تفسير سورة التوبة

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة التوبة سورة براءة، مدنية كلها، غير آيتين، هما : قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول... ﴾ [ آية : ١٢٨، ١٢٩ ] إلى آخر السورة، فإنهما مكيتان، وهى مائة وسبع وعشرون آية كوفية.
لما نزلت براءة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق على حج الناس، وبعث معه ببراءة، من أول السورة إلى تسع آيات، فنزل جبريل، فقال : يا محمد، إنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك، ثم اتبعه على بن أبي طالب، فأدركه بذي الحليفة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها منه، ثم رجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : بأبي أنت وأمي، هل أنزل الله في من شيء ؟ قال :"لا ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني، أما ترى يا أبا بكر أنك صاحبي في الغار، وأنك أخي في الإسلام، وأنك ترد على الحوض يوم القيامة ؟" قال : بلى يا رسول الله، فمضى أبو بكر على الناس، ومضى على ببراءة من أول السورة إلى تسع آيات، فقام على يوم النحر بمنى، فقرأها على الناس.
﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ من العهد غير أربعة أشهر.
﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ١]، نزلت فى ثلاثة أحياء من العرب، منهم خزاعة، ومنهم هلال بن عويمر، وفى مدلج، منهم سراقة بن مالك بن خثعم الكناني، وفى بني خزيمة بن عامر، وهما حيان من كنانة، كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم بالحديبية سنتين، صالح عليهم المخش بن خويلد بن عمارة بن المخش، فجعل الله عز وجل للذين كانوا فى العهد أجلهم أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر من ربيع الآخر. فقال ﴿ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يقول: سيروا فى الأرض.
﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ آمنين حيث شئتم، ثم خوفهم، فقال: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢]، فلم يعاهد النبى صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحداً من الناس.
ثم ذكر مشركي مكة الذين لا عهد لهم، فقال: ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ ﴾، يعني يوم النحر، وإنما سمي الحج الأكبر؛ لأن العمرة هى الحج الأصغر، وقال: ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ من العهد.
﴿ فَإِن تُبْتُمْ ﴾ يا معشر المشركين من الشرك.
﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من الشرك.
﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾، يقول: إن أبيتم التوبة فلم تتوبوا.
﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ ﴾، خوفهم كما خوف أهل العهد أنكم أيضاً غير سابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم، بها، ثم قال: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ٣]، يعنى وجيع. ثم جعل من لا عهد له أجله خمسين يوماً من النحر إلى انسلاخ المحرم، ثم رجع إلى خزاعة، وبني مدلج، وبنى خزيمة، في التقديم، فاستثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾، فلم يبين الله ورسوله من عهدهم فى الأشهر الأربعة.
﴿ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾، فى الأشهر الأربعة.
﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً ﴾، يعنى ولم يعينوا على قتالكم أحداً من المشركين، يقول الله: إن لم يفعلوا ذلك.
﴿ فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ﴾، يعنى الأشهر الأربعة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٤] الذين يتقون نقض العهد. ثم ذكر من لم يكن له عهد غير خمسين يوماً، فقال: ﴿ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ ﴾، يعني عشرين من ذي الحجة وثلاثين يوماً من المحرم.
﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾، يعني هؤلاء الذين لا عهد لهم إلا خمسين يوماً أين أدركتموهم فى الحل والحرم.
﴿ وَخُذُوهُمْ ﴾، يعني وأسروهم.
﴿ وَٱحْصُرُوهُمْ ﴾، يعني والتمسوهم.
﴿ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾، يقول: وأرصدوهم بكل طريق وهم كفار.
﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ من الشرك.
﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾، يقول: فاتركوا طريقهم، فلا تظلموهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ للذنوب ما كان فى الشرك.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٥] بهم فى الإسلام.
ثم قال، يعني هؤلاء الكفار من أهل مكة: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ﴾، يقول: فإن استأمنك أحد من المشركين بعد خمسين يوماً فأمنه من القتل.
﴿ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾، يعني القرآن، فإن كره أن يقبل ما في القرآن ﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾، يقول: رده من حيث أتاك، فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله.
﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٦] بتوحيد الله. ثم ذكرهم أيضاً مشركي مكة، فقال: ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ ﴾، ثم استثنى خزاعة، وبنى مدلج، وبنى خزيمة، الذين أجلهم أربعة أشهر، فقال: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ بالحديبية، فلهم العهد ﴿ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ ﴾ بالوفاء إلى مدتهم، يعني تمام هذه أربعة الأشهر من يوم النحر.
﴿ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ﴾ بالوفاء.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٧].
ثم حرض المؤمنين على قتال كفار مكة الذين لا عهد لهم؛ لأنهم نقضوا العهد، فقال: ﴿ كَيْفَ ﴾ لا تقاتلونهم.
﴿ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ يقول: لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهداً.
﴿ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾، يعني بألسنتهم ﴿ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ ﴾، وكانوا يحسنون القول للمؤمنين، فيرضونهم وفى قلوبهم غير ذلك فأخبر عن قولهم، فذلك قوله: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٨].
ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يعني باعوا إيماناً بالقرآن بعرض من الدنيا يسيراً، وذلك أن أبا سفيان كان يعطي الناقة والطعام والشىء ليصد بذلك الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: ﴿ فَصَدُّواْ ﴾ الناس ﴿ عَن سَبِيلِهِ ﴾، أي عن سبيل الله، يعني عن دين الله، وهو الإسلام.
﴿ إِنَّهُمْ سَآءَ ﴾، يعني بئس ﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩]، يعني بئس ما عملوا بصدهم عن الإسلام. ثم أخبر أيضاً عنهم، فقال: ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾، يعني لا يحفظون فى مؤمن قرابة ولا عهداً.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٠].
يقول: ﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ من الشرك.
﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ ﴾، أى أقروا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ﴾ ونبين ﴿ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١١] بتوحيد الله.﴿ وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾، يعني نقضوا عهدهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم واعد كفار مكة سنتين، وأنهم عمدوا فأعانوا كنانة بالسلاح على قتال خزاعة، وخزاعة صلح النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فى ذلك نكث للعهد، فاستحل النبي صلى الله عليه وسلم قتالهم، فذلك قوله: ﴿ وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم ﴾ ﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾، فقالوا: ليس دين محمد بشىء.
﴿ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ ﴾، يعني قادة الكفر كفار قريش: أبا سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.
﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾؛ لأنهم نقضوا العهد الذي كان بالحديبية، يقول: ﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾، يعني لكي ﴿ يَنتَهُونَ ﴾ [آية: ١٢] عن نقض العهد ولا ينقضون.
ثم حرض المؤمنين على قتالهم، فقال: ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ يعني نقضوا عهدهم حين أعانوا كنانة بالسلاح على خزاعة، وهم صلح النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ ﴾، يعني النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حين هموا في دار الندوة بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بوثاقه أو بإخراجه.
﴿ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ بالقتال حين ساروا إلى قتالكم ببدر.
﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ فلا تقاتلونهم.
﴿ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ في ترك أمره.
﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾ [آية: ١٣] به، يعني إن كنتم مصدقين بتوحيد الله عز وجل. ثم وعدهم النصر، فقال: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ بالقتل.
﴿ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٤]، وذلك أن بنى كعب قاتلوا خزاعة، فهزموهم وقتلوا منهم، وخزاعة صلح النبي صلى الله عليه وسلم، وأعانوهم كفار مكة بالسلاح على خزاعة، فاستحل النبي صلى الله عليه وسلم قتال كفار مكة بذلك، وقد ركب عمرو بن عبد مناة الخزاعى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مستعيناً به، فقال له: اللهم إني ناشد محمدا   حلف أبينا وأبيه الأتلداكان لنا أبا وكنا ولدا   نحن ولدناكم فكنتم ولداثمت أسلمنا ولم ننزع يدا   فانصر رسول الله نصراً أيداوادع عباد الله يأتوا مددا   فيهم رسول الله قد تجردافى فيلق كالبحر يجرى مزيدا   إن قريشاً أخلفوك الموعداونقضوا ميثاقك المؤكدا   ونصبوا لي في الطريق مرصداوبيتونا بالوتين هجدا   وقتلونا ركعاً وسجداوزعموا أن لست أدعوا أحدا   وهم أذل وأقل عدداقال: فدمعت عينا النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إلى سحابة قد بعثها الله عز وجل، فقال:" " والذي نفسي بيده، إن هذه السحابة لتستهل بنصر خزاعة على بني ليث بن بكر "، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فعسكر وكتب حاطب إلى أهل مكة بالعسكر، وسار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فافتتحها، وقال لأصحابه: كفوا السلاح، إلا عن بني بكر إلى صلاة العصر، وقال لخزاعة أيضاً: " كفوا، إلا عن بني بكر "، يعني خزاعة.
﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾، يعني قلوب قوم مؤمنين، يعني خزاعة.
﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾، وشفي الله قلوب خزاعة من بني ليث بن بكر، وأذهب غيظ قلوبهم، ثم قال: ﴿ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾، فيهديهم لدينه.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بخلفه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ١٥] في أمره.﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ على الإيمان ولا تبتلوا بالقتل.
﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾، يعني ولما يرى الله ﴿ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ ﴾ العدو ﴿ مِنكُمْ ﴾ في سبيله، يقول: لا يرى جهادكم حتى تجاهدوا.
﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ ﴾ من دون ﴿ رَسُولِهِ وَلاَ ﴾ من دون ﴿ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ يتولجها، يعني البطانة من الولاية للمشركين.
﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٦].
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾، يعني مشركي مكة.
﴿ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ ﴾، يعني المسجد الحرام.
﴿ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾، نزلت في العباس بن عبد المطلب، وفي بني أبي طلحة، منهم: شيبة بن عثمان صاحب الكعبة، وذلك أن العباس، وشيبة، وغيرهم، أسروا يوم بدر، فأقبل عليهم نفر من المهاجرين، فيهم على بن أبى طالب والأنصار وغيرهم، فسبوهم وعيروهم بالشرك، وجعل علي بن أبى طالب يوبخ العباس بقتال النبي صلى الله عليه وسلم، وبقطيعته الرحم، وأغلظ له القول، فقال له العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا، قالوا: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم، نحن أفضل منكم أجراً، إما لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، يعني الأسير، فافتخروا على المسلمين بذلك، فأنزل الله: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾.
﴿ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾، يعني ما ذكروا من محاسنهم، يعني بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة، كما قال نوح، وهود، لقومه:﴿ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ ﴾بالمطر﴿ مِّدْرَاراً ﴾[هود: ٥٢]، يعني متتابعاً،﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾[توح: ١٢]، فهذا في الدنيا لو آمنوا، ثم قال: ﴿ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ [آية: ١٧] لا يموتون.
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ ﴾، يعني صدق بالله.
﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعني من صدق بتوحيد الله والبعث الذي فيه جزاء الأعمال.
﴿ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ لوقتها، أتم ركوعها وسجودها.
﴿ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ ﴾، يعني وأعطى زكاة ماله.
﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾، يعني ولم يعبد إلا الله.
﴿ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ [آية: ١٨].
من الضلالة.
ثم قال يعنيهم: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ ﴾، يعني العباس: ﴿ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾، يعني شيبة.
﴿ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعني صدق بتوحيد الله واليوم الآخر، وصدق بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال، يعني عليَّاً ومن معه.
﴿ وَجَاهَدَ ﴾ العدو ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ في الفضل هؤلاء أفضل.
﴿ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٩]، يعني المشركين إلى الحجة فما لهم حجة. ثم نعت المهاجرين عليّاً وأصحابه، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يعني صدقوا بتوحيد الله ﴿ وَهَاجَرُواْ ﴾ إلى المدينة.
﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ العدو ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعني طاقة الله ﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ أولئك ﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾ يعني فضيلة.
﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ من الذين افتخروا في عمران البيت وسقاية الحاج وهم كفار، ثم أخبر عن ثواب المهاجرين، فقال ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ ﴾ [آية: ٢٠]، يعني الناجون من النار يوم القيامة.﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾ وهي الجنة.
﴿ وَرِضْوَانٍ ﴾، يعني ورضى الرب عنهم.
﴿ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾ [آية: ٢١]، يعني لا يزول.﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ لا يموتون.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ ﴾، يعني عند الله ﴿ أَجْرٌ ﴾، يعني جزاء.
﴿ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٢٢]، وهى الجنة.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ ﴾، يعني اختاروا الكفر على الإيمان، يعني التوحيد، نزلت في السبعة الذين ارتدوا عن الإسلام، فلحقوا بمكة من المدينة، فنهى الله عن ولايتهم، فقال: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ ﴾ يا معشر المؤمنين.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [آية: ٢٣]، وهو منهم.﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾، يعني كسبتموها.
﴿ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ ﴾، يعني ومنازل ترضونها، يعني تفرحون بها ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ في فتح مكة.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٢٤].
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾، يعني يوم بدر، ويوم قريظة، ويوم النضير، ويوم خيبر، ويوم الحديبية، ويوم فتح مكة، ثم قال: ﴿ وَ ﴾ نصركم ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾، وهو واد بين الطائف ومكة.
﴿ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾، يعني برحبها وسعتها.
﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ [آية: ٢٥] لا تلوون على شىء، وذلك أن المسلمين كانوا يومئذ أحد عشر ألفاً وخمسمائة، والمشركون أربعة آلاف، وهوازن، وثقيف، ومالك بن عوف النضري على هوازن، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من كثرتنا على عدونا، ولم يستثن في قوله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأنه كان قال ولم يستثن في قوله. فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم المشركون وجلوا عن الذراري، ثم نادى المشركون تجاه النساء: اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون، فنادى العباس بن عبد المطلب، وكان رجلاً صبياً ثباتاً: يا أنصار الله وأنصار رسوله الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان له فيه حاجة فليأته، فتراجع المسلمون، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فوقفوا ولم يقاتلوا، فانهزم المشركون، فذلك قوله: ﴿ ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾، يعني الملائكة.
﴿ وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بالقتل والهزيمة ﴿ وَذٰلِكَ ﴾ العذاب ﴿ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢٦].
﴿ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ ﴾، يعني بعد القتل والهزيمة، فيهديه لدينه.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لما كان في الشرك.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٢٧] بهم في الإسلام.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾، يعني مشركي العرب، والنجس الذي ليس بطاهر، الأنجاس الأخباث.
﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾ يعني أرض مكة.
﴿ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾، يعني بعد عام كان أبو بكر على الموسم. قال ابن ثابت: قال أبي: في السنة التاسعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾، وذلك أن الله عز وجل أنزل بعد غزاة تبوك: ﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ... ﴾ إلى قوله ﴿ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ فوسوس الشيطان إلى أهل مكة، فقال: من أين تجدون ما تأكلون، وقد أمر أنه من لم يكن مسلماً أن يقتل ويؤخذ الغنم، ويقتل من فيها، فقال الله تعالى: امضوا لأمري وأمر رسولي.
﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ ﴾، ففرحوا بذلك، فكفاهم الله ما كانوا يتخوفون، فأسلم أهل نجد، وجرش، وأهل صنعاء، فحملوا الطعام إلى مكة على الظهر، فذلك قوله: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾، يعني الفقر.
﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ ﴾ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٢٨].
﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعني الذين لا يصدقون بتوحيد الله، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال: ﴿ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾، يعني الخمر، ولحم الخنزير، وقد بين أمرهما في القرآن.
﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ ﴾ الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام باطل.
﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعني اليهود والنصارى.
﴿ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ﴾، يعني عن أنفسهم.
﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [آية: ٢٩]، يعني مذلون إن أعطوا عفواً لم يؤجروا، وإن أخذوا منهم كرهاً لم يثابوا.
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى، فرفع الله عنهم التوراة، ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير يسيح في الأرض، فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال له: أين تذهب؟ قال: لطلب العلم، فعلمه جبريل التوراة كلها، فجاء عزير بالتوراة غضاً إلى بني إسرائيل فعلمهم، فقالوا: لم يعلم عزير هذا العلم إلا لأنه ابن الله، فذلك قوله: ﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾، ثم قال: ﴿ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾، يعنون عيسى ابن مريم.
﴿ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾، يقول: هم يقولون بألسنتهم من غير علم يعلمونه.
﴿ يُضَاهِئُونَ ﴾، يعني يشبهون ﴿ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعني قول اليهود ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ قول النصارى لعيسى قول اليهود في عزير.
﴿ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ ﴾، يعني لعنهم الله ﴿ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ [آية: ٣٠]، يعني النصارى من أين يكذبون بتوحيد الله. ثم أخبر عن النصارى، فقال: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ ﴾، يعني علماءهم.
﴿ وَرُهْبَانَهُمْ ﴾، يعني المجتهدين في دينهم أصحاب الصوامع.
﴿ أَرْبَاباً ﴾، يعني أطاعوهم ﴿ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَ ﴾ اتخذوا ﴿ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ رباً، يقول: ﴿ وَمَآ أُمِرُوۤاْ ﴾، يعني وما أمرهم عيسى.
﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً ﴾، وذلك أن عيسى قال لبني إسرائيل في سورة مريم، وفى حم الزخرف:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾[الزخرف: ٦٤]، فهذا قول عيسى لبنى إسرائيل.
﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ٣١]، نزه نفسه عما قالوا من البهتان. ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾، يعني دين الإسلام بألسنتهم بالكتمان.
﴿ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾، يعني يظهر دينه الإسلام.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ [آية: ٣٢] أهل الكتاب بالتوحيد.
﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ ﴾، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ ﴾، يعني دين الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام باطل.
﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾، يقول: ليعلو بدين الإسلام على كل دين.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ٣٣]، يعني مشركي العرب.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ ﴾، يعني اليهود: ﴿ وَٱلرُّهْبَانِ ﴾، يعني مجتهدي النصارى.
﴿ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ ﴾، يعني أهل ملتهم، وذلك أنهم كانت لهم مأكلة كل عام من سفلتهم من الطعام والثمار على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لذهبت تلك المأكلة، ثم قال: ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: يمنعون أهل دينهم عن دين الإسلام.
﴿ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ ﴾، يعني بالكنز منع الزكاة: ﴿ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ﴾، يعني الكنوز ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعني في طاعة الله.
﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ٣٤]، يعني وجيع في الآخرة. ثم قال: ﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [آية: ٣٥].
﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن المؤمنين ساروا من المدينة إلى مكة قبل أن يفتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نخاف أن يقاتلنا كفار مكة في الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ ﴿ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾، يعني اللوح المحفوظ.
﴿ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَات وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾، المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة.
﴿ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ﴾، يعني الحساب.
﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يعني في الأشهر الحرام، يعني بالظلم ألا تقتلوا فيهن أحداً من مشركي العرب، إلا أن يبدءوا بالقتل.
﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾، يعني بالدين الحساب المستقيم، ثم قال: ﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾، يعني كفار مكة.
﴿ كَآفَّةً ﴾، يعني جميعاً.
﴿ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾، يقول: إن قاتلوكم في الشهر الحرام، فاقتلوهم جميعاً ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ ﴾ في النصر ﴿ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٣٦] الشرك.﴿ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ ﴾، يعني به في المحرم زيادة ﴿ فِي ٱلْكُفْرِ ﴾، وذلك أن أبا ثمامة الكناني، اسمه جبارة بن عوف بن أمية بن فقيم بن الحارث، وهو أول من ذبح لغير الله الصفرة في رجب، كان يقف بالموسم، ثم ينادى: إن آلهتكم قد حرمت صفر العام، فيحرمون فيه الدماء والأموال، ويستحلون ذلك في المحرم، فإذا كان من قابل نادى: إن آلهتكم قد حرمت المحرم العام، فيحرمون فيه الدماء والأموال، فيأخذ به هوازن وغطفان، وسليم، وثقيف، وكنانة، فذلك قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ ﴾، يعني ترك المحرم ﴿ زِيَادةٌ في ٱلْكُفْرِ ﴾ ﴿ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ﴾، يقول: يستحلون المحرم عاماً، فيصيبون فيه الدماء والأموال، ويحرمونه عاماً، فلا يصيبون فيه الدماء والأموال، ولا يستحلونها فيه.
﴿ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾ فيه من الدماء والأموال.
﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٣٧].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، نزلت في المؤمنين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالسير إلى غزوة تبوك في حر شديد ﴿ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ ﴾، فتثاقلوا عنها.
﴿ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [آية: ٣٨]، يعني إلا ساعة من ساعات الدنيا. ثم خوفهم: ﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ ﴾ في غزاة تبوك إلى عدوكم.
﴿ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾، يعني وجيعاً.
﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ أمثل منكم، وأطوع لله منكم، و ﴿ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً ﴾، يعني ولا تنقصوا من ملكه شيئاً بمعصيتكم إياه، إنما تنقصون أنفسكم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أراده ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٣٩]، إن شاء عذبكم واستبدل بكم قوماً غيركم. ثم قال للمؤمنين: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ ﴾، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ ﴾، هذه أول آية نزلت من براءة، وكانت تسمى الفاضحة، لما ذكر الله فيها من عيوب المنافقين.
﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله من مكة.
﴿ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ ﴾، فهو النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
﴿ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ ﴾، " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر: " ﴿ لاَ تَحْزَنْ ﴾ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ﴾ في الدفع عنا، وذلك حين خاف القافلة حول الغار، فقال أبو بكر: أتينا يا نبى الله، وحزن أبو بكر، فقال: إنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت تهلك هذه الأمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ لاَ تَحْزَنْ ﴾.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اعم أبصارهم عنا "، ففعل الله ذلك بهم.
﴿ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ﴾، يعني الملائكة يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم خيبر.
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعني دعوة الشرك.
﴿ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ ﴾، يعني دعوة الإخلاص.
﴿ هِيَ ٱلْعُلْيَا ﴾، يعني العالية.
﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ في ملكه.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٤٠]، حكم إطفاء دعوة المشركين، وإظهار التوحيد.﴿ ٱنْفِرُواْ ﴾ إلى غزاة تبوك ﴿ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾، يعني نشاطاً وغير نشاط.
﴿ وَجَاهِدُواْ ﴾ العدو ﴿ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعني الجهاد.
﴿ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من القعود.
﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٤١].
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً ﴾، يعني غنيمة قريبة.
﴿ وَسَفَراً قَاصِداً ﴾، يعني هيناً.
﴿ لاَّتَّبَعُوكَ ﴾ في غزاتك.
﴿ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا ﴾، يعني لو وجدنا سعة في المال.
﴿ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ في غزاتكم ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [آية: ٤٢] بأن لهم سعة في الخروج، ولكنهم لم يريدوا الخروج، منهم: جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وهما من الأنصار. ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ في القعود، يعني في التخلف.
﴿ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ ﴾ في قولهم، يعني أهل العذر، منهم: المقداد ابن الأسود الكندي، وكان سميناً.
﴿ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾ [آية: ٤٣] في قولهم، يعني من لا قدر لهم.
﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ﴾ في القعود ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعني الذين يصدقون بتوحيد الله، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن.
﴿ أَن يُجَاهِدُواْ ﴾ العدو من غير عذر.
﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ كراهية الجهاد.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٤٤] الشرك. ثم ذكر المنافقون، فقال: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ﴾ في الجهاد وبعد الشقة.
﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، لا يصدقون بالله، ولا باليوم الآخر، يعني لا يصدقون بالله، ولا بتوحيده، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال.
﴿ وَٱرْتَابَتْ ﴾، يعني شكت ﴿ قُلُوبُهُمْ ﴾ في الدين.
﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ ﴾، يعني في شكهم.
﴿ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [آية: ٤٥]، وهم تسعة وثلاثون رجلاً. ثم أخبر عن المنافقين، فقال: ﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ ﴾ إلى العدو.
﴿ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ﴾، يعني به النية.
﴿ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ ﴾، يعني خروجهم.
﴿ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ عن غزاة تبوك.
﴿ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ ﴾، وحياً إلى قلوبهم.
﴿ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ ﴾ [آية: ٤٦] ألهموا ذلك، يعني مع المتخلفين.﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم ﴾، يعني معكم إلى العدو.
﴿ مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾، يعني عياً.
﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾، يتخلل الراكب الرجلين حتى يدخل بينهما، فيقول ما لا ينبغي.
﴿ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ ﴾، يعني الكفر.
﴿ وَفِيكُمْ ﴾ معشر المؤمنين.
﴿ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ من غير المنافقين، اتخذهم المنافقون عيوناً لهم يحدثونهم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٤٧]، منهم: عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نبيل، وجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، وأوليس بن قيظي. ثم أخبر عن المنافقين، فقال: ﴿ لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ ﴾، يعني الكفر في غزوة تبوك.
﴿ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ ﴾ ظهراً لبطن كيف يصنعون.
﴿ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾، يعني الإسلام.
﴿ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾، يعني دين الإسلام.
﴿ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [آية: ٤٨] للإسلام.﴿ وَمِنْهُمْ ﴾، يعني من المنافقين.
﴿ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾، وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالجهاد إلى غزاة تبوك، وذكر بنات الأصفر لقوم، وقال: لعلكم تصيبون منهن "، قال ذلك ليرغبهم في الغزو، وكان الأصفر رجلاً من الحبش، فقضى الله له أن ملك الروم، فاتخذ من نسائهم لنفسه، وولدن له نساء كن مثلاً في الحسن، فقال جد بن قيس الأنماري، من بنى سلمة بن جشم: يا رسول الله، قد علمت الأنصار حرصي على النساء وإعجابي بهن، وإني أخاف أن أفتتن بهن، فأذن لي ولا تفتنى ببنات الأصفر، وإنما اعتل بذلك كراهية الغزو، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾، يعني من المنافقين: ﴿ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾، يقول الله: ﴿ أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ﴾، يقول: ألا في الكفر وقعوا.
﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٤٩].
ثم أخبر عنهم وعن المتخلفين بغير عذر، فقال: ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾، يعني الغنيمة في غزاتك يوم بدر تسوءهم.
﴿ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ﴾ بلاء من العدو يوم أُحُد، وهزيمة وشدة.
﴿ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا ﴾ في القعود ﴿ مِن قَبْل ﴾ أن تصبك مصبية: ﴿ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾ [آية: ٥٠] لما أصابك من شدة.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا ﴾ من شدة أو رخاء.
