تفسير سورة الأنفال

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ﴾ الأنفال: الغنائم التي تزيد عن حصة المجاهدين - وهي الخمس من كل ما غنموه - وقيل: هو ما جاء من غير قتال؛ كفرس، أو عبد، أو سلاح. وقيل: هي زيادة كان يزيدها الرسول عليه الصلاة والسلام لبعض المجاهدين: تشجيعاً لهم، وحثاً لغيرهم؛ فسألوا عن ذلك؛ فقيل لهم ﴿قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ يضعها الرسول بأمر الله تعالى حيث يشاء ﴿فَاتَّقُواْ﴾ أي أصلحوا الأحوال التي بينكم. كقوله تعالى ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي بمضمراتها
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ الكاملو الإيمان هم ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فزعت لذكره؛ استعظاماً له، وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ على إيمانهم ويعتمدون، ويستعينون
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ في أوقاتها ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ فلا يخافون فقراً، ولا يخشون فاقة؛ لأنهم ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
﴿أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾ فتدبر أيها المؤمن الكريم هذه الآية، وسائل نفسك: هل أنت مؤمن حقاً؟ وهل إذا ذكر الله أمامك: وجل قلبك؟ وإذا تليت عليك آياته: زادتك إيماناً؟ وهل أنت تنفق مما رزقكالله، كما أمركالله؟ فإن كنت تفعل ذلك: فأنت من السعداء الناجين، فاهنأ بما آتاك الله تعالى من فضل، وما وهبك من خير وإن كنت في واد والمؤمنون في واد آخر؛ فالجأ إلى الرحيم الودود، واجأر إلى اللطيف الحميد؛ ليتم إيمانك، ويثبت يقينك، ويوفقك لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوثوق بما عندالله؛ فنعم القريب، ونعم المجيب ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ في جناته ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وهو ما أعده الله تعالى لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب، وهنيء العيش
﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ﴾
بالمدينة إلى بدر ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي أمر به الله ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ ذلك الخروج. المعنى: إن إصلاح ذات البين، ووجل القلوب عند ذكر المحبوب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: خير لكم عند ربكم؛ كما أن إخراج محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من بيته كان خيراً له
﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ مجاهدة العدو ﴿بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ لهم النصر؛ بوعد الله تعالى به. وذلك أنهم خيروا بين العير والنفير، فاختاروا العير ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ﴾ حين تأمرهم بالقتال ﴿إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ وكان ذلك في وقعة بدر
﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ﴾ وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام في تجارة عظيمة، وخرج أبو جهل بجميع أهل مكة لتلقي العير، والمحافظة عليها؛ ونزل جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما قريشاً. فاستشار الرسول أصحابه؛ فاختاروا العير لخفة الحرب، وكثرة الغنيمة. وهذا معنى قوله تعالى ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ والشوكة: السلاح. فقام عند ذلك أبو بكر، وعمر، وسعدبن عبادة، والمقدادبن عمرو، وسعدبن معاذ؛ رضي الله تعالى عنهم، وقالوا فأحسنوا القول، وكان مما قاله المقدادبن عمرو: يا رسول الله إمْضِ إلى حيث أمرك الله فنحن معك؛ والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لئن سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه ففرح رسولالله بذلك ودعا لهم بخير؛ وقال: «سيروا على بركة الله تعالى» وكان ما كان مما هو مدون في كتب السير.
