تفسير سورة المعارج

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة المعارج
التهديد بالعذاب الأخروي
المشركون قوم حمقى، فإنهم طالبوا بإنزال العذاب في الدنيا، واستعجال العذاب الأخروي تحدّيا واستهزاء وعنادا، على الرغم من إخبار القرآن بتعذيب من قبلهم ممن هو أشد منهم قوة وجحودا وثراء وزعامة، فجاءهم إنذار آخر من السماء يهددهم بعذاب واقع، مع وصف مرعب ليوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال وتغيرات غريبة تباين المألوف، مما يزيد في الخوف أو الذّعر، وذلك في مطلع سورة المعارج المكّية بالإجماع في هذه الآيات:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» [المعارج: ٧٠/ ١- ١٨].
(١) سأل بكذا: طلبه، وسأل عن كذا: استخبر عنه اعتناء به. [.....]
(٢) مانع وواقع.
(٣) المصاعد والدرجات لصعود العمل الصالح إليه.
(٤) مائع الزيت ونحوه من المعادن المذابة.
(٥) الصوف المندوف.
(٦) صديق صديقه.
(٧) زوجته.
(٨) عشيرته.
(٩) كلمة ردع وزجر للمخاطب عما هو عليه.
(١٠) نار ملتهبة.
(١١) هي أعضاء الجسم الخارجية أو جلدة الرأس.
2732
أخرج النّسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ قال:
هو النّضر بن الحارث، قال: «اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء».
دعا داع وطلب طالب بإنزال عذاب واقعي، كائن للكافرين، نازل بهم، لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله تعالى. وقوله: لِلْكافِرينَ بمعنى: على الكافرين، فاللام بمعنى على هنا، أو كأن قائلا قال: لمن هذا العذاب؟ فقيل:
للكافرين. وسؤال العذاب من طالبه للاستهزاء والتعنّت. والسائل كما تقدّم: هو النضر بن الحارث أو غيره.
والعذاب واقع من جهة الله تعالى، ذي المصاعد الذي تصعد إليه الكلمة الطيبة والعمل الصالح، أو تصعد فيها الملائكة، وقال ابن عباس: المعارج: السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء. تصعد في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السّلام، خصصه بالذّكر تشريفا، في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا، لو أراد البشر الصعود إليها. وهذا بحسب مواقف القيامة ومواطنها، فيها هذه المواطن، وفيها خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة، كما في آية أخرى: هي فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السّجدة: ٣٢/ ٥]. وهذا في حقّ الكافر، أما في حقّ المؤمن فلا يجدون هذه المسافة لقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) [الفرقان: ٢٥/ ٢٤]. والمستقر والمقيل: هو الجنة.
ثم أمر الله نبيّه بالصبر على مثل هذا السؤال، فاصبر يا محمد صبرا جميلا، ولا تأبه بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي، واحلم على تكذيبهم لك.
إن المشركين يرون يوم القيامة ووقوع العذاب فيه بعيدا أو مستحيل الوقوع، والله يراه قريبا، ويعلمه كائنا ممكنا غير متعذر، لأن كل ما هو آت قريب.
2733
وأوصاف ذلك اليوم يوم القيامة: أن السماء تصير كمائع الزيت أو المعادن المذابة، وتكون الجبال كالصوف المنفوش أو المندوف إذا طيّرته الريح، ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم، وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره.
ويبصّر أو يرى كل صديق صديقه، ويعرّف به، لا يخفى منهم أحد عن أحد، دون أن يكلم بعضهم بعضا، ويتمنّى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحقّ به النار: أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به، بأعزّ ما لديه، من المال والبنين، والزوجة، والإخوة والأخوات، والعشيرة أو الرّهط والقرابة الأدنين، كبني هاشم مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من في الأرض جميعهم من الثّقلين: الإنس والجنّ وغيرهما من الخلائق، ثم ينجيه من هذا الفداء، الذي تضمنه قوله: لَوْ يَفْتَدِي فهو كالمتقدم الذّكر. فالفاعل لقوله: يُنْجِيهِ هو الفداء، أي لا نجاة.
