تفسير سورة الأنفال

تفسير ابن أبي زمنين
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين .
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة الأنفال وهي مدنية كلها

قَوْلُهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول﴾ الْآيَةَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَافَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ - لِيُحَرِّضَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ -: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يَفْتَحَ لِي بَدْرًا، وَأَنْ يُغْنِمَنِي عَسْكَرَهُمْ؛ فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ غَنِيمَتِهِمْ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا تَوَافَدُوا أَدْخَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ الرُّعْبَ فَانْهَزَمُوا، فَأَتْبَعَهُمْ سَرْعَانُ مِنَ النَّاسِ؛ فَقَتَلُوا سَبْعِينَ، وَغَنِمُوا الْعَسْكَرَ وَمَا فِيهِ، وَأَقَامَ وَجُوهُ النَّاسِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي مَصَافِّهِ، فَلَمْ يَشُذْ عَنْهُ مِنْهُمْ أحدٌ، ثُمَّ قَامَ أَبُو الْيَسَرِ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ وَعَدْتَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلا أَوْ أَسَرَ أَسِيرًا مِنْ غَنِيمَةِ الْقَوْمِ الَّذِي وَعَدْتَهُمْ، وَإِنَّا قَتَلْنَا سَبْعِينَ، وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ. ثُمَّ قَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ مَا مَنَعْنَا أَنْ نَطْلُبَ كَمَا طَلَبَ هَؤُلاءِ زِهَادَةٌ فِي الأَجْرِ، وَلا جبنٌ عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّا خِفْنَا أَنْ نُعَرِّي صَفَّكَ فَتَعْطِفَ عَلَيْكَ خيل الْمُشْركين. فأرعض عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْيَسَرِ مِثْلَ كَلامِهِ الأَوَّلِ، وَعَادَ سَعْدٌ فَتَكَلَّمَ مِثْلَ كَلامِهِ الأَوَّلِ.
وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الأُسَارَى وَالْقَتْلَى كثيرٌ، وَالْغَنِيمَةُ قَلِيلَةٌ، وَإِنْ تُعْطِ هَؤُلاءِ
164
الَّذِي ذَكَرْتَ لَهُمْ، لَمْ يَبْقَ لِسَائِرِ أَصْحَابِكَ كَبِيرُ شيءٍ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ﴾ فَقَسمهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ".
قَالَ قَتَادَةُ: وَالأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لِلَّهِ وَالرَّسُول﴾ يَقُولُ: ذَلِكَ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ إِلَى رَسُولِهِ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ الأَنْفَالِ: نفلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
(إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نفلٍ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ}
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٢) إِلَى الْآيَة (٤).
165
قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذكر الله وجلت قُلُوبهم﴾ أَيْ: رَقَّتْ مَخَافَةَ
165
عَذَابِهِ ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زادتهم إِيمَانًا﴾ يَعْنِي: كُلَّمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْء صدقُوا بِهِ.
166
﴿لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم﴾ يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالهم.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٥) إِلَى الْآيَة (٨).
﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ يَقُولُ: أَخْرَجَكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ يَعْنِي: فِي الْقِتَالِ؛ وَمَعْنَى مُجَادَلَتِهِمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْعِيرَ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُرِيدُ ذَاتَ الشَّوْكَةِ؛ هَذَا تَفْسِير الْحسن
﴿بَعْدَ مَا تبين﴾ لَهُمْ، قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ لَهُمْ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ.
(١١٦) ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وهم ينظرُونَ﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانُوا فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى الْقِتَالِ كَأَنَّمَا يُسَاقَوْنَ إِلَى الْمَوْتِ؛ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَأَنَّهُمْ رَجَّالَةٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ فِيهِمْ فارسان فخافوا.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَات الشَّوْكَة
166
تكون لكم} وَمَعْنَى الشَّوْكَةِ: السَّلاحُ وَالْحَرْبُ. قَالَ قَتَادَةُ: الطَّائِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَبُو سُفْيَانَ أَقْبَلَ بِالْعِيرِ مِنَ الشَّامِ، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى: أَبُو جَهْلٍ مَعَهُ نَفِيرُ قُرَيْشٍ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَضُمُّوا الْعِيرَ، وَأَرَادَ اللَّهُ مَا أَرَادَ ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يحِق الْحق بكلماته﴾ يَعْنِي: بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَ بِالنَّصْرِ ﴿وَيقطع دابر الْكَافرين﴾ يَعْنِي: أصل الْكَافرين.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٩) إِلَى الْآيَة (١٠).
167
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدكُمْ﴾ مُقَوِّيكُمْ ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ يَعْنِي: مُتَتَابِعِينَ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ، وَقَرَأَ مُجَاهِد (مُردفِينَ) بِفَتْحِ الدَّالِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَيْ: أَمَدَّهُمْ.
