تفسير سورة الأنفال

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ الآية.
اختلف العلماء في المراد بالأنفال هنا على خمسة أقوال :
الأول : أن المراد بها خصوص ما شذ عن الكافرين إلى المؤمنين، وأخذ بغير حرب كالفرس والبعير يذهب من الكافرين إلى المسلمين، وعلى هذا التفسير فالمراد بالأنفال هو المسمى عند الفقهاء فيئا، وهو الآتي بيانه في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ [ الحشر : ٦ ] وممن قال بهذا القول عطاء بن أبي رباح.
الثاني : أن المراد بها الخمس وهو قول مالك.
الثالث : أن المراد بها خمس الخمس.
الرابع : أنها الغنيمة كلها وهو قول الجمهور وممن قال به ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء، والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد قاله ابن كثير.
الخامس : أن المراد بها أنفال السرايا خاصة وممن قال به الشعبي، ونقله ابن جرير عن علي بن صالح بن حي، والمراد بهذا القول : ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، واختار ابن جرير أن المراد بها الزيادة على القسم. قال ابن كثير : ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية. وهو ما رواه أحمد حيث قال : حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر، وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص. وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال :«اذهب فاطرحه في القبض » قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال : فما جاوزت إلا يسيراً حتى تزلت سورة الأنفال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اذهب فخذ سلبك »، وقال الإمام أحمد أيضاً : حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال : قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال :«إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه »، قال : فوضعته، ثم رجعت فقلت : عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي، قال : فإذا رجل يدعوني من ورائي قال : قلت قد أنزل الله في شيئاً، قال : كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك. قال : وأنزل الله هذه الآية :﴿ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي : حسن صيح، وهكذا رواه أبو داود الطيالسي : أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت فيَّ أربع آيات من القرآن أصبت سيفاً يوم بدر فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت : نفلنيه فقال :«ضعه من حيث أخذته مرتين »، ثم عاودته فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«ضعه من حيث أخذته » فنزلت هذه الآية ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ﴾ الآية، وتمام الحديث في نزول ﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ﴾ [ العنكبوت : ٨ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] الآية. وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به. وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر، وكان السيف يدعى بالمرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه، ورواه ابن جرير من وجه آخر اه. كلام ابن كثير.
قال مقيده : عفا الله عنه جمهور العلماء على أن الآية نزلت في غنائم بدر لما اختلف الصحابة فيها، فقال بعضهم : نحن هم الذين حزنا الغنائم، وحويناها فليس لغيرنا فيها نصيب : وقالت المشيخة : إنا كنا لكم ردءاً، ولو هزمتم للجأتم إلينا فاختصموا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت : أنها نزلت في ذلك. وقال الترمذي : هذا حديث صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال، صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ؛ وروي نحو ذلك أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، وابن جرير، وابن مروديه من طرق عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس. وعلى هذا القول الذي هو قول الجمهور، فالآية مشكلة مع قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الآية.
وأظهر الأقوال التي يزول بها الإشكال في الآية : هو ما ذكره أبو عبيد ونسبه القرطبي في تفسيره لجمهور العلماء أن قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ الآية. ناسخ لقوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ﴾ الآية. إلا أن قول أبي عبيد : إن غنائم بدر لم تخمس، لأن آية الخمس لم تنزل إلا بعد قسم غنائم بدر غير صحيح، ويدل على بطلانه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه «كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ » الحديث. فهذا نص صحيح في تخميس غنائم بدر، لأن قول علي في هذا الحديث الصحيح يومئذ صريح في أنه يعني يوم بدر كما ترى.
فالحاصل أن آية ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الآية. بينت أنه ليس المراد قصر الغنائم على الرسول المذكور في أول السورة، وأنها تعطى أربعة أخماس منها للغانمين، وقد ذكرنا آنفا أن أبا عبيد قال : إنها ناسخة لها، ونسبه القرطبي للجمهور، وسيأتي لهذا المبحث زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في الكلام على قوله :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾.
في هذه الآية الكريمة التصريح بزيادة الإيمان، وقد صرح تعالى بذلك في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٤ ]، وقوله :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [ الفتح : ٤ ] الآية، وقوله :﴿ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً ﴾ [ المدثر : ٣١ ] الآية، قوله :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ﴾.
وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضاً. لأن كل ما يزيد ينقص، وجاء مصرحاً به في أحاديث الشفاعة الصحيحة كقوله :«يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة من إيمان » ونحو ذلك.
قوله تعالى :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ألقى النعاس على المؤمنين ليجعل قلوبهم آمنة غير خائفة من عدوها، لأن الخائف الفزع لا يغشاه النعاس، وظاهر سياق هذه الآية أن هذا النعاس ألقي عليهم يوم بدر، لأن الكلام هنا في وقعة بدر، كما لا يخفى.
وذكر في سورة آل عمران أن النعاس غشيهم أيضاً يوم أحد، وذلك في قوله تعالى في وقعة أحد :﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً ﴾ [ آل عمران : ١٥٤ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾.
المراد بالفتح هنا في هذه الآية عند جمهور العلماء : الحكم وذلك أن قريشاً لما أرادوا الخروج إلى غزوة بدر تعلقوا بأستار الكعبة، وزعموا أنهم قطان بيت الله الحرام، وأنهم يسقون الحجيج، ونحو ذلك، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم فرق الجماعة، وقطع الرحم، وسفه الآباء، وعاب الدين، ثم سألوا الله أن يحكم بينهم، وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأن يهلك الظالم منهم، وينصر المحق، فحكم الله بذلك وأهلكهم، ونصره، وأنزل الآية، ويدل على أن المراد بالفتح هنا الحكم. أنه تعالى أتبعه بما يدل على أن الخطاب لكفار مكة، وهو قوله :﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ ﴾، وبين ذلك إطلاق الفتح بمعنى الحكم في القرآن في قوله عن شعيب وقومه :﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين، ويدل لذلك قوله تعالى : عن شعيب في نفس القصة ﴿ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٨٧ ]، وهذه لغة حمير لأنهم يسمون القاضي فتاحاً والحكومة فتاحة، ومنه قول الشاعر :
ألا أبلغ بني عمرو رسولا بأني عن فتاحتكم غني
أي عن حكومتكم وقضائكم، أما ما ذكره بعض أهل العلم من أن الخطاب في قوله :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ ﴾ للمؤمنين. أي تطلبوا الفتح والنصر من الله، وأن الخطاب في قوله بعده :﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ للكافرين. فهو غير ظاهر، كما ترى.
قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
أمر تعالى الناس في هذه الآية الكريمة أن يعلموا أن أموالهم وأولادهم فتنة يختبرون بها، هل يكون المال والولد سبباً للوقوع فيما لا يرضى الله ؟ وزاد في مواضع آخر أن الأزواج فتنة أيضاً، كالمال والولد، فأمر الإنسان بالحذر منهم أن يوقعوه فيما لا يرضى الله. ثم أمره إن اطلع على ما يكره من أولئك الأعداء الذين هم أقرب الناس له، وأخصهم به، وهم الأولاد، والأزواج أن يعفو عنهم، ويصفح ولا يؤاخذهم. فيحذر منهم أولاً، ويصفح عنهم إن وقع منهم بعض الشيء، وذلك في قوله في التغابن :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [ التغابن : ١٤ – ١٥ ].
وصرح في موضع آخر بنهي المؤمنين عن أن تلهيهم الأموال والأولاد عن ذكره جل وعلا، وأن من وقع في ذلك فهو الخاسر المغبون في حظوظه، وهو قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ المنافقون : ٩ ]، والمراد بالفتنة في الآيات : الاختبار والابتلاء، وهو أحد معاني الفتنة في القرآن.
قوله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
قال ابن عباس، والسدَّي، ومجاهد وعكرمة، والضحاك وقتادة، ومقاتل بن حيان، وغير واحد : فرقاناً مخرجاً، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة، وفي رواية عن ابن عباس فرقاناً : نجاة، وفي رواية عنه : نصراً. وقال محمد بن إسحاق : فرقاناً. أي فصلا بين الحق والباطل، قاله ابن كثير.
