تفسير سورة الأنفال

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٨- سورة الأنفال
نزولها: نزلت بالمدينة فى أعقاب غزوة بدر فى السنة الثانية من الهجرة، وتسمى سورة «بدر».
عدد آياتها: سبع وسبعون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائة وخمس وتسعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف ومئتان وثمانون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات: (١- ٤) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
التفسير: كانت غزوة بدر أول موقف وقفه المسلمون إزاء الغنائم التي وقعت لأيديهم من يد أعدائهم فى ميدان القتال.. ولهذا اضطربت مشاعر المسلمين فيها، واختلفت أنظارهم عليها.. فمن قائل إنها لمن جمع الغنائم وحازها ليده، ومن قائل إنها لمن قائل والتحم بالعدو.. ومن قائل- إنها لمن شهد القتال، قاتل أو لم يقاتل، حاز غنيمة أو لم يحزها.. ومن قائل إنها للجماعة الإسلامية التي
557
كانت تضمها المدينة.. وهكذا توزعت مشاعر المسلمين وعواطفهم، فى مواجهة هذا الطارق الغريب، الذي أطلّ عليهم بوجهه، لأول مرة..
ولو ترك هذا الموقف للمسلمين يقضون فيه برأيهم، ويلتقون فيه على رأى، لما كان فى هذا ما يحسم الموقف، ويجمع هذا العواطف المشتتة، وتلك النوازع المختلفة.. فإن أي رأى يلتقى عنده المسلمون، لم يرض نفرا منهم أيّا كان عدده..
وتلك لا شك ثلمة فى بناء الجماعة التي لا تزال على أول الطريق، فى استكمال كيانها، ودعم بنائها، بل هو صدع فى هذا البناء، تزيده الأيام عمقا واتساعا، إن لم يكن فى الحساب توقّيه قبل أن يقع.. حتى يحفظ هذا الجسد سليما معافى من أيّة آفة، تندس إليه، وتنفث سمومها فيه.
ولهذا جاءت كلمة الفصل من السماء، حتى لا يكون لقائل قول، ولو كان الرسول الكريم نفسه، والذي لو قال كلمة هنا لتلقاها المسلمون بالقبول والرضا، ولسكن عندها كل خاطر، ولماتت بعدها كل نازعة أو وسواس، لما للرسول فى نفوس المسلمين من حب وطاعة، وولاء.. إذ كانوا على يقين، بأنه- صلوات الله وسلامه عليه- لا يقضى إلا بالحق، ولا يقول إلا بما أراه الله:
«وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى».
ومع هذا، فإن حكمة الحكيم العليم اقتضت أن تكون كلمة الله هى القضاء الفصل فيما اختلف فيه المسلمون، حتى يعودوا من هذه المعركة، وقد خلت نفوسهم من أي همّ من هموم الدنيا، وحتى يكونوا جندا خالصا لدين الله، لا يجاهدون إلا فى سبيل الله، وفى إعلاء كلمة الله، دون التفات إلى شىء من هذه الدنيا، وما يقع لأيديهم من مغانم الحرب.. فتلك المغانم- وإن كثرت- لا حساب لها فى هذا الوجه الكريم الذي يتجه إليه المجاهدون فى سبيل الله..
ومن أجل هذا، كان حكم الله قاضيا على المجاهدين بألّا شأن لهم بهذه الغنائم،
558
وأن أمرها إلى الله، ثم إلى رسول الله يضعها حيث يشاء، ويتصرف فيها كما يرى..
تلك هى كلمة الله، وهذا هو قضاؤه..
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ».
وانظر كيف كانت الحكمة فى هذا الحكم، وهذا التدبير الحكيم..
لقد كان ذلك أول الإسلام، ومع أول تجربة يقع للمسلمين فيها خير مادىّ، بعد أن احتملوا ما احتملوا من أذى وضر فى أموالهم وأنفسهم..
ولو كان الذي حدث فى بدر جاريا مع موقع النظر الإنسانى، لكان أول ما يتبادر إلى العقل هو التمكين للمسلمين الذين قاتلوا، أن يحوزوا هذه الغنائم، ليكون منها بعض العزاء لما ذهب منهم، سواء أكانوا مهاجرين أو أنصارا.. حيث هاجر المهاجرون تاركين وراءهم الديار والأموال، وحيث شاطرهم الأنصار ديارهم وأموالهم..!
ولكن تدبير الله يعلو هذا التدبير، وحكمته تقضى بغير ما يقضى به هذا النظر البشرى المحدود..
فلو أن المسلمين شغلوا أنفسهم من أول خطوهم بهذه الغنائم، لكان فى ذلك جور على الدعوة التي دعاهم الله إليها، وندبهم لها، ولكان حسابهم معها قائما على الريح والخسارة فى جانب الدنيا، أكثر منه فى جانب الدين..!
ولهذا، جاء أمر الله قاطعا على المسلمين هذا الطريق، آخذا على أيديهم أن تمتدّ إلى تلك الغنائم، التي جعلها الله سبحانه له، ثم وضعها بين يدى رسوله..
إنهم مجاهدون فى سبيل الله وحسب، باعوا أنفسهم لله، ورصدوها للجهاد فى سبيله..
559
أما الغنائم فأمرها خارج عن هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه..
فإذا جاء بعد هذا قضاء من عند الله فى شأن ما يقع للمجاهدين من غنائم.
وإذا جعل الله للمقاتلين نصيبا مفروضا فيها، فذلك فضل من الله، ومنّة منه على عباده، وبهذا يظل المجاهدون على هذا الشعور الأول الذي أقامهم الله عليه، وهو أن تلك الغنائم هى لله ولرسوله، وأن ما فرض لهم بعد ذلك هو استثناء من الحكم الأصلىّ، جاء برّا بهم، ورحمة لهم..
ومن أجل هذا، فإنه بعد أن انتهت معركة بدر، ومغانمها، وعاش المسلمون مع تلك التجربة زمنا كافيا، اطمأنوا فيه إلى ما تقرر من ألّا شىء لهم فيما يغنمون- جاء حكم الله بعد هذا مقررا لهم نصيبا مفروضا فيما يغنمون، وفى هذا يقول الله تعالى فى هذه السورة: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ».
وقوله تعالى: «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
فقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» هو تعقيب على هذا الحكم الذي تلقاه المسلمون من الله فى شأن غنائم بدر.. وفى دعوتهم إلى تقوى الله تذكير لهم بالله الذي استجابوا لدينه، ودخلوا فيه، وقاتلوا فى سبيله، فإذا ذكروا هذا، فاءوا إلى السّلامة والعافية، وأقاموا وجوههم على الوجه الذي استقبلوا به الإسلام من أول يوم..
موطنين الأنفس على احتمال الضرّ، والصبر على المكاره، ولم يقع فى نفوسهم
560
شىء من هذه المشاعر، التي وقعت لهم بين يدى تلك الغنائم، قبل أن يتلقوا حكم الله فيها..
ومن هنا جاء أمر الله إليهم بعد ذلك بقوله: «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» أي حيث أخليتم أنفسكم من هذا المتاع الذي كان سببا فى التنازع والاختلاف بينكم، فعودوا إلى ما كنتم عليه، إخوانا مجاهدين فى سبيل الله، لا تبتغون بذلك إلا رضا الله ورضوانه.. ثم جاء قوله تعالى بعد هذا: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أمرا بالطاعة المطلقة، والتسليم الخالص لله، ولرسوله..
فذلك هو شأن المؤمنين، إذ لا إيمان بغير طاعة وتسليم..!
قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
هو كشف للصورة الكريمة للمؤمنين، يعرضها الله سبحانه، لأولئك الذين دعاهم الله إلى طاعته وطاعة رسوله، فى شأن هذه الغنائم ليدخلوا فى عداد المؤمنين، بما استقبلوا به أمر الله سبحانه من طاعة ورضى.
فالمؤمن حقا، هو الذي يخشى الله ويتّقيه، فإذا ذكر الله، أو ذكّر به امتلأ قلبه خشية ووجلا- أي خوفا- من جلاله وسطوته، وإذا تلى آيات الله أو تليت عليه، خشع لها، وأشرق قلبه بنورها، فازداد بذلك إيمانا على إيمان، ثم انتهى به ذلك إلى أن يكون عبدا ربّانيا، يسلم أمره كله لمن بيده الأمر كلّه..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».. هو
561
استكمال لتلك الصورة الكريمة للمؤمن.. فلا يكتمل إيمان المؤمن حتى يقيم الصلاة على وجهها، ويؤديها فى خشوعها وخضوعها، ولا يكمل إيمانه حتى يكون- مع إقامة الصلاة- من المنفقين مما رزقه الله، فى وجوه البرّ والإحسان..
فإذا فعل المؤمن ذلك، فأطاع الله ورسوله، وذكر الله خاشعا متضرعا، وتلا آياته وجلا خائفا، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه الله فى سبيل الله- إذا فعل ذلك كان من المؤمنين حقّا.. أي كان مؤمنا ظاهرا وباطنا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».
فالمؤمن إيمانا كاملا، ظاهرا وباطنا، هو فى مقام كريم عند ربه، يحفّه بمغفرته ورحمته، ويفيض عليه من إحسانه وفضله..
ويلاحظ هنا أن هذا العرض للمؤمنين، وما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم بالله، هو- وإن كان مطلوبا لكل مؤمن بالله، فى جميع الأحوال والأزمان- هو من المطلوبات التي استدعتها تلك الحال التي كان عليها المؤمنون بعد معركة بدر، فى مواجهة الغنائم التي وقعت لأيديهم فى هذه المعركة.
فلقد أثارت تلك الغنائم غبارا كثيرا فى آفاق المسلمين، فكان من تدبير الله لهم، وصنيعه بهم، أن أجلى هذا الغبار من سمائهم، وعرض عليهم تلك الصورة الكريمة للمؤمنين، وأراهم- سبحانه- أنه يدعوهم إليه، ويرسم لهم الصورة التي ينبغى أن يكونوا عليها، وهم يستجيبون له، ويقبلون عليه..
562
الآيات: (٥- ٨) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٨]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
التفسير: قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» - هو طرف من طرفى تشبيه، وقد تقدم المشبّه، والكاف هنا داخلة على المشبه به..
والصورة التي قام عليها التشبيه هنا، هى تشبيه حال بحال..
فالحال التي كان عليها المؤمنون، من اضطراب واختلاف، عند ما وقعت لأيديهم غنائم بدر، هى كالحال التي كانوا عليها حين خرجوا مع النبىّ لملاقاة قريش، وقد وعدهم الله إحدى الطائفتين: إما العير التي كان يقودها أبو سفيان وفيها أموال قريش وتجارتها المقبلة من الشام، وإما النفير، وهو الجيش الذي قاده أبو جهل لينقذ به العير من يد النبىّ وأصحابه، وليثأر لكرامة قريش، حيث كان التصدّي لقوافل تجارتها، امتهانا لها، وتحديّا لمكانتها العرب.. كما كانت تفكر وتقدّر! وقد خرج المؤمنون- من مهاجرين وأنصار- مع النبي على نية
563
للعير، وقطع الطريق على قريش فى تجارتها مع الشام، انتقاما لما فعلته مع المهاجرين، حين أخرجتهم من ديارهم وأموالهم.
وكان خروج المسلمين على وجه المبادرة والاستعجال، حتى لا يفوتهم أبو سفيان والعير التي معه، ولهذا كان الذين خرجوا لهذا الوجه نحو ثلاث مئة، ليس فيهم إلا فارس واحد، وقيل فارسان، أما الباقون فكانوا رجّالة، لا يحمل أحدهم معه غير سيف أو رمح.
وقد استطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير، ويفلت من يد المسلمين، حين أخذ طريقا غير الطريق الذي اعتادت القوافل أن تسلكه بين مكة والشام..
وتلفّت المسلمون فإذا هم وجه لوجه مع قريش التي جاءت لتستنقذ عيرها، ولتنتقم لكرامتها ممن تصدّوا لها..
وكانت قريش فى أكثر من ألف مقاتل، بينهم أكثر من مائة فارس، والمسلمون- كما علمت- نحو ثلاث مئة ليس فيهم إلا فارس، أو فارسان!.
ونظر المسلمون فإذا هم بين أمرين: إما الحرب، وهى تعنى بالنسبة لهم الفناء، والاستئصال.. وإما الفرار، وما معه من خزى وعار.. ولكن إلى أين يفرون؟ إلى المدينة؟ وهل يبعد على قريش أن تدخلها عليهم، وتهلك الحرث والنسل؟ وفى المدينة عدو يتربص بهم هم اليهود الذين يفتحون لقريش حصونهم، ويمدونهم بالعتاد والسلاح!؟
وإذ كان الموقف على هذين الاحتمالين، اللذين لا بد من أحدهما، فقد رأى النبىّ أن يستشير أصحابه، ويسألهم الرأى فيما يأخذون من أي هذين الأمرين..
564
فجمع- صلوات الله وسلامه عليه- أصحابه إليه، وقال:
«أيها الناس أشيروا علىّ!».
وصمت الجميع.. لا يدرون ما يقولون.. وإن كان مع كل واحد منهم قولا يقوله..
إنهم خرجوا على غير أهبة واستعداد، ولم يكن الوقت الذي خرجوا فيه مسعفا للكثير منهم أن يخرج معهم..
لقد كان الموقف حرجا، اضطربت فيه القلوب، واختلطت معه المشاعر، وغامت فيه الرؤية الكاشفة حتى لم يعد أحد يدرى أين موقفه، وأين مجتمع رأيه!.. تماما كما كان ذلك بعد أن وقعت غنائم بدر لأيديهم..!
وعاد النبيّ الكريم يسأل أصحابه: «أيها الناس أشيروا علىّ».. وكانت عين الرسول صلوات الله وسلامه عليه تتطلع إلى الأنصار.. إذ كانوا هم كثرة الناس، وأصحاب البلد الذي يواجه الخطر، ويتلقى الضربة القاضية، كما أنهم حين بايعوا النبي قبل الهجرة، كانت بيعتهم أن يمنعوه فى بلادهم مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم ونساءهم. ولم يكن فى البيعة أن يقاتلوا معه مهاجمين.
وجاءت كلمة الأنصار، فقال سعد بن معاذ:
«لكأنك تعنينا يا رسول الله؟ قال: «أجل»، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع الطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد... »
565
فاستبشر رسول الله بهذا القول الذي جاء على لسان الأنصار، ونطق به رجلها..
وبهذا كان الحسم لهذا الموقف المائج المضطرب.. تماما كما كان حكم الله فيما حكم به في شأن الغنائم التي وقعت للمسلمين بعد هذه المعركة.. حيث سكنت النفوس، واجتمع الرأى الشتيت.
ومن هنا صح أن يقع التشبيه بين الحالين: حال المسلمين فى مواجهة العدو بعد أن دارت رءوسهم، واضطربت قلوبهم.. وحالهم فى الغنائم، بعد أن اختلفت آراؤهم فيها، واضطربت مشاعرهم حيالها..
وانظر كيف أمسكت كلمات الله، بكل خالجة كانت تختلج فى نفوس القوم هنا، وهناك.. فى مواجهة العدو، ثم فى مواجهة الغنائم..
ففى مواجهة العدو..
لم يكن المسلمون يتوقعون أن تقع حرب، أو يدور قتال بينهم وبين المشركين.. لقد خرجوا يطلبون العير، ويأخذون ما يقع لأيديهم مما تحمل من أموال ومتاع.. فكان أن جاء الأمر على غير ما قدّروا، فأفلتت من أيديهم العير، وفاتهم ما منّوا أنفسهم به منها.. فواجهوا المعركة، والتحموا فى القتال..
وفى مواجهة الغنائم والأنفال:
كان المقاتلون يقدّرون أن ما وقع لأيديهم منها، هو خالص لهم، وأنه لن يخرج شىء منها إلى غيرهم.. فكان أن جاء الأمر على غير هذا التقدير الذي قدّروا، وخرجت الغنائم كلها من أيديهم، حيث وضعها الله سبحانه، فى يد الرسول صلوات الله وسلامه عليه..
566
وهكذا يصنع الله للإسلام، فيقيم وجه أنصاره على أمره وحده، لا يلتفتون معه إلى شىء آخر غيره.. فمن كان على نيّة الإيمان بالله والجهاد فى سبيله، فهذه هى سبيله: أن يصرف وجهه عن الدنيا، وأن يوطّن نفسه على الجهاد خالصا لله، لا يبغى به إلّا وجه الله، ولا يطلب إلا مثوبته ورضوانه..
ففى قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ» إلفات للمسلمين الذين كسبوا المعركة، وحازوا ما كان مع قريش من سلاح، ومتاع ثم صرفهم الله عن هذا السلاح والمتاع- إلفات لهم إلى تلك الحال التي كانوا عليها، بعد أن صرف الله عنهم العير، وجعلهم وجها لوجه مع العدوّ فى ميدان القتال..
فهذه من تلك، سواء بسواء..
والبيت الذي خرج منه النبىّ هنا، هو المدينة.. فهى بيته- صلوات الله وسلامه عليه- الذي يأوى إليه، ويقرّ فيه.
وخروجه- صلوات الله وسلامه عليه- بالحق، أي للحقّ، ومن أجل الدفاع عن قضيّة الحق.. وليست قضية الحق هى هذا المتاع الذي كانت تحمله العير، ولا هذه الأنفال التي خلصت لأيدى المسلمين، وإنما قضية الحق هى إعلاء كلمة الله، وإزاحة العقبات التي تقف فى وجه الدعوة إلى الله، بمحاربة أولئك الذين يحاربون الله، ويصدّون الناس عن سبيله.
والحقّ دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلّا من رزقهم الله الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد.. إذ الحق- فى حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وتصدّ لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان فى حرب متصلة مع نفسه، حتى إذا أقامها على الحق، وأسلم زمامها له، كان عليه
567
أن يواجه النّاس، وأن يجاهد فى سبيل الحقّ الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه، ولسانه، ويده..
ومن هنا كان الصبر قرين الحقّ فى كل دعوة يدعو إليها الإسلام، فى مجال الخير، والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان، والإنسانية، على صراط مستقيم..
ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هو عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، إذ يقول الله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» ثم يقرن- سبحانه- تلك الدعوة بقوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (٢٤- ٢٥: السجدة).
وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يتهدّده من تسلّط أهوائه، ووسوسة شيطانه، حيث يقول سبحانه: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» لا يستثنى- سبحانه وتعالى- أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (سورة العصر).
وفى قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - فى هذا إشارة إلى ما وقع فى نفوس فريق من المؤمنين- لا كل المؤمنين- من مشاعر الكراهية، حين عدل بهم عن وجهتهم التي اتجهوا إليها لاقتناص العير، والاستيلاء على ما تحمل من مال ومتاع، إلى حيث يلقون قريشا وجيشها الجرار فى ميدان القتال.. ولهذا كان منهم هذا الجدال الذي تعللوا به للنكوص عن لقاء العدوّ، فقال قائلهم: ما خرجنا للقتال، ولا أخذنا أهبتنا له، ولاصحبنا إخوانما الذين خلفناهم وراءنا إليه!
568
والسؤال هنا: كيف يجادلون فى الحق بعد ما تبين لهم؟ وكيف يكونون مؤمنين مع هذا؟ وهل من شأن المؤمن أن يجادل فى الحق إذا عرف وجهه، واستبان له طريقه؟
والجواب:
أن الحقّ- وهو قتال المشركين- كان أمره ظاهرا لهم، بعد أن أفلتت منهم العير، إذ كان الله- سبحانه- قد وعدهم على لسان نبيّه الكريم بأنّهم سيظفرون بإحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير.. فلما أفلتت منهم العير، لم يبق إلا النفير والحرب.. فهذا حق مستيقن لهم، لاخفاء فيه.
ولكن يقوم إلى هذا الحق، تلك الرغبة القوية التي كانت مستولية على المؤمنين من قبل، وهى الاستيلاء على العير، وذلك شأن النفس دائما حين يكون خيارها بين أمرين، أحدهما محبوب، والآخر مكروه.. فإنها حينئذ لا تلتفت إلى غير المحبوب، حتى ليصبح المكروه عندها كأنه غير مفترض أصلا، فتنساه، أو تتناساه.. فإذا فاجأها هذا المكروه الذي أخرجته من حسابها وتقديرها، كان وقعه شديدا عليها، حتى لكأنه حدث طارئ لم تكن تتوقعه.. ومن هنا يكون إنكارها أو تنكرها له.
ولهذا جاء قوله تعالى: «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - جاء كاشفا عن تلك الحال التي استولت على بعض المؤمنين، الذين وجدوا أمر القتال ثقيلا باهظا، حيث تمثلت لهم مصارعهم، وشهدوا الموت عيانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذه الآية:
«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».
569
فالطائفتان: هما.. العير والنفير..
وقوله تعالى: «أَنَّها لَكُمْ» هو وعد للمؤمنين بأنه ستقع ليدهم إحدى هاتين الطائفتين: العير أو النفير..
وذات الشوكة: أي صاحبة الشدّة والبلاء، وهى «النفير» ووصف النفير بأنه ذو شوكة، لما يلقاه المسلمون فى لقاء النفير من أذى وضر.. إنه القتال والقتل!! وفى قوله تعالى: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» - ما يسأل عنه..
وهو: ما هى كلمات الله التي يحقّ بها الحق، ويقطع بها دابر الكافرين؟
والجواب- والله أعلم- أن المراد بكلمات الله هى أحكامه التي يقضى بها فى خلقه، وأن تلك الأحكام تصدر بقوله- سبحانه- للشىء: كن فيكون، وكل قول لله تعالى، هو حقّ، يحق به حقّا، أي يقيمه، ويظهره.. فإذا قام الحقّ بطل الباطل..
ومعنى آخر لكلمات الله هنا، أحبّ أن أشير إليه، وهو أن المؤمنين الذين يعملون على إحقاق الحق، ويقاتلون فى سبيله، هم أنفسهم كلمات الله، قد جعل الله إليهم الانتصار للحق، وإعلاء كلمته، وإبطال الباطل، وإزهاق أنفاسه..
وفى هذا تكريم للمؤمنين، وإعلاء لقدرهم، ورفع لمنزلتهم، بحيث كانوا كلمات الله، وجند الله.. بهم يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون..
وإرادة الله لا شك غالبة قاهرة.
ومن هنا كان النصر دائما للحق، وكان الغلب دائما للمحقين، وفى هذا يقول الله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ».
ودابر الكافرين: دابر الشيء آخره، والمراد به قطع آخرهم واستئصالهم جميعا، إذ كان أولهم هو الذي يتلقى الضربة، فإذا بلغت تلك الضربة آخرهم كان معنى ذلك القضاء عليهم جميعا.
570
الآيات: (٩- ١١) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١١]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
التفسير: يتعلق الظرف «إذ» بقوله تعالى: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» أي إنّ إرادة الله بإحقاق الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين- قد رأيتم تحقيقها فى هذا الوقت الذي كنتم تستغيثون فيه ربكم، وقد التقيتم بالمشركين فى كثرتهم، وقلتكم..
وقوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» أي حين واجهتم العدو، وأفزعتكم كثرته، وفزعتم إلى الله أن يمدكم بنصره- استجاب لكم ربكم، وأمدكم بألف من الملائكة مردفين، أي يردف بعضهم بعضا، ويجىء بعضهم إثر بعض.
وقوله سبحانه: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» الضمير فى «جعله» يعود إلى هذا المدد السماوي.. أي ما جعل الله هذا المدد السماوي الذي أمدكم به إلا بشرى للنصر الذي وعدكم به، ولتطمئن به قلوبكم، فلا يهولنّكم العدو وكثرة عدده، بعد
571
أن علمتم أن الله معكم، وأن إشارات النصر وبشرياته قد جاءت إليكم، تحملها ملائكة الرحمن التي بعثها الله لتقاتل معكم.. فهل يغلب من كان الله معه؟ وهل يهزم من كانت جنود الرحمن تقاتل فى صفوفه، ولو كان فردا يقاتل الناس جميعا؟
وهذه الجند المرسلة من السماء، ليست إلا ألطافا من ألطاف الله بكم فى هذا الموقف الحرج، ترون منها بشائر النصر، وتجدون فيها ريح السكينة والطمأنينة- أما النصر فهو بيد الله وحده، فهو الذي كتب لكم النصر، وليست الملائكة التي قاتلت معكم.. «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» له سبحانه، العزة، يعزّ بها من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر بها من يشاء، ويخذل من يشاء، حسب ما اقتضت حكمته..
هذا، وقد جاء المفسرون بكثير من الأخبار المروية عن الملائكة وقتالهم فى بدر، حتى لقد ذكر فى بعض الروايات، الصورة التي كان عليها الملائكة، وهم يقاتلون، والعمائم البيضاء التي يلبسونها، والخيل البلق التي يمتطونها، كما ذكرت روايات أخرى بعض أفعال الملائكة بالمشركين، وكيف كان بعض المقاتلين من المسلمين يهمّ بأن يضرب بسيفه رأسا من رءوس المشركين، فإذا به يجد هذا الرأس قد سقط عن جسده قبل أن يناله سيفه.. إلى كثير من تلك الأخبار التي يكثر فيها الخيال، حيث وجد القصاص مادة خصبة فى هذا الميدان الذي لم تشهد الحياة مثالا له.. فما أن أمسك القصاص بهذا الخبر السماوي الذي يحدث عن المدد الملائكى للمسلمين، حتى أطلقوا لخيالهم العنان، فنسجوا حول هذه الحقيقة العجيبة ما شاء لهم الخيال أن ينسجوه من عجائب وغرائب!.
وفى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» ما يقطع بأن هذا المدد
572
الملائكى لم يكن- كما قلنا- إلا قوى من قوى الحق، تظاهر الذين آمنوا وتثبّت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، وبهذا يصبح الواحد من المؤمنين برجح عشرة من المشركين، كما يقول الله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (٦٥: الأنفال).
فوجود الملائكة بين المؤمنين هو مما يشد أزرهم، ويريهم فى أنفسهم أنهم أكثر من المشركين عددا، وأقوى قوة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» (٤٣: الأنفال) فالمسلمون بهذا المدد الروحي يرون المشركين فى كثرتهم قلة، وبهذا يطمعون فيهم، ويثبتون لهم، على حين يراهم المشركون قلة كما هم فى قلتهم، فلا يفرون من بين أيديهم، حتى تقع الواقعة بهم، ويقتل منهم من يقتل ويؤسر منهم من يؤسر: «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا».
فلو أن الملائكة كانوا هم الذين قاتلوا دون المؤمنين- لما كان للمؤمنين فضل فى هذه المعركة، ولما كان لهم شرف هذا البلاء الذي أبلوه فى هذا اليوم، بل ولما كان من النبىّ هذا الحال الذي استولى عليه ساعة بدء القتال، وهو الذي تلقى وحي السماء بهذا المدد الملائكى.. فإنه عليه الصلاة والسلام- يعلم أن هذا المدد لا يخلى المؤمنين من مسئولية حمل العبء فى لقاء المشركين، وإن كان من ورائهم تلك القوة السماوية التي تظاهرهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ».
وقد جاءت هذه الآية فى غزوة أحد هكذا:
573
«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ». (١٢٦: آل عمران) وبين الآيتين اختلاف فى النظم اقتضته الحال هنا وهناك.
ففى آية بدر، جاء قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» على حين جاء هذا المقطع فى آية أحد: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ»، مقيدا هذه البشرى بأنها للمؤمنين، وقد جاءت مطلقة فى آية بدر!.
وحكمة هذا- والله أعلم- أن إطلاق البشرى فى «بدر» كان حيث لا حساب لأحد غير المسلمين فى هذه البشرى، إذ هى خالصة لهم، إذ كانوا جميعا فى وجه العدوّ صفّا واحدا، ويدا واحدة.
أما فى «أحد» فقد انقسم المسلمون على أنفسهم، وهمّت طائفتان منهم أن تفشلا، وانحاز عبد الله بن أبى بن سلول بشطر كبير من المسلمين، وكانت قولته هو وأصحابه: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ».. فجاءت البشرى هنا على غير إطلاقها للمسلمين جميعا، وإنما هى للذين واجهوا العدوّ فى أحد، والتحموا معه فى القتال.. فكان قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» إشارة إلى هؤلاء المؤمنين الذين وجّهوا وجوههم إلى لقاء العدوّ، دون هؤلاء الذين نكصوا على أعقابهم.
وفى آية بدر جاء قوله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» وفى آية أحد:
«وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» وذلك لأن حاجتهم فى بدر إلى مجرد الاطمئنان كانت هى مطلبهم الذي يطلبونه فى تلك الحال، وينتظرونه من الأفق الذي سيطلع منه.. فالمطلوب أولا هو هذا الذي يبعث فيهم الطمأنينة، وقد جاءهم فى هذا المدد السماوي من ملائكة الرحمن..
