَاقَّتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ إِصَابَاتٍ تُصِيبُهُمْ مِنْ غَيْرِ مَرْئِيٍّ، فَجُمْلَةُ:
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَائِلِينَ، هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢] وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَلِكَ هُوَ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال:
١٣] فَالتَّقْدِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّكُمْ شَاقَقْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَتَفْرِيعُ فَذُوقُوهُ عَلَى جُمْلَةِ: ذلِكُمْ بِمَا قُدِّرَ فِيهَا تَفْرِيعٌ لِلشَّمَاتَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ، فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَالْإِهَانَةِ، وَمَوْقِعُ فَذُوقُوهُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ، وَالِاعْتِرَاضُ يَكُونُ بِالْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
ضِبَابِ بَنِي الطُّوَالَةِ فَاعْلَمِيهِ وَلَا يَغْرُرْكِ نَأْيِي وَاغْتِرَابِي
قَالُوا وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ للْعَطْف على الْمَقُول فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكَافِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ تَذْيِيلٌ.
وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمْ، أَيْ ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، عِقَابُ الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَكُمْ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ وَالْعَلَاقَةُ الْإِطْلَاقُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ ذَلِكُمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لجَمِيع الْكَافرين.
285

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
لَمَّا ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَيَّدَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّصْرِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِأَنْ نَصَرَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَأَعْقَبُهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ مَعَ الْكَافِرِينَ بِهِ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِمْ من الوهن والقرار، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: ١٢] وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ [الْأَنْفَال: ١٧] الْآيَةَ وَفِي هَذَا تَدْرِيبٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ خُطَّةٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ لَمْ يَزِدْهَا الْإِسْلَامُ إِلَّا تَقْوِيَةً، قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِتَالِ بَدْرٍ، وَلَعَلَّ مُرَادَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ حُكْمَهَا نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ أُثْبِتَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ النَّازِلَةِ بَعْدَ الْمَلْحَمَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَاتِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ ثُمَّ رُتِّبَتْ فِي التِّلَاوَةِ فِي مَكَانِهَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَاللِّقَاءُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ وَاضِحَةٌ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٥]، وَأَصْلُ اللِّقَاءِ أَنَّهُ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ.
وَالزَّحْفُ أَصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا انْبَعَثَ مِنْ مَكَانِهِ مُتَنَقِّلًا على مقعدته يجرر جيله كَمَا يَزْحَفُ الصَّبِيُّ.
ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَشْيِ الْمُقَاتِلِ إِلَى عَدُوِّهِ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ زَحْفٌ لِأَنَّهُ يَدْنُو إِلَى الْعَدُوِّ بِاحْتِرَاسٍ وَتَرَصُّدِ فُرْصَةٍ، فَكَأَنَّهُ يَزْحَفُ إِلَيْهِ.
286
وَيُطْلَقُ الزَّحْفُ عَلَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ، أَيِ الْكَثِيرِ عَدَدِ الرِّجَالِ، لِأَنَّهُ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ يَثْقُلُ تَنَقُّلُهُ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ، ثُمَّ غُلِبَ إِطْلَاقُهُ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الزَّحْفِ وَيُجْمَعُ عَلَى زُحُوفٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ زَحْفاً فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ الْمَشْيِ فِي الْحَرْب وجلعه وَصْفًا لِتَلَاحُمِ الْجَيْشَيْنِ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلِينَ يَدِبُّونَ إِلَى أَقْرَانِهِمْ دَبِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِذَاتِ الْجَيْشِ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ: إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ وَإِمَّا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ هُوَ نَهْيٌ عَنِ الِانْصِرَافِ مِنَ الْقِتَالِ فِرَارًا إِذَا الْتَحَمَ الْجَيْشَانِ، سَوَاءٌ جَعَلْتَ زَحْفًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ مَشْيَ أَحَدِ الْجَيْشَيْنِ يَسْتَلْزِمُ مَشْيَ الْآخَرِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي فَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمْ كَانَ نَهْيًا عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا قِلَّةً فَلَا نَهْيَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ- إِلَى- مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦]، وَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَ الْمَعْنَى إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ وَهُمْ كَثِيرُونَ فَلَا تَفِرُّوا، فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ قِلَّةً بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى لَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي صِحَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي أَنْفَالِ الْجَيْشِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عِنْدَ قِسْمَةِ مَغَانِمِ بَدْرٍ، وَمَا هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ لِتَوَقُّعِ حُدُوثِ غَزَوَاتٍ يَكُونُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا قَلِيلًا كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ التقهقر إِذا لَا قوا الْعَدُوَّ.
فَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا فِي الْحَرْبِ بَغْتَةً وَتَوَلَّى اللَّهُ نَصْرَهُمْ.
287
وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِآيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً- إِلَى قَوْلِهِ- بِإِذْنِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦].
وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِيَغِ عُمُومٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ مُطْلَقَةٌ فِي حَالَةِ اللِّقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَتَكُونُ آيَاتُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦] مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ هَاتِهِ الْآيَةِ بِمِقْدَارِ الْعَدَدِ وَمُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِهَا اللِّقَاءَ بِقَيْدِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَنَافِعٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا إِنَّ حُكْمَهَا نسخ بِآيَة الضُّعَفَاء آيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ [الْأَنْفَال: ٦٥] الْآيَةَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة، ومآل الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ انْتِظَامِ آيِ السُّورَةِ، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ الثَّانِي لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَأُلْحِقَتِ الْآيَةُ بِهَا، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَثَرِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الْآيَةَ مُحْكَمٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، لَا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا يخص بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ، وَنَسَبَ ابْنُ الْفُرْسِ، عَنِ النَّحَّاسِ، إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ ابْنُ الْفُرْسِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْنَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ، وَأَنَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْ عَمَلِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الْأُمَرَاءِ الصَّالِحِينَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مَا يَنْضَبِطُ بِهِ مَدَى الْإِذْنِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الْفِرَارِ، وَقَدِ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١٥٥] وَمَا عَفَا عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَحَقُّوا الْإِثْمَ، وَلَمَّا انْكَشَفُوا عِنْدَ لِقَاءِ هَوَازِنَ
288
يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنَّفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٢٥- ٢٧] وَذِكْرُ التَّوْبَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْإِثْمِ.
وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لَا تُوَجِّهُوا إِلَيْهِمْ أَدْبَارَكُمْ، يُقَالُ: وَلَّى وَجْهَهُ فُلَانًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] فَيُعَدَّى فِعْلُ وَلَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، (وَمُجَرَّدُهُ وَلِيَ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا وَالِيًا أَيْ قَرِيبًا فَيَكُونُ وَلَّى الْمُضَاعَفُ مِثْلَ قَرَّبَ الْمُضَاعَفِ، فَهَذَا نَظْمُ هَذَا التَّرْكِيب.
و (الأدبار) جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ ضِدُّ قُبُلِ الشَّيْءِ وَجْهُهُ، وَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ مِنْهُ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَعْلُهُ أَمَامَهُ، وَدُبُرُهُ ظَهْرُهُ وَمَا تَرَاهُ مِنْهُ حِينَ انْصِرَافِهِ وَجَعْلُهُ إِيَّاكَ وَرَاءَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ اسْتَقْبَلَ وَاسْتَدْبَرَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَمَعْنَى تَوْلِيَتِهِمُ الْأَدْبَارَ صَرْفُ الْأَدْبَارِ إِلَيْهِمْ، أَيِ الرُّجُوعُ عَنِ اسْتِقْبَالِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ فِي سِيَاقِ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مَعَ بَعْضِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِلَّا فَإِنَّ صَرْفَ الظَّهْرِ إِلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ النَّصْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الِانْصِرَافُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، إِذْ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ النَّهْي عَن إدارة الْوَجْهِ عَنِ الْعَدُوِّ، وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ مُسْتَقْبِلِينَ جَيْشَ عَدُوِّهِمْ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ قَبْلَ النَّصْرِ أَوِ الْقَتْلِ.
وَعَبَّرَ عَنْ حِينِ الزَّحْفِ بِلَفْظِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الزَّحْفِ أَيْ يُوُلِّهِمْ يَوْمَ الزَّحْفِ دُبُرَهُ أَيْ حِينَ الزَّحْفِ.
وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ حَالَةَ التَّحَرُّفِ لِأَجْلِ الْحِيلَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِهَا أَوْ لِإِنْجَادِهَا.
وَالْمُسْتَثْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَاتًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا رَجُلًا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَبَقِيَتِ الصِّفَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تحرفه لقِتَال.
و (التحرف) الِانْصِرَافُ إِلَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْبَعِيدُ عَنْ وَسَطِهِ فَالتَّحَرُّفُ مُزَايَلَةُ الْمَكَانِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهِ وَالْعُدُولُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ لِذَلِكَ الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْفِرَارِ مِنْهُ.
289
وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تَحَرُّفٍ أَيْ مُجَانَبَةٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، أَيْ لِأَجْلِ إِعْمَالِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الِاسْمَ، أَوْ لِأَجْلِ إِعَادَةِ الْمُقَاتَلَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الْمَصْدَرَ، وَتَنْكِيرُ قِتَالٍ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الثَّانِي، فَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّحَرُّفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَرِّ لِأَجْلِ الْكَرِّ فَإِنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، وَقَالَ عَمْرو بن معديكرب:
وَلَقَدْ أَجْمَعُ رِجْلَيَّ بِهَا حَذَرَ الْمَوْتِ وَإِنِّي لَفَرُورُ
وَلَقَدْ أَعْطِفُهَا كَارِهَةً حِينَ لِلنَّفْسِ مِنَ الْمَوْتِ هَرِيرُ
كُلُّ مَا ذَلِكَ مِنِّي خُلُقٌ وَبِكُلٍّ أَنَا فِي الرَّوْعِ جَدِيرُ
وَالتَّحَيُّزُ طَلَبُ الْحَيِّزِ فَيْعِلٌ مِنَ الْحَوْزِ، فَأَصْلُ إِحْدَى يَاءَيْهِ الْوَاوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ
وَالْيَاءُ وَكَانَتِ السَّابِقَةُ سَاكِنَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ تَحَيُّزٌ، فَوَزْنُهُ تَفَيْعُلٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ تَفَعُّلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْكَلِمَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الْإِبْدَالُ وَالْإِدْغَامُ وَهِيَ الْحَيِّزُ، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِمْ: «تَدَيُّرٌ» بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الدَّارَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدَّوَرَانِ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى دُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي جَمْعِهَا دِيَارٌ وَدِيَرَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ مَا عَيْنُهُ يَاءٌ، فَقَالُوا مِنْ ذَلِكَ تَدَيَّرَ بِمَعْنَى أَقَامَ فِي الدَّارِ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الدَّارِ، وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ وَالْمَرْزُوقِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ»، يَعْنِي مَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ جَابِرِ بْنِ حَرِيشٍ:
إِذْ لَا تَخَافُ حُدُوجُنَا قَذْفَ النَّوَى قَبْلَ الْفَسَادِ إِقَامَةً وَتَدَيُّرَا
«التَّدَيُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الدَّارِ وَقِيَاسُهُ تَدَوَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ دِيَارَ أَنِسُوا بِالْيَاءِ وَوَجَدُوا جَانِبَهَا أَوْطَأَ حِسًّا وَأَلْيَنَ مَسًّا فَاجْتَرُّوا عَلَيْهَا فَقَالُوا تَدَيُّرٌ» وَمَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ «الْأَصْلُ فِي تَدَيُّرٍ الْوَاوُ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى دِيَارٍ لِإِلْفِهِمْ لَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ فِي كَلَامِهِمْ».
فَمَعْنَى مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ الْقَهْقَرَى لِيَلْتَحِقَ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ.
وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩] فِي قَوْلِهِ:
290
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى مُؤَخَّرَةِ الْجَيْشِ لِأَنَّهَا يَفِيءُ إِلَيْهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحِ أَمْرِهِ أَوْ مَنْ عُرِضَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ يَسْتَنْجِدُ بِهِمْ، فَهُوَ تَوَلٍّ لِمَقْصِدِ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَنْحَازَ إِلَى جَمَاعَةٍ مُسْتَرِيحِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَارِ، وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى الْفِئَةِ الرُّجُوعُ إِلَى مَقَرِّ أَمِيرِ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِفِئَةٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْقُفُولُ إِلَى مَقَرِّ أَمِيرِ الْمِصْرِ الَّذِي وَجَّهَ الْجَيْشَ لِلِاسْتِمْدَادِ بِجَيْشٍ آخَرَ إِذَا رَأَى أَمِيرُ الْجَيْشِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ وَغَيْرِهِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ، وَلَمَّا انْهَزَمَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الْجِسْرِ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَقُتِلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَلَّا تَحَيَّزَ إِلَيَّ فَأَنَا فِئَتُهُ.
وباءَ رَجَعَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ ذَلِكَ فَهُوَ قَدْ رَجَعَ مُلَابِسًا لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ (بَاءَ) هُنَا أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ الْبَوْءُ الَّذِي بَاءَهُ. وَهَذَا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْمُسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَغَيْرَهُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَحْرِمَهُ عِنَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّوَلِّي عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ حِينَ الزَّحْفِ.
وَالَّذِي أُرَى فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ هُوَ تَحْرِيمُ التَّوَلِّي عَلَى آحَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ إِذَا الْتَقَوْا مَعَ أَعْدَائِهِمْ فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ وَالْمُجَالَدَةِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ إِذَا نَزَلَ الْمُشْرِكُونَ لِمُقَاتَلَتِهِمْ وَعَزَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَإِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ لِلْقِتَالِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ لِلْقِتَالِ، وَلَوْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِرُوا، وإمّا أَن يتشهدوا، وَعَلَى هَذَا فَلِلْمُسْلِمِينَ النَّظَرُ قَبْلَ اللِّقَاءِ هَلْ هُمْ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُونَ الثَّبَات وَجهه أَولا، فَإِنَّ وَقْتَ الْمُجَالَدَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّدْبِيرِ، فَعَلَى الْجَيْشِ النَّظَرُ فِي عَدده وعُدده وَنِسْبَةُ ذَلِكَ مِنْ جَيْشِ عَدُوِّهِمْ، فَإِذَا أَزْمَعُوا الزَّحْفَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الثَّبَاتَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُهُمْ فِي مُدَّةِ نُزُولِهِمْ بِدَارِ الْعَدُوِّ، فَإِذَا رَأَوْا لِلْعَدُوِّ نَجْدَةً أَوِ ازْدِيَادَ قُوَّةٍ نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ هَلْ يَثْبُتُونَ لِقِتَالِهِ أَوْ يَنْصَرِفُونَ بِإِذْنِ أَمِيرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ مُتَابَعَةِ ذَلِكَ
291
الْعَدُوِّ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِاسْتِنْجَادِ وَالْعَوْدَةِ إِلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ كَمَا صَنَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ إِفْرِيقِيَّةَ الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: ٤٥] وَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»
. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنْ يَمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَصْرِ الدِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْجِلَاءِ عَنْ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ، أَنْ يُغَادِرَ دَارَ الْحَرْبِ وَيَرْجِعَ إِلَى مَقَرِّهِ، إِذَا أَمِنَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ الْعَدُوُّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَسْتَطِيعُ بِهِ دِفَاعَهُمْ إِذَا لَحِقُوا بِهِ، فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَوْلِيَةَ أَدْبَارٍ، بَلْ هُوَ رَأْيٌ وَمَصْلَحَةٌ، وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمَلُ مَا
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا قَالَ «فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلْ إِلَيْنَا فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ (أَيِ الَّذِينَ يَكُرُّونَ يَعْنِي أَنَّ فِرَارَكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْفَرِّ لِلْكَرِّ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَلَّى عَنِ الْحَرْبِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا عَكَّرَ أَوِ اعْتَكَرَ) وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ»
يَتَأَوَّلُ لَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- قَالَ ابْنُ عُمَرَ- فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِرَارَ ابْنِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ مُجَالَدَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ انْسِلَالًا لِيَنْحَازُوا
إِلَى الْمَدِينَةِ فَتِلْكَ فِئَتُهُمْ.
وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْفِرَارَ فِي وَقْتِ مُنَاجَزَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَهُوَ وَقْتُ اللِّقَاءِ لِأَنَّ الْفِرَارَ حِينَئِذٍ يُوقِعُ فِي الْهَزِيمَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّقْتِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُمْ إِلَّا بِصَبْرِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَلَوِ انْكَشَفُوا بِالْفِرَارِ لَأَعْمَلَ الْمُشْرِكُونَ الرِّمَاحَ فِي ظُهُورِهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حُكْمُ الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَبِهَذَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِحَالِ الزَّحْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ اللِّقَاءِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَأَمَّا آيَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥] فَقَدْ
292
بَيَّنَتْ حُكْمَ الْعَدَدِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ طَلَبُ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ بِنِسْبَةِ عَدَدِهِمْ إِلَى عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرْسِ.
[١٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: ١٢] تُفْصِحُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا شَرْطٌ أَوْ غَيْرُهُ- وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فَتَكُونَ رَابِطَةً لِجَوَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تُوَلُّوا الْمُشْرِكِينَ الْأَدْبَارَ تَنْبِيهُكُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا وَعُدَّةً، وَالتَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، فَإِنَّ كَوْنَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيِهِمْ حَاصِلًا مِنَ اللَّهِ لِأَمْنِ الْمُسْلِمِينَ يُفِيدُ تَعْلِيلًا وَتَوْجِيهًا لِنَهْيِهِمْ عَنْ أَنْ يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَلِأَمْرِهِمُ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِضَمَانِ تَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا لِقَوْلِهِ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال ٤٦] فَإِنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ نَاصِرَهُمْ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ عَلَى تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عُذْرَ الْمُتَوَلِّينَ وَالْفَارِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ: إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمرَان:
١٥٥].
وَإِذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةِ أَفْعَالٍ فَعَلَهَا الْمُخَاطَبُونَ، كَانَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِنَفْيِ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ أَنَّ حُصُولَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ بِأَسْبَابِ ضَرْبِ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنَّبَأَهُمْ أَنَّ تِلْكَ السُّيُوفَ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُؤَثِّرَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ الْمُصِيبَ الْمُطَّرِدَ الْعَامَّ الَّذِي حَلَّ بِأَبْطَالٍ ذَوِي شَجَاعَةٍ، وَذَوِي شَوْكَةٍ وَشِكَّةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ صُورِيًّا، أَكْرَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَارَنَتِهِ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ الضَّرْبُ الْكَائِنُ سَبَبَ الْقَتْلِ فِي الْعَادَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ يَوْمَئِذٍ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةً لِأَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ الْمَنْفِيُّ تَأْثِيرَ الضَّرْبِ
293
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتْلِ الْحَاصِلِ يَوْمَ بَدْرٍ مَزِيَّةٌ عَلَى أَيِّ قَتْلٍ يَقَعُ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ، فِي جَاهِلِيَّةٍ أَوْ إِسْلَامٍ، وَذَلِكَ سِيَاقُ الْآيَةِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيمُ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِيلُ نَهْيِهِمْ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا لَقُوا. وَلَيْسَ السِّيَاقُ لِتَعْلِيمِ الْعَقِيدَةِ الْحَقِّ.
وَأَصْلُ الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ صُدُورِ الْمُسْنَدِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْمُسْنَدِ أَصْلًا فَلِذَلِكَ صَحَّ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ مَعَ كَوْنِ الْقَتْلِ حَاصِلًا، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ كَوْنُهُ صَادِرًا عَنْ أَسْبَابِهِمْ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمُفَادِ بِ لكِنَّ أَنَّ الْخَبَرَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْوَاقِعُ صَادِرًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَتَطَلَّبُ أَكَانَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً أَمْ هُوَ دُونَ الْقَتْلِ، وَمَنْ كَانَ فَاعِلًا لَهُ، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.
وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا الِاخْتِصَاصُ، لِأَنَّ نَفْيَ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْمُخَاطَبُونَ مُتَطَلِّبِينَ لِمَعْرِفَةِ فَاعِلِ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مُهِمًّا عِنْدَهُمْ تَعْجِيلُ الْعِلْمِ بِهِ.
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
اسْتِطْرَادٌ بِذِكْرِ تَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ آخَرَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ حَرَّضَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَارْمِهِمْ بِهَا فَأَخَذَ حفْنَة من الحصاء فَاسْتَقْبَلَ بِهَا
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: شُدُّوا فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَصَا فِي عَيْنَيْهِ فَشُغِلَ بِعَيْنَيْهِ فَانْهَزَمُوا، فَلِكَوْنِ الرَّمْيِ قِصَّةً مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ حَذَفَ مَفْعُولَ الرَّمْيِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ رَمْيُ الْحَصْبَاءِ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى لَا تُنَاسِبُ مَهْيَعَ السُّورَةِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَمَيْتَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ إِلْقَاءُ شَيْءٍ أَمْسَكَتْهُ الْيَدُ، وَيُطْلَقُ الرَّمْيُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِسُوءٍ مِنْ
294
فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ أَيْ أَصَابَهَا بِمَا يَشَلُّهَا- وَقَوْلِ جَمِيلٍ:
رَمَى اللَّهُ فِي عَيْنَيْ بُثَيْنَةَ بِالْقَذَى وَفِي الْغُرِّ من أنيابها بالقوازح
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النُّور: ٦] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَمَيْتَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا الْمَجَازِيِّ أَيْ وَمَا أَصَبْتَ أَعْيُنَهُمْ بِالْقَذَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَصَابَهَا بِهِ لِأَنَّهَا إِصَابَةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ فَنُفِيَتْ عَنِ الرَّمْيِ الْمُعْتَادِ وَأُسْنِدَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرٍ خَفِيٍّ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَفِي «الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا رَمَيْتَ الْفَزَعَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ بِالْحَصْبَاءِ فَانْهَزَمُوا، وَفِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ (رَمَيْتَ) الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، وَ (رَمَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَجَعَلُوا الْمَنْفِيَّ هُوَ الرَّمْيُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُثْبَتَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ رَمَيْتَ هُوَ الرَّمْيُ الْمَجَازِيُّ وَجَعَلَهُ السَّكَاكِيُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فَجَعَلَ مَا رَمَيْتَ نَفْيًا لِلرَّمْيِ الْحَقِيقِيِّ وَجَعَلَ (إِذْ رَمَيْتَ) لِلرَّمْيِ الْمَجَازِيِّ.
وَقَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ لِلرَّمْيِ وَأَنَّهُ الرَّمْيُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَتْ لَهُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ كَانَ اخْتِصَاصُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْثِيرِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ، وَإِسْنَادُ حُصُولِهِ إِلَى مُجَرَّدِ فِعْلِ اللَّهِ مُحْتَاجًا إِلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ كَوْنِ رَمْيِ الْحَصَى الْحَاصِلِ بِيَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصِلًا مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، فَاحْتِيجَ فِي نَفْيِهِ إِلَى التَّأْكِيدِ إِبْطَالًا لِاحْتِمَالِ
الْمَجَازِ فِي النَّفْيِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِ رَمْيٍ كَامِلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَنْفُونَ الْفِعْلَ وَمُرَادُهُمْ نَفْيُ كَمَالِهِ حَتَّى قَدْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِ ضِدِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ أَيْ شَيْئًا مُجْدِيًا، فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ
295
هُوَ الرَّمْيُ بِمَعْنَى أَثَرِهِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ وُقُوعِ الرَّمْيِ مِثْلَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الرَّمْيَ وَاقِعٌ مِنْ يَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْيِ إِصَابَةُ عُيُونِ أَهْلِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالَّذِي يَحْصُلُ بِرَمْيِ الْيَدِ، لِأَنَّ أَثَرَ رَمْيِ الْبَشَرِ لَا يَبْلُغُ أَثَرُهُ مَبْلَغَ تِلْكَ الرَّمْيَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَثَرِهَا مَا عَمَّ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ، عُلِمَ انْتِفَاءُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّمْيَةُ مَدْفُوعَةً بِيَدِ مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهَا مَدْفُوعَةٌ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى كَالْقَوْلِ فِي وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْجُمْهُورُ وَلكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ فِيهِمَا.
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ- وَما رَمَيْتَ الْآيَةَ.
فَإِنَّ قَتْلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَإِصَابَةَ أَعينهم كَانَا الْغَرَض هَزْمِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُبْلِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا أَيْ يُعْطِيَهُمْ عَطَاءً حَسَنًا يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهِ، فَيَظْهَرُ مَا يَدُلُّ عَنْ قِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ مِمَّا تُخْتَبَرُ بِهِ طَوِيَّتُهُمْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ هَذَا الْفِعْلِ هِيَ الْبَلَاءُ وَجَاءَ مِنْهُ الْإِبْلَاءُ بِالْهَمْزِ وَتَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ أَغْفَلَهُ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَمَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُضَارِعُ أَبْلَاهُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْبَلْوَى الَّذِي أَصله الِاخْتِيَار ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِصَابَةِ أَحَدٍ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَظْهَرُ بِهِ مِقْدَارُ تَأَثُّرِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِشَرٍّ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْإِصَابَةَ بِخَيْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: ٣٥] وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ
وَشَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْكِنَائِيُّ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، وَبَقِيَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ صَالِحًا لِلْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْلَاهُ مَهْمُوزٌ أَيْ أَصَابَهُ بِخَيْرٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: «يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً وَمِنَ الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً».
قُلْتُ: جَعَلُوا الْهَمْزَةَ فِيهِ دَالَّةً عَلَى الْإِزَالَةِ أَيْ إِزَالَةِ الْبَلَاءِ الَّذِي غَلَبَ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلاءً حَسَناً وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفعل يبلي موكد لَهُ، لِأَنَّ فِعْلَ يُبْلِي دَالٌّ عَلَى بَلَاءٍ حَسَنٍ
296
وَضَمِيرٌ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَ (مِنَ) الِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ لِتَشْرِيفِ ذَلِكَ الْإِبْلَاءِ وَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ وَيَكُونُ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل لِلْكَلَامِ و (إِن) هَذَا مُقَيِّدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَقَدْ سَمِعَ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغَاثَتَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لِعِنَايَتِهِ وَنَصْرِهِ فَقَبِلَ دعاءهم ونصرهم.
[١٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
الْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ عِلَّةٌ لِلتَّوْهِينِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِمَقَاصِدَ يَجْمَعُهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] وَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ تَعْلِيلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [الْأَنْفَال: ٥١].
وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ وَعُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ)، فَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، مَجْرُورٍ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ وَلِتَوْهِينِ كَيْدِ الْكَافِرِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِشَارَة ب ذلِكُمْ إِلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: ١٧] مِنْ تَعْلِيلِ الرَّمْيِ بِخَذْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمِهِمْ وَإِبْلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ اثْنَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وكَيْدِ الْكافِرِينَ هُوَ قَصْدُهُمُ الْإِضْرَارَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صُورَةٍ لَيْسَتْ ظَاهِرُهَا بِمُضِرَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءُوا لِإِنْقَاذِ الْعِيرِ لَمَّا عَلِمُوا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ، وَظَنُّوا خْيَبَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِهَا، أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَكَةَ، وَأَقَامُوا عَلَى بَدْرٍ لِيَنْحَرُوا وَيَشْرَبُوا الْخَمْرَ وَيَضْرِبُوا الدُّفُوفَ فَرَحًا وَافْتِخَارًا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اللَّهْوِ، وَلَكِنْ لِيَتَسَامَعَ الْعَرَبُ فَيَتَسَاءَلُوا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَيُخْبِرُوا بِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَصْرِفُهُمْ ذَلِكَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَوْهِينَهُمْ بِهَزْمِهِمْ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ الشَّنْعَاءَ فَهُوَ مُوهِنُ كَيْدِهِمْ فِي الْحَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ، الْكَيْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٣].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، مُوَهِّنٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَبِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ كَيْدِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ، وَيَعْقُوبُ، مُوهِنٌ بِتَسْكِينِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَنَصْبٍ كَيْدَ- وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِإِضَافَةِ مُوهِنِ إِلَى كَيْدِ، وَالْمَعْنَى وَهِيَ إِضَافَةٌ لَفْظِيَّةٌ مُسَاوِيَة للتنكير.
[١٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا خُوطِبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فِي خِلَالِ خُطَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ١٨] وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ١٨] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا أَزْمَعُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ أَيْضًا وَقَالُوا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَخُوطِبُوا بِأَنْ قَدْ جَاءَهُمُ الْفَتْحُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَيِ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا كَانَ تَهَكُّمًا لِأَنَّ فِي مَعْنَى جاءَكُمُ الْفَتْحُ اسْتِعَارَةَ الْمَجِيءِ لِلْحُصُولِ عِنْدَهُمْ تَشْبِيهًا بِمَجِيءِ الْمُنْجِدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْفَتْحِ جَاءِيًا إِيَّاهُمْ. يَقْتَضِي أَنَّ النَّصْرَ كَانَ فِي جَانِبِهِمْ وَلِمَنْفَعَتِهِمْ، وَالْوَاقِعُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِقَرِينَةِ مُخَالَفَتِهِ الْوَاقِعَ
بِمَسْمَعِ الْمُخَاطَبِينَ وَمَرْآهُمْ.
وَحَمَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِعْلَ جاءَكُمُ عَلَى مَعْنَى: فَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمُ النَّصْرُ وَرَأَيْتُمُوهُ أَنَّهُ
298
عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ: مِثْلِ وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٢٢] وَمِثْلِ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١] وَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ.
وَصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِنْ تَكْرِيرِهِمُ الدُّعَاءَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِكُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعُطِفَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى الْعِنَادِ وَالْقِتَالِ نَعُدْ، أَيْ نَعُدْ إِلَى هَزْمِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ لَا تَنْفَعُكُمْ جَمَاعَتُكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ وَاثِقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ: إِنْ تَعُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.
ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ عَلَى فِئَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَصَاحِبُ الْحَال المقترنة ب (لَو) الِاتِّصَالِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَضْمُونِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا الْعَوْدَ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ لِلْمُحِقِّ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى نَعُدْ وَلَا مَوْقِعَ لِجُمْلَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ فَإِنَّ فِئَتَهُمْ أَغْنَتْ عَنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْجَوَابُ عَن هَذَا إِشْكَال أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ بِأَدَاةِ شَرْطٍ مِمَّا يُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ (مَهْمَا) فَلَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّفُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ عَنْ حُصُولِ الشَّرْطِ فِي مَرَّةٍ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَضَى لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَصَرَهُمْ وَعَلِمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا ثُمَّ دَارَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرِحُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْهُ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَعُوقِبُوا بِالْهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ١٦٦]- وَقَالَ- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ
299
عِمْرَانَ [١٥٥]، وَبَعْدُ فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ بِشَارَةٌ أَن النَّصْرَ الْحَاسِمَ سَيَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ نَصْرُ يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ زِيَادَةٌ فِي تَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَتَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ النَّصْرَ الَّذِي انْتَصَرُوهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ لَا بِأَسْبَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنُسِبَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ، لِكَوْنِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَدْ صَارَ نَادِرًا، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا بُعَدَاءَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُمْ لَمَّا ذُكِّرُوا بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ بِقَوْلِهِ:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] الْآيَاتِ، وَأُمِرُوا بِالثَّبَاتِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَذُكِّرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال:
١٧، ١٨] كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا أَيَكُونُ كَذَلِكَ شَأْنُنَا كُلَّمَا جَاهَدْنَا أَمْ هَذِهِ مَزِيَّةٌ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً جَوَابَ هَذَا التَّسَاؤُلِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُهُ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ دَلِيلًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَنْصُرْكُمْ فَقَدْ نَصَرْنَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ النَّصْرِ وَمَعْنَى وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنْ تُمْسِكُوا عَنِ الْجِهَادِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهُوَ أَيِ الْإِمْسَاكُ، خَيْرٌ لَكُمْ لِتَسْتَجْمِعُوا قُوَّتَكُمْ وَأَعْدَادَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حَالِ الْجِهَادِ مُنْتَصِرُونَ، وَفِي حَالِ السِّلْمِ قَائِمُونَ بِأَمْرِ الدَّين وتدبير شؤونكم الصَّالِحَةِ، فَيَكُونُ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
، وَقِيلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ الْغَنِيمَةِ أَوْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِانْتِصَارِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ وُقُوعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ إِنْ تَعُودُوا إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ نَعُدْ فَنَنْصُرَكُمْ أَيْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ عَطَائِنَا كَمَا قَالَ زُهَيْر:
300
يُعْلِمُهُمُ اللَّهُ صِدْقَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْقِعُ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَضْمُونِ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا إِلَّا عَلَى نَصْرِ اللَّهِ.
فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِتَعْلِيقِ مَجِيءِ الْفَتْحِ عَلَى أَنْ تَسْتَفْتِحُوا الْمُشْعِرِ بِأَنَّ النَّصْرَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْحُصُولِ إِلَّا إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَثُرَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، ولَوْ إِتِّصَالِيَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ مُتَّصِفٌ بِضِدِّ مَضْمُونِهَا، أَيْ: وَلَوْ كَثُرَتْ فَكَيْفَ وَفِئَتُكُمْ قَلِيلَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ إِيمَانُهُمْ. فَهَذَانِ تَفْسِيرَانِ لِلْآيَةِ وَالْوِجْدَانُ يَكُونُ كِلَاهُمَا مُرَادًا.
وَالْفَتْحُ حَقِيقَتُهُ إِزَالَةُ شَيْءٍ مَجْعُولٍ حَاجِزًا دُونَ شَيْءٍ آخَرَ، حِفْظًا لَهُ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ الِافْتِكَاكِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْجِدَارُ حَاجِزٌ، وَالْبَابُ حَاجِزٌ، وَالسَّدُّ حَاجِزٌ، وَالصُّنْدُوقُ حَاجِزٌ، وَالْعِدْلُ تَجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ حَاجِزٌ، فَإِذَا أُزِيلَ الْحَاجِزُ أَوْ فُرِّجَ فِيهِ فَرْجَةٌ يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى الْمَحْجُوزِ سُمِّيَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ فَتْحًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، إِذْ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَخْلُو عَنِ اعْتِبَارِهِ جَمِيعُ اسْتِعْمَالِ مَادَّةِ الْفَتْحِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُسْتَعَارُ لِإِعْطَاءِ الشَّيْءِ الْعَزِيزِ النَّوَالِ اسْتِعَارَةً مُفْرَدَةً أَوْ تَمْثِيلِيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٤٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٦] فَالِاسْتِفْتَاحُ هُنَا طَلَبُ الْفَتْحِ أَيِ النَّصْرِ، وَالْمَعْنَى إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ.
وَكَثُرَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى حُلُولِ قَوْمٍ بِأَرْضٍ أَوْ بَلَدِ غَيْرِهِمْ فِي حَرْبٍ أَوْ غَارَةٍ، وَعَلَى النَّصْرِ، وَعَلَى الْحُكْمِ، وَعَلَى مَعَانٍ أُخَرَ، عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ إِنْ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال:
١٨].
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْآيَةِ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ يَصْلُحُ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِ الْمُذَيَّلِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى للمقدمة الصُّغْرَى.
301