قال مقيده : عفا الله عنه قول الجماعة المذكورة : إن المراد بالفرقان المخرج يشهد له قوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية والقول بأنه النجاة أو النصر، راجع في المعنى إلى هذا، لأن من جعل الله له مخرجاً أنجاه ونصره، لكن الذي يدل القرآن واللغة على صحته في تفسير الآية المذكورة هي قول ابن إسحاق، لأن الفرقان مصدر زيدت فيه الألف والنون، وأريد به الوصف أي الفارق بين الحق والباطل، وذلك هو معناه في قوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [ الفرقان : ١ ]، أي الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [ آل عمران : ٤ ]، وقوله :﴿ وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾ [ البقرة : ٥٣ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٨ ]، ويدل على أن المراد بالفرقان هنا : العلم الفارق بين الحق والباطل. قوله تعالى في الحديد :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ] الآية.
لأن قوله هنا :﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ يعني : علماً وهدى تفرقون به بين الحق والباطل، ويدل على أن المراد بالنور هنا الهدى، ومعرفة الحق قوله تعالى فيمن كان كافراً فهداه الله :﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] الآية. فجعل النور المذكور في الحديد : هو معنى الفرقان المذكور في الأنفال كما ترى. وتكفير السيئات والغفران المرتب على تقوى الله في آية الأنفال، كذلك جاء مرتباً أيضاً عليها في آية الحديد، وهو بيان واضح كما ترى.
قوله تعالى :
﴿ قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ ﴾ الآية.
قد بينا قبل هذا الآيات المصرحة بكذبهم، وتعجيز الله لهم عن الإتيان بمثله. فلا حاجة إلى إعادتها هنا، وقوله هنا في هذه الآية عنهم :﴿ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ رد الله عليهم كذبهم وافتراءهم هذا في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين اكْتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاواتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ الفرقان : ٥ -٦ ] وما أنزله عالم السر في السماوات والأرض فهو بعيد جداً من أن يكون أساطير الأولين، وكقوله :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِي وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبي مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] إلى غير ذلك من الآيات :
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هََا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
ذكر هنا في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن كفار مكة في غاية الجهل حيث قالوا :﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا ﴾ الآية، ولم يقولوا فاهدنا إليه، وجاء في آيات أخر ما يدل على ذلك أيضاً كقوله عنهم :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ ص : ١٦ ]، وقوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ [ الحج : ٤٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ [ هود : ٨ ] وذكر عن بعض الأمم السالفة شبه ذلك كقوله في قوم شعيب :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨٧ ]، وقوله عن قوم صالح :﴿ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ]، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة «سأل سائل ».
قوله تعالى :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أولياءه إِنْ أولياؤه إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ﴾.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بنفي ولاية الكفار على المسجد الحرام، وأثبتها لخصوص المتقين، وأوضح هذا المعنى في قوله :﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [ التوبة : ١٧ – ١٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ الآية.
المكاء : الصفير، والتصدية : التصفيق، قال بعض العلماء : والمقصود عندهم بالصفير والتصفيق التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أولاً، ولكنه تعالى في سورة «الحشر » أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا، وذلك في قوله تعالى : في فيء بني النضير ﴿ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ [ الحشر : ٦ ] الآية، ثم بين شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله :﴿ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ [ الحشر : ٧ ] الآية.
اعلم أولاً أن أكثر العلماء فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا : الفيء، هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير إنزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة : فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ [ ٤١ ] الآية مع قوله :﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ فإن قوله تعالى :﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ الآية : ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله :
في غزوة بني النضير
وفيئهم والفيء في الأنفال *** ما لم يكن أخذ عن قتال
أما الغنيمة فعن زحاف *** والأخذ عنوة لدى الزحاف
لخير مرسل الخ.
وقوله : وفيئهم مبتدأ خبره لخير مرسل، وقوله : والفيء في الأنفال إلخ كلام اعتراضي بين المبتدأ والخبر بين به الفرق بين الغنيمة والفيء، وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات، لأن آية ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ ذكر فيها حكم الغنيمة، وآية ﴿ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [ الحشر : ٧ ] ذكر فيها حكم الفيء وأشير لوجه الفرق بين المسألتين بقوله :﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ ﴾ [ الحشر : ٦ ] أي فكيف يكون غنيمة لكم، وأنتم لم تتعبوا فيه ولم تنتزعوه بالقوة من مالكيه.