وفى آية أحد كانوا قد عرفوا هذا الذي يطمئنهم، وعرفوا الأفق الذي
574
يجىء منه، فلم يكن ثمّة داع يدعو إلى تقديمه فى النظم، ليفصل بين الفعل وفاعله، فجاء النظم على الأسلوب المألوف.
وفى آية بدر جاء قوله تعالى: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وجاءت آية أحد: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» حيث جاء الخبر مؤكدا، فى آية بدر، على حين جاء مطلقا من غير توكيد فى آية أحد.. وذلك أن المسلمين فى بدر كانوا يواجهون أول وعد لله سبحانه لهم بالنّصر، فحسن أن يؤكد لهم هذا الوعد.. أما فى أحد فقد كانوا على يقين ثابت بوعد الله، الذي رأوا عزّته، وحكمته، رأى العين، فيما تحقق لهم من نصر يوم بدر..
وقوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ».
الظرف «إذ» هنا متعلق بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» أي من مظاهر عزّة الله وحكمته فى هذا اليوم أن أرسل عليكم النّعاس، فغشيكم، وطرق عيونكم، ولبس أجسادكم، فكان ذلك من بواعث الأمن والطمأنينة لكم..
إذ لا يطوف النوم إلا حيث تكون السكينة، ويكون الاطمئنان.
والأمنة: بمعنى الأمن، ولكنها قطعة من الأمن، وليست كلّ الأمن والضمير فى «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.
وفى الحديث عن النعاس الذي غشّى المؤمنين يومئذ بأنه كان نعاسا، ولم يكن نوما، أو استغراقا فى النوم- إشارة إلى واقع الحال الذي كان يشتمل جوّ المعركة، من اضطراب النفوس، وجزع القلوب، وحيرة العقول، وأن من نعم الله الجليلة فى هذه الحال أن يطوف بالإنسان طائف من الأمن، بحيث يطرقه
575
النعاس، الذي يذهب بكثير من خواطر الجزع والقلق، ويكسب على كيان الإنسان الجسدى، والنفسي راحة وروحا، يستقبل بهما العدوّ، وهو أكثر نشاطا، وأثبت قدما، مما لو كان قد بات ليلة الحرب يعالج الهموم، ويحارب فى غير حرب، حتى يبدّد قواه، ويستهلك نشاطه، فيلقى العدوّ مهدّما محطّما..
وهذا النعاس- الذي غشى المسلمين- إنما كان ليلة الحرب، لا فى ميدان القتال، كما يرى ذلك بعض المفسّرين.. فإن النعاس مطلوب قبل الالتحام فى القتال، لا ساعة الالتحام، لأنه إعداد «للمعركة» وزاد من الاستجمام والنشاط يتزود به المقاتل.. أما وقوعه والمعركة دائرة والقتال محتدم، فهو عامل من عوامل الخذلان، لا عدّة من عدد النّصر..
والذي يؤيد أن هذا النعاس كان ليلة الحرب، وأنه كان نعمة من النعم التي ساقها الله للمؤمنين فيما ساق إليهم من نعم- الذي يؤيد هذا، أنه وصل بنعمة أخرى، صحبته، أو جاءت بعده، وهو نزول المطر فى تلك الليلة، كما يقول الله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ».
وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ».
هو بيان لما ساق الله إلى المسلمين يوم بدر من أمداد نصره وتأييده..
فإلى جانب الملائكة المرسلة إليهم، كان النعاس الذي غشّاهم الله به، فطرقهم جميعا.. ثم كان هذا المطر الذي نزل عليهم، فتطهروا به من الحدث الأكبر والأصغر، فكانوا على طهارة ظاهرة، تلتقى مع طهارة نفوسهم، وصفاء
576
نيّاتهم لله، والموت فى سبيل الله.. وبهذا ذهب عنهم رجز الشيطان ووسواسه، الذي كان يلقى فى روعهم أنهم لو قتلوا لماتوا على غير طهارة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعث فيهم شيئا من التخاذل والفتور، عند لقاء العدوّ..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» فيكشف عن أثر هذا الماء الذي أنزل الله عليهم فطهرهم به، وأذهب عنهم رجز الشيطان وثبت به أقدامهم، حيث اطمأنت قلوبهم بعد أن طهروا، فثبتت أقدامهم فى موطن القتال، وسعوا إلى لقاء الله طاهرين! ومن جهة أخرى، فإن هذا الماء الذي أنزله الله عليهم ليلة القتال قد كان له أثره فى تماسك الأرض من تحت أقدامهم، حيث اختلط الرمل بذرات التراب، فلما أمسك المطر، وجفت الأرض صار وجهها طبقة صلبة أشبه بالطين اللازب، فثبتت عليه أقدامهم، بعد أن طهرت أجسامهم، واطمأنت قلوبهم..
الآيات: (١٢- ١٩) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٢ الى ١٩]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
577
التفسير: قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» هو عطف بيان على قوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» ولم يعطف على ما قبله عطف نسق، إذ كان الأمران كأنهما أمر واحد، إذ وقعا جميعا مرة واحدة، فلم يكن هناك فاصل زمنى بينهما. وذلك دليل على قدرة الله، الذي لا يشغله حدث عن حدث، والذي لا يغيّر من قدرته امتلاء الزمان أو المكان بالأحداث.
وقوله تعالى للملائكة: «أَنِّي مَعَكُمْ» إشارة إلى أن الملائكة، وإن كانوا على قوة لا حدود لها بالنسبة لقوة البشر، إلا أنهم مع ذلك يستمدّون القوة والعون من الله سبحانه وتعالى، شأنهم فى ذلك أضعف مخلوقات الله، وأقلها حولا وحيلة.
وقوله سبحانه: «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بيان لما كان من الملائكة يوم بدر، وأنهم كانوا قوة معنوية، تبعث الطمأنينة فى القلوب، أشبه بالدرع الواقي الذي يلبسه المحارب، وإن لم يكن له شأن معه فى المعركة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ».
578
وقوله تعالى: «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» إشارة إلى ما وقع فى قلوب المشركين يومئذ من رعب، اضطربت له صفوفهم، وزاغت به أبصارهم.. وبهذا وذاك تمكّن المسلمون من رقابهم، وأوقعوا الهزيمة بهم.
وقوله سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» هو دعوة للمسلمين أن يحصدوا هذا الزرع الذي أصبحت قطوفه دانية لأيديهم، وبهذا يضاف هذا المحصول كله لهم، ويحسب من عمل أيديهم.. وهذا فضل من الله عليهم، ورحمة واسعة من رحمته بهم.
ولو شاء الله سبحانه أن يهلك المشركين من غير أن يبتلى بهم المؤمنين لفعل.. ولكن أين بلاء المؤمنين؟ وأين العمل الذي يضاف إليهم، ويؤجرون عليه؟
إنه من تدبير الله تعالى وحكمته، أن يبتلى الناس بعضهم ببعض، وذلك ليظهر فى كلّ إنسان ما عنده من خير أو شر، وبهذا تنكشف للناس وجوههم، وتتحدد مواقفهم.
وفى قوله تعالى: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» إشارة إلى ما ينبغى أن يتجه إليه ضرب المؤمنين فى جبهة المشركين، وهو أن يكون فى المواطن التي تخمد بها أنفاسهم، أو تشل حركاتهم، وذلك بضرب الرءوس التي عشّش فيها الشرك، وأفرخ فيها الضلال، وضرب تلك الأيدى التي كانت تمتد بالأذى إلى المسلمين، وها هى ذى تريد القضاء عليهم.
وقوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»
هو بيان للسبب الذي من أجله أمر الله المسلمين بضرب هؤلاء المشركين هذا الضرب الذي مكنهم الله به من رءوس أعدائهم.. فهم قد شاقّوا الله ورسوله، أي خالفوهما، وعصوا أمرهما.. وليس جزاء من يشاقق
579
الله ورسوله إلّا أن يلقى جزاءه عند الله، والله شديد العقاب.
قوله تعالى: «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» هو خطاب للمشركين، والإشارة هنا إلى هذا العذاب الذي صبّه الله عليهم، وجرّعهم كئوسه على أيدى المؤمنين.. وذلك هو جزاؤهم فى الدنيا.. أما فى الآخرة فلهم أنكى وأمرّ.. إنه عذاب النار.
وقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ» هو درس للمؤمنين، يتلقونه فى هذا الموقف، الذي شهدوا فيه آيات الله، ورأوا بأعينهم أمداد نصره وتأييده، فليكن ذلك درسّا لهم يتلقون منه العظة والعبرة، وليصحبهم هذا الدرس فى كل موقف بعد هذا، يكون فيه بينهم وبين المشركين والكافرين قتال.. فهو نداء عام للمؤمنين، المجاهدين فى سبيل الله، بأن يثبتوا للعدو، وأن يلقوه لقاء جادّا مصمما على النصر، أو الاستشهاد فى المعركة، دون أن يدخل على أحد منهم شعور بالفرار من وجه العدوّ، أيّا كان الموقف، وأيّا كانت قوة المشركين وشوكتهم..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».. هو وعيد شديد لمن يدخل على نفسه من المؤمنين شعور بالهزيمة، فينكص على عقبه، ويعطى العدوّ دبره، فى أي موقف من مواقف القتال بين المؤمنين والمشركين.. وقوله تعالى: «يومئذ» هو أىّ كان، لا يراد به يوم بعينه، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين بجعل، هذا اليوم خاصّا بيوم بدر.. وهذا فوق أنه غير متفق مع الدعوة العامة التي حملها القرآن الكريم إلى المؤمنين فى آيات كثيرة بالثبات فى الجهاد- غير متفق كذلك مع ترتيب الأحداث إذ أن سورة الأنفال، نزلت بعد بدر وأحداثها، وذلك باتفاق.
580
وحال واحدة هى التي يحقّ للمؤمن فيها أن يعطى العدو ظهره، وهو أن يتحرّف لقتال، أي يرى تغيير موقفه الذي هو فيه، ويتخيّر موقفا آخر، أمكن له، وأصلح لموقفه فى القتال، أو أن يتحيز إلى فئة من المؤمنين، فينتقل من جماعة إلى جماعة، حيث يرى فى ذلك مصلحة فى النكاية بالعدوّ.. فهذا التولّى بالوجه عن مواجهة العدوّ هنا، هو لحساب المعركة، لا لحسابه، ولا للضنّ بنفسه عن أن يواجه العدوّ، ولو كان فيه الموت.
وفى التعبير عن الصدّ عن العدوّ، والفرار منه بتولية الدّبر، تشنيع على من يأتى هذا الفعل، وفضح له، إذ كان كأنما يكشف سوأته لعدوّه أو يعطيه دبره! وقوله تعالى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» هو إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي مكنّ للمسلمين يومئذ من عدوّهم، وأن يد الله هى التي ضربتهم تلك الضربة القاضية، وأن المسلمين لم يكونوا إلا أسبابا ظاهرة، أجرى الله على أيديهم ما أخذ به عدوهم من بلاء فى هذه المعركة.. وكذلك ما فعله النبىّ يومئذ حين قبض قبضة من تراب فرمى بها فى وجه الكافرين، داعيا الله سبحانه أن يعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، ويأخذ على أيديهم.. فإن ذلك الذي كان من النبىّ لم يكن ليحدث أثره، إلا لأن الله سبحانه هو الذي جعل لهذه الرمية تأثيرها وأثرها..
وإذن فإن فوق يد المسلمين كانت يد الله.. وفوق يد النبي كانت يد الله.. وإذن فلا يحسب المسلمون أنهم بغير هذا المدد السماوي قد غلبوا عدوهم وقهروه، ولا يحسب النبىّ أنه برميته تلك التي رمى بها فى وجوه المشركين قد فتح للمسلمين طريق النصر، لولا أن يد الله تقبلت رميته وباركتها.. وفى هذا وذلك ما يشعر بأن الله سبحانه مع نبيه ومع المجاهدين معه.
581
وإذا كان الله سبحانه هو الذي مكّن للمسلمين من عدوهم، ومنحهم هذا النصر، فما ذلك إلا «لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» حيث أعطاهم أجر هذا العمل العظيم، الذي هو فى حقيقة الأمر لم يكن لهم يد فيه، فلو جرت الأمور على ظاهرها لكانت الدائرة عليهم، ولكان القتل والبلاء فيهم.. فليذكروا هذا، وليتزودوا منه يزاد الإيمان بالله، وعقد العزم على الجهاد فى سبيله..
«وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٤٠: الحج).
وفى وصف البلاء بأنه حسن إشارة إلى الوجه الآخر من وجوه الابتلاء وأنه قد يكون غير حسن كما يقول الله: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (٣٥: الأنبياء).
فقد عافى الله المؤمنين من أن يبلوا بالقتل، وأن يمتحنوا بالأسر، فذلك مما يبتلى الله به المؤمنين، ويجزيهم عليه.. ولكن رحمة الله بالمؤمنين فى هذا الموقف الذي يلقون فيه الشرك لأول مرة، وينتصرون فيه لأنفسهم- جعلت الابتلاء بالخير دون الشر، وبالعافية دون البلاء.. فظفروا وانتصروا، وسلموا، وغنموا.. ورجعوا بالحسنيين جميعا.. المغانم فى الدنيا، والجنة ونعيمها فى الآخرة.
وقوله تعالى: «ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ».
الإشارة هنا إلى ما لله سبحانه وتعالى من رعاية لأوليائه، وتمكين لهم من أعدائهم.. فأولياؤه، المجاهدون فى سبيله، هم أبدا محفوفون بنصره وتأييده، وأن ما يكيده الكافرون لهم لا يصل إليهم، إلا واهيا، ضعيفا، متخاذلا..
وقوله سبحانه:
«إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ».
582
هو تهديد ووعيد للكافرين، الذين يدلّون بقوتهم، ويعتزّون بكثرتهم..
فهاهم أولاء يشهدون بأعينهم كيف كان فعل الله بهم، وكيف أخذهم الله بيد أوليائه، ورماهم بالبلاء والذلة والهوان.. ؟
والاستفتاح: طلب الفتح، وهو النصر والغلب.
والخطاب فى قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» هو للمشركين، وهو بلاء فوق البلاء الذي أصيبوا به فى يوم بدر.. فقد جاءوا مستفتحين، أي طالبين النصر والغلب.. فهذا هو النصر الذي طلبوه، وذلك هو شأنهم أبدا مع المؤمنين.. إنهم لن يرجعوا إلا بنصر هكذا النصر الذي انقلبوا به، يحملون الخزي والعار، ويتركون فى ميدان المعركة سادتهم وأشرافهم، أشلاء ممرغة فى التراب! وفى قوله تعالى: «وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» فى هذا ما يكشف عن المستقبل المظلم الذي ينتظر المشركين، إذا هم أصرّوا على موقفهم من المسلمين، ولم ينتهوا عماهم عليه من بغى وعدوان، فإن كثرة عددهم، وشوكة قوتهم، لن تغنى عنهم شيئا، ولن تدفع قضاء الله فيهم..
وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» تيئيس للمشركين من أنهم لن ينالوا من المسلمين منالا، وأن العاقبة للمؤمنين، لأن الله معهم.. فلينظروا..
هل ينتصرون على جبهة يكون الله معها؟ فليجربوا!! وقد جربوا فعلا، فكان هذا الذي سجله التاريخ للدعوة الإسلامية، وما كتب الله لأهلها من النصر والفتح المبين.. وكان هذا الوعد من القرآن الكريم فى مطلع الدعوة الإسلامية معجزة من معجزاته، فيما كشف به عن حجب الغيب، وأنباء المستقبل..
583
الآيات: (٢٠- ٢٦) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»..
هو إلفات منه سبحانه إلى المؤمنين، ودعوة لهم إلى طاعته وطاعة رسوله، بعد أن أراهم نصره وتأييده، وأطلعهم على ما لقى المشركون وما سيلقون من خزى وخزلان..
وقوله تعالى: «وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» تحذير للمؤمنين من أن يخرجوا عن طاعة الله، وأن يخالفوا الرسول فيما يسمعون من آيات الله، التي يتلوها عليهم.. وأن يكونوا كالمشركين أو المنافقين الذين يقولون سمعنا «وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ»
584
أي لا يستجيبون للرسول، ولا يمتثلون لما يسمعون منه، من أمر أو نهى..
وفى قرن الإيمان بالطاعة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»..
إشارة إلى أن الإيمان لا تقوم حقيقته إلا على الطاعة لما تحمل دعوة الإيمان من أوامر ونواه.. فالإيمان ليس مجرد إقرار باللسان، فإن الإقرار باللسان إذا لم يصدّقه العمل، كان نفاقا.. والله سبحانه وتعالى يقول فى ذم المنافقين:
«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» (١٦٧ آل عمران) ويقول سبحانه محذرا المؤمنين من هذا الموقف: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ..» كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (٣: الصف) والرسول صلوات الله وسلامه عليه، يكشف عن حقيقة الإيمان فيقول: ليس الإيمان بالتّمنّى، ولكن ما وقر فى القلب وصدّقه العمل.. وإن قوما خدعتهم الأمانى وغرهم بالله الغرور.. يقولون: إنا نؤمن بالله!! وكذبوا.. لو صدقوا القول لصدقوا العمل»..
وقوله سبحانه: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» هو عرض لتلك الصورة المنكرة التي عليها هؤلاء المشركون، الذين يسمعون كلمات الله تتلى عليهم ثم لا يزيدهم ذلك إلّا ظلما وبغيا وفسادا..
فهم شرّ ما يدبّ على هذه الأرض من أحياء.. إذ كان شأن كلّ دابّة أن تسمع لصوت داعيها، وتستجيب لنداء من يهتف بها، داعيا أو زاجرا..
أما هؤلاء فهم شرّ من الدوابّ.. إذ هم صمّ: لا يسمعون، بكم:
لا ينطقون، بهائم لا يعقلون.. وفى هذا يقول الله تعالى: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
(٧- ٨: الجاثية)..
585
ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ» (٢٦: الأحقاف) وقوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ».. أي أن هؤلاء المشركين ممن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة.. هكذا خلقهم الله، لا يقبلون خيرا، ولا يهتدون إلى خير.. «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» أي لو علم سبحانه أنهم يتقبلون الخير وينتفعون به، ويستقيمون عليه، لفتح أسماعهم إلى كلمات الله، ولأمسك آذانهم الشاردة على مورد هذه الكلمات.. ولكنهم لا ينتفعون بشىء مما يسمعون من كلمات الله التي تتلى عليهم، إذ كانت تلك الكلمات لا تعرف طريقها إلى مواطن الوعى والإدراك من قلوبهم وعقولهم، بل ترتدّ عنها كما يرتد مسيل الماء يصطدم بسد منيع.. «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» أي لو سمعوا كلمات الله، ونفذت إلى آذانهم، لما استقبلوها إلّا بالجد فى مجانبتها، والتولي عنها والفرار من بين يديها.. فهم لا يلتقون بها إلا وهم معرضون عنها، فإذا صافحت آذانهم نفروا وتولوا معرضين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» «١» (٤٩- ٥١: المدثر).
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» - هو نداء بعد نداء للمؤمنين، أن يقبلوا على الله، ويستجيبوا لله ولرسوله، وقد رأوا
(١) الحمر المستنفرة: المذعورة، الفزعة. والقسورة، الأسد..
586
إعراض المشركين عن الله، ونفورهم من دعوته، فكانوا عند الله شر الدواب وأنكدها حظّا.
فالمطلوب من المؤمنين أن يستجيبوا لأمر الله وأمر رسوله، فيما يدعوهم إليه الرسول من أمر ربه. وهذا يعنى التسليم للرسول بالطاعة والولاء، فى كل ما يجيئهم به، ويدعوهم إليه.
وفى قوله تعالى: «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» إشارة إلى أن ما يدعو به الرسول هو حياة للناس، واستنقاذ لهم من الهلاك والضياع..
والسؤال هنا هو:
ما معنى «إذا» وهل هى شرطية، بمعنى أن المؤمنين لا يستجيبون للنبي إلا على هذا الشرط، وهو أن يدعوهم للذى فيه حياة لهم؟ وهل يدعو الرسول بغير ما يحمل الحياة إلى الناس من أمر الله؟ وهل للمؤمن أن يتوقّف عند أي أمر يدعوه الرسول إليه حتى يختبره ويصدر حكمه عليه، بعد أن يرى: إن كان فيه حياة له، أو لم يكن؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ؟» (٣٦: الأحزاب).. فما تأويل هذا؟.
والجواب- والله أعلم-: أن هذا القيد الوارد على دعوة الرسول، والأمر بالاستجابة لتلك الدعوة على هذا الوصف، وهى أن تكون دعوة فيها حياة وخير، يصيب الإنسان فى جانبيه الروحي والمادي معا- نقول إن هذا القيد يحقق أمرين:
أولهما: الدعوة إلى إيقاظ العقل، وحمله على النظر فى كل أمر يواجهه، أو
587
يدعى إليه، ليزنه بميزان الحق والخير، حتى ولو كان هذا الأمر واردا من جهة لا يرد منها إلا الحق المشرق، والخير الخالص.
فذلك لا يحول بين العقل وبين أن يتفحص الأمر، ويقلّبه على وجوهه، ليعرف مدى الخير الذي يحصله، إذا هو أخذ بهذا الأمر، وجعله معتقدا، له، يعمل فى ظله، ويسير على هواه.. فهذا من شأنه أن يجعل لهذا الأمر سلطانا متمكنا فى كيان الإنسان إذ أقامه بيده، ومكّن له بإرادته، ونزل على حكمه طائعا مختارا، يرجو منه الخير، ويتوقع السلامة والعافية.
ومن أجل هذا كان الإيمان الذي آمن عليه المسلمون الأولون، إيمانا راسخا متمكنا، جعل منهم أوتاد هذا الدين، وعمده، التي قام عليها صرحه، وامتدّت عليها ظلال دوحته.
وهذا يعنى احترام العقل الإنسانى، وإعطاءه الحق فى البحث والنظر حتى فيما يصدر إليه من أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وليس بعد هذا عذر لإنسان يمتهن إنسانيته، ويبيع عقله، ويسلم مقوده لكل داع يدعوه، من غير أن يعمل فيه نظره، ويوجه إليه عقله، كما هو حال أولئك المشركين الذين لا يبصرون إلى ما يدعوهم إليه شياطينهم، أو تمليه عليهم أهواؤهم، وإن كان فيه هلاكهم.
وثانى هذين الأمرين: أن ما تحمله أوامر الشريعة وأحكامها هو الخير المطلق الذي لا يزداد على البحث والنظر إلا وضوحا وألقا.
فمن المطلوب إذن أن تتعلق الأنظار بهذه الأوامر وتلك الأحكام، وأن تتحكك بها العقول، وتتردد عليها الأفهام، حتى تتعرف إلى أسرارها، وتنشق العبير الطيب من أريجها، وبهذا تعرف قدرها، فيشتدّ حرصها عليها، وتمسكها
588
بها.. وهكذا كل شىء طيب كريم، تتغذّى الأنظار من ترداد النظر فيه، وتنتعش النفوس من كثرة لقاء العقل له..
يزيدك وجهه عجبا... إذا ما زدته نظرا
وفى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»..
إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة وعلم، وأنه بقدرته قادر على كل شىء، وبعلمه محيط بكل شىء..
فالإنسان لا يملك من أمر نفسه شيئا مع ما لله عليه من سلطان، حتى إن قلبه الذي هو بين جنبيه، والذي هو الجهاز الممسك بزمام الحياة فيه، واقع تحت سلطان الله، يصرفه كيف يشاء، ويحوّله إلى حيث يريد.. وإذا الإنسان فى واد، وقلبه فى واد آخر..
وإذ كان ذلك كذلك، فإن من السّفه أن يتحدى الإنسان أمر الله، ولا يستجيب له إذا دعاه إليه، ولا يطيع رسول الله إذا بلغه رسالة ربه، فإنه بهذا يهلك نفسه، إذ يحول بينها وبين الخير الذي يدعوها الله ورسوله إليه، ويقطع عنها شريان الحياة، كما يقطع الله سبحانه وتعالى عنه أسباب الحياة، حين يمسك قلبه فلا يخفق أبدا..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ».
هو دعوة إلى التناصح بين المؤمنين، وإلى التناهى فيما بينهم عن المنكر، وإلا فإن سكوت الساكتين منهم، عن ظلم الظالمين وبغى الباغين، هو اعتراف ضمنى بهذا الظلم، وذلك البغي، وإجازة لهما، ومن هنا لم يكن ما يحل بالظالمين من بلاء الله ونقمته واقعا بهم وحدهم، بل يصيبهم ويصيب من رآهم ولم ينكر
589
عليهم تلك المنكرات، ولهذا عمّ الله بنى إسرائيل جميعا باللعنة، لأنهم لم ينصحوا الظلمة فيهم، ولم ينكروا ظلمهم، وفى هذا يقول الله تعالى:
«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» (٧٨- ٧٩: المائدة).
وهنا سؤال:
كيف يؤخذ المحسنون بظلم الظالمين، والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى؟» (١٨: فاطر) ويقول سبحانه:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ؟» (١٠٥: المائدة).. ويقول فى هذه الآية: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».. فكيف يكون مع المتقين ثم يأخذهم بما أخذ به الظالمين؟.
والجواب- والله أعلم-:
أولا: أن سكوت غير الظالمين عن الظالمين هو وزر، له عقابه، فهم وإن لم يظلموا أحدا، فقد ظلموا أنفسهم بحجزها عن هذا المنطلق الذي تنطلق منه إلى رضوان الله، وإلى حماية أنفسهم وحماية المجتمع الذي هم فيه مما يشيعه الظالمون من فساد وضلال، وشر مستطير.
وثانيا: أن قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» هو حماية للمؤمنين من أن يجرفهم تيار المفسدين، وأن يسلموا زمامهم لهم، ويسلكوا معهم الطريق الذين سلكوه حين يستشرى الفساد ويغلب المفسدون.. فهنا يكون واجب المؤمن حيال نفسه أن يحميها أولا من هذا الوباء، وأن يمسك عليه دينه حتى لا يفلت منه فى زحمة هذا الفساد الزاحف بخيله ورجله..
590
ومع هذا، فإنه لن يعفى المؤمنين استشراء الشرّ من أن يقوموا بما يجب عليهم فى تلك الحال، من النصح، والتوجيه، والدعوة إلى الله، فهم أساة المجتمع لهذا الوباء الذي نزل به..
فإذا قصّروا فى أداء هذا الواجب كانوا بمعرض المؤاخذة والجزاء..
وثالثا: قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» هو توكيد لما يجب على المؤمنين من التناصح، والتناهى عن المنكر فيما بينهم، وإلا لم يكونوا من المتقين، ولم يحسبوا فيهم.. إذ كيف يكون المؤمن ممن اتقى الله، وهو يرى المنكر ولا ينكره، ويرى الظلم ولا يقف فى وجهه؟
ورابعا: إن المجتمع الإنسانى جسد واحد، وما يصيب بعضه من فساد وانحلال، لا بد أن يتأثر به المجتمع كله، كما يتأثر الجسد بفساد عضو من أعضائه وإنه كما يعمل المجتمع على حماية نفسه من الأمراض المعدية والآفات الجائحة، فيحشد كل قواه لدفع هذا الوباء، بتطبيب المرضى أو عزلهم- كذلك ينبغى أن يعمل على إخماد نار الفتن المشبوبة فيه، والضرب على أيدى مثيريها. وإلا امتد إليهم لهيبها، والتهمتهم نارها..
فحيث كان شر، فإنه لا يصيب من تلبّس به وحده، بل لا بد أن ينضح منه شىء على من حوله.. فكان من الحكمة دفع الشر ومحاربته فى أي مكان يطل بوجهه منه.
قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
هو تذكير للمؤمنين بنعم الله، وأفضاله عليهم، إذ ألبسهم لباس الأمن والعافية، بعد أن كانوا قلة مستضعفين، تنالهم يد أعدائهم بالضرّ
591
والأذى، فآواهم، وأيدهم بنصره، ومكّن لهم من عدوهم، وملأ أيديهم من المغانم..
وفى هذا ما يدعو المسلمين إلى الدعوة إلى الله، وإلى إصلاح الفاسدين، وإقامة المنحرفين، وهداية الضالين، حتى يكثر جمعهم، ويصبحوا أصحاب الكلمة فى مجتمعهم، فقد عرفوا القلّة، وما فيها من ذلة وهوان..
وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى عطف هذه الآية على قبلها، إذ كانت الآية السابقة تدعو إلى التناصح والتواصي بالخير فيما بين المؤمنين، وكانت هذه الآية تذكيرا بما كان فيه المسلمون وهم قلة، وكيف صار بهم الحال بعد أن كثروا، وتضاعفت أعدادهم.. وهكذا كلّما ازدادوا كثرة، وازدادوا صلاحا وتقوى، كلّما مكّن الله لهم فى الأرض، وملأ أيديهم من طيباتها..
