تفسير سورة الأنفال

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة الأنفال
مدينة إلا من آية ٣٠ إلى غاية ٣٦ فمكية
وآياتها٧٥ نزلت بعد البقرة
نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها.

سورة الأنفال
مدنية إلا من آية ٣٠ إلى غاية آية ٣٦ فمكية وآياتها ٧٥ نزلت بعد البقرة (سورة الأنفال) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والسائلون هم الصحابة، والأنفال هي الغنائم، وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في العريش تحرسه، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، واختلفوا فيما بينهم، فنزلت الآية ومعناها: يسألونك عن حكم الغنيمة ومن يستحقها وقيل: الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه، وقد اختلف الفقهاء هل يكون ذلك التنفيل من الخمس وهو قول مالك؟ أو من الأربعة الأخماس، أو من رأس الغنيمة، قبل إخراج الخمس قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي الحكم فيها لله والرسول لا لكم وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي اتفقوا وائتلفوا، ولا تنازعوا، وذات هنا بمعنى: الأحوال، قاله الزمخشري، وقال ابن عطية: يراد بها في هذا الموضع نفس الشيء وحقيقته. وقال الزبيري: إن إطلاق الذات على نفس الشيء وحقيقته ليس من كلام العرب وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يريد في الحكم في الغنائم، قال عبادة بن الصامت:
نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا، وجعلها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقسمها على السواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية: أي الكاملو الإيمان، فإنما هنا للتأكيد والمبالغة والحصر وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت وقرأ أبي بن كعب: فزعت زادَتْهُمْ إِيماناً أي قوي تصديقهم ويقينهم، خلافا لمن قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن زيادته إنما هي بالعمل لَهُمْ دَرَجاتٌ يعني في الجنة
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه ثلاث تأويلات:
320
أحدها: أن تكون الكاف في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب، والثاني أن يكون في موضع الكاف نصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدّر في قوله الأنفال لله والرسول أي: استقرت الأنفال لله والرسول استقرارا مثل استقرار خروجك، والثالث أن تتعلق الكاف بقوله يجادلونك مِنْ بَيْتِكَ يعني مسكنه بالمدينة إذ أخرجه الله لغزوة بدر وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ أي كرهوا قتال العدو، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكبا، فأخبر بذلك جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج بالمسلمين فسمع بذلك أهل مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ليمنعوا عيرهم.
فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريش، فاستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فقالوا: العير أحب إلينا من لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له سعد بن عبادة: امض لما شئت فإنا متبعوك وقال سعد بن معاذ: والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك فسر بنا على بركة الله يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كان جدالهم في لقاء قريش، بإيثارهم لقاء العير إذ كانت أكثر أموالا، وأقل رجالا وتبين الحق: هو إعلام رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم بأنهم ينصرون كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تشبيه لحالهم في إفراط جزعهم من لقاء قريش وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ يعني قريش أو عيرهم، والعمل في إذ محذوف تقديره اذكروا أَنَّها لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ الشوكة عبارة عن السلاح. سميت بذلك لحدّتها، والمعنى تحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ يعني يظهر الإسلام بقتل الكفار وإهلاكهم يوم بدر لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف تقديره:
ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، وليس تكرارا للأول لأن الأول مفعول يريد، وهذا تعليل لفعل الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة، وبالحق الثاني الإسلام. فيكون المعنى أن نصرهم، ليظهر الإسلام، ويؤيد هذا قوله: ويبطل الباطل أي يبطل الكفر إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ إذ بدل من إذ يعدكم، وقيل: يتعلق بقوله: ليحق الحق أو بفعل مضمر واستغاثتهم دعاؤهم بالغوث والنصر مُمِدُّكُمْ أي مكثركم مُرْدِفِينَ من قولك ردفه إذا تبعه، وأردفته إياه إذا أتبعته إياه. والمعنى: يتبع بعضهم بعضا، فمن قرأه «١»
(١). قرأ نافع بفتح الدال، وقرأ الباقون بكسر الدال.
