تفسير سورة الأنفال

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية

النفل : الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه. قال لبيد :
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ***
والنفل ما ينفله الغازي، أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب : من قتل قتيلاً فله سلبه. أو قال لسرية : ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه : لا يلزم. ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها ؟ أللمهاجرين أم للأنصار ؟ أم لهم جميعاً ؟ فقيل له : قل لهم : هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم. وقيل : شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان : نحن المقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم [ وقالوا ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المغنم قليل والناس كثير : وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت. وعن سعد بن أبي وقاص : قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت : إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف فقال : ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القَبَضِ فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال : يا سعد، إنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه وعن عبادة بن الصامت : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه اخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين. وقرأ ابن محيصن :«يسألونك علنفال » بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام : وقرأ ابن مسعود :«يسألونك الأنفال » أي يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال. فإن قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله :﴿ قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول ﴾ ؟ قلت : معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد، والمراد : أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي ﴿ فاتقوا الله ﴾ في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله ﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم.
وعن عطاء : كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل، فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا، فقال : ليردّ بعضكم على بعض. فإن قلت : ما حقيقة قوله :﴿ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ ؟ قلت : أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله :﴿ بِذَاتِ الصدور ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين، كقولهم : اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله :﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ إن كنتم كاملي الإيمان.
واللام في قوله :﴿ إِنَّمَا المؤمنون ﴾ إشارة إليهم. أي إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله :﴿ أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾. ﴿ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ فزعت. وعن أمّ الدرداء : الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى، قالت : فادع الله فإنّ الدعاء يذهبه. يعني فزعت لذكره استعظاماً له، وتهيباً من جلاله وعزّة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله :﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فينزع. وقرئ «وجلت »، بالفتح، وهي لغة نحو «وبق » في «وبق »، وفي قراءة عبد الله :«فَرِقَتْ » ﴿ زَادَتْهُمْ إيمانا ﴾ ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة في نفس. لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه :( عن النبي صلى الله عليه وسلم ) : " الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها : شهادة أن لا إله إلا الله. وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه : إن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ﴿ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة.
﴿ حَقّاً ﴾ صفة للمصدر المحذوف، أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي ﴿ أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون ﴾ كقولك : هو عبد الله حقاً، أي حق ذلك حقاً.
وعن الحسن أنّ رجلاً سأله : أمؤمن أنت ؟ قال : الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قوله :﴿ إِنَّمَا المؤمنون ﴾ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه، يعني كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً، فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً، وبهذا تعلق من يستثني في الإيمان. وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ممن لا يستثني فيه. وحكي عنه أنه قال لقتادة : لم تستثنى في إيمانك ؟ قال : اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله :﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين ﴾ [ الشعراء : ٨٢ ] فقال له : هلا اقتديت به في قوله :﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] ﴿ درجات ﴾ شرف وكرامة وعلو منزلة ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ وتجاوز لسيئاتهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ نعيم الجنة. يعني لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.
﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ﴾ فيه وجهان أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله :﴿ الانفال لِلَّهِ والرسول ﴾ [ الأنفال : ١ ] أي الأنفال استقرت لله والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. و ﴿ مِن بَيْتِكَ ﴾ يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه ﴿ بالحق ﴾ أي إخراجاً ملتبساً بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ ﴾ في موضع الحال، أي أخرجك في حال كراهتهم، وذلك : أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة معها أربعون راكباً، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير. في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير، فقيل له : إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمداً لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه، فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة - فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ؛ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين : إمّا العير، وإمّا قريشاً، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : ما تقولون ؛ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم ردّد عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض.
فوالله لو سرت إلى عدن أبين. ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل، قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وروي : أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه : لا يصلح فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم ؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين. وقد أعطاك ما وعدك، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله :﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ ﴾.
والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقي العير ﴿ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ ﴾ بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم : قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب ؟ وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل : كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة. وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان.
﴿ وَإِذْ ﴾ منصوب بإضمار اذكر. و ﴿ أَنَّهَا لَكُمْ ﴾ بدل من إحدى الطائفتين. والطائفتان : العير والنفير. ﴿ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة ﴾ العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم : والشوكة : الحدّة مستعارة من واحدة الشوك. ويقال : شوك القنا لشباها. ومنها قولهم : شائك السلاح، أي تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة، ولا تريدون الطائفة الأخرى ﴿ أَن يُحِقَّ الحَقَّ ﴾ أن يثبته ويعليه ﴿ بكلماته ﴾ بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر الآخر : فاعل من دبر. إذا أدبر. ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرىء :«بكلمته »، على التوحيد.
فإن قلت : بم يتعلق قوله :﴿ لِيُحِقَّ الحق ﴾ ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما. وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه. فإن قلت : أليس هذا تكريراً ؟ قلت : لا، لأنّ المعنيين متباينان، وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى : وقيل : قد تعلق بيقطع.