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٣]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
لَمَّا أَرَاهُمُ اللَّهُ آيَاتِ لُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ، وَرَأَوْا فَوَائِدَ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانُوا كَارِهِينَ الْخُرُوجَ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَةِ النَّصْرِ، وَاعْتِبَارًا بِأَنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ خَيْرٌ عَوَاقِبُهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمر الله وَرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] رُجُوعُ الْخَطِيبِ إِلَى مُقَدِّمَةِ كَلَامِهِ وَدَلِيلِهِ لِيَأْخُذَهَا بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ فِي صُورَةِ نَتِيجَةٍ أَسْفَرَ عَنْهَا احْتِجَاجُهُ، لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْقِيَاسِ هُوَ عَيْنُ النَّتِيجَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] فِي سِيَاقِ تَرْجِيحِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا لِذَلِكَ بِحَادِثَةِ كَرَاهَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ وَمُجَادَلَتِهِمْ لِلرَّغْبَةِ فِي عَدَمِهِ، ثُمَّ حَادِثَةِ اخْتِيَارِهِمْ لِقَاءَ الْعِيرِ دُونَ لِقَاءِ النَّفِيرِ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ، وَمَا نَجَمَ عَنْ طَاعَتِهِمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُخَالَفَتِهِمْ هَوَاهُمْ ذَلِكَ مِنَ النَّصْرِ الْعَظِيمِ وَالْغُنْمِ الْوَفِيرِ لَهُمْ مَعَ نَزَارَةِ الرَّزْءِ، وَمِنَ التَّأْيِيدِ الْمُبِينِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّأْسِيسِ لِإِقْرَارِ دِينِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الْأَنْفَال: ٧، ٨] وَكَيْفَ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِالنَّصْرِ الْعَجِيبِ لَمَّا أَطَاعُوهُ وَانْخَلَعُوا عَنْ هَوَاهُمْ، وَكَيْفَ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْمُشَاقَّةُ ضِدُّ الطَّاعَةِ تَعْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ بِوُجُوبِ التَّبَرُّؤِ مِمَّا فِيهِ شَائِبَةُ عِصْيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ شَدِيدٍ عَلَى النُّفُوسِ أَلَا وَهُوَ إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] وَأَظْهَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ عَجِيبِ النَّصْرِ لَمَّا ثَبَتُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَال: ١٧]، وَضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ إِنْ هُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَطَلَبُوا مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ أَمْرِهِمْ بِأَنْ
302
يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَتَوَلَّوْا عَنْهُ، فَذْلَكَةً لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الْوَاقِعَةِ بِطُولِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] وَذَلِكَ كُلُّهُ يَقْتَضِي فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَافْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِينَ قَصْدًا لِإِحْضَارِ الذِّهْنِ لِوَعْيِ مَا سَيُقَالُ لَهُمْ، فَنَزَّلَ الْحَاضِرَ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ، فَطَلَبَ حُضُورَهُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمَوْضُوعِ لِطَلَبِ الْإِقْبَالِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَقَبَّلُوا مَا سَيُؤْمَرُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا كَانَ الشِّرْكُ مُسَبِّبًا لِمُشَاقَّةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَوْله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال: ١٣]، فَخَلِيقٌ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يُسَاوِي قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهَا: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١]، مَعَ الْإِشَارَةِ هُنَا إِلَى تَحَقُّقِ وَصْفِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ وَأَنَّ إِفْرَاغَهُ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا قُصِدَ مِنْهُ إِلَّا شَحْذُ الْعَزَائِمِ، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْبَدِيعُ فِي الْمُحَاوَرَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا انْتِظَامًا بَدِيعًا مُعْجِزًا.
وَالطَّاعَةُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالتَّوَلِّي الِانْصِرَافُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ.
وَإِفْرَادُ الضَّمِير الْمَجْرُور ب (عَن) لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هَذَا الْمُنَاسِبُ لِلتَّوَلِّي بِحَسْبِ الْحَقِيقَةِ. فَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ هُنَا يُشْبِهُ تَرْشِيحَ الِاسْتِعَارَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّوَلِّي عَنِ الرَّسُولِ نَهْيٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [الْأَعْرَاف: ٨٠] وَأَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا- بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَشْوِيهُ التَّوَلِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعِصْيَانَ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ الطَّاعَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي حِينِ انْخِرَامِ بَعْضِهَا. فَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ هُنَا حَقِيقَتُهُ أَيْ فِي حَالٍ لَا يَعُوزُكُمْ تَرْكُ التَّوَلِّي بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ- وَذَلِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ السَّمْعِ الْعَمَلُ بِالْمَسْمُوعِ، فَمَنْ سَمِعَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْمَسْمُوعِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمر بِالطَّاعَةِ كَلَام يُطَاعُ ظَهَرَ مَوْقِعَ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الصَّادِرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
303
مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ أَهْلُ الْعُقُولِ كَانَ مُجَرَّدُ سَمَاعِهِ مُقْتَضِيًا عَدَمَ التولي عَنهُ، ضمن تَوَلَّى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ فَأَمْرٌ عَجَبٌ ثُمَّ زَادَ فِي تَشْوِيهِ التَّوَلِّي عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِفِئَةٍ ذَمِيمَةٍ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سَمِعْنَا، وَهُمْ لَا يَصَدِّقُونَهُ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرهُم وينهاهم.
و (إِن) لِلتَّمْثِيلِ وَالتَّنْظِيرِ فِي الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي حَثِّ النَّفس على التَّشَبُّه أَوِ التَّجَنُّبِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً [الْأَنْفَال: ٤٧] وَسَيَأْتِي وَأَصْحَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُشَاهَدَتِهِمْ، وَبِإِخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، فَقَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: ٣١] وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً [الْأَنْعَام: ٢٥]، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَبَقِيَّتُهُمْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أُحُدٍ، وَكَانُوا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقُولُوا سَمِعْنَا بَلْ قَالُوا: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ، فَلَا يَصْحُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلِ الْمُرَادُ طَوَائِفُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْيَهُودُ، وَقَدْ عُرِفُوا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَاجَهُوا بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا [النِّسَاء:
٤٦] وَقِيلَ: أُرِيدَ الْمُنَافِقُونَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النِّسَاء: ٨١] وَإِنَّمَا يَقُولُونَ سَمِعْنَا لِقَصْدِ إِيهَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا، لِأَنَّ السَّمْعَ يُكَنَّى بِهِ عَن الِانْتِفَاع بالسموع وَهُوَ مَضْمُونُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ طاعَةٌ وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ السَّمْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا سَمِعُوهُ، فَالْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى السَّمْعِ الَّذِي أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا وَهُوَ إِيهَامُهُمْ أَنَّهُمْ مُطِيعُونَ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَاوُ الْحَالِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَتَقَرَّرَ مَفْهُومُهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَيُرَسَّخُ اتِّصَافُهُ بِمَفْهُومِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ السَّمْعِ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هُوَ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ هَذِهِ الصِّلَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ لَا خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.
وَصِيَغَ فِعْلُ لَا يَسْمَعُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ السَّمْعِ،
304
فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وَهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَسَوْقُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ دَوَابَّ صَمَّاءَ بَكْمَاءَ.
وَالتَّعْرِيضُ قَدْ يَكُونُ كِنَايَةً وَلَيْسَ مِنْ أَصْنَافِهَا فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهِيًّا، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ كَلَامٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَدْلُولِهِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُرَادُ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١٢]، وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ نَحْوَ قَوْلِهِمْ لِلْجَوَادِ: جَبَانُ الْكَلْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلْبٌ، فَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَيْسَ إِرَادَةَ لَازِمِ مَعْنَى لَفْظٍ مُفْرَدٍ وَلَا لَازم معنى تركيب، وَإِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ لِنُطْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ [٢٣٥] التَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا يُدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ يُرِيدُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا دَالًّا كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِغَيْرِهِ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ.
قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْرِيضِ قَوْلُ الْقَائِلِ- حِينَ يَسْمَعُ رَجُلًا يَسُبُّ مُسْلِمًا أَوْ يَضْرِبُهُ-:
الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ لَمْ يُرَدْ بِهِ لَازِمُ مَعْنَى أَلْفَاظٍ وَلَا لَازِمُ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ النُّطْقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِدُونِ مُقْتَضٍ لِلْإِخْبَارِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَبَيْنَ ضَرْبِ الْمَثَلِ: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ ذِكْرُ كَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَشْبِيهِ هَيْئَةِ مَضْرِبِهِ بِهَيْئَةِ مُورِدِهِ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ فِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ. فَالتَّعْرِيضُ كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَوْ مَجَازِهِ، وَيَحْصُلُ بِهِ قَصْدُ التَّعْرِيضِ مِنْ قَرِينَةِ سَوْقِهِ فَالتَّعْرِيضُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِهِمْ بِالدَّوَابِّ، فَإِنَّ الدَّوَابَّ ضَعِيفَةُ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا كَانَتْ صَمَّاءَ كَانَتْ مَثَلًا فِي انْتِفَاءِ الْإِدْرَاكِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ بُكْمًا انْعَدَمَ مِنْهَا مَا انْعَدم مِنْهَا مَا يَعْرِفُ بِهِ صَاحِبُهَا مَا بِهَا، فَانْضَمَّ عَدَمُ الْإِفْهَامِ إِلَى عَدَمِ الْفَهْمِ، فَقَوْلُهُ: الصُّمُّ الْبُكْمُ خَبَرَانِ عَنِ الدَّوَابِّ بِمَعْنَاهُمَا الْحَقِيقِيِّ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنِ التَّشْبِيهِ إِلَى التَّوْصِيفِ لِأَنَّ الَّذِينَ
305
مِمَّا يُنَاسِبُ الْمُشَبَّهِينَ إِذْ هُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشَبَّهِينَ كَمَا تَخَلَّصَ طَرَفَةُ فِي قَوْلِهِ:
سَأَلنَا فأعطيتكم وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ وَمَنْ أَكْثَرَ التَّسْآلَ يَوْمًا سَيُحْرَمُ
خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي
وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا تَوَسَّطَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي
وشَرَّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَصْلُهُ «أَشَرَّ» فحذفت همزته تخفيا كَمَا حُذِفَتْ هَمْزَةُ خَيْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ٦٠] الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالدَّوَابِّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الدَّابَّةَ الصَّمَّاءَ الْبَكْمَاءَ أَخَسُّ الدَّوَابِّ.
عِنْدَ اللَّهِ قَيْدٌ أُرِيدَ بِهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقِ كَوْنِهِمْ، أَشَرَّ الدَّوَابِّ بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اصْطِلَاحٍ ادِّعَائِيٍّ، أَيْ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ فِي تُفَاضِلِ الْأَنْوَاعِ لَا فِي تَسَامُحِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَالْعُرْفُ يَعُدُّ الْإِنْسَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَالْحَقِيقَةُ تُفَصِّلُ حَالَاتِ الْإِنْسَانِ فَالْإِنْسَانُ الْمُنْتَفِعُ بِمَوَاهِبِهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ إِلَى الْكَمَالِ هُوَ بِحَقٍّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُجْمِ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي دَلَّى بِنَفْسِهِ إِلَى حَضِيضِ تَعْطِيلِ انْتِفَاعِهِ بِمَوَاهِبِهِ السَّامِيَّةِ يَصِيرُ أَحَطَّ مِنَ
الْعَجْمَاوَاتِ.
وَالْمُشَبَّهُونَ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، شُبِّهُوا بِالصُّمِّ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا لِأَنَّهُ مِمَّا يَكْفِي سَمَاعُهُ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَشُبِّهُوا بِالْبُكْمِ فِي انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ وَالْعَجْزِ عَنْ رَدِّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فهم مَا قبلوا وَلَا أَظْهَرُوا عُذْرًا عَنْ عَدَمِ قَبُولِهِ.
وَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِانْتِهَاءِ قَبُولِ الْمَعْقُولَاتِ وَالْعَجْزِ عَنِ النُّطْقِ بِالْحُجَّةِ أَتْبَعَهُ بِانْتِفَاءِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ أَيْ عَقْلُ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَلْهَ عَقْلَ التَّقَبُّلِ، وَقَدْ وُصِفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْقُرْآنِ كُلٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا إِنَّمَا عَنَى بِهِمْ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالُوا مَقَالَةً تَقْرُبُ مِمَّا جَاءَ فِي الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّوَابَّ مُشَبَّهٌ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
306
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى شِبْهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَدْ سَكَتَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ مَوْقِعِ إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ دَقِيقٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ جِبِلَّتَهُمْ لَا تَقْبَلُ دَعْوَةَ الْخَيْرِ وَالْهِدَايَةِ وَالْكَمَالِ، فَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُمُ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ، فَكَانُوا كَالصُّمِّ، وَانْتَفَى عَنْهُمْ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ وَالْكَلَامِ بِمَا يُفِيدُ كَمَالًا نَفْسَانِيًّا فَكَانُوا كَالْبُكْمِ، فَالْمَعْنَى: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ قَابِلِيَّةً لِتَلَقِّي الْخَيْرِ لَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ نُفُوذِ الْحَقِّ فِي نُفُوسِهِمْ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ التَّعَلُّمِ، وَلَكِنَّهُمُ انْتَفَتْ قَابِلِيَّةُ الْخَيْرِ عَنْ جِبِلَّتِهِمُ الَّتِي جُبِلُوا عَلَيْهَا فَلَمْ تَنْفُذْ دَعْوَةُ الْخَيْرِ مِنْ أسماعهم إِلَى تعقلهم، أَيْ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ الْهُدَى إِلَى نُفُوسِهِمْ إِلَّا بِمَا يُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ من لطف إلّا هِيَ بِنَحْوِ اخْتِرَاقِ أَنْوَارٍ نَبَوِيَّةٍ إِلَى قُلُوبِهِمْ.
ولَوْ حَرْفُ شَرْطٍ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ لِأَجْلِ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِانْتِفَاءِ الْجَزَاءِ عَلَى تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، وَمِنْ لَطَائِفِهَا هُنَا أَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ مَلَابَسَةٍ بَاطِنِيَّةٍ.
وَلَمَّا كَانَ (لَوْ) حَرْفًا يُفِيدُ امْتِنَاعَ حُصُولِ جَوَابِهِ بِسَبَبِ حُصُولِ شَرْطِهِ، كَانَ أَصْلُ مَعْنَى لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ كَانَ فِي إِدْرَاكِهِمْ خَيْرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ لَقَبِلُوا هَدْيَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِي جِبِلَّةِ مَدَارِكِهِمْ فَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِكَلَامِ اللَّهِ فَهُمْ كَمَنْ لَا يَسْمَعُ.
فَوَقَعَتِ الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ اسْتِعْدَادِ مَدَارِكِهِمْ لِلْخَيْرِ، بِعِلْمِ اللَّهِ عَدَمَ الْخَيْرِ فِيهِمْ. وَوَقَعَ تَشْبِيهُ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِفَهْمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِعَدَمِ إِسْمَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ الْآيَاتِ كَلَامُ اللَّهِ فَإِذَا لَمْ يَقْبَلُوهَا فَكَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُسْمِعْهُمْ كَلَامَهُ فَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخَيْرِ الْجِبِلِّيِّ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْقَابِلِيَّةُ لِلْخَيْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْتِفَاءَ عِلْمِ اللَّهِ بِشَيْءٍ يُسَاوِي عِلْمَهُ بِعَدَمِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ شَيْءٍ.
فَصَارَ مَعْنَى لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَوْ كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ خَيْرٌ، وَعَبَّرَ عَنْ قَبُولِهِمُ الْخَيْرَ الْمَسْمُوعَ وَانْفِعَالِ نُفُوسِهِمْ بِهِ بِإِسْمَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
307
مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمَوَاعِظِ، فَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخَيْرِ الِانْفِعَالِيِّ عَنْهُمْ وَهُوَ التَّخَلُّقُ وَالِامْتِثَالُ لِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْخَيْرِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: لَوْ جَبَلَهُمُ اللَّهُ عَلَى قَبُولِ الْخَيْرِ لَجَعَلَهُمْ يَسْمَعُونَ أَيْ يَعْمَلُونَ بِمَا يَدْخُلُ أَصْمَاخَهُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ. فَالْكَلَامُ اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْخَيْرِ. وَذَلِكَ هُوَ فَرْدُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعِ الْحَقِّ، عَلَى انْتِفَاءِ جِنْسِ الْخَيْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَمَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ إِجْرَاءُ أَمْرِهِمْ عَلَى الْمَأْلُوفِ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ أَجْنَاسِ الصِّفَاتِ وَأَشْخَاصِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شَاءَ أَنْ يُجْرِيَ أَمْرَهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ فَقَدِ انْتَفَتْ مُخَالَطَةُ الْخَيْرِ نَفْسَهُ، وَكُلُّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي وَقْتِ عِنَادِهِ وَتَصْمِيمِهِ عَلَى الْعِنَادِ قَدِ انْتَفَتْ مُخَالَطَةُ الْخَيْرِ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ الْخَيْرَ يَلْمَعُ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَوْلَى نُورُ الْخَيْرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى ظُلْمَةِ كُفْرِهِ أَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ الْخَيْرَ فَأَصْبَحَ قَابِلًا لِلْإِرْشَادِ وَالْهُدَى، فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا حِينَئِذٍ فَأَسْمَعَهُ. فَمِثْلُ ذَلِكَ مَثَلُ أَبِي سُفْيَانَ،
إِذْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ لَيْلَةِ فَتْحِ مَكَّةَ قَائِدَ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ جَيْشِ الْفَتْحِ وَأُدْخِلَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ أَمَّا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرَ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا» ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَنْ تَشْهَدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالَ: أَمَّا هَذِهِ فَفِي الْقَلْبِ مِنْهَا شَيْءٌ»
فَلَمْ يَكْمُلْ حِينَئِذٍ إِسْمَاعُ اللَّهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ تَمَّ فِي نَفْسِهِ الْخَيْرُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ
أَسْلَمَ فَأَصْبَحَ مِنْ خِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا يَسْمَعُونَ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ بِانْتِفَاءِ قَابِلِيَّةِ الِاهْتِدَاءِ عَنْ نُفُوسِهِمْ فِي أَصْلِ جِبِلَّتِهِمْ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِانْتِفَاءِ تَعَلُّمِهِمُ الْحِكْمَةَ وَالْهُدَى فَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُمُ الِاهْتِدَاءُ، ارْتَقَى بِالْإِخْبَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا فَهْمَ الْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ فِيمَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النُّبُوَّةِ لَغَلَبَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّخَلُّقِ بِالْبَاطِلِ عَلَى مَا خَالَطَهَا مِنْ إِدْرَاكِ الْخَيْرِ، فَحَالَ ذَلِكَ التَّخَلُّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا، فَتَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا.
308
وَهَذَا الْحَالُ الْمُسْتَقِرُّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مُتَفَاوِتُ الْقُوَّةِ، وَبِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِ وَبُلُوغِهِ نِهَايَتَهُ تَكُونُ مُدَّةُ دَوَامِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَجَلِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَكَانَ انْتِهَاؤُهُ قَبْلَ انْتِهَاءِ أَجَلِ الْحَيَاةِ اسْتَطَاعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ فَاهْتَدَى، وَعَلَى ذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّرَيُّثِ عَلَى الْكُفْرِ زَمَنًا مُتَفَاوِتَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ.
وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ عَطْفُ جُمْلَةِ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ بِمَقْصُودٍ مِنْهُ تَفَرُّعُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى تَفَرُّعَ الْقَضَايَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي تَرْكِيبِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ وَلَا أَنَّهُ مِنْ تَفْرِيعِ النَّتِيجَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ لِأَنَّ تَفْرِيعَ الْأَقْيِسَةِ بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تُشْبِهُ التَّفْرِيعَ بِالْفَاءِ لَيْسَ أُسْلُوبًا عَرَبِيًّا، فَالْجُمْلَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْأُخْرَى، وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا مُنَاسَبَةُ الْمَعْنَى وَالْغَرَضِ، فَلَيْسَ اقْتِرَانُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اقْتِرَانِ قَوْلِهِمْ لَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً لَكَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا، وَلَوْ كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا لَدَرَجَتِ الدَّوَاجِنُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتِجُ: لَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً لَدَرَجَتِ الدَّوَاجِنُ، بِوَاسِطَةِ تَدَرُّجِ اللُّزُومَاتِ فِي ذِهْنِ الْمَحْجُوجِ تَقْرِيبًا لِفَهْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِنَتِيجَةٍ ثُمَّ جَعْلِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ الْحَاصِلَةِ مُقَدِّمَةَ قِيَاسٍ ثَانٍ فَتُطْوَى النَّتِيجَةُ لِظُهُورِهَا اخْتِصَارًا، وَهَذَا لَيْسَ بِأُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ إِنَّمَا الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ فِي إِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِالشَّرْطِيَّةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مُقَدَّمٍ وَتَالٍ، ثُمَّ يَسْتَدْرِكُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِنْتَاجِ بِذَكَرِ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ كَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى بْنِ رَبِيعَةَ يَصِفُ فَرَسَهُ:
وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
وَقَوْلِ الْمَعَرِّي:
وَلَوْ دَامَتِ الدَّوْلَاتُ كَانُوا كَغَيْرِهِمْ رَعَايَا وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ
أَوْ بِذَكَرِ مُسَاوِي نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معديكرب:
فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أَجَرَّتِ
فَإِنَّ إِجْرَارَ اللِّسَانِ يَمْنَعُ نُطْقَهُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ تُنْطِقُنِي. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ لِظُهُورِ الِاسْتِنْتَاجِ مِنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.
309
وَاعْلَمْ أَنَّ (لَوِ) الْوَاقِعَةَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَبِيلِ (لَوِ) الْمُشْتَهِرَةِ بَيْنَ النُّحَاةِ بَلَوِ الصُّهَيْبِيَّةِ (بِسَبَبِ وُقُوعِ التَّمْثِيلِ بِهَا بَيْنَهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (١) :«نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» وَذَلِكَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ (لَوْ) لَقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجَزَاءِ مُسْتَمِرُّ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ حِينَئِذٍ مُتَضَمِّنَةً الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ أَنْ يَتَخَلَّفَ مَضْمُون عِنْد حصلها الْجَزَاءِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّخَلُّفَ، فَقَوْلُهُ: «لَوْ لَمْ يَخَفِ الله لم يعصمه» الْمَقْصُودُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْعِصْيَانِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ حَتَّى فِي حَالِ أَمْنِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَافَ فَعَصَى، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَدَمُ خَوْفِهِ لَمَا عَصَى، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَان:
٢٧] فَالْمَقْصُودُ عَدَمُ انْتِهَاءِ كَلِمَاتِ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَوْ كُتِبَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ كُلِّهِ وَجُعِلَتْ لَهَا أَعْوَادُ الشَّجَرِ كُلِّهِ أَقْلَامًا، لَا أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَنْفَدُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَشْجَارُ أَقْلَامًا وَالْأَبْحُرُ مِدَادًا، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١١١] لَيْسَ الْمَعْنَى لَكِنْ لَمْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا كَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَلَا حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ فَآمَنُوا بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مُنْتَفٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ لَا يَنْتَفِيَ عِنْدَهَا الْإِيمَانُ.
وَفِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يَضْعُفُ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ (لَوْ) وَتَصِيرُ (لَوْ) فِي مُجَرَّدِ
الِاسْتِلْزَامِ عَلَى طَرِيقَةِ مُسْتَعْمِلَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَسَتَجِيءُ زِيَادَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ (لَوِ) الصُّهَيْبِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
_________
(١) شاعت نِسْبَة هَذَا الْكَلَام إِلَى عمر بن الْخطاب وَلم نظفر بِمن نسبه إِلَيْهِ سوى أَن الشمني ذكر فِي شَرحه على «مُغنِي اللبيب» أَنه وجد بِخَط وَالِده أَنه رأى أَبَا بكر ابْن الْعَرَبِيّ نسب هَذَا إِلَى عمر، وَذكر عَليّ قاري فِي كِتَابه فِي الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة عَن السخاوي أَن ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي ظفر بِهَذَا فِي كتاب «مُشكل الحَدِيث» لِابْنِ قُتَيْبَة مَنْسُوبا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرِيب مِنْهُ فِي حق سَالم مولى أبي حُذَيْفَة من كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن سالما شَدِيد الْحبّ لله عز وَجل لَو كَانَ لَا يخَاف الله مَا عَصَاهُ أخرجه أَبُو نعيم فِي «الْحِلْية».
310
فَهَكَذَا تَقْرِيرُ التَّلَازُمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْهُمْ فَلَمْ يَتَوَلَّوْا، لِأَنَّ تَوَلِّيَهُمْ ثَابِتٌ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَو سمعهم اللَّهُ الْإِسْمَاعَ الْمَخْصُوصَ، وَهُوَ إِسْمَاعُ الْإِفْهَامِ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَسْمَعُوهُ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ مُعْرِضُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنَ التَّوَلِّي وَهُوَ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَصَوْغُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ إِعْرَاضِهِمْ أَيْ إِعْرَاضًا لَا قَبُولَ بَعْدَهُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ مِنَ التَّوَلِّي مَا يُعْقِبُهُ إِقْبَالٌ، وَهُوَ تُوَلِّي الَّذِينَ تَوَلَّوْا ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ مُصْعَبِ بن عُمَيْر.
[٢٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ.
إِعَادَة لمضمون قَوْله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَنْفَال: ٢٠] الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ أَوْ مَقْصِدِ الْخُطْبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ.
فَافْتِتَاحُ السُّورَةِ كَانَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ بَيَانِ أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلَ أَنْ يَخَافُوا اللَّهَ وَيُطِيعُوهُ وَيَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَإِنْ كَانُوا كَارِهِينَ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِكَرَاهَتِهِمُ الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ، ثُمَّ بِكَرَاهَتِهِمْ لِقَاءَ النَّفِيرِ وَأَوْقَفَهُمْ على مَا اجتنوه مِنْ بَرَكَاتِ الِامْتِثَالِ وَكَيْفَ أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَنَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَمَارَةُ الْوَعْدِ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِالنَّصْرِ وَمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِقْنَاعًا لَهُمْ بِوُجُوبِ الثَّبَاتِ فِي وَجْهِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الزَّحْفِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ فِي دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِحْيَاءً لِنُفُوسِهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُكْسِبُ قُلُوبَهُمْ بِتِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ قُوًى قُدْسِيَّةً.
وَاخْتِيرَ فِي تَعْرِيفِهِمْ، عِنْدَ النِّدَاءِ، وصف الْإِيمَان ليوميء إِلَى التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَثِقُوا بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ فَيَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ إِذَا
دَعَاهُمْ.
311
وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِجَابَةِ فِي إِجَابَةِ طَلَبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي الْأَعَمِّ، فَأَمَّا الْإِجَابَةُ فَهِيَ إِجَابَةٌ لِنِدَاءٍ وَغَلَبَ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ، وَتقدم ذَلِك عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٥].
وَإِعَادَةُ حَرْفٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلرَّسُولِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِقْلَالِ الْمَجْرُورِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الِاسْتِجَابَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَمُّ مِنَ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلَّهِ لَا تكون إلّا بِمَعْنَى الْمَجَازِ وَهُوَ الطَّاعَةُ بِخِلَافِ الِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقَةِ وَهُوَ اسْتِجَابَةُ نِدَائِهِ، وَلِلْمَجَازِ وَهُوَ الطَّاعَةُ فَأُرِيدَ أَمْرُهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلرَّسُولِ بِالْمَعْنَيَيْنِ كُلَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُ دَعْوَةٌ تَقْتَضِي أَحَدَهُمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ اللَّامِ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الطَّاعَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمرَان: ١٧٢] فَإِنَّهَا الطَّاعَةُ لِلْأَمْرِ بِاللَّحَاقِ بِجَيْشِ قُرَيْشٍ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ، فَهِيَ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ دَعاكُمْ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ مُبَاشَرَةً، كَمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الْأَنْفَال: ٢٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَلَيْسَ قَوْلُهُ: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قَيْدًا لِلْأَمْرِ بِاسْتِجَابَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ وَإِحْيَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لِما يُحْيِيكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ دَعَاكُمْ لِأَجْلِ مَا هُوَ سَبَبُ حَيَاتِكُمُ الرُّوحِيَّةِ.
وَالْإِحْيَاءُ تَكْوِينُ الْحَيَاةِ فِي الْجَسَدِ، وَالْحَيَاةُ قُوَّةٌ بِهَا يَكُونُ الْإِدْرَاكُ وَالتَّحَرُّكُ بِالِاخْتِيَارِ وَيُسْتَعَارُ الْإِحْيَاءُ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحَيَاةِ لِلصِّفَةِ أَوِ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا كَمَالُ مَوْصُوفِهَا فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ مِثْلَ حَيَاةِ الْأَرْضِ بِالْإِنْبَاتِ وَحَيَاةِ الْعَقْلِ بِالْعِلْمِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ، وَضِدُّهَا الْمَوْتُ فِي الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: ٢١] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٢].
وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ تَكْوِينُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَتُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ وَالْإِحْيَاءُ لِبَقَاءِ
312
الْحَيَاةِ
وَاسْتِبْقَائِهَا بِدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْهَا وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: ١٧٩] وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: ٣٢].
وَالْإِحْيَاءُ هَذَا مُسْتَعَارٌ لِمَا يُشْبِهُ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْإِنْسَانِ مَا بِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ، فَيَعُمُّ كُلَّ مَا بِهِ ذَلِكَ الْكَمَالُ مِنْ إِنَارَةِ الْعُقُولِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَإِصْلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَمَا يَتَقَوَّمُ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْخِلَالِ الشَّرِيفَةِ الْعَظِيمَةِ، فَالشَّجَاعَةُ حَيَاةٌ لِلنَّفْسِ، وَالِاسْتِقْلَالُ حَيَاةٌ، وَالْحُرِّيَّةُ حَيَاةٌ، وَاسْتِقَامَةُ أَحْوَالِ الْعَيْشِ حَيَاةٌ.
وَلَمَّا كَانَ دُعَاءُ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يخلوا عَنْ إِفَادَةِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، فَالْآيَةُ تَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالِامْتِثَالِ لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُولُ سَوَاءٌ دَعَا حَقِيقَةً بِطَلَبِ الْقُدُومِ، أَمْ طَلَبَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَيْدُ لِما يُحْيِيكُمْ مَقْصُودًا لِتَقْيِيدِ الدَّعْوَةِ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ بَلْ هُوَ قَيْدٌ كَاشِفٌ، فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْعُوهُمْ إِلَّا وَفِي حُضُورِهِمْ لَدَيْهِ حَيَاةٌ لَهُمْ، وَيَكْشِفُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَيْدِ لِما يُحْيِيكُمْ مَا
رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجُبْهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّيَ فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ صُورَةُ الْحَدِيثِ فِي فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَوَقْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِما يُحْيِيكُمْ قَيْدٌ كَاشِفٌ
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أُبَيُّ- وَهُوَ يُصَلِّي- فَالْتَفَتَ أُبَيٌّ وَلَمْ يَجُبْهُ وَصَلَّى أُبَيٌّ فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ مَا مَنَعَكَ يَا أُبَيُّ أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ- فَقَالَ: أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ- قَالَ: بَلَى وَلَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»
الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (يُرِيدُ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ حَضَرَ مِنْهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَرُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَ نَحْوَهُ مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، فَتَكُونُ عِدَّةَ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا
313
التَّنْبِيهَ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لِدُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
مُقْتَضَى ارْتِبَاطِ نَظْمِ الْكَلَامِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُرْتَبِطًا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ عَطْفُهَا عَلَيْهَا عَطْفُ التَّكْمِلَةِ عَلَى مَا تُكَمِّلُهُ، وَالْجُمْلَتَانِ مَجْعُولَتَانِ آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمُصْحَفِ.
وافتتحت الْجُمْلَة باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ وَحَثِّ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُفْتَتَحَ بَعْضُ الْجُمَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى خَبَرٍ أَوْ طلب فهم بِأَعْلَم أَوْ تَعَلَّمْ لَفْتًا لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ غَالِبًا بِغَفْلَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُخْبِرَ أَوِ الطَّالِبَ مَا يُرِيدُ إِلَّا عِلْمَ الْمُخَاطَبِ فَالتَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَقْصُودٌ لِلِاهْتِمَامِ، قَالَ تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: ١٩٦]- وَقَالَ- اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الْحَدِيد: ٢٠] الْآيَةَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ، بَعْدَ هَذِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٢٥]
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ: أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»
وَقَدْ يَفْتَتِحُونَ بِتَعَلَّمْ أَوْ تَعَلَّمْنَ قَالَ زُهَيْرٌ:
قُلْتُ تَعَلَّمْ أَنَّ لِلصَّيْدِ غِرَّةً وَإِلَّا تُضَيِّعْهَا فَإِنَّكَ قَاتِلُهُ
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ سَيَّارٍ:
تَعَلَّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرُ عَدُوِّهَا فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمُ بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وأَنَّ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ مَعَ إِفَادَةِ (أَنَّ) التَّأْكِيدَ.
والحول، وَيُقَال الحؤل: مَنْعُ شَيْءٍ اتِّصَالًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ [هود: ٤٣].
314
وَإِسْنَادُ الْحَوْلِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَالْمَعْنَى يَحُولُ شَأْن من شؤون صِفَاتِهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ صِفَةِ الْعِلْمِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ الْمَرْءُ أَوْ تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِتَنْفِيذِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَوْ بِصَرْفِهِ عَنْ فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَلْبِ هُنَا الْبَضْعَةَ الصَّنَوْبَرِيَّةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي بَاطِنِ الصَّدْرِ، وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى عُرُوقِ الْجِسْمِ، بَلِ الْمُرَادُ عَقْلُ
الْمَرْءِ وَعَزْمُهُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
فَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَكْمِلَةً لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَخْلُصُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ خُلُوصَ الْحَائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الِاتِّصَالِ بكليهما.
وَالْمرَاد ب الْمَرْءِ عَمَلُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْجُسْمَانِيَّةُ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَزْمَ الْمَرْءِ وَنِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَعِلَ بِعَزْمِهِ جَوَارِحُهُ، فَشُبِّهَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ بِالْحَائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي كَوْنِهِ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَحُولِ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَحُولُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ وَيَسْتَمِرُّ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ خَاطِرْ يَخْطُرُ فِي النُّفُوسِ: مِنَ التَّرَاخِي فِي الِاسْتِجَابَةِ إِلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْهَا، أَوِ التَّسَتُّرِ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٥].
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَقِبَهُ فَكَانَ مَا قَبْلَهُ تَحْذِيرًا وَكَانَ هُوَ تَهْدِيدًا وَفِي «الْكَشَّاف»، و «ابْن عَطِيَّةَ» : قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالِامْتِثَالِ وَعَدَمِ إِرْجَاءِ ذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ خَشْيَةَ أَنْ تَعْتَرِضَ الْمَرْءَ مَوَانِعُ مِنْ تَنْفِيذِ عَزْمِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَيْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، أَيْ بَيْنَ عَمَلِهِ وَعَزْمِهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المُنَافِقُونَ: ١٠] الْآيَةَ.
وَهُنَالِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلْمُفَسِّرِينَ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهَا ارْتِبَاطُ الْكَلَامِ وَالَّذِي حَمَلَنَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا دُونَ مَا عَدَاهُ أَنْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ:
315
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إِلَّا تَعَلُّقُ شَأْن من شؤون اللَّهِ بِالْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَيْ جُثْمَانِهِ وَعَقْلِهِ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا، مِثْلَ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ وَدَعْوَةِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَمَا يَكُونُ تَحَوُّلٌ إِلَّا إِلَى أَحَدِهِمَا لَا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا كَالطَّبَائِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْويل وَلَيْسَ حؤلا.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمُ (أَنَّ) ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَلِإِجْرَاءِ أُسْلُوبِ
الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ إِلَخْ.
وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُحْشَرُونَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ أَيْ: إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ، وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ لِلْكِنَايَةِ عَنِ انْعِدَامِ مَلْجَأٍ أَوْ مَخْبَأٍ تَلْتَجِئُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ فَكَنَّى عَنِ انْتِفَاءِ الْمَكَانِ بِانْتِفَاءِ مَحْشُورٍ إِلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ بِأَبْدَعِ أُسْلُوبٍ، وَلَيْسَ الِاخْتِصَاصُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا مُقْتَضَى لِقَصْرِ الْحَشْرِ عَلَى الْكَوْنِ إِلَى اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم.
[٢٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٥]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥)
عَقِبَ تَحْرِيضِ جَمِيعِهِمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ، الْمُسْتَلْزَمِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ ضِدِّهَا بِتَحْذِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى مِنْ جَرَّاءِ فِعْلِ غَيْرِهِمْ إِذَا هُمْ لَمْ يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَوْمِهِمْ، كَيْلَا يَحْسَبُوا أَنَّ امْتِثَالَهُمْ كَافٍ إِذَا عَصَى دَهْمَاؤُهُمْ، فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَةً تَلْحَقُهُمْ فَتَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ.
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَبَّ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاخْتَلَّ نِظَامُ جَمَاعَتِهِمْ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ الْحَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِتْنَةِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْفِتْنَةِ يَرْجِعُ إِلَى اضْطِرَابِ الْآرَاءِ، وَاخْتِلَالِ السَّيْرِ، وَحُلُولِ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: ٤٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
316
فَعَلَى عُقَلَاءِ الْأَقْوَامِ وَأَصْحَابِ الْأَحْلَامِ مِنْهُمْ إِذَا رَأَوْا دَبِيبَ الْفَسَادِ فِي عَامَّتِهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا لِلسَّعْيِ إِلَى بَيَانِ مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَنْ يَكْشِفُوا لَهُمْ مَاهِيَّتَهُ وَشُبْهَتَهُ وَعَوَاقِبَهُ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْهُ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَزْجُرُوا الْمُفْسِدِينَ عَنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ حَتَّى يَرْتَدِعُوا، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ، وَتَوَانَوْا فِيهِ لَمْ يَلْبَثِ الْفَسَادُ أَنْ يَسْرِيَ فِي النُّفُوسِ وَيَنْتَقِلَ بِالْعَدْوَى مِنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَكَادُ، فَيَعْسُرُ اقْتِلَاعُهُ مِنَ النُّفُوسِ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ يُفْسِدُ عَلَى الصَّالِحِينَ صَلَاحُهُمْ وَيُنَكِّدُ عَيْشَهُمْ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا حَلَّتْ بِقَوْمٍ لَا تُصِيبُ الظَّالِمَ خَاصَّةً بَلْ تَعُمُّهُ وَالصَّالِحَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ اتِّقَاؤُهَا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ أَضْرَارَ حُلُولِهَا تُصِيبُ جَمِيعَهُمْ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ تَكُونُ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تُصِيبُ الْأُمَمَ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهَا أَنْ لَا تَخُصَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ هُوَ الْفَسَادُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَاتٌ تَحْصُلُ بِحَوَادِثَ كَوْنِيَّةٍ يَسْتَتِبُّ فِي نِظَامِ الْعَالِمِ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَنْ يُوَزَّعَ عَلَى الْأَشْخَاصِ كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِثْلَ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ- قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ثُمَّ يَحْشُرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
. وَحَرْفُ لَا فِي قَوْلِهِ: لَا تُصِيبَنَّ نَهْيٌ بِقَرِينَةِ اتِّصَالِ مَدْخُولِهَا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِثْبَاتِ فِي الْخَبَرِ وَبِالطَّلَبِ، فَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ: إِمَّا نعت ل فِتْنَةً بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَمِثْلُهُ وَارِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ:
حَتَّى إِذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطَ جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
أَيْ مَقُولٌ فِيهِ. وَبَابُ حَذْفِ الْقَوْلِ بَابٌ مُتَّسِعٌ، وَقَدِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْمُبَالِغَةِ فِي
317
التَّحْذِيرِ هُنَا وَالِاتِّقَاءِ- مِنَ الْفِتْنَةِ فَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِاتِّقَائِهَا بِنَهْيِهَا هِيَ عَنْ إِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مِنْ أَبْلَغِ صِيَغِ النَّهْيِ بِأَنْ يُوَجِّهَ النَّهْيَ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ نَهْيُهُ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى تَحْذِيرِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي اللَّفْظِ، وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ الْمُخَاطَبِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ نَهْيَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي صِيغَةِ النَّهْيِ يَسْتَلْزِمُ تَحْذِيرَ الْمُخَاطَبِ فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ نَهْيَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، فَإِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَكَلِّمُ نَفْسُهُ عَنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧] وَيُسَمَّى هَذَا بِالنَّهْيِ الْمُحَوَّلِ، فَلَا ضَمِيرَ فِي النَّعْتِ بِالْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ: لَا تُصِيبَنَّ نَهْيًا مُسْتَأْنَفًا تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِاتِّقَائِهَا مَعَ زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ بِشُمُولِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الظَّالِمِينَ.
وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةِ: لَا تُصِيبَنَّ جَوَابًا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ لَوْ قَالَ: «لَا تُصِيبَنَّكُمْ» كَمَا يَظْهَرُ
بِالتَّأَمُّلِ، وَقَدْ أَبْطَلَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» جَعْلَ (لَا) نَافِيَةً هُنَا، وَرَدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَجْوِيزَهُ ذَلِكَ.
وخَاصَّةً اسْمُ فَاعِلٍ مُؤَنَّثٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى فِتْنَةً فَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُصِيبَنَّ وَهِيَ حَالٌ مُفِيدَةٌ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْذِيرِ.
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ بِفِعْلِ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِلِاهْتِمَامِ لِقَصْدِ شِدَّةِ التَّحْذِيرِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال:
٢٤] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ مَنْ يُخَالِفُ الْأَمر بالاستجابة.
[٢٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٦]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ نِيَّاتُهُمْ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الْخِلَافِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
318
تَذْكِيرُهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ، بَعْدَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ وَالْخَوْفِ، لِيَذْكُرُوا كَيْفَ يَسَّرَ اللَّهُ لَهُمْ أَسْبَابَ النَّصْرِ مِنْ غَيْرِ مَظَانِّهَا، حَتَّى أَوْصَلَهُمْ إِلَى مُكَافَحَةِ عَدُوِّهِمْ وَأَنْ يَتَّقِيَ أَعْدَاؤُهُمْ بَأْسَهُمْ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ قَدْ كَثُرُوا وَعَزُّوا وَانْتَصَرُوا، فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ، وَمَجِيءُ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي سَاقَ لَهُمْ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ هَذَا أَثَرَهُ فِيهِمْ كُلَّمَا احْتَفَظُوا عَلَيْهِ كُفُوهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِمْ، وَمِنْ قَبْلِ تَسْدِيدِ حَالِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُونَ بَعْدَ تَرَفُّهِ حَالِهِمْ أَشَدَّ اسْتِجَابَةً وَأَثْبَتَ قُلُوبًا.
وَفَعْلُ وَاذْكُرُوا مُشْتَقٌّ مِنَ الذّكر- بِضَم الدَّال- وَهُوَ التَّذَكُّرُ لَا ذِكْرَ اللِّسَانِ، أَيْ تَذَكَّرُوا.
وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُجَرَّدٍ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيِ اذْكُرُوا زَمَنَ كُنْتُمْ قَلِيلًا.
وَجُمْلَةُ: أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا إِذْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُضَافِ، وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ وَصْفِ الْقِلَّةِ وَالِاسْتِضْعَافِ فِيهِمْ.
وَأَخْبَرَ بِ قَلِيلٌ وَهُوَ مُفْرَدٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ قَلِيلًا وَكَثِيرًا قَدْ يَجِيئَانِ غَيْرَ
مُطَابِقَيْنِ لِمَا جَرَيَا عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦].
وَالْأَرْضُ يُرَادُ بِهَا الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٦] فَالتَّعْرِيفُ شَبِيهٌ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَوْ أُرِيدَ بِهَا أَرْضُ مَكَّةَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْنَى تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيَّامِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ طَائِفَةً قَلِيلَةَ الْعَدَدِ قَدْ جَفَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَعَادَوْهُمْ فَصَارُوا لَا قَوْمَ لَهُمْ وَكَانُوا عَلَى دِينٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِمِ فَلَا يَطْمَعُونَ فِي نَصْرٍ مُوَافِقٍ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ وَهُمْ فِي مَكَّةَ فَهُمْ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ فَآوَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ صَرَفَ أَهْلَ مَكَّةَ عَنِ اسْتِيصَالِهِمْ ثُمَّ بِأَنْ قَيَّضَ الْأَنْصَارَ أَهْلَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى وَأَهْلَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، فَأَسْلَمُوا وَصَارُوا أَنْصَارًا لَهُمْ بِيَثْرِبَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بِلَاد الْحَبَشَة فئاواهم بِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى يثرب فئاواهم بِهَا، ثُمَّ صَارَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا أَعْدَاءً لِلْمُشْرِكِينَ فَنَصَرَهُمْ هُنَالِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَاللَّهُ
319
الَّذِي يَسَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ كَسْبٌ أَوْ تَعَمُّلٌ، أَفَلَا يَكُونُ نَاصِرًا لَهُمْ بَعْدَ أَنِ ازْدَادُوا وَعَزُّوا وَسَعَوْا لِلنَّصْرِ بأسبابه، وأفلا يستجيبونهم لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ لِمَا يُحْيِيهِمْ وَحَالُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى النَّصْرِ مِنْهَا يَوْمَ كَانُوا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ.
وَالتَّخَطُّفُ شِدَّةُ الْخَطْفِ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٠] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْغَلَبَةِ السَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ شِبْهُ الْأَخْذِ، فَإِذَا كَانَتْ سَرِيعَةً أَشْبَهَتِ الْخَطْفَ، قَالَ تَعَالَى: وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٢٧] أَيْ يَأْخُذُكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ بِدُونِ كُبْرَى مَشَقَّةٍ، وَلَا طُولِ مُحَارَبَةٍ إِذْ كُنْتُمْ لُقْمَةً سَايِغَةً لَهُمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْكُمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ خَائِفِينَ فِي مَكَّةَ، وَكَانُوا خَائِفِينَ فِي طُرُقِ هِجْرَتَيْهِمْ، وَكَانُوا خَائِفِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى أَذَاقَهُمُ اللَّهُ نِعْمَةَ الْأَمْنِ مِنْ بَعْدِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ.
والنَّاسُ مُرَادٌ بِهِمْ نَاسٌ مَعْهُودُونَ وَهُمُ الْأَعْدَاءُ، الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ مِنَ الْعُرَابِ الْمُوَالِينَ لَهُمْ.
وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: هِيَ الْأَمْوَالُ الَّتِي غَنِمُوهَا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْإِيوَاءُ: جعل الْغَيْر ءاويا، أَيْ رَاجِعًا إِلَى الَّذِي يَجعله، فيؤول مَعْنَاهُ إِلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ.
وَالتَّأْيِيدُ: التَّقْوِيَةُ أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا أَيْدٍ، أَيْ ذَا قُدْرَةٍ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْيَدَ يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: ١٧].
وَجُمْلَةُ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ نِعْمَةِ تَوْفِيرِ الرِّزْقِ فِي خِلَالِ الْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ وَتَوْفِيرِ الْعَدَدِ بَعْدَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ وَوَفْرَةَ الْعَدَدِ يَجْلِبَانِ سَعَةَ الرِّزْقِ.
وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ صَادِقٌ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ عُصُورِ النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ، فَجَمَاعَتُهُمْ لَمْ تَزَلْ فِي ازْدِيَادِ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَلَمْ تَزَلْ مَنْصُورَةً عَلَى الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانُوا يَخَافُونَهَا مِنْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الرُّومِ يَوْمَ تَبُوكَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْفُرْسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَعَلَى الرُّومِ فِي مِصْرَ، وَفِي بَرْقَةَ، وَفِي إِفْرِيقِيَّةَ، وَفِي بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، وَفِي بِلَادِ الْفِرِنْجَةِ مِنْ أُورُوبَّا، فَلَمَّا زَاغَ الْمُسْلِمُونَ وَتَفَرَّقُوا أَخَذَ أَمْرُهُمْ يَقِفُ ثُمَّ يَنْقَبِضُ ابْتِدَاءً مِنْ ظُهُورِ
320
الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ تَفَرُّقٍ وَقَعَ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَقَدْ نَبَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَلَمَّا أَعْطَوْا حَقَّ الشُّكْرِ دَامَ أَمْرُهُمْ فِي تَصَاعُدٍ، وَحِينَ نَسَوْهُ أَخَذَ أَمْرُهُمْ فِي تَرَاجُعٍ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
وَلَمْ يَزَلِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَوْعِظَةِ أَنْ لَا يَحِيدُوا عَنْ أَسْبَابِ بَقَاءِ عِزِّهِمْ،
وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ» ؟ - قَالَ: نَعَمْ- «قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»
الْحَدِيثَ،
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «بُدِئَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بُدِئَ»
. [٢٧، ٢٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْعِصْيَانِ الْخَفِيِّ. بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يُظْهِرُوا الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ وَيُبْطِنُوا الْمَعْصِيَةَ وَالْخِلَافَ فِي بَاطِنِهِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خِيَانَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَرَوَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ السِّيَرِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ وَالْكَلْبِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ (١) بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيِّ لَمَّا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَسَأَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ الصُّلْحَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تَنْزِلُونَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» فَأَبَوْا وَقَالُوا: «أَرْسِلْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ» فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَبَا لُبَابَةَ وَكَانَ وَلَدُهُ وَعِيَالُهُ وَمَالُهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ قَالُوا لَهُ مَا تَرَى أَنَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بِيَدِهِ عَلَى حَلْقِهِ: أَنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ
، وَهَذَا الْخَبَرُ لَمْ
_________
(١) قيل: اسْمه رِفَاعَة، وَقيل: مَرْوَان، وَقيل: هَارُون، وَقيل: غير ذَلِك، واشتهر بكنيته.
321
يَثْبُتْ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا صَحَّ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ كَانَتِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الْمُتَعَلِّقَةِ بِاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الْأَنْفَالِ فَإِنَّ بَيْنَ الْحَادِثَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ وَيُقَرِّبُ هَذَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ انْتِفَاءِ وُقُوعِ خِيَانَةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْخَوْنُ وَالْخِيَانَةُ: إِبْطَالُ وَنَقْضُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ تَعَاقُدٍ مِنْ دُونِ إِعْلَانٍ بِذَلِكَ النَّقْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: ٥٨] وَالْخِيَانَةُ ضِدَّ الْوَفَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَأَصْلُ مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْوَفَاءِ التَّمَامُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَوْنُ فِي ضِدِّ الْوَفَاءِ لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ» أَيْ وَاسْتُعْمِلَ الْوَفَاءُ فِي الْإِتْمَامِ بِالْعَهْدِ، لِأَنَّ مَنْ أَنْجَزَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَتَمَّ عَهْدَهُ فَلِذَلِكَ يُقَالُ: أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ.
فَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَهْدٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَكَمَا حُذِّرُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْعَلَنِيَّةِ حُذِّرُوا مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْخَفِيَّةِ.
وَتَشْمَلُ الْخِيَانَةُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي لَا تَخُونُوا، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَعُمُّ، فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ فَهِيَ مُرَادٌ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَتَشْمَلُ الْغُلُولَ الَّذِي حَامُوا حَوْلَهُ فِي قَضِيَّةِ الْأَنْفَالِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلَ بَعْضُهُمُ النَّفَلَ وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا يَتَتَبَّعُونَ آثَار الْقَتْلَى ليتنفلوا مِنْهُمْ، تَعَيَّنَ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْغُلُولِ، فَذَلِكَ مُنَاسِبَةُ وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ سَوَاءٌ صَحَّ مَا حُكِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ النُّزُولِ بِقَرِينَاتِهَا.
وَفِعْلُ «الْخِيَانَةِ» أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخُونُ، وَقَدْ يُعَدَّى تَعْدِيَةً ثَانِيَةً إِلَى مَا وَقَعَ نَقْضُهُ، يُقَالُ: خَانَ فُلَانًا أَمَانَتَهُ أَوْ عَهْدَهُ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ خَانَهُ فِي عَهْدِهِ أَوْ فِي أَمَانَتِهِ، فَاقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَخُوفِ ابْتِدَاءً،
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَخُونِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ أَيْ فِي أَمَانَاتِكُمْ أَيْ وَتَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمَانَاتِكُمْ.
وَالنَّهْيُ عَنْ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ هُنَا: إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي قَضِيَّةِ أَبِي لُبَابَةَ: أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى مَا فِي تَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنَ الضُّرِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ خِيَانَةً لِمَنْ بَعَثَهُ مُسْتَفْسِرًا، لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ لَا يُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَشَارٍ.
322
وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مَعَ قَرِينَاتِهَا فَنَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ اسْتِطْرَادٌ لِاسْتِكْمَالِ النَّهْيِ عَنْ أَنْوَاعِ الْخِيَانَةِ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَصْلِيِّ، إِلَى ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْمُتَّسَعِ فِيهِ، لِقَصْدِ تَبْشِيعِ الْخِيَانَةِ بِأَنَّهَا نَقْضٌ لِلْأَمَانَةِ، فَإِنَّ الْأَمَانَةَ وَصْفٌ مَحْمُودٌ مَشْهُورٌ بِالْحُسْنِ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا يَكُونُ نَقْضًا لَهُ يَكُونُ قَبِيحًا فَظِيعًا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: وَتَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمَانَاتِهِمْ فَهَذَا حَذْفٌ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالْأَمَانَةُ اسْمٌ لِمَا يَحْفَظُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ يَأْمَنُهُ مِنْ أَنْ يُضَيِّعَهَا، وَالْأَمِينُ الَّذِي يَحْفَظُ حُقُوقَ مَنْ يُوَالِيهِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتِ الْأَمَانَاتُ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مُبَالَغَةً فِي تَفْظِيعِ الْخِيَانَةِ، بِأَنَّهَا نَقْضٌ لِأَمَانَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى نَاقِضِهَا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] دُونَ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ.
وَلِلْأَمَانَةِ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي اسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَا ثَبَتُوا عَلَيْهَا وَتَخَلَّقُوا بِهَا، وَهِيَ دَلِيلُ نَزَاهَةِ النَّفْسِ وَاعْتِدَالِ أَعْمَالِهَا، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ فِي إِضَاعَتِهَا انْحِلَالَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثِينَ: رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ عَلَى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».
(الْوَكْتُ سَوَادٌ يَكُونُ فِي الْبُسْرِ إِذَا قَارَبَ أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا، وَالْمَجْلُ غِلَظُ الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ، وَنَفِطَ تَقَرَّحَ وَمُنْتَبِرًا مُنْتَفِخًا)، وَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ إِذْ قَالَ فِي آخِرِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَحَسْبُكَ مِنْ رَفْعِ شَأْنِ الْأَمَانَةِ:
أَنْ كَانَ صَاحِبُهَا حَقِيقًا بِوِلَايَةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَانَةٌ لَهُمْ وَنُصْحٌ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
323
حِينَ أَوْصَى بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ «وَلَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيًّا لَعَهِدْتُ إِلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إِنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ»
. وَقَوْلُهُ: وَتَخُونُوا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَخُونُوا فَهُوَ فِي حَيِّزِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ:
وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ تَخُونُوا وَلَمْ يَكْتَفِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، الصَّالِحِ لِلنِّيَابَةِ عَنِ الْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّ خِيَانَتَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَقْضُ الْوَفَاءِ لَهُمَا بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ، وَخِيَانَةَ الْأَمَانَةِ نَقْضُ الْوَفَاءِ بِأَدَاءِ مَا ائْتَمَنُوا عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَخُونُوا الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَهِيَ حَالٌ كَاشِفَةٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَشْدِيدُ النَّهْيِ، أَوْ تَشْنِيعُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقَبِيحِ فِي حَالِ مَعْرِفَةِ الْمَنْهِيِّ أَنَّهُ قَبِيحٌ يَكُونُ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْقَبِيحَ فِي حَالِ عِلْمِ فَاعِلِهِ بِقُبْحِهِ يَكُونُ أَشْنَعَ، فَالْحَالُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ الْكَاشِفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٧]- وَقَوْلِهِ- فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢٢] وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ عَنِ الْخِيَانَةِ بِحَالَةِ الْعِلْمِ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلُ الْجَدْوَى، فَإِنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ مَشْرُوطٍ بِالْعِلْمِ وَكَوْنُ الْخِيَانَةِ قَبِيحَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ «وَأَنْتُمْ ذَوُو عِلْمٍ» أَيْ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَيْ وَأَنْتُمْ عُلَمَاءُ لَا تَجْهَلُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْقَبَائِحِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢].
وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ لَهُ هُنَا مَفْعُولًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ خِيَانَةَ الْأَمَانَةِ أَيْ تَعْلَمُونَ قُبْحَهَا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فِي آدَابِ دِينِهِمْ تَقْبِيحُ الْخِيَانَةِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلنَّاسِ حَتَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَابْتِدَاءُ جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
بِفِعْلِ اعْلَمُوا
لِلِاهْتِمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: ٢٤]- وَقَوْلِهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٢٥] وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَذَرِ مِنَ الْخِيَانَةِ الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمَرْءَ حُبُّ الْمَالِ وَهِيَ خِيَانَةُ الْغُلُولِ وَغَيْرُهَا، فَتَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْحَمْلِ عَلَى الْخِيَانَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
324
وَعَطْفُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِاسْتِيفَاءِ أَقْوَى دَوَاعِي الْخِيَانَةِ، فَإِنَّ غَرَضَ جُمْهُورِ النَّاسِ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَتْرُكُوهَا لِأَبْنَائِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَ قَرْنُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي التَّحْذِيرِ، وَنَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ، قِيلَ إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَزَلَ فِي أَبِي لُبَابَةَ.
وَجِيءَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِتْنَةً بِطَرِيقِ الْقَصْرِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ فِتْنَةٌ.
وَجَعَلَ نَفْسَ «الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ» فِتْنَةً لِكَثْرَةِ حُدُوثِ فِتْنَةِ الْمَرْءِ مِنْ جَرَّاءِ أَحْوَالِهِمَا، مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا، فَكَأَنَّ وُجُودَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ نَفْسُ الْفِتْنَةِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ عَنِ اقْتِحَامِ الْمَنَاهِي لِأَجْلِ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد.
[٢٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
استيناف ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الْأَنْفَال: ٢٠] الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى هُنَا.
وَافْتُتِحَ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَخُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِعَهْدِ الْإِيمَانِ وَمَا يَقْتَضِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ، وَعَقِبَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سُوءِ عَوَاقِبِهِ، بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّقْوَى وَبَيَانِ حُسْنِ عَاقِبَتِهَا وَبِالْوَعْدِ بِدَوَامِ النَّصْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَحْوَالِ إِنْ هُمْ دَامُوا عَلَى التَّقْوَى.
فَفِعْلُ الشَّرْطِ مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا حُذِّرُوا مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْخِيَانَةِ نَاسَبَ أَنْ تُفْرَضَ لَهُمُ الطَّاعَةُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ.
وَلَقَدْ بَدَا حُسْنُ الْمُنَاسَبَةِ إِذْ رُتِّبَتْ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ تَحْذِيرَاتٌ مِنْ شُرُورٍ وَأَضْرَارٍ
325
مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الْأَنْفَال: ٢٢]- وَقَوْلِهِ- وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال:
٢٥] الْآيَةَ، وَرُتِّبَ عَلَى التَّقْوَى: الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَسَعَةُ الْفَضْلِ.
وَالْفُرْقَانُ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ كالشكران والغفران والبتان، وَهُوَ مَا يُفَرِّقُ أَيْ يُمَيِّزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ
مُتَشَابِهَيْنِ، وَقَدْ أُطْلِقَ بِالْخُصُوصِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ فَأُطْلِقَ عَلَى النَّصْرِ، لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَيْنِ كَانَا مُحْتَمَلَيْنِ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ، وَلُقِّبَ الْقُرْآنُ بِالْفُرْقَانِ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١] وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا لِقَصْدِ شُمُولِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ مِنْ مَعَانِيهِ، فَقَدْ فُسِّرَ بِالنَّصْرِ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، الْفُرْقَانُ الْمَخْرَجُ، وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ»، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قَالَ مَخْرَجًا ثُمَّ قَرَأَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق:
٣]، وَفُسِّرَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّمَايُزُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ أَحْوَالُ النَّفْسِ: مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالرِّضَى، وَانْشِرَاحِ الْقَلْبِ، وَإِزَالَةِ الْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ بَيْنَهُمْ، وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَذَمِيمِ الْخَلَائِقِ.
وَقَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَكُمْ أَنَّ الْفُرْقَانَ شَيْءٌ نَافِعٌ لَهُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ مَا فِيهِ مَخْرَجٌ لَهُمْ وَنَجَاةٌ مِنَ الْتِبَاسِ الْأَحْوَالِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ وانبهام الْمَقَاصِد، فيؤول إِلَى اسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ، حَتَّى يَكُونُوا مطمئني البال منشر حَيّ الْخَاطِرِ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونُوا:
مَنْصُورِينَ، غَالِبِينَ، بصراء بالأمور، كلمة الْأَخْلَاقِ سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، وَذَلِكَ هُوَ مِلَاكُ اسْتِقَامَةِ الْأُمَمِ، فَاخْتِيَارُ الْفُرْقَانِ هُنَا، لِأَنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي غَيْرُهُ مُؤَدَّاهُ فِي هَذَا الْغَرَضِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْفَصَاحَةِ.
وَالتَّقْوَى تَشْمَلُ التَّوْبَةُ، فَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ الْفَارِطَةِ الَّتِي تَعْقُبُهَا التَّقْوَى. وَمَفْعُولُ يَغْفِرْ لَكُمْ، مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ الْغُفْرَانَ وَذَلِكَ هُوَ الذَّنْبُ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهُوَ الصَّغَائِرُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّمَمِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِأَنْ يُرَادَ بِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ وَبِالْمَغْفِرَةِ مَغْفِرَةُ الْكَبَائِرِ بِالتَّوْبَةِ الْمُعْقِبَةِ لَهَا، وَقِيلَ التَّكْفِيرُ السِّتْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالْغُفْرَانُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا فِي
326
الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَالَ مَقْصُودٌ لِلْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى وَتَحَقُّقِ فَائِدَتِهَا وَالتَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهَا، فَلَا يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ وَلَا الْمَغْفِرَةُ بِأَيِّ احْتِمَالٍ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ مَنَافِعَ أُخْرَى لَهُمْ مِنْ جراء التَّقْوَى.
[٣٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ تَأْيِيدِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ إِذْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَال:
٢٦] فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (اذْكُرُوا) مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَال: ٢٦]، فَإِنَّ الْمَكْرَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكْرٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا. فَهَذَا تَعْدَادٌ لِنِعَمِ النَّصْرِ، الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فِي أَحْوَالٍ مَا كَانَ يَظُنُّ النَّاسُ أَنْ سَيَجِدُوا مِنْهَا مَخْلَصًا، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِنْعَامُ بِحَيَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ نِعْمَةٌ تَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِأَيَّامِ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، وَمَا لَاقَاهُ الْمُسْلِمُونَ عُمُومًا وَمَا لَاقَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا وَأَنَّ سَلَامَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَةٌ لِأُمَّتِهِ.
وَالْمَكْرُ إِيقَاعُ الضُّرِّ خُفْيَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٥٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩].
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ مَعَ إِذْ اسْتِحْضَارٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي دَبَّرُوا فِيهَا الْمَكْرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر:
٩].
وَمَعْنَى: لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوكَ يُقَالُ أَثْبَتَهُ إِذَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَأَوْثَقَهُ، وَالتَّعْبِيرُ بالمضارع فِي لِيُثْبِتُوكَ، ويَقْتُلُوكَ، ويُخْرِجُوكَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ الْمَكْرِ إِذْ غَايَةُ مَكْرِهِمْ تَحْصِيلُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى تَرَدُّدِ قُرَيْشٍ فِي أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اجْتَمَعُوا
327
لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ بِدَارِ النَّدْوَةِ فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ قُبَيْلَ هِجْرَتِهِ، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: إِذَا أصبح فأثبتوه بِالْوَثَاقِ وَسُدُّوا عَلَيْهِ بَابَ بَيْتٍ غَيْرَ كُوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ فِي قُرَيْشٍ فَتًى جَلْدًا فَيَجْتَمِعُونَ ثُمَّ يَأْخُذُ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَيْفًا وَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فِي بَيْتِهِ فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا تَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا فَيَأْخُذُونَ الْعَقْلَ وَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ، وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو: الرَّأْيُ أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى جَمَلٍ وَتُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِكُمْ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ.
وَمَوْقِعُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَيَمْكُرُونَ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَرَّجَ عَلَى بَيَانِهِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهِيَ حَالٌ مُؤَسَّسَةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ فَقَوْلُهُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ هُوَ مَنَاطُ الْفَائِدَةِ مِنَ الْحَالِ وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ يُقَارِنُهُ مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ، وَالْمُضَارِعُ فِي يَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمَكْرِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ وَاوَ الِاعْتِرَاضِ أَيِ الْعَطْفِ الصُّورِيِّ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ الدَّوَامُ أَيْ هُمْ مكروا بك لثبتوك أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَمْكُرُونَ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ «وَأَيْضًا لَتَمَلَّنَّهُ» يَعْنِي النَّبِيءَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَيَمْكُرُونَ مُعْتَرَضَةً وَيَكُونُ جُمْلَةُ: وَيَمْكُرُ اللَّهُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمُضَارِعُ فِي جُمْلَةِ: وَيَمْكُرُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ فِي وَيَمْكُرُ اللَّهُ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ مَكْرِ اللَّهِ فِي وَقْتِ مَكْرِهِمْ مِثْلَ الْمُضَارِعِ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ.
وَبَيَانُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَقَدَّمَ: فِي آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤] وَآيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
وَالَّذِينَ تَوَلَّوُا الْمَكْرَ هُمْ سَادَةُ الْمُشْرِكِينَ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَأَعْوَانُ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ دَأْبُهُمُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ كَانُوا أَتْبَاعًا لِلزُّعَمَاءِ يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِمْ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ
328
أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُمَّيَّةُ بْنُ خلف، وأضرابهم.
[٣١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣١]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ بُهْتَانٍ آخَرَ مِنْ حِجَاجِ هَؤُلَاءِ الْمُشْركين، لم تزل آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ يَتَخَلَّلُهَا أَخْبَارُ كُفْرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ٧]- وَقَوله-لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال: ١٣]- وَقَوْلِهِ- فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الْأَنْفَال: ١٧]-
وَقَوْلِهِ- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: ٢١]- ثُمَّ بِقَوْلِهِ- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: ٣٠].
وَهَذِهِ الْجُمَلُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الْأَنْفَال: ٢٣].
وَهَذَا الْقَوْلُ مَقَالَةُ الْمُتَصَدِّينَ لِلطَّعْنِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُحَاجَّتِهِ، وَالتَّشْغِيبِ عَلَيْهِ:
مِنْهُمُ النَّضْرُ بن الْحَارِث، وطعمية بْنُ عَدِيٍّ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ.
وَمَعْنَى قَدْ سَمِعْنا: قَدْ فَهِمْنَا مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَهَا وَإِنَّمَا اهْتَمُّوا بِالْقَصَصِ وَلَمْ يَتَبَيَّنُوا مَغْزَاهَا وَلَا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآدَابِ وَالْحَقَائِقِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: ٢١] أَيْ لَا يَفْقَهُونَ مَا سَمِعُوا.
وَمِنْ عَجِيبِ بُهْتَانِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُفْحِمُوا، ثُمَّ اعْتَذَرُوا بِأَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ- قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، كَانَ رَجُلًا مِنْ مَرَدَةِ قُرَيْشٍ وَمِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَسْفَارِ إِلَى الْحِيرَةِ وَإِلَى أَطْرَافِ بِلَادِ الْعَجَمِ فِي تِجَارَتِهِ، فَكَانَ يَلْقَى بِالْحِيرَةِ نَاسًا مِنَ الْعِبَادِ (بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ اسْمُ طَائِفَةٍ مِنَ النَّصَارَى) فَيُحَدِّثُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْإِنْجِيلِ وَيَلْقَى مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَنْقُلُ أُسْطُورَةَ حُرُوبِ (رستم) و (أسفنديار) (١) مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي قَصَصِهِمُ الْخُرَافِيِّ،
_________
(١) سفندياذ بِهَمْزَة قطع مَكْسُورَة، فسين مُهْملَة سَاكِنة، ففاء أُخْت الْقَاف وَقد يكْتب بباء مُوَحدَة عوض الْفَاء لِأَن الْبَاء الفارسية منطقها بَين الْبَاء وَالْفَاء الْعَرَبيَّة فكثيرا مَا تعرب بِالْفَاءِ وبالباء وَهِي مَفْتُوحَة وَبَعْضهمْ يضبطها بِالْكَسْرِ، ثمَّ دَال مُهْملَة مَكْسُورَة، فتحتية، وَآخره ذال مُعْجمَة كَذَا نطق بِهِ الْعَرَب وَكَذَلِكَ كتب فِي «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة»، وَهُوَ فِي العجمية برَاء فِي آخِره قَالَه التَّفْتَازَانِيّ فِي «شرح الْكَشَّاف».
قلت: وَهُوَ فِي «الْكَشَّاف» وَفِي «سيره ابْن هِشَام» بالراء وَهُوَ إسفنديار بن (كشتاسب) من العائلة الكيانيين من مُلُوك الْفرس لِأَن أَسمَاء مُلُوكهَا مفتتحه بِكَلِمَة (كي) أَوَّلهمْ (كيقباذ) وَفِي زمن (كشتاسب) ظهر (زرادشت) صَاحب الدّيانَة الشهيرة فِي الْفرس قبل الْإِسْلَام، وأخبار حروب إسفنديار مَعَ رستم وَكلهمْ من مُلُوك الطوائف بِفَارِس وَكَانَ رستم ملك بِلَاد التّرْك.
329
وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ تُتَرْجَمُ لِلْعَرَبِ بِاللِّسَانِ وَيَسْتَظْهِرُهَا قُصَّاصُهُمْ وَأَصْحَابُ النَّوَادِرِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، فِيمَا أَحْسَبُ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ جَاءَ بِنُسْخَةٍ مِنْ خَبَرِ (رُسْتُمَ) وَ (إِسْفَنْدِيَاذَ) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ
مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ كَتَبَهَا الْقَصَّاصُونَ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَالْأَنْبَارِ تَذْكِرَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَارٌ لَا حِكْمَةَ فِيهَا وَلَا مَوْعِظَةَ، وَقَدْ أَطَالَ فِيهَا الْفِرْدَوْسِيُّ فِي كِتَابِ «الشَّاهْنَامِهْ» تَطْوِيلًا مُمِلًّا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْقَصَصِ، وَقَالَ الْفَخْرُ: اشْتَرَى النَّضْرُ مِنَ الْحِيرَةَ أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكَانَ يَقْعُدُ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، فَإِسْنَادُ قَوْلِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَيِّدُونَهُ وَيَحْكُونَهُ وَيُحَاكُونَهُ، وَيَحْسَبُونَ فِيهِ مَعْذِرَةٌ لَهُمْ عَنِ الْعَجْزِ الَّذِي تَلَبَّسُوا بِهِ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ نَفَّسَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأُغْلُوطَةِ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَكَرَهُ هُوَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَصْدُرَ أَمْثَالُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَمْثَالِهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَمِنْ ضِمْنَهُمْ مَجْلِسُهُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ بِهَذِهِ النزاقة.
وَقَوْلُهُمْ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِيهَامٌ بِأَنَّهُمْ تَرَفَّعُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَنَقَلُوا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مَا يُوَازِي قَصَصَ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ وَقَاحَةٌ، وَإِلَّا فَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَشَاءُوا مُعَارَضَةَ مَنْ تَحَدَّاهُمْ وَقَرَّعَهُمْ بِالْعَجْزِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة:
٢٤] مَعَ تَحَيُّزِهِمْ وَتَأَمُّرِهِمْ فِي إِيجَادِ مَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا عَنِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ إِيَّاهُمْ وَتَحَدِّيهِ لَهُمْ، وَمَا قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِي أَمر الْقُرْآن.
330
«الأساطير» جَمْعُ أُسْطُورَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وجوابها إِذْ جُعِلَ شَرْطُهَا مُضَارِعًا وَالْجَزَاءُ مَاضِيًا جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي (لَوْ) غَالِبًا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمَاضِي فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ جُزْأَيْ جُمْلَتِهَا مَاضِيًا، أَوْ كِلَاهُمَا. فَإِذَا أُرِيدَ التَّفَنُّنَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا، فَالتَّقْدِيرُ: لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ احْتِبَاكًا قَائِمًا مَقَامَ شَرْطَيْنِ وَجَزَاءَيْنِ فَإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالْأُخْرَى مَاضِيَةٌ، فَالتَّقْدِيرُ لَوْ نَشَاءُ أَنْ نَقُولَ نَقُولُ، وَلَوْ شِئْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَاضِي لَقُلْنَا فِيهِ، فَذَلِكَ أَوْعَبُ لِلْأَزْمَانِ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السَّجْدَة: ١٣]- وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرَّعْد: ٣١] فَهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا ادَّعَوُا الْقُدْرَةَ عَلَى قَوْلٍ مِثْلِهِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إِغْرَاقًا فِي النفاجة والوقاحة.
[٣٢، ٣٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٣]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
عُطِفَ عَلَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: ٣٠] أَوْ عَلَى قالُوا قَدْ سَمِعْنا [الْأَنْفَال: ٣١] وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَاحِبُ الْمَقَالَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَهَا أَيْضًا أَبُو جَهْلٍ وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أُسْنِدَ لَهُ قَوْلُ النَّضِرِ قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: ٣١] فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ هُنَالِكَ مِنْ حِكَايَةِ الْمَعْنَى.
وَكَلَامُهُمْ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْقَسَمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ بِطَرِيقَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا كَانَ مَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ مَا يَحْكُونَهُ أَوْ يَعْتَقِدُونَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَجَابَةً، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ شَهِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ:
331
وَقَالَ مَعْدَانُ بْنُ جَوَّاسٍ الْكِنْدِيُّ، أَوْ حُجَيَّةُ بْنُ الْمُضَرِّبِ السَّكُونِيُّ:
مَا إِنْ أَتَيْتُ بِشَيْءٍ أَنْتَ تَكْرَهُهُ إِذَنْ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ يَدِي
إِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ عَنِّي فَلَامَنِي صَدِيقِي وَشَلَّتْ مِنْ يَدَيَّ الْأَنَامِلُ
وَكُفِّنْتُ وَحْدِي مُنْذَرًا بِرِدَائِهِ وَصَادَفَ حَوْطًا مِنْ أَعَادِيَّ قَاتِلُ
وَقَالَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ:
بُقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نَهَابِ نُفُوسِ
وَقَدْ ضَمَّنَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الْعَاشِرَةِ» هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حِكَايَةِ يَمِينٍ وَجَّهَهَا أَبُو زَيْدٍ السُّرُوجِيُّ عَلَى غُلَامِهِ الْمَزْعُومِ لَدَى وَالِي رَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ حَتَّى اضْطُرَّ الْغُلَامُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: «الِاصْطِلَاءُ بِالْبَلِيَّةِ، وَلَا الِابْتِلَاءُ بِهَذِهِ الْأَلِيَّةِ».
فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِنْ عِنْدِكَ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَأَصِبْنَا بِالْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ وَلَيْسَ الشَّرْطُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يُفِيدَ تَرَدُّدَهُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ كَانُوا لِجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّى لِمُخَاطَرَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلُوهُ أَنْ يُمْطِرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنْهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا لِقَوْمِهِمْ صِحَّةَ جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ فَأَعْلَنُوا الدُّعَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ
عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، فَهُمْ غَيْرُ جَازِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَمُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ بَلْ هُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ أَخَصُّ مِنْ عَدَمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ حَقٌّ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ فَهُوَ يَقْتَضِي تَقَوِّي الْخَبَرِ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا وَمِنْ عِنْدِكَ بِلَا شَكٍّ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَاجْتَمَعَ فِي التَّرْكِيبِ تَقَوٍّ وَحَصْرٌ وَذَلِكَ تَعْبِيرُهُمْ يَحْكُونَ بِهِ أَقْوَالَ الْقُرْآنِ الْمُنَوِّهَةَ بِصِدْقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمرَان: ٦٢]
332
وَهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا وَلَا دَاعِيَ لَهُمْ إِلَى نَفْيِ قُوَّةِ حَقِّيَّتِهِ وَلَا نَفْيِ انْحِصَارِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ حَقًّا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَقًّا كَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ بَاطِلًا فَصَحَّ اعْتِبَارُ انْحِصَارِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ انْحِصَارًا إِضَافِيًّا، إِلَّا أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لَوْلَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا حِكَايَةَ الْكَلَامِ الَّذِي يُبْطِلُونَهُ.
وَهَذَا الدُّعَاءُ كِنَايَةٌ مِنْهُمْ عَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَيْسَ كَمَا يُوصَفُ بِهِ، لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَبَيْنَ الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ مَا جَعَلُوهُ سَبَبَ الدُّعَاءِ بِحَسْبِ عُرْفِ كَلَامِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ.
ومِنْ عِنْدِكَ حَالٌ مِنَ الْحَقِّ أَيْ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِكَ فَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَفِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ وَصْفٌ لِحِجَارَةٍ أَيْ حِجَارَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِعَذَابِ مَنْ تُصِيبُهُ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ مَطَرَ السَّمَاءِ لَا يَكُونُ بِحِجَارَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: ١٣] (وَالصَّبُّ قَرِيبٌ مِنَ الْأَمْطَارِ).
وَذكروا عَذَابًا خَاصًّا وَهُوَ مَطَرُ الْحِجَارَةِ ثُمَّ عَمَّمُوا فَقَالُوا: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَذَابَ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَوَصَفُوا الْعَذَابَ بِالْأَلِيمِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ يَقِينِهِمْ بِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهَذَا الدُّعَاءِ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِخَطَرٍ عَظِيمٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَقًّا وَمُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَإِذْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يَلْزَمُ قَائِلَهُ خَاصَّةً وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ وَنَطَقَ بِهِ مِثْلَ النَّضْرِ وَأَبِي جَهْلٍ وَمَنِ الْتَزَمَ ذَلِكَ وَشَارَكَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ نَادِيهِمْ، كَانُوا قَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ إِلَى تَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ انْتِصَارًا لِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ، وَكَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ حَقَّ الْعَذَابُ عَلَى قَائِلِي هَذَا
الْقَوْلِ وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ الْمُهِينِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ١٤] وَكَانَ الْعَذَابُ قَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ زَمَنًا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبَ تَأَخُّرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ حِينَ قَالُوا مَا قَالُوا، وَأَيْقَظَ النُّفُوسَ إِلَى حُلُولِهِ بِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
فَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، وَإِعْلَامٍ بِكَرَامَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وَجُودَهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ
333
الْعِقَابَ سَبَبًا فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ مَكْرُمَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجُودَهُ فِي مَكَانٍ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارٌ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ فِيمَا مَضَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَتْ فِرْقَةٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى نَزَلَ قَوْلُهُ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلهم: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ:
وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] بَعْدَ بَدْرٍ.
وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ بِهَذَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاجْتِلَابِ ضَمِيرِ خِطَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ فِيهِمْ لَطِيفَةٌ مِنَ التَّكْرِمَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَفِيهِمْ رَسُولُهُ، كَمَا قَالَ:
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمرَان: ١٠١].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ نَظْمُهَا، وَحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَفْكِيكِ الضَّمَائِرِ فَجَعَلَ ضَمَائِرَ الْغَيْبَة من لِيُعَذِّبَهُمْ، وفِيهِمْ ومُعَذِّبَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ ضَمِيرَ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ عَائِدًا إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ وَعَلَى تَأْوِيلِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّهُ إِسْنَادُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ حَلَّ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ انْتُهِزَتْ بِهَا فُرْصَةُ التَّهْدِيدِ بِتَعْقِيبِهِ بِتَرْغِيبٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ، فَبَعْدَ أَنْ هَدَّدَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ ذَكَّرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، فَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الشِّرْكِ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَتَكُونُ لَهُمْ أَمْنًا وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ، إِذْ مِنَ الْبَيِّنِ أَنْ لَيْسَ المُرَاد ب يَسْتَغْفِرُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: غُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ وَنَحْوَهُ، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلُ يُخَالِفُهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ تَحْرِيضًا وَذَلِكَ
فِي الِاسْتِغْفَارِ وَتَلْقِيَنًا لِلتَّوْبَةِ زِيَادَةً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النِّسَاء: ١٤٧] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: ٣٨].
334
وَفِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرُوا وَهَذَا مِنَ الْكِنَايَةِ الْعُرْضِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ وَحُسْنُ مَوْقِعِهَا هُنَا أَنَّهَا جَاءَت قيدا لعامل مَنْفِيٍّ، فَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا.
وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] صَادَفَتْ مَحَزَّهَا مِنَ الْكَلَامِ أَيْ لَمْ يَسْلُكُوا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُمْ عَذَابُ اللَّهِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَبَرَكَتِهِ بِإِثْبَاتٍ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمِنُوا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَمَ لِأَنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا مِنَ الشِّرْكِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْإِسْلَامَ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
. [٣٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣٤]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِتَعْذِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، بَيَانًا بِالصَّرَاحَةِ.
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ الْمُبْتَدَإِ ولَهُمْ خَبَرُهُ، وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّقْدِيرُ مَا الَّذِي ثَبَتَ لَهُمْ لِأَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُمْ عَذَابُ اللَّهِ فَكَلِمَةُ (مَا) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَثْبُتْ لَهُم شَيْء.
وأَلَّا يُعَذِّبَهُمُ مَجْرُورٌ بِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفَةٍ بَعْدَ (أَنْ) عَلَى الشَّائِعِ مِنْ حَذْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَهُمْ فِي عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ أَوْ مِنْ عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ أَيْ أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمَقْصُودُ الْكِنَايَةُ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَحُلُولِهِ بِهِمْ، أَوْ تَوَقُّعِ حُلُولِهِ بِهِمْ، تَقول الْعَرَب: مَالك أَنْ لَا تُكْرَمَ، أَيْ: أَنْتَ
حَقِيقٌ بِأَنْ تُكْرَمَ وَلَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِكْرَامِ شَيْءٌ، فَاللَّفْظُ نَفْيٌ لِمَانِعِ الْفِعْلِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفِعْلَ تَوَفَّرَتْ أَسْبَابُهُ ثُمَّ انْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مَا يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.
335
وَقَدْ يَتْرُكُونَ (أَن) وَيَقُولُونَ: مَالك لَا تَفْعَلُ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْحَالُ هِيَ مُثِيرُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْجَارِي عَلَى الِاسْتِعْمَالِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا فِي الْآيَةِ نَافِيَة فَيكون أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اسْمَهَا ولَهُمْ خَبَرَهَا وَالتَّقْدِيرُ وَمَا عَدَمُ التَّعْذِيبِ كَائِنًا لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
وَالصَّدُّ الصَّرْفُ، وَمَفْعُولُ يَصُدُّونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ فَكَانَ الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَرِيمَةً عَظِيمَةً يَسْتَحِقُّ فَاعِلُوهُ عَذَابَ الدُّنْيَا قُبَيْلَ عَذَابِ الْآخِرَة، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الصَّدِّ عَنِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ بَنَاهُ مُؤَسِّسُهُ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَأْوًى لِلْمُوَحِّدِينَ، فَصَدُّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، صَرْفٌ لَهُ عَنْ كَوْنِهِ عَلَمًا عَلَى التَّوْحِيدِ، إِذْ صَارَ الْمُوَحِّدُونَ مَعْدُودِينَ غير أهل لزيادته، فَقَدْ جُعِلُوا مُضَادِّينَ لَهُ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ مُضَادًّا لِلتَّوْحِيدِ وَأَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْحَج: ٢٥]، وَالظُّلْمُ الشِّرْكُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَهَذَا الصَّدُّ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْآيَةُ: هُوَ عَزْمُهُمْ عَلَى صَدِّ الْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ أَنْ يَحُجُّوا وَيَعْتَمِرُوا، وَلَعَلَّهُمْ أَعْلَنُوا بِذَلِكَ بِحَيْثُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَدْخُلُونَ مَكَّةَ. وَفِي «الْكَشَّافِ» :«كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ فَنَصُدُّ مَنْ نَشَاءُ وَنُدْخِلُ مَنْ نَشَاءُ».
قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَضِيَّةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَ أَبِي جَهْلٍ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: «أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، وَكَانَ سعد إِذْ مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَخَرَجَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ (كُنْيَةُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ) هَذَا مَعَكَ- فَقَالَ: هَذَا سَعْدٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا
أَرَاك تَطوف باليبت آمِنًا وَقَدْ
336
آوَيْتُمُ الصُّبَاةَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا» الْحَدِيثَ.
وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ فَنَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، هُوَ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ رَحِمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَكْرِمَةً لَنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤَاخِذْ عَامَّتَهُمْ بِظُلْمِ الْخَاصَّةِ بَلْ سَلَّطَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُجَازِي كُفْرَهُ وَظُلْمَهُ وَإِذَايَتَهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ عَذَّبَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْإِهَانَةِ نَفَرًا عُرِفُوا بِالْغُلُوِّ فِي كُفْرِهِمْ وَأَذَاهُمْ، مِثْلَ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَطُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَعَذَّبَ بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ مَنْ كَانُوا دُونَ هَؤُلَاءِ كُفْرًا وَاسْتَبَقَاهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ فَكَانَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ أَسْلَمُوا بِقُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ وَهَؤُلَاءِ مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، وَحَقَّقَ بِذَلِكَ رَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
. وَجُمْلَةُ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَصُدُّونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ إِظْهَارُ اعْتِدَائِهِمْ فِي صَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ مَنْ صَدَّ عَمًّا هُوَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ ظَالِمًا، وَمَنْ صَدَّ عَمَّا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ كَانَ أَشَدَّ ظُلْمًا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الْبَقَرَة: ١١٤] أَيْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ أَحَدَ لِأَنَّهُ مَنَعَ شَيْئًا عَنْ مُسْتَحِقِّهِ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تَعْيِينٌ لِأَوْلِيَائِهِ الْحَقِّ، وَتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ مَعَ زِيَادَةِ مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ مِنْ تَعْيِينِ أَوْلِيَائِهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ فُصَلَتْ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ مَعَ اقْتِضَائِهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِقَصْدِ التَّصْرِيحِ بِظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ فِي صَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَنَّهُمْ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أَشَدَّ تَعَلُّقًا بِجُمْلَةِ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مِنْ جُمْلَةِ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَكَانَتْ جُمْلَةُ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ كَالدَّلِيلِ، فَانْتَظَمَ الِاسْتِدْلَالُ أَبْدَعَ انْتِظَامٍ، وَلِمَا فِي إِنَاطَةِ وِلَايَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْمُتَّقِينَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سُلِبَتْ عَنْهُمْ وِلَايَتُهُ لَيْسُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَهُوَ مَذَمَّةٌ لَهُمْ وَتَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ بِحُجَّةٍ.
337
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ لكِنَّ نَاشِئٌ عَنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَمَّنَتْهُمَا جُمْلَتَا وَما
كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فَرْضَ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْمُوجَبِ الَّذِي أَقْحَمَهُمْ فِي الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حَقِيقُونَ بِوِلَايَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ «الْكَشَّافِ»، فَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ:
وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ.
وَإِنَّمَا نَفَى الْعِلْمَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَاقْتَضَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ مَنْ أَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَفَاقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمُ الْقَدِيمَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمْ عَلَى الْمُشَايَعَةِ لِلصَّادِّينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الْعِنَادُ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ، وَمُوَافَقَةُ الدَّهْمَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عُقَلَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ تَهَيَّأَ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ مِثْلَ الْعَبَّاسِ وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَحَكِيم بن حزم وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمَنِ اسْتَبَقَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ فَكَانُوا مِنْ نُصَرَائِهِ مِنْ بَعْدِ نُزُولِ هَذِه الْآيَة.
[٣٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣٥]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: ٣٤] فَمَضْمُونُهَا سَبَبٌ ثَانٍ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ، وَمَوْقِعُهَا، عَقِبَ جُمْلَةِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] يَجْعَلُهَا كَالدَّلِيلِ الْمُقَرِّرِ لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهِمْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا عِنْدَ مَسْجِدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَكَانَ حَقِيقًا بِسَلْبِ وِلَايَةِ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، فَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَلَوْ فُصِلَتْ بِاعْتِبَارِهَا مُقَرِّرَةً لِسَلْبِ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ لَصَحَّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ لِأَنَّ الْعَطْفَ أَدَلُّ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِ مَوْقِعِهَا يُفِيدُ الِاعْتِبَارَ الثَّانِي.
وَالْمُكَاءُ عَلَى صِيغَةِ مَصَادِرِ الْأَصْوَاتِ كَالرُّغَاءِ وَالثُّغَاءِ وَالْبُكَاءِ وَالنُّوَاحِ، يُقَالُ: مَكَا يَمْكُو إِذَا صَفَّرَ بِفِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْمَكَّاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَجَمُعُهُ مَكَاكِيءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ بَعْدَ الْيَاءِ، وَهُوَ طَائِرٌ أَبْيَضُ يَكُونُ بِالْحِجَازِ.
338
وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قُلْتُ لِمُنْتَجِعِ بْنِ نَبْهَانَ «مَا تَمْكُو» فَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِهِ وَنَفَخَ.
وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ مُشْتَقًّا مِنَ الصَّدَى وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْهَوَاءُ مُحَاكِيًا لِصَوْتٍ صَالِحٍ فِي الْبَرَاحِ مِنْ جِهَةٍ مُقَابِلَةٍ.
وَلَا تُعْرَفُ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ، فَتَسْمِيَةُ مُكَائِهِمْ وَتَصْدِيَتِهِمْ صَلَاةً مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْبَيْتِ. كَانَ مِنْ جُمْلَةِ طَرَائِقِ صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ تَشْغِيبُهُمْ عَلَيْهِمْ وَسُخْرِيَتُهُمْ بِهِمْ يُحَاكُونَ قِرَاءَةَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاتَهُمْ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «فَعَلَ ذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَخْلِطُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاتَهُ» وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ هُمْ سَدَنَةُ الْكَعْبَةِ وَأَهْلُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلِاسْتِسْخَارِ مِنَ الصَّلَاةِ سُمِّيَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ، وَالْمُشَاكَلَةُ تَرْجِعُ إِلَى اسْتِعَارَةٍ عَلَاقَتُهَا الْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ أَوِ التَّقْدِيرِيَّةُ فَلَمْ تَكُنْ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَهَذَا الَّذِي نَحَاهُ حُذَّاقُ الْمُفَسِّرِينَ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الْأَحْقَاف: ٣٤] لِأَنَّ شَأْنَ التَّفْرِيعِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ، وَالْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ لَا يُعَدَّانِ كُفْرًا إِلَّا إِذَا كَانَا صَادِرَيْنِ لِلسُّخْرِيَةِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالدِّينِ، وَأَمَّا لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ لَهْوٍ عَمِلُوهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَيْسَ بِمُقْتَضٍ كَوْنَهُ كُفْرًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة:
٣٧].
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيَمْكُوَنَ وَيُصَفِّقُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاة يصفقون ويصغرون، وَعَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو: أَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا يَمْكُوَنَ فِيهِ نَحْوَ أَبِي قُبَيْسٍ، فَإِذَا صَحَّ الَّذِي قَالَهُ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو فَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ الْبَيْتِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُقَارَبَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يُفِيدُهُ (عِنْدَ) مِنْ شِدَّةِ الْقُرْبِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى عَذَابٍ وَاقِعٍ بِهِمْ، إِذِ الْأَمْرُ هُنَا للتوبيخ والتغليظ وَذَلِكَ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَحَرَبٍ (بِفَتْحِ الرَّاءِ).
339
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَي بكفركم ف (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَكَانَ إِذَا جُعِلَ خَبَرُهَا جُمْلَةً مُضَارِعِيَّةً أَفَادَتِ الِاسْتِمْرَارَ وَالْعَادَةَ، كَقَوْلِ عَايِشَةَ، «فَكَانُوا لَا يَقْطَعُونَ السَّارِقَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» وَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي «الْمُوَطَّأِ» :«كَانُوا يُعْطُونَ النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ».
وَعَبَّرَ هُنَا بِ تَكْفُرُونَ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٩] بِ تَكْسِبُونَ لِأَنَّ الْعَذَابَ المتحدث عَنهُ هُنَاكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ. وَالْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَالْإِضْلَالِ وَمَا يَجُرُّهُ الْإِضْلَالُ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ الرِّئَاسَة.
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ صَدَّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمُوجِبَ لِتَعْذِيبِهِمْ، عَقَّبَ بِذكر محاولتهم استيصال الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِ سَبِيلِ اللَّهِ وَجُعِلَتِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، اهْتِمَامًا بِهَا أَيْ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُنْفِقُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَأَنَّ الْإِنْفَاقَ مُسْتَمِرٌّ لِإِعْدَادِ الْعُدَدِ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْفَاقُهُمْ حَصَلَ فِي الْمَاضِي وَيَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَشْعَرَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِعِلَّةٍ مُلَازِمَةٍ لِنُفُوسِهِمْ وَهِيَ بُغْضُ الْإِسْلَامِ وَصَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْهُ.
وَهَذَا الْإِنْفَاقُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْعِمُونَ جَيْشَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ اللَّحْمَ كُلَّ يَوْمٍ، وَكَانَ الْمُطْعِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بن نَوْفَل، وطعمية بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَبُو البخْترِي والعاصي بن هَاشم، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُبَيْهُ بْنُ حَجَّاجٍ السَّهْمِيُّ، وَأَخُوهُ مُنَبِّهٌ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ، كَانُوا يُطْعِمُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ جَزَائِرَ. وَهَذَا الْإِنْفَاقُ وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَى، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهَا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فِي وَفْرَةِ النَّفَقَاتِ.
وَهُوَ جَمْعٌ بِالْإِضَافَةِ يَجْعَلُهُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا مُبَالَغَةً، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ.
340
وَالْفَاءُ فِي فَسَيُنْفِقُونَها تَفْرِيعٌ عَلَى الْعِلَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ دَأْبَهُمْ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَكَرُّرُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ سَتَكُونُ لَهُمْ شَدَائِدُ مِنْ بَأْسِ الْمُسْلِمِينَ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَكْرِيرِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجُيُوشِ لِدِفَاعِ قُوَّةِ الْمُسلمين.
وَضمير فَسَيُنْفِقُونَها رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْوَالِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهَا الْمُنْفَقَةَ بَلِ الْأَمْوَالُ الْبَاقِيَةُ أَوْ
بِمَا يَكْتَسِبُونَهُ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ وَالرُّتْبِيِّ، أَيْ وَبَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى مَا فَاتَ، وَأُسْنِدَتِ الْحَسْرَةُ إِلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْحَسْرَةِ بِإِنْفَاقِهَا. ثُمَّ إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهَا بِنَفْسِ الْحَسْرَةِ مُبَالَغَةٌ مِثْلُ الْإِخْبَارِ بِالْمَصَادِرِ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ سَبَبُ التَّحَسُّرِ لَا سَبَبُ الْحَسْرَةِ نَفْسِهَا.
وَهَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَحْصُلُونَ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى طَائِلٍ فِيمَا أَنْفَقُوا لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ الْمُنْفِقَ إِنَّمَا يَتَحَسَّرُ وَيَنْدَمُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ إِنْفَاقِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ لِيَغْلِبُوا فَلَا يَغْلِبُونَ، فَقَدْ أَنْفَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْجَيْشِ يَوْمَ أُحُدٍ: اسْتَأْجَرَ أَبُو سُفْيَانَ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْأَحَابِيشُ: فِرَقٌ مِنْ كِنَانَةَ تَجَمَّعَتْ مِنْ أَفْذَاذٍ شَتَّى وَحَالَفُوا قُرَيْشًا وَسَكَنُوا حول مَكَّة سمّو أَحَابِيشَ جَمْعُ أُحْبُوشٍ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ أَيِ الْجَمَاعَاتُ فَكَانَ مَا أَحْرَزُوهُ مِنَ النَّصْرِ كِفَاءً لِنَصْرِ يَوْمِ بَدْرٍ، بَلْ كَانَ نَصْرُ يَوْمِ بَدْرٍ أَعْظَمَ. وَلِذَلِكَ اقتنع أَبُو سيفيان يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يَقُولَ «يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» وَكَانَ يَحْسَبُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قُتِلَا فَخَابَ فِي حِسَابِهِ، ثُمَّ أَنْفَقُوا عَلَى الْأَحْزَابِ حِينَ هَاجَمُوا الْمَدِينَةَ ثُمَّ انْصَرَفُوا بِلَا طَائِلٍ، فَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُغْلَبُونَ ارْتِقَاءٌ فِي الْإِنْذَارِ بِخَيْبَتِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَحْصُلُوا مِنْ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى طَائِلٍ تُوعِّدُوا بِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوهُمْ أَيْضًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِغَلَبِ فَتْحِ مَكَّةَ وَانْقِطَاعِ دَابِرِ أَمْرِهِمْ، وَهَذَا كَالْإِنْذَارِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٢] وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِكَوْنِ فَاعِلِ الْفِعْلِ مَعْلُومًا بِالسِّيَاقِ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ غَيْرَ
341
الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ مَكَّةُ لَقَاحًا.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ وَالرُّتْبِيِّ مِثْلُ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَإِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٢] فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ هُنَا إِلَى الْإِظْهَارِ تَخْرِيجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلْإِفْصَاحِ عَنِ التَّشْنِيعِ بِهِمْ فِي هَذَا
الْإِنْذَارِ حَتَّى يُعَادَ اسْتِحْضَارُ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ بِأَصْرَحِ عِبَارَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ عُوَيْفِ الْقَوَافِي:
اللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا
لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَشْنِيعِ وَبْرٍ الْمَهْجُوِّ بِتَقْرِيرِ اسْمِهِ وَاسْمِ اللُّؤْمِ الَّذِي شُبِّهَ بِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا.
وَعُرِّفُوا بِالْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْأَمْرَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ وَصْفُ الْكُفْرِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَمْرَيْنِ بِهِمْ.
ولِيَمِيزَ مُتَعَلِّقٌ بِ يُحْشَرُونَ لِبَيَانِ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ حَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْفَرِيقُ الْخَبِيثُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ غَيْرَ الْمُؤَثِّرَةِ تَكُونُ مُتَعَدِّدَةً، فَتَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ مِنْ جُمْلَةِ الْحُكْمِ لِحَشْرِ الْكَافِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ- لِيَمِيزَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْأَوْلَى وَكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ الثَّانِيَةِ- مُضَارِعُ مَازَ بِمَعْنَى فَرَزَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ الْأُولَى وَفَتْحِ الْمِيمِ التَّحْتِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ. مُضَارِعُ مَيَّزَ إِذَا مَحَّصَ الْفَرْزَ وَإِذْ أُسْنِدَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوَتِ الْقِرَاءَتَانِ.
342
وَالْخَبِيثُ الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالْخُبْثِ وَالْخَبَاثَةِ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنه حَالَة حشية لِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ مَكْرُوهًا مِثْلِ الْقَذَرِ، وَالْوَسَخِ، وَيُطْلَقُ الْخُبْثُ مَجَازًا عَلَى الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا خِسَّةُ النُّفُوسِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا مَفَاسِدُ الْأَعْمَالِ، وَالطَّيِّبُ الْمَوْصُوفُ بِالطِّيبِ ضد الْخبث بإطلاقيه فَالْكُفْرُ خُبْثٌ لِأَنَّ أَسَاسَهُ الِاعْتِقَادُ، الْفَاسِدُ، فَنَفْسُ صَاحِبِهِ تَتَصَوَّرُ الْأَشْيَاءَ على خلاف حقايقها فَلَا جَرَمَ أَنْ تَأْتِيَ صَاحِبَهَا بِالْأَفْعَالِ عَلَى خِلَافِ وَجْهِهَا، ثُمَّ إِنَّ شَرَائِعَ أَهْلِ الْكُفْرِ تَأْمُرُ بِالْمَفَاسِدِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَصْرِفُ عَنِ الْمَصَالِحِ وَالْهِدَايَةِ بِسَبَبِ السُّلُوكِ فِي طَرَائِقِ الْجَهْلِ وَتَقْلِيبِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَمَا مِنْ ضَلَالَةٍ إِلَّا وَهِيَ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى أُخْرَى مِثْلِهَا، وَالْإِيمَانُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الطَّيِّبِ لِلْفَصْلِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠].
وَجَعْلُ الْخَبِيثِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ: عِلَّةٌ أُخْرَى لِحَشْرِ الْكَافِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِالْوَاوِ فَالْمَقْصُودُ جَمْعُ الْخَبِيثِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَصْنَافُهُ فِي مَجْمَعٍ وَاحِدٍ، لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ عَنِ
الطَّيِّبِ، وَلِتَشْهِيرِ مَنْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَفِي جَمْعِهِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ تَذْلِيلٌ لَهُمْ وَإِيلَامٌ، إِذْ يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرُوا رُكَامًا.
وَالرَّكْمُ: ضَمُّ شَيْءٍ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ، وَقَدْ وَصَفَ السَّحَابَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً [النُّور: ٤٣].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ بِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْخَبَرَ الْوَاقِعَ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَانَ بِسَبَبِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ حَالُهُ كَانَ حَقِيقًا بِأَنَّهُ قَدْ خَسِرَ أَعْظَمَ الْخُسْرَانِ، لِأَنَّهُ خَسِرَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَمَنَافِعَ الْآخِرَةِ.
فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْخاسِرُونَ هِيَ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ، حَتَّى يُعَدَّ خُسْرَانُ غَيْرِهِمْ كَلَا خُسْرَانَ وَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِالْخُسْرَانِ مِنْ بَين النَّاس.
343