321
بفتح الدال فهو اسم مفعول، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل، وصح معنى القراءتين لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا، فمنهم تابعون ومتبوعون
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الضمير عائد على الوعد، أو على الإمداد بالملائكة إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ إذ بدل من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر، أو بما عند الله من معنى النصر، أو بإضمار فعل تقديره: اذكر، ومن قرأ يغشيكم «١» بضم الياء والتخفيف فهو من أغشى، ومن قرأ بالضم والتشديد فهو من غشّى المشدد، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين فنصب النعاس على أنه المفعول والثاني، والمعنى يغطيكم به فهو استعارة، من الغشاء، ومن قرأ بفتح الياء والشين «٢» فهو من غشى المتعدى إلى واحد أي ينزل عليكم النعاس أَمَنَةً مِنْهُ أي أمنا، والضمير المجرور يعود على الله تعالى، وانتصاب أمنة على أنه مفعول من أجله. قال ابن مسعود: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تعديد لنعمة أخرى وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر قبل وصولهم إلى بدر، وقيل: بعد وصولهم، فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأودية لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ كان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر، وتوضأ به سائرهم، وكانوا قبله ليس عندهم ماء للطهر ولا للوضوء وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ كان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم وسوسة بسبب عدم الماء، فقالوا: نحن أولياء الله وفينا رسوله فكيف نبقى بلا ماء؟ فأنزل الله المطر، وأزال عنهم وسوسة الشيطان وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ
أي يثبتها بزوال ما وسوس لها الشيطان وبتنشيطها وإزالة الكسل عنها وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ الضمير في به عائد على الماء، وذلك أنهم كانوا في رملة دعصة لا يثبت فيها قدم، فلما نزل المطر تلبدت وتدقت «٣» الطريق، وسهل المشي عليها والوقوف، وروي أن ذلك المطر بعينه صعّب الطريق على المشركين فتبين أن ذلك من لطف الله إِذْ يُوحِي يحتمل أن يكون ذلك بدلا من إذ المتقدمة كما أنها بدل من التي قبلها، أو يكون العامل فيه يثبت فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أن يكون التثبيت بقتال الملائكة مع المؤمنين أو بأقوال مؤنسة مقوية للقلب قالوها: إذا تصوروا بصور بني آدم أو بإلقاء الأمن في نفوس المؤمنين سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يحتمل أن يكون
(١). وهي قراءة أهل المدينة.
(٢). هي قراءة أبو عمرو وابن كثير: يغشاكم. وأما يغشّيكم فهي قراءة أهل الكوفة.
(٣). كذا في الأصل المطبوع ولعلها خطأ فلتحرر.
من خطاب الله للملائكة في شأن غزوة بدر تكميلا لتثبيت المؤمنين، أو استئناف إخبار عما يفعله الله في المستقبل فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يحتمل أيضا أن يكون خطابا للملائكة أو للمؤمنين، ومعنى فوق الأعناق: أي على الأعناق، حيث المفصل بين الرأس والعنق لأنه مذبح، والضرب فيها يطيّر الرأس، وقيل: المراد الرؤوس، لأنها فوق الأعناق، وقيل: المراد الأعناق وفوق زائدة كُلَّ بَنانٍ قيل: هي المفاصل، وقيل: الأصابع وهو الأشهر في اللغة، وفائدة ذلك أن المقاتل إذا ضربت أصابعه تعطل عن القتال فأمكن أسره وقتله
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
الإشارة إلى ما أصاب الكفار يوم بدر، والباء للتعليل، وشاقوا من الشقاق وهو العداوة والمقاطعة ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ الخطاب هنا للكفار، وذلكم مرفوع تقديره ذلكم العقاب أو العذاب، ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله: فذوقوه، كقولك زيدا فاضربه وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلك على تقدير رفعه، أو نصبه، أو مفعول معه، والواو بمعنى مع زَحْفاً حال من الذين كفروا، أو من الفاعل في لقيتم، ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص، وأصل الزحف الاندفاع فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ نهي عن الفرار مقيدا بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين حسبما يذكره في موضعه وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء في أي عصر كان إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكر بعد الفر ليرى عدوه أنه منهزم، ثم يعطف عليه، وذلك من الخداع في الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منحازا إلى جماعة من المسلمين، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب، فالتحيز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيز إلى المدينة، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيئا من ذلك حاضرا، ويروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: أنا فئة لكل مسلم، وهذا إباحة لذلك، والفرار من الذنوب الكبائر، وانتصب قوله متحرفا على الاستثناء من قوله ومن يولهم، وقال الزمخشري: انتصب على الحال وإلا لغو، ووزن متحيز متفيعلا، ولو كان على متفعل لقال متحوز، لأنه من حاز يحوز فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي لم يكن قتلهم في قدرتكم لأنهم أكثر منكم وأقوى، لكن الله قتلهم بتأييدكم عليهم وبالملائكة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ يوم بدر قبضة من تراب وحصى ورمى بها وجوه الكفار فانهزموا، فمعنى الآية أن ذلك من الله في الحقيقة بَلاءً حَسَناً يعني الأجر والنصر والغنيمة مُوهِنُ من الوهن وهو الضعف، وقرئ موهّن»
(١). وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وقرأ أهل الكوفة والشام: موهن بالتخفيف.