فإن قلت بم يتعلق ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ﴾ ؟ قلت : هو بدل من ﴿ إِذْ يَعِدُكُمُ ﴾ [ الأنفال : ٧ ] وقيل بقوله :﴿ لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل ﴾ واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بدّ من القتال، طفقوا يدعون الله ويقولون : أي ربنا انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلثمائة، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض - فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضي الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك " ﴿ أَنّي مُمِدُّكُمْ ﴾ أصله بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله. وعن أبي عمرو أنه قرأ :«إني ممدكم » بالكسر، على إرادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى ﴿ قَالَ ﴾ لأنّ الاستجابة من القول. فإن قلت : هل قاتلت الملائكة يوم بدر ؟ قلت : اختلف فيه، فقيل : نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ بن أبي طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم. فقاتلت : وقيل : قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين. وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً ؟ قال : من الملائكة، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم : وروي :
( أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين : إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقياً وشقّ وجهه، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقت ذاك من مدد السماء " وعن أبي داود المازني : تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي، وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقرئ «مردفين » بكسر الدال وفتحها، من قولك : ردفه إذا تبعه. ومنه قوله تعالى :﴿ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [ النمل : ٧٢ ] بمعنى ردفكم. وأردفته إياه : إذا أتبعته. ويقال : أردفته، كقولك أتبعته، إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى متبعين، أو متبعين، فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى : متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى : متبعين إياهم المؤمنين، أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم.
أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة : ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الملائكة مُنزَلِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٢٤ ]. ﴿ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ] ومن قرأ :«مردفين » بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متبعين. وقرئ «مردّفين »، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال : وأصله مرتدفين، أي مترادفين أو متبعين، من ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال في الدال، فالتقى ساكنان فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال. وبالضم على إتباع الميم. وعن السدي : بآلاف من الملائكة. على الجمع ليوافق ما في سورة آل عمران. فإن قلت : فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم ؟ قلت : بأن المراد بالألف من قاتل منهم. أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم.
فإن قلت : إلام يرجع الضمير في ﴿ وَمَا جَعَلَهُ ﴾ ؟ قلت : إلى قوله :﴿ أَنّي مُمِدُّكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٩ ] لأن المعنى : فاستجاب لكم بإمدادكم. فإن قلت : ففيمن قرأ بالكسر ؟ قلت : إلى قوله :﴿ إِنّي مُمِدُّكُمْ ﴾ لأنه مفعول القول المضمر فهو في معنى القول. ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه ممدّكم ﴿ إِلاَّ بشرى ﴾ إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبني إسرائيل، يعني أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكيناً منكم، وربطاً على قلوبكم ﴿ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله ﴾ يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة. أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله، والمنصور من نصره الله.
﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ﴾ بدل ثان من ﴿ إِذْ يَعِدُكُمُ ﴾ [ الأنفال : ٧ ] أو منصوب بالنصر، أو بما في ﴿ مِنْ عِندِ الله ﴾ [ الأنفال : ١٠ ] من معنى الفعل، أو بما جعله الله، أو بإضمار اذكر.
وقرئ «يغشيكم » بالتخفيف والتشديد ونصب النعاس والضمير لله عزّ وجل. و ﴿ أَمَنَةً ﴾ مفعول له. فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً ؟ قلت : بلى، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس. تنعسون، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم. والمعنى : إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا، أي لأمنكم، و ﴿ مِّنْهُ ﴾ صفة لها : أي أمنة حاصلة لكم من الله عزّ وجلّ. فإن قلت : فعلى غير هذه القراءة قلت : يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أي ينعسكم إيماناً منه. أو على يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً، فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل يغشاكم ؟ أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم ؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ؟ قلت : لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال :
يَهَابُ النوْمُ أَنْ يَغْشَى عُيُونا تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ شَرُودُ
وقرىء «أمنة » بسكون الميم. ونظير «أمن أمنة » «حيي حياة » ونحو «أمن أمنة » «رحم رحمة » والمعنى : أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طمأن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا وعن ابن عباس رضي الله عنه : النعاس في القتال : أمنة من الله، وفي الصلاة : وسوسة من الشيطان ﴿ وَيُنَزِّلُ ﴾ قرىء بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الشعبي «ما ليطهركم به » قال ابن جني : ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال : ما للطهور. و ﴿ رِجْزَ الشيطان ﴾ وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل : الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ «رجس الشيطان » وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركين قد سبقوهم إلى الماء ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله عز وجل المطر، فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضأوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس. والضمير في ﴿ بِهِ ﴾ للماء. ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت القدم في مواطن القتال.
﴿ إِذْ يُوحِى ﴾ يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من ﴿ إِذْ يَعِدُكُمُ ﴾ [ الأنفال : ٧ ] وأن ينتصب بيثبت ﴿ إِنّى مَعَكُمْ ﴾ مفعول يوحي وقرىء «إني » بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء يوحي مجرى يقول، كقوله :﴿ أَنّي مُمِدُّكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٩ ] والمعنى : أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقوله :﴿ سَأُلْقِى.... فاضربوا ﴾ يجوز أن يكون تفسيراً لقوله :﴿ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ﴾ ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة. وقيل : كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول : إني سمعت المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفنّ، ويمشي بين الصفين فيقول : أبشروا، فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه. وهؤلاء لا يعبدونه. وقرىء «الرعب » بالتثقيل ﴿ فَوْقَ الاعناق ﴾ أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس. وقيل : أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعني ضرب الهام. قال :
وَأضْرِبُ هَامَة الْبَطَلِ الْمُشِيحِ ***
غَشَّيْتُهُ وَهْوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَة عَضْباً أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا
والبنان : الأصابع، يريد الأطراف. والمعنى : فاضربوا المقاتل والشوي، لأن الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً. ويجوز أن يكون قوله ﴿ سَأُلْقِى ﴾ إلى قوله :﴿ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ عقيب قوله :﴿ فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ ﴾ تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال : قولوا لهم قولي :﴿ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب ﴾ أو كأنهم قالوا : كيف نثبتهم ؟ فقيل : قولوا لهم قولي :﴿ سَأُلْقِى ﴾ فالضاربون على هذا هم المؤمنون.
﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء و ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ خبره، أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم. والمشاقة : مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه، وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة فقلت : لأن هذا في عدوة وذاك في عدوة، كما قيل : المخاصمة والمشاقة، لأن هذا في خصم أي في جانب، وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق. والكاف في ﴿ ذلك ﴾ لخطاب الرسول عليه [ الصلاة و ] السلام، أو لخطاب كل واحد.
وفي ﴿ ذلكم ﴾ للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل ﴿ ذلكم ﴾ الرفع على ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم ﴿ فَذُوقُوهُ ﴾ ويجوز أن يكون نصباً على : عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك : زيداً فاضربه ﴿ وَأَنَّ للكافرين ﴾ عطف على ذلكم في وجهيه، أو نصب على أن الواو بمعنى مع. والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقر الحسن «وإن للكافرين » بالكسر.
﴿ زَحْفاً ﴾ حال من الذين كفروا. والزحف : الجيش الدهم لذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيباً، من زحف الصبي إذا دبّ على إسته قليلاً قليلاً، سمي بالمصدر والجمع زحوف والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا، فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من الفريقين. أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين كأنهم أُشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثني عشر ألفاً، وتقدمه نهي لهم عن الفرار يومئذٍ.
وفي قوله :﴿ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ ﴾ أمارة عليه ﴿ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ ﴾ هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها ﴿ أَوْ مُتَحَيّزاً ﴾ أو منحازاً ﴿ إلى فِئَةٍ ﴾ إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعن ابن عمر رضي الله عنه :( خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت، فقلت : يا رسول الله نحن الفرّارون، فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم ). وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه : أنا فئتك. وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر. فإن قلت : بم انتصب ﴿ إِلاَّ مُتَحَرّفاً ﴾ ؟ قلت : على الحال، وإلا لغو. أو على الاستثناء من المولين، أي : ومن يولهم إلا رجلاً منهم متحرّفاً أو متحيزاً. وقرأ الحسن «دبره » بالسكون ووزن متحيز متفيعل لا متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء متفعل منه متحوّز.
لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول : قتلت وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :p> ( ٤١٨ ) > " هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسلك، اللهم إني أسألك ما وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال :- لما التقى الجمعان - لعلي رضي الله عنه : أعطني قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال : شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، فقيل لهم ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾ والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ﴿ ولكن الله قَتَلَهُمْ ﴾ لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع ﴿ وَمَا رَمَيْتَ ﴾ أنت يا محمد ﴿ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ﴾ يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلاً. وقرىء «ولكن الله قتلهم » ولكن الله رمى، بتخفيف «لكن » ورفع ما بعده ﴿ وَلِيُبْلِىَ المؤمنين ﴾ وليعطيهم ﴿ بَلاء حَسَنًا ﴾ عطاء جميلاً. قال زهير :
فَأبلاَهُمَا خَيْرَ الْبَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو ***
والمعنى : وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك ﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ ﴾ لدعائهم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بأحوالهم.
‏ " ‏ذلكم ‏ " ‏إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع‏ :‏ أي الغرض ذلكم وأن الله موهن ‏ " ‏معطوف على ذلكم‏. ‏ يعني‏ :‏ أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين‏. ‏ وقرئ‏ :‏ موهن بالتشديد‏. ‏ وقرئ على الإضافة وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال‏. ‏
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح ﴾ خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهمّ انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروي : أنهم قالوا : اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروي أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم، أي فأهلكه. وقيل :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ ﴾ خطاب للمؤمنين ﴿ وَإِن تَنتَهُواْ ﴾ خطاب للكافرين، يعني : وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ وأسلم ﴿ وَإِن تَعُودُواْ ﴾ لمحاربته ﴿ نَعُدْ ﴾ لنصرته عليكم ﴿ وَأَنَّ الله ﴾ قرئ بالفتح على : ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود «والله مع المؤمنين » وقرئ «ولن يغني عنكم » بالياء للفصل.
﴿ وَلاَ تَوَلَّوْاْ ﴾ قرىء بطرح إحدى التاءين وإدغامها، والضمير في ﴿ عَنْهُ ﴾ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ المعنى : وأطيعوا رسول الله كقوله : الله ورسوله أحق أن يرضوه، ولأنّ طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله ﴾ [ النساء : ٨ ] فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما، كقولك : الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان. ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة، أي : ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه. أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه ﴿ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ أي تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة.
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا ﴾ أي ادّعوا السماع ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ لأنهم ليسوا بمصدّقين فكأنهم غير سامعين. والمعنى : أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم قال :﴿ إِنَّ شَرَّ الدواب ﴾ أي إن شر من يدب على وجه الأرض. أوإنّ شر البهائم الذين هم صمّ عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرّها.
﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله ﴾ في هؤلاء الصم البكم ﴿ خَيْرًا ﴾ أي انتفاعاً باللطف ﴿ لأسْمَعَهُمْ ﴾ للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال :﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ ﴾ عنه. يعني : ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه. أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا، وقيل : هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان : مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة : كانوا يقولون : نحن صم بُكم عُمي عما جاء به محمد، لا نسمعه ولا نجيبه، فقتلوا جميعاً بأحد، وكانوا أصحاب اللواء. وعن ابن جريج : هم المنافقون. وعن الحسن : أهل الكتاب.
﴿ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾ وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال. وبالدعوة : البعث والتحريض. وروى أبو هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي ؟ قال : كنت أصلي. قال : ألم تخبر فيما أوحي إليّ ﴿ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ قال : لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك " وفيه قولان، أحدهما : إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. ولبعضهم :
لاَ تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُه فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ
وقيل لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله :﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياة ﴾ [ البقرة : ١٧٩ ] وقيل للشهادة، لقوله :﴿ بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ]. ﴿ واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ ﴾ يعني أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله ﴿ واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وقيل : معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى. فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقيل معناه : أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفي عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه. وقرئ :«بين المرّ » بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول : مررت بعمر.
﴿ فِتْنَةً ﴾ ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل : افتراق الكلمة. وقيل :﴿ فِتْنَةً ﴾ عذاباً. وقوله :﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ ﴾ لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جواباً، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نُهوا عن المنكر تعذيراً فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل : لا تتعرضوا للظم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل : واتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبنَّ، ونظيره قوله :
حَتَّى إذَا جَنَّ الظَّلاَمُ وَاخْتَلَط جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
أي بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون [ الورق ] التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود :«لتصيبنّ »، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن : نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زماناً، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروي :( أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، إذ أقبل عليّ رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف حبك لعليٍّ ؟ فقال يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حباً. قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله )، فإن قلت : كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر ؟ قلت : لأنّ فيه معنى النهي، إذا قلت : أنزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبنّ ولا يحطمنكم. فإن قلت : فما معنى ﴿ مِنْ ﴾ في قوله :﴿ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ ﴾ ؟ قلت : التبعيض على الوجه الأول، والتبيين على الثاني، لأنَّ المعنى : لا تصيبنكم خاصة على ظلماكم ؛ لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس.
﴿ إِذْ أَنتُم ﴾ نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف : أي اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين ﴿ فِى الأرض ﴾ أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش ﴿ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس ﴾ لأن الناس كانوا جميعاً لهم أعداء منافين مضادّين ﴿ فَآوَاكُمْ ﴾ إلى المدينة ﴿ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ﴾ بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر ﴿ وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات ﴾ من الغنائم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ إرادة أن تشكروا هذه النعم وعن قتادة : كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلداً، وأبينهم ضلالا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً.
معنى الخون : النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه : تخوّنه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له. ومنه قوله تعالى :﴿ وَتَخُونُواْ أماناتكم ﴾ والمعنى لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. و ﴿ أماناتكم ﴾ فيما بينكم بأن لا تحفظوها ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. وقيل : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. وروي : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ، فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى، هل ننزل على حكم سعد ؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك. فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم : يجزيك الثلث أن تتصدّق به. وعن المغيرة : نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقيل :﴿ أماناتكم ﴾ ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده. فإن قلت :﴿ وَتَخُونُواْ ﴾ جزم هو أم نصب ؟ قلت : يحتمل أن يكون جزماً داخلاً في حكم النهي وأن يكون نصباً بإضمار «أن » كقوله :﴿ وَتَكْتُمُواْ الحق ﴾ [ البقرة : ٤٢ ] وقرأ مجاهد :«وتخونوا أمانتكم »، على التوحيد.
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب. أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده و ﴿ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدي إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد ؛ حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله :﴿ المال والبنون ﴾ الآية [ الكهف : ٤٦ ] وقيل : هي من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.
﴿ فُرْقَانًا ﴾ نصراً ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى :﴿ يَوْمَ الفرقان ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم :«بتّ أفعل كذا » حتى سطع الفرقان : أي طلع الفجر. أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة.
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾ لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى : واذكرإذ يمكرون بك وذلك أن قريشاً - لما أسلمت الأنصار وبايعوه - فرِقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوى متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها ؛ وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس : بئس الرأي ؛ يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم ؛ فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس : بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناهم واسترحنا. فقال الشيخ - لعنه الله - : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له : اتّشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم ﴿ ليثبتوك ﴾ ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم : ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعاً. وقرئ :( ليثبتوك )، بالتشديد. وقرأ النخعي :( ليثبتوك )، ومن البيات. وعن ابن عباس :( ليقيدوك )، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق ﴿ وَيَمْكُرُونَ ﴾ ويخفون المكايد له ﴿ وَيَمْكُرُ الله ﴾ ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة ﴿ والله خَيْرُ الماكرين ﴾ أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
﴿ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا ﴾ نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلي دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه. وقيل : قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون : لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير.