قَالَ محمدٌ: وَمن قَرَأَ (مُردفِينَ) بِكَسْرِ الدَّالِ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْدَفْتُ الرَّجُلَ؛ إِذَا جِئْتَ بَعْدَهُ؛ وَمِنْهُ قْولُ الشَّاعِرِ:
قَوْله: ﴿وَمَا جعله الله﴾ يَعْنِي: الْمَدَدَ مِنَ الْمَلائِكَةِ ﴿إِلا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ﴾ أَي: تسكن.
167
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (١١) إِلَى الْآيَة (١٤).
168
﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذين كفرُوا الرعب﴾ تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: قَالَ:
بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَبَقُوا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، فَنَزَلَ حِيَالَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الْوَادِي، وَنَزَلَ عَلَى غَيْرِ ماءٍ، فَقَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا عَظِيمًا، فَقَالَ: زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَعَلَى دِينِ اللَّهِ؛ وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُحْدِثِينَ مُجْنِبِينَ، فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُذْهِبَ مِنْ قُلُوبِهِمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ، فَغَشَّى الْمُؤْمِنِينَ نُعَاسًا أَمَنَةً مِنْهُ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِرَهُمْ بِهِ مِنَ الأَحْدَاثِ وَالْجَنَابَةِ، وَيُذْهِبَ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ؛ مَا كَانَ قَذَفَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، وَكَانَ بَطْنُ الْوَادِي فِيهِ رملةٌ تَغِيبُ فِيهَا الأَقْدَامُ، فَلَمَّا مُطِرَ الْوَادِي اشْتَدَّتِ الرَّمْلَةُ فَمَشِيَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ حِيَاضًا عَلَى الْوَادِي، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا، وَاسْتَقَوْا، ثُمَّ صَفُّوا، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ ﴿أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾.
﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فَاضْرِبُوا الأَعْنَاقَ (واضربوا
168
مِنْهُم كل بنانٍ} يَعْنِي: كل عُضْو
169
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١:﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه... ﴾ إلى قوله :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ تفسير الكلبي : قال :" بلغنا أن المشركين سبقوا رسول الله إلى ماء بدر، فقدم رسول الله، فنزل حيالهم بينه وبينهم الوادي، ونزل على غير ماء ؛ فقذف الشيطان في قلوب المؤمنين أمرا عظيما، فقال : زعمتم أنكم عباد الله، وعلى دين الله ؛ وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين، فأحب الله أن يذهب من قلوبهم رجز الشيطان، فغشى المؤمنين نعاسا أمنة منه، وأنزل من السماء ماء ليطهرهم به من الأحداث والجنابة، ويذهب عنهم رجز الشيطان ؛ ما كان قذفه في قلوبهم، وليربط على قلوبهم ويثبت به الأقدام، وكان بطن الوادي فيه رملة تغيب فيها الأقدام، فلما مطر الوادي اشتدت الرملة فمشي عليها الرجال، واتخذ رسول الله حياضا على الوادي، فشرب المسلمون منها، واستقوا، ثم صفوا. وأوحى ربك إلى الملائكة ﴿ أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾١ ".
﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾ قال الحسن : يعني : فاضربوا الأعناق ﴿ واضربوا منهم كل بنان ﴾ يعني : كل عضو.
١ عزاه الحافظ السيوطي لابن مردويه عن ابن عباس. انظر / الدر المنثور (٣/١٨٦)..

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قَالَ قَتَادَة: الشقاق: الْفِرَاق
﴿ذَلِكُم فذوقوه﴾ يَعْنِي: الْقَتْل ﴿وَأَن للْكَافِرِينَ﴾ بعد الْقَتْل ﴿عَذَاب النَّار﴾ فِي الْآخِرَة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (١٥) إِلَى الْآيَة (١٦).
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كفرُوا زحفاً﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: الزَّحْفُ جَمَاعَةٌ يَزْحَفُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ بِمَرَّةٍ - أَيْ: يَنْقَضُّونَ - وَقَدْ يَكُونُ الزَّحْفُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِكَ: زَحَفْتُ.
﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾ أَي: لَا تنهزموا
﴿وَمن يولهم يومئذٍ دبره﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ ﴿إِلَّا متحرفاً لقِتَال﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي يَدَعُ مَوْقِفَ مَكَانٍ لمكانٍ ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة﴾ أَيْ: يَنْحَازُ إِلَى جَمَاعَةٍ ﴿فَقَدْ بَاء بغضب من الله﴾ أَيْ: اسْتَوْجَبَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا متحرفاً لقِتَال﴾ عَلَى الْحَالِ؛ أَيْ: إِلا أَنْ يَتَحَرَّفَ فُلانٌ بِقِتَالٍ، وَكَذَلِكَ ﴿أَوْ متحيزاً﴾.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ فِيهِمَا عَلَى الاسْتِثْنَاءِ؛ أَيْ: إِلا رَجُلا مُتَحَرِّفًا،
169
أَوْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا لَيْنَحَازَ فَيَكُونَ مَعَ الْمُقَاتِلَةِ. يُقَالُ: تَحَيَّزْتُ وَتَحَوَّزْتُ، يَعْنِي: انْحَزْتُ.