﴿فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ يقال: ردفه: إذا تبعه. وأردفته إياه: إذا أتبعته
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ أي ما جعل ذلك الإمداد ﴿إِلاَّ بُشْرَى﴾ لكم ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ﴾
بالكثرة، ولا بالمعاونة؛ وإنما هو في الحقيقة لا يكون ﴿إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ ينصر الأقل الأذل، على الأكثر الأعز - متى شاء - بإرادته وقوته ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ قوي غالب، لا يغلب أبداً ﴿حَكِيمٌ﴾ في سائر أموره وتقديراته؛ فإذا قدر النصر فلمنة، وإذا قدر الهزيمة فلحكمة
﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ﴾ النوم ﴿أَمَنَةً﴾ أمناً لكم؛ إذ أنه من المعلوم أن الخائف لا ينام؛ ولكن الله تعالى ربط على قلوبهم، وحال بينهم وبينها؛ فأمنوا في موطن الخوف، وخاف الكافرون في موضع الأمن والنعاس في القتال: أمن منالله، وفي الصلاة: رجز من الشيطان ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ قيل: كانوا على غير ماء، وأصبحوا مجنبين؛ فنزل المطر كالسيل؛ فشربوا وتطهروا ﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ
-[٢١٢]- الشَّيْطَانِ﴾
بعد أن وسوس إليهم في منامهم بما أصبحهم مجنبين ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ يقويها بالصبر؛ وأنهم قد أصبحوا متطهرين ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ عند لقاء العدو، قيل: كانوا يتنقلون في حربهم على كثبان من رمل تسوخ فيه الأقدام؛ فتلبد الرمل من الماء وتثبت عليه أقدامهم عند اللقيا
﴿وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ البنان: أطراف الأصابع، أو هي الأصابع كلها؛ وذلك لجعلهم عاجزين عن إمساك السيوف، ومقاتلة المسلمين مرة ثانية
﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ﴾ خالفوا وعادوا
﴿ذلِكُمْ﴾ القتل والأسر والذل ﴿فَذُوقُوهُ﴾ أيها الكافرون في الدنيا ﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾ وغضب الجبار
﴿زَحْفاً﴾ مجتمعين مهاجمين
﴿إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾ أي جاعلاً القتال حرفة له، متقناً لها؛ وقد فر ليكر، وتظاهر بالهزيمة، ليفوز بالغنيمة ﴿فَقَدْ بَآءَ﴾ رجع ﴿بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ وشتان بين من رجع بالفوز والغنيمة، أو الأجر والشهادة؛ وبين من «باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير»
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ أي لم تقتلوا من قتل من الأعداء بأيديكم ورماحكم ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ بأيدي ملائكته ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ وذلك حين رمى سيد الكونين صلوات الله تعالى وسلامه عليه جيوش المشركين بقبضة من تراب، وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه منها، ولم يستطع الإبصار؛ وتسبب من ذلك هزيمتهم ونصر المؤمنين
هذا وقد استدل كثير من الفضلاء بهذه الآية على أن سائر أفعال الخلق المكتسبة؛ هي من الله وحده؛ فقد نفي عنهم الفعل والإنجاز؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ فنفى عنهم القتل، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام الرمي؛ وقد حصل كلاهما؛ فكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتساب بالقوى. وقد فاتهم أنه مما لا خلاف فيه أن سائر أعمال الخير مصدرها من الله تعالى، أما أعمال الشر فهي من الإنسان وحده؛ قال تعالى: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ وقد نسب الله تعالى إلى نفسه قتل المشركين ورميهم بالحصباء؛ وهما خير وحسنة وإذا قلنا بغير ذلك: كانت أعمال الكفار أيضاً: من الله إنشاؤها وإنجازها؛ وهذا ما لم يقل به مؤمن ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ﴿وَلِيُبْلِيَ﴾ ينعم ويعطي ﴿الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ﴾ من فضله ﴿بَلاءً حَسَناً﴾ عطاءً كثيراً من الغنائم ﴿ذلِكُمْ﴾ النصر والغنيمة حق ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ﴾ مضعف
﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ﴾ أي إن تطلبوا القضاء أيها الكفار
-[٢١٣]- ﴿فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ القضاء بهلاككم ﴿وَإِن تَنتَهُواْ﴾ ترجعوا عن الكفر والحرب ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿وَإِن تَعُودُواْ﴾ إلى النفاق والشقاق ﴿نَعُدْ﴾ إلى قتلكم وتشريدكم
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ﴾ أي إن شر المخلوقات التي تدب على وجه الأرض - ومنها الإنسان - ﴿الصُّمُّ﴾ عن سماع الحق ﴿الْبُكْمُ﴾ عن النطق بكلمة التوحيد. شبه تعالى الكفار بالبهائم، بل بشرّها وفي ذلك كل البلاعة، ونهاية الإعجاز: إذ أن الكافر لا يسمع الحق، والبهائم لا تسمعه، ولا ينطق بالخير، والبهائم لا تنطق به، ويأكل والبهائم تأكل؛ قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ﴾ بقي أن الإنسان يؤذي ويضر، والبهائم لا تؤذي ولا تضر فكيف لا يكون بعد هذا شراً من البهائم؟
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ﴾ أجيبوه ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ بأن تطيعوه ﴿إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ أي إذا دعاكم للإيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الباقية أو ﴿إِذَا دَعَاكُم﴾ للجهاد وفي الجهاد حياتكم؛ وإلا فالموت والويل لمن يمكن أعداءه من نفسه، ومن دينه، ومن وطنه ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ قد أريد بالقلب هنا: العقل. قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ أي إن الله تعالى يحول بين المرء وعقله؛ فيعمل بغير ما يمليه عليه؛ وقد حال الله تعالى - في الجهاد - بين المؤمنين وعقولهم؛ وكذلك حال أيضاً بين المشركين وعقولهم؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ فلو لم يحل تعالى بين المؤمنين وقلوبهم: لانهزموا رعباً لكثرة المشركين وقوتهم، ولو لم يحل أيضاً بين المشركين وقلوبهم: لما استهانوا بالمؤمنين وأمكنوهم من أنفسهم؛ وذلك ﴿لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ وقد ذهب كثير من المفسرين - أثابهم الله - إلى أن معنى هذه الآية: أن الله تعالى يحول بين الكافر والإيمان وهو قول ظاهر البطلان؛ لا يجوز نسبته إلى الله تعالى وإنما أريد بالقلب هنا العقل كما بينا (انظر آيتي ١١٠ من سورة الأنعام، و٢٠٠ من سورة الشعراء)
﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً﴾ عذاباً ﴿لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ وذلك لأن العذاب يصيب الذين ظلموا، والذين لم يظلموا؛ لأن الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، والذي لم يظلم يهلك لعدم منعه الظالم من ظلمه، وتركه إقامة الحد عليه
﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾
أي محنة من الله؛ ليختبركم كيف تحافظون فيهما على حدوده، وتتجنبون محارمه (انظر آية ١١ من سورة النساء)
﴿يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ الفرقان:
-[٢١٤]- النصر والبرهان، ولعل المراد بذلك: يجعل لكم عقلاً راجحاً تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وبين النفع والضر ﴿وَيُكَفِّرْ﴾ يمح
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يكيدوا لك ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ ليحبسوك
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ قالوا هذه القالة؛ وحينما تحداهم بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ ركنوا إلى الفرار وولوا الأدبار
﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لقد وصف الله تعالى هؤلاء البهم بأدق ما يوصف به أمثالهم: حيث قال: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ وكيف لا يكون كالأنعام - بل أسوأ حالاً من الأنعام - من يقول هذا القول؟ وكان الأليق بمن يتصف بالآدمية والإنسانية؛ أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ووفقنا إلى اتباعه