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣٨]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)
جَرَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ، وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ، وَالْعَكْسُ فَأَنْذَرَهُمْ بِمَا أَنْذَرَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِمَا تَوَعَّدَ ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّدَارُكِ وَإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدُوا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الْإِنَابَةِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِينَافٌ يَصِحُّ جَعْلُهُ بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِشَأْنِهِمْ، وَذِكْرِ خَيْبَةِ مَسَاعِيهِمْ، مِمَّا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِهِمْ وَالسَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَمَّا إِذَا بَقِيَ لَهُمْ مَخْلَصٌ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَرْطَتِهِمُ الَّتِي ارْتَبَقُوا فِيهَا، فَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْمَقَالَ لِيُرِيَهُمْ أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ، وَالْإِقْلَاعَ فِي مُكْنَتِهِمْ.
وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِينَ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى رُوعِيَ فِيهَا جَانِبُ الْمُخَاطَبِ بِالْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَظُّهُ مُجَرَّدَ تَبْلِيغِ مَقَالَةٍ، فَجَعَلَ حَظه حَظّ لمخبر بِالْقَضِيَّةِ الَّذِي يُرَادُ تَقَرُّرُهَا لَدَيْهِ قَبْلَ تَبْلِيغِهَا، وَهُوَ إِذَا بَلَّغَ إِلَيْهِمْ يُبَلِّغُ إِلَيْهِمْ مَا أُعْلِمَ بِهِ وَبُلِّغَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مُخْبِرًا بِخَبَرٍ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ حَامِلٍ لِرِسَالَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالِانْتِهَاءِ: الِانْتِهَاءُ عَنْ شَيْءٍ مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْكُفْرِ هُنَا وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ وَآثَارِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ إِنْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِهَاءُ
عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِيمَانِ.
وَمَا قَدْ سَلَفَ هُوَ مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَآثَارِهِ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةً خَاصَّةً بِالْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ شَامِلٌ كُلَّ كَافِرٍ لِتَسَاوِي الْحَالِ.
وَلَفْظُ الْغُفْرَانِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ جَزَاءِ الذُّنُوبِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مَهْيَعُ الْآيَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لَا مَحَالَةَ، وَيَلْحَقُ بِهِ هُنَا عَذَابُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ:
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ.
واستنبط أَئِمَّتنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامًا لِلْأَفْعَالِ وَالتَّبِعَاتِ الَّتِي قَدْ تصدر من الْكفَّار فِي
344
حَالِ كَفْرِهِ فَإِذَا هُوَ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهَا هَلْ يُسْقِطُ عَنْهُ إِسْلَامُهُ التَّبِعَاتِ بِهَا.
وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا اسْتَقْرَيْتُهُ وَأَصَّلْتُهُ فِي دَلَالَةِ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَصِحُّ أَنَّ تَدُلَّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا وَتَرَاكِيبُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَوْا عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَيَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ أَوِ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ مَحْضًا وَمَا كَانَ فِيهِ حَقٌّ لِلنَّاسِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ كُلُّهَا.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ وَتَبْقَى عَلَيْهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ الْفَتْوَى لِعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَعْضُ مُخَالَفَةٍ لِهَذَا، وَحَكَوْا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَا غُرْمُ مَا أَصَابَ مِنْ جِنَايَاتٍ وَمَتْلَفَاتٍ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ مَا نَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الشَّافِعِيِّ بِخِلَافِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لِلَّهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ النَّاسِ وَحُجَّةُ الْجَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْمِيمًا وَتَخْصِيصًا بِمُخَصَّصَاتٍ أُخْرَى.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الِاتِّزَانُ لِأَنَّهُ فِي مِيزَانِ الرَّجَزِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَوْدِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالتَّجَهُّزِ لِحَرْبِهِمْ، مِثْلِ صُنْعِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا تَقْتَضِي أَنَّهُ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: «أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ» وَلِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
345
لَمَّا يُفَارِقُوا الْكُفْرَ بَعْدُ فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَوْدِ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ يُسْلِمُوا.
وَالسُّنَّةُ الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ وَالسِّيرَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٣٧].
وَمَعْنَى مَضَتْ تَقَدَّمَتْ وَعَرَفَهَا النَّاسُ.
وَهَذَا الْخَبَرُ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ مَا لَقِيَهُ الْأَوَّلُونَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ أَنَّ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ بِمُضِيِّ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لِلْمُخْبَرِينَ بِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَسُنَ تَأْكِيدُهُ بِقَدْ إِذِ الْمُرَادُ تَأْكِيدُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ وُقُوعُ قَوْلِهِ: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مُلَازَمَةٌ فِي شَيْءٍ.
وَالْأَوَّلُونَ: السَّابِقُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي حَالَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأُمَمُ الَّتِي سَبَقَتْ وَعَرَفُوا أَخْبَارَهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فَلَقوا عَذَاب الاستيصال مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: ٤٣].
وَيَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ أَيْضًا السَّابِقُونَ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي كُلِّ أُولَئِكَ عِبْرَةٌ لِلْحَاضِرِينَ الْبَاقِينَ، وَتَهْدِيدٌ بِأَنْ يصيروا مصيرهم.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٣٦] الْآيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: ٣٨] فَتَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَعُودُوا فَقَاتِلُوهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاء: ٨]- وَقَوْلِهِ- وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣] وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ.
وَالْفِتْنَةُ اضْطِرَابُ أَمْرِ النَّاسِ وَمَرَجُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ
346
تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] وَقَوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧١].
وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ انْتِفَاءَ والفتنة غَايَةً لِقِتَالِهِمْ، وَكَانَ قِتَالُهُمْ مَقْصُودًا مِنْهُ إِعْدَامُهُمْ أَوْ إِسْلَامُهُمْ، وَبِأَحَدِ هَذَيْنِ يَكُونُ انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ، فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الْمُرَادَ نَفْيُهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنْهُمْ وَهِيَ فِتْنَتُهُمُ الْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْتِنُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَسْلَمُوا حَصَلَ انْتِفَاءُ فِتْنَتِهِمْ وَإِذَا أَعْدَمَهُمُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَاجِبٌ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَأَنَّهُمْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ- وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى- قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: ٢٩].
وَهِيَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى مَا رَآهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ مُؤَرِّخِينَا: مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا كَانَ أَوَّلُهُ دِفَاعًا لِأَذَى الْمُشْرِكِينَ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ حَيْثُمَا حَلُّوا، فَتِلْكَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: ١٩١].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينُ لِلْجِنْسِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ زِيدَ فِيهَا اسْمُ التَّأْكِيدِ وَهُوَ كُلُّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسْبَقُ نُزُولًا مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَاحْتِيجَ فِيهَا إِلَى تَأْكِيدِ مُفَادِ صِيغَةِ اخْتِصَاصِ جِنْسِ الدِّينِ بِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الِاقْتِنَاعُ بِإِسْلَامِ غَالِبِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا تَقَرَّرَ مَعْنَى الْعُمُومِ وَصَارَ نَصًّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَلَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ تَطَلُّبًا لِلْإِيجَازِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ عَلِيمٌ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ مُجَازَاتِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ
الْقَادِرَ عَلَى نَفْعِ أَوْلِيَائِهِ وَمُطِيعِيهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيصَالِ النَّفْع إِلَيْهِم الْإخْفَاء حَالِ مَنْ يُخْلَصُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى انْتِهَائِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ إِنِ انْتَهَوْا عَنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يُظَنُّ خِلَافُهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ ذَلِكَ.
347
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٢].
وَالْمَوْلَى الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ غَيْرِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ وَفِيهِ مَعْنَى النَّصْرِ.
وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ هَاتِهِ الدَّعْوَةِ فَاللَّهُ مُغْنٍ لَكُمْ عَنْ وَلَائِهِمْ، أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ تَوَلِّيهِمْ فَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يُؤْذِنُ بِجَوَابٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تَخَافُوا تَوَلِّيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ يُقَدِّرُ لَكُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ «وَلَئِنْ تَوَلَّيْتَ لَيَعْفِرَنَّكَ اللَّهُ»
وَإِنَّمَا الْخَسَارَةُ عَلَيْهِمْ إِذْ حُرِمُوا السَّلَامَةَ وَالْكَرَامَةَ.
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ جَوَاب الشَّرْط ب فَاعْلَمُوا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ، أَيْ لَا تَغْفُلُوا عَنْ ذَلِكَ، كَمَا مَرَّ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: ٢٤].
وَجُمْلَةُ: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَعَطَفَ عَلَى نِعْمَ الْمَوْلى قَوْلَهُ: وَنِعْمَ النَّصِيرُ لِمَا فِي الْمَوْلَى مِنْ مَعْنَى النَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عَطْفِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى قَوْلِهِ: حَسْبُنَا اللَّهُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
348