﴿ هُوَ مَوْلاَنَا ﴾، يعني ولينا.
﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٥١]، يعنى بالله فليثق الواثقون.﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ ﴾، إما الفتح والغنيمة في الدنيا، وإما شهادة فيها الجنة في الآخرة والرزق.
﴿ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ﴾ العذاب والقتل.
﴿ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ ﴾ عذاب ﴿ بِأَيْدِينَا ﴾ فنقتلكم.
﴿ فَتَرَبَّصُوۤاْ ﴾ بناالشر.
﴿ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ [آية: ٥٢] بكم العذاب.﴿ قُلْ ﴾ يا محمد للمنافقين: ﴿ أَنفِقُواْ طَوْعاً ﴾ من قبل أنفسكم.
﴿ أَوْ كَرْهاً ﴾ مخافة القتل.
﴿ لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ﴾ النفقة.
﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٥٣]، يعني عصاة.﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ ﴾ بالتوحيد ﴿ وَ ﴾ كفروا ﴿ وَبِرَسُولِهِ ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس برسول.
﴿ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ ﴾، يعني متثاقلين ولا يرونها واجبة عليهم.
﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ ﴾، يعني المنافقين الأموال.
﴿ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [آية: ٥٤] غير محتسبين.﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ ﴾ يا محمد ﴿ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ﴾، يعني المنافقين: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ بما يلقون في جمعها من المشقة، وفيها من المصائب.
﴿ وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ ﴾، يعني ويريد أن تذهب أنفسهم على الكفر فيميتهم كفاراً، فذلك قوله: ﴿ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [آية: ٥٥] بتوحيد الله ومصيرهم إلى النار.﴿ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ ﴾ يعنيهم.
﴿ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ﴾ معشر المؤمنين على دينكم، يقول الله: ﴿ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾ على دينكم.
﴿ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾ [آية: ٥٦] القتل فيظهرون الإيمان. ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً ﴾، يعني حرزاً يلجأون إليه.
﴿ أَوْ مَغَارَاتٍ ﴾، يعني الغيران في الجبال.
﴿ أَوْ مُدَّخَلاً ﴾، يعني سرباً في الأرض.
﴿ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ ﴾ وتركوك يا محمد.
﴿ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ [آية: ٥٧]، يعني يستبقون إلى الحرز.﴿ وَمِنْهُمْ ﴾، يعني المنافقين.
﴿ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾، يعني يطعن عليك، نظيرها:﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾[الهمزة: ١]، وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الصدقة، وأعطى بعض المنافقين، ومنع بعضاً، وتعرض له أبو الخواص، فلم يعطه شيئاً، فقال أبو الخواص: ألا ترون إلى صاحبكم، وإنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم، وهو يزعم أنه يعدل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا أبا لك، أما كان موسى راعياً، أما كان داود راعياً "، فذهب أبو الخواص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون " "، فأنزل الله: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾، يعني يطعن عليك بأنك لم تعدل في القسمة.
﴿ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [آية: ٥٨].
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ﴾، يعني ما أعطاهم.
﴿ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ ﴾ يعني سيغنينا الله ﴿ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ﴾، فيها تقديم.
﴿ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾ [آية: ٥٩].
ثم أخبر عن أبي الخواص، أن غير أبي الخواص أحق منه بالصدقة، وبين أهلها، فقال: ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ ﴾ الذين لا يسألون الناس ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ الذين يسألون الناس.
﴿ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾ يعطون مما جبوا من الصدقات على قدر ما جبوا من الصدقات، وعلى قدر ما شغلوا به أنفسهم عن حاجتهم.
﴿ وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ يتألفهم بالصدقة، يعطيهم منها، منهم: أبو سفيان، عيينة بن حصن، وسهل بن عمرو، وقد انقطع حتى المؤلفة اليوم، إلا أن ينزل قوم منزلة أولئك، فإن أسلموا أعطوا من الصدقات، تتألفهم بذلك ليكونوا دعاة إلى الدين.
﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾، يعني وفى فك الرقاب، يعني أعطوا المكاتبين.
﴿ وَٱلْغَارِمِينَ ﴾، وهو الرجل يصيبه غرم في ماله من غير فساد ولا معصية.
﴿ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعني في الجهاد، يعطي على قدر ما يبلغه في غزاته.
﴿ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾، يعني المسافر المجتاز وبه حاجة، يقول: ﴿ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ لهم هذه القسمة؛ لأنهم أهلها.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بأهلها.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٦٠] حكم قسمتها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تحل الصدقة لمحمد، ولا لأهله، ولا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي "، يعني القوي الصحيح،" وكان المؤلفة قلوبهم ثلاثة عشر رجلاً، منهم: أبو سفيان بن حرب بن أمية، والأقرع بن حابس المجاشعي، وعيينة بن حصن الفزاري وحويطب بن عبد العزى القرشي، من بني عامر بن لؤي، والحارث بن هشام المخزومي، وحكيم بن حزام، من بني أسد بن عبد العزى، ومالك بن عوف النضري، وصفوان بن أمية القرشي، وعبد الرحمن بن يربوع، وقيس بن عدي السهمي، وعمرو بن مرداس والعلاء بن الحارث الثقفى، أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل ليرغبهم في الإسلام ويناصحون الله ورسوله، غير أنه أعطى عبد الرحمن بن يربوع خمسين من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى القرشي خمسين من الإبل، وكان أعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل، فقال: يا نبي الله، ما كنت أرى أن أحداً من المسلمين أحق بعطائك مني، فزاده النبي صلى الله عليه وسلم فكره، ثم زاده عشرة، فكره، فأتمها له مائة من الإبل، فقال حكيم: رسول الله، عطيتك الأولى التى رغبت عنها، أهي خير أم التي قنعت بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإبل التى رغبت عنها، فقال: والله لا آخذ غيرها، فأخذ السبعين، فمات وهو أكثر قريش مالاً، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم العطايا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعطي رجلاً وأترك آخر، وإن الذي أترك أحب إليَّ من الذي أعطى، ولكن أتألف بالعطية، وأوكل المؤمن إلى إيمانه ".﴿ وَمِنْهُمُ ﴾، يعني من المنافقين.
﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ ﴾ صلى الله عليه وسلم، منهم: الجلاس بن سويد، وشماس بن قيس، والمخش بن حمير، وسماك بن يزيد، وعبيد بن الحارث، ورفاعة بن زيد، ورفاعة بن عبد المنذر، قالوا ما لا ينبغي، فقال رجل منهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بنا، فقال الجلاس: نقول ما شئنا، فإنما محمد أذن سامعة، فنأتيه بما نقول، فنزلت في الجلاس: ﴿ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ﴾، يعني النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، يعني يصدق المؤمنين.
﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾، يقول: محمد رحمة للمؤمنين، كقوله: ﴿ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: ١٢٨]، يعني للمصدقين بتوحيد الله: ﴿ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ ﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٦١] يعني وجيع.﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ﴾ بعد اليوم، منهم: عبد الله بن أبي، حلف ألا نتخلف عنك، ولنكونن معك على عدوك.
﴿ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾، فيها تقديم.
﴿ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٦٢] يعني مصدقين بتوحيد الله عز وجل.﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ ﴾، يعني المنافقين.
﴿ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، يعني يعادي الله ورسوله.
﴿ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ﴾ لا يموت.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ العذاب ﴿ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ٦٣].
قوله: ﴿ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾، نزلت في الجلاس بن سويد، وسماك بن عمر، ووداعة بن ثابت، والمخش بن حمير الأشجعى، وذلك أن المخش قال لهم: والله لا أدري إني أشر خليقة الله، والله لوددت أني جلدت مائة جلدة، وأنه لا ينزل فينا ما يفضحنا، فنزل: ﴿ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ ﴿ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ﴾، يعني براءة.
﴿ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ﴾ من النفاق، وكانت تسمىالفاضحة.
﴿ قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ ﴾ مبين ﴿ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ [آية: ٦٤].
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾، وذلك حين انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوك إلى المدينة، وبين يديه هؤلاء النفر الأربعة يسيرون، ويقولون: إن محمداً يقول إنه نزل في إخواننا الذين تخلفوا في المدينة كذا وكذا، وهم يضحكون ويستهزءون، فأتاه جبريل، فأخبره بقولهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عماراً أنهم يستهزءون ويضحكون من كتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنك إذا سألتهم ليقولن لك: ﴿ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ فيما يخوض فيه الركب إذا ساروا، قال: فأدركهم قبل أن يحترقوا فأدركهم، فقال: ما تقولون؟ قالوا: فيما يخوض فيه الركب إذا ساروا، قال عمار: صدق الله ورسوله، وبلغ الرسول، عليه السلام، عليكم غضب الله، هلكتم أهلككم الله. ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال المخش: كنت أسايرهم والذى أنزل عليك الكتاب ما تكلمت بشىء مما قالوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينههم عن شىء مما قالوا، وقبل العذر، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾، يعني ونتلهى.