يحيى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ [... ] أَنَّ عُمَرَ بن الْخطاب (ل ١١٧) بَلَغَهُ (قَتْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابِهُ بِالْقَادِسِيَّةِ) قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ؛ لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً ".
يحيى: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صبيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
لَيْسَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بدر ".
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (١٧) إِلَى الْآيَة (١٩).
170
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلكنه الله رمى﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَمَّا صَافَّ رَسُولُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ، دَعَا بقبضةٍ مِنْ حَصْبَاءِ الْوَادِي وَتُرَابِهِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَمَلأَ اللَّهُ مِنْهَا وُجُوهَهُمْ وَأَعْيُنَهُمْ تُرَابًا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَانْهَزَمُوا، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ ".
﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا﴾ يُنْعِمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمِ الْمُشْرِكِينَ.
﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافرين﴾ أَي: مضعف.
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لما صافوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَيُّنَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْهُ، فَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَقَالَ: ﴿إِن تستفتحوا﴾ يَعْنِي: تَسْتَنْصِرُوا ﴿فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ النَّصْرُ؛ يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ نصر نبيه ﴿وَإِن تنتهوا﴾ يَعْنِي: عَنْ قِتَالِ محمدٍ.
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾ عَلَيْكُم بالهزيمة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٢٠) إِلَى الْآيَة (٢٥).
﴿وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ ٦ يَعْنِي: الْحجَّة
﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وهم لَا يسمعُونَ﴾ ﴿الْهدى﴾
﴿إِن شَرّ الدَّوَابّ﴾ ﴿الْخلق﴾ ﴿عِنْد الله الصم﴾ عَنِ الْهُدَى فَلا يَسْمَعُونَهُ ﴿الْبُكْمُ﴾ عَنْهُ فَلا يَنْطِقُونَ بِهِ ﴿الَّذِينَ لَا يعْقلُونَ﴾ الْهدى.
﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ هِيَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لما نهوا عَنهُ﴾.
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ﴾ يُرِيدُ: الْقُرْآنَ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه﴾ تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: يَحُولُ بَيْنَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ، وَبَيْنَ قَلْبِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ طَاعَتِهِ.
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة﴾ أَيْ: أَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ تَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: خَاطَبَ بِهَذَا أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٢٦) إِلَى الْآيَة (٢٩).
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْض﴾ أَيْ: مَقْهُورُونَ فِي أَرْضِ " مَكَّةَ " ﴿تخافون أَن يتخطفكم النَّاس﴾ يَعْنِي: كُفَّارَ أَهْلِ " مَكَّةَ ".
﴿فَآوَاكُمْ﴾ ضمكم إِلَى " المدنية " ﴿وأيدكم﴾ أَعَانَكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَات﴾ يَعْنِي: الْحَلَال من الرزق.
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم﴾.
قَالَ السُّدِّيُّ:
نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ أَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَيَدِهِ؛ أَلا تَنْزِلُوا عَلَى الْحُكْمِ، فَكَانَتْ خِيَانَةً مِنْهُ وذنباً ﴿وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾ أَنَّهَا خِيَانَة
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ بَلِيَّةٌ، ابْتَلاكُمُ اللَّهُ بِهَا لِتُطِيعُوهُ فِيمَا ابتلاكم فِيهِ.
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لكم فرقانا﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: مَخْرَجًا فِي الدّين من الشُّبْهَة والضلالة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٣٠) إِلَى الْآيَة (٣٣).
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الْآيَةَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ عِصَابَةً مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ يَمْكُرُونَ بِنَبِيِّ اللَّهِ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ إِبْلِيسُ عَلَيْهِ ثيابٌ، لَهُ أَظْفَارٌ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: مَا أَدْخَلَكَ فِي جَمَاعَتِنَا بِغَيْرِ إِذْنِنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ " نَجْدَ " قَدِمْتُ " مَكَّةَ " فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَ مِنْ حَدِيثِكُمْ، وَأَقْتَبِسَ مِنْكُمْ خَيْرًا، وَرَأَيْتُ وُجُوهَكُمْ حَسَنَةً وَرِيحَكُمْ طَيِّبَةً؛ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ جَلَسْتُ مَعكُمْ، وَإِذا كرهتم مجلسي (ل ١١٨) خَرَجْتُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تُهَامَةَ، فَلا بَأْسَ عَلَيْكُم [مِنْهُ] تتكلموا بالمكر ببني اللَّهِ، فَقَالَ الْبَخْتَرِيُّ بْنُ هِشَامٍ - أحد بني أَسد ابْن عَبْدِ الْعُزَّى -: أَمَّا أَنَا فَأَرَى لَكُمْ مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تَأْخُذُوا مُحَمَّدًا، فَتَجْعَلُوهُ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ تَسُدُّوا عَلَيْهِ بَابَهُ، وَتَجْعَلُوا فِيهِ كُوَّةً يَدْخُلُ إِلَيْهِ مِنْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، ثُمَّ تَذْرُوهُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ.