وقال بعض العلماء : إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيء، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي :
فلا وأبي جليلة ما أفأنا *** من النعم المؤبل من بعير
ولكنا نهكنا القوم ضربا *** على الأثباج منهم والنحور
يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال فقوله :
أفأنا : يعني غنماً، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ]، لأن ظاهر هذه الآية الكريمة شمول ذلك لجميع المسبيات ولو كن منتزعات قهراً، ولكن الاصطلاح المشهور عند العلماء هو ما قدمنا من الفرق بينهما، وتدل له آية الحشر المتقدمة. وعلى قول قتادة فآية الحشر مشكلة مع آية الأنفال هذه، ولأجل ذلك الإشكال قال قتادة، رحمه الله تعالى : إن آية ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ الآية، ناسخة لآية ﴿ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [ الحشر : ٦ ] الآية، وهذا القول الذي ذهب إليه رحمه الله باطل بلا شك، ولم يلجيء قتادة رحمه الله إلى هذا القول إلا دعواه اتحاد الفيء والغنيمة، فلو فرق بينهما كما فعل غيره لعلم أن آية الأنفال في الغنيمة، وآية الحشر في الفيء، ولا إشكال. ووجه بطلان القول المذكور : أن آية ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ ﴾ الآية نزلت بعد وقعة بدر، قيل قسم غنيمة بدر بدليل حديث على الثابت في صحيح مسلم، الدال على أن غنائم بدر خمست، وآية التخميس التي شرعه الله بها هي هذه، وأما آية الحشر فهي نازلة في غزوة بني النضير بإطباق العلماء، وغزوة بني النضير بعد غزوة بدر بإجماع المسلمين، ولا منازعة فيه البتة، فظهر من هذا عدم صحة قتادة رحمه الله تعالى، وقد ظهر لك أنه على القول بالفرق بين الغنيمة والفيء لا إشكال في الآيات، وكذلك على قول من يرى أمر الغنائم والفيء راجعاً إلى نظر الإمام، فلا منافاة على قوله بين آية الحشر، وآية التخميس إذا رآه الإمام، والله أعلم.
* * *
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ غَنِمْتُمْ ﴾، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال :﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ﴾ [ النساء : ١١ ] أي ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعاً، فكذلك قوله :﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ أي وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر وابن عبد البر، والداودي والمازري، والقاضي عياض وابن العربي، والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري رحمه الله أيضاً قالوا : للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين.
واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [ الأنفال : ١ ] الآية. قالوا : الأنفال : الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، واحتجوا لذلك أيضاً بما وقع في فتح مكة ؛ وقصة حنين قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجباً : لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ؛ قالوا : وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جداً، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار لعطاياه من غنائم هوازن في وقعة حنين الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة حنين بقوله :
أعطى عطايا شهدت بالكرم *** يومئذ له ولم تجمجم
أعطى عطايا أخجلت دلح الديم *** إذا ملأت رحب الغضا من النعم
زهاء ألفي ناقة منها وما *** ملأ بين جبلين غنما
لرجل وبله ما لحلقه *** منها ومن رقيقه وورقه
الخ قالوا : لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى صلى الله عليه وسلم ألفى ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور :
أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بن عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرىء منهما *** ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أباعير أعطيتها *** عديد قوائمه الأربع
وكانت نهاباً تلافيتها *** بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم إن يرقدوا *** إذا هجع الناس لم أهجع
قالوا : فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجباً، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور ؛ وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات : فالجواب عن آية ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ﴾ [ الأنفال : ١ ] هو ما قدمنا من أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ ﴾ الآية، ونسبه القرطبي لجمهور العلماء، والجواب عما وقع في فتح مكة من أوجه :.
الأول : أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه صلى الله عليه وسلم. وممن قال بهذا الشافعي رحمه الله.
واستدل قائلوا هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم :«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن » وهو ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النَّبي صلى الله عليه وسلم عنوة ؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان ؛ والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله : في غزوة الفتح يعني مكة :
واختلفوا فيها فقيل أمنت *** وقيل عنوة وكرهاً أخذت
والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله. ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد، لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة، فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة.
وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصال قال : يمنعنا ويعطي قريشاً، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن، ومن جملته أنه قال لهم :«ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم » إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظاً، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به صلى الله عليه وسلم بقوله : في غزوة حنين :
ووكل الأنصار خير العالمين *** لدينهم إذا ألف المؤلفين
فوجدوا عليه أن منعهم *** فأرسل النَّبي من جمعهم
وقال قولاً كالفريد المؤنق *** عن نظمه ضعف سلك منطقي
فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل، والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور.
وقد علمت الجواب عن حجج المخالفين في ذلك ؛ ومن العلماء من يقول : لا يجوز للإمام أن ينفل أحداً شيئاً من هذه الأخماس الأربعة، لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك.
وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلاً، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى.
* * *
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيراً مشيراً إلى أن ذلك سبب للفلاح ؛ والأمر بالشيء نهى عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات ؛ أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾ [ الأنفال : ١٥ ] إلى قوله :﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [ الأنفال : ١٦ ]، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات ؛ وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال. ولا سيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.
قال عنترة في معلقته :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تفطر من دمي
وقال الآخر :
ذكرتك والخطى يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر
تنبيه
قال بعض العلماء : كل «لعل » في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء :﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٩ ] فهي بمعنى «كأنكم تخلدون ».
قال مقيده عفا الله عنه : لفظة «لعل » قد ترد في كلام العرب مراداً بها التعليل، ومنه قوله :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق
فقوله «لعلنا نكف » يعني «لأجل أن نكف »، وكونها للتعليل لا ينافي «معنى الترجي »، لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ الآية.
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ]، ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية :﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ أي قوتكم.
وقال بعض العلماء : نصركم ؛ كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالباً، ومنه قوله :
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل عاصفة سكون
واسم «إن » ضمير الشأن.
وقال صاحب الكشاف : الريح : الدولة، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح في هبوبها، فقيل : هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، ونفذ أمره، ومنه قوله :
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي *** إلا عبيد قعود بني أذوادي
أتنظران قليلا ريث غفلتهم *** أم تعدوان فإن الريح للعادي
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ﴿ إِنِّي بريء مِّنْكُمْ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار، وخدعهم، وقال لهم : لا غالب لكم وأنا جار لكم.
وذكر المفسرون : أنه تمثل لهم في صورة «سراقة بن مالك بن جعشم » سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة، وقال لهم ما ذكر الله عنه، وأنه مجيرهم من بني كنانة، وكانت بينهم عداوة، ﴿ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾، عندما رأى الملائكة وقال لهم :﴿ إِنِّي بريء مِّنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾، فكان حاصل أمره أنه غرهم، وخدعهم حتى أوردهم الهلاك، ثم تبرأ منهم.
وهذه هي عادة الشيطان مع الإنسان كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بريء مِّنكَ ﴾ [ الحشر : ١٦ ] الآية. وقوله :
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمر إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]، إلى قوله :﴿ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]. وكقوله :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ]، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا
دلاهم بغرور ثم أسلمهم إن الخبيث لمن ولاه غرار
قوله تعالى :﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ؛ وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ [ الرعد : ١١ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ]، وقوله :﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ [ النساء : ٧٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِي حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قال بعض العلماء : إن قوله :﴿ وَمَنِ اتَّبَعَكَ ﴾ في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة، أي حسبك الله، وحسبك أيضاً من اتبعك من المؤمنين.
وممن قال بهذا : والحسن، واختاره النحاس وغيره، كما نقله القرطبي، وقال بعض العلماء : هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله :﴿ حَسْبَكَ ﴾ وعليه، فالمعنى حسبك الله أي كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، وبهذا قال الشعبي، وابن زيد وغيرهما، وصدر به صاحب الكشاف، واقتصر عليه ابن كثير وغيره، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير، وأن المعنى كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٩ ]، فجعل الإيتاء لله ورسوله، كما قال :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ [ الحشر : ٧ ]، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعل الحسب مختصاً به وقال :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ ؟ [ الزمر : ٣٦ ] ؟ فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده، وتمدح تعالى بذلك في قوله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : ٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنفال : ٦٢ ] ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده.
وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] وقال تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ ﴾ [ التوبة : ١٢٩ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات، فإن قيل : هذا الوجه الذي دل عليه القرآن، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ضعفه غير واحد من علماء العربية، قال ابن مالك في [ الخلاصة ] :
وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازماً قد جعلا
فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض، قال ابن مالك في [ الخلاصة ] :
وليس عندي لازماً إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتا
وقد قدمنا في «سورة النساء » في الكلام على قوله :﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ﴾ شواهده العربية، ودلالة قراءة حمزة عليه، في قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام ﴾ [ النساء : ١ ].
الوجه الثاني : أنه من العطف على المحل، لأن الكاف مخفوض في محل نصب، إذ معنى ﴿ حَسْبَكَ ﴾ يكفيك، قال في [ الخلاصة ] :
وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن
الوجه الثالث : نصبه بكونه مفعولاً معه، على تقدير ضعف وجه العطف، كما قال في [ الخلاصة ] :
والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق والنصب مختار لدى ضعف النسق
الوجه الرابع : أن يكون ﴿ وَمِنْ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، أي ﴿ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فحسبهم الله أيضاً، فيكون من عطف الجملة، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ ﴾.
لم يعين تعالى في هذه الآية الكريمة المراد بأولي الأرحام ؛ واختلف العلماء في هذه الآية، هل جاء في القرآن ما يبين المراد منها أو لا ؛ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها بينتها آيات المواريث ؛ كما قدمنا نظيره في قوله :﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ﴾ [ النساء : ٧ ].
قالوا : فلا إرث لأحد من أولي الأرحام غير من عينت لهم حقوقهم في آيات المواريث ؛ وممن قال بهذا زيد بن ثابت، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود، وابن جرير وغيرهم ؛ وقالوا : الباقي عن نصيب الورثة المنصوص على إرثهم لبيت مال المسلمين، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث » رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه أيضاً الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه الترمذي وابن حجر، ولا يضعف بأن في إسناده إسماعيل بن عياش، لما قدمنا مراراً أن روايته عن الشاميين قوية، وشيخه في حديث أبي أمامة هذا شرحبيل بن مسلم، وهو شامي ثقة، وقد صرح في روايته بالتحديث.
وقال فيه ابن حجر في [ التقريب ] : صدوق فيه لين، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي صححه الترمذي، من رواية عمرو بن خارجة، وحسنه الترمذي، وابن حجر من رواية أبي أمامة :«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه » يدل بعمومه على أنه لم يبق في التركة حق لغير من عينت لهم أنصباؤهم في آيات المواريث.
وقد قال بعض أهل هذا القول : المراد بذوي الأرحام العصبة خاصة، قالوا : ومنه قول العرب وصلتك رحم، يعنون قرابة الأب دون قرابة الأم، ومنه قول قتيلة بن الحارث، أو بنت النضر بنت الحارث :
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
فأطلقت الأرحام على قرابة بني أبيه، والأظهر على القول بعدم التوريث، أن المراد بذوي الأرحام القرباء، الذين بينت حقوقهم بالنص مطلقاً ؛ واحتج أيضاً من قال : لا يرث ذوو الأرحام بما روي عن عطاء بن يسار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة فأنزل عليه «لا ميراث لهما » أخرجه أبو داود، في المراسيل والدارقطني، والبيهقي، من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء، مرسلاً، وأخرجه النسائي في [ سننه ]، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، من مرسل زيد بن أسلم، ليس فيه ذكر عطاء، ورد المخالف هذا بأنه مرسل.
وأجيب بأن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد ؛ الاحتجاج بالمرسل، وبأنه رواه البيهقي، والحاكم، والطبراني، موصولاً من حديث أبي سعيد، وما ذكره البيهقي من وصله من طريقين.
إحداهما : من رواية ضرار بن صرد أبي نعيم.
والثانية : من رواية شريك بن أبي نمر، عن الحارث بن عبد، مرفوعاً.
وقال محشية، صاحب [ الجوهر النقي ] في ضرار المذكور : إنه متروك ؛ وعزا ذلك للنسائي، وعزا تكذيبه ليحيى بن معين.
وقال في ابن أبي نمر : فيه كلام يسير. وفي الحارث بن عبد : أنه لا يعرفه، ولا ذكر له إلا عند الحاكم في [ المستدرك ] في هذا الحديث.