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ وقد جرت عادته تعالى ألا يعذب أمة إلا بعد إخراج نبيها والمؤمنين منها ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ قيل: كان المشركون يقولون عند طوافهم بالبيت: غفرانك غفرانك. وقيل: أريد بالمستغفرين: المؤمنين المستضعفين؛ وهو كقوله تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ وقد ذهب المفسرون إلى أنه كان فيهم أمانان: نبي الله تعالى والاستغفار؛ فذهب النبي بموته، وبقي الاستغفار. وقد فاتهم أن الذي ذهب من الأمانين هو الاستغفار؛ لا الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ إذ لم يبق الآن مستغفر؛ وإذا استغفر إنسان: فاستغفاره في حاجة إلى استغفار أما الرسول فهو بين ظهرانينا - بل بين جوانحنا - إلى يوم نلقى الله؛ ممتعين باستغفاره لذنوبنا، وشفاعته لنا إن شاء الله قال: «تعرض علي أعمالكم؛ فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت لكم»
﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ هو تأييد لما تقدم: أي لولا وجودك فيهم، ووجود المستغفرين بينهم: لعذبهم الله تعالى؛ لأنهم مستحقون للعذاب فعلاً؛ بسبب أنهم ﴿يَصُدُّونَ﴾ يمنعون المؤمنين ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يمنعونهم عن دخوله، والطواف به ﴿وَمَا كَانُواْ﴾ أي وما كان هؤلاء المشركون الصادون ﴿أَوْلِيَآءَهُ﴾ أي لا ولاية لهم على المسجد الحرام حتى يمنعوا الناس من الطواف به ﴿إِنَّ﴾ ما ﴿أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾ الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب
﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ﴾ أي دعاؤهم ﴿عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً﴾ صفيراً ﴿وَتَصْدِيَةً﴾ تصفيقاً؛ وقد كانت قريش يطوفون بالبيت عراة؛ يصفقون ويصفرون؛ كما يفعل اليوم بعض من يدعون الولاية والجذب في كثير من مجالسهم
-[٢١٥]- المختصة بذكر الله تعالى وعبادته
﴿فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ لأنهم لن ينالوا ما يبتغونه؛ وسيتم الله تعالى نعمته بإكمال دينه ﴿ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ في الدنيا؛ بالقتل وذهاب الأموال، والخزي
﴿لِيَمِيزَ﴾ يفصل ﴿الْخَبِيثَ﴾ الكافر ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ المؤمن؛ فيجعل الخبيث في نيران الجحيم والطيب في جنات النعيم أو هو عام في كل شيء: في العبادات، والمعاملات، والنفقات والصدقات، وفي سائر الأعمال التي يخبثها الرياء، والأذى، والمن. ويطيبها الإخلاص في الطاعات، وتطهير السر والعلن ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ﴾ يجمعه ويجعله متراكماً
﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ﴾ يرجعوا عن الكفر ﴿يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ ما قد مضى من ذنوبهم؛ لأن الإيمان يجب ما قبله ﴿وَإِنْ يَعُودُواْ﴾ إلى الكفر بعد انتهائهم عنه ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ﴾
أي طريقتنا في معاملة الكافرين؛ وهي إهلاكهم واستئصالهم؛ فكذا نفعل بهم
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ حتى لا يكون شرك ﴿فَإِنِ انْتَهَوْاْ﴾ عن الكفر ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيهم عليه
﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإيمان، وبان منهم العدوان ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ﴾ ناصركم ومعينكم
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ من مال الكفار في القتال ﴿فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ يأمر فيه تعالى بما يشاء؛ وأربعة الأخماس للمحاربين الغانمين؛ وقد قسم الله تعالى الخمس على خمسة ﴿وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ قرابته ﴿وَالْيَتَامَى﴾ أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ ذوي الحاجة من المسلمين ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ الذي انقطع به الطريق في السفر ﴿إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ أي وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد من الآيات والمعجزات، والملائكة الذين أنزلناهم لنصرته ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ يوم النصر، وهو يوم بدر؛ وسمي «يوم الفرقان» لأنه يوم فرق الله تعالى به بين باطل المشركين، وحق المؤمنين