فَقَالَ إِبْلِيسُ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ، تَعْمَدُونَ إِلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ صَغْوٌ وَقَدْ سَمِعَ بِهِ مَنْ حَوْلَكُمْ فَتَحْبِسُونَهُ، وَتُطْعِمُونَهُ وَتُسْقُونَهُ، فَيُوشِكُ الصَّغْوُ الَّذِي لَهُ فِيكُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ عَلَيْهِ فَتَفْسُدُ فِيهِ جَمَاعَتُكُمْ، وَتُسْفَكُ فِيهِ دِمَاؤُكُمْ. فَقَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الأَسْوَدِ - وَهُوَ هَاشِمُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - فَقَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَرَى أَنْ تَحْمِلُوا مُحَمَّدًا عَلَى بَعِيرٍ، ثُمَّ تُخْرِجُوهُ مِنْ أَرْضِكُمْ فَيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَيَلِيَهُ غَيْرُكُمْ. فَقَالُوا: نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ. فَقَالَ إِبْلِيسُ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ، تَعْمَدُونَ إِلَى رَجُلٍ أَفْسَدَ جَمَاعَتَكُمْ، وَاتَّبَعَتْهُ مِنْكُمْ
174
طَائِفَةٌ، فَتُخْرِجُونَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ، فَيَأْتِيهِمْ فَيُفْسِدَهُمْ كَمَا أَفْسَدَكُمْ، يُوشِكُ وَاللَّهِ أَنْ يَمِيلَ بِهِمْ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلا، ثُمَّ تُعْطُوا كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَيْفًا فَيَأْتُونَهُ [فَيَضْرِبُونَهُ] جَمِيعًا فَلا يَدْرِي قَوْمُهُ مَنْ يَأْخُذُونَ بِهِ، وَتُودِي قُرَيْشٌ دِيَتَهُ.
فَقَالَ إِبْلِيسُ: صَدَقَ وَاللَّهِ هَذَا الشَّابُّ؛ إِنَّ الأَمْرَ لَكَمَا. قَالَ: فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ.
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ. فَخَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ الْغَارَ قَالَ اللَّهُ: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خير الماكرين﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ: الْجَزَاءُ وَالْمَثُوبَةُ؛ أَنْ يُجَازِيَهُمْ جَزَاءَ مَكْرهمْ.
وَمعنى: ﴿ليثبتوك﴾ أَي: ليحسبوك، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلانٌ مُثَّبَتْ وَجَعًا إِذا منع من الْحَرَكَة.
175
قَوْلُهُ: ﴿إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلين﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَمَّا قَصَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَوْمِهِ شَأْنَ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ - أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ -: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ مِثْلَ هَذَا، إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ: كَذِبِ الأَوَّلِينَ وَبَاطِلِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الأَسَاطِيرُ: وَاحِدهَا: أسطورة.
﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ أَيْ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً من السَّمَاء﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ عَلَى نَصْبِ: ﴿الْحق﴾ عَلَى خَبْرِ كَانَ، وَدَخَلَتْ
175
(هُوَ) للتوكيد.
176
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فيهم﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ: حَتَّى نُخْرِجَكَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
﴿وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ يَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ لمْ يَكُونُوا يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَمَا عذبُوا.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٣٤) إِلَى الْآيَة (٣٥).
﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أولياءه﴾ زَعَمَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ﴾
﴿وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مكاءً وتصدية﴾ قَالَ الْحَسَنُ: الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ؛ يَقُولُ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَكَانَ الصَّلاةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ ليخلطوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة.
﴿فَذُوقُوا الْعَذَاب﴾ يَعْنِي: الْقَتْلَ بِالسَّيْفِ قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَة ﴿بِمَا كُنْتُم تكفرون﴾.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٣٦) إِلَى الْآيَة (٤٠).
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا﴾ الآيَةَ.
لَمَّا هَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ، رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ، فَأَخَذُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الْعِيرُ مِنَ الشَّامِ، فَتَجَهَّزُوا بِهِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ، وَاسْتَنْصَرُوا بِقَبَائِلَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ إِلَى قَوْله: (ل ١١٩) ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ يَعْنِي: نَفَقَةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم﴾ مَعَهم ﴿أُولَئِكَ هم الخاسرون﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ: أَرْكُمُ الشَّيْءَ رَكْمًا؛ إِذَا جَعَلْتُ بَعْضَهُ عَلَى بعض، والركام الِاسْم.
﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ يعني : نفقة المؤمنين من نفقة الكافرين ﴿ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ﴾ معهم ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ قال محمد : تقول : أركم الشيء ركما ؛ إذا جعلت بعضه على بعض، والركام الاسم١.
١ انظر / القاموس المحيط للفيروز آبادي (٤/١٢٠) (مادة / ركم)..