بالتشديد والتخفيف وهو بمعنى واحد
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية: خطاب لكفار قريش، وذلك أنهم كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه، وروي أن الذي دعا بذلك أبو جهل فنصر الله المؤمنين، وفتح لهم، ومعنى: إن تستفتحوا: تطلبوا الفتح، ويحتمل أن يكون الفتح الذي طلبوه بمعنى النصر أو بمعنى الحكم، وقيل: إن الخطاب للمؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إن كان الخطاب للكافر فالفتح هنا بمعنى الحكم: أي قد جاءكم الحكم الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين، فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم، لأن الله حكم لهم، أو بمعنى النصر وَإِنْ تَنْتَهُوا أي ترجعوا عن الكفر وهذا يدل على أن الخطاب للكفار وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أي إن تعودوا إلى الاستفتاح أو القتال نعد لقتالكم والنصر عليكم وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ الضمير لرسول الله صلى الله عليه واله وسلّم أو للأمر بالطاعة وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي تسمعون القرآن والمواعظ كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ هم الكفار سمعوا بآذانهم دون قلوبهم فسماعهم كلا سماع إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي كل من يدب، والمقصود أن الكفار شر الخلق، قال ابن قتيبة: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين لِما يُحْيِيكُمْ أي للطاعة، وقيل: للجهاد لأنه يحيا بالنصر يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قيل:
يميته، وقيل: يصرّف قلبه كيف يشاء فينقلب من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان وشبه ذلك فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تصيب الظالمين وحدهم، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر ولم ينه عن الظلم. وإن كان لم يظلم.
وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وطلحة والزبير، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل، ودخلت النون في تصيبن لأنه بمعنى النهي إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
الآية: أي حين كانوا بمكة وآواكم بالمدينة، وأيدكم بنصره في بدر وغيرها لا تَخُونُوا اللَّهَ نزلت في قصة أبي لبابة حين أشار إلى بني قريظة أن ليس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الذبح، وقيل: المعنى: لا تخونوا بغلول الغنائم ولفظها عام وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ عطف
على لا تخونوا أو منصوب
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي تفرقة بين الحق والباطل، وذلك دليل على أن التقوى تنوّر القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على إذ أنتم قليل، أو استئناف، وهي إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي الحديث بطوله لِيُثْبِتُوكَ أي ليسجنونك قالُوا قَدْ سَمِعْنا قيل: نزلت في النضر بن الحارث كان قد تعلم من أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن وفيه أخبار الأنبياء قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وقيل: هي في سائر قريش أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أخبارهم المسطورة وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ الآية، قالها النضر بن الحارث أو سائر قريش لما كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعوا على أنفسهم إن كان أمره هو الحق، والصحيح أن الذي دعا بذلك أبو جهل رواه البخاري ومسلم في كتابيهما، وانتصب الحق لأنه خبر كان.