﴿إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ جانب الوادي القريب وهو من الدنو ﴿وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ جانب الوادي البعيد ﴿وَالرَّكْبُ﴾ أي ركب المشركين ﴿أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ في مكان منخفض؛ مما يلي البحر ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ﴾ أنتم والأعداء، على هذا اللقاء ﴿لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن﴾ تم هذا التوافق ﴿لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ وهو نصر الإسلام، ومحق الكفر، وإعلاء كلمة الله تعالى:
-[٢١٦]- ﴿لِّيَهْلِكَ﴾ ليكفر ﴿مَنْ هَلَكَ﴾
من كفر ﴿عَن بَيِّنَةٍ﴾ حجة واضحة؛ هي انخذالهم - وهم الأكثرون الأقوياء وانتصار المؤمنين عليهم - وهم الأقلون الضعفاء - ﴿وَيَحْيَى﴾ يؤمن ﴿مَنْ حَيَّ﴾ من آمن ﴿عَن بَيِّنَةٍ﴾ حجة ظاهرة. وأي حجة أَبين وأظهر من غلبة الضعيف للقوي وانهزام الجيش اللجب، ذي السطوة والقوة. أمام شرذمة لا حول لها ولا طول إلا ب الله ذي العزة والمنعة ولم تكن البينة في انتصار الضعفاء على الأقوياء فحسب؛ بل لقد رأى المسلمون - وهم الأقلون - الكافرين قليلاً - وهم الأكثرون - ورأى الكافرون المسلمين كثيراً؛ فانخلعت قلوبهم، وأمكن الله تعالى منهم ولم تكن بينة الله تعالى - التي جعلها فيصلاً بين الكفر والإيمان - قائمة على انتصار الضعفاء على الأقوياء، ورؤية الأقلين للأكثرين قليلاً، والأكثرين للأقلين كثيراً؛ لم يكن هذا وحده؛ بل رأى المسلمون والكافرون في هذه المعركة جنود الله تعالى من الملائكة جهاراً تنكل بالكافرين تنكيلاً، وتحصد عتاة المشركين وسراتهم حصداً؛ ولقد كان المؤمن يقصد الكافر بسيفه؛ فتطيح رأس الكافر قبل أن يصل سيف المؤمن إلى عنقه
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ أي يريك الكفار ﴿فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾ فسررت واطمأننت لذلك، وأخبرت أصحابك فسروا واطمأنوا ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ﴾ جبنتم ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾ أي لترددتم بين الثبات والفرار ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ بما أراك في منامك؛ مما تقوى به قلوبكم، وتشتد به عزائمكم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بمكنونات القلوب وما خفي فيها
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ﴾ في القتال ﴿فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾ كما أراكهم في منامك ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ قلة تزيد عن قلتكم؛ ليطمعوا فيكم، ويقدموا على قتالكم، ولا يحجموا عن حربكم؛ وكان ذلك قبل الالتحام؛ فلما التحم الفريقان أراهم إياكم مثليهم؛ قال تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾
﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ﴾ تتنازعوا ﴿فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أي تضعفوا وتذهب قوتكم، وتدول دولتكم
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً﴾ طغياناً ﴿وَرِئَآءَ النَّاسِ﴾ أي رياء وهم أهل مكة حين نفروا لحماية العير؛ فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم. فأبى أبو جهل، وقال: حتى نقدم بدراً، وننحر بها الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف القيان؛ ونطعم العرب - فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم - فوافوها: فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان؛ فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم: بطرين، طربين، مرائين ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ يمنعون ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه
﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ التي عملوها في معاداة الرسول ﴿وَقَالَ﴾ لهم الشيطان؛ تقوية لقلوبهم ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
-[٢١٧]- مِنَ النَّاسِ﴾