الآيات: (٢٧- ٣١) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
592
التفسير: نبّه الله المؤمنين فى الآية السابقة، ولفتهم إلى ما كانوا فيه من قلّة وذلّة، وما أصبحوا فيه من كثرة ومنعة وعزّة.. وذلك ليذكروا فضل الله عليهم، وليجعلوا ولاءهم خالصا له..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دعوة للمؤمنين إلى القيام بأمر الله، والتزام طاعته وطاعة رسوله، والوقوف عند الحدود التي بينها الله تعالى، فيما أنزل على رسوله من آياته وكلماته..
فالخروج على أمر الله، والخلاف لرسوله، هو خيانة لله ولرسوله، بعد أن علموا، وتثبتوا مما أمرهم الله به، أو نهاهم عنه.. ثم هو خيانة للمرء نفسه، إذ نقض العهد، وخان الأمانة التي ائتمنه الله عليها..
وهذا مقابل لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ».
ففى هذه الآية دعوة إلى طاعة الله ورسوله، والاستجابة لما يدعوهم الرسول إليه، ويندبهم له، متى بلغت أسماعهم دعوته.. فالموقف هنا هو فيما بين المؤمنين والنبىّ، حال حياته منهم..
أما ما فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فهو امتثال لأوامر الله، وما بيّنه الرسول الكريم للمؤمنين فى أقواله وأفعاله من أمورهم، وذلك فيما بينهم وبين أنفسهم، حيث لا يكون الرسول معهم، أو يكون الرسول قد أخلى مكانه من هذه الدنيا..
وحينئذ تكون أوامر الشريعة، وأحكامها أمانة أؤتمن الإنسان عليها، فإذا ضيع تلك الأمانة بخروجه على أحكام الشريعة، والعدوان على حدودها، فقد
593
خان الأمانة، وخان الله ورسوله، وخان نفسه، التي هى أمانة عنده، والتي يكون قد ضيّعها، حين عرضها فى معرض التهلكة، إذ عصى الله ورسوله..
قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
هو تنبيه للمؤمنين إلى مكمن الخطر، الذي تهبّ منه عليهم ريح السّموم، التي تعصف بإيمانهم، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم..
وفى الأموال والأولاد يكمن هذا الداء، الذي يجور على إيمان المؤمن، ويحمله على مركب الفتنة والضلال، إن لم يأخذ حذره، ويحرس نفسه من هذا العدو المتربص به.
فللمال سلطان على النفوس، وشهوة غالبة على القلوب.. حيث لا حدّ للمال الذي يبلغ عنده الإنسان مبلغ الرضا والشبع، بل إنه كلّما ازداد الإنسان جمعا للمال كلما ازداد نهمه وجوعه، بل ازداد سعاره وكلبه، بحيث يصبح جمع المال همّه وغايته، فلا يبغى المال لتحقيق رغبة، أو إشباع شهوة.. وإنما رغبته هو المال نفسه، وشهوته هو المال، لا شىء سواه.. ومن كان هذا شأنه فلن يملأ عينه مال الدنيا كلها، لو اجتمع ليده..
كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه يصبح ظمآن وفى الماء فى فمه
وهذا هو موطن الفتنة، ومهبّ الشر من جانب المال.. فإذا لم يأخذ الإنسان.. حذره، ويصحب المال على خوف ومحاذرة، جرفته شهوة المال إلى لحجج الفتنة والضلال، فلا يعرف شاطىء الأمن والسلامة بعد هذا أبدا..
594
وللأولاد مثل ما للمال، من سلطان على الوالد، ومن تمكّن فى قلبه، واستيلاء على مشاعره، بحيث يحمله ذلك على أن يؤثرهما على نفسه، وأن يسوق إليهما كل ما وسعه جهده وحيلته، من ألوان البرّ والخير..
وتلك غريزة طبيعية فى الإنسان، بل وفى الحيوان.. وليس مما يحمد فى الإنسان أن تخمد هذه الغريزة أو تضعف، ولكن الذي لا يحمد، هو أن تجنح هذه الغريزة إلى جانب المغالاة، وتعدل بالإنسان عن الطريق السّوىّ، فيحمله ذلك على أن يقتطع من حقوق الناس، ليملأ يد أبنائه مما يشاءون، أو يشاء هو لهم.
ومن هنا كانت لفتة القرآن الكريم إلى هاتين الشهوتين: شهوة المال، وشهوة البنين، وإلفات الناس إلى الحذر منهما، ومن الوقوع تحت سلطانهما..
وفى سبيل هذا الجهاد الذي يجاهد به المرء نفسه، فى مغالبة هاتين الشهوتين، يلقى المثوبة والرضوان من الله فى الآخرة، عوضا عما فاته من إشباع شهواته، فى الدنيا «وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
الفرقان: ما يفرّق به بين الشيئين، والمراد به هنا، القوة التي يفرق بها بين الحق والباطل.. وهذه الفرقان، أو تلك القوة إنما يمدّ بها الله أولئك الذين يتقونه، ويحرسون أنفسهم ويراقبونها من أن تتعدى حدوده..
ومن تقوى الله، حراسة النّفس من الشهوات المسلطة عليها، كشهوة المال والبنين، التي نبّهت إليها الآية السابقة..
595
وفى تقوى الله قوّة يجد منها الإنسان العون على مغالبة الأهواء، ودفع الشهوات أو كسر حدّتها..
وفى تقوى الله نور يهتدى به الإنسان، إلى مواطن الحق والخير، حيث يبدو له وجه الحق واضحا وضيئا، يدعوه إليه، ويغريه بالإقبال عليه، على حين يرى وجه الباطل كاسفا كئيبا، فيعرض عنه، ويفرّ منه.
ومن هنا كان مع تقوى الله دائما، الهدى والنور، والمغفرة والرحمة، والفضل العظيم من رب العالمين.. حيث يكون الإنسان فى صحبة التقوى، على نور من ربّه، يميز به الحق من الباطل، فلا تتفرق به السبل، ولا يضل الطريق إلى الله أبدا..
قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ».
الواو، هنا للاستئناف.. والخبر الذي بعدها مستأنف..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن تقوى الله تعين الإنسان على اجتياز الصعاب، ومغالبة النزعات، واحتمال الأرزاء.. وقد كان هذا هو موضوع الآية السابقة.
وفى هذه الآية، المثل الكامل فى التزام طريق الحق، حيث يتصدّى النبيّ- وهو سيد المتقين- لما يسوق إليه المشركون من ألوان البلاء، وما يرمونه به من صنوف الإعنات والكيد، فيلقى ذلك صامدا صابرا، لا يثنيه الإغراء، ولا ينهنه الوعيد، حتى ليلقى قومه بتلك الكلمة الحاسمة الفاصلة، حين عرضوا عليه ما عرضوا من مال وسلطان: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه» !! فقد صمد
596
النبىّ الكريم أمام تلك الفتن العاصفة، التي كانت تهب من آفاق المشركين، ولم ينحرف عن طريقه القويم قيد شعرة.
ومن مكر الذين كفروا بالنبيّ ما كشفه الله تعالى فى تلك الآية، وهو أنهم أرادوا به أكثر من شر، فإمّا أن يثبثوه، أي يفسدوا عليه أمره، ويعجزوه عن القيام بدعوته. أو يقتلوه إن هو أبى إلا أن يمضى فى طريقه، ويستمر فى دعوته، وأعجزتهم الوسائل المتاحة لهم عن الإمساك به دون أن يتحرك.. وإما أن يحملوه على أن يخرج من بينهم، ويترك موطنه الذي نشأ فيه..
هذا كان مكرهم، وذلك كان كيدهم.
وقد أبطل الله هذا المكر، وأفسد هذا الكيد.. فجاء أمر النبىّ على خلاف ما أرادوا وقدّروا..
لقد حملوه على أن يهاجر من بينهم، ففاتهم بذلك حظّهم من نور الله، الذي جعله الله إلى قوم هم أولى به وأحق منهم.. ثم إن من دخل منهم فى الإسلام من بعد هذا، لم يكن فى المنزلة التي أخذها الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا، أو أولئك الأنصار، الذين آووا ونصروا..
وفى قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما أخذهم بمثل فعلهم، وقتلهم بالسلاح الذي حاربوا الله ورسوله به..
والمكر: التدبير للأمر، وأخذ الوسائل المحققة له.. وقد يكون المكر شرّا، حيث يراد للشر والضلال، وقد يكون حسنا، إذا أريد به إحقاق حق، أو إبطال باطل.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ».
597
فالمكر الذي مكره المشركون بالنبيّ، هو من المكر السيّء، ولا حاجة إلى وصفه بالسوء، لأنه مما أبطله الله، وقلب على أهله تدبيرهم الذي دبروه..
وكفى بهذا شناعة وسوءا له.
وقوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».
أي إن هؤلاء الكافرين الذين يمكرون بالنبيّ هذا المكر، ويدبّرون له هذا التدبير، لا يستمعون لكلمات الله ولا يعقلونها، ولو أنهم سمعوها وعقلوها لما كان منهم هذا الضلال الذي هم فيه، ولرأوا أن النبىّ لا يحمل إليهم إلا الهدى، ولا يدعوهم إلا للخير..
فهؤلاء الكافرون، إذا تتلى عليهم آيات الله لم يعطوها آذانا صاغية، بل تقع الكلمات على آذانهم كأنها أصوات لا مفهوم لها، ولهذا إذا قيل لهم استمعوا إلى كلمات الله، قالوا: قد سمعنا ما يكفى، ولسنا فى حاجة إلى أن نسمع جديدا، فما هذا الذي نسمعه إلا كلام من كلامنا، ولو أردنا أن نقول مثله لقلنا، وما يقصّه علينا من قصص: إن هو إلا أساطير الأولين، وخرافات السابقين، وإن عندنا من هذا شيئا كثيرا.. فليس يعجزنا- والأمر كذلك- أن نقول مثل هذا الذي يسمعنا إيّاه محمد من هذا الكلام الذي يقول إنه من عند الله، أو إنه من كلام الله!.
والأساطير: جمع أسطور، وأسطورة، وهو ما كان من واردات شتّى، للخيالات والخرافات، وأصلها مما سطّره الأولون، وخلّفوه وراءهم مكتوبا فى ألواح مسطورة.. ولأن الأولين كانت لهم نظرة إلى الحياة وإلى الوجود
598
غير نظرة من جاءوا بعدهم، والذين رأوا فيما كان للأولين من علوم ومعارف، أنها أوهام وخيالات، لا تثبت لتجربة، ولا تستقيم على منطق.
وقد وقع فى تقديرهم الخاطئ أن الله سبحانه إذا خاطبهم بكلماته، جاءت هذه الكلمات على غير الكلام الذي ألفوه، حتى يكون كلام الله شيئا يخالف منطق البشر! ولو فكروا قليلا فى هذا المنطق السقيم، لعرفوا أن أبلغ الخطاب ما جاء مطابقا لمقتضى الحال، وأن من أولى مقتضيات الحال فى مخاطبة الإنسان، أن يجىء الكلام على مستوى فهمه ومدركاته، وعلى حدود تصوراته وتخيلاته، وقبل هذا كله أن يكون باللسان الذي يحسن الفهم والإفهام به.
ولو أنهم فكروا قليلا فى هذا الكلام الذي خاطبهم الله به، لوجدوا أنه وإن صيغ من لغتهم، ونظم من كلماهم، فإنه ينفرد وحده من بين كل ما نطقوا به من كلام، وما تحدثوا به من لغة، وأنه- وهو كلام، وكلام معروف لهم وجهه، وجار على ألسنتهم التعامل به- هو معجز مفحم، يتحدّى على الزمن كلّه، أرباب البلاغة، وسادة البيان أن يأتوا بسورة من مثله..
وقد نازلهم القرآن فى هذا الميدان، ودعاهم مرة بعد مرة، أن يلقوه على هذا الطريق، وأن يجيئوا بسورة أو بعض سورة من تلك الأساطير التي يقولون إنها مادة هذا الكلام، ونظام عقده، وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله:
«أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» (٣٣- ٣٤: الطور).
وقد خرسوا، وخرس معهم كل بليغ منطبق إلى يوم القيامة!.
599
الآيات: (٣٢- ٣٥) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
التفسير: «الواو» فى قوله تعالى: «وإذ قالوا» للاستئناف.
ومناسبة الآية لما قبلها أنها تعرض حالا من أحوال المشركين، وتكشف عن وجه كريه من وجوه ضلالهم وسفههم.. فإنهم بعد أن رموا النبىّ بالكذب على الله، وأن ما جاءهم به ليس إلّا من أساطير الأولين، استملاها من علماء أهل الكتاب، وأنهم لو شاءوا أن يجيئوا بمثل ما جاءهم به لما كان عليهم إلا أن يرجعوا إلى علماء أهل الكتاب، ويردوا المورد الذي ورده، فيجيئون بمثل هذا الذي معه- إنهم بعد هذا، لم يقفوا عند هذا الحدّ، بل أمعنوا فى الاتهام والتكذيب، بأن طلبوا إلى الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم، إن كان هذا الذي جاء به محمد حقا من عند الله!؟
وليس أبعد فى الضلال، ولا أسفّ فى السفه، من أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب المشحون بالبلاء، المحمول على صدر بحر متلاطم الأمواج، عاصف
600
الريح، وقد كان بين أيديهم أن يستقلّوا السفين القاصد إلى شاطىء الأمن والعافية، السابح فوق صفحة ماء رقراق، المسيّر بيد ريح رخاء!.
فماذا يدعوهم إلى هذا اللّجاج فى العناد، وإلى هذا التحدي لمنازلة البلاء؟
إنه لا شىء إلا الجهل الذي يعمى البصائر، وإلا الضلال الذي يطمس على القلوب! وماذا عليهم لو جعلوا دعاءهم إلى الله أن يهديهم سواء السبيل، وأن يقيمهم على طريق الحق، إن كان هذا الذي جاءهم به «محمد» هو الحق؟
إنهم لن يخسروا شيئا، لو كان الذي جاءهم به «محمد» هو قول تقوّله، أو أساطير اكتتبها.. فلو استجاب الله لهم لعافاهم من البلاء، ولصرف عنهم السوء..
وإنهم ليربحون الربح أعظم الربح، لو كان الذي جاءهم به «محمد» على غير ما ظنوا وتوهموا.. فكان الحقّ من عند الله، والهدى المحمول فى كلماته، والرحمة المرسلة مع آياته..!!
ولكن القوم عتوا عتوّا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا، فسألوا الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يسوق عليهم البلاء المبين والعذاب الأليم! «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».
هكذا يقولونها بملء أفواههم.. وهكذا يفعل الجهل بأهله، ويلجّ الضلال بأرباب الضلال!.
601
ولو أنهم كانوا على شىء من الحكمة والروية، لأخذوا موقفا غير هذا الموقف المشرف بهم على مهاوى الهلاك، ولأخذوا بهذا الأسلوب الحكيم الذي رسمه ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون، فى نصحه للضالين المعاندين من قومه، إذ يقول لهم هذا القول الذي حكاه القرآن عنه:
«وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ».
(٢٨: غافر) وقد استحق القوم أن يدانوا بما دانوا به أنفسهم، وأن يأخذوا بما شاء الله أن يأخذهم به، وهو أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم، إذا كان هذا الذي جاءهم به «محمد» هو الحق من عند الله.. فكيف يكون حكم الله فيهم بعد هذا؟
لقد كان الله سبحانه وتعالى حفيّا بنبيه، الذي أرسله هدى ورحمة للعالمين، فلم يشأ- سبحانه- أن يأخذهم بالعذاب، وأن يعجل لهم العقوبة، والنبي الكريم بين أظهرهم، حتى لا يسوءه الله فيهم، ولا يحزنه بمصرعهم على يديه..
وفى هذا يقول سبحانه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهكذا يفلت القوم من هذا البلاء الذي عرّضوا أنفسهم عليه، وألقوا بأيديهم بين يديه، فلم يعجل الله لهم العذاب، إكراما لرسوله الكريم، وحماية لحمى موطن تعطّره أنفاسه، ولأرض وطئتها قدماه! وأكثر من هذا، فإن هذا الفضل العظيم من الله سبحانه لا يرفع عن هذه
602
الأمة، بعد أن رفع نبيها إلى الرفيق الأعلى، بل إنه قائم فيها إلى يوم القيامة، ما دامت كلمة الاستغفار تجرى على شفاههم، كلما بعد بهم الطريق عن الله، وتغشاهم الجهل والضلال.. فإن طريقهم إلى الله مفتوح أبدا، ووجهتهم إليه مستقيمة دائما، إذا هم ذكروه، واستغفروا لذنوبهم، وعرضوا أنفسهم عليه، تائبين نادمين.
اقرأ قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» - فإنك ستجد فيها أنسام الرحمة والرضوان تهب على هذه الأمة، فتدفع عنها كل بلاء، وتصرف عنها كل جائحة.
وهذا هو السر فى تخالف النظم بين قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» وبين قوله سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».
فإن الفعل «يعذب» مقيد بزمن معين، وهو حال حياة النبىّ فيهم.
أما اسم الفاعل «معذّب» فهو غير محدود بزمن، والقيد الوارد عليه هو قيد الاستغفار، وهو عتيد حاضر مع هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقوله تعالى: «وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
الاستفهام هنا تهديدى، فيه نذير لهؤلاء المشركين الضالين، الذين يمسكون بما هم فيه من شرك وضلال، لا يستجيبون لله، ولا يدعون المؤمنين
603
يلمّون بالمسجد الحرام، ويوجهون وجوههم إلى ربهم، بل يصدونهم عنه، ويحولون بينهم وبينه.
ثم إنهم من جهة أخرى، ليسوا أولياء الله، حتى يتجاوز لهم عن آثامهم تلك، شأن الولىّ مع من يتولاه، ويغفر له زلاته، ويلقاه بفضله وإحسانه..
فالله سبحانه وتعالى، لا يتولى إلا المتقين، الذين جعلوا لله ولاءهم، فآمنوا به وتعبدوا له، واستقاموا على شريعته: «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ».. و «إن» هنا نافية، بمعنى «ما» أي ما أولياؤه إلا المتقون، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ».
هذا، ويرى أكثر المفسرين أن الضمير فى قوله تعالى: «أولياءه» يعود إلى المسجد الحرام، أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام، وأهل القوامة عليه.. ذلك أنه بيت الله، بل أول بيت وضع للناس، ومن هنا فإنه لا يستحق أن يكون قائما على خدمته، وحراسته، إلا أهل الإيمان والتقوى.. فكيف يدّعى هؤلاء المشركون القوامة على أمر هذا المسجد الحرام، وهم حرب عليه، وعلى الطائفين به، والمصلّين فيه من عباد الله المؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» (١٧- ١٨: التوبة).
فهل يعمر مسجد الله هؤلاء المشركون الذين يأتون المنكرات، ويصدون الناس عن سبيل الله، ويجعلون صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، كما يقول الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآية؟ وهذا الرأى الذي يقول به أكثر المفسّرين يتسع له النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة، كما يتسع للمعنى الذي
604
ذهبنا إليه.. فالمشركون ليسوا أولياء الله، ولا أولياء بيت الله.
قوله تعالى: «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ».
المكاء: الصفير، ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدّلا تمسكوا فريصته كشدق الأعلم
أي تضطرب فريصته بالدم المتفجر، ويحدث من اضطرابها صوت كهذا الصوت الذي ينبعث من شدق البعير حين يرغو، وذلك من أثر الضربة النافذة، التي تشبه شدق البعير فى سعتها وعمقها.
والتصدية: التصفيق، الذي ينبعث له صدى.
والمعنى أن صلاة هؤلاء المشركين التي يؤدونها لأصنامهم عند البيت الحرام- هذه الصلاة ليست إلا ضربا من اللهو والعبث، حيث لا يجدون ما يقولونه لهذه الأحجار المرصوصة، وتلك الخشب المسندة! وإذ يعوزهم القول فى هذا المقام، وتنهزم فى كيانهم مشاعر الجدّ والوقار لهذه المعبودات التي يتعبدون لها- فإنه لكى يكون لصلاتهم تلك، صوت يسمع، وأثر يحسّ، وواقع يرى- فقد استجلبوا لها هذه الأصوات المنكرة، وتلك الجلبة العمياء، حتى حتى يداروا بها عوار هذه المظاهر الكاذبة، التي تفضح المستور مما يدور فى خواطرهم من هزء وسخرية، بتلك الآلهة التي يؤدون لها هذا الولاء الزائف، والذي لو انكشف مستوره لكان صفعا وركلا، ولكنه جاء صفيرا وتصفيقا، أقرب شىء إلى الصفع والركل.. (الصفع بالأيدى، والركل بالأرجل).
وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» إشارة إلى أن
605
هذا الذي يأتونه، هو كفر بالله، وصدود عن سبيله، بتولية وجوههم إلى هذه السخافات، وقطع عمرهم فى هذا العبث، الذي يحسبونه عبادة، ويعدونه صلاة، يجزون عليها جزاء العابدين المصلين..!!
والعذاب الذي قدم إليهم هنا ليذوقوه، وليطعموا منه، هو ما نزل بهم من هزيمة منكرة يوم بدر، وما أريق فيه من دماء ساداتهم وكبرائهم..
وتلك جرعات عاجلة، فى هذه الدنيا، ولعذاب الآخرة أقسى قسوة، وأمرّ مرارة..
الآيات: (٣٦- ٤٠) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
التفسير: ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم ينفقون أموالهم فيما يكيدون به لأنفسهم، ويصرفونها به عن الخير، ويوردونها به موارد الهلكة والبوار.
ومن عادة العقلاء ألا ينفقوا أموالهم ألا فيما يعود عليهم منه خير، يجدونه
606
فى أنفسهم، أو فى أهليهم، أو فى المجتمع الإنسانىّ، خاصة أو عامة.
أما أن يشترى الإنسان بماله ما يفسد حياته، ويغتال إنسانيته، ويدمّر وجوده، فذلك هو الذي لا يرى إلا فى عالم المجانين والحمقى.
وهؤلاء المشركون قد بذلوا أموالهم فى سخاء، وقدموها فى رضى وغبطة، ليطفئوا بها نور الله الذي أرسله إليهم، وليخفتوا بها صوت الحق الذي بعثه الله ليؤذّن فيهم بآياته، فاشتروا بهذا المال الرجال والعتاد، وجعلوا من هذا جيشا جرارا ساروا به إلى النبىّ الكريم يوم بدر، يريدون القضاء عليه، وعلى الجماعة التي استجابت له، وآمنت بالله وبرسوله..
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».. هكذا فعل المشركون، وهكذا وجهوا المال الذي جعله الله فى أيديهم..
«فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً».. وفى التعبير بفعل المستقبل عما فعلوه فى الماضي، تهديد ووعيد لهم، بأن الأموال التي سينفقونها فيما بعد على هذا الوجه الذي أنفقوه فيها فى موقعة بدر- ستكون عليهم حسرة، وستجرّ عليهم الخزي والبلاء كما جرته عليهم أموالهم التي أنفقوها فى تلك الموقعة..
حيث تذهب هذه الأموال من أيديهم، ثم تعود إليهم على هيئة رزايا ونكبات..
«ثُمَّ يُغْلَبُونَ» هو نذير لهم بما يلقاهم من مصير مشئوم، من هذا المال الذي أنفقوه، وانتظروا الثمر الجنىّ الطيب منه، بالنصر على المسلمين، واستئصالهم، وهذا ما لا يكون أبدا، ولن يكون إلا الهزيمة، وسوء المنقلب للمشركين.
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ».. وليست الهزيمة وحدها هى التي تنتظر هؤلاء المشركين، بل سيكون العذاب الأليم فى الآخرة هو مصير
607
أولئك الذين يمضون فى طريقهم هذا إلى النهاية، فلا يرجعون إلى الله، ولا ويؤمنون به وبرسوله..
وفى العطف «بثم» التي تفيد التراخي فى قوله تعالى: «فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» وفى قوله سبحانه: «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» إشارة إلى أن الحسرة والهزيمة قد لا يكونان بعد كل مال ينفقونه، فقد يقع للمشركين فى بعض مواقفهم من المسلمين ما يحسبونه نصرا، ويرونه وجها نافعا مثمرا لهذا المال الذي أنفقوه، كما كان فى موقعة «أحد».. ولكن العبرة فى هذا بالموقعة الفاصلة، التي تنكس فيها راية الشرك إلى الأبد، ويخفت صوت المشركين إلى يوم الدين.. وذلك ما انتهى إليه الأمر بين المسلمين والمشركين، فقد دخل رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- يقود جيش الإسلام- دخل على الشرك فى حصنه فاتحا مظفرا، فأجلى عن البيت الحرام ما احتشد فيه من أصنام وأنداد، وألقى بها فى مسالك مكة ودروبها، تدوسها الأقدام، وتحيلها أشلاء ممزقة، يمر بها الناس كما يمرون بالجثث المتعفنة، يتساقط عليها الذباب، وترعى فيها الهوام والحشرات..
قوله تعالى: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».
أي أن هذا الصراع الذي يقع بين الحق والباطل، ويدور بين المحقين والمبطلين، هو ابتلاء واختبار، تتبين به مواقف الناس، وتعرف به وجوههم، حيث يجتمع المؤمنون إلى المؤمنين، وينحاز المشركون إلى المشركين والضالين، ويوفى كلّ حسابه وجزاءه..
وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ
608
فِي جَهَنَّمَ»
إشارة إلى أن مجتمع الكفر والضلال، مجتمع فاسد ليس لإنسان فيه ذاتية، يتميز فيها إنسان عن إنسان، بعقله، ومدركاته، ومشاعره، كما يتميز عقلاء الناس، كلّ بإدراكه وإحساسه وشعوره.. فهم أشبه بقطيع من الحيوان، ليس لأحدها فى حقيقته ما يميزه عن غيره، إلا باللون أو الحجم، أما ما وراء ذلك فهى جميعها سواء فيه.. ومن هنا كان التعبير القرآنى:
«وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ» أي يخلط بعضه ببعض خلطا لا حساب فيه لشىء، ولا تقديم لشىء على شىء، وإنما حكمها جميعا حكم حزمة الحطب يحتويها حبل واحد.. ثم كان التعبير القرآن «فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ» أي أن غاية هذا الجمع لتلك الجماعات الضالة هو إعدادها للوقود، وإلقاؤها فى جهنم.
هكذا يفعل بالحطب حين يجمع، وحين يقدّم للوقود! وهكذا الخبيث من الأشياء، والنفاية من كل شىء، يلقى به.. بلا حساب ولا تقدير!.
وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» هو تهديد، ووعيد لهؤلاء المشركين الذين أخزاهم الله يوم بدر.. فإن يكن فيما حدث لهم يوم بدر موعظة وعبرة، فيؤمنوا بالله، ويصدّقوا برسوله، ويصحبوا مؤمنين مع المؤمنين- إن يفعلوا ذلك قبلهم الله، وغفر لهم ما كان منهم من منكرات وآثام، وإن يعودوا إلى ما هم فيه من كفر وعناد، ومحادّة لله ورسوله، فقد عرفوا ما سيحل بهم من عذاب الله لهم.. فتلك هى سنة الله فى خلقه، وذلك هو حكمه على الظالمين الآثمين: الخزي والخذلان فى الدنيا، والعذاب والنكال فى الآخرة.. ولقد فتح الله باب التوبة والقبول لمن كان له مع نفسه مراجعة، وله إلى الله عودة.. فماذا ينتظر هؤلاء المشركون الذين ركبوا رؤوسهم، وأوشكوا أن يصبحوا فى الهالكين؟.
609
وقوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
هو أمر للمسلمين، وبيان لموقفهم الذي يقفونه من المشركين، وهو الجدّ فى قتالهم، وأخذهم بالبأساء والضراء حتى تنكسر شوكتهم، وتضعف قوتهم، فلا تكون لهم يد على المؤمنين، ولا قوة على الوقوف فى سبيل الله، وصدّ الناس عنه، وفتنتهم فى دينهم، وحتى يكون الدين كله لله، لا شريك له مما يشرك به المشركون..
وهذا الأمر الموجه للمسلمين هو احتراس من أن يهادنوا المشركين، ويدعوا أمرهم إلى الله، ليقضى فيهم قضاءه الذي قضاه فى الظالمين من قبلهم.
فهذا القضاء وإن كان واقعا لا محالة من قبل الله بأهل المنكر والضلال، إلا أنه مطلوب من أولياء الله أن يعملوا له، وأن يأخذوا بالأسباب المنفّذة لقضاء الله النافذ، ولحكمه الذي لا يردّ.. فذلك هو البلاء الذي ابتلى به المؤمنون، ليكون لإيمانهم أثره وثمرته التي يحصّلونها منه، وينالون الجزاء الحسن عليه..
وقوله تعالى: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» تأكيد لهذا الأمر الذي أمر الله به المسلمين، من الجدّ فى جهاد المشركين، وأن الله مطلع على ما يكون منهم من بلاء فى الاستجابة لهذا الأمر، وصدق فى الوفاء به، حتى يكون من المشركين انتهاء عن محاربة الله، بعد أن يضربهم المسلمون الضربة القاضية..