وقال الزمخشري: معنى كلامهم جحود أي: إن كان هذا هو الحق فعاقبنا على إنكاره، ولكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا، وليس مرادهم الدعاء على أنفسهم، إنما مرادهم نفي العقوبة عن أنفسهم وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي لو آمنوا واستغفروا فإن الاستغفار أمان من العذاب، قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب وهما وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم والاستغفار، فلما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهب الأمان الواحد، وبقي الآخر، وقيل: الضمير في يعذبهم للكفار، وفي وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ المعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون المؤمنين من المسجد الحرام والجملة في موضع الحال، وذلك من الموجب لعذابهم وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ الضمير للمسجد الحرام أو لله تعالى وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء: التصفير بالفم، والتصدية: التصفيق باليد. وكانوا يفعلونهما إذ صلّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية نزلت في إنفاق قريش في غزوة أحد وقيل: إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، فإنه استأجر العير من الأحباش فقاتل بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أي يتأسفون
على إنفاقها من غير فائدة أو يتأسفون في الآخرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ إخبار بالغيب لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ معنى يميز: يفرق بين الخبيث والطيب، والخبيث هنا الكفار. والطيب: المؤمنون وقيل: الخبيث ما أنفقه الكفار، والطيب: ما أنفقه المؤمنون، واللام في ليميز على هذا تتعلق بيغلبون، وعلى الأول بيحشرون فَيَرْكُمَهُ أي يضمه ويجعل بعضه فوق بعضه إِنْ يَنْتَهُوا يعني عن الكفر إلى الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله، ولا تصح المغفرة إلا به وَإِنْ يَعُودُوا يعني إلى القتال فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ تهديد بما جرى لهم يوم بدر وبما جرى للأمم السالفة حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ الفتنة هنا الكفر، فالمعنى قاتلوهم، حتى لا يبقى كافر، وهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله «١» وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ لفظه عام يراد به الخصوص، لأن الأموال التي تؤخذ من الكفار منها ما يخمس: وهو ما أخذ على وجه الغلبة بعد القتال، ومنها: ما لا يخمس بل يكون جميعه لمن أخذه، وهو ما أخذه من كان ببلاد الحرب من غير إيجاف، وما طرحه العدو خوف الغرق، ومنها: ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته، ويصرف سائره في مصالح المسلمين وهي الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الآية: اختلف في قسم الخمس على هذه الأصناف فقال قوم: يصرف على ستة أسهم سهم لله في عمارة الكعبة، وسهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مصالح المسلمين، وقيل: للوالي بعده: وسهم لذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وقال الشافعي: على خمسة أسهم، ولا يجعل لله سهما مختصا، وإنما بدأ عنده بالله، لأن الكل ملكه، وقال أبو حنيفة على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال مالك الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته ويصرف الباقي في المصالح إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ راجع إلى ما تقدم، والمعنى: إن كنتم مؤمنين فاعلموا ما ذكر الله لكم من قسمة الخمس، واعملوا بحسب ذلك ولا تخالفوه وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي أنزل عليه القرآن والنصر يَوْمَ الْفُرْقانِ أي التفرقة بين الحق والباطل وهو يوم بدر الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني المسلمين والكفار
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا العامل في إذ
(١). الحديث متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر. ورواه النووي في الأربعين.
326
التقى والعدوة: شفير الوادي، وقرئ بالضم والكسر وهما لغتان، والدنيا القريبة من المدينة، والقصوى البعيدة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني العير التي كان فيها أبو سفيان، وكان قد نكب عن الطريق خوفا من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان جمع قريش المشركين قد حال بين المسلمين وبين العير وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم مع قريش ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لاختلفتم ولم تجتمعوا معهم، أو لو تواعدتم لم يتفق اجتماعكم مثل ما اتفق بتيسير الله ولطفه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
أي يموت من مات ببدر عن إعذار وإقامة الحجة عليه، ويعيش من عاش بعد البيان له، وقيل: ليهلك من يكفر ويحيى من يؤمن، وقرئ من حيي «١» بالإظهار والإدغام وهما لغتان إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ الآية: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رأى الكفار في نومه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فقويت أنفسهم لَفَشِلْتُمْ أي جبنتم عن اللقاء وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الآية معناها أن الله أظهر كل طائفة قليلة في عين الأخرى ليقع التجاسر على القتال رِيحُكُمْ أي قوتكم ونشاطكم، وذلك استعارة وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني كفار قريش حين خرجوا لبدر بَطَراً أي عتوا وتكبرا وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الآية: لما خرجت قريش إلى بدر تصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: إني جار لكم من قومي وكانوا قد خافوا من قومه، ووعدهم بالنصر نَكَصَ أي رجع إلى وراء إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ رأى الملائكة تقاتل يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الذين كانوا بالمدينة، وقيل: الذين كانوا مع الكفار وهم نفر من قريش منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاصي بن أمية بن الحجاج وكانوا قد أسلموا ولم يهاجروا وخرجوا يوم بدر مع الكفار فقالوا هذه المقالة غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي اغترّ
(١). حيي: قرأها نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر وقرأ الباقون حيّ بالتشديد.