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤١]

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
انْتِقَالٌ لِبَيَانِ مَا أُجْمِلَ مِنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، الَّذِي افْتَتَحَتْهُ السُّورَةُ، نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ عَادُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْأَنْفَال: ٣٩].
وافتتاحه ب فَاعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى رِعَايَةِ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: ٢٤] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِلْمِ تَقَرُّرُ الْجَزْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْمَعْلُوم، فَيكون فَاعْلَمُوا كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ صَرِيحُهُ وَلَازِمُهُ. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْخُصُوصِ جَيْشُ بَدْرٍ، وَلَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِحُكْمِ الْأَنْفَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ السُّورَةِ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: لِلَّهِ... وَلِلرَّسُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ ابْتِدَاءً أَنَّ قِسْمَةَ الْمَغَانِمِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُ أَنَّهَا لِاجْتِهَادِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَعْيِينٍ، ثُمَّ شَرَعَ التَّخْمِيسَ. وَذَكَرُوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُخَمِّسْ مَغَانِمَ بَدْرٍ، ثُمَّ خَمَّسَ مَغَانِمَ أُخْرَى بَعْدَ بَدْرٍ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ،
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهُ شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ
، فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَغَانِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ.
5
وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ قَدِيمًا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَغْنَمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ تَنْضَبِطْ تَقَارِيرُ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ فِي طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَلَطَهَا مَعَ آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَجَعَلَ هَذِهِ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْحَشْرِ وَالْعَكْسَ، أَوْ أَنَّ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُخَصِّصَةً لِلْأُخْرَى: إِمَّا فِي السِّهَامِ، وَإِمَّا فِي أَنْوَاعِ الْمَغَانِمِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَطُولُ. وَتَرَدَّدُوا فِي مُسَمَّى الْفَيْءِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ مَجَالًا لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ: النَّفْلُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْفَيْءُ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، واتّصالها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: ١] أَنَّ المُرَاد بقوله: أَنَّما غَنِمْتُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا حَصَّلْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مِنْ مَتَاعِ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ مَا سُمِّيَ بِالْأَنْفَالِ، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَالنَّفْلُ وَالْغَنِيمَةُ مُتَرَادِفَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ:
الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ إِذْ قَالَ تَعَالَى هُنَا غَنِمْتُمْ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَة [الْأَنْفَال: ١] : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ التَّعْبِيرَ هُنَا بِفِعْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِعْلٌ مِنْ مَادَّةِ النَّفْلِ يُفِيدُ إِسْنَادَ مَعْنَاهُ إِلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ، وَلِذَلِكَ فَآيَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ سِيقَتْ هُنَا بَيَانا لآيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فَإِنَّهُمَا وَرَدَتَا فِي انْتِظَامٍ مُتَّصِلٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَنَرَى أَنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ النَّفْلِ بِمَا يُعْطِيهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ أَحَدَ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ سَلْبًا أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَسَعُهُ الْخُمُسُ أَوْ مِنْ أَصْلِ مَالِ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ شَاعَ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا يَصِلُ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَجَعَلَهَا بِمَعْنَى الْفَيْءِ، فَمَحْمَلُهُ عَلَى بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ.
وَتَعْبِيرَاتُ السَّلَفِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَهَذَا مِلَاكُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَمْيِيزِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الْقِتَالِ، فَأَمَّا صُوَرُ قِسْمَتِهَا فَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ، وَيُقَالُ: لَهَا الْمَغْنَمُ، مَا يَأْخُذُهُ الْغُزَاةُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْمُقَاتِلِينَ غَصْبًا، بِقَتْلٍ أَوْ بِأَسْرٍ، أَوْ يَقْتَحِمُونَ دِيَارَهُمْ غَازِينَ، أَوْ مَا يَتْرُكُهُ الْأَعْدَاءُ
6
فِي دِيَارِهِمْ، إِذَا فَرُّوا عِنْدَ هُجُومِ الْجَيْشِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ. فَأَمَّا مَا يَظْفَرُ بِهِ الْجَيْشُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَزْوِ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَتْرُكُهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمَتَاعِ إِذَا أَخْلَوْا بِلَادَهُمْ قَبْلَ هُجُومِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الْفَيْءُ وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: ١] إلَخْ. فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلِ حَقٌّ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ. وَأَمَّا النَّفْلُ فَلَيْسَ حَقًّا مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِبَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، عَلَى مَا يَرَى مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا تَعْيِينَ لِمِقْدَارِ النَّفْلِ فِي الْخُمُسِ وَلَا حَدَّ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخُمُسِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الْجَارِي عَلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: النَّفْلُ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: النَّفْلُ مَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْخُمُسِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: أَنَّما اسْمٌ مَوْصُولٌ وَهُوَ اسْمُ (أَنَّ) وَكُتِبَتْ هَذِهِ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَةً بِ (أَنَّ) لِأَنَّ زَمَانَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِ الرَّسْمِ وَضَبْطِ الْفُرُوقِ فِيهِ بَيْنَ مَا يَتَشَابَهُ نُطْقُهُ وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ، فَالتَّفْرِقَةُ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ (مَا) الْكَافَّةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَنْضَبِطْ زَمَنَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ الْأُولَى، وَبَقِيَتْ كِتَابَةُ الْمَصَاحِفِ عَلَى مِثَالِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مُبَالَغَةً فِي احْتِرَامِ الْقُرْآنِ عَنِ التَّغْيِيرِ.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِعُمُومِ (مَا) لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ غَنِيمَةٌ مُعَيَّنَةٌ خَاصَّةٌ. وَالْفَاءُ فِي
قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، وَمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ بِتَأْوِيلِ: إِنْ غَنِمْتُمْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ إلَخْ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ بَعْدَ (أَنَّ) فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ. وَإِنَّمَا صِيغَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، مَعَ كَوْنِ مَعْنَى اللَّامِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ
7
عَلَى الْأَحَقِّيَّةِ، كَمَا قُرِئَ فِي الشَّاذِّ فَلِلَّهِ خُمُسُهُ لِمَا يُفِيدُهُ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (أَنَّ) مِنَ الْإِسْنَادِ مَرَّتَيْنِ تَأْكِيدًا، وَلِأَنَّ فِي حَذْفِ أَحَدِ رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ تَكْثِيرًا لِوُجُوهِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمُقَدَّرِ، مِنْ نَحْوِ تَقْدِيرِ: حَقٌّ، أَوْ ثَبَاتٌ، أَوْ لَازِمٌ، أَوْ وَاجِبٌ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغُزَاةِ الصَّادِقِ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ غَنِمْتُمْ فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ عَدَا خُمُسِهَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ حَقًّا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ أَمْرُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ يَكُونُ لِقَائِدِ الْجَيْشِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ «الْمِرْبَاعَ» بِكَسْرِ الْمِيمِ.
وَفِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ إِذَا جُعِلَ شَيْءٌ حَقًّا لِلَّهِ، مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ عِبَادَةٌ لَهُ: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِلَّذِينَ يَأْمُرُ اللَّهُ بِتَسْدِيدِ حَاجَتِهِمْ مِنْهُ، فَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ مُسْتَحِقُّونَ عَيَّنَهُمُ الشَّرْعُ، فَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْخُمُسَ حَقُّ اللَّهِ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَقَدْ شَاءَ فَوَكَّلَ صَرْفَهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ يَخْلُفُ رَسُولَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْخُمُسُ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَشَذَّ أَبُو الْعَالِيَةِ رُفَيْعٌ (١) الرِّيَاحِيُّ وَلَاءً مِنَ التَّابِعِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَيُعْزَلُ مِنْهَا سَهْمٌ فَيَضْرِبُ الْأَمِيرُ بِيَدِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَتْ عَلَيْهِ يَدُهُ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ: أَيْ عَلَى وَجْهٍ يُشْبِهُ الْقُرْعَةَ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ ذَلِكَ السَّهْمِ عَلَى خَمْسَةٍ: سَهْمٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَنَسَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَلِحَقِّهِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَحَالَةِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يُحِبُّ انْتِفَاعَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَلِذَلِكَ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْخُمُسِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى
_________
(١) بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء توفّي سنة تسعين على الصَّحِيح.
8
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْفَيْء «مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ»
فَيُقَاسُ عَلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ رَسُولِ اللَّهِ فِي انْتِفَاعِهِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي مَالِ اللَّهِ. وَأَوْضَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، حِينَ تَحَاكَمَا إِلَيْهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَرِجَال «الصَّحِيحِ»، قَالَ عُمَرُ: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ قَالَ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [الْحَشْر: ٧] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لرَسُول الله، وو اللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ».
وَالْغَرَضُ مِنْ جَلْبِ كَلَامِ عُمَرَ قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ».
وَأَمَّا ذُو الْقُرْبى فَ (أَلْ) فِي الْقُرْبى عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧] وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى أَيْ ذَوِي قَرَابَةِ الْمُؤْتِي الْمَالَ.
وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ (الرَّسُولُ) الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَيْ وَلِذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ بِ (ذِي) الْجِنْسُ، أَيْ: ذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، أَيْ: قَرَابَتَهُ، وَذَلِكَ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَعَلَ لِأَهْلِ قَرَابَتِهِ حَقًّا فِي مَالِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَاةِ. فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أَغْنَاهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُمْ فِي الْخُمُسِ ثَابِتًا بِوَصْفِ الْقَرَابَةِ.
فَذُو الْقُرْبَى مُرَادٌ بِهِ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِقَرَابَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَهُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْقُرْبى جِنْسٌ فَهُوَ مُجْمَلٌ، وَأُجْمِلَتْ رُتْبَةُ الْقَرَابَةِ إِحَالَةً عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي قُرْبَى الرَّجُلِ، وَتِلْكَ هِيَ قُرْبَى نَسَبِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ. ثُمَّ إِنَّ نَسَبَ الْآبَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ يُعَدُّ مُشْتَرَكًا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ الْفَصَائِلُ، وَمَحْمَلُهَا الظَّاهِرُ عَلَى عَصَبَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَبْنَاءِ جَدِّهِ الْأَدْنَى. وَأَبْنَاءُ أَدْنَى أَجْدَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، لِأَنَّ هَاشِمًا لَمْ يَبْقَ لَهُ عَقِبٌ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَالْأَرْجَحُ أَنَّ قُرْبَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
9
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَنَّ الْقُرْبَى هُنَا: هُمْ بَنُو
هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. وَمَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمُتَمَسَّكُ هَؤُلَاءِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ نُكَلِّمُهُ فِيمَا قَسَّمَ مِنَ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا، وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ»
. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَا فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلَكِنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْأَمْوَالِ الْمُعْطَاةِ وَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ عَطَاءً مِنْ سَهْمِهِ الْخَاصِّ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى وَفَائِهِمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْتِصَارِهِمْ لَهُ، وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ أَيَّدُوا بِهَا دَعْوَةَ الدِّينِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَلَمْ يُضِعْهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِمُوَاسَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُكْسِبُهُمْ حَقًّا مُسْتَمِرًّا.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ تَسْتَنِدُ لِلْأَوْصَافِ الْمُنْضَبِطَةِ، فَالْقُرْبَى هِيَ النَّسَبُ، وَنَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَاشِمٍ، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَهُمْ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ هُمْ أَبْنَاءُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَإِخْوَةٌ لِهَاشِمٍ، فَالَّذِينَ نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ أَعْيَانَهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَعْطَى مَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ النَّصْرَ، فَمَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُسَاوُونَ أَبْنَاءَ نَوْفَلٍ وَأَبْنَاءَ عَبْدِ شَمْسٍ، فَلَا يَكُونُ فِي عَطَائِهِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَأْوِيلِ ذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ الْجَصَّاصُ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «الْجَامِعِ الصَّغِيرِ» : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ (أَيْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى) وَرَوَى
10
بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَخَمُسٌ لِذِي الْقُرْبَى فَلِكُلِّ صِنْفٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُمُسُ الْخُمُسِ قَالَ: وَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَا الْقُرْبَى لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَرَابَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَهُمْ (آلُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسُ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَقَالَ آخَرُونَ: بَنُو الْمُطَّلِبِ دَاخِلُونَ فِيهِمْ.
وَقَالَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ذَوُو الْقُرْبَى هُمْ عَشِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِنْذَارِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ
آلُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، أَيْ قُرَيْشٍ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى بَعْضِ السَّلَفِ
وَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْقُرْبَى بَنِي أَبِي لَهَبٍ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ آثَرَ عَلَيْنَا الْأَفْجَرِينَ» رَوَاهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ
، وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَدٌ، وَبَعْدُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَبِي لَهَبٍ فَلَا يَشْمَلُ أَبْنَاءَهُ فِي الْإِسْلَامِ. ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَغَيْرَهُ.
رَوَى عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَتْ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي لَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِي وَيَقُولُونَ: إِنِّي بِنْتُ حَطَبِ النَّارِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُغْضَبٌ شَدِيدُ الْغَضَبِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِي نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي أَلَا وَمَنْ آذَى نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ»
. فَوَصَفَ دُرَّةَ بِأَنَّهَا مِنْ نَسَبِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ وَصْفَ قُرْبَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْمَغْنَمِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِوَصْفِ فَقْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا بِوَصْفِ الْفَقْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لَهُمْ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُوَافَقَةَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ فِيهِمْ.
11
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخُمُسَ لِخَمْسَةِ مَصَارِفَ وَلَمْ يُعَيِّنْ مِقْدَارَ مَا لِكُلِّ مَصْرِفٍ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَرْفُهُ لِمَصَارِفِهِ هَذِهِ مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَيُقَسَّمُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَصْرِفٍ مِنْهُ مَا يَفِي بِحَاجَتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا ضَرَّ مَعَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَصْرِفِ الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ الْقِسْمَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ مَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يُنَاطَ بِالْحَاجَةِ، وَبِتَقْدِيمِ الْأَحْوَجِ وَالْأَهَمِّ عِنْدَ التَّضَايُقِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَقَدْ
قَالَ عُمَرُ: «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ»
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَسَّمُ لِكُلِّ مَصْرَفٍ الْخُمُسُ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهَا خَمْسَةُ مَصَارِفَ، فَجَعَلَهَا مُتَسَاوِيَةً، لِأَنَّ التَّسَاوِيَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِكَةِ الْمُجْمَلَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى دَلِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْجِيحِ وَإِذْ قَدْ جَعَلَ مَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ خُمُسًا وَاحِدًا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ارْتَفَعَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ وَسَهْمُ قَرَابَتِهِ بِوَفَاتِهِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمًا فِي الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، لَا لِأَنَّهُ إِمَامٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُفُهُ فِيهِ الْإِمَامُ، يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِلَا تَقْدِيرٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعَانِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً- إِلَى قَوْلِهِ- وَابْنِ السَّبِيلِ [النِّسَاءِ: ٣٦].
وَالْيَتَامَى وَابْنُ السَّبِيلِ لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالشَّأْنُ، فِي الْيَتَامَى فِي
12
الْغَالِبِ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُمْ سَعَةٌ فِي الْمَكَاسِبِ فَهُمْ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، وَلَكِنَّهَا دُونَ الْفَقْرِ فَجُعِلَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَغْنَمِ تَوْفِيرًا عَلَيْهِمْ فِي إِقَامَة شؤونهم، فَهُمْ مِنَ الْحَاجَةِ الْمَالِيَّةِ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَهُمْ مِنْ حَالَةِ الْمَقْدِرَةِ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُمْ، فَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِأَمْوَالٍ تَرَكَهَا لَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا.
وَالْمَسَاكِين الْفُقَرَاء الشَّديد والفقر جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ كَمَا جَعَلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الزَّكَاةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا فِي الْخُمُسِ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْيَتَامَى حَقًّا فِي الزَّكَاةِ.
وَابْنُ السَّبِيلِ أَيْضًا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَلَاغ وتسديد شؤونه، فَهُوَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ ذَا وَفْرٍ وَغِنًى لَمْ يُعْطَ مِنَ الْخُمُسِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْيَتَامَى وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْفَقْرَ، بَلْ مُطْلَقَ الْحَاجَةِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْفَقْرَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَجَعَلَ ذِكْرَهُمْ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَسَاكِينِ لِتَقْرِيرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ شَرْطٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِلْمِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْعَمَلَ بِالْمَعْلُومِ وَالِامْتِثَالَ لِمُقْتَضَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ، صَحَّ تَعَلُّقُ الشَّرْطِ بِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ أَوْ هُوَ الْجَوَابُ مُقَدَّمًا عَلَى شَرْطِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ إلَخْ. وَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ
فَاقْطَعُوا أَطْمَاعَكُمْ فِي ذَلِك الْخمس واقتنعوا بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ.
مُطْلَقُ الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَ ذَلِكَ.
وَالشَّرْطُ هُنَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخِرِهَا. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحِرَفِ (إِنِ) الَّتِي شَأْنُ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ زِيَادَةً فِي حَثِّهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ حَيْثُ يَفْرِضُ حَالُهُمْ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِ شَرْطِهِ إِلْهَابًا لَهُمْ لِيَبْعَثَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فِيهِمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْيَقِينِ بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَهُ وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَرَأَيْتُمْ ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ وَارْتَقَى إِيمَانُكُمْ مِنْ مَرْتَبَةِ حَقِّ الْيَقِينِ إِلَى مَرْتَبَةِ
13
عَيْنِ الْيَقِينِ فَعَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِنَفْعِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِذْ يَعِدُكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، فَكَانَ مَا دَفَعَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَحْفَظَ لِمَصْلَحَتِكُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لِقُوَّةِ دِينِكُمْ. فَمَنْ رَأَوْا ذَلِكَ وَتَحَقَّقُوهُ فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ هُوَ الْمصلحَة، وَلم يعبأوا بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَقْصٍ فِي حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ، عِلْمًا بِأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَصَالِحَ جَمَّةً آجِلَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلْنا عَطْفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ بِحُصُولِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ بِهِ، فَيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ.
وَتَخْصِيصُ مَا أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ جُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ الرَّاجِعَةِ لِلِاعْتِقَادِ، لِأَنَّ لِذَلِكَ الْمَنْزِلِ مَزِيدَ تَعَلُّقٍ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا.
وَالْإِنْزَالُ: هُوَ إِيصَالُ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِبْلَاغِ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُنَزَّلُ مِنْ قَبِيلِ الْوَحْيِ، أَيْ وَالْوَحْيُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، لَكِنَّهُ الْوَحْيُ الْمُتَضَمِّنُ شَيْئًا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْأَلْطَافِ الْعَجِيبَةِ، مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ
لِلنَّصْرِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، لِتَعْبِيدِ الطَّرِيقِ، وَتَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ، وَالِاسْتِقَاءِ.
وَإِطْلَاقُ الْإِنْزَالِ عَلَى حُصُولِهِ اسْتِعَارَةٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ مِنْ عُلُوٍّ تَشْرِيفًا لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: ٢٦]. وَالتَّطَهُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ غَرَضَ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ مَعْنَاهُ مِمَّا نعلمهُ أَو لما علمناه.
ويَوْمَ الْفُرْقانِ هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ سُمِّيَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ لِأَنَّ الْفُرْقَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ:
14
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الْأَنْفَال: ٢٩] وَقَدْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ يَوْمٍ ظَهَرَ فِيهِ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ الضُّعَفَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ نَصْرُ الْمُحِقِّينَ الْأَذِلَّةِ عَلَى الْأَعِزَّةِ الْمُبْطِلِينَ، وَكَفَى بِذَلِكَ فُرْقَانًا وَتَمْيِيزًا بَيْنَ مَنْ هُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَمَنْ هُمْ عَلَى الْبَاطِلِ.
فَإِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى الْفُرْقانِ إِضَافَةُ تَنْوِيهٍ بِهِ وَتَشْرِيفٍ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفُرْقانِ فَإِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى جُمْلَةِ: الْتَقَى الْجَمْعانِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الِالْتِقَاءِ الْعَجِيبِ الَّذِي كَانَ فِيهِ نَصْرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجَمْعانِ لِلْعَهْدِ. وَهُمَا جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اعْتِرَاضٌ بِتَذْيِيلِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِبَعْضِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى مُتَعَارَفِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، فَقُدْرَةُ اللَّهِ قَلَبَتِ الْأَحْوَالَ وَأَنْشَأَتِ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ مَجَارِيهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَبَبِ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَ الْفُرْقانِ أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الْفُرْقَانِ الَّذِي هُوَ لَقَبُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ يَوْمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي معنييه.
[٤٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
إِذْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَهُوَ ظَرْفٌ ل أَنْزَلْنا [الْأَنْفَال: ٤١] أَيْ زَمَنَ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، وَقَدْ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ تَذْكِيرُهُمْ بِحَالَةٍ حَرِجَةٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ
15
فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ لِلُطْفٍ عَظِيمٍ حَفَّهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ حَالَةُ مَوْقِعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَيْفَ الْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ عَدُوٍّ قَوِيِّ الْعِدَّةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حُسْنِ الْمَوْقِعِ.
وَلَوْلَا هَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ وَصْفِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَمَا كَانَ مِنْ دَاعٍ لِهَذَا الْإِطْنَابِ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَصْفُ الْمَنَازِلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ عِبْرَةٌ.
وَالْعُدْوَةُ بِتَثْلِيث الْعين صفة الْوَادِي وَشَاطِئُهُ، وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ فِي الْعَيْنِ أَفْصَحُ وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ، فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-.
وَالْمرَاد بهَا شاطىء وَادِي بَدْرٍ. وَبَدْرٌ اسْمُ مَاءٍ. والدُّنْيا هِيَ الْقَرِيبَةُ أَيِ الْعُدْوَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ، فَهِيَ أَقْرَبُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدْوَةِ الَّتِي مِنْ جِهَة مَكَّة.
وبِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى هِيَ الَّتِي مِمَّا يَلِي مَكَّةَ، وَهِيَ كَثِيبٌ، وَهِيَ قُصْوَى بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِ بَلَدِ الْمُسلمين.
وَالْوَصْف ب الدُّنْيا والْقُصْوى يَشْعُرُ الْمُخَاطَبُونَ بِفَائِدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرِيصِينَ أَنْ يَسْبِقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، لِأَنَّهَا أَصْلَبُ أَرْضًا فَلَيْسَ لِلْوَصْفِ بِالدُّنُوِّ وَالْقُصُوِّ أَثَرٌ فِي تَفْضِيلِ إِحْدَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ صَادَفَ أَنْ كَانَتِ الْقُصْوَى أَسْعَدَ بِنُزُولِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا سَبَقَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا اغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا فَلَبَّدَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَعُقْهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ وَأَصَابَ الْأَرْضَ الَّتِي بِهَا قُرَيْشٌ فَعَطَّلَهُمْ عَنِ الرَّحِيلِ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بَدْرًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ وَتَخَيَّرُوا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ وَسَبَقُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاتَّخَذُوا حَوْضًا يَكْفِيهِمْ وَغَوَّرُوا الْمَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ وَجَدُوهُ قَدِ احْتَازَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَ وَلَا يَجِدُ الْمُشْرِكُونَ مَاءً.
وَضَمِيرُ وَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي لَفْظِ الْجَمْعانِ مِنْ مَعْنَى: جَمْعُكُمْ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا لَمْ يَبْقَ مَعَادٌ لِضَمِيرِ وَهُمْ إِلَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ وَهُوَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ.
والرَّكْبُ هُوَ رَكْبُ قُرَيْشٍ الرَّاجِعُونَ مِنَ الشَّامِ، وَهُوَ الْعِيرُ. أَسْفَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
أَيْ أَخْفَضَ مِنْ مَنَازِلِهِمَا، لِأَنَّ الْعِيرَ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ، وَقَدْ
16
تَرَكُوا مَاءَ بَدْرٍ عَنْ يَسَارِهِمْ. ذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا لِتَلَقِّي عِيرِهِ رَجَعَ بِالْعِيرِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَمُرُّ بِبَدْرٍ، وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ لِيَنْجُوَ بِالْعِيرِ، فَكَانَ مَسِيرُهُ فِي السُّهُولِ الْمُنْخَفِضَةِ، وَكَانَ رِجَالُ الرَّكْبِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا.
وَالْمَعْنَى: وَالرَّكْبُ بِالْجِهَةِ السُّفْلَى مِنْكُمْ، وَهِيَ جِهَةُ الْبَحْرِ وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَالْمَعْنَى أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُمَا جَيش أبي سُفْيَان بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَعِيرُ الْقَوْمِ أَسْفَلَ مِنَ الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْ عَلِمَ الْعَدُوُّ بِهَذَا الْوَضْعِ لَطَبَقَ جَمَاعَتَيْهِ عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّفَطُّنِ لِذَلِكَ وَصَرَفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يُصَادِفُوا الْعِيرَ فَيَنْتَهِبُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٧] وَلَوْ حَاوَلُوا ذَلِكَ لَوَقَعُوا بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَانْتَصَبَ أَسْفَلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ عَنِ (الرَّكْبِ) أَيْ وَالرَّكْبُ قَدْ فَاتَكُمْ وَكُنْتُمْ تَأْمُلُونَ أَنْ تُدْرِكُوهُ فَتَنْتَهِبُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ.
وَالْغَرَضُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْوَقْتِ، وَبِتِلْكَ الْحَالَةِ: إِحْضَارُهَا فِي ذِكْرِهِمْ، لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَمِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِوَعْدِهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِيهِ جَيْشٌ تُجَاهَ عَدُوِّهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ كَانَ ظَاهِرُهَا مُلَائِمًا لِلْعَدُوِّ، إِذْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي شَوْكَةٍ وَاكْتِمَالِ عُدَّةٍ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْغَلَبَةِ بِحُسْنِ مَوْقِعِ جَيْشِهِ، إِذْ كَانَ بِالْعُدْوَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِسُقْيَاهُمْ وَالَّتِي أَرْضُهَا مُتَوَسِّطَةُ الصَّلَابَةِ، فَأَمَّا جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ الْعَدُوِّ فِي عُدْوَةٍ تَسُوخُ فِي أَرْضِهَا الْأَرْجُلُ مِنْ لِينِ رَمْلِهَا، مَعَ قِلَّةِ مَائِهَا، وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ فَاتَتِ الْمُسْلِمِينَ وَحَلَّتْ وَرَاءَ ظُهُورِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَتْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَاثِقِينَ بِمُكْنَةِ الذَّبِّ عَنْ عِيرِهِمْ، فَكَانَتْ ظَاهِرَةُ هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةَ خَيْبَةٍ وَخَوْفٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَظَاهِرَةَ فَوْزٍ وَقُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مِنْ عَجِيبِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ قَلَبَ تِلْكَ الْحَالَةَ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، فَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا تَعَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فَسَارُوا فِيهَا غَيْرَ مَشْفُوقٍ عَلَيْهِمْ، وَتَطَهَّرُوا وَسَقَوْا، وَصَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ لِجَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَحْلًا يَثْقُلُ فِيهَا السَّيْرُ وَفَاضَتِ الْمِيَاهُ عَلَيْهِمْ، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ
17
تَهْوِينَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَلَا أَعَدُّوا لِلْحَرْبِ عُدَّتَهَا، وَجَعَلُوا مَقَامَهُمْ هُنَالِكَ مَقَامَ لَهْوٍ وَطَرَبٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَصْرِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَرَأَوْا كَيْفَ أَنْجَزَ اللَّهُ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ. فَالَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أَعْلَمُ السَّامِعِينَ بِفَائِدَةِ التَّوْقِيتِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُفَسِّرِ وَصْفُ الْحَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَةُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ قَلِيلَ الْجَدْوَى.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: ٤١] وَعَامِلُ الْحَالِ فعل الْتَقَى [الْأَنْفَال: ٤١] أَيْ فِي حَالِ لِقَاءٍ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، قَدْ جَاءَ أَلْزَمَ مِمَّا لَوْ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ، فَإِنَّ اللِّقَاءَ الَّذِي يَكُونُ مَوْعُودًا قَدْ يَتَأَخَّرُ فِيهِ أَحَدُ الْمُتَوَاعِدَيْنِ عَنْ وَقْتِهِ، وَهَذَا اللِّقَاءُ قَدْ جَاءَ فِي إِبَّانٍ مُتَّحِدٍ وَفِي مَكَانٍ مُتَجَاوِرٍ مُتَقَابِلٍ.
وَمَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمِيعَادِ: اخْتِلَافُ وَقْتِهِ بِأَنْ يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَنِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ فَلَمْ يَأْتُوا عَلَى سَوَاءٍ.
وَالتَّلَازُمُ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا خَفِيَ هُنَا وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى تَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ علمْتُم قلّتكم وكثرتكم، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْحُضُورِ لَا إِلَى الِاخْتِلَافِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ: وَعَلِمْتُمْ قِلَّتَكُمْ وَشَعَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْخَوْفِ مِنْكُمْ لِمَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، أَيْ يَجْعَلُ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ يَتَثَاقَلُ فَلَمْ تَحْضُرُوا عَلَى مِيعَادٍ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى مَا أَفْضَى إِلَيْهِ الْقَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّاسُ مِنْ عُرُوضِ الْعَوَارِضِ وَالْقَوَاطِعِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ.
فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لَوْ هَذِهِ مِنْ قَبِيلِ (لَوِ) الصُّهَيْبِيَّةِ فَإِنَّ لَهَا اسْتِعْمَالَاتٍ مِلَاكُهَا: أَنْ لَا يُقْصَدَ مِنْ (لَوْ) رَبْطُ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا بِانْتِفَاءِ مَضْمُونِ شَرْطِهَا، أَيْ رَبْطُ حُصُولِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ بِحُصُولِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، بَلْ يُقْصَدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، سَوَاءٌ فُرِضَ حُصُولُ مَضْمُونِ شَرْطِهَا أَوْ فُرِضَ انْتِفَاؤُهُ، أَمَّا لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ أَوْلَى بِالْحُصُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر: ١٤]، وَأَمَّا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَوْلَوِيَّةِ مَضْمُونِ
18
الْجَوَابِ بِالْحُصُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: ٢٨]. وَمُحَصِّلُ هَذَا أَنَّ مَضْمُونَ الْجَزَاءِ مُسْتَمِرُّ الْحُصُولِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فِي فَرْضِ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنَةً الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَ السَّامِعِ مَظِنَّةُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا نَقِيضُ مَضْمُونِ الْجَوَابِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ طُفَيْلٍ فِي الثَّنَاءِ عَلَى بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ:
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا تُلَاقِي الَّذِي لَاقَوْهُ مِنَّا لَمَلَّتِ
أَيْ فَكَيْفَ بِغَيْرِ أُمِّنَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٣]، وَكُنَّا أَحَلْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١١].
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، أَيْ فِي وَقْتِ مَا تَوَاعَدْتُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْمُتَوَاعِدِينَ أَنْ لَا يَسْتَوِيَ وفاؤهما بِمَا تواعدا عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْوَفَاءِ بِهِ، أَيْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ التَّوْقِيتَ كَانَ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ تَقْرِيبًا يُقَدِّرُونَهُ بِأَجْزَاءِ النَّهَارِ كَالضُّحَى وَالْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، لَا يَنْضَبِطُ بِالدَّرَجِ وَالدَّقَائِقِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَبِالْأَحْرَى وَأَنْتُمْ لَمْ تَتَوَاعَدُوا وَقَدْ أَتَيْتُمْ سَوَاءً فِي اتِّحَادِ وَقْتِ حُلُولِكُمْ فِي الْعُدْوَتَيْنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ بِقَدَرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ نَصْرَكُمْ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: ١٧].
وَهَذَا غَيْرُ مَا يُقَالُ، فِي تَقَارُبِ حُصُولِ حَالٍ لِأُنَاسٍ: «كَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادٍ» كَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ يَرْثِي هَلَاكَ أَحْلَافِهِ وَأَنْصَارِهِ.
جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَلِّ دِيَارِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادِ
فَإِنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْحُصُولِ المتعاقب.
وَضمير لَاخْتَلَفْتُمْ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الْمُخَاطَبِينَ وَالْغَائِبِينَ، عَلَى تَغْلِيبِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الضَّمَائِرِ مِثْلِهِ.
19
وَقَدْ ظَهَرَ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ لَمْ تَتَوَاعَدُوا وَجِئْتُمْ عَلَى غَيْرِ اتِّعَادٍ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَيْ لِيُحَقِّقَ وَيُنْجِزَ مَا أَرَادَهُ مِنْ نَصْرِكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا كَانَ تَعْلِيلُ الِاسْتِدْرَاك المفاد بلكن قَدْ وَقَعَ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى اللَّهِ كَانَ مُفِيدًا أَنَّ مَجِيئَهُمْ إِلَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ تَوَاعُدٍ كَانَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ عِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى أَمْراً هُنَا الشَّيْءُ الْعَظِيمُ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ يُجْعَلُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَهُمْ لَا يُطْلِقُونَ (الْأَمْرَ) بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مُهِمٍّ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا سمّي (أمرا) لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِعَمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَم: ٢١] وَقَوْلِهِ:
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الْأَحْزَاب: ٣٨].
وكانَ تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ ثُبُوتِ مَعْنَى خَبَرِهَا لِاسْمِهَا مِنَ الْمَاضِي مِثْلَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الرّوم: ٤٧] أَيْ ثَبَتَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْحَقِّيَّةِ عَلَيْنَا من قديم الزَّمن. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَم: ٢١]. فَمَعْنَى كانَ مَفْعُولًا أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُفْعَلُ. فَاشْتُقَّ لَهُ صِيغَةُ مَفْعُولٍ مِنْ فَعَلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حِينَ قُدِّرَتْ مَفْعُولِيَّتُهُ فَقَدْ صَارَ كَأَنَّهُ فُعِلَ، فَوُصِفَ لِذَلِكَ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِتَسَلُّطِ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ لَا فِي الِاسْتِقْبَالِ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: لِيُنْجِزَ اللَّهُ وَيُوقِعَ حَدَثًا عَظِيمًا مُتَّصِفًا مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ عِنْدَ إِبَّانِهِ، أَيْ حَقِيقًا بِأَنْ يُفْعَلَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ فُعِلَ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ الْمُعْتَادَةِ.
وَجُمْلَةُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ وَقَهْرُ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى إِهْلَاكِ الْمَهْزُومِينَ وَإِحْيَاءِ الْمَنْصُورِينَ وَحَفَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِهَانَتِهِ الْمُشْرِكِينَ مَا فِيهِ بَيِّنَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ تَقْطَعُ عُذْرَ الْهَالِكِينَ، وَتَقْتَضِي شُكْرَ الْأَحْيَاءِ. وَدُخُولُ لَامِ التَّعْلِيلِ على فعل لِيَهْلِكَ تَأْكِيدٌ لِلَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لِيَقْضِيَ فِي الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا. وَلَوْ لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ لَقِيلَ: يَهْلِكُ مَرْفُوعًا.
20
وَالْهَلَاكُ: الْمَوْتُ وَالِاضْمِحْلَالُ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْحَيَاةِ. وَالْهَلَاكُ وَالْحَيَاةُ مُسْتَعَارَانِ لِمَعْنَى ذَهَابِ الشَّوْكَةِ، وَلِمَعْنَى نُهُوضِ الْأُمَّةِ وَقُوَّتِهَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهَلَاكِ الْمَوْتُ، وَهُوَ أَشَدُّ الضُّرِّ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِالْهَلَاكِ كُلُّ مَا كَانَ ضُرًّا شَدِيدًا، قَالَ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَة:
٤٢]، وَبِضِدِّهِ الْحَيَاةُ هِيَ أَنْفَعُ شَيْءٍ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهَا مَا كَانَ مَرْغُوبًا، قَالَ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَقَدْ جَمَعَ التَّشْبِيهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَام: ١٢٢]. فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قِلَّةٍ، فَلَمَّا قَضَى اللَّهُ بِالنَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَخْفَقَ أَمْرُ الْمُشْرِكِينَ وَوَهَنُوا، وَصَارَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى جِدَّةٍ وَنُهُوضٍ، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ، عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ عَنْ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَأْيِيدِ اللَّهِ قَوْمًا وَخَذْلِهِ آخَرِينَ بِدُونِ رَيْبٍ.
وَمِنَ الْبَعِيدِ حمل لِيَهْلِكَ ويَحْيى عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَحَمَّلَهُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ فَلَا يَتَحَمَّلُهُ فِي قَوْله: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ لِأَنَّ حَيَاةَ الْأَحْيَاءِ ثَابِتَةٌ لَهُمْ
مِنْ قَبْلِ يَوْمِ بَدْرٍ.
وَدَلَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ الَّذِي فِي عَنْ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى، أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ وَالْحَيَاةُ صَادِرَيْنِ عَنْ بَيِّنَةٍ وَبَارِزَيْنِ مِنْهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ «حَيِيَ» بِإِظْهَارِ الْيَاءَيْنِ، وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ: «حَيَّ» بِإِدْغَامِ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى عَلَى قِيَاسِ الْإِدْغَامِ وَهُمَا وَجْهَانِ فَصِيحَانِ.
وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (بَعْدَ)، أَيْ: بَعْدَ بَيِّنَةٍ يَتَبَيَّنُ بِهَا سَبَبُ الْأَمْرَيْنِ: هَلَاكِ مَنْ هَلَكَ، وَحَيَاةِ مَنْ حَيِيَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دُعَاءَ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ النَّصْرِ، وَسَمِيعٌ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْحِوَارِ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمِنْ مَوَدَّتِهِمْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ هِيَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الَّتِي يُلَاقُونَهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَعَلِيمٌ بِمَا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأُمُورِ الْمَسْمُوعَةِ وَبِمَا يصلح بهم وَيَبْنِي عَلَيْهِ مجد مستقبلهم.
21