ثم أكّد الله تعالى رفض قبول الفداء بقوله: كَلَّا للردع والزجر، فهي ردّ لقولهم وما ودّوه، أي ليس الأمر كذلك. فلا يقبل الفداء من المجرم، إنها جهنم الشديدة الحرّ مأواه، التي تنزع اللحم عن العظم، والأعضاء عن مفاصلها، وجلدة الرأس عنه، ثم يعود كما كان. وتنادي جهنم الكفار وهم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا، وتولى عنه، وجمع المال فجعله في وعاء، فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير، ومنع حق الله فيه، من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة.
وقوله: فَأَوْعى أي جعله في الأوعية. وهذا إشارة إلى كفار أغبياء جعلوا جمع المال جلّ همهم ومقصد حياتهم، فجمعوه من غير حلّ، ومنعوه من حقوق الله تعالى.
ودعاء جهنم لأهلها إما حقيقة، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، كما قال ابن
2734
عباس وغيره. وقال الخليل بن أحمد: هي عبارة عن حرصها عليهم، واستدنائها لهم، وما توقعه من عذابها.
والواقع أن غضب الله وسخطه يحيط بجهنم وأهلها، وكل ما فيها وما حولها عذاب في عذاب، وشقاء في شقاء، أعاذنا الله تعالى منها ومن الاقتراب من حرّها.
طبع الإنسان وعلاجه
على الرغم من أهوال القيامة الموحية بأشد ألوان العذاب، يجمح بالإنسان طبعه وميله إلى الشرّ، بسبب أوصاف الهلع والجزع والمنع التي تؤدي به إلى السوء، لكن تعديل الغرائز وترقية الطباع أمر متحمل. ويمكن ترويض هذه الأخلاق وعلاجها بالحكمة والمجاهدة، وفي ضوء تقدير المخاطر، ومن أجل النجاة من المخاوف التي تحيط بالإنسان في آخرته. والقرآن الكريم نبّه إلى طرق العلاج لطبيعة الإنسان بأسلوب معقول وواضح، كما يتبين من هذه الآيات:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١٩ الى ٣٥]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [المعارج: ٧٠/ ١٩- ٣٥].
(١) سريع الحزن، شديد الحرص، قليل الصبر.
(٢) كثير الجزع، أي إنه يئوس قنوط، والجزع: الحزن.
(٣) كثير المنع.
(٤) المتعرّض للسؤال، والمتعفف فيحرم. [.....]
(٥) خائفون.
(٦) من طلب غير هذا فهم المتجاوزون الحدود.
(٧) يؤدّون الشهادة ولا يكتمونها.
2735
إن الإنسان (اسم جنس يفيد العموم) مجبول على الضجر والهلع: وهو شدة الحرص، وقلة الصبر، فإذا أصابه شرّ من فقر أو مرض مثلا، فهو كثير الجزع، أو الحزن، والشكوى، وإذا أصابه خير من غنى أو منصب وجاه، أو قوة وصحة ونحو ذلك، فهو كثير المنع والبخل. والهلع بعبارة أخرى: فزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شرّ ما في الرجل: شحّ هالع، وجبن خالع».
ثم استثنى الله تعالى من اتصف بصفات عشر وهي:
- هؤلاء الناس يتّصفون بصفات الذّم، إلا المصلّين الذين يؤدّون صلاتهم، ويحافظون على أوقاتها وواجباتها، ويداومون عليها، وهاتان الصفتان: أداء الصلاة والمواظبة عليها، تساعدان على التخلّص من صفات الهلع والجزع والمنع، أي إن هذا المعنى يقل فيهم، لأنهم يجاهدون أنفسهم بالتقوى، ويؤثرون الآخرة على الدنيا.
- والذين يكون في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين، سواء سألوا الناس أو تعفّفوا، والسائل: الفقير الذي يتكفّف فيعطى، والمحروم: الذين يتعفّف فيحرم. والحق المعلوم: هو الزكاة المفروضة في رأي. وفي رأي آخر أصح هي في الحقوق التي سوى الزكاة، وهي ما ندبت الشريعة إليه من المواساة. وقد قال ابن عمر والثعلبي ومجاهد وكثير من أهل العلم: إن في المال حقّا سوى الزكاة.