327
المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ذلك فيمن قتل يوم بدر وَأَدْبارَهُمْ أي أستاههم، وقيل: ظهورهم وَذُوقُوا هذه من قول الملائكة لهم تقديره: ويقولون لهم: ذوقوا والقول المحذوف معموله معطوف على يضربون، ويحتمل أن يكون ما بعده من قول الملائكة أو يكون مستأنفا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تقديره عند سيبويه الأمر ذلك، والباء سببية، والمعنى: أن الله لا يغير نعمة على عبيده حتى يغيروا هم بالكفر والمعاصي كَدَأْبِ ذكر في آل عمران الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ يريد بني قريظة فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي افعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أي نقضا للعهد فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي ردّ العهد الذي بينك وبينهم والمفعول محذوف تقديره فانبذ إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ أي على معادلة، وقيل: معناه أن تستوي معهم في العلم بنقض العهد وَلا يَحْسَبَنَّ «١» الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي لا تظن أنهم فاتوا ونجوا بأنفسهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون في الدنيا ولا في الآخرة وَأَعِدُّوا لَهُمْ الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون، وحكمه عام في جميع الكفار مِنْ قُوَّةٍ قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم «ألا إن القوة الرمي» «٢»، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ قال الزمخشري: الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله.
وقال ابن عطية: رباط الخيل جمع ربط أو مصدر عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ يعني الكفار وَآخَرِينَ يعني المنافقين: وقيل: بني قريظة، وقيل: الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل، وقيل: فارس، والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال السهيلي: لا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله تعالى قال: لا تعلمونهم، فكيف يعلمهم
(١). يحسبنّ: قرأها ابن عامر وحمزة وحفص وقرأ الباقون: ولا تحسبنّ.
(٢). رواه مسلم عن عقبة بن عامر الجهني. ذكره النووي في رياض الصالحين. [.....]
أحد، وهذا لا يلزم، لأن معنى قوله لا تعلمونهم: لا تعرفونهم: أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس، ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها السلم هنا المهادنة، والآية منسوخة بآية القتال في براءة، لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قيل: المراد، بين قلوب الأوس والخزرج إذ كانت بينهما عداوة فذهبت بالإسلام، واللفظ عام وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على اسم الله، وقال الزمخشري مفعول معه، والواو بمعنى مع أي حسبك وحسب من اتبعك الله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ الآية: إخبار يتضمن وعدا بشرط الصبر ووجود ثبوت الواحد للعشرة ثم نسخ بثبوت الواحد للاثنين ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي: يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى لما أخذ الأسرى يوم بدر أشار أبو بكر بحياتهم، وأشار عمر بقتلهم. فنزلت الآية عتابا على استبقائهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبايع في القتال تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا عتاب لمن رغب في فداء الأسرى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الكتاب ما قضاه الله في الأزل من العفو عنهم، وقيل: ما قضاه الله من تحليل الغنائم لهم فِيما أَخَذْتُمْ يريد به الأسرى وفداؤهم، ولما نزلت الآية قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ إباحة للغنائم ولفداء الأسارى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إن علم في قلوبكم إيمانا جبر عليكم ما أخذ منكم من الفدية، قال العباس: فيّ نزلت وكان قد افتدى يوم بدر، ثم أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المال ما لا يقدر أن يحمله، فقال: قد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني، وأنا أرجو أن يغفر لي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ الآية تهديد لهم
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخر السورة مقصدها: بيان منازل المهاجرين
329
والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا بعد الحديبية، فبدأ أولا بالمهاجرين، ثم ذكر الأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأثبت الولاية بينهم، وهي ولاية التعاون ثم نسخت بقوله:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ لما نفى الولاية بين المؤمنين والتناصر، وقيل: هي ولاية الميراث الذين هاجروا وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا: أمر بنصرهم إن استنصروا بالمؤمنين: إلا إذا استنصروا على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد فلا ينصرونهم عليهم، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ إلا هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية، والضمير في تفعلوه لولاية المؤمنين ومعاونتهم أو لحفظ الميثاق الذي في قوله: إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو النصر الذي في قوله: فعليكم النصر، والمعنى إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية: ثناء على المهاجرين والأنصار، ووعد لهم، والرزق الكريم في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ يعني الذين هاجروا بعد الحديبية وبيعة الرضوان وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ قيل: هي ناسخة للتوارث بين المهاجرين والأنصار، قال مالك: ليست في الميراث، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأوجب بها ميراث الخال والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام فِي كِتابِ اللَّهِ أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ.
330
Icon