وهو القائل :﴿ إِن كَانَ هذا هُوَ الحق ﴾ وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعني إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفي كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقاً لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقاً، فأمطر علينا حجارة. وقوله :﴿ هُوَ الحق ﴾ تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين : هذا هو الحق. وقرأ الأعمش ﴿ هُوَ الحق ﴾ بالرفع، على أن هو مبتدأ غير فصل. وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال : أمطرت السماء، كقولك أنجمت وأسبلت ومطرت، كقولك : هتنت وهتلت، وقد كثر الأمطار في معنى العذاب. فإن قلت : ما فائدة قوله :﴿ مّنَ السماء ﴾ ؟ والأمطار لا تكون إلا منها. قلت : كأنه يريد أن يقال : فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع ﴿ حِجَارَةً مّنَ السماء ﴾ موضع السجيل، كما تقول : صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعاً ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعني أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق ﴿ إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ﴾ ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له.
اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة ؛ لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصودون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله ﴾ وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم ﴿ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ في موضع الحال.
ومعناه نفي الاستغفار عنهم : أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [ هود : ١١٧ ] ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. وقيل معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين، ﴿ وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله ﴾ وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعني : لا حظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء ﴿ مَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ ﴾ وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه ﴿ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون ﴾ من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر : الجميع، كما يراد بالقلة : العدم.
المكاء : فعال بوزن الثغاء والرغاء، من مكا يمكو إذا صفر : ومنه المكاء، كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه. وأصله الصفة، نحو الوضاء والفراء. وقرئ :( مكا ) بالقصر. ونظيرهما البكي والبكاء. والتصدية : التصفيق، تفعلة من الصدى أو من صدَّ يصدّ، ﴿ إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ] وقرأ الأعمش :«وما كان صلاتهم » بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه، فإن قلت : ما وجه هذا الكلام ؟ قلت : هو نحو من قوله :
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُه أدَاهَمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْراً
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة : الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه ﴿ فَذُوقُواْ ﴾ عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
قيل : نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر. وقيل : قالوا لكل من كان له تجارة في العير : أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر. وقيل : نزلت في أبي سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً ﴿ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ﴾ أي كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك ﴿ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾ أي تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ﴿ ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾ آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء ﴿ كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]. ﴿ والذين كَفَرُواْ ﴾ والكافرون منهم ﴿ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه.
﴿ لِيَمِيزَ الله الخبيث ﴾ الفريق الخبيث من الكفار ﴿ مِنَ ﴾ الفريق ﴿ الطيب ﴾ من المؤمنين، فيجعل الفريق ﴿ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ﴾ عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ يعني لفرط ازدحامهم ﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى الفريق الخبيث، وقيل : ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبي بكر وعثمان في نصرته ﴿ فَيَرْكُمَهُ ﴾ فيجعله في جهنم في جملة ما يعذّبون به، كقوله :﴿ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ ﴾ الآية [ التوبة : ٣٥ ]، واللام على هذا متعلقة بقوله :﴿ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾ وعلى الأوّل يحشرون، وأولئك : إشارة إلى الذين كفروا. وقرئ : ليميز على التخفيف.
﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أبي سفيان وأصحابه. أي قل لأجلهم هذا القول وهو ﴿ إِن يَنتَهُواْ ﴾ ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود. ونحوه :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام ﴿ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ لهم من العداوة ﴿ وَإِن يَعُودُواْ ﴾ لقتاله :﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين ﴾ منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل : معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام. " الإسلام يجب ما قبله " وقالوا : الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط. وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين. وبه احتجّ أبو حنيفة رحمه الله في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة. وقبلها ؛ وفسر ﴿ وَإِن يَعُودُواْ ﴾ بالارتداد. وقرىء «يغفر لهم » على أن الضمير لله عز وجل.
﴿ وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط ﴿ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ﴾ ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْاْ ﴾ عن الكفر وأسلموا ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ :«تعملون »، بالتاء، فيكون المعنى : فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام ﴿ بَصِيرٌ ﴾ يجازيكم عليه أحسن الجزاء.
﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ ولم ينتهوا ﴿ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ ﴾ أي ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.
﴿ أَنَّمَا غَنِمْتُم ﴾ ما موصولة. و ﴿ مِن شَىْء ﴾ بيانه. قيل : من شيء حتى الخيط والمخيط، ﴿ فَأَنَّ للَّهِ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، تقديره : فحق، أو فواجب أن لله خمسه. وروى الجعفي عن أبي عمرو، فإن لله بالكسر. وتقويه قراءة النخعي :«فللَّه خمسة ». والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل : فلا بد من ثبات الخمس فيه، [ و ] لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك : ثابت واجب حق لازم ؛ وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد، وقرئ «خمسه » بالسكون فإن قلت : كيف قسمة الخمس ؟ قلت : عند أبي حنيفة رحمه الله أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بني هاشم وبني المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، استحقوه حينئذٍ بالنصرة والمظاهرة، لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما، أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة : فقال صلى الله عليه وسلم : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد " وشبك بين أصابعه وثلاثة أسهم : لليتامى والمساكين، وابن السبيل. وأمّا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وأمّا عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين : كعدّة الغزاة من السلاح والكراع ونحو ذلك. وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الانثيين. والباقي للفرق الثلاث. وعند مالك بن أنس رحمه الله : الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. فإن قلت : ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه قلت : يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ] وأن يراد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب. وأن يراد بقوله :﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة، تفضيلاً لها على غيرها.