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد: ﴿ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [آية: ٦٥]، استهزءوا بالله لأنهما من الله عز وجل.﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ ﴾، يعني المخش الذي لم يخض معهم.
﴿ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً ﴾، يعني الثلاثة الذين خاضوا واستهزءوا ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ [آية: ٦٦]،" فقال المخش للنبي صلى الله عليه وسلم: وكيف لا أكون منافقاً واسمي وأسمائي أخبث الأسماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك، قال: المخش بن حمير الأشجعي حليف الأنصار لبني سلمة بن جشم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت عبد الله بن عبد الرحمن "، فقتل يوم اليمامة.
ثم أخبر عن المنافقين، فقال: ﴿ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾، يعني أولياء بعض في النفاق.
﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ ﴾، يعني بالتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعني الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾، يعني يمسكون عن النفقة في خير.
﴿ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾، يقول: تركوا العمل بأمر الله، يمسكون عن النفقة في خير.
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٦٧].
﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ ﴾، يعني مشركي العرب.
﴿ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون.
﴿ هِيَ حَسْبُهُمْ ﴾، يقول: حسبهم بجهنم شدة العذاب.
﴿ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [آية: ٦٨]، يعني دائم. هؤلاء المنافقون والكفار.
﴿ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، يعني من الأمم الخالية.
﴿ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً ﴾، يعني بطشاً.
﴿ وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ﴾، يعني بنصيبهم من الدنيا.
﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ ﴾، يعني بنصيبكم من الدنيا، كقوله:﴿ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ﴾[آل عمران: ٧٧]، يعني لا نصيب لهم، ثم قال: ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ من الأمم الخالية.
﴿ بِخَلاَقِهِمْ ﴾، يعني بنصيبهم.
﴿ وَخُضْتُمْ ﴾ أنتم في الباطل والتكذيب ﴿ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾، يعني بطلت أعمالهم، فلا ثواب لهم ﴿ فِي ٱلدنْيَا وَ ﴾ ولا في ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ لأنها كانت في غير إيمان.
﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ [آية: ٦٩].
ثم خوفهم، فقال: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ﴾، يعني حديث ﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، يعني عذاب ﴿ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ ﴾، يعني قوم شعيب.
﴿ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتِ ﴾، يعني والمكذبات، يعني قوم لوط القرى الأربعة.
﴿ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ تخبرهم أن العذاب نازل بهم في الدنيا، فكذبوهم فأهلكوا.
﴿ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾، يعني أن يعذبهم على غير ذنب.
﴿ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آية: ٧٠].
ثم ذكر المؤمنين وتقاهم، فقال: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾، يعني المصدقين بتوحيد الله.
﴿ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾، يعني المصدقات بالتوحيد، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم علي بن أبي طالب، رضى الله عنه.
﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ في الدين.
﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعني الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾، يعني ويتمون الصلوات الخمس.
﴿ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾، يعني ويعطون الزكاة.
﴿ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ في ملكه.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٧١] في أمره.
قوله: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾، يعني قصور الياقوت والدر، فتهب ريح طيبة من تحت العرش بكثبان المسك الأبيض، نظيرها في﴿ هَلْ أَتَىٰ ﴾﴿ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾[الإنسان: ٢٠]، عاليهم كثبان المسك الأبيض، ثم قال: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعني ورضوان الله عنهم.
﴿ أَكْبَرُ ﴾، يعني أعظم مما أعطوا في الدنة من الخير.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الذواب ﴿ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ٧٢]، وفى ذلك أن الملك من الملائكة يأتي باب ولي الله، فلا يدخل عليه إلا بإذنه، والقصة في: ﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ ﴾.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾، يعني كفار العرب بالسيف.
﴿ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ على المنافقين باللسان، ثم ذكر مستقرهم في الآخرة، فقال: ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾، يعني مصيرهم جهنم، يعني كلا الفريقين.
﴿ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٧٣]، يعني حين يصيرون إليها.﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ ﴾، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في غزاة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين، جعلهم رجساً، فسمع من غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فغضبوا لإخوانهم المتخلفين، فقال جلاس بن سويد بن الصامت، وقد سمع عامر بن قيس الأنصاري، من بني عمرو بن عوف، الجلاس يقول: والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم سراتنا وأشرافنا، لنحن أشر من الحمير، فقال عامر بن قيس للجلاس: أجل والله، إن محمداً لصادق مصدق، ولأنت أشر من الحمار." فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أخبر عاصم بن عدي الأنصاري عن قول عامر بما قال الجلاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر والجلاس، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم للجلاس ما قال، فحلف الجلاس بالله ما قال ذلك، فقال عامر: لقد قاله وأعظم منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ، قال: أرادوا قتلك، فنفر الجلاس من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوما فاحلفا، فقاما عند المنبر، فحلف الجلاس ما قال ذلك، وأن عامراً كذب، ثم حلف عامر بالله إنه لصادق، ولقد سمع قوله، ثم رفع عامر بيده، فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تكذيب الكاذب وصدق الصادق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين "، فأنزل في الجلاس: ﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ ﴾.
﴿ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ﴾، يعني بعد إقرارهم بالإيمان.
﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة.
﴿ وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ ﴾، فقال الجلاس: فقد عرض الله عليَّ التوبة، أجل والله لقد قلته، فصدق عامراً، وتاب الجلاس وحسنت توبته، ثم قال: ﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، يعني المنافقين أصحاب العقبة ليلة هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة بغزوة تبوك، منهم عبد الله بن أبي، رأس المنافقين، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وطعمة بن أبيرق، والجلاس بن سويد، ومجمع بن حارثة، وأبو عامر بن النعمان، وأبو الخواص، ومرارة بن ربيعة، وعامر بن الطفيل، وعبد الله بن عتيبة، ومليح التميمى، وحصن بن نمير، ورجل آخر، هؤلاء اثنا عشر رجلاً، وتاب أبو لبابة عن عبد المنذر، وهلال بن أمية، وكعب بن مالك الشاعر، وكانوا خمسة عشر رجلاً: ﴿ وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ ﴿ وَإِن يَتَوَلَّوْاْ ﴾ عن التوبة.
﴿ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ يعني شديداً.
﴿ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ ﴾ يمنعهم ﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [آية: ٧٤]، يعني مانع من العذاب.
﴿ وَمِنْهُمْ ﴾، يعني من المنافقين.
﴿ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾ ولنصلن رحمي.
﴿ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ٧٥]، يعني من المؤمنين بتوحيد الله؛ لأن المنافقين لا يخلصون بتوحيد الله عز وجل، فأتاه الله برزقه، وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلاً من المنافقين خطأ، وكان حميماً لحاطب، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم دينه إلى ثعلبة بن حاطب، فبخل ومنع حق الله، وكان المقتول قرابة بن ثعلبة بن حاطب. يقول الله: ﴿ فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾، يعني أعطاهم من فضله.
﴿ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ [آية: ٧٦].
﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾، يعني إلى القيامة ﴿ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ [آية: ٧٧]، لقوله: لئن آتانا الله، يعني أعطاني الله، لأصدقن ولأفعلن، ثم لم يفعل،. ثم ذكر أصحاب العقبة، فقال: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ﴾، يعني الذي أجمعوا عليه من قتل النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ [آية: ٧٨].
ثم نعت المنافقين، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾، وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة وهو يريد غزاة تبوك، وهى غزاة العسرة، فجاء عبد الرحمن بن عوف الزهري بأربعة آلاف درهم، كل درهم مثقال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكثرت يا عبد الرحمن بن عوف، هل تركت لأهلك شيئاً؟، قال: يا رسول الله، مالى ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضتها ربي، وأما أربعة آلاف الأخرى، فأمسكتها لنفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت "، فبارك الله في مال عبد الرحمن، حتى أنه يوم مات بلغ ثمن ماله لامرأتيه ثمانين ومائة ألف، لكل امرأة تسعون ألفاً. وجاء عاصم بن عدي الأنصاري، من بني عمرو بن عوف بسبعين وسقاً من تمر، وهو حمل بعير، فنثره في الصدقة، واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قلته، وجاء أبو عقيل بن قيس الأنصارى، من بنى عمرو، بصاع فنثره في الصدقة، فقال: يا نبي الله، بت ليلتى أعمل في النخل أجر بالجرين على صاعين، فصاع أقرته ربي، وصاع تركته لأهلي، فأحببت أن يكون لي نصيب في الصدقة، ونفر من المنافقين جلوس، فمن جاء بشيء كثير، قالوا: مراء، ومن جاء بقليل، قالوا: كان هذا أفقر إلى ماله، وقالوا لعبد الرحمن وعاصم: ما أنفقتم إلا رياء وسمعة، وقالوا لأبي عقيل: لقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل. فسخروا وضحكوا منهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ﴾، يعني يطعنون، يعني معتب بن قيس، وحكيم بن زيد: ﴿ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾، يعني عبد الرحمن بن عوف، وعاصم.
﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُم ﴾، يعني أبا عقيل: ﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ﴾، يعني من المؤمنين.
﴿ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ ﴾، يعني سخر الله من المنافقين في الآخرة.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٧٩]، يعني وجيع، نظيرها:﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾[هود: ٣٨]، يعني سخر الله من المنافقين.﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾، يعني المنافقين.
﴿ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٨٠]، فقال عمر بن الخطاب: لا تستغفر لهم بعد ما نهاك الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" يا عمر، أفلا أستغفر لهم إحدى وسبعين مرة "فأنزل الله عز وجل:﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴾[المنافقون: ٦] من شدة غضبه عليهم، فصارت الآية التي في براءة منسوخة، نسختها التى في المنافقين: ﴿ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾.
﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ ﴾ عن غزاة تبوك.
﴿ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﴾ وهم بضع وثمانون رجلاً، منهم من اعتل بالعسرة، وبغير ذلك.
﴿ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ ﴾ بعضهم لبعض: ﴿ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ ﴾ مع محمد صلى الله عليه وسلم إلى غزاة تبوك في سبعة نفر، أبو لبابة وأصحابه، قالوا بأن الحر شديد والسفر بعيد.
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد: ﴿ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [آية: ٨١] في قراءة ابن مسعود: لو كانوا يعلمون.﴿ فَلْيَضْحَكُواْ ﴾ في الدنيا ﴿ قَلِيلاً ﴾، يعني بالقليل الاستهزاء، فإن ضحكهم ينقطع.
﴿ وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ﴾ في الآخرة في النار ندامة، والكثير الذي لا ينقطع.
﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [آية: ٨٢].
﴿ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ ﴾ من غزاة تبوك إلى المدينة.
﴿ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً ﴾ في غزاة.
﴿ وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، يعني من تخلف من المنافقين، وهي طائفة، وليس كل من تخلف عن غزاة تبوك منافق.
﴿ فَٱقْعُدُواْ ﴾ عن الغزو ﴿ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ ﴾ [آية: ٨٣]، منهم: عبد الله بن أبى، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير. وذلك أن عبد الله بن أبى رأس المنافقين توفي، فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنشدك بالله أن لا تشمت بي الأعداء، فطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أبيه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فنزلت فيه: ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم ﴾، يعني من المنافقين.
﴿ مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ ﴾، يعني بتوحيد الله.
﴿ وَ ﴾ كفروا بـ ﴿ رَسُولِهِ ﴾ بأنه ليس برسول.
﴿ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٨٤]، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، وأمر أصحابه فصلوا عليه.﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ ﴾، يقول: ﴿ وتذهب { أَنفُسُهُمْ ﴾ كفاراً، يعني يموتون على الكفر، فذلك قوله: ﴿ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [آية: ٨٥].
﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾، يعني براءة فيها ﴿ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾، يعني أن صدقوا بالله وبتوحيده.
﴿ وَجَاهِدُواْ ﴾ العدو ﴿ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ ﴾ يا محمد ﴿ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ ﴾، يعني أهل السعة من المال منهم، يعني من المنافقين.
﴿ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ ﴾ [آية: ٨٦]، يعني مع المتخلفين عن الغزو، منهم: جد بن قيس، ومعتب بن قشير. يقول الله: ﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ ﴾، يعني مع النساء.
﴿ وَطُبِعَ ﴾، يعني وختم ﴿ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾ بالكفر.
﴿ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [آية: ٨٧] التوحيد. ثم نعت المؤمنين، فقال: ﴿ لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ ﴾ العدو ﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ في سبيل الله، يعني في طاعة الله ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٨٨].
﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الثواب الذي ذكر هو ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ٨٩].
﴿ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ﴾ القعود، وهم خمسون رجلاً، منهم أبو الخواص الأعرابي.
﴿ وَقَعَدَ ﴾ عن الغزو ﴿ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعني بتوحيد الله.
﴿ وَ ﴾ كذبوا بـ ﴿ وَرَسُولَهُ ﴾ أنه ليس برسول.
﴿ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ ﴾، يعني المنافقين.
﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٩٠]، يعني وجيع. ثم رخص، فقال: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ ﴾، يعني الزمنى والشيخ الكبير ﴿ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ﴾ في القعود.
﴿ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لتخلفهم عن الغزو.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٩١] بهم، يعني جهينة، ومزينة، وبني عذرة.﴿ وَلاَ ﴾ حرج ﴿ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا ﴾، يعني انصرفوا عنك: ﴿ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [آية: ٩٢] في غزاتهم، نزلت في سبع نفر، منهم: عمرو بن عبسة من بني عمرو بن يزيد بن عوف، وعلقمة بن يزيد، والحارث من بني واقد، وعمرو بن حزام من بني سلمة، وسالم بن عمير من عمرو بن عوف، وعبد الرحمن بن كعب بن بني النجار، هؤلاء الستة من الأنصار، وعبد الله بن معقل المزني، ويكنى أبا ليلى عبد الله.
وذلك أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: احملنا، فإنا لا نجد ما نخرج عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا ﴾، انصرفوا من عنده وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، ثم عاب أهل السعة، فقال: ﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ ﴾، يعني مع النساء بالمدينة، وهم المنافقون.
﴿ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾، يعني وختم على قلوبهم بالكفر، يعني المنافقين.
﴿ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٩٣].
ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾ من غزاتكم، يعني عبد الله بن أبى.
﴿ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾، يعني لن نصدقكم بما تعتذرون.
﴿ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾، يقول: قد أخبرنا الله عنكم وعن ما قلتم حين قال لنا:﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾، يعني إلا عياً،﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ ﴾[التوبة: ٤٧]، فهذا الذي نبأنا الله من أخباركم، ثم قال: ﴿ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ فيما تستأذنون.
﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ﴾، يعني شهادة كل نجوى.
﴿ فَيُنَبِّئُكُم ﴾ في الآخرة.
﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٤] في الدنيا.﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ ﴾، يعني إذا رجعتم ﴿ إِلَيْهِمْ ﴾ إلى المدينة.
﴿ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ في التخلف.
﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [آية: ٩٥]، فحلف منهم بضع وثمانون رجلاً، منهم: جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وأبو لبابة، وأصحابه.﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾، وذلك أن عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو، لا نتخلف عنك، ولنكونن معك على عدوك، وطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرضى عنه وأصحابه، يقول الله: ﴿ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾، يعني عن المنافقين المتخلفين.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٩٦]، يعني العاصين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدموا المدينة:" لا تجالسوهم، ولا تكلموهم "، ثم قال: ﴿ ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾، يعني سنن ما أنزل الله على رسوله في كتابه، يقول: هم أقل فهماً بالسنن من غيرهم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٩٧].
﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ ﴾ في سبيل الله ﴿ مَغْرَماً ﴾ لا يحتسبها، كان نفقته غرم يغرمها.
﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ ﴾، يعني يتربص بمحمد الموت، يقول: يموت فنستريح منه ولا نعطيه أموالنا، ثم قال: ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ بمقالتهم ﴿ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ﴾، نزلت في أعراب مزينة.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لمقالتهم.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [٩٨] بها.﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعني يصدق بالله أنه واحد لا شريك له.
﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِر ﴾، يعني يصدق بالتوحيد وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال.
﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ ﴾ في سبيل الله ﴿ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ ﴾ يعني واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم، ويتخذ النفقة والاستغفار قربات، يعني زلفى عند الله، فيها تقديم، يقول: ﴿ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ﴾ عند الله، ثم أخبر بثوابهم، فقال: ﴿ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾، يعني جنته.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لذنوبهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٩٩] بهم، نزلت في مقرن المزني. ثم قال: ﴿ وَٱلسَّابِقُونَ ﴾ إلى الإسلام.
﴿ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ ﴾ الذين صلوا إلى القبلتين، علي بن أبي طالب، عليه السلام، وعشر نفر من أهل بدر ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم ﴾ على دينهم الإسلام.
﴿ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ بالطاعة.
﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ بالثواب.
﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي ﴾ من ﴿ تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾، يعني بساتين تجرى تحتها الأنهار.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ لا يموتون.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الثواب ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ١٠٠].
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ﴾، يعني جهينة، ومزينة، أسلم، وغفار، وأشجع، كانت منازلهم حول المدينة وهم منافقون، ثم قال: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ منافقون.
﴿ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ ﴾، يعني حذقوا، منهم: عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، والجلاس، ومعتب بن قشير، ووحوج بن الأسلت، وأبو عامر بن النعمان الراهب، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة.
﴿ لاَ تَعْلَمُهُمْ ﴾ يا محمد.
﴿ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم.