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٣]

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا [الْأَنْفَال: ٤٢] فَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ زَمَانُ كَوْنِهِمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا لِوُقُوعِهَا فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُدْوَةِ مِنْ بَدْرٍ، فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ بَدَلٍ.
وَالْمَنَامُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى النَّوْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى زَمَنِ النَّوْمِ وَعَلَى مَكَانِهِ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِي مَنامِكَ بِفعل يُرِيكَهُمُ، فالإراءة إراءة رُؤْيا، وأسندت الإراءة إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ بِمَدْلُولِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: ١٠٢] فَإِنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَغْلِبُهَا الْأَخْلَاطُ، وَلَا تَجُولُ حَوَاسُّهُمُ الْبَاطِنَةُ فِي الْعَبَثِ، فَمَا رُؤْيَاهُمْ إِلَّا مُكَاشَفَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ عَلَى عَالَمِ الْحَقَائِقِ.
وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا مَنَامٍ، جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا، أَيْ قَلِيلَ الْعَدَدِ وَأَخْبَرَ بِرُؤْيَاهُ الْمُسْلِمِينَ فَتَشَجَّعُوا لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَحَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَزَالَ عَنْهُمْ مَا كَانَ
يُخَامِرُهُمْ مِنْ تَهَيُّبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا مِنَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ قِلَّةُ الْعَدَدِ فِي الرُّؤْيَا رَمْزًا وَكِنَايَةً عَنْ وَهَنِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ لَا عَنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ.
وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي رُؤْيَا النَّوْمِ دُونَ الْوَحْيِ، لِأَنَّ صُوَرَ الْمَرَائِي الْمَنَامِيَّةِ تَكُونُ رُمُوزًا لِمَعَانٍ فَلَا تُعَدُّ صُورَتُهَا الظَّاهِرِيَّةُ خُلْفًا، بِخِلَافِ الْوَحْيِ بِالْكَلَامِ.
وَقَدْ حَكَاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا النَّبِيءِ وَحْيٌ، وَقَدْ يَكُونُ النَّبِيءُ قَدْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى تَعْبِيرِهَا الصَّائِبِ، وَقَدْ يَكُونُ صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ فَظَنَّ كَالْمُسْلِمِينَ ظَاهِرَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ. فَرُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
22
لَمْ تُخْطِئْ وَلكنهَا أَو همتهم قِلَّةَ الْعَدَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْغُوبُهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حَاصِلٌ، وَهُوَ تَحَقُّقُ النَّصْرِ، وَلَوْ أُخْبِرُوا بِعَدَدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ لَجَبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ فَضَعُفَتْ أَسْبَابُ النَّصْرِ الظَّاهِرَةُ الْمُعْتَادَةُ الَّتِي تُكْسِبُهُمْ حُسْنَ الْأُحْدُوثَةِ. وَرُؤْيَا النبيء لَا تخطىء، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَارِيَةً عَلَى الصُّورَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْخَارِجِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَخَاصَّةً قَبْلَ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ تَكُونُ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمْزِيَّةً وَكِنَايَةً كَمَا فِي حَدِيثِ رُؤْيَاهُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَيُقَالُ لَهُ: اللَّهُ خَيْرٌ، فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُرَادَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَذْلَ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمَهُمْ أَرَى نَبِيئَهُ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا كِنَايَةً بِأَحَدِ أَسْبَابِ الِانْهِزَامِ، فَإِنَّ الِانْهِزَامَ يَجِيءُ مِنْ قِلَّةِ الْعَدَدِ. وَقَدْ يُمْسِكُ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيَانِ التَّعْبِيرِ الصَّحِيحِ لِحِكْمَةٍ، كَمَا
فِي حَدِيثِ تَعْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ رُؤْيَا الرَّجُلِ الَّذِي قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ النَّبِيءِ لَهُ: «أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا»
وَأَبَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنْهَا وَمَا أَخْطَأَ. وَلَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِيُخْبِرَ الْمُؤْمِنِينَ بأنّهم غالبون الْمُشْركُونَ لَآمَنُوا بِذَلِكَ إِيمَانًا عَقْلِيًّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنَ التَّصْوِيرِ بِالْمَحْسُوسِ، وَلَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ وَلَمْ يُرِهِ تِلْكَ الرُّؤْيَا لَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسِبُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حِسَابًا كَبِيرًا. لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكَثِيرٍ.
وَهَذِهِ الرُّؤْيَا قَدْ مَضَتْ بِالنِّسْبَةِ لِزَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الرُّؤْيَا الْعَجِيبَةِ.
وَالْقَلِيلُ هُنَا قَلِيلُ الْعَدَدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَثِيراً. أَرَاهُ إِيَّاهُمْ قَلِيلِي الْعَدَدِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُكَاشَفَةِ النَّوْمِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ. فَإِنَّ لُغَةَ الْعُقُولِ وَالْأَرْوَاحِ أَوْسَعُ من لُغَة
التخاطب، لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِفَادَةِ عِنْدَهَا عَقْلِيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى مَحْسُوسٍ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ وَبَيْنَ الِاسْتِفَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
وَأخْبر ب «قَلِيل» و «كثير» وَكِلَاهُمَا مُفْرَدٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٦].
23
وَمَعْنَى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أَنَّهُ لَوْ أَرَاكَهُمْ رُؤْيَا مُمَاثِلَةً لِلْحَالَةِ الَّتِي تُبْصِرُهَا الْأَعْيُنُ لَدَخَلَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ الْفَشَلُ، أَيْ إِذَا حَدَّثَهُمُ النَّبِيءُ بِمَا رَأَى، فَأَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ نُفُوسَهُمْ هَلَعٌ، وَإِنْ كَانَ النَّصْرُ مَضْمُونًا لَهُمْ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يَقْتَضِي أنّ الإراءة كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً وَلِمَ يَتْرُكِ اللَّهُ إِرَاءَتَهُ جَيْشَ الْعَدُوِّ فَلَا تَكُونَ حَاجَةٌ إِلَى تَمْثِيلِهِمْ بِعَدَدٍ قَلِيلٍ، قُلْتُ: يَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَا أَنْ يَرَى رُؤْيَا تَكْشِفُ لَهُ عَنْ حَالِ الْعَدُوِّ، فَحَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، وَجَنَّبَهُ مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى كَدَرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْلِمَ رَبَّهُ عَنْ حَالِ الْعَدُوِّ.
وَالْفَشَلُ: الْجُبْنُ وَالْوَهَنُ. وَالتَّنَازُعُ: الِاخْتِلَافُ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْخُطَّةُ الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ مِنْ ثَبَاتٍ أَوِ انْجِلَاءٍ عَنِ الْقِتَالِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أَمْرُ الْقِتَالِ وَمَا يَقْتَضِيهِ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي جُمْلَةِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْعَدُوَّ كَثِيرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تُحَاكِي الصُّورَةَ الَّتِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي مَرَائِي الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ تُحَاكِي الْمَعْنَى الرَّمْزِيَّ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي مِرَائِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، مِثْلَ رُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ سَبْعَ بَقَرَاتٍ، وَرُؤْيَا صَاحِبَيْ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ فِي مِرَائِي الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هَزَّ سَيْفًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ، فَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ رَفْعُ مَا فُرِضَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً. فَمَفْعُولُ سَلَّمَ وَمُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفَانِ إِيجَازًا إِذْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ وَالتَّقْدِيرُ: سَلَّمَكُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ بِأَنْ سَلَّمَكُمْ مِنْ سَبَبِهِمَا، وَهُوَ إِرَاءَتُكُمْ وَاقِعَ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدُوِّ يُلْقِي فِي النُّفُوسِ تَهَيُّبًا لَهُ وَتَخَوُّفًا مِنْهُ، وَذَلِكَ يُنْقِصُ شَجَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوَفِّرَ لَهُمْ مُنْتَهَى الشَّجَاعَةِ.
وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَلَكِنَّهُ سَلَّمَ، لِقَصْدِ زِيَادَةِ إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ بِعِنَايَتِهِ، وَاهْتِمَامًا بِهَذَا الْحَادِثِ.
24
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَذْيِيلٌ لِلْمِنَّةِ، أَيْ: أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ بِتِلْكَ الرُّؤْيَا الرَّمْزِيَّةِ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِي الصُّدُورِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ بِالْمُشَاهَدَاتِ وَالْمَحْسُوسَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا تَتَأَثَّرُ بِالِاعْتِقَادَاتِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْهَزِمُونَ، وَاعْتَقَدْتُمْ ذَلِكَ لِصِدْقِ إِيمَانِكُمْ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُثِيرًا فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ مَا يثيره اعتقادي أَنَّ عَدَدَهُمْ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ لَا يُنَافِي تَوَقُّعَ شِدَّةٍ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ، مِنْ مَوْتٍ وَجِرَاحٍ قَبْلَ الِانْتِصَارِ، فَأَمَّا اعْتِقَادُ قِلَّةِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهَا تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ إِقْدَامًا وَاطْمِئْنَانَ بَالٍ، فَلِعِلْمِهِ بِذَلِكَ أَرَاكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا.
وَمعنى بِذاتِ الصُّدُورِ الْأَحْوَالُ الْمُصَاحِبَةُ لِضَمَائِرِ النُّفُوسِ، فَالصُّدُورُ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا حَلَّ فِيهَا مِنَ النَّوَايَا وَالْمُضْمَرَاتِ، فَكَلِمَةُ ذَاتِ بِمَعْنَى صَاحِبَةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ (ذُو) أَحَدِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ، فَأَصْلُ أَلِفِهَا الْوَاوُ وَوَزْنُهَا (ذَوَتْ) انْقَلَبَتْ وَاوُهَا أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ فَاطِرٍ [٣٨] فِي قَوْله تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هِيَ تَأْنِيثُ ذُو، وَذُو مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى الصُّحْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
لِتَغْنِيَ عَنِّي ذَا إِنَائِكَ أَجْمَعَا (١) يَعْنِي أَنَّ ذَاتَ الصُّدُورِ الْحَالَةُ الَّتِي قَرَارَتُهَا الصُّدُورُ فَهِيَ صَاحِبَتُهَا وَسَاكِنَتُهَا، فَذَاتُ الصُّدُورِ النَّوَايَا وَالْخَوَاطِرُ وَمَا يَهُمُّ بِهِ الْمَرْءُ وَمَا يدبّره ويكيده.
[٤٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٤]
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ عَطْفٌ عَلَى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٤٣] وَهَذِهِ رُؤْيَةُ بَصَرٍ أَرَاهَا اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَانَتْ خَطَأً مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمْ يَرَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِذَلِكَ عُدِّيَتْ رُؤْيَا الْمَنَامِ الصَّادِقَةُ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ، فِي قَوْلِهِ:
_________
(١) أَوله، إِذا قَالَ قلت بِاللَّه حلفة.
يذكر ضيفا أَي إِذا شرب الضَّيْف من إِنَاء اللَّبن وَقَالَ: قدني، أَي حسبي أَقْسَمت عَلَيْهِ بِاللَّه لتغنى عني اذائك أجمعا فَاللَّام فِي (لتغني) لَام الْقسم وَهِي مَفْتُوحَة وتغنى أَي تبعد عني، يَقُولُونَ أغن عني وَجهك أَي أبعده وَأَرَادَ: لَا ترجعه إِلَى. وَذَا انائك: أَي مَا فِي إنائك من اللَّبن وَهُوَ مفعول (تغني) أَي حَلَفت عَلَيْهِ ليشربن جَمِيع مَا فِي الْإِنَاء. وَالْيَاء لتحتيه فِي قَوْله: لتغني مَفْتُوحَة فَتْحة بِنَاء، فَإِن أَصله لتغنين بنُون توكيد فحذفها تَخْفِيفًا وَأبقى الفتحة الَّتِي كَانَت قبلهَا دَلِيلا على أَنَّهَا محذوفة.
25
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال:
٤٣] وَجُعِلَتِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ الْخَاطِئَةُ مُسْنَدَةً إِلَى ضَمَائِرِ الْجَمْعَيْنِ، وَظَاهِرُ الْجَمْعِ يَعُمُّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ. أَرَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلُونَ، وَأَرَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلُونَ. خَيَّلَ اللَّهُ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ قِلَّةَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، بِإِلْقَاءِ ذَلِكَ التَّخَيُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَجَعَلَ الْغَايَةَ مِنْ تَيْنَكِ الرُّؤْيَتَيْنِ نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَثَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَثَرَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ أَثَرًا مُتَّحِدًا، فَكَانَ تَخَيُّلُ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةَ الْمُشْرِكِينَ مُقَوِّيًا لِقُلُوبِهِمْ، وَزَائِدًا لِشَجَاعَتِهِمْ، وَمُزِيلًا لِلرُّعْبِ عَنْهُمْ، فَعَظُمَ بِذَلِكَ بَأْسُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانَ لِيَفُلَّ مِنْ بَأْسِهِمْ إِلَّا شُعُورُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ عَدَدًا وَعُدَدًا، فَلَمَّا أُزِيلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، بِتَخْيِيلِهِمْ قِلَّةَ عَدُوِّهِمْ، خَلُصَتْ أَسْبَابُ شِدَّتِهِمْ مِمَّا يُوهِنُهَا. وَكَانَ تَخَيُّلُ الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَوْنَهُمْ أَقَلَّ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَرْدًا عَلَى غَلَيَانِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ، وَغَارًّا إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَنَالُونَ التَّغَلُّبَ عَلَيْهِمْ بِأَدْنَى قِتَالٍ، فَكَانَ صَارِفًا إِيَّاهُمْ عَنِ التَّأَهُّبِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى فَاجَأَهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَنَتَجَ عَنْ تَخَيُّلِ الْقِلَّتَيْنِ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ تَخَيُّلُ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةَ الْمُشْرِكِينَ مُثَبِّطًا عَزِيمَتَهُمْ، كَمَا كَانَ تَخَيُّلُ الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُثَبِّطًا عَزِيمَتَهُمْ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُفْعَمَةً حَنَقًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِيمَانًا بِفَسَادِ شِرْكِهِمْ، وَامْتِثَالًا أَمْرَ اللَّهِ بِقِتَالِهِمْ، فَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَبِّ بَأْسِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَّا صَرْفُ مَا يُثَبِّطُ عَزَائِمَهُمْ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ، فَكَانُوا مُزْدَهِينَ بِعَدَائِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ أَدْنَى جَوْلَةٍ تَجُولُ بَيْنَهُمْ يَقْبِضُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْضًا، فَلذَلِك لَا يعبؤون بِالتَّأَهُّبِ لَهُمْ، فَكَانَ تَخْيِيلُ مَا يَزِيدُهُمْ تَهَاوُنًا بِالْمُسْلِمِينَ يَزِيدُ تَوَاكُلَهُمْ وَإِهْمَالَ إِجْمَاعِ أَمْرِهِمْ.
قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ السَبْعِينَ وَالْمِائَةِ وَكَانُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ زُهَاءَ أَلْفٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسَبُونَ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلًا، فَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقَوْمِهِ، وَقد حرز الْمُسْلِمِينَ: إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُورٍ، أَيْ قُرَابَةُ الْمِائَةِ، وَكَانُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ.
26
وَهَذَا التَّخَيُّلُ قَدْ يَحْصُلُ مِنِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ وَاخْتِلَافِ الظِّلَالِ، بِاعْتِبَارِ مَوَاقِعِ الرَّائِينَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَوَاقِعِ وَانْخِفَاضِهَا، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الرُّؤْيَةِ عَلَى حَسَبِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَمَوْقِعِ الرَّائِينَ مِنْ مُوَاجَهَتِهَا أَوِ اسْتِدْبَارِهَا، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَحْصُلُ عِنْدَ حُدُوثِ الْآلِ
وَالسَّرَابِ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ ضَبَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلْقَاءُ اللَّهِ الْخَيَالَ فِي نُفُوسِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ.
وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذِ الْتَقَيْتُمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ العجيبة لهاته الإراءة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الْأَنْفَال:
٤٣].
وإِذِ الْتَقَيْتُمْ ظَرْفٌ لِ يُرِيكُمُوهُمْ وَقَوْلُهُ: فِي أَعْيُنِكُمْ تَقْيِيدٌ لِلْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ الْمَرْئِيُّ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِرَاءَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَقْصِدٍ لَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِرَاءَةَ بَصَرِيَّةٌ لَا حُلْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْي الْعين [آل عمرَان:
١٣].
وَالِالْتِقَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ اللِّقَاءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَاللِّقَاءُ وَالِالْتِقَاءُ فِي الْأَصْلِ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ، مِنْ صَدِيقٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَفِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحُضُورِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً [الْأَنْفَال: ١٥] الْآيَةَ.
وَيُقَلِّلُكُمْ يَجْعَلُكُمْ قَلِيلًا، لِأَنَّ مَادَّةَ التَّفْعِيلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْجَعْلُ مُتَعَلِّقًا بِذَاتِ الْمَفْعُولِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ»
، قَالَ الرَّاوِي: يُقَلِّلُهَا أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَاءَةِ كَمَا هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى زِيَادَةَ قَوْلِهِ: فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْلِيلَ لَيْسَ بِالنَّقْصِ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: ٤٢] الْمُتَقَدِّمِ أُعِيدَ هُنَا لِأَنَّهُ عِلَّةُ إِرَاءَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْفَرِيقَ الْآخَرِ قَلِيلًا، وَأَمَّا السَّابِقُ فَهُوَ عِلَّةٌ لِتَلَاقِي الْفَرِيقَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
27
ثُمَّ إِنَّ الْمُشْركين لما يرزوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرَ لَهُمْ كَثْرَةُ الْمُسلمين فَبُهِتُوا، وكغان ذَلِكَ بَعْدَ الْمُنَاجَزَةِ، فَكَانَ مُلْقِيًا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ مَا حَكَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عمرَان [١٣] قَوْله: ترونهم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ.
وَخُولِفَ الْأُسْلُوبُ فِي حِكَايَةِ إِرَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَحِكَايَةِ إِرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا فَنَاسَبَ أَنْ يُحْكَى تَقْلِيلُهُمْ بِإِرَاءَتِهِمْ قَلِيلًا، الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْقَلِيلِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَكَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِعَدُوِّهِمْ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِتَقْلِيلِهِمْ: أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ «تَقْلِيلٌ» الْمُؤَذِنُ بِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي قِلَّتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَذْيِيلٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفًا اعْتِرَاضِيًّا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْعَطْفُ يُسَمَّى: عَطْفًا اعْتِرَاضِيًّا، لِأَنَّهُ عَطْفٌ صُورِيٌّ لَيْسَتْ فِيهِ مُشَارَكَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَتُسَمَّى الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْأُمُورُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ.
وَالرُّجُوعُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَوَّلِ وَانْتِهَاءِ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ رُجُوعُ أَسْبَابِهَا، أَيْ إِيجَادُهَا، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ تَلُوحُ جَارِيَةً بِتَصَرُّفِ الْعِبَادِ وَتَأْثِيرِ الْحَوَادِثِ، وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ الْعَالِيَةَ، وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَتَصَاعَدُ إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ الْمُعْتَادَةُ، لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ مُؤَثِّرُهَا وَمُوجِدُهَا. عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ، عَالِيَهَا وَقَرِيبَهَا، مُتَأَثِّرٌ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَى وَالنَّوَامِيسِ وَالطَّبَائِعِ، فَرُجُوعُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ رُجُوعٌ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ جَرْيِهِ عَلَى النِّظَامِ الْمُعْتَادِ، وَعَدَمِ جَرْيِهِ، فَإِيجَادُ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَلُوحُ حُصُولُهُ بِفِعْلِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ وَالْعِبَادِ، وَهُوَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ الْحَقِّ رَاجِعٌ إِلَى إِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقِ كُلِّ صَانِعٍ. وَالذَّوَاتُ وَأَحْوَالُهَا كُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ، وَمَآلُهَا كُلُّهُ رُجُوعٌ، فَهَذَا لَيْسَ رُجُوعَ ذَوَاتٍ وَلَكِنَّهُ رُجُوعُ تَصَرُّفٍ، كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: ١٥٦].
وَالْمَعْنَى: وَلَا عَجَبَ فِي مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْجَيْشَيْنِ عَلَى خِلَافِ حَالِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمر، فإنّ الإراءة الْمُعْتَادَةَ تَرْجِعُ إِلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة، والإراءة غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَسْبَابٍ يَضَعُهَا اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَتِهِ.
28
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُرْجَعُ- بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ- أَيْ يَرْجِعُهَا، رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَالَّذِي يُرْجِعُهَا هُوَ اللَّهُ فَهُوَ يُرْجِعُهَا إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُرْجَعُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ- أَيْ: تَرْجِعُ بِنَفْسِهَا إِلَى اللَّهِ، وَرُجُوعُهَا هُوَ بِرُجُوع أَسبَابهَا.
[٤٥، ٤٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
لَمَّا عَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ وَدَلَائِلِ عِنَايَتِهِ، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ،
وَكَيْفَ خَذَلَ أَعْدَاءَهُمْ، وَصَرَفَهُمْ عَنْ أَذَاهُمْ، فَاسْتَتَبَّ لَهُمُ النَّصْرُ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، أَقْبَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ يَأْمُرهُم بِمَا يهيءّ لَهُمُ النَّصْرَ فِي الْمَوَاقِعِ كُلِّهَا، وَيَسْتَدْعِي عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا بِهِ قِوَامُ النَّصْرِ فِي الْحُرُوبِ. وَهَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٤] وَجُمْلَةِ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨].
وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْوَصَايَا بِالنِّدَاءِ اهْتِمَامًا بِهَا، وَجُعِلَ طَرِيقُ تَعْرِيفِ الْمُنَادَى طَرِيقَ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَصُّ صِفَاتِهِمْ تِلْقَاءَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: ٥١].
وَاللِّقَاءُ: أَصْلُهُ مُصَادَفَةُ الشَّخْصِ وَمُوَاجَهَتُهُ، بِاجْتِمَاعٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: ٣٧] وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣]. وَقَدْ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى لِقَاءٍ خَاصٍّ وَهُوَ لِقَاءُ الْقِتَالِ، فَيُرَادِفُ الْقِتَالَ وَالنِّزَالَ.
29
وَقَدْ تَقَدَّمَ اللِّقَاءُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: ١٥] وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَةِ: فِئَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ فِئَةُ الْعَدُوِّ، يَعْنِي الْمُشْركين.
و «الفئة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩].
وَالثَّبَاتُ: أَصْلُهُ لُزُومُ الْمَكَانِ دُونَ تَحَرُّكٍ وَلَا تَزَلْزُلٍ، وَيُسْتَعَارُ لِلدَّوَامِ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ عَدَمَ التَّحَرُّكِ، بَلْ أُرِيدَ الدَّوَامُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالصَّبْرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا
وَذِكْرُ اللَّهِ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا: هُوَ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَزِيَادَةً فَإِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ ذَكَرَ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَسَمِعَ الذِّكْرَ بِسَمْعِهِ، وَذَكَّرَ مَنْ يَلِيهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، فَفِيهِ فَوَائِدُ زَائِدَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُجَرَّدِ، وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ ذِكْرِ اللِّسَانِ ظَاهِرُ وَصفه ب «كثير» لِأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يُوصَفُ بِالْقُوَّةِ، وَالْمَقْصُودُ تَذَكُّرُ أَنَّهُ النَّاصِرُ. وَهَذَانِ أَمْرَانِ أُمِرُوا بِهِمَا وَهُمَا يَخُصَّانِ الْمُجَاهِدَ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فَهُمَا لِإِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَعْمَالٍ رَاجِعَةٍ إِلَى انْتِظَامِ جَيْشِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَهِيَ عَلَائِقُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَهِيَ الطَّاعَةُ وَتَرْكُ التَّنَازُعِ، فَأَمَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتَشْمَلُ اتِّبَاعَ سَائِرِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعَةِ بِالتَّعْيِينِ، مِثْلَ الْغَنَائِمِ. وَكَذَلِكَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آرَاءِ الْحَرْبِ،
كَقَوْلِهِ لِلرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ: «لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ وَلَوْ تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ»
. وَتَشْمَلُ طَاعَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَةَ أُمَرَائِهِ فِي حَيَاتِهِ،
لِقَوْلِهِ: «وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي»
وَتَشْمَلُ طَاعَةَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَاوَاتِهِمْ لِأُمَرَائِهِ الْغَائِبِينَ عَنْهُ فِي الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا فِي حُكْمِ الْغَيْبَةِ عَنْ شَخْصِهِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ التَّنَازُعِ فَهُوَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ: بِالتَّفَاهُمِ وَالتَّشَاوُرِ، وَمُرَاجَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَجَعُوا إِلَى أُمَرَائِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ [النِّسَاء: ٨٣]. وَقَوْلِهِ:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النِّسَاء: ٥٩]. وَالنَّهْيُ عَنِ التَّنَازُعِ أَعَمُّ مِنَ
30
الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ: لِأَنَّهُمْ إِذَا نُهُوا عَنِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ، فَالتَّنَازُعُ مَعَ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْشَأَ عَنِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي الْفِطْرَةِ بَسَطَ الْقُرْآنُ الْقَوْلَ فِيهِ بِبَيَان سيّىء آثَارِهِ، فَجَاءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فَحَذَّرَهُمْ أَمْرَيْنِ مَعْلُومًا سُوءُ مَغَبَّتِهِمَا: وَهُمَا الْفَشَلُ وَذَهَابُ الرِّيحِ.
وَالْفَشَلُ: انْحِطَاطُ الْقُوَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال:
٤٣] وَهُوَ هُنَا مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَةُ الْفَشَلِ فِي خُصُوصِ الْقِتَالِ وَمُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُتَقَاعِسِ عَنِ الْقِتَالِ بِحَالِ مَنْ خَارَتْ قُوَّتُهُ وَفَشِلَتْ أَعْضَاؤُهُ، فِي انْعِدَامِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْعَمَلِ. وَإِنَّمَا كَانَ التَّنَازُعُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَشَلِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ التَّغَاضُبَ وَيُزِيلُ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَيُحْدِثُ فِيهِمْ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ الدَّوَائِرَ، فَيَحْدُثُ فِي نُفُوسِهِمُ الِاشْتِغَالُ بِاتِّقَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَتَوَقُّعُ عَدَمِ إِلْفَاءِ النَّصِيرِ عِنْدَ مَآزِقِ الْقِتَالِ، فَيَصْرِفُ الْأُمَّةَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى شُغْلٍ وَاحِدٍ فِيمَا فِيهِ نَفْعُ جَمِيعِهِمْ، وَيَصْرِفُ الْجَيْشَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢] حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ.
وَالرِّيحُ حَقِيقَتُهَا تَحَرُّكُ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجُهُ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلْغَلَبَةِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَنَّ الرِّيحَ لَا يُمَانِعُ جَرْيَهَا وَلَا عَمَلَهَا شَيْءٌ فَشُبِّهَ بِهَا الْغَلَبُ وَالْحُكْمُ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِعُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْبِ مِنْ شَطِبٍ وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
وَفِي «الْكَشَّافِ» قَالَ سُلَيْكُ بْنُ السَّلَكَةِ:
يَا صَاحِبَيَّ أَلَا لَا حَيَّ بِالْوَادِي إِلَّا عَبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أَذْوَادِ
هَلْ تَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ أَوْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي (١)
وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ، فِي دِيبَاجَةِ «الْمَقَامَاتِ» :«قَدْ جَرَى بِبَعْضِ أَنْدِيَةِ الْأَدَبِ الَّذِي رَكَدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ رِيحُهُ».
_________
(١) تنظران من النظرة، أَي الِانْتِظَار. وَالْمعْنَى هَل تترقبان سَاعَة غَفلَة العبيد فتختلسا الذود أَو تعدوان على العبيد غصبا.
31
وَالْمَعْنَى: وَتَزُولُ قُوَّتُكُمْ وَنُفُوذُ أَمْرِكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنَازُعَ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ، وَهُوَ يُوهِنُ أَمْرَ الْأُمَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْفَشَلِ.
ثُمَّ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يَعُمُّ نَفْعُهُ الْمَرْءَ فِي نَفْسِهِ وَفِي عَلَاقَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِمُ الْأُمُورَ الْأَرْبَعَةَ، الَّتِي أُمِرُوا بِهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَفِي قَوْلِهِ:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا الْآيَةَ. أَلَا وَهُوَ الصَّبْرُ، فَقَالَ: وَاصْبِرُوا لِأَنَّ الصَّبْرَ هُوَ تَحَمُّلُ الْمَكْرُوهِ، وَمَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتِلْكَ الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، فَالصَّبْرُ يَجْمَعُ تَحَمُّلَ الشَّدَائِدِ وَالْمَصَاعِبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرُوا بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى مَنْفَعَةٍ لِلصَّبْرِ إِلَهِيَّةٍ، وَهِيَ إِعَانَةُ اللَّهِ لِمَنْ صَبَرَ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي تَصَرُّفَاتِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ، لِأَنَّ حَرْفَ التَّأْكِيدِ فِي مِثْلِ هَذَا قَائِمٌ مُقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِع.
[٤٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٧]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
جُمْلَةُ: وَلا تَكُونُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلا تَنازَعُوا [الْأَنْفَال: ٤٦] عَطْفَ نَهْيٍ عَلَى نَهْيٍ.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جملَة فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: ٤٥] عَطْفَ نَهْيٍ عَلَى أَمْرٍ، إِكْمَالًا لِأَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا يُدْنِيهِمْ مِنَ النَّصْرِ، وَأَنْ يَتَجَنَّبُوا
مَا يُفْسِدُ إِخْلَاصَهُمْ فِي الْجِهَادِ.
وَجِيءَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْبَطَرِ وَالرِّئَاءِ بِطَرِيقَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ إِدْمَاجًا لِلتَّشْنِيعِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَتَكْرِيهًا لِلْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الذَّمِيمَةَ تَتَّضِحُ مَذَمَّتُهَا، وَتَنْكَشِفُ مَزِيدَ الِانْكِشَافِ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَحْوَالِ قَوْمٍ مَذْمُومِينَ
32
عِنْدَ آخَرِينَ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ، وَأَكْشَفُ لِقُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: ٢١] وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا. فَنُهُوا عَنْ أَنْ يُشْبِهُوا حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ لِبَدْرٍ إِذْ خَرَجُوا بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُرِيدَ بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَجْهَ اللَّهِ، وَالْجِهَادُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ.
وَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ جَمَاعَةٌ خَاصَّةٌ، وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ مَضَى خَبَرُ خُرُوجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بِقصد حماية غَيرهم فَلَمَّا بَلَغُوا الْجُحْفَةَ جَاءَهُمْ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ كَبِيرُ الْعِيرِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعِيرَ قَدْ سَلِمَتْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: «لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا نَشْرَبُ بِهَا وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَنُطْعِمُ مَنْ حَضَرَنَا مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى يَتَسَامَعَ الْعَرَبُ بِأَنَّنَا غَلَبْنَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ». فَعَبَّرَ عَنْ تَجَاوُزِهِمُ الْجُحْفَةَ إِلَى بَدْرٍ، بِالْخُرُوجِ لِأَنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ.
وَانْتَصَبَ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، أَيْ بَطِرِينَ مُرَائِينَ، وَوَصَفَهُمْ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ الصِّفَتَيْنِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْبَطَرَ وَالرِّيَاءَ خُلُقَانِ مِنْ خُلُقِهِمْ.
وَ «الْبَطَرُ» إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْفَخْرُ بِهَا، فَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْجُحْفَةِ، خَرَجُوا عُجْبًا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْجِدَّةِ.
«والرئاء» - بِهَمْزَتَيْنِ- أُولَاهُمَا أَصِيلَةٌ وَالْأَخِيرَةُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْيَاءِ لِوُقُوعِهَا مُتَطَرِّفَةً أَثَرَ أَلِفٍ زَائِدَةٍ. وَوَزْنُهُ فِعَالٌ مَصْدَرُ رَاءَى فَاعَلَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَيُقَالُ: مُرَاآةٌ، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، أَيْ بَالَغَ فِي إِرَاءَةِ النَّاسِ عَمَلَهُ مَحَبَّةً أَنْ يَرَوْهُ لِيَفْخَرَ عَلَيْهِمْ.
وسَبِيلِ اللَّهِ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، شَبَّهَ الدِّينَ فِي إبلاغه إِلَى رضى اللَّهِ تَعَالَى، بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى بَيْتِ سَيِّدِ الْحَيِّ لِيَصْفَحَ عَنْ وَارِدِهِ أَوْ يُكْرِمَهُ.
وَجِيءَ فِي يَصُدُّونَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِ وَتَجَدُّدِ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمُكَرِّرِينَ ذَلِكَ وَمُجَدِّدِينَهُ.
وَبِاعْتِبَارِ الْحُدُوثِ كَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً، وَأَمَّا التَّجَدُّدُ فَمُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَضَارِعِيَّةِ وَلَا يُجْعَلُ
الْحَالُ مُقَدَّرَةً.
33
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِصَرِيحِهِ، وَوَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ، لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ بِمَا يَعْمَلُونَ مَجَازٌ فِي عَدَمِ خَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِمْ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ عَنْ عَمَلِهِمْ بِمَا يُجَازِي بِهِ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ مَنِ اعْتَدَى عَلَى حَرَمِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ من ضمير كَالَّذِينَ خَرَجُوا [الْأَنْفَال: ٤٧].
وَإِسْنَادُ الْإِحَاطَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِسْنَادُ الْإِحَاطَةِ إِلَى صَاحِبِ الْعلم مجَاز.
[٤٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
وَإِذْ زَيَّنَ عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الْأَنْفَال: ٤٤] الْآيَةَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، رُتِّبَ نَظْمُهُ عَلَى أُسْلُوبِهِ الْعَجِيبِ لِيَقَعَ هَذَا الظَّرْفُ عَقِبَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ، فَيَكُونُ لَهُ إِتْمَامُ الْمُنَاسَبَةِ بِحِكَايَةِ خُرُوجِهِمْ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ فِيمَا عَرَضَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَحْوَالِ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، مِمَّا كَانَ فِيهِ سَبَبُ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَقَعَ قَوْلُهُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْأَنْفَال: ٤٧] عَقِبَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرِ بِمَا يَنْبَغِي وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِمَنْ لَا يُرْتَضَى، فَيَتِمُّ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْبَدِيعُ الْمُحْكَمُ الِانْتِظَامِ.
وَأَشَارَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ إِلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ خِذْلَانِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ صَرَفَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَيْدًا لَهُمْ حِينَ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِيِّ أَنْ يَجِيءَ فِي جَيْشٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي كِنَانَةَ لِنَصْرِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ خَرَجُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ عِيرِهِمْ،
34
فَأَلْقَى اللَّهُ فِي رَوْعِ سُرَاقَةَ مِنَ الْخَوْفِ، مَا أوجب انخزاله وَجَيْشَهُ عَنْ نَصْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَفْسَدَ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ بِمَا قَذَفَهُ اللَّهُ فِي نَفْسِ سُرَاقَةَ مِنَ الْخَوْفِ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى السَّيْرِ إِلَى إِنْقَاذِ الْعِيرِ ذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ فَكَادَ أَنْ يُثَبِّطَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، فَلَقِيَهُمْ فِي مِسِيرِهِمْ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فِي جُنْدٍ مَعَهُ رَايَةٌ وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ، وَإِنِّي مُجِيرُكُمْ مِنْ كِنَانَةَ، فَقَوِيَ عَزْمُ قُرَيْشٍ عَلَى الْمَسِيرِ، فَلَمَّا أَمْعَنُوا السَّيْرَ وَتَقَارَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَنَازِلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى سُرَاقَةُ الْجَيْشَيْنِ، نَكَصَ سُرَاقَةُ بِمَنْ مَعَهُ
وَانْطَلَقُوا، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ: «إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ» فَقَالَ سُرَاقَةُ «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ» فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ عَزْمِ قُرَيْشٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَالْمَسِيرِ، حَتَّى لَقُوا هَزِيمَتَهُمُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ فِي بَدْرٍ، وَكَانَ خُرُوجُ سُرَاقَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِوَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَان، لِئَلَّا ينثني قُرَيْشٌ عَنِ الْخُرُوج، وَكَانَ انخزال سُرَاقَةَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ لِيَتِمَّ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ خَاطِرُ رُجُوعِ سُرَاقَةَ خَاطِرًا مَلَكِيًّا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ لِأَنَّ سُرَاقَةَ لَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنْ يُسْلِمَ مُنْذُ يَوْمِ لِقَائِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، حِينَ شَاهَدَ مُعْجِزَةَ سَوْخِ قَوَائِمِ فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَخْذِهِ الْأَمَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَتْ لَهُ أَبْيَاتٌ خَاطَبَ بِهَا أَبَا جَهْلٍ فِي قَضِيَّتِهِ فِي يَوْمِ الْهِجْرَةِ، وَمَا زَالَ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لِلْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا، وَإِنَّمَا الْمُزَيِّنُ لَهُمْ سُرَاقَةُ بِإِغْرَاءِ الشَّيْطَانِ، بِمَا سَوَّلَ إِلَى سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ مِنْ تَثْبِيتِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُضِيِّ فِي طَرِيقِهِمْ لِإِنْقَاذِ عِيرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَخْشَوْا غَدْرَ كِنَانَةَ بِهِمْ، وَقِيلَ تَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ، وَلَيْسَ تَمَثُّلُ الشَّيْطَانِ وَجُنْدِهِ بِصُورَةِ سُرَاقَةَ وَجَيْشِهِ بِمَرْوِيٍّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ سُرَاقَةَ كَانَ بِوَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الشَّيْطَانِ أُطْلِقَ عَلَى سُرَاقَةَ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ كَمَا يَقُولُونَ: فُلَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون إِسْنَادًا حَقِيقا أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِخَوَاطِرِ وَسْوَسَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِسْنَاد قَوْله: لَا غالِبَ لَكُمُ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ صُدُورِ الْقَوْلِ وَالنُّكُوصِ مِنْ سُرَاقَةَ الْمُتَأَثِّرِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ.
35
وَقَوْلُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنْ كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ قَوْلٌ فِي نَفْسِهِ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ اسْتَحْضَرَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَقَالَ قَوْلَهُ هَذَا، وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً يَعْنِي رَأَى نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَخَافَ أَنْ يَضُرُّوهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ أَيْ أَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قَوْلِ سُرَاقَةَ فَهُوَ إِعْلَانٌ لَهُمْ بَرَدِّ جِوَارِهِ إِيَّاهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ خَائِنًا لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا نَقْضَ جِوَارٍ أَعْلَنُوا ذَلِكَ لِمَنْ أَجَارُوهُ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ حِينَ أَجَارَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ثُمَّ رَدَّ جِوَارَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: ٥٨] فَالْمَعْنَى: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ جِوَارِكُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: «إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا» فَيَكُونُ قَدِ اقْتَصَرَ عَلَى
تَأْمِينِهِمْ مِنْ غَدْرِ قَوْمِهِ بَنِي كِنَانَةَ. وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً وَمَفْعُولُهَا الثَّانِي مَحْذُوفًا اقْتِصَارًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ إِلَى الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً فَالْمُرَادُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَوَقُّعُ أَنْ يُصِيبَهُ اللَّهُ بِضُرٍّ، مِنْ نَحْوِ الرَّجْمِ بِالشُّهُبِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ قَوْلُ سُرَاقَةَ فَلَعَلَّ سُرَاقَةَ قَالَ قَوْلًا فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَعَلَّهُ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ فِيمَا وَعَدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِعَانَةِ ضَرْبًا مِنْ خِيَانَةِ الْعَهْدِ فَخَافَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْخِيَانَةِ.
وَ «التَّزْيِينُ» إِظْهَارُ الشَّيْءِ زَيْنًا، أَيْ حَسَنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨]، وَفِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٢]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَرَاهُمْ حَسَنًا مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى إِنْقَاذِ الْعِيرِ، ثُمَّ مِنْ إِزْمَاعِ السَّيْرِ إِلَى بَدْرٍ.
وتَراءَتِ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ رَأَتْ كِلْتَا الْفِئَتَيْنِ الْأُخْرَى.
ونَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَعَنْ مُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ: أَنَّ نَكَصَ رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْمٍ، وَمَصْدَرُهُ النُّكُوصُ وَهُوَ مِنْ بَابِ رَجَعَ.
36
وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى نَكَصَ إِذِ النُّكُوصُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْعَقِبَيْنِ، لِأَنَّهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَرَاءِ كَقَوْلِهِمْ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [٦٦] :
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ.
وعَلى مُفِيدَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ السَّيْرِ بِالْعَقِبَيْنِ. وَالْعَقِبَانِ: تَثْنِيَةُ الْعَقِبِ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الرِّجْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧١].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْعَقِبَيْنِ تَفْظِيعُ التَّقَهْقُرِ لِأَنَّ عَقِبَ الرَّجُلِ أَخَسُّ الْقَوَائِمِ لِمُلَاقَاتِهِ الْغُبَار والأوساخ.
[٤٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٩]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
يَتَعَلَّقُ إِذْ يَقُولُ بِأَقْرَبِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨] مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، لِأَنَّ إِذْ لَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَارَنَةِ فِي الزَّمَانِ بَيْنَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ مُتَعَلَّقِهَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ وَاقِعًا فِي وَقْتِ تَزْيِينِ
الشَّيْطَانِ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ فَيَتِمُّ تَعْلِيقُ وَقْتِ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ بِوَقْتِ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا تُطْلَبُ الْمُنَاسَبَةُ لِذِكْرِ هَذَا الْخَبَرِ عَقِبَ الَّذِي وَلِيَهُ هُوَ، وَتِلْكَ هِيَ أَنَّ كِلَا الْخَبَرَيْنِ يَتَضَمَّنُ قُوَّةَ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَضَعْفَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقِينُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّ النَّصْرَ سَيَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ عَنْ طَائِفَةٍ أَعَانَتِ الْمُشْرِكِينَ بِتَأْمِينِهِمْ مِنْ عَدُوٍّ يَخْشَوْنَهُ فَانْحَازَتْ إِلَيْهِمْ عَلَنًا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَقْبِيحَ مَا أَقْحَمَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ إِذْ عَمَدُوا إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ أَقْوِيَاءَ. وَالْخَبَرُ الثَّانِي: عَنْ طَائِفَتَيْنِ شَوَّهَتَا صَنِيعَ الْمُسْلِمِينَ حَمَّقَتَاهُمْ وَنَسَبَتَاهُمْ إِلَى الْغُرُورِ فَأَسَرُّوا ذَلِكَ وَلَمْ يَبُوحُوا بِهِ، وَتَحَدَّثُوا بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ أَسَرُّوهُ فِي نُفُوسِهِمْ.
فَنَظْمُ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ حِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُقَبِّحُونَ أَعْمَالَ الْمُسْلِمِينَ وَيَصِفُونَهُمْ بِالْغُرُورِ وَقِلَّةِ التَّدْبِيرِ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي دِينِهِمُ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا الْغُرُورِ وَيَجُولُ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِثْلُ هَذَا.
37
وَ «الْقَوْلُ» هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: الشَّامِلُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمْ طَائِفَةٌ غَيْرُ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ هُمْ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ. فَيَقُولُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ وَعْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَالِينَ لِلْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ.
وَ «الْمَرَضُ» هُنَا مَجَازٌ فِي اخْتِلَالِ الِاعْتِقَادِ، شُبِّهَ بِالْمَرَضِ بِوَجْهِ سُوءِ عَاقِبَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [١٠].
وَأَشَارُوا بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، وَقَدْ جَرَتِ الْإِشَارَةُ عَلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ، لِأَنَّهُمْ مَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِهِمْ أَوْ مُسْتَحْضَرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهِدِ لَهُمْ وَهُمْ يَتَعَارَفُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ فِي حَدِيثِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
والغرور: الْإِيقَاعُ فِي الْمَضَرَّةِ بِإِيهَامِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦]، وَقَوْلِهِ: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢].
وَالدّين هُوَ الْإِسْلَامُ، وَإِسْنَادُهُمُ الْغُرُورَ إِلَى الدِّينِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥] الْآيَةَ، أَيْ غَرَّهُمْ ذَلِكَ فَخَرَجُوا وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ لِلِقَاءِ جَيْشٍ كَثِيرٍ، وَالْمَعْنَى: إِذْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَقَبْلَ
حُصُولِ النَّصْرِ. فَإِطْلَاقُ الْغُرُورِ هُنَا مَجَازٌ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الدِّينِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمَسُوقَةِ لِبَيَانِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّهَا كَالْعِلَّةِ لِخَيْبَةِ ظُنُونِ الْمُشْرِكِينَ وَنُصَرَائِهِمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَيَّبَ ظُنُونَهُمْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ نَصَرَهُ، وَهُوَ حَكِيمٌ يُكَوِّنُ أَسْبَابَ النَّصْرِ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُهَا الْبَشَرُ.
والتوكّل: الِاسْتِسْلَامُ وَالتَّفْوِيضُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
38
وَجُعِلَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ وَهُوَ عِزَّةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَإِلْفَائِهِ مُنْجِيًا مِنْ مَضِيقِ أَمْرِهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَوَابِ وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَهُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا يَلْقَ السَّمَاحَةَ فِيهِ وَالنَّدَى خُلُقَا
أَيْ يَنَلْ مِنْ كَرَمِهِ وَلَا يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْسِيِّ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْأَسْفَارِ
أَيْ مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِهِ فَسُرُورُهُ لَا يَدُومُ إِلَّا بَعْضَ يَوْمٍ ثُمَّ يُحْزِنُهُ أَخْذُ الثَّأْرِ إِمَّا مِنْ ذَلِكَ الْمَسْرُورِ إِنْ كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ أَوْ مِنْ أَحَدِ قَوْمِهِ وَذَلِكَ يحزن قومه.
[٥٠، ٥١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
لَمَّا وُفِّيَ وَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ حَقَّهُ، وَفُصِّلَتْ أَحْوَالُ هَزِيمَتِهِمْ بِبَدْرٍ، وَكَيْفَ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى ضَعْفِ هَؤُلَاءِ وَقُوَّةِ أُولَئِكَ، بِمَا شَاهَدَهُ كُلُّ حَاضِرٍ حَتَّى لَيُوقِنُ السَّامِعُ أَنَّ مَا نَالَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ خِذْلَانٌ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لَاقُونَ
هَلَاكَهُمْ مَا دَامُوا مُنَاوِئِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، انْتُقِلَ إِلَى وَصْفِ مَا لَقِيَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِمَّا هُوَ مُغَيَّبٌ عَنِ النَّاسِ، لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ وَيَرْتَدِعَ الْكَافِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَمَامِ الْخَبَر عَن قوم بَدْرٍ.
39
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا جَمِيعَ الْكَافِرِينَ حَمْلًا لِلْمَوْصُولِ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ فَتَكُونُ الْآيَةُ اعْتِرَاضًا مُسْتَطْرَدًا فِي خِلَالِ الْقِصَّةِ بِمُنَاسَبَةِ وَصْفِ مَا لَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، الَّذِي عُجِّلَ لَهُمْ فِيهِ عَذَابُ الْمَوْتِ.
وَابْتُدِئَ الْخَبَرُ بِ وَلَوْ تَرى مُخَاطَبًا بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، أَيْ: لَوْ تَرَى أَيُّهَا السَّامِعُ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخَبَرِ خُصُوصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُحْمَلَ الْخِطَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ غَيْرُ النَّبِيءِ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُطْلِعَ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَرَاهُ الْجَنَّةَ فِي عَرْضِ الْحَائِطِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ مَضَى يَكُنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ رَأَيْتَ إِذْ تَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ. فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَكَانَ الْمَاضِي لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، وَهِيَ حَالَةُ ضَرْبِ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ، لِيُخَيَّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ يُشَاهِدُ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُمَا كَانُوا كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجِيبًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَوَفَّى- بِيَاءِ الْغَائِبِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: تَتَوَفَّى- بِتَاءِ التَّأْنِيثِ- رَعْيًا لِصُورَةِ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ.
وَالتَّوَفِّي: الْإِمَاتَةُ سُمِّيَتْ تَوَفِّيًا لِأَنَّهَا تُنْهِي حَيَاةَ الْمَرْءِ أَوْ تَسْتَوْفِيهَا قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: ١١].
وَجُمْلَةُ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَفِّي قَبْضَ أَرْوَاحِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ يَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، أَيْ: يَزِيدُهُمُ الْمَلَائِكَةُ تَعْذِيبًا عِنْدَ نَزْعِ أَرْوَاحِهِمْ، وَهِيَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: يَتَوَفَّى إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّوَفِّي تَوَفِّيًا يَتَوَفَّاهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَافِرِينَ.
وَجُمْلَةُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: يَضْرِبُونَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَا مَوْقِعَ لَهَا مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ:
وَيَقُولُونَ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الْبَقَرَة: ١٢٧]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السَّجْدَة: ١٢].
40
وَذِكْرُ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ: يَضْرِبُونَ جَمِيعَ أَجْسَادِهِمْ. فَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ وَهُوَ مَا دَبَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: ٤٥].
وَكَذَلِكَ الْوُجُوهُ كِنَايَةٌ عَمَّا أَقْبَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ضَرَبْتُهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، كِنَايَةً عَمَّا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ أَيْ ضَرَبْتُهُ فِي جَمِيع جسده.
و «الذَّوْق» مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ، بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ.
وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْحَرِيقِ مِنْ إِضَافَةِ الْجِنْسِ إِلَى نَوْعِهِ، لِبَيَانِ النَّوْعِ، أَيْ عَذَابًا هُوَ الْحَرِيقُ، فَهِيَ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ.
والْحَرِيقِ هُوَ اضْطِرَامُ النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جَهَنَّمُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ عَجَّلَ بِأَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّارِ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْوِينِ، أَيْ: يُذِيقُونَهُمْ، أَوْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشَفِّي، أَوِ الْمُرَادُ بقول الْمَلَائِكَة وَذُوقُوا إِنْذَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَذُوقُونَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الذَّوْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِنْذَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إِبْرَاهِيم: ٣٠] بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ يُؤْذِنُ بِشَيْءٍ سَيَحْدُثُ بَعْدَ التَّمَتُّعِ مُضَادٌّ لِمَا بِهِ التَّمَتُّعُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إِلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ، وَجِيءَ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِتَعْظِيمِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِقَصْدِ التَّنْكِيلِ وَالتَّشَفِّي. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ، مَعَ الْمَجْرُورِ، خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مَوْصُولَةٌ، وَمَعْنَى قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَسْلَفَتْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِيمَا مَضَى، أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَفُرُوعِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ.
وَذِكْرُ الْأَيْدِي اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، وَهِي مَا صدق بِما قَدَّمَتْ بِمَا يَجْتَنِيهِ الْمُجْتَنِي مِنَ الثَّمَرِ، أَوْ يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ مِنَ الْأَثْمَانِ، تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَذُكِرَ رَدِيفُ الْمُشَبَّهِ وَهُوَ الْأَيْدِي الَّتِي هِيَ آلَةُ الِاكْتِسَابِ، أَيْ: بِمَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيكُمْ لَكُمْ.
41
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عَطْفٌ عَلَى بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَالتَّقْدِيرُ:
وَبِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَهَذَا عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِإِيقَاعِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْعِلَّةُ الْأُولَى، الْمُفَادَةُ مِنْ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ تَعْلِيلٌ لِإِيقَاعِ الْعِقَابِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ، الْمُفَادَةُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْبَاءِ وَمَجْرُورِهَا، تَعْلِيلٌ لِصِفَةِ الْعَذَابِ أَيْ هُوَ عَذَابٌ مُعَادِلٌ لِأَعْمَالِهِمْ، فَمَوْرِدُ الْعِلَّتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكِنْ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ.
وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةٌ عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ الْأَلِيمَ كَانَ كِفَاءً لِلْعَمَلِ الْمُجَازَى عَنْهُ دُونَ إِفْرَاطٍ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّعْلِيلَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْعَذَابُ، فَجَعَلَهُمَا سَبَبَيْنِ لِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَنَّ التَّعْذِيبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُ الْإِثَابَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَرْكَ اللَّهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِهِ إِذَا شَاءَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِظُلْمٍ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ الْعِقَابُ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَالْفَوَاحِشِ، وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ فَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَقَدْ يُعَوَّضُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ بِتَرْضِيَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَا فِي «الْكَشَّافِ» غَيْرَ خَالٍ عَنْ تَعَسُّفٍ حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْإِسْرَاعُ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْعَدْلِ أَوْ لِلْحِكْمَةِ.
وَنَفْيُ ظَلَّامٍ- بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ- لَا يُفِيدُ إِثْبَاتَ ظُلْمٍ غَيْرِ قَوِيٍّ لِأَنَّ الصِّيَغَ لَا مَفَاهِيمَ لَهَا، وَجَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى النَّفْيِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا، وَيُزَادُ هُنَا الْجَوَابُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ، لَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُهُ، بِالْعَبِيدِ الْكَثِيرِينَ، فَعُبِّرَ بِالْمُبَالَغَةِ عَنْ كَثْرَةِ أَعْدَادِ الظُّلْمِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَفْرَادِ مَعْمُولِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْعَبِيدِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: لِعَبِيدِهِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: ٤١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِيدُ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُرَادِفُ النَّاسَ كَمَا أُطْلِقَ الْعِبَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فِي سُورَة يس [٣٠].
42