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يعودوا﴾ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلين﴾ بِالْقَتْلِ وَالاسْتِئْصَالِ فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنَ الأَوَّلِينَ
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ شِرْكٌ؛ وَهَذِهِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ خَاصَّةً ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ يَعْنِي: الْإِسْلَام.
﴿فَإِن انْتَهوا﴾ عَنْ كُفْرِهِمْ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
﴿وَإِن توَلّوا﴾ يَعْنِي: أَبَوْا إِلا الْقِتَالَ ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنعم النصير﴾.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٤١) إِلَى الْآيَة (٤٢).
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا عِنْدَ الْقِتَالِ مَا غَنِمُوا مِنَ شيءٍ، فَلِلَّهِ خُمُسُهُ يُرْفَعُ الْخُمْسُ فَيَرُدُّهُ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ، وَعَلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ وَعَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ ذَلِكَ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يُصْلِحُهُمْ، لَيْسَ لِذَلِكَ وَقْتٌ. وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَكَرَ يحيى فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ اخْتِلافًا؛ وَلِهَذَا مَوْضِعُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْم الْفرْقَان﴾ قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ فَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَهَزَمَ عَدُوَّهُ ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع الْمُؤمنِينَ، وَجمع الْمُشْركين.
﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بالعدوة القصوى﴾.
قَالَ قَتَادَةُ: الْعُدْوَتَانِ: شَفِيرُ الْوَادِي؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْلاهُ، وَالْمُشْرِكُونَ
178
بأسفله ﴿والركب أَسْفَل مِنْكُم﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ وَالْعِيرَ؛ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْعِيرُ أَسْفَلَ مِنَ الْوَادِي - زَعَمُوا بِثَلاثَةِ أَمْيَالٍ - فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ لَا يَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ مَكَانَ عِيرِهِمْ، وَلا يَعْلَمُ أَصْحَابُ الْعِيرِ مَكَانَ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة (أَسْفَل) بِالنّصب؛ على معنى: والراكب مَكَانًا أَسْفَلَ مِنْكُمْ.
﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ﴾ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ ﴿لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا﴾ أَيْ: فِيهِ نَصْرُكُمْ، وَالنِّعْمَةُ عَلَيْكُمْ ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ يَعْنِي: بعد الْحجَّة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٤٣) إِلَى الْآيَة (٤٥).
179
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ولتنازعتم فِي الْأَمر﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَارَ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِسَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، أَرَاهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَنَامِهِ قَلِيلا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَرَانِي الْمُشْرِكِينَ فِي مَنَامِي قَلِيلا ".
179
﴿وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم﴾ أَيْ: لَجَبُنْتُمْ ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾ أَيْ: اخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُوله ﴿وَلَكِن الله سلم﴾ من ذَلِك.
﴿إِنَّه﴾ إِنَّ اللَّهَ ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ: بِمَا فِيهَا، يَقُولُ: مِنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي صُدُورِكُمْ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ، وَأَذْهَبَ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ فِي صدوركم.
180
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَايَنُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ رَأَوْهُمْ قَلِيلا؛ فَصَدَّقُوا رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ، وَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، فَاجْتَرَأَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَاجْتَرَأَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿لِيَقْضِيَ الله أمرا كَانَ مَفْعُولا﴾ أَي: فِيهِ نصركم.
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ يَعْنِي: من الْمُشْركين ﴿فاثبتوا﴾ فِي صُفُوفِكُمْ. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عِنْد الضراب بِالسُّيُوفِ.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٤٦) إِلَى الْآيَة (٤٨).
﴿وَلا تَنَازَعُوا﴾ أَي: لَا تختلفوا ﴿فتفشلوا﴾ أَي: تجبنوا. ﴿وَتذهب ريحكم﴾ أَي: نصركم.
(ل ١٢٠)
﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ " مَكَّةَ " إِلَى بَدْرٍ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى بَدْرٍ أَنَّ عِيرَهُمْ قَدْ نَجَتْ، فَأَرَادَ الْقَوْمُ الرُّجُوعَ، فَأَتَاهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، لَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ؛ فَإِنَّكُمْ كَثِيرٌ، وَعَدُوَّكُمْ قَلِيلٌ فَتَأْمَنَ عِيرُكُمْ، وَأَنَا جارٌ لَكُمْ عَلَى بَنِي كَنَانَةَ، أَلا تَمُرُّوا بِحَيٍّ مِنْ بَنِي كَنَانَةَ إِلا أَمَدَّكُمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّجَالِ وَالسِّلاحِ. فَمَضَوْا كَمَا أَمَرَهُمْ لِلَّذِي أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هَلاكِهِمْ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ بِبَدْرٍ، فَنَزَلَتِ الْمَلائِكَةُ مَعَ الْمُسلمين فِي صف، وَإِبْلِيسُ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ فَلَمَّا نَظَرَ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَلائِكَةِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَأَخَذَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ بِيَدِهِ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، عَلَى هَذِهِ الْحَالِ تَخْذُلُنَا؟ ﴿قَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ؛ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: أَلا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَمْسِ؟ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ دَفَعَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَخَرَّ، وَانْطَلَقَ إِبْلِيسُ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ قَالُوا: إِنَّمَا انْهَزَمَ بِالنَّاسِ سُرَاقَةُ وَنَقَضَ الصَّفَّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سُرَاقَةَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مَكَّةَ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّي انْهَزَمْتُ بِالنَّاسِ﴾ فَوَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ سُرَاقَةُ، مَا شَعَرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَنِي هَزِيمَتُكُمْ. فَجَعَلُوا يُذَكِّرُونَهُ؛ أَمَا أَتَيْتَنَا يَوْمَ كَذَا، وَقُلْتَ لَنَا كَذَا.