- والذين يوقنون بوجود يوم القيامة يوم الحساب والجزاء، لا يشكون فيه ولا يجحدونه، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب، ويخشى العقاب. وسمي يوم القيامة بيوم الدين، لأنه يوم المجازاة، والدين: الجزاء.
- والذين هم خائفون من عذاب الله، إذا تركوا الواجبات، واقترفوا المنكرات، فيكون العذاب واقعا بهم إلا بعفو من الله تعالى.
2736
- والذين يكفّون فروجهم عن الحرام، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، وهو الزوجة وملك اليمين الذي هو الإماء، حين كان الرّق قائما، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما، فمن قصد المتعة بغير هذين السبيلين: الزواج والتمتع بملك اليمين، فهم المتجاوزون الحدود، المعتدون الضارّون.
وقوله: غَيْرُ مَلُومِينَ معناه أنهم غير ملومين على أزواجهم وما ملكت أيمانهم.
وابْتَغى معناه: طلب، وقوله: وَراءَ ذلِكَ معناه سوى ما ذكر.
- والذين يؤدّون الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها، ويوفون بالمعاهدات والاتفاقات والعقود المبرمة، ولا ينقضون البيع ولا شيئا من الشروط المتفق عليها.
فإذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، وإذا حدّثوا لم يكذبوا. وهذه صفات المؤمنين، وأضدادها صفات المنافقين. والأمانات: هي في الأموال والأسرار، وفيما بين العبد وربّه تعالى، فيما أمره به ونهاه عنه. قال الحسن: الدّين كله أمانة. والعهد:
كل ما تقلّده الإنسان من قول أو فعل أو مودّة. أخرج البخاري في كتاب الأدب:
«حسن العهد من الإيمان». وراعُونَ جمع راع، أي حافظ.
- والذين يؤدّون الشهادة على الحقوق والمنازعات في محاكم القضاء بحق، ويحافظون عليها دون زيادة ولا نقصان، ودون مجاملة لقريب أو بعيد، أو رفيع أو ذي منصب وجاه، ولا يكتمونها ولا يغيرونها. ولا يكون أداء الشهادة في حقوق العباد إلا بعد طلب لأداء الشهادة، أما في حقوق الله تعالى كمنع منكر وقمع مخالفة فتؤدي حسبة من دون طلب.
- والذين يحافظون على مواقيت الصلاة وأدائها بأركانها وواجباتها ومندوباتها، لا يخلّون بشيء منها، ولا يتشاغلون بشاغل عنها، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض معها، فيبطل ثوابها، وتضيع ثمرتها. وذلك بالدخول فيها في حماس ورغبة بها،
2737
ويفرغون قلوبهم من شواغل الدنيا، ويفكرون فيما يتلون فيها من آيات القرآن، أو يرددون من أذكار التكبير والتسبيح والتحميد، وتكون قلوبهم حاضرة مع الله تعالى، ويتأملون في معاني آيات الله تعالى.
أولئك الموصوفون بالصفات السابقة ينعّمون بجنات الخلود، ويكرمون بأنواع التكريم وألوان الملاذّ والمسارّ.
والجزاء بهذه الخاتمة الرائعة يحمل المتّصفين بهذه الصفات على التخلّص من أوصاف الهلع والجزع والمنع.
تهديد المكذّبين بالرّسالة النّبوية
أسرع الكفار المكذّبون بدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الاعتصام بالكفر، وإلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، فتوعّدهم الله بالإبادة والهلاك، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يوم القيامة، حيث تكون أبصارهم ذليلة، وتغشاهم المذلّة والهوان بسبب تكذيبهم أيضا بيوم القيامة.
قال المفسّرون: كان المشركون يجتمعون حول النّبي صلّى الله عليه وسلّم يستمعون كلامه، ولا ينتفعون به، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، لندخلنها قبلهم، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨). والآيات التي قبلها وبعدها هي:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
«٢» «٣»
(١) ناحيتك.