كقوله تعالى :﴿ وَجِبْرِيلَ وميكال ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين. وعلى الثاني ما قال أبو العالية : أنه يقسم على ستة أسهم : سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة. وعنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى. ثم يقسم ما بقي على خمسة. وقيل : إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث مذهب مالك بن أنس. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة. وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه منع بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاً، ولا يتيم موسر. وعن زيد بن علي رضي الله عنه : كذلك قال، ليس لنا أن نبني منه قصوراً، ولا أن نركب منه البراذين. وقيل : الخمس كله للقرابة. وعن علي رضي الله عنه أنه قيل له : إنّ الله تعالى قال :﴿ واليتامى والمساكين ﴾ [ البقرة : ٨٣ ] فقال : أيتامنا ومساكيننا. وعن الحسن رضي الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لولي الأمر من بعده. وعن الكلبي رضي الله عنه أنّ الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة. فإن قلت : بم تعلق قوله :﴿ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بالله ﴾ ؟ قلت : بمحذوف يدل عليه ﴿ واعلموا ﴾ المعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى ؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا ﴾ معطوف على ﴿ للَّهِ ﴾ أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل :﴿ على عَبْدِنَا ﴾ وقرىء «عبدنا » كقوله :﴿ وَعَبَدَ الطاغوت ﴾ [ المائدة : ٦٠ ] بضمتين ﴿ يَوْمَ الفرقان ﴾ يوم بدر. و ﴿ الجمعان ﴾ الفريقان من المسلمين والكافرين. والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ ﴿ والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ﴾ يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.
﴿ إِذْ ﴾ بدل من يوم الفرقان. والعدوة : شط الوادي بالكسر والضم والفتح. وقرئ «بهنّ وبالعدية » على قلب الواو ياء، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية. والدنيا والقصوى : تأنيث الأدنى والأقصى. فإن قلت : كلتاهما «فعلى » من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو ؟ قلت : القياس هو قلب الواو ياء كالعليا. وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل. وقد جاء القصيا، إلا أنّ استعمال القصوى أكثر، كما كثر استعمال «استصوب » مع مجيء «استصاب » و«أغيلت » مع «أغالت » والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة ﴿ والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ يعني الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. وأسفل : نصب على الظرف، معناه : مكاناً أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل ؛ لأنه خبر المبتدأ. فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم » ؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته، وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل، ولا يمش فيها إلا بتعب ومشقة. وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها، تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر. ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ ﴾ أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه القتال، لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له ﴿ لّيَقْضِيَ ﴾ متعلق بمحذوف، أي ليقضي أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك.
وقوله :﴿ لِيَهْلِكَ ﴾ بدل منه. واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها. وقرىء :«ليهلك » بفتح اللام وحي، بإظهار التضعيف ﴿ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم. أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله ﴾ نصبه بإضمار اذكر. أو هو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بقوله ﴿ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك ﴿ فِى مَنَامِكَ ﴾ في رؤياك. وذلك أن الله عزّ وجل أراه في رؤياه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وعن الحسن : في منامك في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة : المنامة، لأنه ينام فيها. وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم عليه بكلام العرب وفصاحته ﴿ لَّفَشِلْتُمْ ﴾ لجبنتم وهبتم الإقدام ﴿ ولتنازعتم ﴾ في الرأي، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار ﴿ ولكن الله سَلَّمَ ﴾ أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
﴿ وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ ﴾ الضميران مفعولان. معنى : وإذ يبصركم إياهم. و ﴿ قَلِيلاً ﴾ نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفاً ﴿ وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ﴾ حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور. فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده ليجترؤا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله :﴿ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين ﴾ [ آل عمران : ١٣ ] ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلاً وكثرتهم آخراً. فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً ؟ قلت بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة ؟.
﴿ إذا لَقِيتُمْ فِئَةً ﴾ إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء اسم للقتال غالب ﴿ فاثبتوا ﴾ لقتالهم ولا تفرّوا ﴿ واذكروا الله كَثِيراً ﴾ في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره. وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج - من البلاغة والبيان ولطائف المعاني، وبليغات المواعظ والنصائح - دليلاً على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر.
﴿ وَلاَ تنازعوا ﴾ قرىء بتشديد التاء ﴿ فَتَفْشَلُواْ ﴾ منصوب بإضمار أن، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ :«وتذهب ريحكم » بالتاء والنصب وقراءة من قرأ :«ويذهب ريحكم » بالياء والجزم والريح : الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله :
يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَحَيَّ بِالْوَادِي إلاّ عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَاد
أتُنْظِرَانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفَلَتِهِم أمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى. وفي الحديث : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ".
حذرهم - بالنهي عن التنازع واختلاف الرأي - نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم ﴿ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم ﴾ هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة : أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كؤس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى، والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم ﴾ التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهما لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم. وقيل : لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني - وكان من أشرافهم - في جند من الشياطين معه راية، وقال : لا غالب لكم اليوم، وإني مجيركم من بني كنانة. فلما رأى الملائكة تنزل، نكص وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحال ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث :«وما رؤى إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رؤي يوم بدر » فإن قلت : هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال : لا ضارباً زيداً عندنا ؟ قلت : لو كان ( لكم ) مفعولاً لغالب، بمعنى : لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت ؛ لكنه خبر تقديره : لا غالب كائن لكم.
﴿ إِذْ يَقُولُ المنافقون ﴾ بالمدينة ﴿ والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام. وعن الحسن : هم المشركون ﴿ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ﴾ يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ثم قال جواباً لهم ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ ﴾ غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي.
﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ ولو عاينت وشاهدت ؛ لأن «لو » تردّ المضارع إلى معنى الماضي ؛ كما تردّ «إن » الماضي إلى معنى الاستقبال. و ﴿ إِذْ ﴾ نصب على الظرف وقرئ :«يتوفى » بالياء والتاء و ﴿ الملائكة ﴾ رفعها بالفعل و ﴿ يَضْرِبُونَ ﴾ حال منهم، ويجوز أن يكون في ﴿ يَتَوَفَّى ﴾ ضمير الله عز وجل، و ﴿ الملائكة ﴾ مرفوعة بالابتداء، و ﴿ يَضْرِبُونَ ﴾ خبر. وعن مجاهد : وأدبارهم : استاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب. لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر، ثم يعطي الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض، فيضربه على دبره ضربه واحد بقوّته فيجمد في مكانه. وقيل : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر ﴿ وَذُوقُواْ ﴾ معطوف على ﴿ يَضْرِبُونَ ﴾ على إرادة القول : أي ويقولون ذوقوا ﴿ عَذَابَ الحريق ﴾ أي مقدمة عذاب النار. أو وذوقوا عذاب الآخرة : بشارة لهم به. وقيل : كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة : ذوقوا. وجواب ﴿ لَوْ ﴾ محذوف : أي لرأيت أمراً فظيعاً منكراً.
﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، و ﴿ ذلك ﴾ رفع بالابتداء و ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ خبره ﴿ وَأَنَّ الله ﴾ عطف عليه، أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله ﴿ لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ ﴾ لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين. وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه.
الكاف في محل الرفع : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم : عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه : أي داوموا عليه وواظبوا. و ﴿ كَفَرُواْ ﴾ تفسير لدأب آل فرعون.
و ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما حل بهم، يعني ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم ﴿ حتى يُغَيّرُواْ مَا ﴾ بهم من الحال. فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم ؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب ﴿ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ ﴾ لما يقول مكذبو الرسل ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما يفعلون.
﴿ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ﴾ تكرير للتأكيد. وفي قوله :﴿ بآيات رَبّهِمْ ﴾ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق. وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب ﴿ وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين ﴾ وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي.
﴿ الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم.
﴿ الذين عاهدت مِنْهُمْ ﴾ بدل من الذين كفروا، أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود ﴿ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ﴾ لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار.
﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب ﴾ فإما تصادفنهم وتظفرن بهم ﴿ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾ ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «فشرذ » بالذال المعجمة بمعنى : ففرق، وكأنه مقلوب «شذر » من قولهم ( ذهبوا شذر مذر )، ومنه : الشذر : المتلقط من المعدن لتفرّقه وقرأ أبو حيوة «من خلفهم » ومعناه : فافعل التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه ؛ لأن الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون.
﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ ﴾ معاهدين ﴿ خِيَانَةً ﴾ ونكثا بأمارات تلوح لك ﴿ فانبذ إِلَيْهِمْ ﴾ فاطرح إليهم العهد ﴿ على سَوَاء ﴾ على طريق مستو قصد، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك ﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين ﴾ فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل : على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل على استواء في العداوة. والجار والمجرور في موضع الحال، كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوى، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً.
﴿ سَبَقُواْ ﴾ أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم ﴿ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم وقرىء : أنهم بالفتح بمعنى : لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاَّ أنَّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح وقرىء :«يعجزون » بالتشديد وقرأ ابن محيضن :«يعجزون »، بكسر النون وقرأ الأعمش «ولا تحسبِ الذين كفروا » بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقرأ حمزة :«ولا يحسبن » بالياء على أن الفعل للذين كفروا وقيل فيه : أصله أن سبقوا، فحذفت أن، كقوله :﴿ وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق ﴾ [ الروم : ٢٤ ] واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه :«أنهم سبقوا ». وقيل : وقع الفعل على أنهم لا يعجزون، على أن «لا » صلة، وسبقوا في محل الحال، بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين. وقيل معناه : ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوماً. وقيل : ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. وهذه الأقاويل كلها متمحلة، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة. وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.
﴿ مِن قُوَّةٍ ﴾ من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها. وعن عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً. ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله. وعن عكرمة : هي الحصون، والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال وقرأ الحسن «ومن ربط الخيل » بضم الباء وسكونها جمع رباط. ويجوز أن يكون قوله :﴿ وَمِن رّبَاطِ الخيل ﴾ تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله :﴿ وَجِبْرِيلَ وميكال ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وعن ابن سيرين رحمه الله : أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون ؟ فقال : يشتري به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزي عليها، فقيل له : إنما أوصى في الحصون، فقال : ألم تسمع قول الشاعر :
أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لاَ مَدَرُ الْقُرَى ***
﴿ تُرْهِبُونَ ﴾ قرىء بالتخفيف والتشديد وقرأ ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما «تخزون » والضمير في ﴿ بِهِ ﴾ راجع إلى ما استطعتم ﴿ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ ﴾ هم أهل مكة ﴿ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾ هم اليهود، وقيل : المنافقون وعن السدي : هم أهل فارس، وقيل : كفرة الجن، وجاء في الحديث : " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق " وروي : أنّ صهيل الخيل يرهب الجن.