وقوله سبحانه: «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»..
610
هو تطمين للمؤمنين، وتقوية لعزائمهم على مواجهة الكافرين، ولقائهم تحت راية القتال، إذا هم أصروا على ما هم فيه من كفر، ومن محادّة لله ولرسوله وللمؤمنين.. فليثبت المؤمنون فى موقفهم هذا من الكافرين، وليقاتلوهم قتالا لا هوادة فيه، حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كله لله، والله سبحانه وتعالى يتولى المؤمنين، ويمدّهم بنصره وتأييده، ومن كان الله مولاه وناصره فلن يهن أبدا، ولن يخذل أبدا.
وقوله تعالى: «نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» إما أن يكون صفة لله سبحانه، وصف بها ذاته، وإما أن يكون مقولة للمؤمنين، يلقون بها هذا الفضل العظيم الذي فضل الله عليهم به، فيما آذنهم به فى قوله: «فاعلموا أن مولاكم» ويكون هذا تلقينا من الله لهم، ولسان شكر يؤدون به لله بعض ما وجب عليهم لله، إزاء هذا العطاء الكريم الجزيل..
وإما أن يكون ذلك مقولة للوجود كله، نطق بها كل موجود، إذ سمع قول الله تعالى للمؤمنين: «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» فسبح الوجود كله بحمد الله، ليكون له نصيبه من تلك الولاية، التي تولى بها الله المؤمنين من عباده..
«أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».. فانضم الوجود كله إلى المؤمنين وشاركهم الاستماع إلى هذا الخطاب الكريم من رب كريم:
«فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» فقال الوجود كله: «نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»..
611
الآيات: (٤١- ٤٤) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
التفسير: فى أول هذه السورة جاء قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ».. جاء هذا القول حكما فى شأن الأنفال التي وقعت لأيدى المسلمين فى غزوة بدر. ، وقد بينا فى شرح هذه الآية أن المسلمين قد اختلفوا فى شأن هذه الأنفال، فكان أن انتزعها الله من أيديهم ووضعها فى يد الرسول، ليضعها حيث يرى.
وقد سمّى القرآن الكريم هذه «الغنائم» أنفالا، لأنها جاءت للمسلمين على غير تقدير منهم، حيث كانوا قلة فى وجه العدوّ، الذي جاء بجيش جرار، يريد استئصالهم بضربة قاضية.
612
ولكن الله- سبحانه- صنع للمسلمين فى هذه المعركة، وأراهم نصره وتأييده لأوليائه.. فكانت يد الله هى التي ردّت عنهم هذا العدوّ، وهى التي أظفرتهم بقريش، وما خلّفت وراءها فى المعركة من عتاد ومتاع، وكان المنتظر أن يكون المسلمون غنيمة ليد المشركين يومئذ، لا أن يكون المشركون غنيمة لهم.
إذن فهذه المغانم التي وقعت لأيدى المسلمين هى «أنفال».. والأنفال:
جمع نفل، وهو ما جاء زائدا عن المطلوب.. ومنه النوافل فى الطاعات والعبادات، وهو ما جاء زائدا عن المطلوب.. ومن هذا قوله تعالى للنبىّ الكريم: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (٧٩: الإسراء) فتهجد النبي بالقرآن الكريم فى الليل هو تكليف خاص بالنبي، ليرفعه الله بهذه العبادة الواجبة عليه مقاما فوق مقامه.. أما المسلمون فلهم فى النبي الكريم الأسوة والقدوة.. وعلى هذا فالتهجد بالقرآن أمر مطلوب من المسلمين على سبيل الاستحباب لا الوجوب، وليس الشأن هكذا بالنسبة للنبى الذي اختصه الله بهذا التكليف، فجعل التهجد بالقرآن فرضا عليه.
ومن ذلك قوله تعالى عن إبراهيم- عليه السلام-: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» (٧٢: الأنبياء).
فإسحق هو ابن إبراهيم، وقد جاءه على كبر، بعد أن بلغ هو وامرأته سنّ اليأس.. فهو أشبه بالنافلة، لأنه جاء على غير انتظار.. وكذلك «يعقوب» وهو ابن إسحق، وقد بشّر به إبراهيم كما بشر بإسحاق..
فهو نافلة النافلة، إذ لم يكن إبراهيم يرجو أكثر من أن يكون له ولد..
أما ولد الولد فهو أبعد ما يكون عن توقعه والتطلع إليه، بعد أن بلغ من الكبر عتيّا.
613
نقول هذا لنتبيّن الفرق بين «الأنفال» و «المغانم».. إذ كانت «الأنفال» قد وقعت لأيدى المسلمين يوم بدر على غير ما يتوقعون..
أما المغانم التي سيغنمها المسلمون فيما بعد، فهى عن بلاء وعمل ظاهرين منهم، حيث يستقلّ المسلمون بأمرهم- بعد بدر- فى لقاء العدوّ، دون أن يلتفتوا إلى أمداد من الملائكة تقاتل معهم، كما رأوا ذلك فى «بدر»، وإن كان تأييد الله وعونه لهم غير منقطع عنهم أبدا.. فهذه المغانم التي غنمها المسلمون يوم بدر أقرب إلى الأنفال منها إلى المغانم، ولهذا سمّاها الله سبحانه وتعالى «أنفالا» ليذكر المسلمون بهذه التسمية ما كان لله من فضل عليهم فيها.
وإذن فقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ».. ليس ناسخا لما جاء فى أول السورة فى قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ».. كما يقول بذلك أكثر المفسّرين.. فهذه الآية تقرر حكما فى شأن الغنائم، أما آية أول الأنفال، فهى خاصة بحكم الأنفال.. وفرق بين الغنائم والأنفال.. وإذن فلا تناسخ بين الآيتين.
والأنفال- كما قلنا- هى التي تقع ليد المسلمين من غير قتال، أو بقتال لم يكونوا فيه إلا مظهرا تختفى وراءه يد الله التي تكتب لهم النصر، وتمنحهم الغلب.
ولهذا، فقد ظلّ حكم الأنفال قائما، إلى جوار الحكم الخاص بالغنائم.. فكان ما يقع للمسلمين من غير بلاء هو «أنفال» يكون أمرها لله ولرسول الله.. وما يقع لهم من غنائم فهو على الحكم الذي بينته الآية الكريمة: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ.. الآية» والتي سنعرض لشرحها بعد قليل.
ففى غزوة خيبر سلّم اليهود للنبىّ والمسلمين من غير قتال، وذلك بعد
614
أن سار إليهم النبىّ والمسلمون بعد صلح الحديبية، فلما استشعروا الهزيمة والهلاك أعطوا يدهم واستسلموا صاغرين.. وفى هذا نزل قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً».. وقد اعتبرت مغانم خيبر أنفالا، كلها ليد الرسول، ينفقها فيما أمره الله به أن ينفقها فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ «١» عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».. ثم يقول سبحانه بعد هذا: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (٦- ٧: الحشر).
فقد جعل الله سبحانه الفيء هنا كلّه لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين، ولم يجعل فيه نصيبا مفروضا للمجاهدين، حيث لم تقع حرب، ولم يكن قتال.. نعود بعد هذا إلى شرح الآيات:
فقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» هو بيان لحكم الله فى الغنائم التي يغنمها المجاهدون بسيوفهم فى القتال.. فهى ثمرة عاجلة من ثمرات جهادهم.. ولو كان القتال لحسابهم لكانت هذه المغانم كلها لأيديهم، وأمّا وهم إنما يقاتلون لحساب الإسلام، ولإعلاء كلمة الله، فقد وجب أن يكون لله حقّ فى هذه المغانم، بل وجب أن تكون هذه المغانم كلّها
(١) قوله تعالى: «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» أي فما هجمتم عليه بخيل ولا ركاب، أي إبل.. وأصل الوجيف الاضطراب، ومنه قوله تعالى:
«قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ». وهذا هو شأن الخيل والإبل وخفقها فى السير.
615
حقّا لله.. ولكن الله- سبحانه وتعالى- عاد بفضله على المجاهدين، فعجّل لهم هذه الثمرة من جهادهم، وجعلها حظّا مشاعا بينهم، بعد أن يخرج منها الخمس الذي هو لله ولرسوله ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
فالمغانم التي يغنمها المجاهدون فى القتال تقسمّ هكذا:
الخمس: لله ولرسول.. ولذى القربى.. واليتامى.. والمساكين.. وابن السبيل..
فهذا الخمس من الغنائم موزع على خمسة أقسام:
قسم لله.. وما كان لله فهو لرسول الله.. وقسم لذوى القربى من رسول الله.. من بنى عبد المطلب وبنى هاشم.. وثلاثة أقسام للفقراء والمساكين وابن السبيل..
أما أربعة الأخماس الباقية من المغانم بعد مخرج هذا الخمس منها، فهى للمجاهدين الذين قاتلوا على تلك الغنائم.. تقسم بالسويّة بينهم.. لكل مقاتل سهم..
وفى التسوية بين المجاهدين، مع اختلافهم فى القوة والضعف، حيث يكون فيهم من يرجح بعشرات الأبطال، على حين يكون فيهم من هو دون ذلك بكثير- فى هذه التسوية احتفاء بالجهاد من حيث هو جهاد، وتكريم للمجاهدين من حيث هم على نية الجهاد، وفى ميدان القتال، ومعرض الاستشهاد.. فهذا هو الذي يحكم النّاس فى هذا المجال.. أما فضل بعض المجاهدين على بعض فى البأس والقوة، والنكاية بالعدوّ، فذلك- وإن كان له حسابه وجزاؤه- إلا أنه لا يصحّ أن يكون بالمكان الذي يجعل من المجاهدين درجات، ومنازل.. فهم جميعا على درجة واحدة، مع تلك النيّات التي انعقدت منهم على الجهاد، ومع هذا الموقف الذي واجهوا فيه الاستشهاد فى سبيل الله..
616
وقد وقع فى نفس بعض المسلمين شىء من هذا، بل ربّما كان ذلك من أقويائهم وضعفائهم على السواء.. حين نظر بعض الأقوياء فرأوا أن فى التسوية بينهم وبين الضعفاء فى الغنائم غبنا لهم من الجانب المادىّ، الذي ربّما ينسحب على الأجر الأخروى.. على حين نظر الضعفاء إلى حظّهم المادىّ الذي تساووا فيه مع الأقوياء، فوقع فى أنفسهم أن ذلك ربّما لا ينسحب على حظهم الأخروى، فلا يكون لهم من الجزاء الأخروى ما لإخوانهم الأقوياء..!
روى أحمد فى مسنده عن سعد بن أبى وقاص، قال: قلت: يا رسول الله..
الرجل يكون حامية القوم.. سهمه وسهم غيره سواء.. ؟ فقال: «ثكلتك أمّك ابن أمّ سعد! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟».
ثم كان من عمل الرسول بعد أن اتصل التحام المسلمين بالمشركين أن جعل للفارس سهمين: له سهم، ولفرسه سهم.. أما الراجل فله سهم واحد..
وذلك ليستحثّ المسلمين على اقتناء الخيل، وإعدادها للقتال، لتكون سلاحا عاملا منهم فى الجهاد، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» - جاء قوله تعالى هنا منبها إلى قيمة الخيل، وملفتا النظر إلى آثارها فى ميدان الحرب، وأنها- وعليها فرسانها- مصدر رهبة، ومثار فزع ورعب للعدوّ، الأمر الذي إن تحقق للمسلمين فى عدوّهم كان أول ضربة، يصيبون بها العدوّ فى مقاتله..
هذا، وقد اختلف فى الخمس الذي كان للرسول، مع الخمس الذي كان لقرابته، مما جعله الله لهما فى خمس الغنائم الذي توزع إلى خمسة أخماس.. وذلك بعد وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
أما خمس الرسول، فهو خمس الله الذي أضافه الله سبحانه إلى رسوله..
وعلى هذا يضاف هذا الخمس إلى ثلاثة الأخماس التي لليتامى والمساكين وابن السبيل..
617
وأما خمس ذوى القربى فقد أباه أبو بكر رضى الله عنه عليهم بعد وفاة النبىّ، واعتبره ميراثا.. فقد كان النبىّ ينفق منه على ذوى قرابته، فلما توفّى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن لذوى قرابته حق فيه، عملا بقول الرسول الكريم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة».
وقد أخذ عمر بهذا بعد أبى بكر، كما أخذ به عثمان، ثم علىّ.. رضى الله عنهم، وأبى علىّ كرم الله وجهه أن يخرج على ما سار عليه الخلفاء الراشدون قبله.. وإن كان من رأيه- كاجتهاد له- أن خمس ذوى القربى حقّ لهم بعد الرسول، كما هو حق لهم فى حياته. وبهذا الرأى أخذ الإمام الشافعي، وبعض الأئمة، كما أنه هو الرأى المعتمد عند الشيعة.
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».. هو توكيد لتلك الدعوة التي دعى إليها المجاهدون من الله سبحانه، بأن يجعلوا مما يغنمون.. خمس هذه الغنائم، لله وللرسول، ولذى القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل..
فهذا الحكم الذي قضى به الله سبحانه، هو دعوة منه سبحانه إلى من آمن به.. فإن من شأن من آمن بالله أن يتقبل أحكامه راضيا مطمئنا، لا يطوف بنفسه طائف من الضيق أو الحرج..
والإسلام حريص أشدّ الحرص على سلامة نفوس المجاهدين، وتصفيتها من أية شائبة تعلّق بها فى هذا الموطن، الذي ينبغى أن يكون المسلم فيه، على ولاء مطلق للقضية التي يقاتل فى سبيلها، ويستشهد راضيا قرير العين من أجلها، الأمر الذي لا يتحقق إذا تسرب إلى النفوس شىء من دخان الضيق أو الشك.
ولهذا، فإن من تدبير الحكيم العليم فى هذا، أنه بعد أن شدّ المؤمنين إلى الإيمان الذي وصلهم بالله، وأقامهم على الجهاد فى سبيله- ذكّرهم بما يمدّهم به من
618
أمداد عونه ونصره، وهم فى مواجهة العدوّ، وفى ملتحم القتال معه، وأنّهم إنما ينتصرون على أعدائهم بتلك الأمداد التي يمدّهم الله بها.. فإن نسوا هذا فليذكروا ما أنزل الله على عبده «يَوْمَ الْفُرْقانِ» أي يوم بدر، حيث كان يوما فارقا بين الحق والباطل.. بين الإيمان والكفر.. «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين، وجمع الكافرين.. فقد شهد المسلمون فى هذا اليوم كيف كانت أمداد السّماء تتنزل عليهم، وكيف كانت آثار هذه الأمداد فى عدوّهم، وفى دحره وهزيمته.. «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» لا يعجزه شىء، فإن بيده- سبحانه وتعالى- مقاليد كل شىء: يعزّ من يشاء ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويهزم من يشاء: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».. فالذى أنزله الله على عبده يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، هو هذا المدد السماوي من الملائكة.. وإيمان المسلمين بهذا المدد: هو التصديق بنزول الملائكة ومظاهرتهم لهم فى هذا اليوم. ، فهذا خبر جاء به القرآن يجب على كل مؤمن أن يؤمن به! وقوله تعالى: «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ».
«إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ».. أي أن هذه الأمداد التي أمدّ الى بها «عبده» محمدا صلوات الله وسلامه عليه، كانت فى ذلك الوقت الذي واجهتكم فيه قريش بقوتها العارمة، تريد أن تضربكم الضربة القاضية.. وقد كنتم «بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» أي على الجانب الأدنى من الوادي، وهو الجانب الذي يلى المدينة، على حين كان المشركون «بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى» أي بالجانب الآخر من الوادي، وهو الذي يلى مكة.. «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» أي العير التي كانت مع أبى سفيان، وقد أفلت بها من يد المسلمين
619
- كانت لا تزال وراء الوادي تحمى ظهر العدوّ، وتشدّ عزمه على الدّفاع عنها، والموت دونها..
هكذا كان الموقف يومئذ: المسلمون وظهرهم إلى المدينة، والمشركون وظهرهم إلى العير التي يقاتلون من أجلها، وإلى مكة التي تنتظرهم عائدين إليها بالعير وبالنصر معا..
قوله تعالى: «وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» أي لو كان هذا الموقف عن مواعدة بينكم وبين قريش، لما وقع على تلك الصورة التي جاء عليها كما وقعت، ولما حدثتكم أنفسكم بالخروج للقاء العدوّ وأنتم فى هذا العدد القليل وتلك العدة الهزيلة، ولوقع بينكم الخلاف والتخاذل عن هذا الموقف.. وهكذا دفع الله بكم إلى لقاء العدوّ عن غير اختيار منكم، وذلك «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» أي لينفذ قضاؤه فيما أراد كما راد، وتقع هذه المعركة، ويمدّكم الله فيها بأمداد النصر، وأنتم أبعد ما تكونون عنه.
قوله تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أي فى الصدام بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، تتحدّد مواقف النّاس، وينزل كلّ منزلته التي يستحقها، وهو على بيّنة من أمره، سواء أكان فى موكب الحق، أو فى مربط الباطل والضلال.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ» يسمع ما تتحرك به الألسنة، ويعلم ما تنطوى عليه الصدور.
قوله سبحانه: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».
ومن تدبير الله فى إنجاز هذا اللقاء الذي بينكم وبين المشركين أنه سبحانه أرى النبىّ فى منامه جيش قريش فى أعداد قليلة، وبهذه الرؤيا أخبركم النبىّ،
620
وأطمعكم فى العدوّ، فسرتم إلى لقائه، ولولا هذا لانحلّت عزائمكم، وفترت همتكم و «لفشلتم» أي خفتم وجبنتم، «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فقال بعضكم بقتالهم، وقال آخرون بألّا قبل لكم بقتالهم.. «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» إذ أطمعكم فى القوم بعد هذه الرؤيا التي أخبركم النبىّ بها، فلم يقع منكم ضعف عن لقاء العدوّ، ولا تنازع فى الالتحام معه فى ميدان القتال.. «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي يعلم ما انطوت عليه الصدور، وما تلبّست به المشاعر.
والسؤال هنا:
هل كانت رؤيا النبي لجيش المشركين فى المنام على هذا الوجه الذي رآه عليها، من القلّة فى الرجال والعتاد- هل كانت هذه الرؤيا تمثل الواقع؟ وإذا لم تكن ممثلة له- كما هو الواضح- فكيف يرى الرسول الأمر على خلاف الواقع؟ ثم كيف يكون شأنه مع ذلك الذي رآه على خلاف واقعه إذا هو رآه رأى العين على ما هو عليه؟ ألا يحدث ذلك انفصالا عنده بين هذا الذي رآه فى منامه، وذلك رآه فى يقظته؟.
والجواب على هذا: أن الرؤيا التي ترى فى المنام ليست هى الواقع فى ظاهره، وإنما هى- إذا كانت صادقة، كما هو الشأن فى رؤياء الأنبياء- هى الواقع فى مضمونه ومحتواه.. وإن كان بين الظاهر والمضمون ما بينهما من بعد بعيد فيما تراه العين منهما..
فالرؤيا الصادقة تمسك من الواقع بأعماقه وصميمه، دون أن تمسك بشىء من ظاهر هذا الواقع!.
فقد رأى إبراهيم عليه السلام فى المنام أنه يذبح ابنه «إسماعيل»، ومع هذا، فإنه لم يذبحه، بل الذي ذبحه فعلا هو ذبح عظيم، أي كبش، جعله الله فداء لذبح إسماعيل، ومع هذا، فقد صدّق إبراهيم الرؤيا وحقق مضمونها.. وذلك
621
لأنه قدّم ابنه للذبح فعلا، وأضجعه على وجهه، كما تضجع الشاه للذبح! فماذا بقي بعد هذا من دواعى الاستجابة لأمر الله، وإنفاذ ما كلّفه به؟ إنه لا شىء إلا صورة ظاهرية، يرى منها إبراهيم دم ابنه وقد أريق، وروحه وقد أزهق.
وإن كان إبراهيم قد رأى ذلك الدم يراق، وهذا الروح يزهق، رأى ذلك بمشاعره وأحاسيسه، وبما وقع على هذه المشاعر وتلك الأحاسيس من ألم وحزن، تلقاهما إبراهيم بالصبر على المكروه، والرضا المطمئن بقضاء الله وقدره..
فهذه الرؤيا كما رآها إبراهيم مناما، هى الواقع كما وقع مضمونا، وإن لم يكن كما وقع ظاهرا وحسّا.
كذلك رأى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أكثر من رؤيا منامية، يختلف واقعها الظاهر عن مضمونها الذي تقع عليه، وإن التقى الظاهر والمضمون آخر الأمر فى الدلالات والآثار..
فقد رأى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- رؤيا منامية ليلة غزوة أحد، رأى ما روي عنه ﷺ أنه قال: «إنى قد رأيت والله خيرا..»
رأيت بقرا لى تذبح، ورأيت فى ذباب «١» سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة.. فأما البقر فهى ناس من أصحابى تقتلون، وأما الثّلم الذي رأيت فى ذباب سيفى، فهو رجل من أهل بيتي يقتل.. وأما الدرع الحصينة فهى المدينة».
ورأى- صلوات الله وسلامه عليه- ما رواه أبو سعيد الخدري، قال:
سمعت رسول الله ﷺ وهو يخطب الناس على منبره، وهو يقول:
«أيها الناس قد رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت في ذراعى سوارين،
(١) ذباب السيف: حده الذي يضرب به. والثلم: العطب الذي يلحق حد السيف، والخلل يحدث لأى شىء.
622
فكرهتهما، فنفختهما فطارتا، فأوّلتهما هذين الكذابين».. وهما مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.. اللذان ادعيا النبوّة..
وهنا.. هذه الرؤيا التي رآها النبىّ، من قلّة جيش المشركين فى غزوة بدر، هى فى الواقع صورة صادقة لهذا الجيش، ودلالة ناطقة تحدث بجميع الدلالات التي يدل عليها..
فهو جيش كثير كثيف فى ظاهره، ولكنه قليل ضئيل فى مضمونه وصميمه..
هكذا كان تأويل هذه الرؤيا، وقد جاء الواقع ناطقا بأبلغ بيان وأروع وأسلوب بصدق هذا التأويل!.
فلقد انهزم هذا الجيش الكثير الكثيف بيد تلك القلّة القليلة، ومنى منها بالخزي والخسران- بما لم يمن به جيش أقل منه عددا وعدّة! فهو جيش كثير كثيف فى كتلته، ولكنه هزيل ضئيل قليل فى محتواه ومضمونه..
وهكذا تصدق الرؤيا صدقا مطلقا، ويجىء تأويلها صبحا مشرقا، لا خفاء فيه.. وغاية ما فى الأمر أن تأويل الرؤيا يحتاج إلى بصر نافذ، وبصيرة مضيئة مشرقة بنور الله، حتى ترى ما وراء الرؤيا، وتكشف عن مضمونها الذي انطوت عليه، وهذا ما كان عليه النبىّ صلوات الله وسلامه عليه الذي كان يرى واقع رؤياه على الصورة التي سيقع عليها.. وبهذا تكون رؤياه دليلا هاديا له، لا يقع له منها فى تصوره، ما يفسد تدبيره، أو يمزّق وحدة رأيه..
قوله تعالى: «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».
هذه الرؤية الحسّيّة هى أشبه بالرؤيا المنامية، إذ كانت بحيث لا يرى
623
منها الرائي، الواقع كما هو، بل يراه كدلالة من دلالات الواقع، أو إشارة من إشاراته.
وانظر كيف كان تدبير الله، لما أراد من إنفاذ ما أراده، وإيقاع ما قضى بوقوعه..
فلقد أراد- سبحانه- أن يلتحم الفريقان فى القتال، وأن يغرى كلّ من الفريقين بصاحبه، وأن يحمله الطمع فى الظفر به على خوض المعركة معه، وإبلاء بلائه فيها..
فالمسلمون يرون عدوّهم فى قلّة ظاهرة.. قلّة فى العدد، وقلّة فى البلاء والقدرة على احتمال صدمة المسلمين لهم.. وهذا ما يثبّت أقدام المسلمين فى القتال، ويربط على قلوبهم فى المواجهة، ويطمعهم فى عدوّهم ويغريهم به..
ولو أنهم رأوا المشركين على ما هم عليه فى ظاهرهم لزلزلت أقدامهم، واضطربت قلوبهم، ولربّما فرّوا من وجه عدوّهم، واستسلموا له من غير قتال..
«وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ»..
وأما المشركون فقد أراهم الله المسلمين على ما هم عليه من قلّة، وربّما رأوهم فى أعينهم أقلّ من هذه القلّة التي كانوا عليها..
وهذا من شأنه أن يبعث فى نفوس المشركين، أو فى كثير منهم، مشاعر الاستخفاف بالمسلمين، وعدم المبالاة بهم، وأخذ الحذر منهم.. وبهذا يفوتهم كثير من إحكام التدبير، كما تتخلّى عنهم كثير من مشاعر الخوف التي تحمل الإنسان على استجماع قواه، واستخراج كل رصيد فى كيانه لدفع الخطر الذي يتهدده! وهكذا يصنع الله لأوليائه، فيمكّن لهم من أسباب النّصر، ثم يضيف هذا النّصر إليهم، ويدخله فى حسابهم..: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»
624
فالمسلمون يعلمون عن يقين كثرة عدوّهم، وعن هذا اليقين وطّدوا العزم على لقائه، وأعطوا المعركة كل ما يملكون من قوة وتدبير.. ثم يدخل عليهم بعد هذا شعور- مجرد شعور- بأن عدوّهم ليس على ما استقرّ فى يقينهم من أنه بهذه الكثرة التي تؤيسهم من الوقوف له، والظفر به.. فإذا التقى هذا الشعور بذلك اليقين، كان منهما كائن جديد من المشاعر التي تجمع بين الخوف والرجاء، والإشفاق والطمع، وتلك أحسن حال، وأحسن موقف يقفه الإنسان فى الحياة، وفى معالجة ما يلقاه من ميسور أمورها ومعسورها على السواء.. هذا على حين رأى المشركون عدوهم فى قلّة ظاهرة، كما وقع ذلك فى حسابهم لهم من أول الأمر، فداخلهم من ذلك شعور بالاستخفاف بهم والتهوين من شأنهم، والقدرة على تناولهم من قريب.. فكان ذلك أسوأ حال يلقى عليه مقاتل عدوّه!
الآيات: (٤٥- ٤٨) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
625
التفسير: شهد المسلمون فى موقعة بدر أمداد السّماء تتنزل عليهم، وتضع بين أيديهم هذا النصر المبين، الذي كان مفتتح انتصاراتهم التي ستجىء بعد هذا، فيما يدور بينهم وبين المشركين والكافرين من قتال..
ولئلا يغلب على المسلمين هذا الشعور الذي استولى عليهم يوم بدر، من عون الله لهم، وإمدادهم بالملائكة تقاتل معهم- لئلا يغلب هذا الشعور عليهم، ويسلمهم إلى التواكل والثقة بضمان النصر من غير إعداد وجهاد وبلاء، فقد أراهم الله فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» - أراهم الطريق الذي يأخذونه لتحقيق النصر الذي ينشدونه، ورسم لهم الدستور الذي يستقيمون عليه ليكون لهم الغلب الذي يرجونه..
فالثبات للعدوّ، والتصميم على لقائه فى عزم وإصرار، دون أن يقع فى النفس أي هاجس يهجس بها للفرار، أو التراجع، أو أخذ الجانب اللّين من مواقف القتال- هو السلاح العامل بمالا تعمله كثيرة العدد والعدد، لكسب المعركة، وتحقيق النصر..
ولن يكون ذلك الموقف متاحا للإنسان وهو يواجه وجوه الموت، إلا إذا شدّ عزمه بالإيمان بالله، وملأ قلبه يقينا بالجزاء الذي أعدّه الله له، ومن هنا كان ذكر الله، والإكثار من ذكره فى هذا الموطن، هو الزاد الذي يتزوّد به المجاهد، للصبر على الشدائد، والثبات فى وجه الموت الذي يراه رأى العين، فيما يقع بين يديه من جئت وأشلاء..