وقد ظهر لهم الشيطان على صورة سيد الناحية التي تم فيها القتال ﴿وَإِنِّي جَارٌ﴾ أي مجير ﴿لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ تلاقى الجمعان ﴿نَكَصَ﴾ رجع الشيطان ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ هارباً ﴿وَقَالَ﴾ وذلك حين رأى إبليس اللعين، الملائكة المقربين؛ يضربون الكفار مع المسلمين؛ فقال: ﴿إِنَّي أَرَى﴾ بعيني رأسي ﴿مَا لاَ تَرَوْنَ﴾ أنتم ﴿إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ كذب اللعين في هذا القول؛ ولكنه قاله حينما رأى ألا حول له ولا قوة في هذا اليوم: فركن إلى الفرار، وولى الأدبار
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ وهم الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفران ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شرك ونفاق ﴿غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ﴾ يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم؛ فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، إلى زهاء ألف ثم قال تعالى رداً عليهم
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ يعتمد عليه، ويلجأ إليه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ ناصره ومعينه؛ لأنه تعالى ﴿عَزِيزٌ﴾ غالب لا يغلب ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ﴾ يقبضون أرواحهم بأمر ربهم؛ فلا ينزعونها برفق؛ بل ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ بمقامع من حديد؛ تعذيباً لهم يقال لهم في الآخرة ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ جزاء كفركم وعنادكم
﴿كَدَأْبِ﴾ كشأن وعادة ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ في كفرهم وعنادهم، وتعذيبهم بعد موتهم ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أهلكهم في الدنيا بسببها
﴿ذلِكَ﴾ العذاب والانتقام ﴿بِأَنَّ﴾ بسبب أن ﴿اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي إنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يسلب قوماً نعمة أنعمها عليهم؛ إلا إذا استوجبوا بما ارتكبوه من إثم ونعمته تعالى التي أنعمها على قريش: هي بعثة الرسول إليهم؛ فلما غيروها بالإيذاء، والإخراج، والتكذيب، والمحاربة: غير الله تعالى نعمته عليهم بإهلاكهم يوم بدر؛ كما فعل بالأمم الماضية قبلهم؛ ممن عصى وطغى وبغى.
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ﴾ الدواب: كل ما يدب على وجه الأرض؛ وأكثر ما يطلق على العجماوات، وقد نزل الله تعالى بالإنسان الكافر إلى مصاف الحيوان؛ بل هو - في الحقيقة - شر من الحيوان
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ فإن تصادفنهم ﴿فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ فاقتلهم شر قتلة، واضربهم الضربة القاضية؛ التي تجعل من وراءهم يفرون مشردين، ويتفرقون خائفين جزعين
﴿وَإِمَّا﴾ وإن ﴿تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ﴾ بينك وبينهم عهد ﴿خِيَانَةً﴾ للعهد، ونقضاً للمواثيق التي بينكما ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ أي اطرح إليهم عهدهم، وعرفهم أنك قد قابلت نقضهم للعهد، بنقضك له أيضاً ﴿عَلَى سَوَآءٍ﴾ لتكونوا مستوين في معرفة نقض العهد؛ وليكون ذلك بمثابة إعلان الحرب عليهم؛ فلا يؤخذون على غرة، ويكون ذلك منافياً لما عرف عن الإسلام والمسلمين من الفضائل والشمائل، وتوافر المروءة؛ حتى في عداوتهم ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ ولو مع أعدائهم ـ؛ فقد نال المسلمون بأخلاقهم - من أعدائهم - أكثر مما نالوه بسيوفهم؛ فتعالى المربي الأعظم
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أنهم ﴿سَبَقُواْ﴾ أي فاتوا الله تعالى، ونجوا من عقابه ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ أي لا يفوتونه؛ بل سيدركهم عقابه في الدنيا، وعذابه ومقته في الآخرة