قال مقيده عفا الله عنه : ما ذكره من أن ضرار بن صرد متروك غير صحيح ؛ لأنه صدوق له بعض أوهام لا توجب تركه.
وقال فيه ابن حجر في [ التقريب ] : صدوق له أوهام وخطأ، ورمي بالتشيع، وكان عارفاً بالفرائض.
وأما ابن أبي نمر : فهو من رجال البخاري، ومسلم.
وأما إسناد الحاكم : فقال فيه الشوكاني، في [ نيل الأوطار ] : إنه ضعيف وقال في إسناد الطبراني : فيه محمد بن الحارث المخزومي. قلت : قال فيه ابن حجر في [ التقريب ] : مقبول، وقال الشوكاني أيضاً، قالوا : وصله أيضاً الطبراني من حديث أبي هريرة.
ويجاب : بأنه ضعفه بمسعدة بن اليسع الباهلي.
قالوا : وصله الحاكم أيضاً من حديث ابن عمر، وصححه.
ويجاب : بأن في إسناده عبد الله بن جعفر المدني، وهو ضعيف.
قالوا : روى له الحاكم شاهداً من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن الحارث بن عبد، مرفوعاً.
ويجاب : بأن في إسناده سليمان بن داود الشاذكوني، وهو متروك.
قالوا : أخرجه الدارقطني من وجه آخر عن شريك.
ويجاب : بأنه مرسل. اه.
قال مقيده عفا الله عنه : وهذه الطرق الموصولة والمرسلة يشد بعضها بعضاً، فيصلح مجموعها للاحتجاج، ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء، كالطريق التي صححها الحاكم، وتضعيفها بعبد الله بن جعفر المدني : فيه أنه من رجال مسلم، وأخرج له البخاري تعليقاً، وقال فيه ابن حجر في [ التقريب ] : ليس به بأس. اه.
واحتجوا أيضاً بما رواه مالك في [ الموطأ ]، والبيهقي، عن محمد بن أبي بكر بن حزم، عن عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي : أنه أخبره عن مولى لقريش كان قديماً يقال له ابن موسى، أنه قال : كنت جالساً عند عمر بن الخطاب، فلما صلى الظهر، قال :«يا يرفأ » هلم ذلك الكتاب لكتاب كتبه في شأن العمة، فنسأل عنها، ونستخبر عنها فأتاه به «يرفأ » فدعا بتور أو قدح فيه ماء، فمحا ذلك الكتاب فيه، ثم قال : لو رَضِيَكِ الله وَارِثَةً أَقَرَّكِ، لَوْ رَضِيَكِ الله أَقَرَّكِ.
وقال مالك في [ الموطأ ] عن محمد بن أبي بكر بن حزم : أنه سمع أباه : كثيراً يقول : كان عمر بن الخطاب يقول : عجباً للعمة ترث وَلاَ تورث، والجميع فيه مقال، وقال جماعة من أهل العلم : لا بيان للآية من القرآن، بل هي باقية على عمومها، فأوجبوا الميراث لذوي الأرحام.
وضابطهم : أنهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب.
وهم أحد عشر حيزاً :
١ - أولاد البنات.
٢ - وأولاد الأخوات.
٣ - وبنات الإخوة.
٤ - وأولاد الأخوة من الأم.
٥ - والعمات من جميع الجهات.
٦ - والعم من الأم.
٧ - والأخوال.
٨ - والخالات.
٩ - وبنات الأعمام.
٠١ والجد أبو الأم.
١١ وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد.
فهؤلاء، ومن أدلى لهم يسمون ذوي الأرحام.
وممن قال بتوريثهم ؛ إذا لم يوجد وارث بفرض أو تعصيب إلا الزوج والزوجة الإمام أحمد.
ويروى هذا القول، عن عمر، وعلي، وعبد الله، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء رضي الله عنهم وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، وعلقمة، ومسروق، وأهل الكوفة، وغيرهم.