فذكر الله سبحانه وتعالى، فى هذا الموطن الذي تصرخ فيه فى كيان الإنسان دواعى الحرص على الحياة، وطلب السلامة، وحب البقاء- هو الذي يمسك الإنسان على البلاء، ويسوّغ له طعم الموت، والاستشهاد فى سبيل الله، ابتغاء
626
الفوز برضاه، ولقائه- جلّ شأنه- على الوعد الذي وعد به المجاهدين فى سبيله! ومن أجل هذا كان الفرسان والأبطال، يصحبون معهم من يؤثرون بالحبّ، من زوجات وخليلات، ليكون فى صحبتهم لهم تذكير حىّ بالموقف الذي يجب أن يأخذوه فى ميدان القتال، حتى يكونوا موضع إعجاب وتقدير، عند من يحبونهم ويفعلون الشيء الكثير الذي يرضيهم، وينزلهم من قلوبهم منزل الإعزاز والإكبار.. فإذا لم يكن فى صحبة البطل زوجه أو خليلته، استحضر صورتها فى خياله، وتمثل شخصها حاضرا معه، يشهد بلاءه واستبساله.. يقول عنترة لمحبوبته.. عبلة:
ولقد ذكرتك والرّماح كأنها أشطان بئر فى لبات الأدهم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولباته حتى تسربل بالدّم
ويقول أيضا:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل منّى، وبيض الهند تقطر من دم
فوددت تقبيل السيوف لأنّها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ويقول الحارث بن حلزّة أحد أصحاب المعلقات:
على آثارنا بيض كرام نحاذر أن تفارق أو تهونا
يقتن جيادنا ويقلن لستم بعولتنا إذا لم تمنعونا
فكيف إذ ذكر المؤمن ربّه، واستحضر جلاله، وعظمته، فى هذا الموقف الذي ينتصر فيه لله، ويجاهد فى سبيله، ويعمل على مرضاته، ويطلب المثوبة من جزيل عطاياه؟ إن الذي يذكر الله فى هذا الموطن، ذكرا ينبعث من قلبه، ويتحرك من وجدانه- يستخفّ بالموت، ويلذّ له طعمه، ويجد أن حياته التي يقدمها لله ليست شيئا إلى جانب الحياة الأخرى التي هو صائر إليها، وواجد
627
ما قدّم لها.. وهذا هو الذي أمسك بالمجاهدين فى سبيل الله على حياض الموت، فكتبوا بدمائهم تلك الوثائق الخالدة على الزمن، فى التضحية والفداء.
هذا عن المجاهد مع خاصة نفسه..
ولكن المسلم لا يقاتل وحده، وإنما هو واحد فى جماعة المجاهدين الذين يقاتل معهم، ويستند إليهم، ويستندون إليه..
ومن هنا كان من تمام البناء لتلك القوة التي يلقى بها المسلمون عدوّهم أن يكونوا صفّا واحدا، تمسك به مشاعر واحدة، فلا يتوزعهم الخلاف، ولا يمزق وحدة مشاعرهم النزاع، فذلك أمر إن وقع فى جماعة أذهب ريحها، وحلّ عزيمتها، وأفسد تدبيرها، ومكنّ للعدو منها، مهما كانت القوة التي عليها أفرادها، والبلاء الذي يعطيه كل فرد منها فى ميدان المعركة..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» - جاء ليشدّ تلك الجماعة بعضها إلى بعض، بعد أن شدّ كلّ فرد فيها إلى موطن العزم والصبر، من نفسه.
ثم إنه لكى يقوم للمسلمين شاهد حسّىّ، يشهد لهم بمفعول هذه الوصاة الكريمة التي وصاهم الله بها، أفرادا وجماعة- فقد أراهم الله ما حلّ بالمشركين من بلاء، وما أصيبوا به من خذلان، وأن ذلك كان لما وقع بينهم من تنازع فى الرأى واختلاف فى الحساب والتقدير..
وقد صحب المشركين هذا التنازع وذلك الخلاف منذ خرجوا من مكة إلى أن التقوا بالمسلمين فى بدر، فكانوا شيعا وأحزابا، لكل شيعة رأيها فى الموقف، وتقديرها له، ولكل حزب حسابه وتقديره.. فكثر فيهم القائلون، بألّا حاجة لهم فى القتال بعد أن سلمت العير، ومن قائل: لا بد من القتال.. ثأرا لكرامة قريش وهيبتها، كما يروى عن أبى جهل حين تنادى بعض المشركين
628
بالرجوع عن الحرب وقد سلمت لهم العير، فقال: «والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا!!»..
ومن بين هذين الرأيين طارت شرارات الشقاق والخصام، وتناثرت كلمات التلاحي والتنابز، فتحركت فى الصدور عداوات قديمة، وانبعثت من مرقدها فتن كانت نائمة.. وهكذا دخل القوم المعركة، وهم على تلك الحال، من تفرق الكلمة، وتمزق الوحدة، فى الرأى والمشاعر.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى محذّرا للمسلمين من أن يكون منهم مثل هذا الموقف، فى لقاء يكون بينهم وبين عدوهم..
يقول الله سبحانه: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».
فما خرج هؤلاء القوم دفاعا من حق، أو انتصارا لمبدأ، وإنما الذي أخرجهم هو البطر، أي الكبر، والكفر بنعمة الله، ثم ما يحدّث به الناس عنهم من أنهم أولو قوة وأولو بأس شديد، حين يرى الناس منهم ما جمعوا من مقاتلين، وما حملوا من سلاح وعتاد، ثم ما يقع لهم من هذا التدبير الذي دبروه، وهو الوقوف فى وجه تلك الدعوة التي كانت شجّى فى حلوقهم، وقذى فى أعينهم! هذا ما أخرج القوم للقتال، وهذا ما خرجوا له.. ومن أجل هذا كان الخلاف بينهم، والتفرق فى وحدتهم، والتمزق فى مشاعرهم.. كلّ يأخذ الموقف الذي يشبع غروره وكبره، ويشهد الناس منه منزلته فى قومه، وكلمته المسموعة فى رهطه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» فهذا هو الشعور الذي غلب على رؤساء القوم وأصحاب الكلمة فيهم.. أما عامتهم
629
فكانوا تبعا لأهواء سادتهم، لا يقوم فى كيان أحدهم شعور بمبدأ يقاتل عليه، وينتصر له..
أما قوله تعالى: «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فذلك هو الجرم الذي اشترك فيه القوم جميعا، رؤساء ومرءوسين.. فكانوا جميعا جيشا مقاتلا للدعوة الإسلامية، وحصرها فى أضيق الحدود.. أما البطر، ومراءاة الناس فكان لونا اصطبغ به بعضهم دون بعض، وغاية عمل لها أناس دون آخرين..
ولهذا اختلف النظم، لأن البطر والرياء شأنهم دائما فعبّر عنهما القرآن بالمصدر، الذي يفيد الثبوت والاستمرار، وأما الصدّ عن سبيل الله، فهو أمر جدّ عليهم بعد ظهور النبىّ فعبّر عنه بالفعل، الذي يفيد الحدوث والتجدد: «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».
وقوله تعالى: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ».
الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» أي لا تكونوا كهؤلاء القوم الذين خرجوا على تلك الصفة، ولهذا الوجه، ولا تكونوا كهؤلاء على تلك الحال التي خرجوا فيها وقد زين لهم الشيطان أعمالهم.. فهؤلاء إنما خرجوا متّبعين أهواءهم، منقادين للشيطان الذي دعاهم، فاستجابوا له، وأعطوه زمامهم، بعد أن ملأ صدورهم أملا كاذبا، بأنهم قوة لا تغلب، بما هم عليه من عدد وعدة! فكيف إذا كان هو جارا لهم، وسندا وظهيرا فى ميدان القتال معهم؟
«فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» أي التقت الفئتان، ورأى بعضهم بعضا، والفئتان هما: المسلمون، والمشركون.. «نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ» أي رجع
630
الشيطان إلى الوراء، يمشى القهقرى، وهو ينظر إليهم كما ينظر الغريم إلى غريمه وقد أوقعه فى حفرة، وتركه لمصيره الذي ينتظره.
«وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» إنها أحجار يقذف بها الشيطان فى وجه القوم بعد أن ألقى بهم فى هذه الحفرة..
إنه برىء مما حلّ بهم، أو سيحلّ من بلاء، يراه قبل أن يروه.. فلقد رأى الملائكة تأخذ مكانها فى ميدان المعركة مع المسلمين، وإن ذلك ليعنى عنده أن القوم قد أصبحوا فى الهالكين..!
وهكذا يتبرأ الشيطان منهم، كما يتبرأ من فعلته التي فعلها بهم.. إنه يخاف الله، ويخاف ما يحلّ به من عقاب الله، وإنه لعقاب شديد! والسؤال هنا:
كيف يعلن الشيطان أنه يخاف الله، ويخشى عقابه الشديد، وهو قائم على عصيان الله ومحادّته، بفتنة الناس، وإغوائهم بالضّلال، وصدهم عن سبيل الله؟ أهذا يكون ممن يعترف بالله، ويخشى عقابه؟
والجواب: أن الشيطان معترف بوجود الله، مؤمن بسلطانه وسطوته، ولكنه مبتلى بعصيان الله فى بنى آدم وإغوائهم، وإفساد ما بينهم وبين الله..
هكذا كان قضاء الله، فيما بينه وبين آدم، وذرية آدم..
لقد عصى الله إذ أمره بالسجود لآدم..
فكان أن لعنه الله، وطرده من مواقع رحمته، ومواطن رضوانه..
ومن هنا بدأ إبليس ينتقم لنفسه من آدم وذريته، إذ كان بسببه، هذا الذي أنزله الله به من عقاب.
631
وقد طلب إبليس من الله أن ينظره إلى يوم يبعثون، ليفسد هذا الإنسان الذي فضّله الله عليه، وطرد إبليس من رحمته بسببه..
وكان هذا من إبليس تحدّيا لله، وإمعانا فى الضلال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً».
وتزيين الشيطان للمشركين، وقوله لهم: «لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» هو مما وسوس لهم به فى صدورهم من ضلال، وما ألقى إلى سفهائهم من غرور، حتى لقد تمثلت تلك الوسوسة خواطر تتحرك فى مشاعر القوم، وحتى لقد تخلّقت هذه الخواطر فكانت قولا، يجرى على ألسنة القوم، ويتنادون به.. وأنهم لن يغلبوا..
فموقف الشيطان وأعوانه فى صفوف المشركين، هو مقابل لموقف الملائكة فى صفوف المؤمنين.. ولكن شتان بين موقف وموقف.. فالشيطان يغرى بالباطل، ويمدّ بالضلال، ويعين بالأكاذيب.. أما الملائكة، فقد طلعت على المسلمين بريح القوة، وهبّت بأنسام النصر، فملأت قلوب المسلمين أمنا وطمأنينة، فثبتت من أقدامهم، وقوت من عزائمهم، وأطمعتهم فى عدوّهم..
فكان لهم الظفر بعدوّهم..
وفى هذا يقول الله تعالى: «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (٧٧: ٨٥ ص)
632
وهكذا يقضى الله سبحانه وتعالى بين إبليس وبين أبناء آدم. يغريه بهم، ويسلطه عليهم، ليخزيه آخر الأمر، وليريه من أبناء آدم ما يزيده حسرة وحزنا، فيما يرى مما لله فى أبناء آدم من أصفياء وأولياء، أنزلهم منازل رضوانه، وفتح لهم أبواب جنّاته، يلقون فيها ما أعدّ لهم من نعيم مقيم..
وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢: الحجر)..
فإذا كان لإبليس أولياء من بنى آدم، يؤدّى فيهم رسالته الضالّة المفسدة، فإن فى أبناء آدم من يقف له بالمرصاد، ويلبسه لباس الذلة والخزي! وعلى هذا، فإن الشيطان إذ يغوى الغاوين من أبناء آدم، وإذ يدفع بهم إلى مواطن الضلال- إنما يؤدى رسالته التي تخيّرها لنفسه فيهم، وهو يعلم أنه على عصيان لله، فيما يأتيه مع أبناء آدم من إغواء وإضلال.. ولكنه- مع هذا- لا يملك من نفسه أن يردّها عن هذا الاتجاه الذي اتخذته، بحكم سابق، وقضاء نافذ.. فهو- والحال كذلك- يؤدّى رسالة الشرّ فى أبناء آدم، كما يؤدّى الأنبياء رسالة الخير فيهم، وللشيطان أولياؤه وأتباعه، كما للأنبياء أولياؤهم وأتباعهم..
ومن جهة أخرى، فإن الشيطان- لحكمة أرادها الله- مغطّى على بصره، لا يرى الشرّ الذي يزرعه فى أبناء آدم، حتى ينبت، ويزهر، ويثمر..
وهنا يدرك أنه اقترف الإثم، ووقع فى المعصية.. وهنا أيضا يري عقاب الله الراصد له، جزاء ما اقترف من آثام.. وفى هذا بلاء عظيم، وعذاب أليم، وتلك هى لعنة الله التي حلّت بإبليس.. يعمى عن الشرّ فيقع فيه، حتى إذا وقع فيه أبصره وتحقق منه، وجنى الحسرة والندامة مما غرس بيديه!
633
الآيات: (٤٩- ٥٤) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
التفسير: الظرف «إذ» متعلق بالفعل «خرجوا» فى قوله تعالى:
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ».
فالظرف هنا حال من تلك الأحوال التي تلبّس بها خروج المشركين لقتال المسلمين فى بدر..
ففى الحال التي خرج فيها المشركون بطرا ورثاء الناس.. كان هناك المنافقون والذين فى قلوبهم مرض يستصغرون شأن المسلمين، ويسلقونهم بألسنة حداد، ويرمونهم بالغرور.. إذ كيف- وهم فى هذا العدد القليل-
634
يتصدّون لقريش، ويتعرضون لعيرها، ثم لا يقفون عند هذا، بل يخفّون للقائها فى ميدان القتال! وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض، بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.. فقال تعالى:
«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فهؤلاء المسلمون- وإن كانوا قلة- قد كان لهم من التوكل على الله، والثقة فيه، ما يجعل من قلتهم كثرة، ومن ضعفهم قوة. فهم أعزّاء أقوياء، بعزّة العزيز الحكيم، وقوته..
والمنافقون والذين فى قلوبهم مرض: هم من كان فى المدينة من منافقى اليهود، وغيرهم.
وقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ».
إشارة إلى ما حلّ بالمشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورثاء الناس، من بلاء ونكال فى يوم بدر الذي خرجوا له، وهم على تلك الحال التي كانت تستولى عليهم من الزّهو والخيلاء.. فهاهم أولاء يتلقّون الصفعات على وجوههم، والضربات على أدبارهم، كما يفعل بعيدهم وإمائهم..!
فأين العزّة والمنعة؟ وأين السطوة والجاه؟ لقد تعرّوا من هذا كلّه، ولبسوا ثوب الخزي والمهانة، ونزلوا إلى أسوأ مما كان عليه الأرقاء.. من عبيد وإماء! وإذا كانت تلك الأيدى التي تناولتهم بالصفع على وجوههم، وتلك الأرجل التي أخذتهم بالرّكل على أدبارهم، أيديا خفيّة لا ترى، لأنها يد القوى السماوية التي سلطها الله عليهم يومئذ- فإنّ هناك أيديا شوّهت هذه الوجوه
635
بضربات السيوف، وركلت هذه الأدبار بأزجّة الرّماح، وهى أيد رآها الناس رأى العين، وشهدوا آثارها وأفعالها فى هؤلاء السادة المتكبرين.. إنها أيدى أولئك المسلمين الذين استرهبهم المشركون بزهوهم وخيلائهم، وغمزهم المنافقون والذين فى قلوبهم مرض بقوارص الكلم، وسيىء القول.
وقوله تعالى: «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» هو بيان للمصير الذي صار إليه أولئك المشركون الذين أذلّ الله كبرياءهم فى هذا اليوم، يوم بدر، وهو مصير مشئوم، يلقى بهم فى سواء الجحيم، حطبا لجهنم، ووقودا لسعيرها..
وذلك الذي حلّ بالمشركين من هوان فى الدنيا، وعذاب فى الآخرة، هو جزاء لما كان منهم، وما قدّمت أيديهم من سوء.. «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ! وقد اختلف فى المراد بالخطاب فى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى» أهو خطاب خاص للنبى؟ أم هو لكل من شهد المعركة؟ أم هو خطاب عام غير مقيد بشخص أو بوقت، بل هو لكل من يستمع إلى هذا الخطاب؟
والرأى، أنه خطاب عام لكل من استمع أو يستمع إليه.
وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» - ما يسأل عنه؟
لماذا جاء التعبير بنفي الظلم عن الله بصيغة المبالغة «ظلّام» ؟ وهل إذا انتفت المبالغة فى الظلم أينتفى معها الظلم نفسه؟
والجواب- والله أعلم- أن صيغة المبالغة هنا إنما تكشف عن وجه البلاء الذي وقع بالمشركين، وأنه بلاء عظيم، وعذاب أعظم، وأن الذي ينظر إليه يجد ألا جريمة توازى هذا العقاب وتتوازن معه، فى شدّته، وشناعته، حتى ليخيّل للناظر أن القوم قد ظلموا، وأنه قد بولغ فى ظلمهم إلى أبعد حد، فجاء قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ليدفع هذا الوهم الذي يقع فى نفس
636
من يرى هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء القوم الضّالين، وهو بلاء فوق بلاء، فوق بلاء!! قوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ».
الدّأب: الحال والشأن..
أي أن ما فعله الله بهؤلاء المشركين، الذين علوا فى الأرض، وبغوا، قد فعله- سبحانه- بأمثالهم ممن علوا وبغوا.. ومن هؤلاء آل فرعون، ومن كان قبلهم من الطّغاة والظالمين- قد أخذهم الله بذنوبهم، ولم يعصمهم من عقاب الله، ما كانوا عليه من جبروت وقوة، فإن قوة الله لا تدفعها قوة، وبأسه لا يردّه بأس: «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ».
هذا، ويرى بعض المفسرين أن قوله تعالى: «كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» هو عائد إلى المشركين، لا إلى آل فرعون.. أي أن شأن المشركين كشأن آل فرعون..
قد كفروا مثل كفرهم.. والرأى عندنا أن هذا الوصف عائد على آل فرعون، حيث يبرز من هذا الوصف حال المشبّه به- وهم آل فرعون- على صورة كاملة، يستغنى بها عن وصف المشركين بأية صفة بعد أن ألحقوا بآل فرعون فى كل مالهم من صفات، كان الكفر أظهر ألوانها..
والسؤال هنا: لم كان حكم الله هذا واقعا على آل فرعون ومن كان قبلهم، مع أنه حكم واقع على كل جبار مفسد متكبر، سواء أكان قبل آل فرعون أو بعدهم؟
والجواب- والله أعلم- أنّ من كان قبل آل فرعون، قد وقعوا تحت هذا الحكم فعلا.. أما من بعدهم، فمنهم من أخذه الله بهذا العقاب، ومنهم من ينتظر دوره مع حركة الحياة، وسير الزّمن..
637
وهذا يعنى أن من بعد آل فرعون من الظّلمة والآثمين، وإن أخذ بعضهم بهذا العقاب، فإن آخرين- ومنهم المشركون والمنافقون الذين عاصروا النبوة- ينتظرون وقوع هذا الحكم بهم، وأن الباب قد فتح لهم ليدخلوا فيما دخل فيه الظالمون قبلهم.. وفى هذا تهديد، ووعيد لمن كان على هذا الطريق، أو سيكون عليه، لينجو بنفسه، ويأخذ سبيلا غير هذه السبيل التي هو عليها.
وقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
- هو دعوة عامة للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم أن يوجهوا وجوههم إلى الله، وأن يستقيموا على طريق الحقّ والخير، فإنهم إن فعلوا هذا أمنوا تلك النوازل التي تنزل بأعداء الله، وتدمّر ما بنوا، وتخرّب ما عمروا.. فالله سبحانه لا يسلب عباده نعمة من نعمه التي فضل بها عليهم، إلا إذا أحدثوا من الأمور ما يعرضهم لانتقام الله منهم، بسلب ما منحهم من فضله:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» وتغيير ما بأنفسهم، هو تحولهم من حال سيئة إلى حال أكثر سوءا.. «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» يسمع ما تنطق به الألسنة، من خير أو شر، ويعلم ما تنطوى عليه القلوب، من إيمان أو كفر..
وهذه الآية إنما تعنى أولا وبالذات أهل الزيغ والضلال، وتحذّرهم من أن يقيموا على ما هم عليه من زيغ وضلال، فإن ذلك مؤذن بأن يبدّل الله نعمهم نقما، وأن بغير حالهم من سوء إلى أسوأ..
والسؤال هنا هو:
كيف تقع غير الله بالظالمين والطغاة، وهم على ما عهدتهم الحياة من ظلم وطغيان.. لم يغيروا ما بأنفسهم من بغى، وظلم وعدوان؟ إن ما ينزل بهم من نقم
638
الله، هو فيما يبدو لم يكن عن تغيير لما فى أنفسهم من خير إلى شر، ومن إيمان إلى كفر.. فهم أبدا على الشر، وهم أبدا مع الكفر؟ فكيف هذا؟
والجواب: أن الظالمين، والطغاة، والمنحرفين عن طريق الحق، والخير، لا يظلّون على حال واحدة مما هم فيه، بل إنّهم مع الشرّ الذي صحبوه، لا يزدادون به مع الأيام إلّا شرّا.. ذلك أن الشرّ ينمو فى كيان صاحبه، كما تنمو الحبّة فى الطين.. إلا أن يقتلع نبتة الشر من جذورها، ويغرس فى نفسه نبتة الخير والإحسان..
وعلى هذا، فإن أهل السوء والضلال، إذا أمسكوا بماهم عليه من سوء وضلال ازدادوا مع الأيام سوءا وضلالا، وكانوا فى يومهم شرا من أمسهم، وهم فى غدهم أكثر شرّا من يومهم..!
وإذن، فالمتوقّع- غالبا- من أهل البغي والضلال أن يقع منهم تغيير لما فى نفوسهم، وهو تغيير إلى أسوأ، إذا هم لم يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا عماهم فيه، من بغى وضلال.
هذا، وليس تغيير ما فى النفوس يكون دائما من خير إلى شر، أو من شر إلى ما هو شرّ منه.. بل ما أكثر ما يكون التغيير على عكس هذا، وهو التغيير من شر إلى خير، ومن سيىء إلى حسن.. فكلا هذين التغييرين واقع فى الحياة، حيث يصلح الفاسد، ويفسد الصالح.. وهكذا تتغير مواقف الناس وتتبدل أحوالهم..
والمطلوب من الإنسان أن ينشد التغيير الذي يبعده من الظلام ويدنيه من النور.. ففى ذلك رشده وصلاحه، وسعادته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (١١: الرعد) فهذا قضاء الله فى عباده.. لا يغير ما بهم، ولا يخرجهم عما هم فيه من نعمة وعافية،
639
أو من شدة وبلاء، حتى يحدثوا هم تغييرا فى أنفسهم، وتحوّلا فى منازعهم وسلوكهم، وهنا يغير الله أحوالهم حسب ما كان منهم من تغيير.. من اتجاه إلى الحق والخير، أو انحدار إلى الشر والضلال..
قوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ».
الجار والمجرور «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» متعلق بقوله تعالى: «حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» أي أن الله سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم، ولا يحوّلهم عماهم فيه من عافية ونعمة، حتى يحدثوا هم تغييرا فى أنفسهم، من سيىء إلى أسوأ، ومن شر إلى ما هو أكثر شرا منه، كما فعل آل فرعون، الذين زادهم الهدى الذي جاءهم به موسى، ضلالا وكفرا وعتوّا، فكان هذا التغيير الذي حدث فى أنفسهم مؤذنا بما سيحلّ بهم من سوء وبلاء، إذ غيّروا ما بأنفسهم، حين ازدادوا ضلالا إلى ضلال فغير الله ما هم فيه من نعمة وعافية..
وفى قوله تعالى: «كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» المعدول به عن القول الذي يقتضيه النظم: «كذبوا بآياتنا» فى هذا إشارة إلى مدى ما كان عليه القوم من عتو وعناد، مع ما لله عليهم من ألطاف ونعم، إذ ساق إليهم آياته، تحمل الهدى والخير، وقد أضافهم سبحانه وتعالى إليه هكذا: «رَبِّهِمْ» ليذكروا ربوبية الخالق لهم، الذي أخرجهم من عالم العدم إلى عالم الحياة، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأخرج لهم من الأرض أقواتهم، وجعل لهم فيها فجاجا سبلا، وأنهارا جارية، وعيونا سائلة.. ومع هذا وكثير غيره، فإن القوم لم تنفعهم هذه الذكرى، بل ازدادوا بها عتوا وضلالا.
وفى قوله تعالى: «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا
640
ظالِمِينَ»
- إشارة إلى ما حلّ بهؤلاء الظالمين من آل فرعون، ومن كان على شاكلتهم فى البغي والعدوان.. لقد أهلكهم الله جميعا بذنوبهم، وجعل لكلّ جماعة من هؤلاء الظالمين مهلكهم الذي يهلكون به، كما يقول سبحانه:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٤٠: العنكبوت).
وقد كان مما أخذ الله به فرعون وآله، هو الغرق، وكان ذلك جزاء وفاقا لكفرهم وعنادهم، وتغيير ما بأنفسهم..
وانظر.. لقد كان الذي فيه فرعون وقومه من نعمة وقوة وسلطان، هو من فيض النيل ونفحاته، إذ كان «النيل» هو مصدر الحياة لهذا الوادي ومن فيه، وفى هذا يقول فرعون معتزا بما بين يديه من قوّة: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟».
وقد كفر فرعون بهذه النعم، وجعل منها سياط عذاب يأخذ بها الناس، ويوردهم موارد الذلة والهوان، فكان أن قتله الله وآله، بتلك النعمة، وجعلها تجرى فى حلقه ملحا أجاجا، بعد أن كان يجرى ماء النيل فى هذا الحلق عذبا زلالا.. وهكذا يهلك بالماء، وقد كان يحيا على الماء وبالماء! وفى هذا الذي كان من فرعون وملائه نذير لهؤلاء المشركين، الذين كفروا بآيات ربهم، وكذبوا رسوله الذي حمل إليهم الهدى والنور.. وكما أخذ آل فرعون بعذاب الله، فإن هؤلاء المشركين، هم فى مواجهة عذاب الله، وفى معرض النقمة والبلاء..
غير أن آل فرعون قد فوّتوا على أنفسهم فرصة النجاة، فلم يرجعوا إلى
641
الله، ولم ينتهوا عن غيّهم.. أما هؤلاء المشركون، فما زالت الفرصة سانحة لهم، وما زال طريق النجاة مفتوحا بين أيديهم.. فماذا هم فاعلون؟
الآيات: (٥٥- ٦٠) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٠]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
التفسير: قوله تعالى «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».. هو التعقيب المناسب لما أخذ به الظالمون من بلاء ونكال..
إنّ هذا الحكم هو الذي تشيّعهم به الحياة، وهم يعالجون سكرات الموت، إذ كانوا فى حرب مع الله، ومع أولياء الله.. فكيف يرحمهم قلب، أو تدمع عليهم عين؟
وفى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» بعد قوله سبحانه: «الَّذِينَ كَفَرُوا» - فى هذا ما يسأل عنه: إذ كيف يكون نفى الإيمان عنهم مسبّبا لكفرهم،
642
مع أن عدم الإيمان هو عين الكفر.. والسبب لا يكون عين المسبّب، وإن كان نتيجة لازمة من لوازمه؟..
والجواب- والله أعلم-: أن كفر هؤلاء الكافرين الذين وصفوا بأنّهم شرّ الدّوابّ عند الله.. إنما يتلبس بنفوس خاصّة، من جماعة من الكافرين، لا بكلّ الكافرين.. وتلك الجماعة هى التي من شأنها ألا تخلع هذا الكفر أبدا، بل تشدّ قلوبها عليه، حتى تموت به! ومن هنا استحقت تلك الجماعة هذا الوصف الذي وصفها الله سبحانه وتعالى به، وهى أنها شرّ ما دبّ على الأرض من كائنات، وذلك لأنها لا تعقل كما يعقل الناس، ولا تسمع كما يسمع الناس، ولا تبصر كما يبصر الناس.. ثم هى ليست من دوابّ الحيوانات، تعيش، فى حدود الطبيعة المتاحة لتلك الدواب، وإنما هى خلق آخر..
مزيج من الإنسان والحيوان.. وذلك مسخ للإنسان، وللحيوان معا، وبهذا المسخ يكون هؤلاء الآدميّون الحيوانيّون شرّ الدّواب، طبيعة وخلقا.
فقوله تعالى: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» حكم قاطع، قاض على هذا الصنف من الكافرين بأنه لن يدخل الإيمان قلبه أبدا.. وهذا الصنف هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى فى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (٦- ٧:
البقرة).
وقوله تعالى: «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ».
هو بدل من الذين كفروا، وهذا البدل يكشف عن صفة من صفات هؤلاء
643
الكافرين. وهى أنهم لا يحفظون عهدا، ولا يرعون ذمة، إذ لا وازع عندهم، من دين أو خلق..
وفى قوله تعالى: «عاهَدْتَ مِنْهُمْ» إشارة إلى أن النبىّ ﷺ لم يدعهم إلى أن يعاهدهم بما عاهدوه عليه، بل إنهم هم الذين جاءوا إلى النبي يعرضون عليه عهدهم بالأمان والموادعة بينهم وبينه، وأن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه أجابهم إلى ذلك، وقبل منهم العهد الذي أعطوه..