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٢]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)
كَدَأْبِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ حَذْفٌ تَابِعٌ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَحَدَّثُوا عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَوْا بِخَبَرٍ دُونَ مُبْتَدَإٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَحْذُوفٌ، فَقُدِّرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ.
فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ، مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الْمَأْلُوفَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَخْصِيصِ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ، فَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١] كَذَّبُوا بِآياتِنا وَهُنَا كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَهُنَالِكَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [آل عمرَان ١١] وَهُنَا إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ.
فَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ بَين كَذَّبُوا [آل عمرَان: ١١] وكَفَرُوا فَلِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ شَارَكُوا الْمُشْرِكِينَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَفِي جَحْدِ دَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرُوا هُنَا ابْتِدَاءً بِالْأَفْظَعِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَعُبِّرَ بالْكفْر بِالْآيَاتِ عَن جحد الْآيَات الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَصْرَحُ فِي إِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالَّتِي بَعْدَهَا، فَذُكِرَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ، أَيِ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَحْدُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ. فَأَمَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١] فَقَدْ ذُكِرَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ، أَيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ مُتَبَادِرٌ فِي مَعْنَى تَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَ بِهِ، وَإِلْحَادِ مَنْ قَصَدَ الْفِتْنَةَ بِمُتَشَابِهِهِ، فَعُبِّرَ عَنِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي تَكْذِيبِ رَسُولِهِمْ بِوَصْفِ التَّكْذِيبِ.
فَأَمَّا الْإِظْهَارُ هُنَا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، فَاقْتَضَاهُ أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرٌ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ اللَّهِ فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِيَدُلَّ عَلَى الذَّاتِ بِعُنْوَانِ الْإِلَهِ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْدَانِيَّةُ.
وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي آلِ عِمْرَانَ فَلِكَوْنِ التَّكْذِيبِ تَكْذِيبًا لِآيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى ثُبُوتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّكَلُّمِ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا، دُونَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١]، فَلِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ قُوَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى لَازِمِهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الضُّرِّ بِهِمْ، وَيُنْكِرُونَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُمْ، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ التَّعْرِيضِيِّ الَّذِي هُوَ إِبْلَاغُ هَذَا الْإِنْذَارِ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١] لَمْ يُقْصَدْ إِلَّا الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ إِذَا عَاقَبَ، فَهُوَ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، عَقِبَهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: ١٢] الْآيَةَ.
وَزِيدَ وَصْفُ «قَوِيٌّ» هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَالْقَوِيُّ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ، وَحَقِيقَتُهَا كَمَالُ صَلَابَةِ الْأَعْضَاءِ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرَادُ مِنْهَا، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: ١٤٥]. وَهِيَ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا اللزومي وَهِي مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِ مَا تتعلّق بِهِ إِرَادَته تَعَالَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ كَانَ قَوِيًّا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ عِقَابُ قَوِيٍّ شَدِيدِ الْعِقَابِ، كَقَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٤٢]، وَقَوْلِهِ:
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: ١٠٢].
[٥٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٣]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٥٢] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا إِلَخْ أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تَسَبَّبُوا بِهَا فِي زَوَالِ نِعْمَتِهِمْ.
44
وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَبِالْخَبَرِ. وَالتَّسْبِيبُ يَقْتَضِي أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ فَغَيَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّقْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَسْلُبُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَسَبَّبُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي زَوَالِ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَص: ٥٨].
وَهَذَا إِنْذَارٌ لِقُرَيْشٍ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ بَطِرُوا النِّعْمَةَ.
فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَقْتَضِي تَجَدُّدَ النَّفْي ومنفيّه.
و «التَّغْيِير» تَبْدِيلُ شَيْءٍ بِمَا يُضَادُّهُ فَقَدْ يَكُونُ تَبْدِيلَ صُورَةِ جِسْمٍ كَمَا يُقَالُ: غَيَّرْتُ دَارِي، وَيَكُونُ تَغْيِيرَ حَالٍ وَصِفَةٍ وَمِنْهُ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ أَيْ صِبَاغُهُ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُخَالِفُ، فَتَغْيِيرُ النِّعْمَةِ إِبْدَالُهَا بِضِدِّهَا وَهُوَ النِّقْمَةُ وَسُوءُ الْحَالِ، أَيْ تَبْدِيلُ حَالَةٍ حَسَنَةٍ بِحَالَةٍ سَيِّئَةٍ.
وَوَصْفُ النِّعْمَةِ بِ أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ أَصْلَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ.
وَمَا بِأَنْفُسِهِمْ مَوْصُولٌ وَصِلَةٌ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا اسْتَقَرَّ وَعَلِقَ بهم. وَمَا صدق مَا النِّعْمَةُ الَّتِي أنعم الله عَلَيْهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّغْيِيرِ تَغْيِيرُ سَبَبِهِ. وَهُوَ الشُّكْرُ بِأَنْ يُبَدِّلُوهُ بِالْكُفْرَانِ.
ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ تَكُونُ صَالِحَةً ثُمَّ تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهَا بِبَطَرِ النِّعْمَةِ فَيَعْظُمُ فَسَادُهَا، فَذَلِكَ تَغْيِيرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُدَاةً لَهُمْ، فَإِذَا أَصْلَحُوا اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ مِثْلَ قَوْمِ يُونُسَ وَهُمْ أَهْلُ (نِينَوَى)، وَإِذَا كَذَّبُوا وَبَطِرُوا النِّعْمَةَ غَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى عَذَابٍ وَنِقْمَةٍ. فَالْغَايَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَتَّى لِانْتِفَاءِ تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْأَقْوَامِ هِيَ غَايَةٌ مُتَّسِعَةٌ، لِأَنَّ الْأَقْوَامَ إِذَا غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ هُدًى أَمْهَلَهُمُ اللَّهُ زَمَنًا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَإِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَقَدْ نَبَّهَهُمْ إِلَى اقْتِرَابِ الْمُؤَاخَذَةِ ثُمَّ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالنَّظَرِ فَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ غَيَّرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِإِبْدَالِهَا بِالْعَذَابِ أَوِ الذُّلِّ أَوِ الْأَسْرِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَشُورِيِّينَ.
45
وأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً أَيْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُضْمِرُهُ النَّاسُ وَمَا يَعْمَلُونَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَذِكْرُ صِفَةِ سَمِيعٌ قَبْلَ صِفَةِ عَلِيمٌ يُومِئُ إِلَى أَنَّ التَّغْيِيرَ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُعَرَّضُ بِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ آلِهَةً غَيْرَ الله تَعَالَى.
[٥٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّسْمِيعِ، تَقْرِيرٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَخُولِفَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ، وَزِيَادَةً لِلْفَائِدَةِ، بِذِكْرِ التَّكْذِيبِ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الْكُفْرِ هُنَاكَ، وَهُمَا سَبَبَانِ لِلْأَخْذِ وَالْإِهْلَاكِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
وَذِكْرُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ هُنَا دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَنَّ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْمُجْتَرِئِ، يَزِيدُ جَرَاءَتَهُ قُبْحًا لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّهَا جَرَاءَةٌ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ الرَّبَّ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ.
وَعُبِّرَ بِالْإِهْلَاكِ عِوَضَ الْأَخْذِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِيُفَسِّرَ الْأَخْذَ بِأَنَّهُ آلَ إِلَى الْإِهْلَاكِ، وَزِيدَ
الْإِهْلَاكُ بَيَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ إِهْلَاكُ الْغَرَقِ.
وَتَنْوِينُ كُلٌّ لِلتَّعْوِيضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: وَكُلُّ الْمَذْكُورِينَ، أَيْ آلُ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ من قبلهم.
[٥٥- ٥٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٧]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى ذِكْرِ كُفَّارٍ آخَرِينَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ عَاهَدُوا
46
النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ، وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ، وإنّما وَصفهم ب شَرَّ الدَّوَابِّ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَعْوَةِ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَمُعْجِزَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْطَعُ، وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ، فَمَنْ يَجْحَدُهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِمَا لَا عَقْلَ لَهُ، وَقَدِ انْدَرَجَ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي جِنْسِ شَرَّ الدَّوَابِّ.
وَتَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الْأَنْفَال:
٢٢] الْآيَةَ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ.
وَالْفَاءُ فِي فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَطَفَتْ صِلَةً عَلَى صِلَةٍ، فَأَفَادَتْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصِّلَةِ، وَأَنَّهَا تَمَامُ الصِّلَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلْإِيمَاءِ، أَيْ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَاسْتَمَرَّ كُفْرُهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ عَطَفَ هُنَا بِالْفَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ إِجْرَاءِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، وَأَتَى بِصِلَةِ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ ثُبُوتِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْجُوٍّ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ.
فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ مَعَ عَدَمِ إِيلَاءِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ، لِقَصْدِ إِفَادَةِ تَقْوِيَةِ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، أَيِ الَّذِينَ يَنْتَفِي الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ انْتِفَاءً قَوِيًّا فَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهُ أَشَدَّ الِابْتِعَادِ.
وَلَيْسَ التَّقْدِيمُ هُنَا مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الصِّلَةِ، وَلِأَنَّ
الْأَكْثَرَ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ، إِذَا لَمْ يَقَعِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَقِبَ حَرْفِ النَّفْيِ، أَنْ لَا يُفِيدَ تَقْدِيمُهُ إِلَّا التَّقَوِّيَ، دُونَ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢٧٢] إِذْ لَا يُرَادُ وَأَنْتُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَدَلًا مُطَابِقًا، فَالَّذِينَ عَاهَدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وتعدية عاهَدْتَ بِمن لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْتِزَامًا مِنْ جَانِبِهِمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ أَخَذْتُ مِنْهُ عَهْدًا، أَيِ الْتِزَامًا،
47
فَلَمَّا ذُكِرَ فِعْلُ الْمُفَاعَلَةِ، الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ الْتِزَامُهُمْ بِأَنْ لَا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَيْسَتْ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً لِعَدَمِ مَتَانَةِ الْمَعْنَى إِذْ يَصِيرُ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَعْضِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ قُرَيْظَةُ فَإِنَّهُمْ عَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحَارِبُوهُ وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ فَأَمَدُّوا الْمُشْرِكِينَ بِالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاعْتَذَرُوا فَقَالُوا: نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا، ثُمَّ عَاهَدُوهُ أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ فَنَكَثُوا عَهْدَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَالُوا مَعَ الْأَحْزَابِ، وَأَمَدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالْأَدْرَاعِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ قُرَيْظَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ بَعْضِ قَبَائِلِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخَصُّهَا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢] الْآيَةَ. وَقَدْ نَقَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ عَهْدَ النُّصْرَةِ فِي أحد، فانخزل بِمَنْ مَعَهُ وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ. وَقَدْ ذُكِرَ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ عَهْدُ فِرَقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِإِجْرَاءِ صِلَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ غَلَبَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَالتَّعْبِيرُ، فِي جَانِبِ نَقْضِهِمُ الْعَهْدَ، بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ مِنْهُمْ وَيَتَكَرَّرُ، بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ عَنْهُ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّأْيِيسِ مِنْ وَفَائِهِمْ بِعَهْدِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ إِلَخْ. فَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ وَيَنْقُضُونَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.
وَالْمُرَادُ بِ كُلِّ مَرَّةٍ كُلُّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ الَّتِي يَحِقُّ فِيهَا الْوَفَاءُ بِمَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَكَرَّرَ الْعَهْدُ أَمْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، لِأَنَّ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ كُلَّمَا دَعَا دَاعٍ إِلَيْهِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَبْلَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ، فَالنَّقْضُ الْحَاصِلُ مِنْهُمْ حَصَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، بِأَنِ امْتَدَّ زَمَانُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَالنَّقْضُ مِنْهُمْ قَدْ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ،
48
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ هُوَ هُوَ، فَلَا جَدْوَى فِي ادِّعَاءِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَوْ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَنْقُضُونَ. وَعَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ التَّقْوَى عَنْهُمْ صِفَةٌ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُمْ، وَمَلَكَةٌ فِيهِمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ الْمَنْفِيِّ مِنْ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَوُقُوعُ فِعْلِ يَتَّقُونَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمُّ سَائِرَ جِنْسِ الِاتِّقَاءِ وَهُوَ الْجِنْسُ الْمُتَعَارَفُ مِنْهُ، الَّذِي يتهمّم بِهِ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ وَالْمُتَدَيِّنُونَ، فَيَعُمُّ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَخَشْيَةَ عِقَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَعُمُّ اتِّقَاءَ الْعَارِ، وَاتِّقَاءَ الْمَسَبَّةِ وَاتِّقَاءَ سُوءِ السمعة. فإنّ الخسيس بِالْعَهْدِ، وَالْغَدْرَ، مِنَ الْقَبَائِحِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَحْلَامِ، وَعِنْدَ الْعَرَبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ عَدِمَ مَنْ يَرْكَنُ إِلَى عَهْدِهِ وَحِلْفِهِ، فَيَبْقَى فِي عُزْلَةٍ مِنَ النَّاسِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ قَدْ غَلَبَهُمُ الْبُغْضُ فِي الدِّينِ، فَلَمْ يَعْبَأُوا بِمَا يَجُرُّهُ نَقْضُ الْعَهْدِ، مِنَ الْأَضْرَارِ لَهُمْ.
وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْهُمْ فِيمَا يَأْتِي، لَا جَرَمَ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ نَكَالًا لِغَيْرِهِمْ، مَتَى ظَفِرَ بِهِمْ فِي حَرْبٍ يُشْهِرُونَهَا عَلَيْهِ أَوْ يُعِينُونَ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ.
وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) مَزِيدَةٍ بَعْدَهَا (مَا) لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ وُقُوعِ الشَّرْطِ وَبِذَلِكَ تَنْسَلِخُ (إِنْ) عَنِ الْإِشْعَارِ بِعَدَمِ الْجُرْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ وَزِيدَ التَّأْكِيدُ بِاجْتِلَابِ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَفِي «شَرْحِ الرَّضِيِّ عَلَى الْحَاجِبِيَّةِ»، عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ: لَا يَجِيءُ (إِمَّا) إِلَّا بِنُونِ التَّأْكِيدِ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ [مَرْيَم: ٢٦]. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ
دَخَلَتِ النُّونُ مَعَ إِمَّا: إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِمَّا الَّتِي هِيَ حَرْفُ انْفِصَالٍ فِي قَوْلِكَ:
جَاءَنِي إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو.
وَقُلْتُ: دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَ (إِن) المؤكّدة بِمَا، غَالِبٌ، وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، فَقَدْ قَالَ الْأَعْشَى:
49
فَلَمْ يُدْخِلْ عَلَى الْفِعْلِ نُونَ التَّوْكِيدِ.
وَالثَّقَفُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، أَيْ: فَإِنْ وَجَدْتَهُمْ وَظَفِرْتَ بِهِمْ فِي حَرْبٍ، أَيِ انْتَصَرْتَ عَلَيْهِمْ.
وَالتَّشْرِيدُ: التَّطْرِيدُ وَالتَّفْرِيقُ، أَيْ: فَبَعِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَدْ يُجْعَلُ التَّشْرِيدُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْوِيفِ وَالتَّنْفِيرِ.
وَجُعِلَتْ ذَوَاتُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ سَبَبَ التَّشْرِيدِ بِاعْتِبَارِهَا فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِالْهَزِيمَةِ وَالنَّكَالِ، فَهُوَ مِنْ إِنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِالذَّوَاتِ وَالْمُرَادُ أَحْوَالُ الذَّوَاتِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣]. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَشْرِيدِ مَنْ خَلْفَهُمْ هُوَ مَا أَوْجَبَ التَّنْكِيلَ بِهِمْ وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ.
وَالْخَلْفُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِجَامِعِ الِاتِّبَاعِ، وَنَظِيرُهُ (الْوَرَاءُ). فِي قَوْلِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
«وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي». وَقَالَ وَفْدُ الْأَشْعَرِيِّينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا»، وَالْمَعْنَى: فَاجْعَلْهُمْ مَثَلًا وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَرَقَّبُونَ مَاذَا يَجْتَنِي هَؤُلَاءِ مِنْ نَقْضِ عَهْدِهِمْ فَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ نَكَّلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرَيْظَةَ حِينَ حَاصَرَهُمْ وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ بِأَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، فَقَتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى الْعَدُوِّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ إِرْهَابِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَضْعِفُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ فِي هَذَا الْإِغْلَاظِ عَلَى النَّاكِثِينَ تَحْرِيضٌ عَلَى عُقُوبَتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا. وَفِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ يَصُدُّ أَمْثَالَهُمْ عَنِ النَّكْثِ وَيَكْفِي الْمُؤْمِنِينَ شَرَّ النَّاكِثِينَ الْخَائِنِينَ. فَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الشِّدَّةُ كَوْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِعُمُومِ الْعَالَمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ شِدَّةٍ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: ١٧٩].
50
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رَاجِعٌ إِلَى مِنْ الْمَوْصُولَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَدْلُولِ صِلَتِهَا جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ.
وَالتَّذَكُّرُ تَذَكُّرُ حَالَةِ الْمُثْقَفِينَ فِي الْحَرْبِ الَّتِي انْجَرَّتْ لَهُمْ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، أَيْ لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا حَلَّ بِنَاقِضِي الْعَهْدِ مِنَ النَّكَالِ، فَلَا يُقْدِمُوا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، فَآلَ
مَعْنَى التَّذَكُّرِ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ التَّذَكُّرِ وَإِرَادَةُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ وَغلب فِيهِ.
[٥٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٨]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)
عَطْفُ حُكْمٍ عَامٍّ لِمُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ الْخَائِنِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ الَّذِينَ تَلُوحُ مِنْهُمْ بَوَارِقُ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، بِحَيْثُ يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا فِيهِ مُخَيِّلَةٌ بِعَدَمِ وَفَائِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَإِذ هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْ مُسَالَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَلَا يَنْتَفِعُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مُسَالَمَتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَالْخَوْفُ تَوَقُّعُ ضُرٍّ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْخَوْفُ الْحَقُّ الْمَحْمُودُ. وَأَمَّا تَخَيُّلُ الضُّرِّ بِدُونِ أَمَارَةٍ فَلَيْسَ مِنَ الْخَوْفِ وَإِنَّمَا هُوَ الْهَوَسُ وَالتَّوَهُّمُ. وَخَوْفُ الْخِيَانَةِ ظُهُورُ بَوَارِقِهَا. وَبُلُوغُ إِضْمَارِهِمْ إِيَّاهَا، بِمَا يَتَّصِلُ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ أُولَئِكَ وَمَا يَأْتِي بِهِ تَجَسُّسُ أَحْوَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩] وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النِّسَاء: ٣].
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩].
وقَوْمٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ قَوْمٍ تَخَافُ مِنْهُمْ خِيَانَةً.
وَالْخِيَانَةُ: ضِدُّ الْأَمَانَةِ، وَهِيَ هُنَا: نَقْضُ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْوَفَاءَ مِنَ الْأَمَانَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخِيَانَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
51
وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَإِلْقَاءُ الشَّيْءِ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٠].
وَإِنَّمَا رُتِّبَ نَبْذُ الْعَهْدِ عَلَى خَوْفِ الْخِيَانَةِ، دُونَ وُقُوعهَا، لِأَن شؤون الْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ الظُّنُونِ وَمَخَائِلِ الْأَحْوَالِ وَلَا يُنْتَظَرُ تَحَقُّقُ وُقُوعِ الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّهُ إِذَا تَرَيَّثَ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي ذَلِكَ يَكُونُونَ قَدْ عَرَّضُوا الْأُمَّةَ لِلْخَطَرِ، أَوْ لِلتَّوَرُّطِ فِي غَفْلَةٍ وَضَيَاعِ مَصْلَحَةٍ، وَلَا تُدَارُ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ بِمَا يُدَارُ بِهِ الْقَضَاءُ فِي الْحُقُوقِ، لِأَنَّ
الْحُقُوقَ إِذَا فَاتَتْ كَانَتْ بَلِيَّتُهَا عَلَى وَاحِدٍ، وَأَمْكَنَ تَدَارُكُ فَائِتِهَا. وَمَصَالِحُ الْأُمَّةِ إِذَا فَاتَتْ تَمَكَّنَ مِنْهَا عَدُوُّهَا، فَلِذَلِكَ عُلِّقَ نَبْذُ الْعَهْدِ بِتَوَقُّعِ خِيَانَةِ الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: «خُذِ اللِّصَّ قَبْلَ يَأْخُذَكَ»، أَيْ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لِصٌّ.
وعَلى سَواءٍ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَبْذًا عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (انْبِذْ) أَيْ حَالَةَ كَوْنِكَ عَلَى سَوَاءٍ.
وعَلى فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ فَهِيَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَدْخُولَهَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْتَلَى عَلَيْهِ.
وسَواءٍ وَصْفٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦]. وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِوَاءِ مَعَ مَعْنَى (عَلَى) الطَّرِيقُ، فَعُلِمَ أَنَّ سَواءٌ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَصْفُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى ذاتِ أَلْواحٍ [الْقَمَر: ١٣]، أَيْ سَفِينَةٍ ذَات أَلْوَاح. وَقَوله النَّابِغَةِ:
كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا أَيِ الْحَيَّةُ ذَاتُ الصَّفَا.
وَوَصْفُ النَّبْذِ أَوِ النَّابِذِ بِأَنَّهُ عَلَى سَوَاءٍ، تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمَاشِي عَلَى طَرِيقٍ جَادَّةٍ لَا الْتِوَاءَ فِيهَا، فَلَا مُخَاتَلَةَ لِصَاحِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٩] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ، فِي ضِدِّهِ: هُوَ يَتْبَعُ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، أَيْ يُرَاوِغُ وَيُخَاتِلُ.
وَالْمَعْنَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ نَبْذًا وَاضِحًا عَلَنًا مَكْشُوفًا.
52
وَمَفْعُولُ (انْبِذْ) مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ [الْأَنْفَال: ٥٦] وَقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أَيِ انْبِذْ عَهْدَهُمْ.
وَعُدِّيَ «انْبِذْ» بِ (إِلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى ارْدُدْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ ذَلِك لَا يَسْتَمِرَّ عَلَى عَهْدِهِمْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي كَيْدِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَخُونُهُمْ لأنّ أمره ينْبذ عَهده مَعَهم ليستلزم أَنَّهُ لَا يَخُونُهُمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تَذْيِيلٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً إِلَخْ تَصْرِيحًا وَاسْتِلْزَامًا. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْخِيَانَةِ فَلَا تَسْتَمِرَّ عَلَى عَهْدِهِمْ فَتَكُونَ مُعَاهِدًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَلِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ مِنَ الْخَائِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ
خَوَّاناً أَثِيماً
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧]. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ النَّحَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: «هَذَا مِنْ مُعْجِزِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ مِثْلُهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ وَكَثْرَةِ مَعَانِيهِ».
قُلْتُ: وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِرَدِّ عَهْدِهِمْ وَنَبْذِهِ إِلَيْهِمْ فَهِيَ مُغْنِيَةٌ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ، وَتَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذَا مِنْ نكت الإعجاز.
[٥٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩)
تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَدَأَهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْخِيَانَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ، وَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أِبَيِّ سَلُولَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُلُولِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَجَوْا يَوْمَ بَدْرٍ، وَطَمْأَنَةٌ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ سَيُدَالُونَ مِنْهُمْ، وَيَأْتُونَ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، وَتَهْدِيدٌ لِلْعَدُوِّ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُمَكِّنُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمِينَ.
وَالسَّبْقُ مُسْتَعَارٌ لِلنَّجَاةِ ممّن يطْلب، والتلفّت مِنْ سُلْطَتِهِ. شَبَّهَ الْمُتَخَلِّصَ مِنْ طَالِبِهِ بِالسَّابِقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: ٤] وَقَالَ بَعْضُ بَنِي فَقْعَسٍ:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا إِنَّا كَذَلِك مَا تحفى وَنَنْتَعِلُ
أَيْ كَأَنَّكَ لَمْ يَفُتْكَ مَا فَاتَكَ إِذَا أَدْرَكْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ السَّبْقُ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، أَيْ هُمْ وَإِنْ ظَهَرَتْ نَجَاتُهُمُ الْآنَ، فَمَا هِيَ إِلَّا نَجَاةٌ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ، فَهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ، أَوْ لَا يُعْجِزُونَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يُصَيِّرُونَ مَنْ أَفْلَتُوا مِنْهُ عَاجِزًا عَنْ نَوَالِهِمْ، كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فسيحة فَهَل تعج زنّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُعْجِزُونَ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَا تَحْسَبَنَّ- بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَلا يَحْسَبَنَّ- بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَفْعُول الأول لحسب، فَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنًا، وَهَذَا اجْتِرَاءٌ مِنْهُ على أُولَئِكَ الايمة وَصِحَّةِ رِوَايَتِهِمْ، وَاحْتَجَّ لَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِإِضْمَارِ مَفْعُولٍ أَوَّلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا، وَاحْتَجَّ لَهَا الزَّجَّاجُ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) قَبْلَ سَبَقُوا فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: حُذِفَ الْفَاعِلُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّهُمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ تُثِيرُهُ جُمْلَةُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ أَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ فَالْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ هُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَكْسُورَةِ وَالْمَفْتُوحَةِ تَعْلِيلٌ إِلَّا أَنَّ الْمَكْسُورَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْمَفْتُوحَةَ تَعْلِيل صَرِيح.
[٦٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)
عطف جُمْلَةُ: وَأَعِدُّوا عَلَى جُمْلَةِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الْأَنْفَال: ٥٧] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا [الْأَنْفَال: ٥٩]، فَتُفِيدُ مَفَادَ الِاحْتِرَاسِ عَنْ مُفَادِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
54
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا يُفِيدُ تَوْهِينًا لِشَأْنِ الْمُشْرِكِينَ، فَتَعْقِيبُهُ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ: لِئَلَّا يَحْسَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَارُوا فِي مُكْنَتِهِمْ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِرَاسِ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لَهُمْ هُوَ سَبَبُ جَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ هَيَّأَ أَسْبَابَ اسْتِئْصَالِهِمْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا.
وَالْإِعْدَادُ التَّهْيِئَةُ وَالْإِحْضَارُ، وَدَخَلَ فِي مَا اسْتَطَعْتُمْ كُلُّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ النَّاسِ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْعُدَّةِ.
وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِنَّمَا يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ الَّذِينَ هُمْ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَصَالِحِهَا.
وَالْقُوَّةُ كَمَالُ صَلَاحِيَةِ الْأَعْضَاءِ لِعَمَلِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٥٢] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَتُطْلَقُ الْقُوَّةُ مَجَازًا عَلَى شِدَّةِ تَأْثِيرِ شَيْءِ ذِي أَثَرٍ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى سَبَبِ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ، فَقُوَّةُ الْجَيْشِ شِدَّةُ وَقْعِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَقُوَّتُهُ أَيْضًا سِلَاحُهُ وَعَتَادُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِوَاسِطَتَيْنِ، فَاتِّخَاذُ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالْأَقْوَاسِ وَالنِّبَالِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي جُيُوشِ الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ، وَاتِّخَاذُ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَدَافِعِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالصَّوَارِيخِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي جُيُوشِ عَصْرِنَا. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُفَسَّرُ مَا
رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ «أَلَا
إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»