نقله ابن قدامة في [ المغني ]، واحتجوا بعموم قوله تعالى :﴿ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ الآية، وعموم قوله تعالى :﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأقربون ﴾ [ النساء : ٧ ] الآية، ومن السنة بحديث المقدام بن معد يكرب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال :«من ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه. وأرث، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، وحسنه أبو زرعة الرازي، وأعله البيهقي بالاضطراب، ونقل عن يحيى بن معين، أنه كان يقول : ليس فيه حديث قوي، قاله في [ نيل الأوطار ].
واحتجوا أيضاً بما رواه أبو أمامة بن سهل، أن رجلاً رمى رجلاً بسهم فقتله، وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر، فكتب إليه عمر : إن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له » رواه أحمد، وابن ماجه، وروى الترمذي المرفوع منه، وقال : حديث حسن.
قال الشَّوكاني رحمه الله : وفي الباب عن عائشة عند الترمذي والنسائي، والدارقطني، من رواية طاوس، عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الخال وارث من لا وارث له » قال الترمذي : حسن غريب، وأعله النَّسائي بالاضطراب، ورجح الدَّارقطني، والبيهقي، وقفه.
قال التّرمذي : وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عائشة.
وقال البزار : أحسن إسناد فيه حديث أبي أُمامة بن سهل، وأخرجه عبد الرزاق، عن رجل من أهل المدينة، والعقيلي وابن عساكر، عن أبي الدرداء، وابن النجار، عن أبي هريرة، كلها مرفوعة. اه.
قال الترمذي : وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام، واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها : وفيه ابن لهيعة.
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلاً عندي، أن الخال يرث من لا وارث له، دون غيره من ذوي الأرحام، لثبوت ذلك فيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بالحديثين المذكورين دون غيره، لأن الميراث لا يثبت إلا بدليل، وعموم الآيتين المذكورتين لا ينهض دليلاً ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه » كما تقدم.
فإذا علمت أقوال العلماء، وحججهم في إرث ذوي الأرحام وعدمه، فاعلم أن القائلين بالتوريث : اختلفوا في كيفيته، فذهب المعروفون منهم بأهل التنزيل، إلى تنزيل كل واحد منهم منزلة من يدلى به من الورثة، فيجعل له نصيبه، فإن بعدوا نزلوا درجة درجة، إلى أن يصلوا من يدلون به، فيأخذون ميراثه، فإن كان واحداً ؛ أخذ المال كله، وإن كانوا جماعة، قسم المال بين من يدلون به، فما حصل لكل وارث جعل لمن يدلى به، فإن بقي من سهام المسألة شيء، رد عليهم على قدر سهامهم.
وهذا، هو مذهب الإمام أحمد، وقو قول علقمة، ومسروق، والشعبي، والنخعي، وحماد، ونعيم، وشريك، وابن أبي ليلى، والثوري، وغيرهم ؛ كما نقله عنهم ابن قدامة في [ المغني ].
وقال أيضاً : قد روي عن علي، وعبد الله رضي الله عنهما : أنهما نزلا بنت البنت منزلة البنت، وبنت الأخ منزلة الأخ، وبنت الأخت منزلة الأخت، والعمة منزلة الأب، والخالة منزلة الأم، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه في العمة، والخالة.
وعن علي أيضاً : أنه نزل العمة منزلة العم، وروي ذلك عن علقمة، ومسروق، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وعن الثوري وأبي عبيد : أنهما نزلاها منزلة الجد مع ولد الأخوة والأخوات، ونزلها آخرون منزلة الجدة.
وإنما صار هذا الخلاف في العمة : لأنها أدلت بأربع جرت وارثاث : فالأب والعم أخواها، والجد والجدة أبواها، ونزل قوم الخالة منزلة جدة : لأن الجدة أمها، والصحيح من ذلك تنزيل العمة أباً، والخالة أماً. اه. من [ المغني ].
وذهبت جماعة أخرى ممن قال بالتوريث منهم أبو حنيفة، وأصحابه إلى أنهم يورثون على ترتيب العصبات، فقالوا : يقدم أولاد الميت وإن سفلوا، ثم أولاد أبويه أو أحدهما وإن سفلوا، ثم أولاد أبوي أبويه وإن سفلوا، وهكذا أبداً لا يرث بنو أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منه ؛ وإن نزلت درجتهم.
وعن أبي حنيفة : أنه جعل أبا الأم وإن عل
Icon