وفى نقضهم لهذا العهد الذي جاءوا هم به من تلقاء أنفسهم، وأعطوه عن رضى واختيار- فى نقضهم لهذا العهد، الذي هو فى الواقع عهدهم، خيانة لأنفسهم، فوق أنه خيانة للعهد من حيث هو عهد، يجب الوفاء به على أي حال.
وفى قوله تعالى: «وَهُمْ لا يَتَّقُونَ» بعد وصفهم بقوله سبحانه: «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ» فى هذا إشارة إلى أنّهم متحللون من كل قيد يمسك بهم على خلق فاضل، ويقيمهم على مبدأ كريم.. إنهم لا يتقون أي محظور تحظره الشرائع السماوية، أو تجرّمه القوانين الوضيعة والمواضعات الخلقية.
والمراد بهؤلاء الذين ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه الرسول، هم جماعات اليهود الذين كانوا بالمدينة، يثيرون الفتن، ويذيعون المنكر، ويحيكون الدسائس، وينتهزون الفرصة المواتية لينالوا من النبي والمؤمنين ما يريدون من شر.
ثم إن هذا الحكم هو حكم عام، يقيمه المسلمون دائما فيما بينهم وبين الكافرين..
644
وقوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».
هو الجزاء الذي أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى به هؤلاء الكافرين، الذين لا يؤمنون بالله أبدا، والذين ينقضون عهدهم مع النبىّ، ويلقونه فى الجبهة المحاربة له كلما سنحت الفرصة لهم، سواء أكان ذلك بأشخاصهم، أم بأموالهم وأسلحتهم، يمدّون بها أعداء المسلمين..
فهؤلاء الذين يقفون من النبىّ ودعوته، هذا الموقف اللئيم المخادع، لا عهد لهم، ولا ذمة لهم عند النبىّ والمسلمين، ما داموا قد غدروا ونكثوا.. فليس لهم عند النبىّ والمسلمين إذا ظفروا بهم فى حرب، أو أمكنتهم أيديهم منهم فى أي موقف- ليس لهم إلا الضربة القاصمة القاضية، وإلا البلاء ينصب عليهم انصبابا، ينالهم فى أنفسهم، وأموالهم وأهليهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، ومثلا سائرا فى الناس، لكل من ينقض العهد مع النبىّ والمسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».
والتعبير بالظفر بهم، ووقوعهم ليد النبي بقوله تعالى «تَثْقَفَنَّهُمْ» إشارة إلى أن الحرب ليست كلّها انتقاما، واستئصالا للمغلوب، وإنما هى- فى صميمها- إصلاح له، وحيدة به عن طريق الضلال والغواية الذي يركبه، إلى طريق الحق والهدى، المدعوّ إليه.. إذ كثيرا ما تنتهى الحرب بين المسلمين وأعدائهم، وإذا أعداد وفيرة من هؤلاء الأعداء، قد تحوّلوا إلى أولياء، ودخلوا فى دين الله، وكانوا من عباده المؤمنين.
وهذا هو السرّ فى التعبير بكلمة «تثقفنّهم» بدلا من كلمة تظفر بهم..
645
إذ الثّقاف هو من يتولّي إصلاح الرماح، وتقويمها، بما يقتطع من أجزائها، وأطرافها، وبما يسوّى من نتوئها..
فالحرب فى الإسلام أشبه بالثّقاف للرماح، غايتها الإصلاح، والتقويم، ولكن الحرب هنا مع هذا الصنف من الناس، الذين يغدرون بالنبيّ، وينصبون المكايد له بالخديعة والختل، إذ يجيئون إليه موادعين مسالمين، ثم ينقلبون ذئابا محاربين- هؤلاء، لا يرجى لهم إصلاح، ولا يتوقع منهم خير «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أبدا.. وإذن فليس لهم إلا الضربة القاضية، التي لا تبقى منهم على دار ولا ديّار، حتى يكونوا فى ذلك عبرة لغيرهم.. «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي فرّق بهذا الذي تأخذهم به من بلاء ونكال، كلّ مجتمع للضلال وتبييت السوء للمسلمين، ممن ينتظرون ما وراء كيد هؤلاء الكافرين بالمؤمنين.
فكلّ من تحدثه نفسه بخيانة عهد المسلمين من بعد تلك الضربة التي نزلت بهؤلاء الخائنين- سيجد أمام ناظرية مثلا حيّا لما ينتظره من بلاء ونكال فى هذا الذي أخذ به هؤلاء القوم، وبهذا تنحلّ عزائم الذين يدبرون الشرّ للمسلمين، ويتشتت جمعهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».. إذ الضمير فى كلّ من «لعلهم» و «يذكرون» راجع إلى هؤلاء الذين يأتون بعد هؤلاء الذي نكّل بهم النبىّ وضربهم الضربة القاضية.. ففى الضربة التي حلت بهؤلاء موعظة وذكرى لهؤلاء الذين لم يظهروا بعد على طريق الغدر والخيانة! قوله تعالى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» هذه الآية تكشف عن وجه مشرق وضيء من وجوه الإسلام- ووجوه الإسلام كلها مشرقة مضيئة- فى رعاية العهد وحفظه والوفاء به.
لقد أشارت الآية السابقة إلى ما يدبر أعداء الإسلام للمسلمين من كيد،
646
ومكر، ونكث بالعهد، ونفاق فيما عاهدوهم عليه.. وأنهم ينقضون العهد الذي أعطوه من أنفسهم للنبىّ.. فى كل مرة يجيئون إليه فيها معاهدين..
وحتى لا يعامل المسلمون أعداءهم بمثل عملهم هذا، وحتى لا يدخل على نفوسهم شىء من هذا الداء الخبيث الذي استولى على نفوس أعدائهم، من نقض العهد، وخيانة الكلمة- حتى لا يكون شىء من هذا فى مجتمع المسلمين، جاءهم أمر الله، فيما أمر به نبيه، ورسم له فيه أسلوب العمل، الذي يعامل به هؤلاء الناكثين للعهد.. فقال سبحانه: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ».. أي إن استشعرت خيانة من قوم بينك وبينهم عهد، وتوقعت أن ينكثوا هذا العهد على غرّة، دون أن يؤذنوك بنكثه، والتحلل منه، فلا تفعل فعلهم، ولا تنقض العهد منهم فى خفاء بينك وبين نفسك، كما يفعلون، بل أنذرهم بذلك، وأعلمهم إياه، «على سواء» أي على وضوح كامل، بصريح اللفظ، دون التلويح به.. وذلك ليكونوا على بيّنة من أمرهم، فلا يدخل فى حسابهم بعد هذا، العهد الذي بينك وبينهم، وبهذا يسقط العهد من هذا الحساب، ويعدّون أنفسهم للحرب، كما أعدّ النبي والمسلمون أنفسهم لها.
قوله تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا.. إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» هو تطمين لقلوب المسلمين، ودفع لوساوس الخوف، التي تطرقهم وهم يعطون من أنفسهم الوفاء لعدوهم بالعهد الذي بينهم وبينه، على حين أنه يغدر بهم، ويباغتهم بهذا الغدر، فكيف يحاربهم العدو بسلاح ثم يحرم عليهم محاربته بهذا السلاح؟ فليطمئن المسلمون، وليعلموا أن هؤلاء الذين خانوا العهد، لم يسبقوا بتلك الخيانة إلى أخذ فرصة فى المسلمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من خيانة- قد تعرضوا لبغض الله وغضبه. «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» وحسبهم هذا خسرانا وبلاء!
647
قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ».
لقد سلط الله النبىّ والمسلمين على هذا العدوّ المتربّص بهم، الكائد لهم، وأمرهم بأن يضربوهم الضربة القاضية التي تأنى عليهم، وتكون مثلا وعبرة لغيرهم.
ولكن.. ما الذي يمكّن للنبى والمسلمين من أن يبسطوا يدهم على عدوّهم وينزلوه على حكمهم فيه؟ إنه لا شىء إلا القوة التي يكون عليها المسلمون فى الرجال والعتاد..
ومن هنا أتبع القرآن الكريم الأمر بتأديب العدوّ وبسط اليد عليه- أتبع ذلك بالأمر باتخاذ الوسائل المحققة لهذا الأمر، وذلك بالأخذ بكل أسباب القوة، التي ترجح بها كفة المسلمين فى ميادين القتال، ومصادمة العدوّ.
وفى قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»، أمر باتخاذ القوة، والعمل على بنائها، والتوسل إليها بوسائلها، ومن أهم تلك الوسائل «الخيل».. إذ كانت فى هذا الوقت أقوى مظهر من مظاهر القوة والفروسية.. فحيث كانت الخيل، وكان فرسانها، كانت القوة والمنعة..
وفى التعبير عن «الخيل» بقوله تعالى: «وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» إشارة إلى الإكثار من الخيل، وإعدادها للحرب، وتدريبها على القتال، وحبسها على هذا المجال، فلا تتخذ لغرض آخر، بل تكون دائما مرصودة للقاء العدوّ، مهيأة للاشتباك معه فى أية لحظة.. إنها مرابطة كما يرابط المجاهدون على الثغور لحماية المسلمين، وسد الثغور التي ينفذ منها العدو إليهم.!
648
وفى قوله تعالى: «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» الضمير فى «به» يعود إلى رباط الخيل، وأنه مصدر رهبة للعدوّ. إذا كان هذا الرباط من الكثرة والإعداد على صورة يهابها العدوّ ويعمل حسابها.. وهذا يعنى استعراض تلك القوة المعدّة من الخيل وفرسان الخيل، وإظهارها بحيث يراها العدوّ، ويرى فيها ما يرهبه، ويقتل فى نفسه كل داعية من دواعى الطمع فى المسلمين، وفى لقائهم على ميدان القتال.. وهذا يعنى أيضا أن يكون هذا الرباط على صورة محقّقة لإلقاء الرعب والفزع فى نفس العدوّ، وإلا كان ستر هذا الرباط وإخفائه أولى وأحكم من إظهاره.
وهذا يعنى كذلك أن الإعداد للحرب ليس لإشباع شهوة الحرب، وإنما هو لإرهاب العدوّ أولا، حتى ينزجر، ولا تحدّثه نفسه بالحرب حين يرى القوّة الراصدة له. ومن هنا يرى أن الإسلام دين سلام، يعدّ للحرب، حتى تجتمع له القوة الممكنة له من النصر والغلب، ولكنه لا يبدأ الحرب، ولا يسعى إليها، وإنما يجىء إليها مكرها، ويدخل فيها مدافعا، لا مهاجما!! وفى قوله تعالى: «وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» إشارة وتنبيه للمسلمين إلى ألّا يكون حسابهم فى إعداد القوة مقصورا على هذا العدوّ الظاهر لهم، ومقدورا بقدره، بل يجب أن يعملوا فى تقديرهم حسابا لأعداء آخرين، لم يظهروا لهم، ولم يواجهوهم بعداوة أو قتال..
وهذا يعنى أن يبذل المسلمون كثيرا لإعداد هذه القوة التي يحاربون بها أعداءهم الذين يرونهم، والتي يرصدونها للعدوّ الخفىّ الذي لم يظهر لهم بعد..
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» - جاء داعيا إلى البذل والإنفاق فى سبيل
649
الله، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيؤتى المنفقين أجرهم، ويجزل لهم العطاء، فلا يضيع شىء مما بذلوا وأنفقوا، لأن فى ضياعه ظلما لهم.. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».
الآيات: (٦١- ٦٣) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
التفسير: قوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» أي إن مال الأعداء إلى السّلام والموادعة، ورغبوا فيهما فارغب فيهما أنت أيها النبي أيضا، فتلك دعوة إلى خير وأمن وعافية، لا ينبغى- حقّا وعدلا ومصلحة- رفضها والتأبّى عليها.
وأصل «الجنح» و «الجنوح» من «الجناح» إذ كان هو الذي يميل بالطائر إلى الجهة التي يريدها، فهو أشبه بقلع المركب، إذا فرده، وضمّ الجناح الآخر امتلأ ذلك الجناح المفرود بالهواء، ودفع بالطائر إلى الاتجاه الذي يقصده..
فهما إذن جناحان، على جانبى الطائر، يعملهما حيث يشاء، فيتجه يمينا أو يسارا، أو إلى أي اتجاه يقصد..
وكذلك الإنسان فى دوافعه ونزعاته، له جانبان، أو جناحان يخفقان فى كيانه، مهيآن لدفعه إلى أي اتجاه يشاء.. إلى السلم، أو الحرب، مثلا.. فإن
650
هو أراد السلم، فرد جناح السّلم، فدفع به إلى جانب السلام والموادعة، وإن هو أراد الحرب، فرد جناح الحرب فألقى به فى ميدان القتال وساحة الدماء..
فهذا هو بعض سرّ التعبير القرآنى عن دعوة السلام، بالجنوح «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ».. ذلك أنهم كانوا بين داعيين، داع يدعو إلى الحرب، وداع آخر يدعو إلى السلم، ثم رجح فيهم الداعي الذي يدعو إلى السلام، وفى هذا إغراء وتحريض على قبول تلك الدعوة التي تدعو إلى السّلم، فهى وجه جميل طيب، فى مقابل الوجه الكريه الذميم، وجه الحرب..
قوله تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» تحريض آخر للنبى بقبول الدعوة إلى السّلم، إذ كان فى حراسة، من توكله على الله واعتماده عليه.
قوله تعالى: «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» هو تحريض ثالث للنبىّ على الاستجابة إلى دعوة السّلم التي يعرضها عليه الأعداء، وألا يردّه عن قبول تلك الدعوة ما يكون عند القوم من نيّة للغدر، فالله سبحانه وتعالى سيكفى النبىّ والمسلمين سوء ما يفعلون.. ذلك أن هؤلاء الأعداء قد خانوا وغدروا، فتعرضوا لسخط الله وغضبه، فوق ما أخذهم الله به من سخط وغضب لكفرهم وشركهم بالله.
أما النبىّ والمؤمنون، فقد اتقوا الله، ووفوا بالعهد الذي دعاهم الله إلى الوفاء به، فكان سبحانه وتعالى معهم، يؤيدهم، وينصرهم على عدوهم..
«فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ» أي يكفى أن يكون الله معك، يؤيدك، وينصرك.. «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ».. فلقد نصرك الله من قبل، وردّ عنك بأس القوم الظالمين، فلم تغنهم كثرتهم من الله شيئا.. وقد نصرك الله كذلك
651
بالمؤمنين، الذين لم ترهبهم كثرة العدوّ وقوته، بل لقد ألقوا بأنفسهم فى حومة القتال، وهم على نية الاستشهاد فى سبيل الله.. فكانوا جندا من جنود الله معك.
وفى عطف «المؤمنين» على قوله تعالى «بنصره» تكريم لهؤلاء المؤمنين الذين اجتمعوا إلى النبىّ، وقاتلوا تحت رايته.. وأنهم قوة من قوى الحق، وجند من جنود الله، ينصر بهم من يشاء من عباده..
وقوله تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ».. معطوف على قوله سبحانه: «أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ» أي إن من فضل الله عليك، ومن القوى التي أمدّك بها، أنه سبحانه أمدك بأسباب النصر والظفر على العدوّ، بما جمع لك من جند آمنوا بالله، وأخلصوا النية للجهاد فى سبيل الله.. وأن الله سبحانه قد نظر إليك وإليهم، فألف بين قلوب جندك هؤلاء، وجمعهم على الإيمان بالله، والإخاء فى الله، فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا، ومشاعر واحدة..
وذلك ما لا يكون إلا عن فضل من الله، وبهذا الفضل توحدت قلوب المؤمنين، واجتمعت على الولاء لله، ولدين الله، ولرسول الله.. الأمر الذي لا تستطيع قوة بشرية أن تحققه فى أي مجتمع إنسانى، على تلك الصورة، ولو أنفقت فى سبيل ذلك كل ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع.
[الحرب والسلام.. فى الإسلام]
الإسلام دين رحمة وسلام، وليس كما يفترى عليه المفترون أنه دين سيف ودماء.. وكيف وظاهر الإسلام وباطنه جميعا، سلم، وسلام؟ فاسمه «الإسلام» مشتق من السلام، والسلامة، والسلم، وشارات التحية بين
652
أتباعه، ومن أتباعه، السلام، والرحمة، والبركة.. أما شريعته وأحكامه، فكلها قائمة على اليسر والرحمة، والسلام، بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الناس جميعا.
وحقّا إن الإسلام قد دعا أتباعه إلى الحذر من العدوّ، والإعداد للحرب، والأخذ بأسباب القوة.. وذلك لأن الإسلام دين واقعىّ، يعايش الحياة فى أعدل أحوالها، ويستقى من أعذب عيونها، وأصفى مواردها، وليس مجرّد أحكام ومقررات نظرية، يتمثلها الناس ولا يحققونها، ويتصورونها ولا يتعاملون بها، أشبه بما يقع فى تصورات الفلاسفة وخيالات الشعراء، إن سعد بها أصحابها فى أحلام يقظتهم، فإنهم لم يمسكوا منها بشىء إذ هم فتحوا أعينهم على الحياة وواقعها.
والإسلام يريد لأتباعه يكونوا قوة عاملة فى الحياة، وأن يعمروا الأرض، ويبسطوا سلطانهم على القوى الكامنة فى الطبيعة، ليحققوا قول الله تعالى لهم:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ..»
ولن يكون ذلك إلا إذا أخذ المسلمون الحياة كما هى، بواقعها، وما يزخر فيها من خير وشر! فليست الحياة إلا مزيجا من الخير والشر، وليس الناس إلا عالما من الأخيار والأشرار.. ولن يسلم لإنسان وجوده، ولن ينتظم لجماعة شأنها إلا بصحبة الحياة والناس على هذا المفهوم، الذي يجمع الخير والشر، ويقابل بين الأخيار والأشرار..
فمن الحكمة ومن الواجب إذن، أن يقيم الإسلام أتباعه فى الحياة على طريق بين الخير والشر.. وهم فى هذا الطريق مدعوون إلى التعامل مع الخير، ثم هم فى الوقت نفسه مطالبون بتجنب الشر والأشرار، وأخذ حذرهم منه ومنهم جميعا..
653
والشر والأشرار دائما مسلّطون على الأخيار.. إن سالموهم فلن يسلموا منهم، وإن كفّوا أيديهم عنهم بسطوا هم أيديهم إليهم بالبغي والعدوان..
هكذا تجرى الحياة فيما بين الشر والخير، وفيما بين الأشرار والأخيار! كانت دعوة المسيح- عليه السلام- دعوة كلها سلام خالص، بل هى استسلام مطلق لكل ظلم وبغى وعدوان.. هكذا كانت دعوة المسيح، وهكذا كانت سيرته وسيرة حوارييه وأتباعه، تحكمهم جميعا دعوة المسيح المشهورة، والتي تكاد تكون عنوان الرسالة المسيحية: «سمعتم أنه قيل عين بعين، وسنّ بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا» (٥: إنجيل متى).
فماذا كان نتاج هذه الدعوة؟ هل سلم أتباعها من الأشرار؟ وهل كان موقفهم السلبي من المعتدين الآثمين شفيعا يشفع لهم عند هؤلاء المعتدين، أو يخفف ممّا يرمونهم به من ضر وأذى؟ وهل سلم المسيح نفسه إذ سالم الناس، واستسلم لهم؟
الحق أنّ ذلك كان إغراء لأهل السوء بأهل الصلاح والتقوى.. إذ أنهم ما إن علموا بأن المسيح وأتباعه لا يقابلون الشرّ بالشرّ والعدوان بالعدوان، حتى تسابقوا إلى مدّ يديهم إلى هذه المائدة الممدودة، لكل من يريد إشباع شهوته إلى البغي والعدوان، أو إرواء ظمئه إلى التسلط والقهر وإذلال الناس.. فما أكثر الجياع فى الناس إلى البغي والعدوان، وما أكثر الظمأى فيهم إلى التسلط على الناس وقهرهم وإذلالهم..!
فكم لقى المسيح ولقى أتباعه من ضرّ وأذى؟ وكم احتملوا من بلاء
654
وعذاب؟ لقد كانت خطوات المسيح وخطوات أتباعه معه، على طريق ملطخ بالدماء.. دمائه ودماء أتباعه وحدهم.. وليس قطرة دم مراقة من هؤلاء الذين أراقوا دماءهم..
ولحكمة ما أراد الله سبحانه للمسيح أن يأخذ هذا الطريق، وأن يحمل تلك الدعوة، ويجرى تلك التجربة فى الحياة..
إنها دعوة قاسية، تسير فى اتجاه مضاد لسير الحياة.. وقد أرادها الله سبحانه هكذا، لعنة من اللعنات التي صبّها على اليهود وأخذهم بها فى كل مرحلة من مراحل تاريخهم مع الأنبياء والرسل..
فالمسيح- عليه السلام- هو نبىّ إلى اليهود خاصة، ودعوته مقصورة عليهم لا تتعداهم إلى غيرهم «١».. وقد جاءهم المسيح بتلك الدعوة التي إن استقاموا عليها، كان فيها إذلالهم، وجعلهم موطئا لأقدام الناس.. وإن هم أبوا أن يقبلوها، ويأخذوا أنفسهم بها كانوا كافرين بالله، مأخوذين بما أعدّ الله للكافرين من خزى فى الدنيا عذاب مهين فى الآخرة..
وقد أشرنا من قبل «٢» إلى أن الله قد أخذ اليهود بأحكام دينية، غايتها تأديبهم وإعناتهم وإذلالهم، لا إصلاحهم، وتقويمهم.. فقد حرم عليهم العمل فى يوم السبت، كما حرم عليهم ما أحل لغيرهم من طيبات الطعام.. وذلك مما لا تحتمله النفس، أو تصبر عليه.. واليهودىّ من هذا بين أمرين: إما أن يمتثل أمر الله فيه فيهلك، أو لا يمتثله فيكفر.!
(١) انظر فى هذا كتابنا «المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل».
(٢) انظر تفسير الآية: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ..»
(١٤٦: الأنعام).
655
نقول: إن تجربة السّلم أو الاستسلام تلك التي دعا إليها المسيح، وعاش فيها قد كشفت عن حقيقة لا شك فيها، وهى أن الحياة ترفض هذه التجربة، ولا تقبلها كمبدأ من المبادئ العاملة فيها..
والمسيح نفسه قد أنهى هذه التجربة فى الأيام الأخيرة من حياته، وردّ إلى أتباعه وحواريّيه حقهم فى الحياة فى الدفاع عن أنفسهم..
يقول المسيح فى آخر موقف له مع تلاميذه: «حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية.. هل أعوزكم شىء؟ فقالوا: لا، فقال لهم: «ممكن الآن من له كيس فليأخذه. ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا.» (٢٢: لوقا) !! إن السيف أمر لا بد منه لدفع العدوان، ولردع المعتدين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ»..
تلك هى سنّة الله فى خلقه، وذلك هو واقع الناس فيما أخذهم الله به من سنن.
فالقول بأن الإسلام دين قام على السيف، دعوى كاذبة مضلّة، يراد بها النيل من المسلمين ودولتهم، كما يراد بها النيل من الإسلام وشريعته.. إنها دعوة خبيثة مسمومة، يراد بها أن تنهزم فى نفس المسلم معانى العزة والقوة، لأنه إن أراد أن يسقط تلك الدعوى الباطلة، ويدفع هذه التهمة الظالمة، كان أقرب سبيل إليه هو أن يتجرد من كل سلاح، وأن يتعرّى من كل قوة.. وما حاجته إلى السلاح إن كان السّلاح سبّة تدين دينه، وتريه منه أنه دين بداوة وهمجية، وشريعة غاب، يحكم مجتمعها التناطح بالقرون، والتقاتل بالمخالب والأنياب؟
هذه هى الحركة النفسية التي تحدثها تلك الدعوى الماكرة فى نفوس المسلمين، حين يلقون آذانهم إلى هذه التخرصات الفاسدة، التي تجعل القوة التي يبعثها الإسلام فى مجتمعه، شارة دالّة على بدائية هذا الدين وتخلّفه..
656
وتلك الحركة النفسية من شأنها أن تفعل فعلها فى تفكير المسلمين، وفى سلوكهم، فتصرفهم صرفا حادا عن كل سبب من أسباب القوة، وبذلك يخلو الطريق للعدوّ المتربص بالإسلام والمسلمين، فتمكنه الفرصة من التسلط عليهم، والاستبداد بأوطانهم وأرزاقهم.. الأمر الذي وقع على أبشع صورة وأشنعها، إذ وقعت أوطان المسلمين جميعها فريسة للاستعمار، الذي سلط عليها سيف القوة، فسلبها كل مقومات حياتها المادية والخلقية، وكاد يسلبها حياتها الروحية، لولا وثاقة هذا الدين، الذي يجرى فى مشاعر أهله، جريان الدم فى العروق.
والحق أن هذه الدعاوى الباطلة التي يدعيها المدّعون على الإسلام، وأنه دين بداوة وشريعة غاب، يتعامل مع الناس بالظّفر والناب- هذه الدعاوى لا يقف أمرها وخطرها عند حدّ تشكيك المسلمين فى الإسلام وانحلال الرابطة التي تربطهم به أو توهينها، أو فى صرف غير المسلمين عن الالتفات إلى الإسلام، بإثارة هذا الجوّ المريب حوله، حتى لا ينظر فيه أولئك الذين خلت نفوسهم من الدّين، من أهل أوربا وأمريكا، الذين اصطدمت معارفهم العلمية بقضايا الدّين الذي ورثوه ميراثا عن آبائهم وأجدادهم، والذي استبان لهم منه بعد أن عرضوه على أضواء العلم الحديث أنه لا يلتقى مع عقل، ولا يستقيم على منطق، فهجروه، وزهدوا فيه، وأصبحوا على غير دين، الأمر الذي لا يبصرون طويلا عليه، إذ لا بد أن يطلبوا دينا، تعيش فيه مشاعرهم، وتتغذى منه أرواحهم، حيث لا يمكن أن يعيش إنسان- أي إنسان- من غير دين..
وليست موجات الإلحاد التي تغزو أوربا وأمريكا الآن إلا عرضا طارئا، جاء نتيجة لازمة لما كشف عنه العقل الحديث، من مفارقات بعيدة، بين الدّين الذي كان فى أيديهم، وبين منطق العقل، وواقع الحياة..
إن أهل أوربا وأمريكا ينشدون اليوم دينا، يملأ هذا الفراغ الروحي
657
الذي يعيشون فيه، ولو أنهم التقوا بالإسلام على حقيقته، وتعرفوا على موارده الصافية، لما مدّوا أبصارهم إلى دين غيره، ولكانوا من المؤمنين بالله، إيمانا قائما على دعائم ثابتة، تملك عقولهم وقلوبهم على السواء..
وتلك حقيقة يعرفها عن الإسلام أولئك الذين يحاربون الإسلام، ويخشون منه هذا الغزو السلمى المكتسح، الّذى من شأنه- لو قدّر له أن يتصل بالنّاس اتصالا مباشرا من غير أن يثار فى وجهه غبار الضلال ودخان الإفك- أن يقوض سلطان المتسلطين على الناس هناك باسم الدين، وأن يسلبهم هذا الجاه العريض الذي يعيشون فيه.. تماما كما فعل مشركو قريش حين جاءهم الإسلام فأنكره سادتهم وحاربوه، وهم يعلمون أنه الحق من ربّهم، ولكنه الحق الذي يسلبهم منزلتهم فى الناس، ويسوّى بينهم وبين عامة الناس، فآثروا السلطان الذي فى أيديهم، مع العمى والضلال، على الحق الذي عرفوه وأنكروه!.
ومن أجل هذا كانت تلك الحرب المسعورة التي يشنها أصحاب الرياسات الدينية ومن فى حكمهم، على الإسلام، حتى يسلم لهم ما فى أيديهم من جاه وسلطان، ولو هلك الناس، وغرقوا فى الضّلال، ودانوا بالكفر والإلحاد!.
ومع هذا كله، فإن المستقبل للإسلام، وستكشف الأيام وجهه المشرق الوضيء للناس يوما، إن عاجلا أو آجلا، وسيصبح هذا العنوان الذي اتخذه «الإسلام» عنوانا له، وسمة دالة عليه- هو دين الإنسانية كلها، وبهذا يتحقق قول الحق جلّ وعلا: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ»، وقوله سبحانه:
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».
هذه حقيقة نؤمن بها إيماننا بالله، وبدين الله، وبكتاب الله.. وإن هذه
658
الرّميات العمياء التي يرمى بها الإسلام لن تنال منه، ولن تقف فى طريق أنواره أن تملأ الآفاق، وأن تبسط على الأرض سلطانها، لأنها نور من نور الله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».