فَجَعَلَ يحلف، فَلَمَّا أَسْلمُوا عَلِمُوا أَنَّهُ الشَّيْطَانُ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ﴾ وَأَمَّا قَوْلُهُ:
181
﴿إِنِّي أَخَاف الله﴾ فكذب.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٤٩) إِلَى الْآيَة (٥٢).
182
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس... ﴾ إلى قوله :﴿ والله شديد العقاب ﴾ قال الكلبي : إن المشركين لما خرجوا من " مكة " إلى بدر أتاهم الخبر وهم بالجحفة قبل أن يصلوا إلى بدر أن عيرهم قد نجت، فأراد القوم الرجوع، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال : يا قوم، لا ترجعوا حتى تستأصلوهم ؛ فإنكم كثير، وعدوكم قليل فتأمن عيركم، وأنا جار لكم على بني كنانة، ألا تمروا بحي من بني كنانة إلا أمدكم بالخيل والرجال والسلاح. فمضوا كما أمرهم للذي أراد الله من هلاكهم، فالتقوا هم والمسلمون ببدر، فنزلت الملائكة مع المسلمين في صف، وإبليس في صف المشركين في صورة سراقة بن مالك فلما نظر إبليس إلى الملائكة نكص على عقبيه، وأخذ الحارث بن هشام المخزومي بيده، فقال : يا سراقة، على هذه الحال تخذلنا ؟ قال : إني أرى ما لا ترون ؛ إني أخاف الله والله شديد العقاب. فقال له الحارث : ألا كان هذا القول أمس ؟ فلما رأى إبليس أن القوم قد أقبلوا إليهم دفع في صدر الحارث فخر، وانطلق إبليس وانهزم المشركون، فلما قدموا مكة قالوا : إنما انهزم بالناس سراقة ونقض الصف، فبلغ ذلك سراقة، فقدم عليهم مكة، فقال : بلغني أنكم تزعمون أني انهزمت بالناس فوالذي يحلف به سراقة، ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم. فجعلوا يذكرونه ؛ أما أتيتنا يوم كذا، وقلت لنا كذا فجعل يحلف، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
قال الكلبي : وكان صادقا في قوله :﴿ إني أرى ما لا ترون ﴾ وأما قوله :﴿ إني أخاف الله ﴾ فكذب.

﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبهم مرض﴾ أَيْ: شَكٌّ ﴿غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا نَفَرُوا مِنْ " مَكَّةَ " إِلَى بَدْرٍ، نَفَرَ مَعَهُمْ أُنَاسٌ قَدْ كَانُوا تَكَلَّمُوا بِالإِسْلامِ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ، ارْتَابُوا وَنَافَقُوا وَقَاتَلُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالُوا: ﴿غَرَّ هَؤُلاءِ دينهم﴾ يَعْنُونَ: الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيز﴾ فِي نقمته ﴿حَكِيم﴾ فِي أمره.
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: هَذَا يَوْم بدر.
﴿كدأب آل فِرْعَوْن﴾ يَعْنِي: كَفِعْلِ. قَالَ الْحَسَنُ: فِيهَا إِضْمَارٌ: فَعَلُوا كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴿وَالَّذين من قبلهم﴾ من الْكفَّار ﴿فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ﴾.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٥٣) إِلَى الْآيَة (٥٩).
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم﴾ يَعْنِي: إِذَا جَحَدُوا الرُّسُلَ، أَهْلَكَهُمُ الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:﴿ كدأب آل فرعون ﴾ يعني : كفعل. قال الحسن : فيها إضمار : فعلوا كفعل آل فرعون ﴿ والذين من قبلهم ﴾ من الكفار ﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾.
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْخَلْقَ عِنْدَ اللَّهِ ﴿الَّذِينَ كفرُوا فهم لَا يُؤمنُونَ﴾ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ
﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهدهم فِي كل مرّة﴾.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
هَؤُلاءِ قَوْمٌ مِمَّنْ كَانَ وادع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ، فَأَمَرَ اللَّهُ فِيهِمْ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْب﴾ أَيْ: تَظْفَرُ بِهِمْ.
﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ من خَلفهم﴾ أَيْ: فَعِظْ بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ ﴿لَعَلَّهُم يذكرُونَ﴾ يَقُولُ: لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِالَّذِينَ نقضوا الْعَهْد
﴿ فإما تثقفنهم في الحرب ﴾ أي : تظفر بهم.