(٢) مسرعين إليك شاخصين أبصارهم نحوك.
(٣) جماعات متفرقين، جمع عزة: وهي العصبة والجماعة.
2738
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [المعارج: ٧٠/ ٣٦- ٤٤].
ما بال هؤلاء الكفار تجدهم مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك، وتراهم عن يمينك أيها النّبي وعن شمالك جماعات متفرّقة، وموزّعين مشتّتين، وقوله:
قِبَلَكَ معناه فيما يليك، والمهطع: الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل عليه ببصره.
وعزين: جماعات يسيرة، ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة.
نزلت هذه الآية لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته، ويقول بعضهم لبعض: شاعر، وكاهن، ومفتر، وغير ذلك.
ثم أيأس الله أولئك الكفار من دخول الجنان بقوله فيما معناه: أيطمع هؤلاء المشركون المكذبون برسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا، بل مأواهم جهنم، إنا خلقناكم من الماء المهين الضعيف، أي من خلق من ذلك، فليس بذات خلقه يعطى الجنة، بل بالأعمال الصالحة إن كانت. وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب الذي هدّدوا به، وأنكروا حدوثه، أو استبعدوا وجوده.
نزلت هذه الآية كما تقدم: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) لأن الكفار قالت: إن كانت ثمّ آخرة وجنّة، فنحن أهلها وفيها، لأن الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين وغير ذلك إلا لرضاه عنا.
(١) بمغلوبين.
(٢) يتحدثوا في الباطل.
(٣) القبور، جمع جدث.
(٤) مسرعين.
(٥) أنصاب للعبادة.
(٦) يسرعون.
(٧) ذليلة كسيرة.
2739
ثم أنذرهم الله سبحانه بالهلاك إن داموا على الكفر، وهدّدهم بإيجاد آخرين مكانهم ليؤمنوا، فقال: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) أي فإني أقسم بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة، على أننا قادرون على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله تعالى ممن عصوه، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا شيء، ولسنا بمغلوبين إن أردنا ذلك، بل نفعل ما أردنا، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا تأخير ذلك. وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى على الإيجاد والإعدام، مؤكدا بالقسم. وهو تهكّم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم، حيث إنهم ينكرون البعث، ثم يطمعون في دخول الجنة، ويقرّون بأن الله هو خالق السماوات والأرض وخالقهم مما يعلمون، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية.
والمشارق والمغارب: هي مطالع الشمس والقمر وسائر الكواكب، وحيث تغرب، لأنها مختلفة عند التفصيل، فلذلك جمع.
ثم أمر الله تعالى رسول الله عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض عنهم حتى يوم البعث، زيادة في التهديد، وهو معنى قوله: اتركهم يا نبي الله يتحدّثون في باطلهم، ويلهون في دنياهم، ويعاندون في تكذيبهم وإنكارهم البعث، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال، ويجازوا بأعمالهم. والآية وعيد، وما فيه من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف.
اذكر أيها النّبي يوم يقومون من القبور بدعوة الله تعالى لموقف الحساب، مسرعين متسابقين، كأنهم في إسراعهم إلى الموقف، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب، من علم أو راية. والأجداث: القبور، والنصب: ما نصب للإنسان، فهو يقصد مسرعا إليه، من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام. وقد كثر استعمال هذا الاسم في الأصنام حتى قيل لها: الأنصاب.
2740
إنهم في خروجهم من الأجداث (القبور) تكون أبصارهم ذليلة كسيرة، وتغشاهم المذلّة الشديدة، لهول العذاب الذي يواجههم، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا، ذلك اليوم المشتمل على الأهوال العظام: هو اليوم الذي أوعدهم الله تعالى به، وأنذرهم بملاقاته، وكانوا يكذّبون به، وليتهم آمنوا به، فنجوا من العذاب.
وعبر عن مجيء وقت العذاب بلفظ الماضي: كانُوا يُوعَدُونَ لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة.
2741
Icon