ونعود إلى قضية السيف التي يدّعيها المدّعون على الإسلام، وأنه قام عليه، وفتح طريقه إلى القلوب به- فنقول:
إنه لو كان أمر الإسلام أمر قوة، لما كان فى الحياة اليوم إنسان يدين بالإسلام، ولما كانت دعوة الإسلام أكثر من حدث من أحداث التاريخ، عاش فى الحياة زمنا، ثم طواه الزمن فيما طوى من وقائع وأحداث.
فهل هذا هو واقع الإسلام؟ وهل هذا هو شأنه فى وقائع الحياة وأحداثها؟
إن الأمر لعلى عكس هذا تماما..
وإن شهادة الواقع لا تحتاج إلى بيان.. فهى ناطقة بأفصح لسان، بأن دولة الإسلام تزداد على الأيام امتدادا واتساعا، وأن زحفه السلمىّ المكتسح لم يتوقف لحظة واحدة، حتى فى أقسى الظروف وأحلكها، التي مرّت بالإسلام وألقت بكل ثقلها عليه..
لقد قطع الإسلام من حياته المباركة أربعة عشر قرنا.. وأنه إذا سلّمنا بالقول بأن الإسلام قام على السيف والقوة، فى أول حياته، فإنه محال أن يسلّم بالقول بأن ذلك السيف وتلك القوة قد صحبا الإسلام، وكانا مستندا له على امتداد هذا الزمن كلّه..
فما عرف الناس فى الحياة قوة تظل حارسة ساهرة لمبدأ من المبادئ أو نزعة من النزعات، أكثر من سنوات معدودات.. لجيل أو جيلين.. أما أن تظل هذه القوّة قرونا متطاولة من الزمن، قائمة على حراسة مذهب من المذاهب، أو نزعة
659
من النزعات، فذلك ما لم يكن ولن يكون أبدا.. فإن القوة إنما تخدم غرضا ذاتيا يعيش فى كيان إنسان من الناس، أو جماعة من الجماعات، ولن تتجاوز حياتها بحال حياة هذا الإنسان أو تلك الجماعة.. ثم يموت المبدأ أو المنزع، بموت القوة التي أقامته، وحرسته! ونفترض جدلا أن تقوم قوة ما لخدمة غاية من الغايات أجيالا متعاقبة، ونفترض جدلا كذلك، أن هذه الأجيال قد تواصت فيما بينها على اتخاذ هذه القوة حارسة على هذه الغاية التي تنشدها وتعيش فيها..
فهل حدث هذا فى المجتمع الإسلامى؟ وهل كانت القوة دائما إلى جانب الإسلام، تحرسه، وتدافع عنه؟
التاريخ يشهد شهادة لا شك فيها- وواقع المسلمين اليوم ينطق بها- بأن دولة المسلمين التي قامت فى صدر الإسلام، والتي كان لها ما كان من قوة وسطوة- هذه الدولة، قد تفككت وانحلت بعد ثلاثة قرون، وعراها الوهن والضعف، وأصبحت دولة الإسلام إمارات ودويلات متنابذة متخاصمة، وخضع كل صقع من أصقاع هذه الدولة، لقوى غاشمة طاغية، تضمر للمسلمين كل عداوة، وترصد للإسلام كل شر..
لقد وقع الإسلام والمسلمون فى وجه عواصف عاتية جائحة، للغزو البربري، الذي كان من شأنه أن يدمر كل شىء، ويأتى على كل شىء، لولا قوة هذا الدين، وما غرس فى أتباعه من معالم الحق والخير.. وحسبك أن تذكر هنا الغزو التترى، أو الغزو المغولى.. فما مرّ أحدهما بمواطن من المواطن إلا أحاله خرابا يبابا.. ثم حسبك أن تذكر الحروب الصليبية، ثم الاستعمار الغربي الذي تسلط على قارتى أفريقيا وآسيا، حتى لقد كانت مواطن الإسلام كلها
660
تحت يده.. فما حلّ الاستعمار بأرض إلا أجدبت من كل خير، وأصبحت مرعى خصبا لآفات الجهل والفقر والضعف.. ومع هذا كله، ومع ما أصاب المسلمين من بلاء، فقد بقي الإسلام فى قلوب أهله متمكنا قويّا، لا يتحولون عنه أبدا، ولو أخذوا بكل ألوان الضر والأذى، فى أموالهم وأنفسهم، أو جىء إليهم بكل مغريات الحياة من مال ونساء على يد المستعمرين والمبشرين..
فتاريخ الاستعمار للدول الإسلامية، يؤلف كتابا ضخما، أسود الصفحات، لما كان يأخذ به المستعمرون الأمم الإسلامية بصفة خاصة، والعربية بصفة أخص، من بغى وعدوان، وتسلط قاهر، على مقومات الحياة فى تلك الأمم، وخاصة ما يتصل بالعقيدة الدينية، وما تلقّاه عنها أهلها من لغة وعادات وتقاليد، وذلك ليضعفوا الصّلات التي تصل المسلمين بدينهم، وليوهنوا من الأسباب التي تربط بين جماعاتهم.. ومع هذا كله فقد بقي الإسلام متمكنا فى القلوب، راسخا فى الضمائر، مختلطا بالمشاعر، لم يسلم للمسلمين شىء غيره، مما كان لهم فى هذه الدنيا، التي سلبهم الاستعمار إياها، أو قتلها، حيث لم يكن له حاجة فيها.. وكان الإسلام دائما هو القوة التي يستند إليها المسلمون، كلّما خذلتهم قوى الحياة جميعا، من علم، ومال، ورجال..
وتاريخ التبشير فى المحيط الإسلامى يحدّث عن أكبر هزيمة، وأعظم خيبة منى بها عمل من الأعمال، أو أصيب بها حركة من الحركات، أو انتهت إليها دعوة من الدّعوات.
فما استطاعت تلك الحملات التبشيرية التي رصدت لها دول أوربا وأمريكا الأموال الضخمة، وجنّدت لها العقول الجبارة- ما استطاعت هذه الحملات أن
661
تنال من الإسلام منالا، أو أن تحوّل مسلما واحدا عن دينه، أو تفتنه فيه، بل كان المسلم الأمّىّ الساذج، يفحم بفطرته السليمة، وبعقيدته السمحة الواضحة كلّ منطق، ويخرس كل ذى لسان، حتى يرفع بصره إلى السماء قائلا:
«لا إله إلا الله».!
فإذا ادّعت حملة من حملات التبشير أنها استطاعت بحولها وحيلتها أن تخرج مسلما عن إسلامه، فقد كذبت وافترت، لتخدع أولئك الذين يمدونها بالمال، كى يدوم لها هذا المدد. فإنها- وقد فاتها الكسب الديني- حريصة على ألا يفوتها الكسب المادىّ من هذا المال الذي يتدفق إليها فى سخاء من كل جهة، وإنه لمال كثير، أثرى به عدد وفير من أدعياء الدين، الذين يتخذون التبشير تجارة لهم، ودعاية للاستعمار، وتمكينا للمستعمرين..
نريد من هذا أن نقول: إن الإسلام بقوته الذاتية، هو الذي حمى المسلمين فى ساعات العسرة، وأمسك بهم على ضربات الزمن القاتلة، وأمدهم بأمداد لا تنفد من القوى الروحية، التي لم تنل منها يد التسلط والبغي، ولم تنفذ إليها ضربات المتسلطين والباغين.. وإنه لولا الإسلام لما بقي لمواطن المسلمين معلم من معالم الحياة، يعرفون به مكانهم فى هذا التيه الذي رماهم الزمن به.
فالمسلمون ليسوا هم الذين وسعوا رقعة الإسلام، ومكّنوا له فى الأرض، ودفعوا به إلى كل أفق من آفاقها، بل الإسلام نفسه هو الذي جعل للمسلمين دولة.. والإسلام نفسه هو الذي غذّى هذه الدولة بأسباب الحياة والنّماء..
والإسلام نفسه هو الذي كان الدرع الواقية والحصن الحصين لأهله، يلوذون به، ويستظلون بجناحه، كلما لفحهم هجير الحياة، وتعاوت حولهم الذئاب..
662
إن الذي كان يمكن أن يكون موضع طعن فى الإسلام لمن تسوّل له نفسه الطعن فيه، هو أن يتجه بذلك إلى مبادئه وأحكامه.. أهي حقّ أم باطل؟ أهي خير ورحمة للإنسانية أم هى شر ووبال عليها؟ وهل سعدت الإنسانية فى ظل الإسلام أم شقيت؟ وهل هذه الملايين التي تدين بالإسلام اليوم مكرهة عليه، وواقعة تحت قوة قاهرة، تحملها عليه، وتلجئها إلى التمسك به؟.
هذا ما كان ينبغى أن يكون مدار هذه الدعوى، إن كان لا بد من دعوى يدعيها أعداء الإسلام على الإسلام..
أما تلك الدعوى الخبيثة التي تتجه اتجاها مباشرا إلى تجريد المسلمين من القوّة، وخلق عقدة نفسية بينهم وبينها، فذلك هو الغرض الذي تحاول تلك الدعوى أن تحقّقه فى المجتمع الإسلامى، ليتعرّى من القوة وأسبابها، وليظل أعزل من كل سلاح، على حين يعمل أعداء الإسلام والمسلمين جاهدين على الإعداد للقوة، والأخذ بكل أسبابها.
ثم ما الإسلام؟ أهو مجرّد مبادئ وأحكام ملقاة فى العراء، لا يلتفت إليها أحد، ولا يتأثر بها إنسان، أم هو مبادئ وأحكام، يؤمن بها الناس، ويعيشون فى ظلها، ويعملون بوحيها؟
وقد يصح أن يكون الإسلام مجرد مبادئ وأحكام، وذلك فى معرض الدراسات النظرية التي تعنى بدراسة الأفكار وتمحيصها، دراسة فلسفية نظرية، بعيدة عن مجال التطبيق العملي لها.
أما حين تصبح هذه المبادئ وتلك الأحكام فى مواطن العقول، وفى قرارة القلوب، وفى خلجات الضمائر، ومسرى المشاعر، فإنها إذا ذاك لا يمكن
663
أن تكون شيئا منفصلا، له حقيقة مستقلة، تقع عليها أحكام خاصة بها.
فدعوى أن الإسلام قام على السيف، لا يمكن أن توجه إلى الإسلام فى مبادئه وأحكامه، وقد رأينا كيف عاش وسيعيش الإسلام بلا سيف ولا قوة، قرونا متطاولة، لا تنتهى إلا بانتهاء الحياة..
وإنما تتجه هذه الدعوى- قبل كل شىء- إلى المجتمع الذي يدين بالإسلام، ويعيش فى ظلّ أحكامه وتعاليمه..
ومع هذا نستطيع أن نقول إن وجه الدعوى يجب أن يكون على هذا الوضع: «المجتمع الإسلامى مجتمع قام على السيف..» وحينئذ يمكن أن تسمع هذه الدعوى، وتكون موضع نظر وبحث..
فالدعوة الإسلامية- فى ذاتها- لم تقم على السيف، وإنما الذي قام على السيف وكان لا بد أن يقوم عليه دائما، هو المجتمع البشرى الذي انضوى تحت لواء هذه الدعوة، ثم امتدّ وامتدّ حتى صار دولة عريضة طويلة، تنتظم شطر العالم أو أقلّ من شطره قليلا.
وطبيعى أن مجتمعا كهذا المجتمع فى الامتداد والسّعة، لا يمكن أن يكون أعزل من السلاح، مجرّدا من القوة.. فإن طبيعة الحياة تأبى أن يعيش الضأن مع الذئاب.. بل لا بد أن يكون هناك توازن فى القوى، وإلّا، فالويل للضعيف! إن المجتمع الإسلامى- كأى مجتمع فى الحياة- له ذاتيته المتميزة، وله وجهته وفلسفته فى الحياة.. وطبيعى أن تقوم فى ظلّ هذه المعاني عصبية، هى التي تجتمع عليها الأمم والشعوب، وتقيم منها وحدة مميزة فى مشاعرها، ومنازع أفكارها، ومتجه سلوكها.. كما كان لا بد أيضا أن يتعصب على هذه الأمم وتلك الشعوب أعداء يخافون قوتها، أو يطمعون فى ضعفها، ومن هنا يكون الصراع الذي
664
لا بد منه فى الحياة، والذي لا بد له من قوة، ولا بد لهذه القوة من سيف، بل ومن سيوف! ونعود فنذكّر من نسى، فنقول: إن اليوم الذي تخلّى فيه المسلمون عن القوة، كان هو اليوم الذي فيه حينهم ومصرعهم، بأيدى من يملكون القوة..
ثم لم يكن للمسلمين من قوة يستندون إليها إلا الإسلام، الذي منحهم الإيمان، والصبر، والعزم، وعمر قلوبهم باليقين بأن شاطىء النجاة قريب منهم، إن هم تمسّكوا بدينهم، وقاموا على شريعته، وأخذوا بهديه، والتمسوا أسباب القوة المادية التي أمرهم الله بها فى قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» إلى جانب القوة الروحية التي عمر الإسلام قلوبهم بها.. ومن خلال هذه المشاعر كانت تنقدح فى صدور المسلمين شرارات الأمل والرجاء، فيشتدّ عزمهم، ويقوى إيمانهم، وتذهب وحشتهم، وهم فى صحبة دينهم، وفى ظلّ مما يفىء عليهم من خيره الكثير.
فلنحذر إذن هذه الدعوى الخبيثة، التي تجعل من تهم الإسلام عندها، أنه قام على السيف، ولنعدّل موقفنا تجاه هذه الدعوى، فإننا- عن حسن نية- قد علمنا جاهدين على دفعها، وتبرئة ساحة الإسلام منها، كما أننا حمدنا لبعض المستشرقين- ونواياهم معروفة- ما كان منهم من دفاع فى تبرئة ساحة الإسلام من هذه التهمة!! فليكن الإسلام قام على السيف أو لم يكن، وإنما الحقيقة التي لا جدال فيها هو أننا الآن- أمم المسلمين- ندين بالإسلام.. دينا فى قلوبنا، ينير طريقنا فى الحياة، ويسدّد ويثبت خطانا على مواقع الحقّ، كما أننا ندين أو يجب أن ندين بالقوة، سلاحا فى أيدينا نحمى به مجتمعنا، ونصون بها مقدّساتنا، وندفع بها يد المعتدين على أوطاننا..
665
الآيات: (٦٤- ٦٦) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
التفسير:
المسلم.. وكم حسابه فى ميدان القتال؟
السلاح ليس هو كل شىء فى القتال، وتحقيق النصر.. وأعداد المقاتلين وكثرتهم، ليست هى الميزان الذي يرجح به جيش على جيش.. وإنما الذي يجعل للسلاح أثره وفاعليته، ويقيم للكثرة وزنا وقدرا، هو درجة الإيمان التي يكون عليها الطرفان المتقاتلان..
فالإيمان حين يعمر قلب المؤمن، ويملك عليه مشاعره- يجعل العصا التي فى يد المؤمن أكثر مضاء، وأقوى أثرا من السيف فى يد غير المؤمن، أو من هو أضعف إيمانا منه.
ومن هنا كان من منن الله سبحانه وتعالى على نبيّه أن جعل أولياءه الذين يدفعون العدوّ عن دعوته، جندا مسلحين بالإيمان والتقوى، بعد أن تسلحوا بالسلاح، وأعدوا للعدو ما يرهبونه به، من القوة ومن رباط الخيل..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
666
إشارة إلى هؤلاء الجند الذين أقامهم الله سبحانه جنودا لنصرة النبىّ، ودفع يد الباغين عليه، المتسلطين على دعوته..
وإنه ليكفى النبىّ كفاية مطلقة أن يكون الله سبحانه وتعالى حسبه وكافيه، فهو فى ضمان وثيق من الحماية التي لا تغفل أبدا، ولا تقف لقوتها قوة أيّا كان بأسها، وكانت سطوتها..
وإذن فما تأويل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ؟ وما داعية عطف المؤمنين على لفظ الجلالة؟ وهل قوة الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى قوة تسند وتعين؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
والجواب- والله أعلم- أن فى هذا العطف تشريفا وتكريما للمؤمنين، إذ أن في هذا العطف وصلا لهم بالله سبحانه وتعالى، وجعلهم نفحة من نفحات رحمته، وجندا من جنوده التي يدافع بها عن الحق، ويدفع بها فى وجه الباطل:
«أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى إضافة المؤمنين إلى النبىّ، بمعنى: يا أيها النبىّ حسبك الله، وحسب المؤمنين، أي يكفى أن يكون الله ناصرا لك وللمؤمنين.. وهذا معنى لا نرضاه، إذ يدفع عن المؤمنين هذا التكريم الذي اختصهم الله به، بل ويذهب بما جاء فى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» ! وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» هو تشريف للمؤمنين، ودفع لقدرهم، وأنهم- بما فى قلوبهم من إيمان- فى منزلة لا ينالها الكافرون والمشركون، وأن الواحد منهم يرجح عشرة من هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله.
667
والأمر بتحريض النبىّ للمؤمنين على القتال، إنما جاء بعد أن أمروا بأن يعدّوا لقتال العدوّ ما استطاعوا من عدد الحرب ووسائل القتال، من سلاح، وعتاد، وخيل.. وذلك بعد أن أعدّوا الرّجال الذين راضوا أنفسهم على الجهاد فى سبيل الله، ووطنوها على الاستشهاد ابتغاء مرضاة الله..
فإذا جاء النبيّ بعد هذا يحرّض المؤمنين على القتال، ويستحثهم له، ويغريهم به، وجد قلوبا صاغية إليه، ونفوسا مستجيبة لما يندبهم له، إذ كان إنما يدعو مؤمنين استجابوا للحرب، ويستحث جنودا أعدوا أنفسهم للحرب، ورصدوها للدفاع عن دين الله، وملئوا أيديهم بالسلاح، كما ملئوا قلوبهم بالإيمان.
وفى قوله تعالى: «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ» - أمور.. منها:
أولا: هل هذا الشرط خبر فى لفظه ومعناه.. بمعنى أن المراد به الكشف عن قدر المؤمنين، وما بينهم وبين الكافرين من بعد بعيد فى القوة..
أم أنه خبر أريد به الأمر والإلزام، بمعنى أنه مطلوب من المؤمنين ديانة وشرعا، أن يثبت فى ميدان القتال لعشرة من الكافرين.. فإن فرّ، أو نكل كان آثما.. ؟
أجمع المفسّرون على أن هذا الشرط خبر مراد به الأمر، وأن واجبا على المسلم أن يثبت للعشرة من العدوّ فى ميدان القتال، وأن يغلبهم، فإن فرّ أو نكث كان آثما، بل ذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فقال: إن المسلم إذا لم يقتل العشرة، بل قتل هو، كان آثما، لأنه لم يحقق ما أمره الله به، وهو أن يغلب العشرة، لا أن يثبت لقتالهم وحسب!
668
وهذا الرأى الذي أجمع عليه المفسّرون قائم على أن هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها، وهى قوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً..».
وسنعرض لقضية القول بالنسخ، بعد هذا..
والذي نراه- والله أعلم- أن هذا الشرط هو خبر فى مبناه، ومعناه، ومفاده.. وأن هذا الخبر قد جاء تعقيبا على أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ، بتحريض المؤمنين على القتال، وإغرائهم به، ليهوّن على المسلمين أمر القتال، وليخفف عنهم بعض ما يقع فى نفوسهم من تكره له، حين يرون قلّتهم وكثرة العدوّ المتربص بهم.. فإذا علموا أنّهم بإيمانهم بالله، وبتأييد الله لهم، أن الواحد منهم يغلب عشرة من الكافرين، طمعوا فى أعدائهم، واستقبلوا الدعوة إلى لقائهم، على رجاء وأمل فى الظفر بهم.
وثانيا: لم كان وزن المؤمنين فى هذه الآية بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. ثم كان وزنهم فى الآية التي بعدها، بحيث يغلب الواحد منهم اثنين من عدوّهم؟
يقول أكثر المفسّرين: إن ذلك كان والمسلمون قليلون، وذلك فى أول الإسلام، فكان فرضا عليهم أن يحملوا هذا العبء الثقيل، وأن يقف الواحد منهم لعشرة من العدو، ويتغلب عليهم.. فلما كثر المسلمون بعد هذا، خفف الله عن المسلمين الأولين ما فرضه عليهم أول الإسلام، فبدلا من أن يلقى الواحد منهم عشرة ويغلبهم، أصبح المطلوب منه أن يصمد لاثنين فقط ويتغلب عليهم.!!
669
وهذا يعنى أن الآية الثانية جاءت ناسخة للحكم الذي تضمنته الآية الأولى..
والذي نقول به- والله أعلم- أن الآيتين محكمتين، لا نسخ فيهما، ولا تناسخ بينهما.. وذلك أن الحكم الذي تضمنه الشرط فى الآيتين وارد فى صيغة الخبر، والمعروف عند الذين يقولون بالنسخ، أنه لا تناسخ بين الأخبار ولا يرد هذا قولهم: إن الخبر يراد به الأمر هنا، فهذا القول منهم لا حجة لهم عليه، إلا القول بأن الآيتين متناسختين، وذلك يقضى بأن يكون الحكم فيهما واردا فى غير خبر.. فلزم لذلك أن يخرج الخبر عن معناه إلى معنى الطلب..
فالحجة على النسخ، هى القول بالنسخ.. وإذن فلا حجة! ومن جهة أخرى.. فإن القول بالنسخ يقضى بأن يكون بين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- مسافة زمنية، بحيث يكون لتغيّر الحكم ونسخه بحكم آخر مقتض اقتضاه تغيّر الحال بامتداد الزمن.. وليس هناك دليل يدل على أن فارقا زمنيا وقع بين نزول الآيتين.. بل ظاهر الآيتين ينبىء عن أنهما نزلتا معا فى وقت واحد.. وقد قيل إنهما نزلتا فى غزوة بدر، وقيل قبل بدء القتال.. وهذا قول يقول به القائلون بالتناسخ بين الآيتين ويقررونه! فالآية الأولى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..» هذه الآية هى إخبار عن حال المؤمنين فى الوقت الذي خوطبوا فيه بها، وأنهم يحملون من طاقات القوى الروحية والنفسية بما فى قلوبهم من إيمان وتقوى، بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. إذا حقّق معنى «الصبر» الذي هو قيد للشرط.
هذا ما سمعه المسلمون يؤمئذ من خطاب الله سبحانه وتعالى لهم، فانكشف لهم منه ما أودع الله فيهم- بسبب إيمانهم- من تلك القوى العظيمة التي
670
يجدونها معهم، وفى هذا ما يريهم فضل الله عليهم، وتكريمه لهم، وأنهم موضع لرحمة الله، ومغرس كريم لآلائه ونعمائه..
وتلك نعمة جليلة من نعم الله، وبشرى مسعدة مما يبشر الله به عباده المؤمنين.. ومن تمام هذه النعمة، وكمال هذه البشرى أن تتبع النعمة بنعمة، وأن ترفد البشرى ببشرى، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة بعد هذا:
«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» وهذا الخبر الذي تلّقّاه المسلمون من هذه الآية هو خبر على حقيقته، لم يقصد به الأمر، بأن يكلّف المسلم التغلب على اثنين من الكافرين بدلا من عشرة.. بل إن هذا الخبر يثير فى نفس المسلم شعورين:
أولهما: الإحساس بأنه وإن كان فى كيانه من القوّة ما يقوم لعشرة من الكافرين، فقد عرضت له عوارض من خارج نفسه، قد أخذت من تلك القوة لحسابها، حتى تتوازن، وتحتفظ بأدنى مستوى من القوة يكون عليها المؤمن فى قتاله للكافرين..
ذلك أن هذا الضعف الذي ورد على المسلمين لم يكن مؤثّرا على تلك الجماعة التي التقى بها الإسلام على أول الطريق، والتي آمنت به إيمانا اشتمل على وجودها كلّه.. فهذه، الجماعة لم تزدها صحبتها للإسلام إلّا قوة إلى قوة، ويقينا إلى يقين.. وإنما جاء الضعف إليها مع أولئك الذين دخلوا فى دين الله أفواجا، فآمنوا كما آمن الناس، متابعة لرؤسائهم وأصحاب الكلمة فيهم، دون أن يتعرّفوا إلى الإسلام، وأن يخلطوا أنفسهم به، ويضيفوا وجودهم إليه..
671
وهؤلاء كانوا معظم الأعراب الذين يقول الله سبحانه فيهم: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (١٤: الحجرات).
ولهذا فقد ارتدّ كثير منهم عن الإسلام، بعد وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إذ لم يك الإيمان قد دخل قلوبهم وسكن إليها.
فهؤلاء مسلمون قد دخلوا فى صفوف المسلمين، وحاربوا مع المؤمنين، فلم يكن فيهم من القوى الروحية ما يرفعهم كثيرا عن المشركين، ويجعل قوة الواحد منهم تعدل قوة رجلين من العدوّ، فضلا عن عشرة.. ولهذا أضيف حسابهم إلى حساب الصفوة المختارة من المسلمين، من صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار، الذين كانت ولا تزال قوة الواحد منهم تعدل عشرة من الكافرين.. وبهذا صار حساب المسلمين فى مجموعهم قائما على هذا التقدير:
الواحد منهم باثنين من عدوّهم.. على حين أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما زال الواحد منهم يرجح فى نفسه عشرة من الكافرين..
بل وأكثر من هذا.. فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكونوا على درجة واحدة فى هذه القوة.. بل كان فيهم من يرجح العشرين، والثلاثين بل والمائة من العدوّ، على حين كان فيهم من يرجح الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة، أو العشرة.. فإذا أضيف حساب بعضهم إلى بعض كانوا فى مجموعهم على هذا التقدير الذي أخبر القرآن الكريم به، وهو أن الواحد منهم يرجح عشرة من عدوهم..
وهذا هو السرّ فى أن المؤمنين قد لبسوا صفه واحدة، وحسبوا كيانا واحدا فى قوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ»، ولم يجىء الخبر القرآنى عنهم بلفظ المفرد.. هكذا: الواحد منكم يغلب عشرة..!
672
وهذا هو السرّ أيضا فى أن حساب المؤمنين كان فى أول الأمر محصورا فى أعداد قليلة.. عشرين ومائة، على حين كان بعد ذلك مدلولا عليه بالمئة والألف.. إذ كانوا فى الأول أعدادا قليلة فى مجموعهم، ثم تضاعفت هذه الأعداد، فكانت ألوفا ألوفا..
وثانى الشعورين اللذين يجدهما المسلم من قوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... » - أنّه على أية حال يكون عليها المسلمون- فى مجموعهم- من الضعف، فإنهم أرجح كفّة من عدوّهم فى مجموعه، وأن جماعتهم المقاتلة تغلب الجماعة المقاتلة لها ولو كانت مثليها فى العدد.. وهذا ميزان المسلمين المقاتلين دائما، فى أي حال، بل وفى أسوأ حال.. لأنهم إنما يقاتلون فى جبهة الحق، ومن أجل قضية الحقّ.. وهذا من شأنه أن يقيم فى كيانهم شعورا بأنهم إنما يقاتلون لله، وفى سبيل الله، لا لأنفسهم، ولا لدنيا يريدونها.. فهم- والحال كذلك- جند من جند الله... يمدّهم الله بعونه، وتأييده، ونصره..
وهذا ما يشير إليه تعالى، فيما كان عليه المؤمنون والمشركون فى غزوة بدر، إذ يقول سبحانه: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (١٣: آل عمران).
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» ليس مرادا به رفع حكم كان واقعا على المؤمنين، ملزما لهم، حيث كان الواحد منهم مطالبا بقتال وقتل عشرة من العدو، ثم أصبح مطالبا بقتال وقتل اثنين- بل إنه إلفات للمسلمين إلى ما أمدهم الله سبحانه وتعالى به من أنصار وأعوان، حين كثّر أعدادهم، وأنهم الآن ليسوا هم وحدهم الذين يحملون عبء الدفاع عن الدعوة الإسلامية، فى وجه عدو يملأ وجه الأرض حولهم، فقد كثرت
673
أعداد المسلمين معهم، وإن كانوا أضعف منهم إيمانا، وصبرا على مكاره الحرب، واستبسالا فى لقاء العدوّ.
فالآية الأولى خبر، يكشف عن حال، والآية الثانية، خبر آخر يكشف عن حال أخرى.
وعلى هذا تظل الآيتين تحدثان عن حالين من أحوال المسلمين، حالهم حين يكون إيمانهم على هذا المستوي الذي كان عليه المسلمون الأولون السابقون من المهاجرين والأنصار.. وحالهم حين يضعف إيمانهم فتعرض لهم عوارض الضعف والوهن فى لقاء عدوّهم.
وهذا من شأنه ألا يقطع الأمل فى نفوس المسلمين بأن ينشدوا القوة دائما، وأن يلتمسوها فى الإيمان والصبر، وأنه كلما قوى إيمانهم وصبرهم قويت شوكتهم، واشتدت على العدوّ وطأتهم، وكان حساب الواحد منهم راجحا بعشرة من العدو المقاتل لهم..