﴿ فشرد بهم من خلفهم ﴾ أي : فعظ بهم من سواهم ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ يقول : لعلهم يؤمنون ؛ مخافة أن ينزل بهم ما نزل بالذين نقضوا العهد.
﴿وَإِمَّا تخافن﴾ أَيْ: تَعْلَمَنَّ ﴿مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ يَعْنِي: نَقْضًا لِلْعَهْدِ ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاء﴾ أَيْ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ حَرْبٌ، وَيَكُونُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ عِنْدَكَ سَوَاءً ﴿إِنَّ الله لَا يحب الخائنين﴾ لَا يُعِينُهُمْ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ.
﴿وَلَا تحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا﴾ أَيْ: فَاتُوا. ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: (إِنَّهُم لَا
183
يعجزون} لَا يَفُوتُونَ اللَّهَ حَتَّى لَا يقدر عَلَيْهِم.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٦٠) إِلَى الْآيَة (٦١).
184
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوةٍ﴾ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقُوَّةُ هَا هُنَا: الْقَتْلُ ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ﴾ أَيْ: تُخِيفُونَ ﴿عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
يحيى: عَنْ [... ] عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الرَّحْمَن (ل ١٢١) الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَن، عَن عَمْرو بن عبسة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنِ رَمَى الْعَدُوَّ بسهمٍ فَبَلَغَ سَهْمُهُ؛ أَصَابَ الْعَدُوَّ أَوْ أَخْطَأَ - فَهُوَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ ".
يحيى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ كَالْبَاسِطِ يَدَهُ بِالصَّدَقَةِ ".
184
﴿وَآخَرين من دونهم﴾ مِنْ دُونِ الْمُشْرِكِينَ؛ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ ﴿لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ﴾.
قَالَ مُحَمَّد: (وَآخَرين) عَطْفٌ عَلَى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوكُمْ﴾ وَتُرْهِبُونَ بِهِ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ.
185
﴿وَإِن جنحوا﴾ مالوا ﴿للسلم فاجنح لَهَا﴾.
قَالَ مُحَمَّد: السّلم هَا هُنَا: الصُّلْحُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظنونا}
(السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ)
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٦٢) إِلَى الْآيَة (٦٤).
قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، يَقُولُ: إِنْ هُمْ أَظْهَرُوا لَكَ الإِيمَانَ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ؛ لِيَخْدَعُوكَ بِذَلِكَ؛ لِتُعْطِيَهُمْ حُقُوقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أيدك﴾ أعانك ﴿بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿وَألف بَين قُلُوبهم﴾ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
185
فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينهم} يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُتَعَادِينَ؛ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى تَحَابُّوا، وَذَهَبَتِ الضَّغَائِنُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٦٥) إِلَى الْآيَة (٦٩).
186
﴿يَا أَيهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ من الْمُؤمنِينَ﴾ أَي: وَحسب من اتبعك.
﴿يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ﴾ حثهم ﴿على الْقِتَال﴾ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الشُّهَدَاءَ وَالْمُجَاهِدِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَحُثَّ الإِنْسَانُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ حارضٌ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، وَالْحَارِضُ: الَّذِي قَدْ قَارَبَ الْهَلاكَ.
﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالله مَعَ الصابرين﴾
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنْ يَصْبِرُوا لِعَشَرَةِ
186
أَمْثَالِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَهَا ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفا فَإِن تكن مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألفٌ يَغْلِبُوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله﴾ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْبِرُوا لمثليهم؛ إِذْ لَقَوْهُمْ فَلَمْ يُقْبَضْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَأَعَزَّهُ، وَصَارَ الْجِهَادُ تَطَوُّعًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاثَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَلا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفِرَّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ".
187
﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ﴾ فأمر الله المسلمين أن يصبروا لمثليهم ؛ إذا لقوهم فلم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أظهر الله الدين وأعزه، وصار الجهاد تطوعا.
قال ابن عباس :" فمن فر من ثلاثة من المشركين فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر، ولا ينبغي لرجل من المسلمين أن يفر من رجلين من المشركين ".
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة﴾ كَانَ هَذَا فِي أَسْرَى بَدْرٍ، يَقُولُ: فَأَخَذْتُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الأَسْرَى فِي أَوْلِ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُثْخِنُوا فِي الأَرْضِ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَلَمْ يَكُنْ أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ فَاسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْفِدَاءِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الإِثْخَانُ فِي الشَّيْءِ (قُوَّةُ) الشَّيْءِ، وَمَعْنَى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ أَي يتَمَكَّن.
﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَأْكُلُونَ الْغَنَائِمَ.
﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَحِلَّ الْغَنِيمَةُ إِلا لِهَذِهِ
187
الأُمَّةِ؛ كَانَتْ تُجْمَعُ فَتَنْزِلُ عَلَيْهَا النَّار من السَّمَاء فتأكلها.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٧٠) إِلَى الْآيَة (٧١).