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ﴾ من عجب أن يعد لنا العدو السيف والسنان، ونعد له أطراف اللسان؛ وهيهات هيهات أن يكسب اللسان حقاً أكسبه السنان؛ وها هي ذي تعاليم الرحمن، ومن هو أعلم بالإنسان من الإنسان؛ تقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ﴾ فليتنبه الغافل، وليتدبر العاقل ﴿وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ربطها وحبسها للجهاد في سبيل الله تعالى. والرباط من الخيل: الخمس فما فوقها، وتجمع على «ربط» وبها قرأ الحسن وعمرو بن دينار وغيرهما ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ﴾
تخوفون برباط الخيل ﴿عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ وهم اليهود وكفار مكة} أي وأعداء آخرين غير هؤلاء الأعداء؛ وهم المنافقون. وقيل: هم فارس والروم. وقيل: هم الجن؛ لقوله تعالى: ﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ وهو ينطبق على المنافقين أيضاً؛ لأنهم غير معلومين؛ وقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «إن الجن لا تقرب داراً فيها فرس، وأنها تهرب من صهيل الخيل»
﴿وَإِن جَنَحُواْ﴾ مالوا ﴿لِلسَّلْمِ﴾ للمسالمة وعدم الحرب ﴿فَاجْنَحْ لَهَا﴾ فمل إليها؛ أي إلى السلم كما مالوا إليه ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ وحده ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لقولك ﴿الْعَلِيمُ﴾ بحالك (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ﴾ يمكروا ويغدروا بك.
-[٢١٩]- ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ كافيك
﴿يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ التحريض: المبالغة في الحث على الأمر ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ على مرضات ربهم وطاعته، يجاهدون أعداء الله تعالى ابتغاء جنته ﴿يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ نتيجة العدد في الفرضين واحدة؛ وهو أن الواحد من المؤمنين الصابرين؛ يغلب العشرة من الكافرين؛ وإنما كررها تعالى ليبين لنا أن زيادة العدد أو نقصانه لا يؤثران في الغلبة: فسواء كان المجاهد واحداً أو ألفاً؛ فإن الواحد يغلب العشرة، والألف يغلب العشرة الآلاف؛ مع اشتراط الصبر في هذا، والكفر في ذاك ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي تلك الغلبة بسبب أن الكافرين ﴿قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ لأنهم يقاتلون بغير احتساب وطلب ثواب؛ فيقل ثباتهم، وتضعف عزيمتهم. وقد كان ذلك عند بدء الإسلام، وقلة معتنقيه، وكثرة أعدائه ومحاربيه؛ فلما نما الإسلام، وزاد المسلمون: خفف الله تعالى عنهم:
﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
بقوته ومعونته ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالعون والنصر، والإمداد
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾ ما صح وما جاز ﴿أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ الإثخان: كثرة القتل؛ وذلك حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام والمسلمين بالاستيلاء والقهر؛ ثم يكون بعد ذلك الأسر. وقد روي أن النبي أتى بسبعين أسيراً - فيهم العباس عمه وعقيل - فاستشار النبي أصحابه فيهم؛ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله قد أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان - لنسيب له - فلنضرب أعناقهم فقال عليه الصلاة والسلام: مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم؛ حيث قال: ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ومثلك يا عمر كمثل نوح؛ حيث قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم؛ فقالوا: بل نأخذ الفداء - فاستشهدوا بأحد - فلما أخذوا الفداء نزلت هذه الآية ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ أي متاعها؛ ويعني به ما أخذ من فدية الأسرى ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ﴾ لكم ﴿الآخِرَةَ﴾ وما فيها من نعيم مقيم وفي هذه القصة من احترام الشورى، والنزول على رأي الأغلبية ما فيه؛ وليس من أحد أوسع حكمة، وأسدّ رأياً، وأهدى
-[٢٢٠]- رشداً؛ من الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ ولكنه استشار أصحابه، وأمضى رأي الجماعة؛ تنبيهاً لأمته، وتعليماً لهم؛ وإقراراً لنظم الشورى، وهذه هي الديمقراطية الحقة؛ التي يجب السير على نهجها ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ في ملكه، غالب لا يغلب ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه
﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ أي لولا حكم منه تعالى ﴿سَبَقَ﴾ بإحلال الغنائم والأسرى لكم ﴿لَمَسَّكُمْ﴾ لنالكم وأصابكم
﴿فِيمَآ أَخَذْتُمْ﴾ من فداء الأسرى ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مما أعده الله تعالى لمن يخالفون أمره
﴿يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ إيماناً بالله، وإخلاصاً للمؤمنين ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ في الدنيا ﴿خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ﴾ من الفداء ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ما تقدم من ذنوبكم
﴿وَإِن يُرِيدُواْ﴾ أي الأسرى ﴿خِيَانَتَكَ﴾ بأن يظهروا الإيمان، ويبطنوا الكفران ﴿فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ﴾ بكفرهم ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي قبل وقعة بدر ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ أي أظفرك بهم في بدر
﴿وَالَّذِينَ آوَواْ﴾ النبي ﴿وَّنَصَرُواْ﴾ المؤمنين وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم ﴿أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ في المعونة والنصرة؛ ولا حجة لمن زعم أنهم أولياء في الإرث أيضاً
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ﴾ ليكونوا كالسابقين من المهاجرين؛ وليس معنى ذلك أن تعادوهم وتسووا بينهم وبين الكافرين أو المنافقين ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ أي طلبوا معاونتكم على أعدائهم من أجل الدين ﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ أي فواجب عليكم نصرهم ومعاونتهم ﴿إِلاَّ﴾ إذا كان استنصارهم بكم ﴿عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ﴾ عهد و ﴿مِّيثَاقٌ﴾ فلا يجوز نقضه من أجلهم؛ إذ أن الوفاء بالمواثيق والعهود والعقود من أسس الإسلام؛ بل هو الإسلام نفسه فكل وعد وكل عقد، وكل عهد، وكل ميثاق؛ إنما هو عقد بين طرفين ثالثهما الله تعالى؛ فمن نقضه: فقد أخل بالوفاء مع ربه وخالقه ومالك أمره؛ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ وقال أيضاً
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ وقال جل شأنه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ وقال عز من قائل: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة) وهذه الآية تعتبر قانوناً سامياً، ودستوراً دولياً؛ تكتبه الأمم في معاهداتها، وينص عليه المشرعون والمقننون في كتبهم وقوانينهم؛ ولكن الكتابة والتقنين والتشريع - في عرف ساسة اليوم - شيء غير التنفيذ؛ وأصبح الجميع ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فكم من معاهدة، وكم من اتفاق، وكم من تحالف؛ ضرب به عرض الحائط؛ وصار المنطق للقوة وحدها، وصار من يملك أداة التخريب والدمار هو صاحب الحق، وهو الناطق بالصواب فانظر - يا رعاك الله
-[٢٢١]- وهداك - إلى تشريع مولاك: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ فتعالى الله الملك الحق؛ الهادي للرشاد والسداد ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ ظاهر الآية: إثبات موالاة الكافرين لبعضهم؛ وحقيقتها طلب كف المؤمنين عن موالاتهم، وإيجاب مباعدتهم ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ أي إن لم تفعلوا ما أمرت به من نظام الحرب، والإثخان في الأرض قبل اتخاذ الأسرى، وولاية المهاجرين والمؤمنين، ونصرة من يستنصر من المسلمين - مع المحافظة على العهود والمواثيق - وعدم موالاة الكافرين؛ فإن لم تفعلوا ذلك ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ لأن ذلك مؤد إلى انهزامكم، واستيلاء العدو على بلادكم، وعدم الثقة في عهودكم ومواثيقكم
﴿وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ﴾ أي ذووا القرابات ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ في البر، والإنفاق والإحسان.
والرحم: وعاء الولد ومنبته. وأطلق على القرابات: لأنه أصلها وسببها.
221
سورة التوبة
221
Icon