فإذا كانت جماعة من جماعات المسلمين فى صقع من أصقاع الأرض، تقاتل فى سبيل الله، وكانت فى قلة ظاهرة أمام عدوّ كثيف العدد، فإنّ لها أن تنشد المدد من الإيمان بالله، وأن تنظر إلى نفسها على ضوء قول الله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» فإن هم فعلوا ذلك، وأخلصوا النية والعمل لله، حققوا هذا الوصف الذي وصف الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين خلت نفوسهم من الضعف، والوهن..
وقد فعل المسلمون هذا فعلا، فى سيرتهم مع الإسلام، وفى انتصارهم على أعداد تكثرهم أكثر من عشرة أضعاف.
فإن كنت فى شك من هذا فاسأل التاريخ.. بكم من المسلمين فتح
674
خالد بن الوليد مملكة فارس؟ وبكم من المسلمين فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الروم؟
وكم كانت أعداد المسلمين الذين فتح بهم عمرو بن العاص مصر؟
وبكم من المسلمين اقتحم طارق بن زياد بلاد الأندلس، واستولى على زمام الأمر فيها؟
وجواب التاريخ هنا شهادة قاطعة بأن المسلم إذا استنجد بإيمانه بالله، كان وحده كتيبة تغلب العشرات، لا العشرة من جند العدوّ..
ونسأل:
ترى لو فهم المسلمون هاتين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- على أنهما حكمين، ملزمين لهما.. أكان هذا الذي كان منهم، فيما يحدّث به التاريخ عنهم فى ميدان القتال؟ وفيما حققوه من نصر مبين على أعدائهم الذين التقوا بهم فى أكثر من ميدان، وهم قلة قليلة فى وجه أعداد كثيرة، إذا أحصيت كان المسلم محسوبا فيها بحساب عشرات وعشرات؟.
وفى قوله تعالى فى وصف العدو المقاتل للمؤمنين: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ما يكشف عن الفارق الذي فرق بينهم وبين المؤمنين، حتى كان المؤمن يغلب عشرة منهم، وقد يكون فى هؤلاء العشرة من هو أقوى قوة، وأمتن بناء، وأشدّ ساعدا..
ذلك أن المشركين، والكافرين من أعداء المؤمنين «قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» أي لا يسكن إلى كيانهم إيمان بالله، وباليوم الآخر، فهم حين يقاتلون إنما يقاتلون على مخاطرة بحياتهم التي يحيونها فى الدنيا، ولا تخطر يبالهم خاطرة أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أخلد وأبقى، وأطيب وأهنأ لمن آمن واتقى... ومن هنا كان حرصهم على ما فى أيديهم من حياة حرص الشحيح على شربة ماء تقع ليده
675
على ظمأ، فى صحراء.. ومن هنا أيضا كان جبنهم فى مواقف القتال، وانحلال عزائمهم، وزيغان أبصارهم، وتطاير قلوبهم هلعا وفزعا.
هذا، على حين أن المؤمن يقاتل وهو على «فقه» بالموقف الذي يقفه، وأنه صائر به إلى إحدى الحسنيين، إما النصر الذي يكتب به للإسلام عزّا، وينال به عند الله أجرا، وإما الاستشهاد الذي ينتقل به إلى دار خير من داره، وإلى عالم أكرم وأطيب من عالمه، حيث ينطلق فى رحاب الله، ينعم بما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
الآيات: (٦٧- ٧١) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
التفسير: قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ».
نزلت هذه الآية فى غزوة بدر، وفى شأن الأسرى الذين وقعوا فى يد المسلمين من مشركى قريش، وكانت عدّتهم سبعين أسيرا..
676
وقد استشار النبىّ أصحابه فى شأنهم، إذ لم يكن قد جاءه أمر سماوى فيهم، فاختلف الصحابة فى المعاملة التي يعاملونهم بها.. فقال بعضهم بقتلهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، وتوهينا لشوكة المشركين، بالقضاء على القوة العاملة فيهم، إذ كان هؤلاء الأسرى وجوه القوم وسادتهم.. وينسب هذا الرأى إلى عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن رواحة- رضى الله عنهما.. وقال بعض الصحابة باستبقائهم وأخذ الفدية منهم، إبقاء على أواصر القربى، وإعانة للمسلمين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، بما يؤخذ منهم فدية.. وينسب هذا الرأى إلى أبى بكر الصديق.. رضى الله عنه.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرأى القائل باستبقاء الأسرى وقبول الفدية منهم..
ثم أخذ- صلوات الله وسلامه عليه- الفدية من بعض الأسرى، ثم كان لا يزال ينتظر ما فرض على بعضهم منها، حين نزل قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ»..
والإثخان فى الأرض: التسلط عليها والتمكن منها بالقوة.. يقال أثخن فلان أي جرح فى القتال جرحا شلّ حركته، وأبطل عمله فى الحرب، ومنه قوله تعالى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» (٤: محمد) وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ توجيها غير مباشر فى قوله تعالى «ما كانَ لِنَبِيٍّ» تكريم ربانىّ للنبىّ الكريم، إذ لم يوجّه إليه سبحانه الخطاب فى صيغة محددّة، مباشرة هكذا.. «ما كان لك أيها النبي» مثلا..
677
وفى توجيه اللوم إلى المؤمنين بقبول الفدية فى قوله تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» تكريم بعد تكريم لمقام النبىّ، وعدم مواجهته بما يسوؤه..
والعرض: خلاف الجوهر، وعرض الدنيا، متاعها الزّائل.. والدنيا كلّها عرض زائل بالنسبة للآخرة.
وفى قوله تعالى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» عتاب للنبىّ والمؤمنين، على ما كان منهم من قبول الفدية، وأنهم ما كان لهم أن يقبلوا فدية من هؤلاء الأسرى، بل كان ينبغى أن يكون حكمهم فيهم هو القتل.. لأنهم كانوا فى أول صدام لهم مع المشركين، وكان مكانهم فى الأرض لا يزال قلقا مهددا بقوى البغي المسلطة عليهم..
فكان من التدبير أن يضعفوا عدوّهم بقتلهم، ما أمكنتهم الفرصة فيهم، حتى تتراخى يد العدوّ عنهم، وتثبت أقدامهم على الأرض.. وعندئذ يجوز لهم أن يبقوا على الأسرى، وأن يقبلوا الفدية منهم..
ومن جهة أخرى، فإن المسلمين كانوا مع أول تجربة ذاقوا فيها طعم النصر على العدوّ، فلا ينبغى أن يكون أول ما يطعموه من هذا النصر هذا العرض الزائل، فذلك من شأنه أن يجعل للمغانم سلطانا على نفوسهم فى حربهم للعدوّ، الأمر الذي كان من تدبير الحكيم العليم معهم، أن يحرمهم منه أول الأمر، إذ جعل أنفال معركة بدر كلّها ليد النبىّ، يضعها حيث يشاء.
والسؤال هنا: هل من إنسانية الإسلام أن يقتل الأسرى، ويعمل فيهم السيف، وقد صاروا ذمّة فى يد المسلمين؟
والجواب على هذا: أن ذلك كان فى أول معركة من معارك الإسلام،
678
وأن هؤلاء الأسرى كانوا- فى جملتهم- معروفين للنبىّ والمسلمين، بكيدهم للإسلام، وعدوانهم على المسلمين، وتنكيلهم بهم حتى أخرجوا من ديارهم وأموالهم.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت حكم المفسدين فى الأرض، المحاربين لله ورسوله، وفيهم يقول الله تعالى:
«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٣٣- ٣٤: المائدة) وقد أهدر النبىّ دم بعض المشركين الذين كانوا على تلك الصفة، فقتل اثنين من الأسرى، صبرا، وهما عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث.
والكتاب المشار إليه فى قوله تعالى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - هو ما قضى الله به سبحانه وتعالى فى سابق علمه، وهو العفو عن الذنب إذا لم يكن قد جاء حكم إلهى بتحريمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (١١٥: التوبة).
ولهذا جاء قوله تعالى بعد هذا العتاب، حاملا الصفح الجميل، مزكّيا ما فعله النبىّ والمؤمنون، فقال سبحانه: «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» فهو الحلال الذي لا حرمة فيه، الطيّب الذي لا خبث معه.. وكان هذا إيذانا للنبىّ ﷺ بأن يمضى فيما قضى به فى شأن الأسرى، وأن يقبل فداء من لم يأخذ منه فدية بعد، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ
679
مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً..»
الآية.. فهذا يعنى أنه إلى حين نزول هذه الآيات كان بعض الأسرى فى يد المسلمين لم يطلق سراحهم بعد..
وفى قوله تعالى: «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - فى هذا عزاء ومواساة من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأسرى، الذي أصيبوا فى أهليهم، بمن قتل منهم فى بدر، وها هم أولاء يصابون فى أموالهم بما يؤخذ منهم من فدية.. وفى هذا العزاء ما يذهب بكثير مما فى نفوسهم من أسى ومرارة، وما فى قلوبهم من ضغينة وحقد على الإسلام والمسلمين، إذ يرون فى هذا العزاء الإلهى دعوة إلى التصالح والتفاهم والالتقاء بالإسلام، والمواخاة للمسلمين، وأن الله سبحانه وتعالى ليس ربّ المسلمين وحدهم، بل هو ربهم، وربّ العباد جميعا، وربّ كل شىء، وخالق كل شىء، وأن الإسلام ليس من حظ هؤلاء المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله، وكان لهم من الله هذا النصر الذي رأوه بأعينهم رأي العين فى بدر- بل إنه حظ مشاع بين الناس جميعا، من سبق منهم ومن لم يسبق، وأن الناس جميعا مدعوون إليه فى كل وقت إلى يوم القيامة! وعلى هذا التقدير، وبهذا الحساب- تكون معركة بدر ليست نصرا للمسلمين الذين قاتلوا فيها، وإنما هى نصر للإسلام، ونصر لكل مسلم دخل أو يدخل فى الإسلام، لأنها ليست لحساب شخص أو قبيلة، وإنما هى لحساب هذا الدّين الذي يرتفع بمبادئه فوق الأشخاص والقبائل، ويتخطّى بشريعته حدود المكان والزمان..
وفى قوله تعالى: «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ..».
680
فى هذا يسأل عنه وهو: كيف يعلّق علم الله تعالى بما فى قلوبهم، على شرط؟
وهو سبحانه وتعالى يعلم ما فى القلوب قبل أن توجد القلوب وأصحاب القلوب؟
والجواب- كما قلنا فى أكثر من مرة- أن تعليق علم الله بأفعال العباد لا يعنى بحال ما ماهو واقع فى علم الله مما سيفعله العباد، ولكن المراد بهذا التعليق هو العلم الواقع على الأفعال حال وقوع هذه الأفعال من المكلفين..
فعلم الله سبحانه بهذه الأفعال علم متصل بها فى جميع أحوالها وأزمانها، فهو عالم بها قبل أن تحدث وتقع من أصحابها، وعالم بها بعد أن تقع وتحدث، وتعليق علم الله سبحانه بحدوثها ووقوعها، هو إلفات لأصحابها، وإلى علم الله بهم وبأفعالهم وهم متلبسون بها، ومحاسبون عليها.
وفى قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو وعد كريم لمن ينظر لنفسه من هؤلاء الأسرى، ويخلص بها إلى الله، ويدخل فى دين الله، وعندئذ سيشارك المسلمين فيما سيفتح الله به عليهم، وما يقع لأيديهم من غنائم.. وأكثر من هذا، فإن الله سبحانه وتعالى سيقبلهم فى المقبولين من عباده، ويغفر لهم ما كان منهم من عداوة للإسلام، وأذى للمسلمين.
قوله تعالى: «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو وعيد لأولئك الذين لم يستجيبوا لهذا النداء الكريم، وهذا الصفح الجميل من رب العالمين، فأمسكوا على ما فى قلوبهم من عداوة وضغينة وطووا صدورهم على الثأر والانتقام- فهؤلاء إن يخونوا الرسول، فإنهم قد خانوا الله من قبل، بأن كفروا به، وهو ربهم، وخالقهم، ورازقهم، فإذا خانوا الرسول بعد هذا، فليس ذلك بالشيء الغريب عليهم، فكفرهم بنعم المنعم
681
عليهم طبيعة فيهم.. وهم بهذه الخيانة لله قد جنوا على أنفسهم، فأمكن الله منهم، أي انتقم الله منهم، وساقهم إلى ما هم فيه من أسر. ولو أنهم لم يخونوا الله، واستجابوا لدعوة الإيمان لعافاهم الله من هذا البلاء.. فإن ظلوا على ما هم عليه من خيانة لله، وخيانة للرسول، فسيرون من البلاء والنكال أكثر مما رأوا «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما فى قلوبهم «حكيم» فيما يقضى فيهم، وما يأخذهم به من عقاب.
الآيات: (٧٢- ٧٥) [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
التفسير: مناسبة هذه الآيات للآيات التي قبلها، هى أن المؤمنين والمشركين كانوا بعد تلك المواجهة التي شهدوها فى بدر- كانوا قد تحددت معالمهم،
682
واستعلنت مواقفهم، وإذا هم جبهتان متقاتلتان، وفريقان متخاصمان، كل منهما يطلب الآخر، ويقتضيه ما يقتضى الغريم من غريمه..
وقد ذكرت الآيات السابقة مراحل هذا الصراع الذي كان قائما بين الفريقين، وعرضت أحداث بدر وما وقع فيها، وما أحرز المسلمون من نصر، وما منى به المشركون من هزيمة، ثم عرضت المغانم والأسرى وما قضى الله فيهما.
فكان من المناسب أن تختم السورة بهذه الآيات التي تخطط الحدود، وترسم المواقع والمواقف التي يأخذها المؤمنون من الكافرين حتى يكونوا على بيّنة من أمرهم، فيما يأخذون أو يدعون من الجبهة المقاتلة لهم.
وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».. هو بيان لحكم الجماعة الإسلامية فيما بينها، فهم- المهاجرون والأنصار- جبهة واحدة، وكيان واحد، يجمعهم هذا النسب الكريم الذي انتسبوا له، وهو الإسلام، الذي يعلو كل نسب، ويفضل كل قرابة.
فمن أجل الإسلام هاجر المهاجرون، ومن أجل الإسلام جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله. وفى سبيل الله آوى الأنصار المهاجرين وشاركوهم أموالهم وديارهم، وفى سبيل الإسلام انتصروا لهم ونصروهم..
فهؤلاء جميعا- من مهاجرين وأنصار- بعضهم أولياء بعض، ينصر بعضهم بعضا، ويحامى بعضهم عن بعض، ولو حملهم ذلك على لقاء آبائهم وأبنائهم وقتالهم وقتلهم فى سبيل الله.
وهناك مؤمنون، ولكنهم لم يهاجروا، قد حبستهم قريش، أو منعهم
683
مرض أو شيخوخة، أو حرص على الديار والأموال، أو إيثار للعافية والسلامة.
فما حكم هؤلاء المؤمنون؟ وما وضعهم فى المؤمنين من المهاجرين والأنصار؟
إنهم لا شكّ أعضاء فى هذا الجسد الإسلامى الجديد، الذي تبرز سماته فى المهاجرين والأنصار. ولكن كان الإسلام فى دور البناء للمجتمع الإسلامى، وكان من أجل هذا فى مسيس الحاجة إلى كل يد عاملة لدعم هذا البناء، ورفع بنيانه- الأمر الذي جعل الهجرة إلى المدينة التي آوى إليها الرسول، واتخذ منها مركزا لدعوته، أمرا له قدره وأثره فى رفع درجة المؤمن، وتشريفه بهذا المقام الكريم الذي أفرد الله سبحانه وتعالى به المهاجرين، وجعل لهم وللأنصار ذكرا طيبا، جاء به القرآن الكريم أكثر من موضع..
من أجل هذا، فإن الذين آمنوا ولم يهاجروا- لعلّة أو لأكثر- لم يكن حسابهم قائما على هذا التقدير الذي يسوّى بينهم وبين المهاجرين، أو الأنصار..
إذ كان المهاجرون، مؤمنين، ومعهم مع إيمانهم هجرة، وكان الأنصار مؤمنين، ومعهم مع إيمانهم أنهم آووا ونصروا.. أما المؤمنون الذي حبستهم أعذارهم عن الهجرة، فإنهم لم يضيفوا إلى إيمانهم شيئا مما فعله المهاجرون أو الأنصار.. فهم والحال كذلك ليسوا بالّذين يدخلون فى ذمّة المؤمنين فى هذه المرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية، بحيث يمنعونهم من عدوّهم، ويدفعون عنهم ما يعرض لهم من ظلم وبغى، وهم فى ديار الظالمين.. وحسب المهاجرين والأنصار فى هذه المرحلة من مسيرة الدعوة الإسلامية- حسبهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يدفعوا البغي المتسلط عليهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا».. وفى هذا تخفيف عن الجماعة الإسلامية، وإعفاء لها من حمل عبء فوق أعبائها، وهو الدفاع عن الأفراد
684
أو الجماعات الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل ظلّوا بين أهليهم وأقوامهم الذين ينظرون إليهم نظرات مغيظة حانقة، ترمى بالضر والأذى.
ولو دخل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا- لو دخلوا فى ذمة المؤمنين وفى ولائهم، لكان على المؤمنين الانتصار لهم من كل ظلم، والحماية لهم من كلّ عدوان، وهذا يجعل الجماعة الإسلامية- مع ما هى عليه من قلة عدد يومئذ- فى وجه حرب متصلة، مع قبائل العرب جميعا، حيث كان فى كل قبيلة فرد أو أفراد من الذين آمنوا، واستجابوا لله وللرسول.. وكان وضع هؤلاء الأفراد فى أقوامهم محفوفا بالمكاره، متصلّا بالضرّ والأذى، فلو دخلوا فى ذمة المسلمين لكان على المهاجرين والأنصار، نصرهم ودفع الضر عنهم.
وفى قوله تعالى: «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ».. هو بيان للحال التي يجب على جماعة المسلمين أن ينتصروا فيها لمن يستنصر بهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، وتلك الحال هى أن يكون استنصار المستنصرين بهم من أجل الدّين، ولحساب الدّين، لا لعصبية نسب أو قرابة أو حلف.
ومعنى الاستنصار فى الدين أن يجد هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا، فرصة سانحة لنصرة الدين، فى مواطنهم التي هم فيها، كأن تجد تلك الجماعة التي لم تهاجر، قدرة على دفع عدوان المعتدين عليها ولكنها تحتاج إلى مساندة عدد من المسلمين- عندئذ يجب على الجماعة الإسلامية أن تناصرها وتشدّ ظهرها بالرجال والسلاح.. ففى هذا انتصار لدعوة الإسلام، وتمكين لها فى هذا الموطن الجديد..
هذا، وقد ذهب أكثر المفسّرين أن الولاية هنا هى التوارث بينهم، وقالوا: إن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، جاعلين
685
نسب الإسلام بينهم، أولى من نسب القرابة.. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
«وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ».. وقد كان رأينا على غير هذا، وهو أن المراد بالولاية: التناصر، والتعاطف، وتلاحم المشاعر، فى ظل الأخوة الإسلامية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (١٠: الحجرات) وفى هذا يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «مثل فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى».
وفى قوله تعالى: «فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» إلزام للجماعة الإسلامية بأن تقوم بالانتصار لمن استنصر بها من أجل الدّين..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» استثناء من الحكم الموجب على الجماعة الإسلامية الانتصار لمن يستنصر بهم من المؤمنين دفاعا عن الإسلام، ودعوة الإسلام.. وذلك أنه إذا كان هناك ميثاق وموادعة بين المسلمين وبين من دعاهم المؤمنون إلى حربهم، حينئذ يجب على المسلمين أن يحترموا هذا الميثاق، وأن يلتزموا حدوده، وأن يقوموا على الوفاء به، ولا يدخلوا فى حرب مع من دعوا إلى حربه، وهو موادع لهم بميثاق واثقهم عليه.
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» : هو تقرير لحكم واقع بين الكافرين وهو أنهم على ولاء فيما بينهم. وأنهم حزب واحد، مجتمع على عداوة المؤمنين، ناصب لحربهم، راصد للفرصة الممكنة له منهم..
وليس فى هذا الذي يقرره القرآن الكريم دعوة لجماعات الكافرين أن
686
يكونوا على هذا الولاء الذي بينهم، وإنما هو- كما قلنا- تقرير لأمر واقع، يرى منه المؤمنون كيف يجتمع أهل الضلال على الضلال، وكيف يقوم بينهم الولاء والتناصر.. فارنى للمؤمنين ثم أولى لهم، أن يجتمعوا على الإيمان، وأن يتناصروا على الحق والخير.
وفى قوله تعالى: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون بين جماعة المؤمنين من تلاحم وتناصر. وأنهم إن لم يفعلوا هذا، فسد أمرهم، وتمكّن العدوّ منهم، وسقطت راية الحق التي يقاتلون عليها، وخلا وجه الأرض للفساد والمفسدين.
والضمير فى «تفعلوه» يعود إلى الولاء الذي ينبغى أن يكون بين المؤمنين، بعد أن دعاهم الله إليه فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».. وبعد أن لفتهم سبحانه إلى ما بين أهل الكفر والضلال من ولاء والتقاء على البغي والعدوان.
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».
هو عرض للمهاجرين والأنصار، وإفراد لهم بتلك المنزلة الرفيعة من الإيمان الذي حقّقوا صفته فيهم على أكمل وجه وأروعه.. «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي المؤمنون إيمانا كاملا، لم تشبه شائبة من ضعف، ولم تعلق به خاطرة من شك أو ريب.. فهو الإيمان الخالص، وهو الحقّ حقّا..
«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» أي مغفرة عامة شاملة، تنال كلّ ذنوبهم، ولهم «رِزْقٌ كَرِيمٌ» طيّب، من كل شىء، فى الدنيا وفى الآخرة. وهذا من
687
بعض الأسرار التي جاء عليها النظم القرآنى فى تنكير المغفرة والرزق الكريم، حيث يراد بهما العموم والشمول..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ».
هذا إغراء لمن تحدّثه نفسه، وتنزع به همته أن يكون فى هذا الموكب الكريم الذي انتظم أولئك الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى هذا الوصف الكريم، وحلّاهم بحلية الإيمان الكامل، وأنزلهم منازل مغفرته ورضوانه.. إغراء لكل من يطلب هذا المقام الكريم أن يستحثّ خطاه إليه، وأن يتخفف من كل ما يمسكه عن الهجرة، فيهاجر إلى من سبقوه إلى دار الهجرة، وهناك سيأخذ مكانه بينهم، وينزل حيث أنزلهم الله فى منازل فضله وإحسانه..
فإن الطريق إلى الله مفتوح دائما، ورحمة الله تسع كل شىء، وعطاؤه موصول لا ينقطع، ولا ينفد.
وفى قوله تعالى بعد هذا: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» إشارة إلى ما بين المؤمنين- من سبق منهم ومن لحق- من نسب قريب، ورحم ماسّة.. فيهم جميعا أبناء أب واحد، هو الإسلام، الذي يولدون فيه حالا بعد حال، وجيلا بعد جيل.
وقوله سبحانه: «فِي كِتابِ اللَّهِ» يحتمل وجهين: إما أن يكون متعلقا بقوله تعالى: «أولى» ويكون المعنى: وأولوا الأرحام- أي المؤمنون- بعضهم أولى ببعض فيما جاء فى كتاب الله، أي دين الله، الذي حمله كتاب الله وهو القرآن.. بمعنى أن ولاء المؤمنين بعضهم لبعض، إنما هو فيما هو حق وخير وإحسان، وهذا الخير والإحسان مما هو فى كتاب الله، الذي آمنوا به، ودانوا بشريعته.
688
وإما أن يكون استئنافا، هو جواب لسؤال مقدر، وتقديره: «من أين جاء هذا الحكم الذي قرّرته الآية فى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» ؟ فكان الجواب: «فِي كِتابِ اللَّهِ» أي فى علم الله، وفيما أقام العباد عليه، حيث جعل بين أولى الأرحام مودة، ورحمة، وولاء.. ومثل هذا ما جاء فى قوله: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أي فى علمه وتقديره، وتدبيره.. «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
هذا، وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن قوله تعالى:.. «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» هو مراد به الولاية فى التوارث، بحكم القرابة بينهم، على ما جاء فى كتاب الله سبحانه، فى أحكام الميراث.. وعلى هذا تكون هذه الآية ناسخة لما قررته الآيات السابقة فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.. إلى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ».
وقد روى عن ابن عباس قال: «آخى رسول الله ﷺ بين أصحابه، وورّث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية، فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.
ويروى عن ابن عباس أيضا، أنه استدل بقوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» على توريث ذوى الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرّق بين العصبيات وغيرهم، فيدخل من لا تسمية «١» لهم، ولا تعصب، وهم.. هم (أي ذوو الأرحام)..
(١) أي من لم يذكروا فى آية المواريث.
689
والقول بنسخ هذه الآية لما قررته الآيات التي قبلها، من ولاء المسلمين بعضهم لبعض، وتناصرهم وتعاطفهم.. هذا القول مردود من وجوه:
فأولا: أن الأحكام التي قررتها الآيات السابقة من وجوب قيام تلك الوحدة الشعورية بين المسلمين، بحيث تجعل منهم كيانا واحدا- هذه الأحكام، هى من صميم الدعوة الإسلامية، ومن الدعائم القويّة التي قام عليها بناء المجتمع الإسلامى، بحيث يؤثر المؤمن إخوانه فى الإيمان، على أهله وذوى قرابته.. كما يقول تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (٢٣: التوبة) - ويقول سبحانه: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٢٢: المجادلة).
فهذه العزلة الشعورية التي تعزل المؤمن عن الذين يحادّون الله ورسوله، من أهله وأقرب المقربين إليه، يقابلها تلاحم فى المشاعر، وتزاوج فى العواطف، بين المؤمن وجماعة المؤمنين.
فالإيمان عند المؤمن هو نسبه الذي ينتسب إليه، وعلى هذا النسب يصل الناس أو يقطعهم، ويوادّهم أو يجافيهم، ويسالمهم أو يحاربهم!.
فكيف تجىء آية قرآنية تنسخ هذا المبدأ، الذي هو أقوى دعامة فى بناء المجتمع الإسلامى!
690
وثانيا: آيات المواريث التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى سورة النساء، تقرر فى صراحة واضحة أحكام الميراث بين ذوى القربى، بحيث لا تدع مجالا لغيرهم أن يشاركهم فى هذا الميراث، الذي فرض لهم فيها.
فقوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» لا يضيف جديدا إلى ما قررته آيات المواريث: ولو كان لها مكان فى أحكام الميراث، لكان مكانها بين آيات الميراث، لا فى هذا الموضع الذي يقرر أسسا ومبادئ للعلاقات التي تقوم بين المؤمنين، ثم بينهم وبين غير المؤمنين..
وثالثا: ما يقال من أن هذه الآية نسخت التوارث الذي قام بين المهاجرين والأنصار بحكم التآخى الذي أقامه الرسول بينهم- متوجّه له، لأن آيات المواريث تغنى فى تطبيقها عن الاحتياج إلى نص صريح بتحريم التوارث على هذا النسب الذي أقامه النبىّ الكريم بين المهاجرين والأنصار.. بل إن آيات المواريث نفسها قد تقدمها النصّ القرآنى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً».. هذا إذا كانت الأحكام الواردة فى آيات المواريث تحتاج إلى بيان لعلة التوارث بين الأقارب.
هذا، وقد جاء فى سورة الأحزاب قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» - جاء هذا مقررا الولاية بالقرابة والنسب، بعد أن أبطل التبنّي! وذلك مراعاة لمقتضى الحال.
691
٩- سورة التّوبة
(أسماؤها:) حملت «التوبة» أكثر من اسم دال عليها، فمن ذلك:
«براءة» لافتتاحها بتلك الكلمة..
و «التوبة» لكثرة ذكر التوبة فيها..
و «الفاضحة» لأنها فضحت المنافقين، وكشفت وجوههم للنبىّ والمؤمنين.. قال ابن عباس: التوبة: هى الفاضحة.. ما زالت تنزل:
«ومنهم»، «ومنهم»، حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها.
و «المبعثرة» لأنها تبعثر أسرار المنافقين، وتكشفها و «المقشقشة» لأنها تبرئ المؤمن، فتخلى قلبه من النفاق و «البحوث» لأنها تبحث عن نفاق المنافقين.
نزولها:
نزلت بالمدينة باتفاق.. وهى آخر سورة نزلت من القرآن الكريم، على أرجح الأقوال.
عدد آياتها: مائة وتسع وعشرون آية عدد كلماتها: ألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة.
عدد حروفها: عشرة آلاف وسبعمائة وسبعة وثمانون حرفا.
692
Icon