188
﴿يَا أَيهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبكُمْ خيرا﴾ يَعْنِي: إسلاماً ﴿يُؤْتكُم خيرا﴾ (ل ١٢٢) أَسرُّوا يَوْم بدر
﴿فَقَدْ خَانُوا الله من قبل﴾ يَعْنِي: فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ قبل ﴿فَأمكن مِنْهُم﴾ حَتَّى صَارُوا أَسْرَى فِي بَدْرٍ.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (٧٢) إِلَى الْآيَة (٧٥).
﴿إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا﴾ إِلَى " الْمَدِينَةِ " يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ ﴿وَالَّذِينَ آووا ونصروا﴾ يَعْنِي: الأَنْصَارَ؛ أَوَوُا الْمُهَاجِرِينَ، وَنَصَرُوا اللَّهَ وَرَسَوُلَهُ (أُولَئِكَ
188
بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا [وَلَمْ يُهَاجِرُوا] مَا لَكُمْ مِنْ ولايتهم من شيءٍ﴾ يَعْنِي: فِي الدِّينِ ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ قَالَ قَتَادَة: نزلت هَذِه الْآيَة، فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ زَمَانًا، وَكَانَ لَا يَرِثُ الأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمَ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُهَاجِرِ الْمُسْلِمِ شَيْئًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ؛ فَقَالَ: ﴿وَأولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ فَخَلَطَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَصَارَتِ الْمُوَارِيثُ بِالْمِلَلِ.
﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّين﴾ يَعْنِي: الْأَعْرَاب ﴿فَعَلَيْكُم النَّصْر﴾ لَهُمْ؛ لِحُرْمَةِ الإِسْلامِ.
﴿إِلا عَلَى قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق﴾ يَعْنِي: أَهْلَ الْمُوَادَعَةِ وَالْعَهْدِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَالَ قَتَادَةُ: نَهَى الْمُسلمُونَ عَن نقض ميثاقهم.
189
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعضٍ﴾ نَزَلَتْ حِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ؛ فَإِذَا أَرَادَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا: مَا تُرِيدُ مِنَّا وَنَحْنُ [... ] عَنْكُمْ وَقَدْ نَرَى نَارَكُمْ؟ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ النَّارَ؛ لِحُرْمَةِ قُرْبِ الْجِوَارِ؛ لأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا نَارَهُمْ فَهُمْ جِيرَانُهُمْ، وَإِذَا أَرَادَهُمُ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا: مَا تُرِيدُونَ مِنَّا وَنَحْنُ عَلَى دِينِكُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ أَيْ: فَأَلْحِقُوا الْمُشْرِكِينَ
189
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ حُكْمُكُمْ فِيهِمْ وَاحِدًا.
﴿إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فتْنَة﴾ أَيْ: شِرْكٌ ﴿فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير﴾ لأَنَّ الشِّرْكَ إِذَا كَانَ فِي الأَرْض فَهُوَ فسادٌ كَبِير.
190
﴿وَالَّذين آمنُوا من بعد﴾ يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ فَتْحِ " مَكَّةَ " وَبَعْدَ مَا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ ﴿وَهَاجَرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم﴾.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ؛ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: سَمِعْنَا أَنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَقَالَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، وَلَكِنْ جهادٌ ونيةٌ حسنةٌ. ثُمَّ قَالَ لِصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ أَبَا وَهْبٍ لترجعن إِلَى أباطيح مَكَّة "
﴿وَأولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَيْ: فِي فَرْضِ اللَّهِ؛ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
﴿إِنَّ الله بِكُل شَيْء عليم﴾.
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا بكرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ:
إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي خَتَمَ اللَّهُ بِهَا سُورَةَ الأَنْفَالِ هِيَ فِيمَا جَرَّتِ الرَّحِمُ مِنَ الْعُصْبَةِ ".
قَالَ محمدٌ: ﴿أولو الْأَرْحَام﴾ وَاحِدُهُمْ: (ذُو) مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ.
190
تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَهِيَ مدنيةٌ كُلُّهَا
قَالَ يحيى: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْجَرَّاحِ الْمَهْرِيُّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: كَيْفَ جَعَلْتُمُ الأَنْفَالَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينِ مَعَ بَرَاءَةٍ وَهِيَ مِنَ الطُّوَالِ، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الثَّلاثُ الآيَاتُ وَالأَرْبَعُ الآيَاتُ، وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ، فَيَقُولُ: اجْعَلُوا آيَةَ كَذَا وَكَذَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا. وَإِنَّهُ قُبِضَ وَلَمْ يَقُلْ لَنَا فِي الأَنْفَالِ شَيْئًا، وَنَظَرْنَا فَرَأَيْنَا قَصَصِهِمَا مُتَشَابِهًا، فَجَعَلْنَاهَا مَعَهَا وَلَمْ نَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ: بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
191
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١) إِلَى الْآيَة (٤).
(ل ١٢٣)
192
Icon