﴿ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾ عند الموت تضرب الملائكة الوجوه والأدبار، وفى القر منكر ونكير.
﴿ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [آية: ١٠١]، يعني عذاب جهنم.﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾، يعني غزاة قبل غزاة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ تخلفهم عن غزاة تبوك، نزلت في أبي لبابة، اسمه مروان بن عبد المنذر، وأوس بن حزام، ووديعة بن ثعلبة وكلهم من الأنصار، وذلك حين بلغهم" أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل راجعاً من غزاة تبوك، وبلغهم ما أنزل الله عز وجل في المتخلفين، أوثقوا أنفسهم هؤلاء الثلاثة إلى سواري المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزاة صلى في المسجد ركعتين قبل أن يدخل إلى أهله، وإذا خرج إلى غزاة صلى ركعتين، فلما رآهم موثقين، سأل عنهم، قيل: هذا أبو لبابة وأصحابه، ندموا على التخلف، وأقسموا ألا يحلو أنفسهم حتى يحلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أحلف لا أطلق عنهم حتى أومر، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله عز وجل "، فأنزل الله في أبى لبابة وأصحابه: ﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾، يعني غزوتهم قبل ذلك.
﴿ وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾، يعني تخلفهم بغير إذن.
﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لتخلفهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٢] بهم. قال مقاتل: العسى من الله واجب، فلما نزلت هذه الآية حلهم النبى، عليه السلام، فرجعوا إلى منازلهم، ثم جاءوا بأموالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه أموالنا التى تخلفنا من أجلها عنك، فتصدق بها، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها، فأنزل الله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾ من تخلفهم.
﴿ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾، يعني وتصلحهم ﴿ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾، يعني واستغفر لهم.
﴿ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾، يعني إن استغفارك لهم سكن لقلوبهم وطمأنينة لهم.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لقولهم: خذ أموالنا فتصدق بها.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٣].
بما قالوا.﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ﴾، يعني ويقبل ﴿ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ١٠٤]، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من أموالهم التى جاءوا بها الثلث، وترك الثلثين؛ لأن الله عز وجل، قال: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾، ولم يقل: خذ أموالهم، فلذلك لم يأخذها كلها، فتصدق بها عنهم.
﴿ وَقُلِ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ ٱعْمَلُواْ ﴾ فيما تستأنفون.
﴿ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٠٥].
﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ ﴾، يعني التوبة عن أمر الله، نظيرها،﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾[الأعراف: ١١١]، يعني أوقفه وأخاه حتى ننظر في أمرهما.
﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ﴾، يعني موقوفون للتوبة عن أمر الله مرارة بن ربيعة من بني زيد، وهلال بن أمية من الأنصار من أهل قباء من بني واقب، وكعب بن مالك الشاعر من بني سلمة، كلهم من الأنصار من أهل قباء، لم يفعلوا كفعل أبي لبابة، لم ذكروا بالتوبة ولا بالعقوبة، فذلك قوله: ﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾، فيتجاوز عنهم: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٦] في قراءة ابن مسعود: والله غفور رحيم.
ثم قال: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً ﴾، يعني مسجد المنافقين.
﴿ وَكُفْراً ﴾ في قلوبهم، يعني النفاق.
﴿ وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾، نزلت في اثني عشر رجلاً من المنافقين، وهم من الأنصار كلهم، من بني عمرو بن عوف، منهم: حرج بن خشف، وحارثة بن عمرو، وابنه زيد بن حارثة، ونفيل بن الحرث، ووديعة بن ثابت، وحزام بن خالد، ومجمع بن حارثة، قالوا: نبنى مسجداً نتحدث فيه ونخلو فيه، فإذا رجع أبو عامر الراهب اليهودي من الشام أبو حنظلة غسيل الملائكة، قلنا له: بنيناه لتكون إمامنا فيه. فذلك قوله: ﴿ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾، يعني أبا عامر الذي كان يسمى الراهب؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم، فمات كافراً بقنسرين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يبعد علينا المشي إلى الصلاة، فأذن لنا في بناء مسجد، فأذن لهم، ففرغوا منه يوم الجمعة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من يؤمهم؟ قال: " رجل منهم "، فأمر مجمع بن حارثة أن يؤمهم، فنزلت هذه الآية، وحلف مجمع: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخير، فأنزل الله عز وجل في مجمع: ﴿ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [آية: ١٠٧] فيما يحلفون.﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ﴾، يعني في مسجد المنافقين إلى الصلاة أبداً، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي فيه، ولا يمر عليه، ويأخذ غير ذلك الطريق، وكان قبل ذلك يصلي فيه، ثم قال: ﴿ لَّمَسْجِدٌ ﴾، يعني مسجد قباء، وهو أول مسجد بني بالمدينة.
﴿ أُسِّسَ ﴾، يعني بني.
﴿ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾، يعني أول مرة.
﴿ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ إلى الصلاة؛ لأنه كان بني من قبل مسجد المنافقين، ثم قال: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ ﴾، يعني في مسجد قباء.
﴿ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾، من الأحداث والجنابة.
﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [آية: ١٠٨]، نزلت في الأنصار. فلما نزلت هذه الآية،" انطلق النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على باب مسجد قباء، وفيه المهاجرون والأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المسجد: أمؤمنون أنتم؟، فسكتوا فلم يجيبوه، ثم قال ثانية: أمؤمنون أنتم؟ قال عمر بن الخطاب: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتؤمنون بالقضاء؟، قال عمر: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتصبرون على البلاء؟، قال عمر: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشكرون على الرخاء؟، فقال عمر: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم مؤمنون ورب الكعبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في أمر الطهور، فماذا تصنعون؟، قالوا: نمر الماء على أثر البول والغائط، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِين ﴾ "، ثم إن مجمع بن حارثة حسن إسلامه، فبعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة يعلمهم القرآن، وهو علم عبد الله بن مسعود، لقنه القرآن.﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ﴾، يعني مسجد قباء.
﴿ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ﴾، يقول: مما يراد فيه من الخير ورضى الرب.
﴿ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ﴾ أصل بنيانه ﴿ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ ﴾، يعني على حرف ليس له أصل.
﴿ هَارٍ ﴾، يعني وقع.
﴿ فَٱنْهَارَ بِهِ ﴾ فجر به القواعد.
﴿ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾، يقول: صار البناء إلى نار جهنم.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٠٩].
فلما فرغ القوم من بناء المسجد استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في القيام في ذلك المسجد، وجاء أهل مسجد قباء، فقالوا: يا رسول الله، إنا نحب أن نأتي مسجدنا فتصلي فيه حتى نقتدي بصلاتك، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وهو يريد مسجد قباء، فبلغ ذلك المنافقون، فخرجوا يتلقونه، فلما بلغ المنتصف، نزل جبريل بهذه الآية.
﴿ أَفَمَنَ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ ﴾، يعني أهل مسجد قباء: ﴿ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ ﴾، فلما قالها جرف نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، حتى تهور في السابعة، فكاد يغشى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرع الرجوع إلى موضعه، وجاء المنافقون يعتذرون بعد ذلك، فقبل علانيتهم، ووكل سر أثرهم إلى الله عز وجل. فقال الله: ﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾، يعني حسرة وحزازة في قلوبهم؛ لأنهم ندموا على بنائه.
﴿ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾، يعني حتى الممات.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ١١٠]، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر، ووحشي مولى المطعم بن عدي، فحزفاه فخسف به في نار جهنم، وأمر أن يتخذ كناسة ويلقى فيه الجيف، وكان مسجد قباء في بني سالم، وبني بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بأيام.
ثم رغب الله في الجهاد، فقال: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ﴾ يعني بقية آجالهم: ﴿ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ﴾ العدو.
﴿ وَيُقْتَلُونَ ﴾، ثم يقتلهم العدو.
﴿ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾ حتى ينجز لهم ما وعدهم، يعني ما ذكر من وعدهم في هذه الآية، وذلك أن الله عهد إلى عباده أن من قتل في سبيل الله فله الجنة، ثم قال: ﴿ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ ﴾، فليس أحداً أوفى منه عهداً، ثم قال: ﴿ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ﴾ الرب بإقراركم.
﴿ وَذَلِكَ ﴾ الثواب ﴿ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ١١١]، يعني النجاء العظيم، يعني الجنة. ثم نعت أعمالهم، فقال: ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ﴾ من الذنوب.
﴿ ٱلْعَابِدُونَ ﴾، يعني الموحدين.
﴿ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ﴾، يعني الصائمين.
﴿ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ﴾ في الصلاة المكتوبة.
﴿ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعني بالإيمان بتوحيد الله.
﴿ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ﴾، يعني عن الشرك.
﴿ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ ﴾، يعني ما ذكر في هذه الآية لأهل الجهاد.
﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١١٢]، يعني الصادقين بهذا الشرط بالجنة.﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ إلى آخر الآية، وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعدما افتتح مكة: أي أبويه أحدث به عهداً؟، قيل له: أمك آمنة بنت وهب بن عبد مناف، قال: حتى أستغفر لها، فقد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك "، فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ﴾، يعني ما ينبغي للنبي ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ ﴿ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا ﴾ كانوا كافرين فـ ﴿ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [آية: ١١٣] حين ماتوا على الكفر، نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبى طالب، عليه السلام. فقد استغفر إبراهيم لأبيه وكان كافراً، فبين الله كيف كانت هذه الآية، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾، وذلك أنه كان وعد أباه أن يستغفر له، فلذلك استغفر له.
﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ لإبراهيم ﴿ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ ﴾ حين مات كافراً، لم يستغفر له، و ﴿ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ ﴾، يعني لموقن بلغة الحبشة.
﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ١١٤]، يعني تقي زكي.﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾، وذلك أن الله أنزل فرائض، فعمل بها المؤمنون، ثم أنزل بعدما نسخ به الأمر الأول فحولهم إليه، وقد غاب أناس لم يبلغهم ذلك، فيعملوا بالناسخ بعد النسخ، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبي الله، كنا عندك والخمر حلال، والقبلة إلى بيت المقدس، ثم غبنا عنك، فحولت القبلة ولم نشعر بها، فصلينا إليها بعد التحويل والتحريم، وقالوا: ما ترى يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾ المعاصي، يقول: ما كان الله ليترك قوماً حتى يُبَيّن لهم ما يتقون حين رجعوا من الغيبة، وما يتقون من المعاصي.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١١٥] من أمرهم بنسخ ما يشاء من القرآن، فيجعله منسوخاً ويقر ما يشاء فلا ينسخه.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾، الأحياء.
﴿ وَمَا لَكُمْ ﴾ معشر الكفار ﴿ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾، يعني من قريب بنفسكم.
﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [آية: ١١٦]، يعني ولا مانع لقول الكفار: إن القرآن ليس من عند الله، إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه، نظيرها في البقرة:﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيةٍ... ﴾إلى آخر الآية،﴿ إن ٱللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍْ قَدِيرٌ ﴾[البقرة: ١٠٦].
﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ ﴾، يعني تجاوز الله عنهم.
﴿ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ ﴾ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ﴾، ثم نعتهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ ﴾، يعني غزاة تبوك، وأصاب المسلمين جهد وجوع شديد، فكان الرجلان والثلاثة يعتقبون بعيراً سوى ما عليه من الزاد، وتكون التمرة بين الرجلين والثلاثة، يعمد أحدهما إلى التمرة فيلوكها، ثم يعطيها الآخر فيلوكها، ثم يراها آخر، فيناشده أن يجهدها، ثم يعطيها إياه.
﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ ﴾، يعني تميل.
﴿ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾، يعني طائفة منهم إلى المعصية.
﴿ لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ﴾ ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾، يعني تجاوز عنهم.
﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١١٧]، يعني يرق لهم، حين تاب عليهم، يعني أبا لبابة وأصحابه.
ثم ذكر الذين خلفوا عن التوبة، فقال: ﴿ وَ ﴾ تاب الله.
﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ عن التوبة بعد أبى لبابة وأصحابه، وهم ثلاثة: مرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية، وكعب بن مالك، ولم يذكر توبتهم، ولا عقوبتهم، وذلك أنهم لم يفعلوا كفعل أبى لبابة وأصحابه، فلم ينزل فيهم شىء شهراً، فكان الناس لا يكلمونهم، ولا يخالطونهم، ولا يبايعونهم، ولا يشترون منهم، ولا يكلمهم أهلهم، فضاقت عليهم الأرض، فأنزل الله عز وجل فيهم بعد شهور أو شهر: ﴿ وَ ﴾ تاب أيضاً ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ عن التوبة، يعني بعد أبي لبابة، وهم: مرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية، وكعب بن مالك.﴿ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾، يقول: ضاقت الأرض بسعتها؛ لأنه لم يخالطهم أحد.
﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ ﴾، يعني وأيقنوا ألا حرز من الله.
﴿ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ ﴾، يعني تجاوز عنهم لكي يتوبوا.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ﴾ على من تاب.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ١١٨] بهم.
﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعني صدقوا بتوحيد الله عز وجل.
﴿ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، ولا تعصوه في الجهرة.
﴿ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ [آية: ١١٩] في إيمانهم، وقد أخبر عن الصادقين، فقال:﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾[الحجرات: ١٥].
ثم ذكر المؤمنين الذين لم يتخلفوا عن غزاة تبوك، فقال: ﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ ﴾، عن غزاة تبوك.
﴿ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ﴾، يعني عطشاً.
﴿ وَلاَ نَصَبٌ ﴾، يعني ولا مشقة في أجسادهم.
﴿ وَلاَ مَخْمَصَةٌ ﴾، يعني الجوع والشدة.
﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً ﴾، من سهل، ولا جبل.
﴿ يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ ﴾ من عدوهم.
﴿ نَّيْلاً ﴾ من قتل فيهم، أو غارة عليهم.
﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ١٢٠]، يعني جزاء المحسنين، ولكن يجزيهم بإحسانهم.﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً ﴾ في سبيل الله.
﴿ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾، يعني قليلاً ولا كثيراً.
﴿ وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً ﴾ من الأودية مقبلين ومدبرين.
﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا ﴾، يعني الذي ﴿ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٢١].
﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾، وذلك أن الله عاب في القرآن من تخلف عن غزاة تبوك، فقالوا: لا يرانا الله أن نتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزاته، ولا في بعث سرية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية، رغبوا فيها رغبة في الأجر، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾، يعني ما ينبغى لهم أن ينفروا إلى عدوهم.
﴿ كَآفَّةَ ﴾، يعني جميعاً.
﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ ﴾، يعني فهلا نفر.
﴿ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ ﴾، يعني من كل عصبة منهم.
﴿ طَآئِفَةٌ ﴾، وتقيم طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيتعلمون ما يحدث الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، من أمر، أو نهي، أو سُنة، فإذا رجع هؤلاء الغيب، تعلموا من أخوانهم المقيمين. فذلك قوله: ﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ ﴾، يعني المقيمين.
﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾، يعني وليحذروا إخوانهم ﴿ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ ﴾ من غزاتهم.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [آية: ١٢٢]، يعني لكي يحذروا المعاصي التي عملوا بها قبل النهي.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعني صدقوا بالله عز وجل.
﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ ﴾، يعني الأقرب فالأقرب.
﴿ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾، يعني شدة عليهم بالقول.
﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ١٢٣].
﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ على النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾، من المنافقين.
﴿ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ ﴾ السورة ﴿ إِيمَاناً ﴾، يعني تصديقاً مع تصديقه بما أنزل الله عز وجل من القرآن من قبل هذه السورة.
﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [آية: ١٢٤] بنزولها.
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾، يعني الشك في القرآن، وهم المنافقون.
﴿ فَزَادَتْهُمْ ﴾ السورة ﴿ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾، يعني إثماً إلى إثمهم، يعني نفاقاً مع نفاقهم الذي هم عليه قبل ذلك.
﴿ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [آية: ١٢٥].
ثم أخبر عن المنافقين، فقال: ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾، وذلك أنهم كانوا إذا خلوا تكلموا فيما لا يحل لهم، وإذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما تكلموا به في الخلاء، فيعلمون أنه نبي رسول، ثم يأتيهم الشيطان، فيحدثهم أن محمداً إنما أخبركم بما قلتم؛ لأنه بلغه عنكم، فيشكون فيه. فذلك قوله: ﴿ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾، فيعرفون أنه نبي، وينكرون أخرى، يقول الله: ﴿ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [آية: ١٢٦] فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تكلموا به، فيعرفوا ولا يعتبروا.
﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ ﴾ المنافقون ﴿ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ يسخرون بينهم، يعني يتغامزون فقال: ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ﴾ عن الإيمان بالسورة، يقول: أعرضوا عن الإيمان بها.
﴿ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم ﴾ عن الإيمان بالقرآن.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ [آية: ١٢٧].
﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ ﴾ يا أهل مكة ﴿ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ تعرفونه ولا تنكرونه.
﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾، يقول: يعز عليه ما أثمتم في دينكم.
﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ بالرشد والهدى.
﴿ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٢٨]، يعني يرق لهم، رحيم بهم، يعني حين يودهم، كقوله: الرأفة، يعني الرقة والرحمة، يعني مودة بعضكم لبعض، كقوله:﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾[الفتح: ٢٩]، يعني متوادين.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ عنك، يعني فإن لم يتبعوك على الإيمان على محمد.
﴿ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾، يعني به واثق.
﴿ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [آية: ١٢٩]، يعني بالعظيم العرش، فنزلت هاتان الآيتان بمكة، وسائرها بالمدينة.
Icon