جنح له وإليه : إذا مال. والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال :
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقرئ بفتح السين وكسرها. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] وعن مجاهد بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وقرأ الأشهب العقيلي :«فاجنح » بضم النون ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله ﴾ ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد، يريد قريظة.
﴿ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله ﴾ فإن محسبك الله : قال جرير :
إنِّي وَجَدّتُ مِنَ الْمَكَارِمِ حَسْبَكُم أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة، لأنّ العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية، والإنطواء على الضغينة في أدنى شىء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا - لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب. فهو يقلبها كما شاء. ويصنع فيها ما أراد، وقيل : هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤسائهم ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
﴿ وَمَنِ اتبعك ﴾ الواو بمعنى مع وما بعده منصوب، تقول : حسبك وزيداً درهم، ولا تجرّ ؛ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال :
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ ***
والمعنى : كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً أو يكون في محل الرفع : أي كفاك الله وكفاك المؤمنون، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن ابن عباس رضي الله عنه نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه، وعن سعيد بن جبير : أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر، فنزلت.
التحريض : المبالغة في الحث على الأمر من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضاً : وتقول له : ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه، ليهيجه ويحرّك منه. ويقال : حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه، بمعنى، وقرئ «حرص »، بالصاد غير المعجمة، حكاها الأخفش، من الحرص، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ أي بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى.
وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل : ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدّة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل : كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف. وقرىء «ضعفاً »، بالفتح والضم، كالمكث والمكث، والفقر والفقر. وضعفاً : جمع ضعيف. وقرىء الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين، والمراد بالضعف : الضعف في البدن. وقيل : في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت : لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده ؟ قلت : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ؛ لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.
وقرئ :«للنبي »، على التعريف وأسارى. ويثخن، بالتشديد. ومعنى الإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة. وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعني حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر. ثم الأسر بعد ذلك. ومعنى ﴿ مَا كَانَ ﴾ ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ﴾ [ محمد : ٤ ] وروي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب، فاستشار أبا بكر رضي الله عنه فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء : مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم. فقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : " ﴿ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] " ومثلك يا عمر مثل نوح، قال : " ﴿ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] ثم قال لأصحابه : " أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق " وروي : أنه قال لهم : إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم، فقالوا : بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا بأحد، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين : كان فداؤهم مائة أوقية، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير. وروي : أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - وروى أنه قال : لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ، رضي الله عنهما، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ ﴿ عَرَضَ الدنيا ﴾ حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء ﴿ والله يُرِيدُ الأخرة ﴾ يعني ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل وقرىء :«يريدون »، بالياء وقرأ بعضهم «والله يريد الآخرة » ؛ بجرّ الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله كقوله :
أَكُلَّ امرئ تَحْسبِينَ امْرَأ وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَاً
ومعناه والله يريد عرض الآخرة. على التقابل، يعني ثوابها ﴿ والله عَزِيزٌ ﴾ يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلاً وأسراً ويطلق لهم الفداء، ولكنه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون.
﴿ لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ ﴾ لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد ؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم. وقيل : كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها. وقيل : إن أهل بدر مغفور لهم. وقيل : إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي، ولم يتقدم نهي عن ذلك ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ ﴾ روي : أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل : هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم ﴿ واتقوا الله ﴾ فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه.
فإن قلت : ما معنى الفاء ؟ قلت : التسبيب والسبب محذوف، معناه : قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم. وحلالاً : نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أي أكلاً حلالاً، وقوله :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم.
﴿ فى أَيْدِيكُم ﴾ في ملكتكم، كأن أيديكم قابضة عليهم وقرىء :«من الأسرى » ﴿ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ﴾ خلوص إيمان وصحة نية ﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة وفي قراءة الأعمش. «يثبكم خيراً » وعن العباس رضي الله عنه أنه قال : كنت مسلماً، لكنهم استكرهوني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا أو كان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس : " افد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال : يا محمد، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت. فقال له : فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل ؛ فقال العباس وما يدريك ؟ قال :«أخبرني به ربي » " قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتاباً في أمرك، فأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس رضي الله عنه : فأبدلني الله خيراً من ذلك، لي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. وروي : أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ) وقرأ الحسن وشيبة :«مما أُخِذَ منكم »، على البناء للفاعل.
﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ ﴾ نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم ﴿ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ ﴾ في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه ﴿ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ﴾ كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل : المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء.
الذين هاجروا : أي فارقوا أوطانهم وقومهم حباً لله ورسوله : هم المهاجرون. والذي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم : هم الأنصار ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوي القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى ﴿ وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ ﴾ وقرئ :«من ولايتهم »، بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً ﴿ فَعَلَيْكُمُ النصر ﴾ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين ﴿ إِلاَّ على قَوْمٍ ﴾ منهم ﴿ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ﴾ عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدئون بالقتال، إذا الميثاق مانع من ذلك.
﴿ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين ﴿ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] ومعناه : نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانو أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً ثم قال :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ ﴾ أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث، تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار. ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً وقرئ «كثير » بالثاء.
﴿ أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل.
﴿ والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ ﴾ يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله :﴿ والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان ﴾ [ الحشر : ١٠ ] ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً ﴿ وَأُوْلُو الارحام ﴾ أولو القرابات أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة ﴿ فِى كتاب الله ﴾ تعالى في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على توريث ذوي الأرحام.
Icon