قَالَهَا ثَلَاثًا، أَيْ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْقُوَّةِ آلَةُ الرَّمْيِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الْقُوَّةِ فِي آلَةِ الرَّمْيِ.
وَعَطْفُ رِباطِ الْخَيْلِ عَلَى الْقُوَّةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْخَاصِّ.
وَالرِّبَاطُ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ أُتِيَ بِهَا هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لِتَدُلَّ عَلَى قَصْدِ الْكَثْرَةِ مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ لِلْغَزْوِ، أَيِ احْتِبَاسُهَا وَرَبْطُهَا انْتِظَارًا لِلْغَزْوِ عَلَيْهَا،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ رَوَثُهَا وَبَوْلُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ»
الْحَدِيثَ. يُقَالُ: رَبَطَ الْفَرَسَ إِذَا شَدَّهُ فِي مَكَانِ حِفْظِهِ، وَقَدْ سَمَّوُا الْمَكَانَ الَّذِي تُرْتَبَطُ فِيهِ الْخَيْلُ
55
رِبَاطًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْرُسُونَ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ رَاكِبِينَ عَلَى أَفْرَاسِهِمْ، كَمَا وَصَفَ ذَلِكَ لَبِيدٌ فِي قَوْلِهِ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمُلُ شِكَّتِي فُرُطٌ وِشَاحِيَ إِنْ رَكَبْتُ زِمَامُهَا
إِلَى أَنْ قَالَ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنِيفَةٍ جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دُونَهَا جُرَّامُهَا
ثُمَّ أُطْلِقَ الرِّبَاطُ عَلَى مَحْرَسِ الثَّغْرِ الْبَحْرِيِّ، وَبِهِ سَمَّوْا رِبَاطَ (دِمْيَاطَ) بِمِصْرَ، وَرِبَاطَ (الْمُنَسْتِيرِ) بِتُونُسَ، وَرِبَاطَ (سَلَا) بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠٠].
وَجُمْلَةُ: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، نَاشِئًا عَنْ تَخْصِيصِ الرِّبَاطِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعُمُّهُ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَأَعِدُّوا.
وَعَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّهُمْ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَكَانَ تَعْرِيفُهُمْ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِتَعْرِيفِهِمْ، وَلِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ وَجْهِ قِتَالِهِمْ وَإِرْهَابِهِمْ، وَمِنْ ذَمِّهِمْ، أَنْ كَانُوا أَعْدَاءَ رَبِّهِمْ، وَمِنْ تَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذْ عُدُّوا أَعْدَاءً لَهُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ تَوْحِيدِهِ وَهُمْ أَعْدَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ صَارَحُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاءُ دِينِ اللَّهِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ وَأَنْصَارُهُ، فَعَطْفُ وَعَدُوَّكُمْ عَلَى عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ عَطْفِ صِفَةِ مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ
وَالْإِرْهَابُ جَعْلُ الْغَيْرِ رَاهِبًا، أَيْ خَائِفًا، فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِذَا عَلِمَ اسْتِعْدَادَ عَدُوِّهِ لِقِتَالِهِ خَافَهُ، وَلَمْ يَجْرَأْ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ هَنَاءً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَمْنًا مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ،
56
فَيَكُونُ الْغَزْوُ بِأَيْدِيهِمْ: يَغْزُونَ الْأَعْدَاءَ مَتَى أَرَادُوا، وَكَانَ الْحَالُ أَوْفَقَ لَهُم، وَأَيْضًا ذَا رَهَبُوهُمْ تَجَنَّبُوا إِعَانَةَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِم.
وَالْمرَاد بالآخرين مِنْ دُونِهِمْ أَعْدَاءٌ لَا يَعْرِفُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّعْيِينِ وَلَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُمْ مَنْ كَانَ يُضْمِرُ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةً وَكَيْدًا، وَيَتَرَبَّصُ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، مِثْلَ بَعْضِ الْقَبَائِلِ.
فَقَوْلُهُ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ أَيْ لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْإِعْلَامِ، وَقَدْ عَلِمْتُمُوهُمُ الْآنَ إِجْمَالًا، أَوْ أُرِيدَ: لَا تَعْلَمُونَهُمْ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ وَجُودَهُمْ إِجْمَالًا مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَلِهَذَا نَصَبَ مَفْعُولًا وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا تَنْكَشِفُ عَنْهُ عَاقِبَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ حَرْبِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ كَمَا وَرَدَ فِي السِّيرَةِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ مِنْ دُونِهِمْ بِمَعْنَى: مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهَا لِلْمَكَانِ الْمُخَالِفِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْمُغَايَرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ إِطْلَاقَاتِ كَلِمَةِ (دُونَ) لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ أَغْنَى عَنْهُ وَصْفُهُمْ بِ آخَرِينَ.
وَجُمْلَةُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ تَعَقُّبُهُمْ وَالْإِغْرَاءُ بِهِمْ، وَتَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُحْصِي أَعْدَاءَهُمْ وَيُنَبِّهُهُمْ إِلَيْهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ: لِلتَّقَوِّي، أَيْ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ لَازِمِ مَعْنَاهُ، أَمَّا أَصْلُ الْمَعْنَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ إِذْ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا حَمْلُ التَّقْدِيمِ هُنَا عَلَى إِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ فَلَا يَحْسُنُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ بِجُمْلَةِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ فَلَوْ قِيلَ: وَيَعْلَمُهُمُ اللَّهُ لَحَصَلَ مَعْنَى الْقَصْرِ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ إِعْدَادُ الْقُوَّةِ يَسْتَدْعِي إِنْفَاقًا، وَكَانَتِ النُّفُوسُ شَحِيحَةً بِالْمَالِ، تَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ بِإِخْلَافِ مَا أَنْفَقُوهُ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ.
57
وَالتَّوْفِيَةُ: أَدَاءُ الْحَقِّ كَامِلًا، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ كَالْقَرْضِ لِلَّهِ، وَجَعَلَ عَلَى الْإِنْفَاقِ جَزَاءً، فَسَمَّى جَزَاءَهُ تَوْفِيَةً عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَتَدُلُّ التَّوْفِيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَجْرَ فِي الدُّنْيَا مَعَ أَجْرِ الْآخِرَةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَتَعْدِيَةُ التَّوْفِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ بطرِيق بِنَاء للْفِعْل لِلنَّائِبِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُوَفَّى هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُوَفَّى هُوَ الثَّوَابُ. وَالتَّوْفِيَةُ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهَا مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: وَفَّاهُ دَيْنَهُ، وَإِنَّمَا وَفَّاهُ مُمَاثِلًا لِدَيْنِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ:
قَضَى صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا قَضَى صَلَاةً بِمِقْدَارِهَا فَالْإِسْنَادُ: إِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ.
وَالظُّلْمُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ نَقْصَ الْحَقِّ ظُلْمٌ، وَتَسْمِيَةُ النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ ظُلْمًا حَقِيقَةٌ. وَلَيْسَ هُوَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: ٣٣].
[٦١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦١]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)
انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ أَحْوَالِ مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ: مِنْ وَفَائِهِمْ بِالْعَهْدِ، وَخِيَانَتِهِمْ، وَكَيْفَ يَحِلُّ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ مَعَهُمْ إِنْ خَافُوا خِيَانَتَهُمْ، وَمُعَامَلَتِهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِالْخَائِنِينَ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِ السِّلْمِ إِنْ طَلَبُوا السَّلْمَ وَالْمُهَادَنَةَ، وَكَفُّوا عَنْ حَالَةِ الْحَرْبِ. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَأْنَفُوا مِنَ السَّلْمِ وَأَنْ يُوَافِقُوا مَنْ سَأَلَهُ مِنْهُمْ.
وَالْجُنُوحُ: الْمَيْلُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَاحِ الطَّائِرِ: لِأَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ النُّزُولَ مَالَ بِأَحَدِ جَنَاحَيْهِ، وَهُوَ جَنَاحُ جَانِبِهِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ، قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الطَّيْرَ تَتْبَعُ الْجَيْشَ:
58
فَمَعْنَى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ إِنْ مَالُوا إِلَى السَّلْمِ مَيْلَ الْقَاصِدِ إِلَيْهِ، كَمَا يَمِيلُ الطَّائِرُ الْجَانِحُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَإِنْ طَلَبُوا السّلم فأجبهم إِلَيْهِم، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْعِفُهُمْ إِلَى السَّلْمِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ حَالَهُمْ حَالُ الرَّاغِبِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُظْهِرُونَ الْمَيْلَ إِلَى السَّلْمِ كَيْدًا، فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: ٥٨] فَإِنَّ نَبْذَ الْعَهْدِ نَبْذٌ لِحَالِ السَّلْمِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلسَّلْمِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ (إِلَى) لِتَقْوِيَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى السَّلْمِ
مَيْلُ حَقٍّ، أَيْ: وَإِنْ مَالُوا لِأَجْلِ السَّلْمِ وَرَغْبَةً فِيهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ حَقَّ جَنَحَ أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَالَ الَّذِي يعدّى بإلى فَلَا تَكُونُ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ إِلَّا لِغَرَضٍ، وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ يُقَالُ جَنَحَ لَهُ وَإِلَيْهِ.
وَالسَّلْمُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا- ضِدُّ الْحَرْبِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالْفَتْحِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ السِّينِ- وَحَقُّ لَفْظِهِ التَّذْكِيرُ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنَّثُ حَمْلًا عَلَى ضِدِّهِ الْحَرْبِ وَقَدْ وَرَدَ مُؤَنَّثًا فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا.
وَالْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجُنُوحِ إِلَى السَّلْمِ، لِيَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِدًا فِي جَمِيعِ شَأْنِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمُفَوِّضًا إِلَيْهِ تَسْيِيرَ أُمُورِهِ، لِتَكُونَ مُدَّةُ السَّلْمِ مُدَّةَ تَقَوٍّ وَاسْتِعْدَادٍ، وَلِيَكْفِيَهُ اللَّهُ شَرَّ عَدُوِّهِ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَيِ السَّمِيعُ لِكَلَامِهِمْ فِي الْعَهْدِ، الْعَلِيمُ بِضَمَائِرِهِمْ، فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَاجْنَحْ لَها جِيءَ بِفِعْلِ اجْنَحْ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ جَنَحُوا....
وَطَرِيقُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَفَادَ قَصْرَ مَعْنَى الْكَمَالِ فِي السَّمْعِ وَالْعِلْمِ، أَيْ: فَهُوَ سَمِيعٌ مِنْهُمْ مَا لَا تَسْمَعُ وَيَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُ. وَقَصْرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقِبَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ يُفْضِي إِلَى الْأَمْرِ بِقَصْرِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِقَصْرِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِإِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْقُوَّةِ لِلْعَدُوِّ: دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ أَمْرٌ غَيْرُ تَعَاطِي أَسْبَابِ الْأَشْيَاءِ، فَتَعَاطِي الْأَسْبَاب فِيمَا هِيَ مِنْ مَقْدُورِ النَّاسِ، وَالتَّوَكُّلُ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.
59
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ طَوَائِفَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، مِنْهُمْ مُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨]، وَمِنْهُمْ مَنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَتْ فِيهِمْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ: قِيلَ: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ [الْأَنْفَال: ٥٥، ٥٦] الْآيَةَ. قِيلَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ، وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَنَحُوا عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. أَوْ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ عَائِدًا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا.
فَقِيلَ: عَادَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: عَادَ إِلَى أَهْلِ
الْكِتَابِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٥] فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ.
وَمَنْ قَالُوا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَالُوا هَذَا حُكْمٌ بَاقٍ، وَالْجُنُوحُ إِلَى السَّلْمِ إِمَّا بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْمُوَادَعَةِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى صِنْفَيِ الْكُفَّارِ: مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ وَقَعَ قَبْلَهُ ذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: ٥٥] فَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ بَرَاءَةٌ، فَهِيَ مُخَصِّصَةٌ الْعُمُومَ الَّذِي فِي ضَمِيرِ جَنَحُوا أَوْ مُبِيِّنَةٌ إِجْمَالَهُ، وَلَيْسَتْ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ:
«أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ٥] فَدَعْوَى، فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ».
وَهَؤُلَاءِ قَدِ انْقَضَى أَمْرُهُمْ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمَجُوسُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَجْرِي أَمْرُ الْمُهَادَنَةِ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوْلَى: فَإِنْ دَعَوْا إِلَى السَّلْمِ قُبِلَ مِنْهُمْ، إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَعُدَّةٍ:
جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ
60
وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِانْتِفَاعٍ يُجْلَبُ بِهِ أَوْ ضُرٍّ يَنْدَفِعُ بِسَبَبِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَأَنْ يُجِيبُوا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ. قَدْ صَالَحَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ، وَوَادَعَ الضُّمَرِيَّ، وَصَالَحَ أَكْيَدَ رَدُومَةَ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ».
أَمَّا مَا هَمَّ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُصَالَحَةِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَمَنْ مَعَهُ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَذَلِكَ قَدْ عَدَلَ عَنْهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فِي جَمَاعَةِ الْأَنْصَارِ: لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ.
فَهَذَا الْأَمْرُ بِقَبُولِ الْمُهَادَنَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اقْتَضَاهُ حَالُ الْمُسْلِمِينَ وَحَاجَتُهُمْ إِلَى اسْتِجْمَامِ أُمُورِهِمْ وَتَجْدِيدِ قُوَّتِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، بِالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، فِي آيَاتِ السَّيْفِ. قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: نَسَخَتْ بَرَاءَةٌ كُلَّ مُوَاعَدَةٍ وَبَقِيَ حُكْمُ التَّخْيِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ
عَدَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى حَسَبِ مصلحَة الْمُسلمين.
[٦٢، ٦٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
لَمَّا كَانَ طَلَبُ السَّلْمِ وَالْهُدْنَةِ مِنَ الْعَدُوِّ قَدْ يَكُونُ خَدِيعَةً حَرْبِيَّةً، لِيُغْرُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْمُصَالَحَةِ ثُمَّ يَأْخُذُوهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، أَيْقَظَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الْأَعْدَاءَ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِمْ، وَيَحْمِلَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ، لِأَنَّهُ الْخُلُقُ الْإِسْلَامِيُّ، وَشَأْنُ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ، وَلَا تَكُونُ الْخَدِيعَةُ بِمِثْلِ نَكْثِ الْعَهْدِ، فَإِذَا بَعَثَ الْعَدُوَّ كُفْرُهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا التَّسَفُّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ، لِلْوَفِيِّ بِعَهْدِهِ، أَنْ يَقِيَهُ شَرَّ خِيَانَةِ الْخَائِنِينَ. وَهَذَا
61
الْأَصْلُ، وَهُوَ أَخْذُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ، شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التَّوْبَة: ٤]
وَفِي الْحَدِيثِ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، مِنْهَا: وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَمِنْ أَحْكَام الْجِهَاد عَن الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَخْفِرَ لِلْعَدُوِّ بِعَهْدٍ
. وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنْ إِظْهَارِ مَيْلِهِمْ إِلَى الْمُسَالَمَةِ خَدِيعَةً فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ شَرَّهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مَقَامَ نَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْفَال: ٥٨] فَإِنَّ ذَلِكَ مَقَامُ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْخِيَانَةِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا مَقَامُ إِضْمَارِهِمُ الْغَدْرَ دُونَ أَمَارَةٍ عَلَى مَا أَضْمَرُوهُ.
فَجُمْلَةُ: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ دَلَّتْ عَلَى تَكَفُّلِ كِفَايَتِهِ، وَقَدْ أُرِيدَ مِنْهُ أَيْضًا الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ مُعَامَلَتِهِمْ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَأَنْ لَا يَتَوَجَّسَ مِنْهُ خِيفَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ.
وَالْخَدِيعَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩].
«وَحسب» مَعْنَاهُ كَافٍ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَاسِبُكَ، أَيْ كَافِيكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٧٣].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ تَأْكِيدُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ.
وَجعل حَسْبَكَ مُسْندًا إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ وَصْفٌ، وَشَأْنُ الْإِسْنَادِ أَنْ يَكُونَ لِلذَّاتِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ هُوَ طَلَبُ مَنْ يَكْفِيهِ.
وَجُمْلَةُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ: عَلَى أَنَّهُ حَسْبُهُ، وَعَلَى الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ وَهُوَ عَدَمُ التَّحَرُّجِ مِنِ احْتِمَالِ قَصْدِهِمُ الْخِيَانَةَ وَالتَّوَجُّسِ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ خِيفَةً، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَرَكَ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ كُنْتَ يَوْمَئِذٍ أَضْعَفَ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَنَصَرَكَ عَلَى الْعَدُوِّ وَهُوَ مُجَاهِرٌ بِعُدْوَانِهِ، فَنَصْرُهُ إِيَّاكَ عَلَيْهِمْ مَعَ مُخَاتَلَتِهِمْ، وَمَعَ كَوْنِكَ فِي قُوَّةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَكَ، أَوْلَى وَأَقْرَبُ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَخْدَعُوكَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَقْصُودُ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، وَقَدْ
62
بُدِّلَ الْأُسْلُوبُ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ نَصْرِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ حِينَ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ وَحْدُهُ مُخَالِفًا أُمَّةً كَامِلَةً.
وَالتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ بِالْإِعَانَةِ عَلَى عَمَلٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٧].
وَجُعِلَتِ التَّقْوِيَةُ بِالنَّصْرِ: لِأَنَّ النَّصْرَ يُقَوِّي الْعَزِيمَةَ، وَيُثَبِّتُ رَأْيَ الْمَنْصُورِ، وَضِدُّهُ يُشَوِّشُ الْعَقْلَ، وَيُوهِنُ الْعَزْمَ،
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ «وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ حَتَّى قَالَتْ قُرَيْشٌ: ابْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ»
. وَإِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى اللَّهِ: تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ نَصْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَهُوَ النَّصْرُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْخَوَارِقِ، مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّعْوَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَبِالْمُؤْمِنِينَ عُطِفَ عَلَى بِنَصْرِهِ وَأُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَيُوهِمُ أَنَّ الْمَعْنَى وَنَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ وُجُودَ الْمُؤْمِنِينَ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ إِذْ وَفَّقَهُمْ لِاتِّبَاعِهِ فَشَرَحَ صَدْرَهُ بِمُشَاهَدَةِ نَجَاحِ دَعْوَتِهِ وَتَزَايُدِ أُمَّتِهِ وَلِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ جَيْشًا ثَابِتِي الْجَنَانِ، فَجُعِلَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَاتِهِمْ تَأْيِيدًا.
وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَّةٌ أُخْرَى عَلَى الرَّسُولِ، إِذْ جَعَلَ أَتْبَاعَهُ مُتَحَابِّينَ وَذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى سِيَاسَتِهِمْ، وَأَرْجَى لِاجْتِنَاءِ النَّفْعِ بِهِمْ، إِذْ يَكُونُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يُفَضِّلُونَ الْجَيْشَ الْمُؤَلَّفَ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ حُصُولِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ.
وَهُوَ أَيْضًا مِنَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْأَحْقَادَ وَالْإِحَنَ، الَّتِي كَانَتْ دَأْبَ
النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَتْ سَبَبَ التَّقَاتُلِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَبَيْنَ بُطُونِ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمِنْهَا قَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ اللَّهَبِيِّ:
فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
63
فَلَمَّا آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَلَبَتِ الْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ مَوَدَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: ١٠٣]، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ بِوَشَائِجِ الْأَنْسَابِ، وَلَا بِدَعَوَاتِ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
وَلِذَلِكَ اسْتَأْنَفَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قَوْلَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ اسْتِئْنَافًا نَاشِئًا عَنْ مَسَاقِ الِامْتِنَانِ بِهَذَا الِائْتِلَافِ، فَهُوَ بَيَانِيٌّ، أَيْ: لَوْ حَاوَلْتَ تَأْلِيفَهُمْ بِبَذْلِ الْمَالِ الْعَظِيمِ مَا حَصَلَ التَّآلُفُ بَيْنَهُمْ.
فَقَوْلُهُ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مُبَالَغَةٌ حَسَنَةٌ لِوُقُوعِهَا مَعَ حَرْفِ (لَوِ) الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، فَكَانَ التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمْ مِنْ آيَاتِ هَذَا الدِّينِ، لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مَنْ أُلْفَتِهِمْ، وَأَمَاطَ عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَشَاهِدِ ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الْإِحَنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِمَّا نَشَأَتْ عَنْهُ حَرْبُ بُعَاثٍ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ حِينٍ إِخْوَانًا أَنْصَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَزَالَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الْبَغْضَاءَ بَينهم.
وجَمِيعاً مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُجْتَمِعٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٥].
وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعَذُّرِ التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أَيْ وَلَكِنَّ تَكْوِينَ اللَّهِ يَلِينُ بِهِ الصَّلْبُ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمُتَعَذِّرُ.
وَالْخِطَابُ فِي أَنْفَقْتَ وأَلَّفْتَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.
وَإِذْ كَانَ هَذَا التَّكْوِينُ صُنْعًا عَجِيبًا ذَيَّلَ اللَّهُ الْخَبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَوِيُّ الْقُدْرَةِ فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، مُحْكِمُ التَّكْوِينِ فَهُوَ يُكَوِّنُ الْمُتَعَذِّرَ، وَيَجْعَلُهُ كَالْأَمْرِ الْمَسْنُونِ الْمَأْلُوفِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ «إِنَّ» لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ دَلِيلًا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى
64

[٦٤]

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٤]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَامِرَ وَتَعَالِيمَ عَظِيمَةٍ، مَهَّدَ لِقَبُولِهَا وَتَسْهِيلِهَا بِمَا مَضَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ وَالِامْتِنَانِ بِعِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِظْهَارِ أَنَّ النَّجَاحَ وَالْخَيْرَ فِي طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ، مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا كَامِلُ الِاتِّسَاقِ وَالِانْتِظَامِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ فِيمَا مَضَى وَبِالْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ صَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَظٌّ فِي كِفَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا جَرَمَ أَنْتَجَ ذَلِكَ أَنَّ حَسْبَهُ اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْفَذْلَكَةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَتَخْصِيصُ النَّبِيءِ بِهَذِهِ الْكِفَايَةِ لِتَشْرِيفِ مَقَامِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَكْفِي الْأُمَّةَ لِأَجْلِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي وُقُوعِ «حَسْبُ» مُسْنَدًا إِلَيْهِ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٦٢].
وَفِي عَطْفِ الْمُؤْمِنِينَ «عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ هَنَا: تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ كِفَايَةِ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ مُخْتَلِفَةٌ وَهَذَا مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.
وَقِيلَ يُجْعَلُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مَفْعُولًا مَعَهُ لِقَوْلِهِ: حَسْبُكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ اسْمٌ ظَاهِرٌ، أَوْ يُجْعَلُ مَعْطُوفًا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ الْمُجَوِّزِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ التَّنْوِيهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي جَعْلِهِمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا التَّشْرِيفِ، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَرْشَقُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَتْ يَوْمَ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَتَكُونُ مَكِّيَّةً، وَبَقِيَتْ مَقْرُوءَةً غَيْرَ مُنْدَرِجَةٍ فِي سُورَة، ثمَّ وَقعت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِذْنٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ لَهَا.
وَعَنِ النَّقَّاشِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْبَيْدَاءِ فِي بَدْرٍ، قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا مُتَقَدِّمًا عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ ثُمَّ جُعِلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ.
وَالتَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا ظَاهِرٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا
نَزَلَتْ مَعَ تَمَامِ السُّورَةِ فَهِيَ تَمْهِيدٌ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ لِيُحَقِّقُوا كفايتهم الرَّسُول.
[٦٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٥]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥)
أُعِيدَ نِدَاءُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْمَقْصِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَفَّلَ اللَّهُ لَهُ الْكِفَايَةَ، وَعَطَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِسْنَادِ الْكِفَايَةِ إِلَيْهِمْ، احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ كِفَايَتِهِمْ، وَتِلْكَ هِيَ الْكِفَايَةُ بِالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ وَقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقِتالِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقِتَالُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ، أَعْنِي: قِتَالَ أَعْدَاءِ الدِّينِ.
وَالتَّحْرِيضُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ.
وَلَمَّا كَانَ عُمُومُ الْجِنْسِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْقِتَالِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ بِاعْتِبَارِ الْمُقَاتَلِينَ- بِفَتْحِ التَّاءِ- وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِجْمَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدُوُّ كَثِيرِينَ وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ أَقَلَّ مِنْهُمْ، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةَ.
وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ لِأَنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ بَيَانًا لِإِجْمَالٍ كَانَتْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْإِجْمَالَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْعَدُوِّ كَثِيرًا، فَقَدْ صَارَ الْمَعْنَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ.
66
وَ (صابِرُونَ) ثَابِتُونَ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْآلَامِ صَبْرٌ، لِأَنَّ أَصْلَ الصَّبْرِ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَالثَّبَاتُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَاقَيْتُمْ فَاصْبِرُوا»
. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَا نُحِبُّكُمُو وَلَا نَلُومُكُمُو أَنْ لَا تُحِبُّونَاِِ
تَجَنَّبْ بَنِي حُنَّ فَإِنَّ لِقَاءَهُمْ كَرِيهٌ وَإِنْ لَمْ تَلْقَ إِلَّا بِصَابِرِ
وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ:
سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
وَالْمَعْنَى: عُرِفُوا بِالصَّبْرِ وَالْمَقْدِرَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْجَسَدِ وَأَحْوَالِ النَّفْسِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَوَخِّي انْتِقَاءِ الْجَيْشِ، فَيَكُونُ قَيْدًا لِلتَّحْرِيضِ، أَيْ: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ لَا يَتَزَلْزَلُونَ، فَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ ضَعِيفُ النَّفْسِ فَيَفْشَلُ الْجَيْشُ، كَقَوْلِ طَالُوتَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَة: ٢٤٩].
وَذُكِرَ فِي جَانِبِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَرَّتَيْنِ عَدَدُ الْعِشْرِينَ وَعَدَدُ الْمِائَةِ، وَفِي جَانِبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ عَدَدُ الْمِائَتَيْنِ وَعَدَدُ الْأَلْفِ، إِيمَاءً إِلَى قِلَّةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَاتِهِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ثَبَاتَهُمْ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالَةِ عَدَدِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زِيَادَةَ عَدَدِ الْجَيْشِ تُقَوِّي نُفُوسَ أَهْلِهِ، وَلَوْ مَعَ كَوْنِ نِسْبَةِ عَدَدِهِمْ مِنْ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ قُوَّةً لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تدفع عَنْهُم وَهن اسْتِشْعَارِ قِلَّةِ عَدَدِ جَيْشِهِمْ فِي ذَاتِهِ.
أَمَّا اخْتِيَارُ لَفْظِ الْعِشْرِينَ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَشَرَاتِ دُونَ لَفْظِ الْعَشَرَةِ: فَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ لَفْظَ الْعِشْرِينَ أَسْعَدُ بِتَقَابُلِ السَّكَنَاتِ فِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ لِأَنَّ لِلَفْظَةِ مِائَتَيْنِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِسَكَنَاتِ كَلِمَاتِ الْفَوَاصِلِ مِنَ السُّورَةِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْمِائَةَ مَعَ الْأَلْفِ، لِأَنَّ بَعْدَهَا ذِكْرَ مُمَيِّزِ الْعَدَدِ بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ سَكَنَاتِ الْفَاصِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَفْقَهُونَ فَتَعَيَّنَ هَذَا اللَّفْظُ قَضَاءً لِحَقِّ الْفَصَاحَةِ.
67
فَهَذَا الْخَبَرُ كَفَالَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ الْعَدَدِ مِنْهُمْ عَلَى عَشْرَةِ أَمْثَالِهِ، مِنْ عَدَدِهِمْ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ ثَبَاتِ الْعَدَدِ مِنْهُمْ، لِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ، وَبِذَلِكَ يُفِيدُ إِطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: ٤٥]، وَإِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ حُكْمٌ شَدِيدٌ شَاقٌّ اقْتَضَتْهُ قِلَّةُ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَكَثْرَةُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِمْ، وَقُصَارَى مَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ ثَبَتُوا لِثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ زُهَاءَ الْأَلْفِ، ثُمَّ نَزَلَ التَّخْفِيفُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِالْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجه بِنَاء الْخَيْر الْآتِي: وَهُوَ سَلْبُ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. أَيْ بِعَدَمِ فِقْهِهِمْ. وَإِجْرَاءُ نَفْيِ الْفَقَاهَةِ صِفَةً
لِ قَوْمٌ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا فَيُقَالُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، لِقَصْدِ إِفَادَةِ أَنَّ عَدَمَ الْفَقَاهَةِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُمْ بِمَا هُمْ قَوْمٌ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ نَفْيَ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ فِي خُصُوصِ هَذَا الشَّأْنِ، وَهُوَ شَأْنُ الْحَرْبِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِكَ: حَدَّثْتُ فُلَانًا حَدِيثًا فَوَجَدْتُهُ لَا يَفْقَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: فَوَجَدْتُهُ رَجُلًا لَا يَفْقَهُ.
وَالْفِقْهُ فَهْمُ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ نَفِيُ الْفِقْهِ عَنْهُمْ مِنْ جَانِبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِمْ بَعْدَ إِجْرَاءِ صِلَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْكُفْرَ سَبَبًا فِي انْتِفَاءِ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ: لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ شَأْنِهِ إِنْكَارُ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ فَصَاحِبُهُ يَنْشَأُ عَلَى إِهْمَالِ النَّظَرِ، وَعَلَى تَعْطِيلِ حَرَكَاتِ فِكْرِهِ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ كَثْرَتَهُمْ تُوجِبُ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى الْأَقَلِّينَ لقَولهم: «إِنَّمَا الْغرَّة لِلْكَاثِرِ»، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ الْمَوْتَ فَإِذَا قَاتَلُوا مَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ نَصْرُهُمْ فِيهَا أَرْجَحَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُعَوِّلُونَ عَلَى نَصْرِ اللَّهِ، وَيَثْبُتُونَ لِلْعَدُوِّ رَجَاءَ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَا يَهَابُونَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُسِرَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
68
وَقَرَأَ الْجُمْهُور إِنْ يَكُنْ- بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ الْأَصْلُ، لِمُرَاعَاةِ تَأْنِيثِ لَفْظِ مِائَةٍ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَيَجُوزُ فِي فِعْلِهِ الِاقْتِرَانُ بِتَاءِ التَّأْنِيث وَعَدَمه، لَا سِيمَا وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَهُ. وَالْفَصْلُ مُسَوِّغٌ لِإِجْرَاءِ الْفِعْلِ عَلَى صِيغَة التَّذْكِير.
[٦٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٦]
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمُدَّةٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ». وَلَعَلَّهُ بَعْدَ نُزُولِ جَمِيعِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَلَعَلَّهَا وُضِعَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُفْرَدَةً غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِآيَاتِ سُورَةٍ أُخْرَى، فَجُعِلَ لَهَا هَذَا الْمَوْضِعُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهَا لِتَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْآيَةِ الَّتِي نَسَخَتْ هِيَ حُكْمَهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَيَّنَ زَمَنَ نُزُولِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مَحْضًا لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
والْآنَ اسْمُ ظَرْفٍ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ. قِيلَ: أَصْلُهُ أَوَانٌ بِمَعْنَى زَمَانٍ، وَلَمَّا أُرِيدَ تَعْيِينُهُ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ لَازَمَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ بِمَعْنَى الْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، فَصَارَ مَعَ اللَّامِ كَلِمَةً
وَاحِدَةً وَلَزِمَهُ النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمْ، وَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» الْآيَةَ، فَعَبَّأَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا حُكْمُ وُجُوبٍ نُسِخَ بِالتَّخْفِيفِ الْآتِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ نَدْبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ حُطَّ ذَلِكَ حِينَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ إِلَى ثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قُلْتُ: وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْوِيُّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مُنَافٍ لِهَذَا الْقَوْلِ.
69
وَالْوَقْتُ الْمُسْتَحْضَرُ بِقَوْلِهِ: الْآنَ هُوَ زَمَنُ نُزُولِهَا. وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ عِنْدَهُ انْتِهَاءَ الْحَاجَةِ إِلَى ثَبَاتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بِحَيْثُ صَارَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِاثْنَيْنِ، لَا أَكْثَرَ، رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبْقَاءً لِعَدَدِهِمْ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ أَنَّ التَّخْفِيفَ الْمُنَاسِبَ لِيُسْرِ هَذَا الدِّينِ رُوعِيَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَمْ يُرَاعَ قَبْلَهُ لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ مُرَاعَاتِهِ فَرُجِّحَ إِصْلَاحُ مَجْمُوعِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. وَقَوْلِهِ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ثَبَاتَ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ وُجُوبًا وَعَزِيمَةً وَلَيْسَ نَدْبًا خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَنُسِبَ أَيْضًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا يَثْقُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَلِأَنَّ إِبْطَالَ مَشْرُوعِيَّةِ الْمَنْدُوبِ لَا يُسَمَّى تَخْفِيفًا، ثُمَّ إِذَا أُبْطِلَ النَّدْبُ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ ثَبَاتُ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مُبَاحًا مَعَ أَنَّهُ تَعْرِيضُ الْأَنْفُسِ لِلتَّهْلُكَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَقَدْ عَلِمَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَالْكَلَامُ كَالِاعْتِذَارِ عَلَى مَا فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِأَنَّهَا مَشَقَّةٌ اقْتَضَاهَا اسْتِصْلَاحُ حَالِهِمْ، وَجُمْلَةُ الْحَالِ الْمُفْتَتَحَةُ بِفِعْلِ مُضِيٍّ يَغْلِبُ اقْتِرَانُهَا بِ (قَدْ).
وَجَعَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَوْقِعَ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً مَوْقِعَ الْعَطْفِ فَنَشَأَ إِشْكَالٌ أَنَّهُ يُوهِمُ حُدُوثَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِضَعْفِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، مَعَ أَنَّ ضَعْفَهُمْ مُتَحَقِّقٌ، وَتَأَوَّلُوا الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِمْ ضَعْفٌ، لَمَّا كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَعَلِمَهُ اللَّهُ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الضَّعْفَ فِي حَالَةِ الْقِلَّةِ أَشَدُّ.
وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَنْ يَكُونَ الضَّعْفُ حَدَثَ فِيهِمْ مِنْ تَكَرُّرِ ثَبَاتِ الْجَمْعِ
الْقَلِيلِ مِنْهُمْ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ تَكَرُّرَ مُزَاوَلَةِ الْعَمَلِ الشَّاقِّ تُفْضِي إِلَى الضَّجَرِ.
وَالضَّعْفُ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ وَالشَّاقَّةِ، وَيَكُونُ فِي عُمُومِ الْجَسَدِ وَفِي بَعْضِهِ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّنْوِيعِ، وَهُوَ ضَعْفُ الرَّهْبَةِ مِنْ لِقَاءِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ فِي قِلَّةٍ، وَجَعْلُهُ مَدْخُولَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ يُومِئُ إِلَى تَمَكُّنِهِ فِي نُفُوسِهِمْ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ فِي التَّكْلِيفِ.
70
وَيَجُوزُ فِي ضَادِ (ضَعْفٌ) الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، كَالْمُكْثِ وَالْمَكْثِ، وَالْفُقْرِ وَالْفَقْرِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الضَّادِ- وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الضَّادِ-.
وَوَقَعَ فِي كِتَابِ «فِقْهِ اللُّغَةِ» لِلثَّعَالِبِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ فِي وَهَنِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ، وَالضَّمَّ فِي وَهَنِ الْجِسْمِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهَا تَفْرِقَةٌ طَارِئَةٌ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ضُعَفَاءَ- بِضَمِّ الضَّادِ وَبِمَدٍّ فِي آخِرِهِ- جَمْعَ ضَعِيفٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ لِتَفْرِيعِ التَّشْرِيعِ عَلَى التَّخْفِيفِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تَكُنْ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ.
وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِالتَّحْتِيَّةِ- لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَعُبِّرَ عَنْ وُجُوبِ ثَبَاتِ الْعَدَدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمِثْلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَفْظَيْ عَدَدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ وَمِثْلَيْهِمَا: لِيَجِيءَ النَّاسِخُ عَلَى وَفْقِ الْمَنْسُوخِ، فَقُوبِلَ ثَبَاتُ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ بِنَسْخِهِ إِلَى ثَبَاتِ مِائَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْمِائَتَيْنِ فَأُبْقِيَ مِقْدَارُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مُوجِبَ التَّخْفِيفِ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، لَا قِلَّةُ الْمُشْرِكِينَ، وَقُوبِلَ ثَبَاتُ عَدَدِ مِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِثَبَاتِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَلْفَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ جَيْشُهُمْ لَا يَتَجَاوَزُ مَرْتَبَةَ الْمِئَاتِ صَارَ جَيْشُهُمْ يُعَدُّ بِالْآلَافِ.
وَأُعِيدَ وَصْفُ مِائَةِ الْمُسْلِمِينَ بِ صابِرَةٌ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّنْوِيهَ بِالِاتِّصَافِ بِالثَّبَاتِ.
وَلَمْ تُوصَفْ مِائَةُ الْكُفَّارِ بِالْكُفْرِ وَبِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ: لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ، وَلَا مقتضي لإعادته.
وبِإِذْنِ اللَّهِ أَمْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَهُ التَّكْلِيفِيَّ، بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ الْخَبَرِ وَالْوَعْدِ.
71
وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَغْلِبُوا الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذْنُ اللَّهِ حَاصِلٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ الْمَنْسُوخَةِ وَالنَّاسِخَةِ. وَإِنَّمَا صُرِّحَ بِهِ هُنَا، دُونَ مَا سَبَقَ، لِأَنَّ غَلَبَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ أَظْهَرُ فِي الْخَرْقِ لِلْعَادَةِ، فَيُعْلَمُ بَدْءًا أَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَمَّا غَلَبُ الْوَاحِدِ الِاثْنَيْنِ فَقَدْ يُحْسَبُ نَاشِئًا عَنْ قُوَّةِ أَجْسَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ: لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [٦٧، ٦٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٨]
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ سَوَاءٌ نَزَلَ بِعَقِبِهِ أَمْ تَأَخَّرَ نُزُولُهُ عَنْهُ فَكَانَ مَوْقِعُهُ هُنَا بِسَبَبِ مُوَالَاةِ نُزُولِهِ لِنُزُولِ مَا قبله أَو كَانَ وَضْعَ الْآيَةِ هُنَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ.
وَالْمُنَاسَبَةُ ذِكْرُ بَعْضِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَكَانَ أَعْظَمُ جِهَادٍ مَضَى هُوَ جِهَادُ يَوْمِ بَدْرٍ. لَا جَرَمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ قَضِيَّةِ فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ مُشِيرَةً إِلَيْهَا.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا تَشْرِيعٌ مُسْتَقْبَلٌ أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَصَرُوا بِبَدْرٍ وَإِكْرَامًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّصْرِ الْمُبِينِ، وَسَدًّا لَخُلَّتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، فَنَزَلَتْ لِبَيَانِ الْأَمْرِ الْأَجْدَرِ فِيمَا جَرَى فِي شَأْنِ الْأَسْرَى فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَذَلِكَ مَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَا مُخْتَصَرُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ وَفِيهِمْ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَادِيَهُمْ بِالْمَالِ وَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى حَرْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى»، قَالَ أَبُو بكر: «يَا نَبِي اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ» وَقَالَ عُمَرُ: أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا فَهَوِيَ
72
رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
الْآيَةَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَحَبَّ وَاخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْيُسْرِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُسْلِمِينَ إِذْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ رَغْبَةَ أَكْثَرِهِمْ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ. وَلَمَّا اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَشُورَتِهِ تَعَيَّنَ
أَنَّهُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَأَى أَنْ يَسْتَشِيرَ النَّاسَ ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَ الرَّأْيَيْنِ بِاجْتِهَادٍ، وَقَدْ أَصَابَ الِاجْتِهَادَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، حِينَئِذٍ، سُهَيْلُ بن بَيْضَاءَ، وَأَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ الْعَبَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ إِضْمَارُ بَعْضِهِمْ- بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْمِهِمْ- أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدُ.
وَرُبَّمَا كَانُوا يُضْمِرُونَ اللَّحَاقَ بِفَلِّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ وَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ فَيَنْقَلِبُ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ هَزِيمَةً كَمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلِأَجْلِ هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» :
رَوَى عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُقَرِّبَ الْأَسَارَى فَيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ أَوْ يَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جِبْرِيلُ يُخَيِّرُكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الْأُسَارَى وَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ أَوْ تَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَقْوَى عَلَى عَدُوِّنَا وَيُقْتَلُ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَفَعَلُوا
. وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءَ إِذَا قَاتَلَ فَقِتَالُهُ مُتَمَحِّضٌ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ نَصْرُ الدَّين وَدفع عدائه، وَلَيْسَ قِتَالُهُ لِلْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ فَإِذَا كَانَ أَتْبَاعُ الدِّينِ فِي قِلَّةٍ كَانَ قَتْلُ الْأَسْرَى تَقْلِيلًا لِعَدَدِ أَعْدَاءِ الدِّينِ حَتَّى إِذَا انْتَشَرَ الدِّينُ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ صَلُحَ الْفِدَاءُ لِنَفْعِ أَتْبَاعِهِ بِالْمَالِ، وَانْتِفَاءِ خَشْيَةِ عَوْدِ الْعَدُوِّ إِلَى الْقُوَّةِ. فَهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِ هَذَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ.
73
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَشَارُوا بِالْفِدَاءِ، وَلَيْسَ مُوَجَّهًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ إِلَّا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمرَان:
١٥٩] لَا سِيمَا عَلَى مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ بَلَّغَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَيِّرَ أَصْحَابَهُ
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَإِنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا عَرَضَ الدُّنْيَا هُمُ الَّذِينَ أَشَارُوا بِالْفِدَاءِ، وَلَيْسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ.
فَمَعْنَى مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى نَفْيُ اتِّخَاذِ الْأَسْرَى عَن اسْتِحْقَاق نَبِي لِذَلِكَ الْكَوْنِ.
وَجِيءَ بِ (نَبِيءٍ) نَكِرَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ سَابِقٌ فِي حُرُوبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ فِي الْإِصْحَاحِ عِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (١).
وَمِثْلُ هَذَا النَّفْيِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى النَّهْيِ نَحْوَ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: ٥٣]. وَقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ، كَمَا هُنَا، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ تَمْهِيدًا لِلْعِتَابِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ الرَّأْيِ وَالسِّيَاسَةِ.
وَمَعْنَى هَذَا الْكَوْنِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيءٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى هُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي الْأَسْرِ، أَيْ بَقَاؤُهُمْ أَرِقَّاءَ أَوْ بَقَاءُ أَعْوَاضِهِمْ وَهُوَ الْفِدَاءُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ النَّبِيءِ أَسْرَى، لِأَنَّ أَخْذَ الأسرى من شؤون الْحَرْبِ، وَهُوَ من شؤون الْغَلَبِ، إِذَا اسْتَسْلَمَ الْمُقَاتِلُونَ، فَلَا يَعْقِلُ أَحَدٌ نَفْيَهُ عَنِ النَّبِيءِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفِيُ أَثَرِهِ، وَإِذَا نُفِيَ أَثَرُ الْأَسْرِ صَدَقَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: وَهُمَا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ، أَوْ قَتْلُهُمْ، وَلَا يَصْلُحُ الْمَنُّ هُنَا، لِأَنَّهُ يُنَافِي الْغَايَةَ وَهِيَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُ الْأَسْرَى الْحَاصِلِينَ فِي يَدِهِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَجْدَرُ بِهِ حِينَ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ، خَضْدًا لِشَوْكَةِ أَهْلِ الْعِنَادِ، وَقَدْ صَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ تَشْرِيعًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ يَأْسِرُهُمْ فِي غَزَوَاتِهِ.
_________
(١) فِي الْفَقْرَة ١٣ مِنْهُ «وَإِذا دَفعهَا (الضَّمِير عَائِد إِلَى مَدِينَة) الرب إلهك إِلَى يدك جَمِيع ذكورها بِالسَّيْفِ.
74
وَالْإِثْخَانُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ فِي الْأَذَى. يُقَالُ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَأَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى شِدَّةِ الْجِرَاحَةِ عَلَى الْجَرِيحِ. وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ. فَالْمَعْنَى: حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَأَمْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ عَلَى هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ فِي الدُّنْيَا. وَحَمَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى مَعْنَى إِثْخَانِ الْجِرَاحَةِ، فَيَكُونُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ حَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمقَاتل الَّذِي يجرج قِرْنَهُ جِرَاحًا قَوِيَّةً تُثْخِنُهُ، أَيْ حَتَّى يُثْخِنَ أَعْدَاءَهُ فَتَصِيرَ لَهُ الْغَلَبَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُعْظَمِ الْمَوَاقِعِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ قَرِينَةَ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالْكَلَامُ عِتَابٌ لِلَّذِينَ أَشَارُوا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِي قَطْعِ دَابِرِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ فِي هَلَاكِهِمْ خَضْدًا لِشَوْكَةِ قَوْمِهِمْ فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلْمُقْتَضَى السِّيَاسِيِّ الْعَرَضِيِّ عَلَى الْمُقْتَضَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ التَّيْسِيرُ والرفق فِي شؤون الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
[الْفَتْح: ٢٩]. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَسْلَكُ السِّيَاسِيُّ خَفِيًّا حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ سَبَقُوا إِلَى الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ لَهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَكُونَ لَهُ- بِتَحْتِيَّةٍ- عَلَى أُسْلُوبِ التَّذْكِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ- عَلَى صِيغَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ أَشَارُوا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مُعَاتَبٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ وَجُمْلَةُ: تُرِيدُونَ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ.
75
وَ (عَرَضَ الدُّنْيا) هُوَ الْمَالُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرَضًا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ قَلِيلُ اللُّبْثِ، فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الْعَارِضَ إِذِ الْعُرُوضُ مُرُورُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ مُكْثِهِ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِلْمَاشِينَ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ.
وَالْمُرَادُ عَرَضُ الدُّنْيَا الْمَحْضُ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِهِ.
وَالْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ، أَيْ: تُحِبُّونَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُحِبُّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، أَيْ يُحِبُّ لَكُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَعُلِّقَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ بِذَاتِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَهُوَ حَذْفُ مُضَافٍ لِلْإِيجَازِ، وَمِمَّا يُحَسِّنُهُ أَنَّ الْآخِرَةَ الْمُرَادَةَ لِلْمُؤْمِنِ لَا يُخَالِطُ نَفْعَهَا ضُرٌّ وَلَا مَشَقَّةٌ، بِخِلَافِ نَفْعِ الدُّنْيَا.
وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الدُّنْيا الْمُضَافُ وَلَمْ يُحْذَفْ: لِأَنَّ فِي ذِكْرِهِ إِشْعَارًا بِعُرُوضِهِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ.
وَإِنَّمَا أَحَبَّ اللَّهُ نَفْعَ الْآخِرَةِ: لِأَنَّهُ نَفْعٌ خَالِدٌ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَصَلَاحُ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ أَمَارَاتٍ، هِيَ أَمَارَاتُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَكُلُّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ نَفْعِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا فِيهِ نَفْعٌ مِنَ الْآخِرَةِ فَفِيهِ مَحَبَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْفِدَاءُ الَّذِي أَحَبُّوهُ لَمْ يَكُنْ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ، وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ عِتَابَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
اخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ اسْتَشَارَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا هُوَ عِتَابٌ عَلَى نَوَايَا فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْجَيْشِ، حِينَ تَخَيَّرُوا الْفِدَاءَ أَيْ أَنَّهُمْ مَا رَاعَوْا فِيهِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْمَالِ لِنَفْعِ أَنْفُسِهِمْ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّ حَقِيقًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَنْسَوْا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَآرَائِهِمُ، الِالْتِفَاتَ إِلَى نَفْعِ الدِّينِ وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الِاسْتِشَارَةِ «قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تُقَوِّي بِهَا أَصْحَابَكَ» فَنَظَرَ إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا الْمَلْحَظَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْجَيْشِ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تُحِبُّونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لَكُمُ الثَّوَابَ وَقُوَّةَ
76
الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ هُوَ النَّفْعَ الدُّنْيَوِيَّ لَكَانَ حِفْظُ أَنْفُسِ النَّاسِ مُقَدَّمًا عَلَى إسعافهم بِالْمَالِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ فِي الْجِهَادِ. فَالْمَعْنَى: يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَالُكُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ إِلَّا عَرَضَ الدُّنْيَا، تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي إِيثَارِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ عَطْفًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَثَرًا فِي أَنَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْآخِرَةِ هُوَ الْحَظُّ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ يُرِيدُهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فَوَصْفُ الْعَزِيزِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاء على الِاحْتِيَاجِ، وَعَلَى الرِّفْعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مَحَبَّةُ الْأُمُورِ النَّفِيسَةِ، وَهَذَا يُومِئُ إِلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: ٨] فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ أَنْ يَرْبَأُوا بِنُفُوسِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِسَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَأَنْ يَجْنَحُوا إِلَى مَعَالِيهَا.
وَوَصْفُ الْحَكِيمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعَالِمُ بِالْمَنَافِعِ الْحَقِّ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى أَمْرٌ مَرْهُوبٌ تُخْشَى عَوَاقِبُهُ، فَيَسْتَثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَمَّا يُتَرَقَّبُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ مِنَ الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ، وَقَدْ نُكِّرَ
الْكِتَابُ تَنْكِيرَ نَوْعِيَّةٍ وَإِبْهَامٍ، أَيْ: لَوْلَا وُجُودُ سُنَّةِ تَشْرِيعٍ سَبَقَ عَنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ الْكِتَابُ هُوَ عُذْرُ الْمُسْتَشَارِ وَعُذْرُ الْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِهِ إِذَا أَخْطَأَ، فَقَدِ اسْتَشَارَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَأَوْهَا وَأَخَذَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ مُخَالَفَتُهُمْ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَأَنَّهُ نَصَبَ عَلَى حُكْمِهِ أَمَارَةً هِيَ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُؤْجَرُ.
وَ «فِي» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْعَذَاب يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ.
77
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْمَنْفِيُّ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا، أَيْ: لَوْلَا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ فَصَرَفَ بِلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عَذَابًا كَانَ مِنْ شَأْنِ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ أَنْ يُسَبِّبَهُ لَهُمْ وَيُوقِعَهُمْ فِيهِ. وَهَذَا الْعَذَابُ عَذَابٌ دُنْيَوِيٌّ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعٍ سَابِقٍ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنَ الشَّرْعِ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الْفِدَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ خُيِّرُوا فِيهِ لَمَّا اسْتُشِيرُوا، وَهُوَ أَيْضًا عَذَابٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجُرَّهُ عَمَلُهُمْ جَرَّ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَيْسَ عَذَابَ غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى مَعَاصٍ عَظِيمَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَسْرَى الَّذِينَ فَادَوْهُمْ كَانُوا صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ يَحْمِلُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَنَقًا فَكَانَ مِنْ مُعْتَادِ أَمْثَالِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَسْعَوْا فِي قَوْمِهِمْ إِلَى أَخْذِ ثَأْرِ قَتْلَاهُمْ وَاسْتِرْدَادِ أَمْوَالِهِمْ فَلَوْ فَعَلُوا لَكَانَتْ دَائِرَةً عَظِيمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَصَرَفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَحَبَّةِ أَخْذِ الثَّأْرِ، وَأَلْهَاهُمْ بِمَا شَغَلَهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الصَّرْفُ هُوَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَوْدَةِ لِلْفِدَاءِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ تَشْرِيعًا لِلْمُسْتَقْبَلِ كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
[٦٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٩]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
الْفَاءُ تُؤْذِنُ بِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الْأَنْفَال: ٦٨] إِلَخْ... أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حِلِّ الْغَنَائِمِ لَكُمْ لَمَسَّكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَإِذْ قَدْ سَبَقَ الْحِلُّ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْفِدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الْأَنْفَال: ٦٧] الْآيَةَ، أَمْسَكُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْفِدَاءِ،
فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ سُمِّيَ مَالُ الْفِدَاءِ غَنِيمَةً تَسْمِيَةً بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ هِيَ مَا افْتَكَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ بِالْإِيجَافِ عَلَيْهِمْ.
78
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَظْهَرُ لِي أنّ التَّفْرِيع ناشىء عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: فَاكْتَفُوا بِمَا تَغْنَمُونَهُ وَلَا تُفَادُوا الْأَسْرَى إِلَى أَنْ تُثْخِنُوا فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْغَنِيمَةِ هُنَا إِذْ لَا يَنْبَغِي صَرْفُهُ عَنْ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ.
وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الْأَنْفَال: ٦٨] امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُمْ بَأْسَ الْعَدُوِّ، فَرَّعَ عَلَى الِامْتِنَانِ الْإِذْنَ لَهُمْ بِأَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَالِ الْفِدَاءِ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ، دُونَ نَكَدٍ وَلَا غُصَّةٍ، فَإِنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ ضُرِّ الْعَدُوِّ بِفَضْلِ اللَّهِ. فَتِلْكَ نِعْمَةٌ لَمْ يَشُبْهَا أَذًى.
وَعَبَّرَ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْهَنِيءِ بِالْأَكْلِ: لِأَنَّ الْأَكْلَ أَقْوَى كَيْفِيَّاتِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ، فَإِنَّ الْآكِلَ يَنْعَمُ بلذاذة الْمَأْكُول وبدفع أَلَمَ الْجُوعِ عَنْ نَفْسِهِ- وَدَفْعُ الْأَلَمِ لَذَاذَةٌ- وَيُكْسِبُهُ الْأَكْلُ قُوَّةً وَصِحَّةً- وَالصِّحَّةُ مَعَ الْقُوَّةِ لَذَاذَةٌ أَيْضًا-.
وَالْأَمر فِي فَكُلُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمِنَّةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ هُنَا: لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمَغَانِمِ مقرّرة من قبله يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِيَكُونَ قَوْلُهُ: حَلالًا حَالًا مُؤَسِّسَةً لَا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ.
وغَنِمْتُمْ بِمَعْنَى فَادَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِدَاءَ عِوَضٌ عَنِ الْأَسْرَى وَالْأَسْرَى مِنَ الْمَغَانِمِ.
وَالطَّيِّبُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، أَيْ حَلَالًا مِنْ خَيْرِ الْحَلَالِ.
وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى: لِأَنَّ التَّقْوَى شُكْرُ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ مِنْ دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى شُكْرٌ عَلَى النِّعْمَةِ، فَحَرْفُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَهُوَ مُغْنٍ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ:
إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
79
وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ إِحْدَى قَضَايَا جَاءَ فِيهَا الْقُرْآنُ مُؤَيِّدًا لِرَأْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَدْ رَوَى
مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: «وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بدر».
[٧٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٠]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِحَالِ سَرَائِرِ بَعْضِ الْأَسْرَى، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى وَكَانَ ظَهَرَ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ فَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَفَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ: عَقِيلًا وَنَوْفَلًا. وَقَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكْتَنِي أَتَكَفَّفُ قُرَيْشًا.
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ أَنْ يفارقوهم.
فَمَعْنَى لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مَنْ فِي مَلْكَتِكُمْ وَوِثَاقِكُمْ، فَالْأَيْدِي مُسْتَعَارَةٌ لِلْمِلْكِ.
وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَالِكِينَ. وَكَانَ الْأَسْرَى مُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا فَادَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا لِقَصْدِ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَحَبَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، أَيْ: فَإِذَا آمَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِدَاءِ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ. وَلَيْسَ إِيتَاءُ الْخَيْرِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْإِيمَانِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ الْعَبَّاسُ عَنْ نَفْسِهِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْخَيْرُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الْجَزْمَ بِالْإِيمَانِ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدَّعُوهُ وَلَا عُرِفُوا بِهِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ أَسْرَى بَدْرٍ مُشْرِكِينَ فَفَادَوْا وَرَجَعُوا وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا.
وَ «مَا أُخِذَ» هُوَ مَالُ الْفِدَاءِ، وَالْخَيْرُ مِنْهُ هُوَ الْأَوْفَرُ مِنَ الْمَالِ بِأَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الثَّرْوَةِ بِالْعَطَاءِ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا. فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مِنْ فَيْءِ الْبَحْرَيْنِ. وَإِنَّمَا حَمَلْنَا الْخَيْرَ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا فِي خَصَائِصِ النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَذَلِكَ هُوَ خَيْرُ الْآخِرَةِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِظَمِ مَغْفِرَتِهِ الَّتِي يَغْفِرُ لَهُمْ، لِأَنَّهَا
مَغْفِرَةُ شَدِيدِ الْغُفْرَانِ رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ، فَمِثَالُ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ غَفُورٌ الْمُقْتَضِي قُوَّةَ الْمَغْفِرَةِ وَكَثْرَتَهَا، مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَعِظَمِ الْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَسْرى - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَاءٍ بَعْدَ السِّينِ- مِثْلَ أَسْرَى الْأُولَى، وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الْأُسَارَى- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَأَلِفٍ بَعْدَ السِّين وَرَاءه- فورود هما فِي هَذِهِ الْآيَة تفنّن.
[٧١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧١]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
الضَّمِيرُ فِي يُرِيدُوا عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى. وَهَذَا كَلَامٌ خَاطَبَ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْمِئْنَانًا لِنَفْسِهِ، وَلِيُبَلِّغَ مَضْمُونَهُ إِلَى الْأَسْرَى، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَفِيهِ تَقْرِيرٌ لِلْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَفَادَهَا قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الْأَنْفَال: ٦٩]، فَكل ذَلِكَ الْإِذْنُ وَالتَّطْيِيبُ بِالتَّهْنِئَةِ وَالطَّمْأَنَةِ بِأَنْ ضُمِنَ لَهُمْ، إِنْ خَانَهُمُ الْأَسْرَى بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَنَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَعَادُوا إِلَى الْقِتَالِ، بِأَنَّ اللَّهَ يُمَكِّنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا أَمْكَنَهُمْ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، أَيْ: أَنْ يَنْوُوا مِنَ الْعَهْدِ بِعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْغَزْوِ خِيَانَتَكَ، وَإِنَّمَا وَعَدُوا بِذَلِكَ لِيَنْجُوا مِنَ الْقَتْلِ وَالرِّقِّ، فَلَا يَضُرُّكُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ ثَانِيَ مَرَّةٍ. وَالْخِيَانَةُ نَقْضُ الْعَهْدِ وَمَا فِي مَعْنَى الْعَهْدِ كَالْأَمَانَةِ.
81
فَالْعَهْدُ، الَّذِي أَعْطَوْهُ، هُوَ الْعَهْدُ بِأَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ إِذَا أَطْلَقُوهُمْ فَمِنَ الْأَسْرَى مَنْ يَخُونُ الْعَهْدَ وَيَرْجِعُ إِلَى قِتَالِ مَنْ أَطْلَقُوهُ.
وَخِيَانَتُهُمَ اللَّهَ، الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الشِّرْكُ فَإِنَّهُ خِيَانَةٌ لِلْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فِيمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: ١٧٢] الْآيَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ فِي الْفِطْرَةِ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَهِيَ تَشْعُرُ بِهِ، وَلَكِنَّهَا تُغَالِبُهَا ضَلَالَاتُ الْعَادَاتِ وَاتِّبَاعُ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَهْدُ الْمُجْمَلُ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الْأَعْرَاف: ١٨٩، ١٩٠].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ مَا نَكَثُوا مِنَ الْتِزَامِهِمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقِهِ إِذَا جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ، فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَابَرُوا.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ.
وَتَقْدِيرُهُ: فَلَا تَضُرُّكَ خِيَانَتُهُمْ، أَوْ لَا تَهْتَمَّ بِهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا أَعَادَهُمُ اللَّهُ إِلَى يَدِكَ كَمَا أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ سَكَتَ مُعْظَمُ التَّفَاسِيرِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ عَنْ تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَبَيَانِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَلَمَّ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلْمَامًا خَفِيفًا بِأَنْ فسروا (أمكن) بأقدر، فَهَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ مِنَ الْإِمْكَانِ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ أَوْ مِنَ الْمَكَانَةِ بِمَعْنَى الظَّفَرِ. وَوَقَعَ فِي «الْأَسَاسِ» «أَمْكَنَنِي الْأَمْرُ مَعْنَاهُ أَمْكَنَنِي مِنْ نَفْسِهِ» وَفِي «الْمِصْبَاحِ» «مَكَّنْتُهُ مِنَ الشَّيْءِ تَمْكِينًا وَأَمْكَنْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةً».
وَالَّذِي أَفْهَمُهُ مِنْ تَصَارِيفِ كَلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلْجَعْلِ، وَأَنَّ مَعْنَى أَمْكَنَهُ مِنْ كَذَا جَعَلَ لَهُ مِنْهُ مَكَانًا أَيْ مَقَرًّا، وَأَنَّ الْمَكَانَ مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ كَمَا يَكُونُ الْمَكَانُ مَجَالًا لِلْكَائِنِ فِيهِ.
82
وَ «مِنْ» الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ أَمْكَنَ اتِّصَالِيَّةٌ مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَيْ أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، أَيْ لَمْ يَنْفَلِتُوا مِنْكَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَتَاكُمْ بِهِمْ إِلَى بَدْرٍ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْكُمْ فَسَلَّطَكُمْ عَلَيْهِمْ.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ حَكِيمٌ فِي مُعَامَلَتِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يعلم مِنْهُم.
[٧٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
هَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْإِعْلَامِ بِأَحْكَامِ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، نَشَأَ عَنْ قَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْأَسْرَى غَيْرَهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانُوا صَادِقِينَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِمْ وَظَنُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ بِحُكْمِ مَنْ آمَنَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْبَقَاءِ بِدَارِ الشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «مَقْصِدُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا تَبْيِينُ مَنَازِلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا وَالْكُفَّارِ، وَالْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَذِكْرُ نِسَبِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ».
وَتَعَرَّضَتِ الْآيَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَابْتَدَأَتْ بِبَيَانِ فَرِيقَيْنِ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُهُمْ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ فَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ فَرِيقَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
83
الَّذِينَ امْتَازُوا بِتَأْيِيدِ الدِّينِ. فَالْمُهَاجِرُونَ امْتَازُوا بِالسَّبْقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَكَبَّدُوا مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ. وَالْأَنْصَارُ امْتَازُوا بِإِيوَائِهِمْ، وَبِمَجْمُوعِ الْعَمَلَيْنِ حَصَلَ إِظْهَارُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَقَدِ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي أَنَّهُمْ آمَنُوا وَأَنَّهُمْ جَاهَدُوا، وَاخْتُصَّ الْمُهَاجِرُونَ بِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا وَاخْتُصَّ الْأَنْصَارُ بِأَنَّهُمْ آوَوْا وَنَصَرُوا، وَكَانَ فَضْلُ الْمُهَاجِرِينَ أَقْوَى لِأَنَّهُمْ فَضَّلُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَطَنِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَبَادَرَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ، فَكَانُوا قُدْوَةً وَمِثَالًا صَالِحًا لِلنَّاسِ.
وَالْمُهَاجَرَةُ هَجْرُ الْبِلَادِ، أَيِ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَتَرْكُهَا، قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:
إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجَرَةً بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ
وَأَصْلُ الْهِجْرَةِ التَّرْكُ وَاشْتُقَّ مِنْهُ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ لِخُصُوصِ تَرْكِ الدَّارِ وَالْقَوْمِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَهُمْ كَانَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ قَوْمَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ قَوْمُهُمْ إِذْ لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ قَوْمَهُ إِلَّا لِسُوءِ مُعَاشَرَةٍ تَنْشَأُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَقَدْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ أَشْهَرِ أَحْوَالِ الْمُخَالِفِينَ لِقَوْمِهِمْ فِي الدِّينِ، فَقَدْ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩]. وَهَاجَرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: ٢٦]، وَهَاجَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْمِهِ، وَهَاجَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ بِإِذْنِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ يَثْرِبَ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْمَدِينَةِ غَلَبَ عَلَيْهِمْ وَصْفُ الْمُهَاجِرِينَ وَأَصْبَحَتِ الْهِجْرَةُ صِفَةَ مَدْحٍ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ التَّفْضِيلِ: «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ»
وَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «وَيْحَكَ إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ- وَقَالَ- لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ».
وَالْإِيوَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٦].
وَالنَّصْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٣].
وَالْمُرَادُ بِالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَنَصَرُوا النَّصْرُ الْحَاصِلُ قَبْلَ الْجِهَادِ وَهُوَ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ يَحْمُونَهُمْ بِمَا يَحْمُونَ بِهِ أَهْلَهُمْ، وَلِذَلِكَ غَلَبَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَصْفُ الْأَنْصَارِ.
84
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لِإِفَادَةِ الاهتمام بتمييزهم للإخبار عَنْهُمْ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الْفِرَقِ الْأُخْرَى.
وَلَمَّا أَطْلَقَ اللَّهُ الْوَلَايَةَ بَيْنَهُمُ احْتَمَلَ حَمْلَهَا عَلَى أَقْصَى مَعَانِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَوْرِدُهَا فِي خُصُوصِ وَلَايَةِ النَّصْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَوُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ جُعِلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، حَتَّى أَنْزَلَ الله قَوْله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥] أَيْ فِي الْمِيرَاثِ فَنَسَخَتْهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. فَحَمَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمِيرَاثَ، فَقَالَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ لَا يَرِثُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرِ الَّذِي آمَنَ وَهَاجَرَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِك بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الْأَنْفَال: ٧٥].
وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْوَلَايَةُ هِيَ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمُؤَازَرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ دُونَ الْمِيرَاثِ اعْتِدَادًا بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا تَشْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ- أَيْ وَلَوْ كَانَ عَاصِبًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ تَقْسِيمِ الْفِرَقِ فَعُطِفَ كَمَا عُطِفَتِ الْجُمَلُ بَعْدَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جُعِلَ تَكْمِلَةً لِحُكْمِ الْفِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ فَصَارَ لَهُ اعْتِبَارَانِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، آيَةً
وَاحِدَةً نِهَايَتُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
فَإِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ أَيِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ يُقَابِلُهُ وَصْفُ الشِّرْكِ، وَأَنَّ وَصْفَ الْهِجْرَةِ يُقَابِلُهُ وَصْفُ الْمُكْثِ بِدَارِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَوَّلَ الْآيَةِ مَا لِأَصْحَابِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، مِنَ الْفَضْلِ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَلَايَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِي يُقَابِلُ أَصْحَابَ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ، فَبَيَّنَتْ حُكْمَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَأَثْبَتَتْ لَهُمْ وَصْفَ الْإِيمَانِ، وَأَمَرَتِ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بالتبري مِنْ وَلَايَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا،
85
فَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ حُكْمُ التَّوَارُثِ وَلَا النَّصْرِ إِلَّا إِذَا طَلَبُوا النَّصْرَ عَلَى قَوْمٍ فَتَنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَفِي نَفْيِ وَلَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَهُمْ، مَعَ السُّكُوتِ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُعْتَبَرُونَ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِمُقَاطَعَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُمْ على الْهِجْرَة.
و «الْولَايَة» - بِفَتْحِ الْوَاوِ- فِي الْمَشْهُورِ وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَصْدَرِ تَوَلَّاهُ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْفَتْحُ أَجْوَدُ هُنَا، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِكَسْرِ الْوَاوِ فِي السُّلْطَانِ يَعْنِي فِي وِلَايَاتِ الْحُكْمِ وَالْإِمَارَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ يَجُوزُ فِيهَا الْكَسْرُ، لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ كَالْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ، وَتَبِعَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَأَرَادَ إِبْطَالَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ هُنَا أَجْوَدُ. وَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بَاطِلٌ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ وَجْهَانِ مُتَسَاوِيَانِ مِثْلَ الدَّلَالَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا.
وَالظَّرْفِيَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا (فِي) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، تَؤُولُ إِلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: طَلَبُوا أَنْ تَنْصُرُوهُمْ لِأَجْلِ الدِّينِ، أَيْ لِرَدِّ الْفِتْنَةِ عَنْهُمْ فِي دينهم إِذْ حَاوَلَ الْمُشْرِكُونَ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى دِينِ الشِّرْكِ وَجَبَ نَصْرُهُمْ لِأَنَّ نَصْرَهُمْ لِلدِّينِ لَيْسَ مِنَ الْوَلَايَةِ لَهُمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْوَلَايَةِ لِلدِّينِ وَنَصْرِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ اسْتَنْصَرَهُمُ النَّاسُ أَمْ لَمْ يَسْتَنْصِرُوهُمْ إِذَا تَوَفَّرَ دَاعِي الْقِتَالِ، فَجَعَلَ اللَّهُ اسْتِنْصَارَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ جُمْلَةِ دواعي الْجِهَاد.
وفَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ، أَيْ: فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ، وَقُدِّمَ الْخَبَر وَهُوَ فَعَلَيْكُمُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وأل فِي النَّصْرُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ لِأَنَّ اسْتَنْصَرُوكُمْ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ نَصْرٍ
وَالْمَعْنَى: فَعَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُتَعَلِّقِ النَّصْرِ وَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِمْ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيثَاقَ يَقْتَضِي عَدَمَ قِتَالِهِمْ إِلَّا إِذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ مَعَ
86
الْمُسْلِمِينَ، وَعَهْدُهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَيِّزِينَ بِجَمَاعَةٍ وَوَطَنٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ فَلَا يَتَحَمَّلُ الْمُسْلِمُونَ تَبِعَاتِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِيمَا جَرُّوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَدَاوَاتٍ وَإِحَنٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا يَنْشَأُ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْمُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ فِي دَارِ الْكُفْرِ لَا يُعَدُّ نَكْثًا مِنَ الْكُفَّارِ لِعَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مِنْ عُذْرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ حِينَ عَاهَدْنَاكُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْكُمْ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمُعَاشَرَةٍ، وَهَؤُلَاءِ ظَاهِرُ حَالِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُسَاكِنُونَهُمْ وَيُعَامِلُونَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَحْمِلَهُمُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ.
وَفِي هَذَا التَّحْذِيرِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وأنّه لَا ينفضه إِلَّا أَمْرٌ صَرِيحٌ فِي مُخَالفَته.
[٧٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٣]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣)
هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا [الْأَنْفَال: ٧٢] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَدْلُولِهِ الْكِنَائِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَوْلِيَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَيْسَ صَرِيحَةً مِمَّا يُهِمُّ الْمُسْلِمِينَ لَوْلَا أَنَّ الْقَصْدَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أَيْ: إِنْ لَا تَفْعَلُوا قَطْعَ الْوَلَايَةِ مَعَهُمْ، فَضَمِيرُ تَفْعَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورَ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَكْلِيفَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُنْفِذُوا وَلَايَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لَوْلَا أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ ذَلِكَ وَهُوَ عَدَمُ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ.
87
وَالْفِتْنَةُ اخْتِلَالُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الْبَقَرَة: ١٠٢]- وَقَوْلِهِ- وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[١٩١]، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْفِتْنَةُ تَحْصُلُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوَاصِرُ قَرَابَةٍ وَوَلَاءٌ وَمَوَدَّةٌ وَمُصَاهَرَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، وَقَدْ كَانَ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مُثِيرًا لِحَنَقِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْقَطِعِ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ يُخْشَى عَلَى ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَجْذِبَهُمْ تِلْكَ الْأَوَاصِرُ وَتَفْتِنَهُمْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَعِزَّتُهُمْ، وَيَقْذِفَ بِهَا الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَيَحِنُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَعُودُوا إِلَى الْكُفْرِ. فَكَانَ إِيجَابُ مُقَاطَعَتِهِمْ لِقَصْدِ قَطْعِ نُفُوسِهِمْ عَنْ تَذَكُّرِ تِلْكَ الصِّلَاتِ، وَإِنْسَائِهِمْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا حَالَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَشْتَغِلُوا إِلَّا بِمَا يُقَوِّيهَا، وَلِيَكُونُوا فِي مُزَاوَلَتِهِمْ أُمُورَ الْإِسْلَامِ عَنْ تَفَرُّغِ بَالٍ مِنْ تَحَسُّرٍ أَوْ تَعَطُّفٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْوَسَائِلَ قَدْ يَسْرِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَتُفْضِي وَسَائِلُ الرَّأْفَةِ وَالْقَرَابَةِ إِلَى وَسَائِلِ الْمُوَافَقَةِ فِي الرَّأْيِ، فَلِذَا كَانَ هَذَا حَسْمًا لِوَسَائِلِ الْفِتْنَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ أَرض الْمُسلمين.
و «الْفساد» ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَة الْبَقَرَة [٣٠].
و «الْكَبِير» حَقِيقَتُهُ الْعَظِيمُ الْجِسْمِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ الْقَوِيِّ مِنْ نَوْعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: ٥].
وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هُنَا: ضِدُّ صَلَاحِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَظْهَرُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لَمْ تَظْهَرْ شَوْكَتُهُمْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ مِنْ جَرَّاءِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ مُوَاصَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَيَرْمِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَفَرُّقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِيجَادُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَمَالُهَا بِالْتِفَافِ أَهْلِهَا الْتِفَافًا وَاحِدًا، وَتَجَنُّبِ مَا يُضَادُّهَا، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ ضَعُفَ شَأْنُ جَامِعَتِهِمْ فِي الْمَرْأَى وَفِي الْقُوَّةِ. وَذَلِكَ فَسَاد كَبِير.
88

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٤]

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
[الْأَنْفَال: ٧٣]، وَجُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا [الْأَنْفَال: ٧٥] الْآيَةُ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَبَيَانِ جَزَائِهِمْ وَثَوَابِهِمْ، بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ:
أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْأَنْفَال: ٧٢] فَلَيْسَتْ هَذِهِ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، وَإِنْ تَشَابَهَتْ أَلْفَاظُهَا: فَالْأُولَى لِبَيَانِ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهَذِهِ وَارِدَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالشَّهَادَةِ لَهُمْ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ مَعَ وَعْدِهِمْ بِالْجَزَاءِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِأَجْلِهِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْأَنْفَال: ٧٢] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذِهِ الصِّيغَةُ صِيغَةُ قَصْرٍ، أَيْ قَصْرِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرُوا، وَالْقَصْرُ هُنَا مُقَيَّدٌ بِالْحَالِ فِي قَوْلِهِ: حَقًّا. فَقَوْلُهُ: حَقًّا حَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَصْدَرٌ جُعِلَ مِنْ صِفَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ حَاقُّونَ، أَيْ مُحَقِّقُونَ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنْ عَضَّدُوهُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَلَيْسَ الْحَقُّ هُنَا بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْبَاطِلِ، حَتَّى يَكُونَ إِيمَانُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرُوا بَاطِلًا، لِأَنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: ٧٢] مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ قَدْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَنَفَى عَنْهُمُ اسْتِحْقَاقَ وَلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّفْعَ بِهِ ضُرٌّ وَلَا نَكَدٌ، فَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَا كَدَرَ فِيهِ.
[٧٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٧٥]
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ.
بَعْدَ أَنْ مَنَعَ اللَّهُ وَلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّذِينَ آمنُوا وَلم يهجروا بِالصَّرَاحَةِ، ابْتِدَاءً وَنَفَى عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا تَحْقِيقَ الْإِيمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا
89
هَلْ لِأُولَئِكَ تَمَكُّنٌ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ بِرَأْبِ هَذِهِ الثُّلْمَةِ عَنْهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ بَابَ التَّدَارُكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ.
فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنِ الْفَصْلِ إِلَى الْعَطْفِ تَغْلِيبًا لِمَقَامِ التَّقْسِيمِ الَّذِي اسْتَوْعَبَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ.
وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ لِتَضْمِينِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَاءَ كَالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا إِلَخْ، أَيْ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، وَمِنْ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، فَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَبِذَلِكَ صَارَ فِعْلُ آمَنُوا تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ هاجَرُوا وَجاهَدُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِذَا حَصَلَ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، لِيَكُونَ أَصْحَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ قِسْمًا مُغَايِرًا لِلْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ. فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ آمَنُوا مِنْ بَعْدِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ يُؤْمِنُونَ مِنْ بَعْدُ لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ بِأَنْ هَاجَرُوا قُبِلُوا وَصَارُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ بِنَاءُ بَعْدُ عَلَى الضَّمِّ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: مِنْ بَعْدِ مَا قُلْنَاهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِلَّا صَارَ هَذَا الْكَلَامُ إِعَادَةً لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِذَلِكَ تَسْقُطُ الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْدِيرِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (بَعْدُ).
وَفِي قَوْلِهِ: مَعَكُمْ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ دُونَ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَقِرُّوا بِدَارِ الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الْجِهَادِ مُدَّةً.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا، دُونَ الضَّمِيرِ، لِلِاعْتِنَاءِ بِالْخَبَرِ وَتَمْيِيزِهِمْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَ «مِنْ» فِي قَوْله: مِنْكُمْ تبعضية، وَيُعْتَبَرُ الضَّمِير الْمَجْرُور بِمن، جَمَاعَةُ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ فَقَدْ صَارُوا مِنْكُمْ، أَيْ مِنْ جَمَاعَتِكُمْ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ وَلَايَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
90
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أَيْ مِثْلُكُمْ فِي النَّصْرِ وَالْمُوَالَاةِ، قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ «يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، أَيِ اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ فِي أَنَّ الْمُهَاجِرَ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ وَالْعَكْسِ، وَهُوَ قَوْلُ فِرْقَةٍ. وَقَالُوا: إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فَلَا يَقْتَضِي اتِّحَادًا بَيْنَ الْمَعْطُوفَةِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِثْرِ التَّقَاسِيمِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ لَهَا حَظًّا فِي إِتْمَامِ التَّقْسِيمِ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِي
الْمَصَاحِفِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً.
فَيَظْهَرُ أَنَّ التَّقَاسِيمَ السَّابِقَةَ لَمَّا أَثْبَتَتْ وَلَايَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَفَتْ وَلَايَةً مِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا حَتَّى يُهَاجِرُوا، ثُمَّ عَادَتْ عَلَى الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تَقَاعُسِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ بِالْبَقَاءِ فِي دَارِ الْكُفْرِ مُدَّةً، فَبَيَّنَتْ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ وَهَاجَرُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي وَلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَشْغَلُ السَّامِعِينَ عَنْ وَلَايَةِ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُذَكِّرُ بِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَرْحَامِ قَائِمَةٌ وَأَنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِغَيْرِهَا مِنَ الْوَلَايَةِ فَمَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ الشُّرُوطِ، وَشَأْنُ الصِّفَاتِ وَالْغَايَاتِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَاتُ قَبْلَهَا مِنَ الْوَلَايَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَلْ مُقَيِّدَةً الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِيهَا.
وَظَاهِرُ لَفْظِ الْأَرْحامِ جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مَقَرُّ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبْقَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي اللُّغَةِ، فَجَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ ذَوِي الْقَرَابَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأُمُومَةِ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْحَامِ الْعَصَابَاتِ دُونَ الْمَوْلُودِينَ بِالرَّحِمِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ لَفْظَ الرَّحِمِ يُرَادُ بِهِ الْعَصَابَةُ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ «وَصَلَتْكَ رَحِمٌ»
، وَكَقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ:
91
حَيْثُ عَبَّرَتْ عَنْ نَوْشِ بَنِي أَبِيهِ بِتَمْزِيقِ أَرْحَامٍ.
وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْلى هُوَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَنَّ الْوَلَايَةَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا تُعْتَبَرُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَحَلِّ الْولَايَة الشَّرْعِيَّة فأولوا الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِالْوَلَايَةِ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُمْ وَلَايَةٌ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا فِي وَلَايَةِ النَّصْرِ فِي الدَّين إِذا لَمْ يَقُمْ دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ تَرْكِ هِجْرَةٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ وَلَايَةَ الْإِيمَانِ، وَأُولُو الْأَرْحَامِ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ وَلَايَةَ النَّسَبِ، وَلِوَلَايَةِ الْإِسْلَامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِوَلَايَةِ الْأَرْحَامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ أَيْضًا، بِحَيْثُ لَا تُزَاحِمُ إِحْدَى الْوَلَايَتَيْنِ الْأُخْرَى، وَالِاعْتِنَاءُ بِهَذَا الْبَيَانِ مُؤذن بِمَا لَو شائج الْأَرْحَامِ مِنَ الِاعْتِبَارِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ، فَلِذَلِكَ عُلِّقَتْ أَوْلَوِيَّةُ الْأَرْحَامِ بِأَنَّهَا كَائِنَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ.
وَكِتَابُ اللَّهِ قَضَاؤُهُ وَشَرْعُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، إِمَّا بَاقٍ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى
الْمَفْعُولِ، أَيْ مَكْتُوبَةٌ كَقَوْلِ الرَّاعِي:
كَانَ كِتَابُهَا مَفْعُولَا (١) وَجَعْلُ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ كَائِنَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَن عدم تَعْبِيره، الأنّهم كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَوْكِيدَ عَهْدٍ كَتَبُوهُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُمَزَّقُ
حَذَرَ الْجَوْرِ والتّطاخي وَهل ين قض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
فَتَقْيِيدُ أَوْلَوِيَّةِ أُولِي الْأَرْحَامِ بِأَنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِطْرِيٌّ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَثْبَتَهُ بِمَا وَضَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ»
الْحَدِيثَ. فَلَمَّا كَانَتْ وَلَايَةُ الْأَرْحَامِ أَمْرًا مُقَرَّرًا فِي الْفِطْرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ وَلَايَةُ الدِّينِ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ وَلَايَةَ الدِّينِ لَا تُبْطِلُ وَلَايَةَ الرَّحِمِ إِلَّا إِذَا تَعَارَضَتَا، لِأَنَّ أَوَاصِرَ الْعَقِيدَةِ وَالرَّأْيِ أَقْوَى مِنْ أَوَاصِرِ الْجَسَدِ، فَلَا يُغَيِّرُهُ مَا وَرَدَ هُنَا مِنْ أَحْكَامِ وَلَايَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْأَصْلِيِّ لِوَلَايَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَانُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى أَهْلِ الْوَلَايَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْوَلَايَةُ، وَيَنْتَفِي التَّفْضِيلُ بِانْتِفَاءِ أَصْلِهَا، فَلَا وَلَايَةَ لِأُولِي الْأَرْحَامِ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ.
_________
(١) أول الْبَيْت.
92
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ وَلَايَةَ الْأَرْحَامِ هُنَا هَلْ تَشْمَلُ وَلَايَةَ الْمِيرَاثِ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ أَيْ فَهِيَ وَلَايَةُ النَّصْرِ وَحُسْنُ الصُّحْبَة، أَي فنقصر عَلَى مَوْرِدِهَا وَلَمْ يَرَهَا مُسَاوِيَةً لِلْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ إِذْ لَيْسَتْ صِيغَتُهَا صِيغَةَ عُمُومٍ، لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ قَوْلُهُ: أَوْلى بِبَعْضٍ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ تَشْمَلُ وَلَايَةَ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْوَلَايَةُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَبَطَلَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ غُمُوضًا جَعَلَهَا مَرَامِيَ لِمُخْتَلَفِ الْأَفْهَامِ وَالْأَقْوَالِ. وَأَيًّا مَا كَانَتْ فَقَدْ
جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا أَغْنَى عَنْ زِيَادَةِ الْبَسْطِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ هُوَ مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ لِتَقْرِيرِ أَوْلَوِيَّةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِيمَا فِيهِ اعْتِدَادٌ بِالْوَلَايَةِ، أَيْ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْوَلَايَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لِآصِرَةِ الرَّحِمِ حَقًّا فِي الْوَلَايَةِ هُوَ ثَابِتٌ مَا لَمْ يُمَانِعْهُ مَانِعٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَهَذَا الْحُكْمُ مِمَّا عَلِمَ، اللَّهُ أَنَّ إِثْبَاتَهُ رِفْقٌ ورأفة بالأمّة.
93

بِسم الله الرّحمن الرّحيم

٩- سُورَةُ التَّوْبَةِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ، وَفِي كَلَامِ السَّلَفِ: سُورَةُ بَرَاءَةٌ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قِصَّةِ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ،
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أهل منى بِبَرَاءَة»
. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، وَعَن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
«آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ»، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ».
وَهِيَ تَسْمِيَةٌ لَهَا بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ مِنْهَا.
وَتُسَمَّى «سُورَةُ التَّوْبَةِ» فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ فِي مَصَاحِفَ كَثِيرَةٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «سُورَةُ التَّوْبَةِ هِيَ الْفَاضِحَةُ»، وَتَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» بِاسْمِ التَّوْبَةِ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ:
أَنَّهَا وَرَدَتْ فِيهَا تَوْبَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ حَدَثٌ عَظِيمٌ.
وَوَقَعَ هَذَانِ الِاسْمَانِ مَعًا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، فِي بَابِ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قَالَ زَيْدٌ «فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، حَتَّى خَاتِمَة سُورَة الْبَرَاءَة [١٢٨].
وَهَذَانِ الِاسْمَانِ هُمَا الْمَوْجُودَانِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا.
وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَسْمَاءٌ أُخَرُ، وَقَعَتْ فِي كَلَامِ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَدْعُوهَا (أَيْ سُورَةَ بَرَاءَةٌ) «الْمُقَشْقِشَةَ»
(بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ قَشْقَشَهُ إِذَا أَبْرَاهُ مِنَ الْمَرَضِ)، كَانَ هَذَا لَقَبًا لَهَا وَلِسُورَةِ «الْكَافِرُونَ» لِأَنَّهُمَا تُخَلِّصَانِ مَنْ آمَنَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ النِّفَاقِ وَالشِّرْكِ، لِمَا فِيهِمَا مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَلِمَا فِيهِمَا مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ.
95
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدْعُوهَا «الْفَاضِحَةَ» : قَالَ مَا زَالَ يَنْزِلُ فِيهَا «وَمِنْهُمْ- وَمِنْهُمْ» حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا.
وَأَحْسَبُ أَنَّ مَا تَحْكِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ يَعْرِفُ بِهِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُ فَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التَّوْبَة:
٤٩] فَقَدْ قَالَهَا بَعْضُهُمْ وَسُمِعَتْ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيءَ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التَّوْبَة: ٦١] فَهَؤُلَاءِ نُقِلَتْ مَقَالَتُهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ [التَّوْبَة: ٤٢].
وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ سَمَّاهَا «سُورَةَ الْعَذَابِ» لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَذَابِ الْكُفَّارِ، أَيْ عَذَابِ الْقَتْلِ، وَالْأَخْذِ حِينَ يُثْقَفُونَ.
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمَّاهَا «الْمُنَقِّرَةَ» (بِكَسْرِ الْقَافِ مُشَدَّدَةٍ) لِأَنَّهَا نَقَّرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ (لَعَلَّهُ يَعْنِي مِنْ نَوَايَا الْغَدْرِ بِالْمُسْلِمِينَ والتمالي على نقص الْعَهْدِ، وَهُوَ مِنْ نَقَرَ الطَّائِرُ إِذَا أَنْفَى بِمِنْقَارِهِ مَوْضِعًا مِنَ الْحَصَى وَنَحْوِهِ لِيَبِيضَ فِيهِ).
وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ: تَسْمِيَتُهَا «الْبَحُوثَ» - بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ بِوَزْنِ فَعُولٍ- بِمَعْنَى الْبَاحِثَةِ، وَهُوَ مِثْلُ تَسْمِيَتِهَا «الْمُنَقِّرَةَ».
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ دَعَاهَا «الْحَافِرَةَ» كَأَنَّهَا حَفَرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَتْهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُثِيرَةَ» لِأَنَّهَا أَثَارَتْ عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَظْهَرَتْهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمَّاهَا «الْمُبَعْثِرَةَ» لِأَنَّهَا بَعْثَرَتْ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ أَخْرَجَتْهَا مِنْ مَكَانِهَا.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُخْزِيَةَ» - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الزَّايِ- وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [التَّوْبَة: ٢].
وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُنَكِّلَةَ»، أَيْ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ. وَفِيهِ أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُشَدِّدَةَ».
96
وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُدَمْدِمَةَ» - بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ دَمْدَمَ إِذَا أَهْلَكَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: مَا كَانَ لِلنَّبِيءِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التَّوْبَة: ١١٣] الْآيَةَ
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ «يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ». فَكَانَ آخِرَ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنه عَنْكَ»
. وَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ فَنَزَلَتْ مَا كَانَ لِلنَّبِيءِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ١١٣].
وَشَذَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا مَكِّيَّتَانِ، وَهُمَا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ١٢٨] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ. نَزَلَ فِي الْعَبَّاسِ إِذْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَيَّرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقَالَ: نَحْنُ نَحْجُبُ الْكَعْبَةَ إِلَخْ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ نُزُولًا عِنْدَ الْجَمِيعِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَتْحِ، فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، فَهِيَ السُّورَة الرَّابِعَة عشرَة بَعْدَ الْمِائَةِ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ آخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، بَعْدَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: قُبَيْلَ خُرُوجِهِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَتَكُونُ مِثْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَيْنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ.
وَفَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضَ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوْزَاعًا فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ: أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا ابْتِدَاءُ نُزُولِ سُورَةٍ أُخْرَى.
وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: ١٣] نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَرِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
97
لِيُؤَذِّنَ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ. وَهَذَا مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ثَلَاثِينَ آيَةً مِنْهَا، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التَّوْبَة: ٣٠] أُذِّنَ بِهَا يَوْمَ الْمَوْسِمِ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ آيَةً: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: ٤٠] أُذِّنَ بِهِ فِي الْمَوْسِمِ، كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا يُغَلِّبُ الظَّنَّ بِأَنَّ أَرْبَعِينَ آيَةً نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، عَلَى أَنَّ نُزُولَ جَمِيعِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الصِّحَّةِ.
وَعَدَدُ آيِهَا، فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ: مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً، وَفِي عَدِّ
أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً.
اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، عَقَدَ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ عَامِهِ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ (عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ مُخَالَطَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَجِّ مَعَهُ، وَسَمَاعَ تَلْبِيَتِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ، أَيْ قَوْلِهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ».- وَطَوَافُهُمْ عُرَاةً، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ لَمْ يَزَلْ عَامِلًا لَمْ يُنْقَضْ- وَالْمَعْنَى أَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ يَرْبَأُ عَنْ أَنْ يَسْمَعَ مُنْكَرًا مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يُغَيِّرُهُ بِيَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى الْإِيمَانِ- فَأَمْسَكَ عَنِ الْحَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرًا عَنْ وَحْيٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التَّوْبَة: ١٧، ١٨]- وَقَوْلِهِ- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَة: ٢٨] الْآيَةَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ بِسَبَبِ دَمٍ كَانَ لِبَنِي بَكْرٍ عِنْدَ خُزَاعَةَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِمُدَّةٍ. وَاقْتَتَلُوا فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ. وَاسْتَصْرَخَتْ خُزَاعَةُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ
98
مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى الْحَجِّ وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ صَدْرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ (١). ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَقَعُ خَلْطٌ فِي الْأَخْبَارِ بَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَحُجَّ بِالْمُسْلِمِينَ عِوَضًا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ اشْتَبَهَ بِهِ الْغَرَضَانِ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يتلبّس وعَلى بِمن لُبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَأَرَدْنَا إِيقَاظَ الْبَصَائِرِ لِذَلِكَ. فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِهَا، وَذِكْرُهُ أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا.
فَافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَحْدِيدِ مُدَّةِ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ حَالَةِ حَرْبٍ وَأَمْنٍ وَفِي خِلَالِ مُدَّةِ الْحَرْبِ مُدَّةُ تَمْكِينِهِمْ مِنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الدِّينِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ.
وَأُتْبِعَ بِأَحْكَامِ الْوَفَاءِ وَالنَّكْثِ وَمُوَالَاتِهِمْ.
وَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحُضُورِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
وَإِبْطَالِ مَنَاصِبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا.
وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ.
وَإِعْلَانِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بَعِيدًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ لَا تَنْفَعُهُمْ قُوَّتُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ.
وَحُرْمَة الْأَشْهر الْحرم.
وَضَبْطِ السَّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِبْطَالِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِجَابَةِ إِلَى النَّفِيرِ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ الله، وَنصر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُ نَبِيِّهِ وَنَاصِرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِنَصْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَبِنَصْرِهِ إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا هَيَّأَ لَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
_________
(١) من أول السُّورَة حَتَّى قَوْله: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: ٤٠].
99
وَالْإِشَارَةِ إِلَى التَّجْهِيزِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَذَمِّ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَثَاقِلِينَ وَالْمُعْتَذِرِينَ وَالْمُسْتَأْذِنِينَ فِي التَّخَلُّفِ بِلَا عُذْرٍ. وَصِفَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ جُبْنٍ وَبُخْلٍ وَحِرْصٍ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُسْتَحِقِّيهَا.
وَذِكْرِ أَذَاهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ. وَأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ وَأَمْرِهِمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَكَذِبِهِمْ فِي عُهُودِهِمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْأَمْرِ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَذَمَّةِ مَا أَدْخَلَهُ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ التَّكَالُبِ عَلَى الْأَمْوَالِ.
وَأَمْرِ اللَّهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي جِهَادِهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ.
وَنَهْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ.
وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
وَذِكْرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَ الضِّرَارِ عَنْ سُوءِ نِيَّةٍ، وَفَضْلِ مَسْجِدِ قِبَاءَ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ.
وَانْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ حَالَةِ الْأَعْرَابِ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ وَمُهَاجِرِهِمْ وَمُتَخَلِّفِهِمْ.
وَقُوبِلَتْ صِفَاتُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ بِأَضْدَادِهَا صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ.
وَذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَفَضْلُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَالْجِهَادِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالتَّذْكِيرِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ يَأْسِهِمْ.
وَالتَّنْوِيهِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَجَيْشِهَا.
وَالَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا.
100
وَالِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ جَبَلَهُ عَلَى صِفَاتٍ فِيهَا كُلُّ خَيْرٍ لَهُمْ.
وَشَرْعِ الزَّكَاةِ وَمَصَارِفِهَا وَالْأَمْرِ بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَنَشْرِ دَعْوَةِ الدِّينِ. اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ كِتَابَةَ الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. فَجَعَلُوا سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَقِبَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِدُونِ بَسْمَلَةٍ بَيْنَهُمَا، وَتَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ. وَأَوْضَحُ الْأَقْوَالِ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ وَكَانَت قصّتها شَبِيها بِقِصَّتِهَا وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»
. وَنَشَأَ مِنْ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ كَتَبَةَ الْمَصَاحِفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَنْفَالِ. وَبَرَاءَة، هَلْ هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ هُمَا سُورَتَانِ، فَتَرَكُوا فُرْجَةً فَصْلًا بَيْنَهُمَا مُرَاعَاةً
لِقَوْلِ مَنْ عَدَّهُمَا سُورَتَيْنِ، وَلَمْ يَكْتُبُوا الْبَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً،
وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَرَكُوا الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهَا لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ أَمَانٌ وَبِشَارَةٌ، وَسُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بِنَبْذِ الْعُهُودِ وَالسَّيْفِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُبْدَأْ بِشِعَارِ الْأَمَانِ
، وَهَذَا إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُونَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَدَا سُورَةِ بَرَاءَةٌ، فَفِي هَذَا رَعْيٌ لِبَلَاغَةِ مَقَامِ الْخِطَابِ كَمَا أَنَّ الْخَاطِبَ الْمُغْضَبَ يبْدَأ خطبَته «بأمّا بَعْدُ» دُونَ اسْتِفْتَاحٍ. وَشَأْنُ الْعَرَبِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ عَهْدٌ فَأَرَادُوا نَقْضَهُ، كَتَبُوا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْبِذُونَ إِلَيْهِمْ بِالْعَهْدِ كِتَابًا وَلَمْ يَفْتَتِحُوهُ بِكَلِمَةِ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْمَوْسِمِ فَقَرَأَ صَدْرَ بَرَاءَةٌ وَلَمْ يُبَسْمِلْ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي رَسَائِلِ نَقْضِ الْعُهُودِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى
101
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
حَتَّى إِذا قرت عجاجة فتْنَة عمياء كَانَ كتابها مَفْعُولا